التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري

ابن جني

(1) شعر قيس بن العيزارة

بسم الله الرحمن الرحيم (1) شعر قيس بن العيزارة قال (من الطويل): لَعَمْرك أنْسى رَوْعَتي يَومَ أقتتُدٍ ... وَهل تتركنَ نَفسَ الأسيرِ الروائعُ وفيها: غداة تنادوا ثم قاموا وأجمعوا ... بقتلي سلكي ليس فيها تنازُعُ لام " تنادوا " واو لأنه من الندوة وهو الاجتماع، ألا تراهم إنما يتنادون للاجتماع أو مع الاجتماع. ومنه قول الله سبحانه (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة)، وإنما ينادي للاجتماع.

وفيها: وقُلْتُ لهم شاءٌ رَغيبٌ وجامِلٌ ... فكلكم من ذلك المال شابعُ مذهب سيبويه في " شاء " أن عينها واو ولامها ياء، ومذهب البغداديين أن عينها واو ولامها هاء. وقد تقصيت هذا الأمر في كتابي في تفسير تصريف ابي عثمان وغيره من كلامي. وفيها: فويلٍ ببزًّ جَرّ شَملٌ على الحصا ... فَوقِّرَ بَزٌ ما هنالك ضائعُ أما الرفع في " ويل " فلا نظر فيه، وأما الجر فعلى انه بناه على الكسر كقوله " من الرجز ": مهلاً فداءِ لك يا فضالة " أجره الرمح ولا تهاله "

وقوله " من البسيط ": " مهلا " فداءِ لك الأقوام كلهم ... " وما أثمر من مالٍ ومن ولدِ " أراد لأفَدِك، وليَفْدِكَ الأقوام، فبنى الاسم كما يبنيه في نحو " صه " و " مه " و " إيه " و " رويدَ "، فكأنه قال: ليلزمه الله الويل. وأصل بناء هذا الكلم الموضوعة للأمر عندي أنها تضمنت معنى لام الأمر، ألا ترى أنّ " صَهِ " بمعنى اسكت، وأصل اسكت لتسكت، وكذلك " حذار " معناه: إحذر، وأصل إحذر: لتحذر، وكذلك " رويدَ زيداً "، هو اسم: انظر زيدا، وأصل انظر: لتنظر، فمعنى لام الأمر موجود في جميع ذلك، فهذه علة بنائها الصريحة. ولم يفصح أحد من أصحابنا بها هذا الإفصاح، وإنما أكثر ما يقولون أنها بنيت لوقوعها موقع فعل الأمر، وليست علة بناء ما بنى من الأسماء إلا مشابهتها للحرف أو تضمنها معناه، فأما وقوعها ما كان مبنيا للأمر فلا يوجب فيها بناء ولا إعرابا. قال سيبويه: " وأما الفتح والكسر والضم والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غير نحو سوف وقد ". فهذا تصريح كما تراه، ولا مذهب لمصنف ولا متعسف عنه. وأما من قال " ويل أم بز " فإنه أزاد: " ويلٌ لام بز "، وكثر استعمال هذه الكلمة فحذفت لام الجر والهمزة تخفيفا وحذف التنوين كما حذف فيما حكاه أبو الحسن من قولهم: " سلامُ عليكم "، وذلك لكثرة استعماله. ويجوز أن يكون أراد " ويلُ أم بز " فرفعه بالابتداء وحذف

خبره أي: ويلُ أمه واجب أو حال عليه، ثم حذف همزة " أمّ " لكثرة الاستعمال، فبقي " ويلُ مَه " كما ترى. وأما " وَيْ لمّه " فأراد ويلٌ لأمه، ثم حذف لام " ويل " والتنوين لكثرة الاستعمال، وهمزة " أُم " لذلك، فبقى " وَيْ لمه ". ويدل على أن المراد في جميع ذلك " ويلٌ لامه " قول الشاعر " من الوافر ": لأمِ ويلٌ ما أجنَتْ ... غداةّ أضَرَّ بالحسنِ السبيلُ وحكى الأصمعي: " رجلٌ ويلُمَه "، وحكى غيره: " رجلٌ ويْلُمِّه "، فويلمه على أنه اشتق من ذلك صفة كما ترى، و " يلمه " حكاية ما يقال في مثله أَي: هو داخيةٌ يقال فيه هذا القول. قال " من البسيط ". ويْلُمِها في هواء الحق طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب وأما وزن قوله " ويلمه "، فإن حكيت أصله فوزنه " فَعْ لُ عْله " وإن وزنت على ما صار إليه بعد التركيب فمثالها " فَيْعُلِّة "، فإن قلت فإن هذا مثال غير موجود، قيل: إنما ينكر هذا لو كان المثال أصلاً برأسه، فأما وإنما هو فرع أدى إليه التركيب شيئا بعد شيء فلا ينكر ذلك، ألا ترى إلى قولهم في زجر الفرس " هِجِدّم: للواحد والاثنين والجميع سواء. فمثال " هجدم ": إفِعّل، وهذا مثال غير موجود في الأصول

وإنما أصار إليه التحريف والتركيب، وأصله من قوم: " أَجْدَ مْت بالفرس " إذا قلتَ له " أجدم " أي أسرع. قال عدي بن الرقاع " من الخفيف ": هُنَ عُجْمٌ وقد عَلِمنَ من القولِ ... هبى واجْدَمى ويايَ وقومي ويجوز أن يكون قولهم " ويلمه " أصله: ويل لامه، ثم حذف حرف الجر والهمزة - التي هي فاء - والتنوين، أو لم ينون لأنه نوى المعرفة كغاقِ، فبقى ويلمه. أوس " من البسيط ". ويلمهم معشراً جُماً بيونُهمُ ... لا العرفُ عرفٌ، ولا التنكير تنكيرُ وفيها: بما هي مقناةٌ أنيقٌ نباتُها ... مربٌّ فتهواها المخاضُ النوازعِ " مقناة " أي موافقة. وقوله: " مقاناة البياض بصفرة " أي يوافق بياضها صفرتها، ولغة هذيل " مفناة " بالفاء. ينبغي أن تكون لام المقناة بالقاف واواً من قولهم: قنوات السيئ أي وافقني فادخرته، وإما على قول

الكوفيين فإنهم يحكون: قنوته وقنيته، فعلى هذا يحتما الأمرين بالواو والياء، وأما " المقناة " بالفاء فقد فسرها أبو مرو فقال: هذيل تقول " مفناة " بالفاء، وطيّ تقول " مقناة " بالقاف: قال: وهو الجانب الذي لا تطلع عليه الشمس، فهي على هذا كأنها مَفْعَلَةٌ من الفِناء، وهو الحد والجانب. وقد سبق قولنا أن الوجه أن يكون الفناء من الواو وجملا على حكم الثناء لأنهم قد قالوا: هو فناء الدار وثِناؤها بمعنى. وأما " المقناة " بالقاف على تفسير أبي عمرو فإنها بمعنى مررب، وقد فسر مرباً بالمألف، فالمقناة على هذا كالقول الأول من الواو من " قنوت "، لان الشيء المقتنى مألوف، فهذا معنى " مرب " أيضا. وانْسال ذو الماوَين أمْسَتْ قلاتُه ... لها حَبَبٌ تَسْتَنُّ فيه الضفادع " ذو الماوين ": موضع. ينبغي أن يكون تثنية ماء، كأنه موضع يأتيه الماء من موضعين أو فيه ماءان، وقياسه: ذو الماءين وقد يجوز أن تقول فيه ماوان كما تقول في عطاء: عطاوان. وأصل إبدال هذه الهمزة واواً أن تكون لما همزته للتأنيث نحو: حمراوان وصفراوان، ثم يشبه ما همزته زائدة لغير التأنيث للزيادة بهمزة التأنيث فيقال: علباوان وحرباوان، ثم يُشبه ما همزته منقلبة عن الياء والواو والأصلين بما همزته منقلبة عن ياء زائدة فيقال: عطاوان وسقاوان كما قيل علباوان وحرباوان، ثم يشبه ما همزته بدل من أصل فيقال في قرّاء وضاء: قراوان ووضاوان كما قيل: عطاوان وسقاوان. هكذا تنزيل هذه الأشياء شيئا فشيئا.

وفيها: لها هَجَلاتٌ سَهْلةٌ ونِجادَةٌ ... دكادِكُ لا تُوبى بَهِنَّ المراضعِ قال: الهجل بطن من الأرض لين. هذا من المذكر الثلاثي الذي جُمع بالتاء، ومثله ثِرى وثريات. أنشد الأصمعي " من الرجز ": وامتص بَرْدَ الثَرَيات الرُّشَحِ ... مَصَّ الذُبابات الشروط البَرْسخِ ونحوه قولهم: " يا لَثارات فلان " هو جمع " ثار "، ومثله ما أنشده أيضا " من الرجز ": ذو رألات شَفّها وشَفَّهُ ... شِرادُها عن شركٍ وكفَّهُ وهو جمع رأل. وأنشد أيضا جمع حور، وهو النقصان. وقال المراد الفقعسي " من الوافر ": تريْ عبساً يُسَوِّدُهُنَ ماءٌ ... من النَجَداتِ يحلبه الذميلُ قالوا: جمع نجد للعرق. وقال قيس بن عَيزارة في قصيدة " من الكامل ": والدَّهْرُ لا يبقى على حَدثانِهِ ... بَقَرٌ بناصِفَةِ الجِواءِ ركودُ

الهمزة في " جواء " بدل من ياء لأن باب " طويت " اكثر من باب " قوَ " وإن كانت جمع قَوّ فهي بدل من واو، ويجوز في القياس أن يكون مقلوبا من الجؤوة فتكون همزته أصلية ويكون مثاله " فِلاع ". وقال قيس بن عَيزارة " من الطويل " ورَدَنْا الفُضاضَ قلنا شَيّفاتُنا ... بأرعنَ ينفى الطيرَ عن كل موقع قال: " شيفاتنا " طلائعنا، الشيفة: الطليعة. ينبغي أن يكون عين الشيفة واواً لأنها " فَيْعلَة " من شاف يشوف إذا جلا، ألا ترى أنهم يقولون: " قد جَليّ الصقر والبازي " إذا رمى بطرفه وكذلك الطليعة إنما تتأمل وترمى بأبصارها هل ترى شبحا، جيشا أو غيره. قال عنترة " من الكامل ": ولقد شربت من المدامة بعدما ... ركدتا هواجر بالمشوف المعلو أي بالدينار المجلو. فأما رفع " شيفاتنا "، فإن شئت فالبتداء وخبره " قبلنا " مقدم عليه، وإن شئت كان بدلا من " نا " في وردنا بدل البعض كقولك: " دخلنا تادارَ خمسةٌ من وأكثرنا " ونحو ذلك. فإن قلت فكيف تجيز البدل من ضمير المتكلم، ألا تراك لا تجيز: " قمتُ زيدٌ " ولا " كلمتني جعفراً؟ " قيل إنما لا يجوز البدل من ضمير المتكلم إذا كان بدل

الكل كما تقدم آنفا. فأما بدل البعض وبدل الاشتمال فكلاهما جائز من ضمير المتكلم لما في ذلك من الفائدة. قال وهو أبيات الكتاب " من الوافر ": ذَريني أنَّ أمْرَك لن يُطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا فهذا بدل الاشتمال، كذلك بدل البعض لا فرق بينهما. وإذا كان " شيفاتنا " مبتدأ، فقبلنا متعلق بمحذوف لا محالة لانه خبر، وإذا كان " شيفاتنا " بدلا احتمل " قبلنا " أمرين: أحدهما أن يكون متعلقا ب " وردنا "، فلا يكون فيه على هذا ضمير. والآخر أن يكون حالا من " شيفاتنا " فيتعلق حينئذ بمحذوف، ويتضمن ضميره الذي كان يكون فيه لو ظهر. ومن رفع بالظرف الظاهر كان " شيفاتنا " مرفوعا بالظرف ولا ضمر فيه لرفعه الظاهر. فأجابه أبو عامر بن أبى الخنس الفهمي من أبيات " من الطويل ": أقاوِمُ لا يعدو عن الظِّلِ عِزُّهُمْ ... فذو البَتِّ فيهم والفقيرُ مُدَعْدَعُ

" قوم " يكسر على أقوام، ويكسر أقوام على أقاويم إلا أن الياء تحذف لكثرة استعماله. كذا مر بنا في فرش الاستعمال. قال: ويروى " أقائم " يريد: أقوم. ينبغي أن يكون هذا شاهدا لما يقوله أبو إسحاق في همز العرب: " مصائب "، ألا ترى أنه قال إن أصله: مصاوب، إلا أن الواو أبدلت همزة لانكسارها كما أبدلت في وسادة ووشاح ووفادة ووعاء فقيل: أسادة وأشاح وإعاء وإفادة. وأنكر ذلك عليه أبو علي رحمه الله، وقال إن همزة الواو إذا كانت أولا ومكسورة قليلا لا يقاس عليه فكيف بها إذا كانت حشوا. قال: وإنما ذاك لأن مصيبة أشبهت " فعيلة "، فذهب في هذا إلى ما يراه أصحابنا لا إلى ما انفرد به أبو إسحاق. وفي بيت الهذلي هذا الذي هو " أقايم " تقوية لقول أبي إسحاق. ألا ترى أنه ليس في واحده ياء تشبه ياء " فعيلة "، إنما هو اقوام، والواو قيه صحيحة فكانت يجب صحتها في تكسيرها فهذا يدل على أن البدل إنما هو لمر راجع غلى حكم الكسرة في الواو. وقال قيس بن عيزارة من أبيات " من الطويل ": فَدَعْنا ونحصى حولَ بيتك بالحص ... ونلخاك غلفاً سلمى زَعيمُها ويروى: نلحاك، بالحاء. الواو في " ونحصى " تحتمل أمرين: أحدهما أن تكون للاستئناف وعطف جملة على أخرى أي: ونلخاك على كل حال، ولا موضع لهذه الواو وما بعدها. والآخر أن تكون واو المبتدأ أن واو الحال هذه متقاضية، وإذا جاز في بيت الكتاب وهو قوله

" من الخفيف " لن تراها ولو تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا أن يكون تقديره: إلا وأنت ترى لها في مفارق الرأس طيبا. فيحذف الجزءان جميعا وهما ركنا الجملة كأنْ حذف أحد جزئيها في بيت الهذلي هذا أجدر الجواز. وأما لام " نلخاك " فواو لقولهم: لخطوت الصبي، إذا سقيته بالمُسْعُط، زمنه لخى - يلخى لخوا، وهو أن يكون أحد شقي بطنه مسترخيا ومنه اللخواء، وهذا واضح. وأما لام " نلحاك " بالحاء ففيه لغتان: لحوت ولحيت لحوا ولحيا، وغصن ملحُوٌّ وملحىٌّ، ومنه تلاحى الرجلان أي تشاتما، وكأن كل واحد قشر صاحبه. ومعنى " نلخاك " من اللخا يعني الوَجور، ونلخاك نقشر منك ألفاً من الدية، عن الأصمعي. وفيها: وسِلْمُ الصَّديق وابلٌ ومسيلُه ... ومَرْعاه وادٍ لا يُفَجىّ عميمُها قال: " لا يفجى "، لا يفرج من كثرته. لام " يفجىّ " واو لأنه من قولهم: قوس فَجْواء، أي منفرجة، وأنث الضمير في " عميمها "، وهو عائد على الوادي من حيث كان الوادي في المعنى هو السلم فصار من باب قوله " من الطويل ": تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقول الله سبحانه: (ومنَ الشياطينِ مَنْ يغوصونَ له) وهو واسع كثير وإن شئت قلت ذهب بالوادي إلى البقعة كقول الله عز اسمه (إنَّكَ بالوادي المُقَدَّسِ طُوى)، فيمن لم يصرف لأنه ذهب بالوادي إلى البقعة. وقال قيس بن خويلد من بيتين " من الطويل ": وكادَ يُوالينا ولسنا بأرضِهم ... قبائلُ من فَهِمٍ وأفضى وثابرا لام " أفضى " عندنا هي ياء، قالوا لأنه من فصيت السيئ أفصيه فصياً إذا أبنته من غيره، والفصية أيضا ما نين الحر والبرد. ولا اعرف الآن " فص ". وقال قيس بن العيزارة من أربعة أبيات. " من البسيط ": ويلهما لقحةً إذا تأوبهم ... نسعً سآمية فيها العاصير مسع ونسع من أسماء الشمال. قال الهذلي: قد حال بين دريسية مؤوبة ... نسع لها بعضاهِ الأرضِ تهزيز

ويشبه أن تكون النون هي الأصل والميم بدل منها وذلك لأن الشمال شديدة الهبوب لقوله: " نسع لها بعضاه الأرض تهزيز "، فكأنها نسعة يجذب بها العضة. أنشدني الشجري في وصف حمامة تميل غصناً لتَفسه " من الطويل " ينبوء بها طوراً وطورأ يميلها ... كأنه غي أشطان مُرْجٍ وجاذبِ وفيها: كأنّها وَسْط أيْكِ الجزْع مُعْتَرِشٌ ... ممن يُعَوِّلَ تَحْتَ الدَّجْنِ مبغورُ في قوله " يعول " دلالة على أن عين العالة واو، والعالة أن يعرض خشباً على رؤوس شجر يتحصن فيها من السبع. ومثله ما قرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيي " من البسيط " الطعن شغشغة والضرب هيقعة ... ضَرِبَ المعوّل تحت الديمة العَضُدا هذا آخر ما خرج من شعر قيس بن عيزارة.

(2) شعر عمرو بن الداخل

(2) شعر عمرو بن الداخل قال الأصمعي: اسمه زهير. قال " من الوافر ": تَذكّر أُمَّ عَبْدِ اللهِ لّما ... نأته، والنوى منها لجوج فيها: تُصيخُ غلى دَوِيِّ الأرض تَهوى ... بمسمعِها كما لأصغى الشَّجيجُ عين " تصيخ " واو قياسا واشتقاقا. أما القياس فلأنها عين، وان تكون واواً أكثر. وقد تقدم القول في هذا. وأما الاشتقاق فلأنهم قد قالوا أساخ بسمعه وأصاخ، فكأن الصاد فقلبت عن السين لأجل استعلاء الخاء كقولهم في مساليخ: مصاليخ، وفي سالغ: صالغ، لأن الخاء أخص بالغين منها ببقية حروف الحلق، وقد قالوا ساخ الماء في الأرض يسوخ أي دخل فيها. ورووا بيت أبى ذؤيب " من الكامل ": قصر الصبوح لها فشرّج لحمها ... بالنيّ فهي تسوخ فيها الإصبع

وتثوخ وكأن الثاء بدل من السين لاجتماعها في الهمس. والتقاؤها ان المُسيخ بسمعه مصغ إلى المسموع دأب في إدخاله أذنه وإيصاله غلى حاسته كما يسوخ الماء في الأرض أي يصل إليها ويخالطها وهذا مفهوم. واما " يصغي " فمن الواو من قولهم: صغوه معك وصغاه معك، أي: ميله، والمصغي إلى الشسء، مائل بسمعه إليه. وهذا واضح. وفيها: وأَمْهلُها فلما وَرّكتني ... شمالاً وهي مُعْرِضة تهيجُ وضع لفظ المضارع في معنى الماضي أي: وأمهلتها فلما وركتني. ومثله ما انشد الأصمعي " في المتقارب ": فلما خشيت أظافيره ... نجوت وارهنه مالكا قال الأصمعي: وهو كقولك: قمت وأصك عينه، أي وصككت عينه. ورواه غيره: نجوت وأرهنتهم مالكا. ومثله " من البسيط ": ظلت تجوب بها البلدان ناجية ... عيديةٌ أرهنت فيها الدنانيرُ

ومثله قول بعض همدان في نسر قتله " من الطويل ": أرحتهم منه وأطفأت سُنّة ... فإن باعدونا فالقلوبُ بِعادُ فأرميه من جوف الخبا فاختللته ... وليلي من دون الصباح سوادُ وقالت فتاة منهم في هذا النسر " من المتقارب ": فيرميه خالي على رقبة ... بسهم فانفذ منه الدسيعا وعليه بيت الكتاب " من الكامل ": ولق أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثُمََّ قلت: لا يعنيني أي: ولق مررت. قال أبو علي قال أبو بكر: كان حق الفعال كلها أن تكون مثالا واحدا إذ كان معنى الفعل على اختلاف أمثلة واحدا إلا انه فرق بين أمثلتها لاختلاف أومنتها. قال فان انضم غلى لفظ المثال قريبة من لفظ أو حال جاز وقوع كل واحد منها موقع صاحبه وذلك نحو قولهم في الشرط: " أن قمتَ قمتُ " وأنت تريد: أن تقم اقم، فوضعت الماضي موضع المستقبل لما صحبه من حرف الشرط إذ معلوم أن الشرط لا يصح إلا مع الاستقبال وكذلك الدعاء نحو: " غفر الله لك " لما كان الدعاء في لفظ الأمر، والأمر والنهي لا يصحان إلا مع الاستئناف. وكذلك " لم أقم " لما كان نفي قمتُ، وقمت ماضٍ جاء فيه لفظ المضارع، فهذا شرح هذا فاعرفه. فأما قول الله تعالى: (واتَّبَعُوا ما تتلو

الشَّياطينُ) فمعناه: تلت، وهو حكاية حال التلاوة فلذلك جاء بلفظ الحاضر. وقد ذكرنا هذا في موضع آخر من كلامنا. وفيها: وصفراءُ البُراية فَرْعُ نَبْعٍ ... تَضمَنَّهَا الشرائِعُ والنهوجُ ويروى: فرع قان. وقال: القان الشجر التي تعمل منه القسي. كان أبو علي - رحمه الله - يجعل عين " القان " ياء ويأخذه من: قَيَّنْتُ السيئ، أي حسنته وزينته، ويذهب على أن الشجر يُحَسنُ موضعه ويجمله. وليس يبعد عندي أن يكون القين وهو موضع القيد من هذا، وذلك انه بمنزلة الخلخال والسوار من المرأة وهما للجمال والزينة. قال ذو الرمة " من البسيط ": دانى له القيدُ في ديمومة قَذَفٍ ... قينية وانحسرتْ عنه الأناعيم ويكشف لك عن حقيقة ما نحن بسبيله قول أبى نواس " من الطويل ": إذا قام غنّته علي الساقِ حليةٍ ... لها خطوة عند القيام قصيرُ فجعل القيد حلية، أي هو في مكان الحلية من لابسها، وهو أيضا من جوهر الرض كالفضة والذهب. نجز ما خرج من شعر عمرو بن الداخل.

(3) وهذا شعر أبي ذرة

(3) وهذا شعر أبي ذَرّة قال الأصمعي: أبو ذُرَّة " من الرجز ": يا أيُها الشَّاعِرُ لا يُسْمَعْ لكا ... أعجلتني ولم اكنْ أحفِلْ لكا ليس قوله في القافيتين: " لكا، لكا " ايطاء، وذلك ان حرف الجر يتصل بالفعل قبله حتى يصير كجزء منه وذلك نحو: مررت بك، ونظرت إليك. ويدلك على أنه معه كالجزء الواحد أشياء منها: إن عبرة الفعل الواصل بحرف الجر عبرة الواصل بنفسه، ألا ترى إن مررت بزيد بمعنى جزت زيدا، ونظرت إلى عمرو بمعنى أبصرت عمرا. ومنها أنك تختار مع حرف الجر من النصب ما تختاره مع الفعل الواصل بنفسه فتختار أزيداً مررت به، كما تختار: أزيداً رأيته. ومنها أن حرف الجر هذا قد عاقب ما هو مصوغ في الكلمة حرفا منها، ألا ترى انك تقول: ذهبت بزيد، فمعنى الباء معنى همزة أفعل إذا قلت: أذْهَبتْ زيداً، وكذلك: علوت به وأعليته. نعم ويعاقب أيضا عن الفعل في قولهم: سرت بزيد، وسيّرت زيدا، وسبقت بزيد، وسبقته.

ولهذا أشباه، فإذا جرى حرف الجر مجرى جزء من الفعل الذي اتصل به صار بضعة منه وطرفا له فصارت المعاملة في القافية إذن إنما هي مع الفعلين لا مع الحرفين الجارين المتصلين بهما، فكأنه لا يسمعك ولا يحفلك. وإذا كان كذلك فقد اختلفت القافيتان، ولم يكن هناك إيطاء. وقال أبو ذَرَّة " من الرجز ": الجدّ هُوَّ أي بني خُزَيمة ... أنْ يُنزلوني سواء الخيمة يجوز أن يكون معناه " الجد "، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفا و " هُوَّ " خبر " الجد "، وهو ضمير ما كانوا عليه نظير الضمير في قوله: " إذا كان قد غدا فاتني "، وقوله " أن تمزلوني " بدل من " هُوَّ " وهذه لغة في " هو " أعني الثقيل. ويجوز أن تكون الرواية " هُوٌ " أي تكسير " هاوٍ " أي محب، أي يا محبي. وقال أُسيد بن أبى إياس من قصيدة " من الطويل ": وأكسى لثوبِ الخالِ قَبْلَ اعتراكِه ... وأعطى لرأس المنهبِ المتجِردِ

عين " الخال " ياء لانه يختال فيه فهو من الخيلاء الأخيل. وفيها: فَقَدْني وإياهم فانْ ألْقَ بَعْضَهُمْ ... يكونوا كتعجيل السَّنامِ المُسَرْهَدِ عطف " إياهم " على المعنى وذلك أن " ني " من قدني، وان كانت مجرورة بإضافة " قد " إليها فإنها - في المعنى منصوبة، ألا ترى أن معنى " قدك " ليكفك، و " قدني " بمعنى ليكفني. موضع " قد " من قدك رفع بالابتداء تقول: قدك درهمان، كقولك: حسبك درهمان، وإذا جاز أن تتصور في حسبك وهي معربة معنى ليكفك كان اعتقاد ذلك مع قدك المبنية أخرى، ألا ترى إلى قوله " من الطويل ": إذا كانت الهيجاءُ وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند ألا ترى انه محمول علة معنى: فليكفك والضحاك. ومن جر " الضحاك " عطفه على الكاف ضرورة. ونحوه قول الله سبحانه: (إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ). لما لم يحسن عطفه على الضمير المجرور حمله على المعنى فصار تقديره: ننجي أهلك. ويجوز فيه عندي وجه آخر وهو

أن يكون إياهم في موضع جر وان كان لفظه للضمير المنصوب. ألا ترى غلى قوله " من الطويل ": فأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف ولم يأسر كإياك آسر وجاز ذلك عندنا كما جاز قوله: أنا كأنت، وأنت كأنا، وكما جاز، مررت بك أنت، ونزلت عليهم هم. فكما باشرت هذه الضمائر ونحوها الجوار وهي ضمير المرفوع، كذلك جاز أن تباشر إياك الكاف في قوله: كإياك، وإن كانت إياك من ضمير المنصوب. والعلة الجامعة لجواز ذلك هي أن هذه الأسماء المضمرة أسماء في القيقة وعبارات عما المظهرات عبارة عنه وليست الصورة هي نفس الإعراب فنحتشم من وضع ضمير المرفوع موضع المنصوب والمجرور، وإذا كانت اسما جاز أن يقع بعضها موقع بعض كما يقع الاسم الواحد مرفوعا تارة ومنصوبا أخرى ومجرورا تارة، وان كان أكثر الاستعمال ان يَخُص كل واحد من هذه الأسماء بموضع من الإعراب خلافا على الظاهر، فكذلك يجوز ان يكون أيضا قوله " فقدني وإياهم " موضع " إياهم " جر على موضع " ني " من " قدني "، كما كان الضحاك فيمن جره عطفا على الكاف في " حسبك ". وعلى أن " إياهم " هنا أسهل من " الضحاك ". ألا ترى أن " إياهم " لا يبين فيه حقيقة إعراب وقد وقع أيضا نفسه في موضع جر في قوله: " ولم يأسر كإياك آسِرُ "، فكأنه لا فرق بين المنصوب والمجرور في هذا. وليس كذلك " الضحاك " لاختلاف حالي نصبه وجره، فإذا جاز " فحسبك والضحاك " كان " فقدني وإياهم " على أن " إياهم " موضع جر أجوز لا سيما ولم يظهر في " فقدك " إعراب. فالكاف في " قدك " أشبه بالمنصوب من كاف " حسبك "، فكأن " إياهم " وان كان مجرور الموضع نصيبه. فان قلت فقد وقع الإجماع على أن ضمير المجرور لا يكون

مفصولا، وأنت فصلته في هذا الموضع، ألا تراك انك لا تقول: " مررت بزيدٍ وَكَ "، ولا " لقيت غلامه وها " أي وغلامهما. فالجواب إن هذا إنما جاز لان لفظه لفظ المنصوب وان كان مجرورا. كما أن " أنت " من قولك: " مررت بك أنت "، مجرورة لوقوعها توكيدا للكاف المجرورة، و " أنت " كما تراه منفصل. وإنما جاز ذلك لان لفظه لظ المرفوع المنفصل، وكذلك يجوز أن يكون " إياهم " من قوله: " فقدني وإياهم " ضميرا مجرورا وان كان مفصولا لمجيئه على لفظ المفصول. واما قوله " يكونوا كتعجيل السنام المسرهد " فانه يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون " التعجيل " مصدرا لعجَّلت، فيكون المضاف إذن محذوفا كأنه قال يكونوا كذي تعجيل السنام، و " ذو تعجيله " هو السنام، فكأنه قال يكونوا كالسنام المسرهد. فهذا وجه ظاهر. والآخر أن يكون " التعجيل " اسما من هذا المعنى لا مصدرا، فقد جاء التفعيل اسما لا مصدرا ومن ذلك: التمييز والترغيب لقطع السنام. وقال أبو عمرو الشيباني التمييز: خيط المظلة. وقال أبو زيد: التأويل واحدته تأويله وهي أوعية برز بعض النبت يكون كقرون الكباش، ومثله التنبيت. فيكون على هذا " التعجيل " كالترغيب وزنا ومعنى فأعرفه.

(4) وهذا شعر المعطل

(4) وهذا شعر المُعَطَّل وقد تروى لمعقل بن خُويلد. قال " من الطويل ": لَعَمْرك لقد نادى المُنادى فراعني ... غَداةَ البُوين من بَعيدٍ فأسمعا فيها: جَواداً إذا ما النَّاسُ قَلَّ جَوادُهُمْ ... وسُفّاً إذا ما صَرَّح الموتُ أرْوَعا أوقع المضاف اسم جنس وهو قوله " جوادهم " ومثله قولهم: " منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت مصر إردبها ". ومنه قول الله سبحانه: (وقالت اليهودُ يَدُ الله مغلولةٌ، غُلَّت أيديهم) معناه نعمته أي نعمة. وأنشد أبو الحسن: الخالطين لجينهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي القَقْرِ

أي بالفقراء. قال " والسلف " ضرب من الحيات خبيث، ويقال انه الشجاع. ينبغي أن يكون تسميتهم الحية سفاً من قولهم: " أسفَّ الطائرُ " إذا دنا من الأرض في طيرانه وذلك لمباشرة الحية الأرض بطنه، وليس يبعد جسمه من الأرض بُعْدَ ما يمشي على رجليه. فان قلت: كيف خص بهذا الاسم بعض الحياة دون بعض وهو معنى شائع في جميعها؟ قيل هذا لا يلزم في طريق الاشتقاق، ألا ترى انهم يقولون أن القارورة إنما سميت بذلك لاستقرار الماء فيها. وليس يلزم من هذا أن يقال لكل ما استقر فيه شيء قارورة، ألا ترى انه لو لزم ذلك لوجب أن تسمى البئر قارورة لاستقرار الماء فيها، وان يسمى الصندوق قارورة لاستقرار المال فيه أو المتاع فيه، وان يسمى البحر قارورة لاستقرار الماء فيه. وكان اللبس يعظم والبلاء يتسع ويشمل. وفيها: فقُلْتُ لهذا الدَّهْرِ انْ كُنْتَ تاركي ... بخيرٍ فَدَعْ عَمْراً واخوَتَه معا يحتمل هذا أمرين: أحدهما أن يكون أراد " تاركي بخير تريده بي " كما تقول " ضربته لشر " و " أحسنت إليه لخير ". والآخر أن يكون مقلوبا أي إن كنت تاركا لي خيرا كقولك: تاركا شيئا خيارا جيدا فدع لي فلانا وفلانا.

لَعَمْرُكَ ما غَزَوْتُ دِيشَ بنَ غالِبٍ ... لِوِتْرٍ ولكن إنما كنت مُوزَعا عين " ديش " ينبغي أن تكون واوا من قولهم " الدوش " في العين .. كذا رواه " دِيس " بكسر الدال. وقال الأصمعي: أظنه حيا من كنانة. وروى محمد بن الحسن " دَيش " وقال: هو بطن من العرب. وقال أحمد بن يحيي " دَيش " بفتح الدال أيضا وقال: هي قبيلة من الهُونِ وهم من القارة. كذلك حكياه في شعر هُذيل. وقد يجوز أن يكونَ هذا ذاك ال أن الدال عنها مفتوحة، وظاهر الأمر ان العين على هذا ياء، فأما ما قرأته على أبي بكر بن الحسن عن أحمد بن يحيي عن ابن الأعرابي من قوله " من الرجز ": وان تكلمت جثت في فيش ... حتى تنقى كنقيق الديش فانه أراد الديك فأبدل الكاف شينا ونحوه وقوله " من الطويل ": فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... سوى أن عظم الساق منش دقيقُ

والبدل كثير، منه ما أنشدنا أبو علي " من الرجز ": يا ابن الزبير طالما عَصيكا ... وطالما عنّيتنا إليكا لنضربن بسيفنا قفيكا فقال: عصيك، أبال تاء " عصيت " كافا. ويحكى أن عبد بني الحساس كان إذا أنشد شعرا حسنا قال: " أحسنكَ والله "، يريد أحسنت والله. وهو كثير. وفيها: فما لُمْتُ نفسي من دِواءِ خُويلدٍ ... ولكن أخو العَلْداة ضاعَ وَضُيّعا " دواء ": علاج. هذا عندي مصدر داويتة وراضيته رضاء. قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيي " من الخفيف ": كم نرحب بما سخطت ولكن ... مرحباً بالرضاء منك وأهلا فهذا مصدر " راضيته "، فأما الدواء فالاسم منه. وحكى الفراء عن أبى الجراح هو الدواء، وانشد " من الطويل ": يقولون مخمور وهذا دواؤه ... علّ إذن مشيٌ إلى البيت واجب وأما العلداة فكالأرْطاة وكالعلقاة ألفها للإلحاق لا للتأنيث.

وقال المعطل أيضا: ألا أصْبَحَتْ ظمياءُ قد نَزَحت بها ... نوى خَيْتَعورٌ طَرْحُها وشتاتها وفيها: وقالَت تَعَلَّمْ أنَّ ما بين شابةٍ ... وبين دُفاقٍ رَوْحَة وغداتُها ينبغي أن يكون عين " شابة " واوا حملا على الأكثر من لفظ الثوب، وقد يجوز أن يكون من لفظ " الشيب " وفيها: فأبنا لنا ريحُ الكِلاء وذِكرُهُ ... وآوا عليهم فَلُّها وشَماتُها

قال " الريح " الدَولة. يجوز أن يكون " الكلاء " مصدر كالاتة أي نحن نتكالأ وينصر بعضنا بعضا لان كلمتنا واحدة فيكون كقوله " من الرجز ": إنّ نِزاراً أصبحت نزارا ... دعوة أبرار دَعوا أبرارا ويجوز أن يكون أراد الكلآءة أي الحفظ فحذف الهاء. والأول أقوى.

(5) وهذا شعر ربيعة بن جحدر

(5) وهذا شعر ربيعة بن جَحْدَر " من الطويل ": أَنّى تَسَدَّى طيفُ أم مسافعٍ ... وقد نام يا ابن القوم من هو ناعِسُ لام " تسدّى " ياء لنه تفعّل من سدى الثوب، وهو الياء. يجوز إمالته، وقد قالوا أيضا: سدى إليه يسدي سديا، في معنى أسدى إليه، والمعنيان منضمان، ألا ترى أنهم يصفون السخي بانبساط يده، واللئيم بانقباضها. والسدى ما انبسط من غزل الثوب، ويجوز أن يكون " تسدى " تفعل من السدو وهو بسط يدي البعير في سيره وهذا من الواو. فيها: وذي ابل فَجَّعته بخيارها ... فأصبح منها وهوَ أسوانُ يائس قال: ويروى أسيان. من قال " أسوان " فأسى يأسى عنده كشقي يشقى ومن قال أسيان فأسى يأسى كبقى وينبغي أن يكون " أسوان " من لفظ الأسوة ومعناها، إلا أنه للسلب لا للإيجاب كما تقدم في أول كتابنا هذا، فيكون من باب: أشكيت الرجل أي زلت له عما يشكوه، وأعجمت الكتاب أي أزلت استعجامه، فكذلك معنى أسوان أي قد زال عنه التأسي بغيره فأسى لذلك، ولو تذكر مصائب غيره لخف عليه حزنه.

ويؤكد الياء في الكلمة إمالة الأسى. هذا هو باب الاعتبار وأن كان سيبويه قد حكى الأمالة في العشا والمكا والكيا، فإن ذلك شاذ، والعمل على غيره. وقال رجل من هذيل: من أبيات " من الرجز ": فَظِلْتُ في شَرَ من اللذ كيدا ... كاللَذ تزبى زبية فاصطيدا قد عَدَّ الناس " اللذ " لغة في " الذي "، ويمكن عندي أن يكون ذلك صنعة لا لغة، وذلك إنه يجوز أن يكون حذف الياء تخفيفا لطول الاسم بصلته فصار " اللذ " كما روينا عن قطرب " من الرجز ": اللذِ لو شاء لكانت برا ... أو جبلاً أشَمَّ مشمخرا فلما صار إلى " اللذ " اسكن الذال استثقالا لكسره واتباعا لإقامة الوزن. " قال بعض هذيل من الرجز: هل لك فيما قلت لي وقلت لك ... إِن معي ذا حاجة وينفعك وتجعلين اللذْ معي في اللَذْ معك أراد " اللذِ " بالكسر، أما لغة أو صنعة فمنعها لإقامة الوزن. وكقول الآخر، أَشده أبو زيد " من الرجز ":

قالت سليمي اشْتَرْ لنا سويقا يريد " اشترِ ". وكإنشاده " من الرجز ": فاحذر فلا تكترْ كرياً اعوجا يريد " لا تكترِ ". وكإنشاد الفراء " من الوافر ": ومن يتقْ فأن الله مَعْهُ ... ورزق الله مؤتابٌ وغادي يريد " يتقِ " فأجري المنفصل في هذه المواضع مجرى المتصل فصار لذلك بمنزلة فخذ وكبد وصار يتق كعلم وسلم فأسكن الذال فقال كاللذْ، وازداد الإسكان هنا حسنا لطول الاسم وإفراطه بصلته كما كان حذف النون مع إِرادتها في قوله " من الرمل ": ولقد يغني به جيرانك ال ... ممسكو منك بأسباب الوصالِ أحسن من قوله: الحافظوا عورة العشيرة. فيمن نصب من موضعين أحدهما أن " منك " في " افعل منك " قد عاقبت المضاف إليه فلم يجتمع مع لام التعريف نحو: الأحسن منك، والأظرف منه، كما لا يجتمع معها الإضافة. فكأن " منك " في قوله: الممسكو منك، بمنزلة الكاف في الممسكوك، كذلك حسن حذفها في " الممسكو منك ". والآخر إن " الممسكو " أطول من " الحافظو " وذلك إن لام التعريف قد تمكنت الأدلة على كونها كجزء مما دخلت عليه فعرفته. وقد أوضحت الدلائل على ذلك في كتابي " سر الصناعة "، وفي كتابي الموسوم ب " المعرب في شرح القوافي " عن أبي الحسن وغيرهما من كلامي. فلما كانت اللام في

" الممسكو " إنما هي في آخر المصراع الأول وبقية الكلمة في المصراع الثاني وعرض هذا الإدماج ازدادت الكلمة طولا إذ كانت مقتسمة من آخر المصراع الأول وأول المصراع الثاني. والمصراع الأول قد يجوز ويحسن ويكثر الوقوف عليه كما يوقف على آخر البيت نفسه، ألا ترى أن جزئي التصريع والتقفية في آخر المصراع الأول يشبهان القافيتين في آخر البيت ولذلك قطعت العرب ألف الوصل في أول المصراع الثاني في نحو بيت الكتاب " من الكامل ": ولا يبادر بالعشاء وليدنا ... القدر ينزلها بغير جعالِ وعليه أجاز أبو الحسن الخرم والخزم جميعا في أول المصراع الثاني كما يجوز الجميع في أول البيت فلما اسبه آخر المصراع الأول آخر البيت اجمع صار المصراعان كأنهما بيتان فازداد الأمر بذلك طولا، فازداد حذف النون لما ذكرنا حسنا، فاعرف ذلك. وفي قوله: " فاصطيدا " ثلاث لغات إنْ شئت " اصطيدا " بإخلاص كسرة الطاء، وإن شئت " اصطيدا " بإشمام الكسرة ضما، وإن شئت بإخلاص الضمة وقلب الياء واوا تقول " اصْطُودا " والأولى أجودهن ثم التي تلبيها. قال " من مشطور الرجز ": وابتُذِلَتْ غضبى وأمُّ الرِّحال ... وقُولَ: لا أهلٌ له ولا مال

وقرأته على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى، وقرأت أيضا عليه عنه " من مشطور الرجز ": حُوكت على نِيرينِ إذ تُحاك ... تَخْتَبط الشَّوْكَ ولا تُشاك وقد ذكرت ذلك في شرح تصريف أبي عثمان. نجز ما خرج من شعر ربيعة بن جحدر ورجل من هذيل

(6) وهذا شعر ربيعة بن الكودن

(6) وهذا شعر ربيعة بن الكَوْدَن قال " من الطويل ": أفي كل ممسي طيفُ شمّاء طارقي ... وإنْ شحطتنا دارُها فمؤرقي ومنها وأصحابي بريعانَ مَوْهِنا ... تلألؤ برق في سنا متألقِ قال " ريعان ": بلد، ويقال جبل. ريعان يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون " فَعْلان " من راع يريع إذا رجع. والآخر: أن يكون " فَيْعالا " من الرَّعْنِ كالغيداق والخيتام. فأما ريعان السراب فإنه " فَعْلان " من قولهم: تريَّع السراب، إذا ذهب وجاء، وقد قالوا فيه تَريَّه كأن الهاء بدل من العين. وأما " موهنا " فإنه متعلق بقوله منها " كقولك: " في الدار موهنا زيدٌ ". ويجوز أن يكون " موهنا " متعلقا بقوله: " بريعان " لان خبر عن أصحابي. ويجوز أن يكون " موهنا " حالا من " تلألؤ برق " كأنه في الأصل صفة له أي: منها تلألؤ برق موهنا، أي كائن موهنا ثم قدمت النكرة عليها فنصبته على الحال كقوله " من الوافر ": لمية موحشاً طلل قديمُ ولا يجوز أن تكون " موهنا " متعلقا بقوله: " متألق " أي متألق موهنا من قبل أن متألق صفة ل " سنا " والصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا يجوز أن يكون متعلقا بنفس " تلألؤ " من قبل استحالة تقدم الصلة أو

شيء منها على الموصول، ولا يجوز أيضا أن يكون " موهنا " متلقا ببرق من قبل أن المضاف لا يعمل فيما قبل المضاف إليه، ولا يجوز أن يكون أيضا متعلقا بنفس " سنا " لأن قوله في " سنا " صفة لبرق ولا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف. وكذلك أن جعلته صفة ل " تلألؤ " الحال واحدة. وكذلك ان جعلت " في سنا " متعلقا بنفس " تلألؤ " أو بنفس برق لأنه يكون في صلته، ومحال تقم الصلة على الموصول. وقد يجوز أن يكون " في سنا " صفة ل، " تلألؤ " وأن يكون صفة لبرق وأن يكون حالا من الضمير في " متألق "، ولا يحسن أن يكون صفة لمتألق مقدمة عليه من قبل أن " متألقا " صفة، والصفات عند سيبويه لا توصف ولذلك قال أبو علي رحمه الله في قولهم: " مررت برجل عاقل ظريف " أن عاقلا صفة لرجل، و " ظريفا " صفة لرجل موصوفا بعاقل. وقوله " واصحابي بريعان " جملة في موضع نصب على الحال بقوله " منها ". وفيها: فَظَلّ صحابي راصدينَ طريقَها ... وظَلَّت لديهم في خباء مُروقِ همزة " خباء " بدل من ياء لقولهم: خبيت الخباء أي أصلحته.

(7) وهذا شعر عروة بن مرة أخي أبي خراش

(7) وهذا شعر عُروة بن مُرّة أخي أبي خراش قال من أبيات " من الطويل ": فداني ولم يَضْننْ عليَّ بنصره ... وَرَدَّ غداةَ القاع رَدَّةَ ماجدِ عين " القال " واوا لقولهم في تكسيره: أقواع، وأقوع وكأنه من معنى: قاع الفحل الناقة بوقوعها قياعا، إذا علاها، وذلك إن القاع كل مطمئن حر الطين. والتقاؤهما إن الأرض المنخفضة تعلوها الأشياء لانخفاضها، والأرض وغيرها تعلوها بالإضافة إليها فكأنه طروقه لغيرها. وقال عروة أيضا من أبيات " من الوافر ": أشَتَّ عليكَ أيَّ الأمرِ تأتي ... أتستخذي صديقَك أَمْ تُغيرُ أي أترفق به أم تغير عليه، و " أشت " تفرق. ينبغي أن يكون فاعل " أشت " مضمرا تدل الحال عليه أي: أشت الأمر عليك أي الطريقين

تركبه. وقوله: " أتستخذي أم تغير " في موضع نصب لانه مفعول " أشت " يقال: شت الشعب وأشته الله. قال " من المديد ": شت شعب الحي بعد التئام " وشجاك الربع ربع المقام " وهو بدل من قوله: " أي الأمر تأتي ". ولا يجوز أن يكون قوله " أي الأمر تأتي " الجملة في موضع رفع بأنها فاعلة، وذلك إن الجمل لا تكون عندنا فاعلة، ولذلك لم يجز أن يكون قوله: " ما الكلم من العربية " إذا جعلت " ما " استفهاما، و " الكلم " بعدها خبر عنها مقامة مقام الفاعل إذا قدرت العلم بمعنى أن يُعلم في قوله: " هذا باب علم ما الكلم من العربية " حتى كأنه قال: هذا باب أن يُعْلم أيَ شيء الكلم من العربية، لأن ما أقيم مقام الفاعل جار مجرى الفاعل. فأن قلت فلم لم تجز أن تكون الجملة فاعلة؟ قيل: من قبل إن الفاعل كما يكون مُظهرا، فكذلك قد يكون مضمرا، والمضمر معرفة، والجملة الخبرية لا تكون إلا نكرة.

(8) شعر الأبح بن مرة

(8) شعر الأبح بن مُرّة قال من أبيات " من الوافر ": عليك بني معاوية بن صَخْرٍ ... فأنت بعَرْعَرٍ وهُمُ بضيمِ ظاهر أمر عين " ضيم " إنها ياء للفظ الموجود لأن المستعمل من هذا اللفظ ما عينه ياء وهو " الضيم ". قال " من الطويل ": أبي الضيم والنعمان يحرق نابه " عليه فأقصى والسيوف معاقله " ولم اعرف تصريف " ض وم " في شيء من كلامهم. فأجابه ساريةُ بن زُنيم الذي رُوى عن عمر " بن الخطاب " إنه قال: يا ساري: الجبل، الجبل. " من الوافر ": لَعَلَّكَ يا أبحُّ حَسبت أني ... قتلتُ الأسْوَدَ الحسنَ الكريما

أخذتم عقله وتركتموه ... يَسوق الظُمْىَ وَسْطَ بني تميما ذهب بتميم إلى القبيلة فلم يصرفه، كبيت الكتاب " من الكامل ": غَلَبَ المساميحَ الوليدُ سماحةً ... وكفى قريشَ المعضلات وسادها قال قلت: فلعله ذهب إلى حذف التنوين لالتقاء الساكنين كقوله " من الرجز ": إذا غُطيف السلمىَ فَرَا قيل: ما ذهب إليه صاحب الكتاب من إنه ذهب بقريش إلى القبيلة فلم يصرفه أولى، ألا تراه قال " وسادها " ولم يقل: وساده، وهذا هو الوجه ونظائره كثيرة.

(9) شعر عبد مناف بن ربع الجربي

(9) شعر عبد مناف بن ربع الجربي " وهو " من بني جريب. قال " من البسيط ": ماذا يَغيرُ أبنتي ربْعِ عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا قال: يقال خرج فلان يغير أهله ويميرهم، والمصدر " الغير " و " الغيار " يقول فما يرد عليهما بكاؤهما وما ينفعهما. اعلم إن " ذا " في هذا الموضع يحتمل أمرين أن يكون مع " ما " بمنزلة اسم واحد كقراءة من قرأ: (ماذا انزلَ رُبَكم؟ قالوا خيرا) بالنصب وإن " يكون " بمنزلة الذي كقراءة من قرأ: " قالوا خيرٌ ". وكالوجه الأول قوله " من الوافر ". دعى ماذا علمت سأتقيه ألا ترى أن معناه: دعى شيئا علمته سأتقيه، ولا يكون معناه دعى ما الذي علمته. فإذا جعلت " ماذا " في بيت الهذلي هذا بمنزلة اسم واحد احتمل ذلك الاسم أمرين: أحدهما أن يكون مصدرا البتة حتى كأنه قال: أي نفع ينفع ابنتي ربع عويلهما انفعا ما معذرا، كقولك: أي سرور يسركما غلامكما أسروراً معتدا أم سرورا كلا ولا، فهذا وجه. والآخر أن

يكون ذلك الاسم الدال عليه " ماذا " غير مقصور على جنس واحد من المصدر دون غيره كقولك: أي شيء يرد عليهما عويلهما؟ كما تقول: أي شيء تحصل في هذه الحال أفضة أم ذهبا أم كسوة أم عقارا أم منزلة أم جاها. فان جعلت " ذا " بمنزلة " الذي " كان هناك محذوف عائد إلى الموصول من الصلة، وكان " الذي " مصدرا في المعنى أي: ما الغير الذي يغيره ابنتي ربع عويلهما، كقولك: ما الضرب الذي يضربه زيدا غلامه. وإن شئت كان " الذي " شائعا لا يخص جنسا دون جنس كقولك: ما الشيء الذي يرده عليهما بكاؤهما أمال أم عقار أم ضيعة أم احتساب وسلوة؟. وقد أطال أبو علي رحمه الله في تفسير هذا البيت في تذكرته وغيرها من مصنفاته. فأما قوله " لا ترقدان " فيحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون ذا موضع من الإعراب. والآخر أن يكون غير ذي موضع منه. فإذا كان ذا موضع منه احتمل أمرين، أحدهما: أن يكون حالا من " هما " أي عويلهما غير راقدتين، وأن شئت كان خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: هما لا ترقدان فيكون في هذا الوجه رفعا كما كان في الذي قبله نصبا. الوجه الآخر: من القسمة الأولى أن تكون غير ذي موضع بل يكون مستأنفا غير واقع موقع المفرد. وأما قوله " ولا بؤسى لمن رقدا " فيجوز أن يكون " بؤس " في موضع فتح لبنائها مع " لا " كقول الله سبحانه: " لا بُشرى يومئذ للمجرمين " وقوله: " لمن رقدا " خبر عنه. ويجوز على هذا أن يكون قوله " لمن رقدا " صفة ل " بُؤسى "، والخبر محذوف. فإذا أنت فعلت هذا لم يجز أن يكون قوله " لمن رقدا " مبنيا مع " بؤسى " كما يبنى ظريف مع رجل في قولك " لا رجلَ ظريفَ " من قبل أن ظريفا جزء واحد فجائز أن يجعل مع الجزء الأول الذي هو رجل كالاسم الواحد. وأما قوله " لمن رقدا " فإنه ثلاثة أشياء فلا يجوز أن يجعل مع غيره

كالاسم الواحد لطول ذلك، ويجوز أيضا أن تُعلق اللام في قوله " لمن رقدا " بنفس بؤسى، فإذا فعلت ذلك اعتقدت في بؤسى التنوين لطول الاسم بما عمل فيه وحذفت الخبر، إلا أنه لما لم ينصرف لم يبن فيه تنوينه، ويجوز أيضا أن يجعل " لا " كليس فتعتقد رفع برسى كقوله " من مجزوء الكامل ": " مَنْ فَرَّ عن نيرانها " ... فإنا ابنُ قيس لا بَراح أي: ليس عندي براح. وتكون اللام بعد بؤسى خبرا عنها. ويجوز أيضا على هذا أن تجعل اللام صفة لها، والخبر محذوف. ويجوز أيضا أن تعلق اللام بؤسى كما جاز فيما قبل، إلا أن بؤسى على هذا القول منونة في التقدير، كانت اللام بعدها خبرا عنها وصفة لها أو متعلقة بها نفسها من قبل أن التنوين إنما يحذف من الاسم المبني مع " لا " الناصبة، فأما الرافعة فإنها لا تعترض على تنوين ما بعدها بنفيه ولا إثباته. وفيها: كأنَّهُمْ تَحْتَ صَيْفيَّ له نَحَمٌ ... مُصَرَّح طحرت أسناؤه القَردا " أسناؤه " هي جمع سنا وهو الضوء. لام " سنا " واو لقولهم في التثنية: سنوان. وهو عندي السنة " كذا " وذلك لانهم يقولون: حول مجرَمٌ، وحول منجرد. وإذا تجرد الشيء ظهر وزال عنه ما يخامره ويستره فأنار للعين وبدا فكأن عليه ضوءً ونوراً، ولان السنة أيضا مشهورة

معلومة العدة شائعة المعرفة في الكافة فكأنَ عليها نوراً وضياءً حتى إذا أسلكوهم في قُتائدَة ... شكلاّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُرُدا همزة " قتائدة " وهي موضع، حشو لأنها حشو ولم يدل على زيادتها دليل، ولا تحملها على جُرائض وحُطائط لقلة ذينك. وقال المُعتَرض بن حَبواء الظَفَري من أبيات " من الوافر ": تركنا الضَبْعَ ساريةً إليهم ... تنوب اللحم في سرب المخيمِ المخيم ويقال جبل. لا يخلو " المخيم " من أن يكون مفعولا محذوف العين كمبيع ومكيل. فأما " فَعيل " فيبعد عندي لأنك لا تعرف في الكلام تصريف " م خ م "، وعلى انه لا ينكر أن تأتي في الكلام الكلمة ولا تستعمل حروفها في غيرها، ألا أن من جنونا تركيبها من " م ج ن "، ولا تجد لهذه الأحرف تصريفا في غير هذه الكلمة. وكذلك كوكب وابنم وعُرَ يقصان والسَيْبَ والقيقب. ونظائر

ذلك أكثر من أن يحاط بها، فكذلك " مخيم " يجوز أن يكون تركيبه من " م خ م "، إن لم تجد ذلك تصرفا في غير هذا الحرف، ولكن الأظهر أن يكون مخيم مفعولا من خام يخيم إذا جبن واصله: مخيوم، فلحقه ما لحق مكيلا ومبيعا على اختلاف الرجلين فيه. فإن قلت فإن " خام " غير متعد، ألا ترى إلى قوله " من الكامل ": إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولو أنى تضايق مقدمي فكيف جاز أن تبني مفعولا من فعل غير متعد؟ قيل: قد يمكن أن يكون أصله غير مخيم فيه أو إليه ثم حذف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول كقول لبيد: الناطق المبروز والمختوم أي المبروز به ثم حذف حرف الجر فصا المجرور مرفوعا فضمنه اسم المفعول كما قال " من الطويل ". " كأنّ ثبيراً في عرانين ويله " ... كبير أناس في بجاد مزمل أي مزمل به أو فيه، ثم حُذف الحرف فارتفع ما كان مجروراً فاستكن في اسم المفعول، ومزمل عندنا وصف لبجاد لا لكبير على الجواز كما ظن قوم، ولو ثنيت على هذا فقلت: كبير أناس في بجادين مزملين، فثنيت اسم المفعول لما استتر فيه الضمير، ولو جئت به على الأصل لقلت: في بجادين مزمل بهما أو فيهما، فلم تثنه لأنه لا ضمير الآن فيه، ألا ترى إن حرف الجر وما جرَه في موضع رفع بمزمَل، ومحالٌ أن يكون فيه ضمير وقد رفع ما بعده؛ لأن الفعل وما جرى مجراه لا يَرفع

اسمين إلا على وجه الاتباع وطريق الإشراك. وكان هذا الوادي أو الجبل إنما سمى مخيما لأن قوما حاموا فيه أو خاموا إليه أي فزعوا إليه واعتصموا به أما باستخفائهم في الوادي أو توَقُّلهم في الجبل. والله أعلم. لهامهم بمِدْفارٍ صياحٌ ... يُدَعَي بالشراب بني تميم قال " مدفار " بلد لبني تميم، وإنما هو مِدْفرٌ فمدَه فقال: مدفار. لو أنه قال بمدفر مقصورا غير ممدود لجاز في وزن هذا البحر، ألا ترى أنه من الوافر، وكأن الجزء يكون لهامهمي: " مفاعلتن "، بمدفر: " مفاعلن "، فكان الجزء يكون معقولا كما ترى، إلا أنه آثر ارتكاب الضرورة مخافة زحاف الجزء، وليس هذا مذهب الجفاة الفصحاء. قال أبو عثمان في تصريفه: " وأما الجفاة الفصحاء فأنهم لا يبالون كسر البيت مخافة زيغ الإعراب ". يعني أبو عثمان بكسر البيت الزحاف لا الكسر الصريح، فأما الكسر البتة فغير جائز على حال فاعرف ذلك. فأجابه عبد مناف بن ربع "من الوافر": ألا أبْلغْ بني ظَفَرٍ رسولاً ... ورَسْبُ الدَّهْرِ يَحْدُث كُلَّ حين أحقاً أنَّكُمْ لما قَتَلْتُمْ ... ندامايَ الكرامَ هَجَوتموني " أنَّ " مرفوعة الموضع بالظرف الذي هو حقا، وذلك أن " حقاً " هذه في الأصل إنما هي مصدر: حققت الأمر حقا، ثم أنه استعمل استعمال

الظرف فرفع أن كما يرفعها الظرف في قولك: " في غالب ظني أنك منطلق " فإن قلت فلعل موضع " أنَ " نصب بالفعل الذي هو " حقا " مصدره كأنه قال: أتحقون حقا أنكم قتلتم. قيل هذا فاسد، وذلك أن حقا هذه قد أزيلت عن أصلها فأصيرت إلى أحكام الظرف. والدليل على رفض ذلك الأصل والمصير إلى حكم هذا الفرع ما انشده أبو زيد " من الطويل ": أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل ... تهدّدّكم إياي وسْطَ المجالسِ فارتفاع " تهددكم " به يزيل عنك هذه الشبهة في بابه. وفيها: وَرَدْناه بأسيافٍ حِدَادٍ ... خَرَجْنَ قُبيلُ من عِنْدِ القُيوِن قلما يستعمل البناؤ على الضم في " قبلُ " و " بعدُ " وهما مصغرتان، واكثر ما يأتي البناء فيهما مكبرتين. وعلة ذلك عندي أن بناءهما يلحقهما بضعف الحرف، وتحقيرهما يبقى عليهما قوة الاسم فتنافت الحالان فَقَلَّ لذلك جمعهما. ومما جاء محقرا من ذلك ما أنشدناه محمد بن علي عن أبي إسحاق للشنفري " من الطويل ": إذا وردت أصدرتها ثم إنها ... تنوب فتأتي من تُحيتُ ومن عَلُ فأن قلت قد اتسع عنهم تحقير المبنى وذلك في الأسماء الموصولة وأسماء الإشارة نحو قولهم في تحقير ذا: ذيّا، وفي تا: تّيا، وفي الذي: اللذيّا، وفي التي: اللتيا، وفي أُلا: أُليا، وفي أولاء: أُليَاء،

وهو واسع وكلها مبني. قيل هذه أسماء لا أصل لها في الإعراب فلما حقرت لم تنجذب إلى تمكن المعرب فاحتمل التحقير مع بنائها كما يحتمل في وصفها نحو: مررت بهذا العاقل، وبالذي في الدار الظريف. والتحقير ضرب من الوصف يعرض للاسم. قال أبو علي: ألا ترى إ، فائدة قولك: مررت بدويرة، وهو فائدة قولك: مررت بدار صغيرة. وليس كذلك " قبلُ " و " بعد " و " تحت " من قبل أن هذه أسماء معربة الأصول في نحو: جئت قبلك ومن قبلك وبعدك ومن بعدِك، وصار تحتك ومن تحتِك. وإنما بُنيت في بعض المواضع لشبه ما من شبه الحرف عارضها، فلما كان أصلها الإعراب وكثر به الاستعمال كرهوا أن يدخلها التحقير وهو من خواص الاسم فيقوي فيها من قوة الاسمية، وأن يصيروها إلى ضعف الحرف ببنائها لأن ما فيها من قوة الاسمية أنهضها وجذب بصبعها عن ضعف الحرفية فلذلك قَلَّ البناء في محقرها لتدافع الأمرين. وإنما جاز بعد ذلك البناء لأن المحقر في كثير من المواضع مراعى في حكم المكبر، ألا ترى إنك تقول في تحقير " مقام ": مُقيِّم بالإعلال لا غير؛ لاعتلال مكبره، وتقول في " مِقْوَد ": مُقَيْوِد، فتصحه لصحة مكبره. فكما جاز تحقير " قبلُ " و " بعدُ " معربين كذلك جاز تحقيرهما - وأنْ قَلَّ - مبنية. هذا وجه جواز هذا، وذلك وجه امتناعه، فلذلك تعدَّل الأمر فيهما أو كاد. وقال عبد مناف بن ربع الجربي أيضا " من الطويل ": أَلا ليتَ جَيْشَ العَيْر لاقوا كتيبةً ... ثلاثين منا ضَرْعَ ذاتِ الحفائِلِ " الحفائل " يجوز في القياس همزه من وجه وترك همزه من آخر،

أما وجه همزه فأن يكون واحده حفلية أو حُفالة أو نحو ذلك فجرى مجرى سفينة وسفائن ورسالة ورسائل وحُسالة وحسائل ودجاجة ودجائج وركوبة وركائب. وأما وجه ترك همزه فأن يكون في واحده باء متحركة نحو حِشْيَل وحثايل وعِثْيَر وعثاير، فكأنه اذن " حَفْيَل " و " حفايل " أو " عُليُب " و " علايب ". فِدى لبنى عَمْرو وآل مُؤَمِّلٍ ... غَداةَ الصباحِ فِديةً غَيْرَ باطِلِ يقول: افديهم فدية ليس فيها باطل، أي احب أن أفديهم. أما قولهم " فدى " فيحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون منصوبا بفعل مضمر كأنه قال: افديهم فدى، والفراء يمد ويقصر. فقوله: " فدية غير باطل " بدل من قوله " فدى " أو منصوب بفعل آخر دل عليه " فدى ". واللام التي في " لبنى " وصف لفدى، ولا يجوز على هذا أن تعلق اللام بنفس فدى وذلك أن المصدر إنما يعمل إذا كان في تقدير " أنْ والفعل " نحو: عجبت من ضربك زيداً، أي: من أنْ ضربت زيدا. وإذا كان المصدر تابعا لفعله منصوبا نصب المصدر به لم يجز أن يقدر تقدير " أنْ " والفعل. ألا ترى إنك لا تقول: قُمْتُ أَنْ قُمْتَ، كما تقول: قمت قياما. فإذا كان كذلك كانت اللام في قوله: " فدى لبنى عمرو " متعلقة بنفس الفعل الناصب لفدى كما إنك إذا قلت: ضربت ضربا زيداً، فإنك تنصب زيدا بنفس ضربت لا بضرب، فهذا وجه. والآخر: أن يكون مرفوعا لانه خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا فدى لبنى عمرو. فإذا كان كذلك احتملت اللام أمرين. أحدهما: أن يكون صفة لفدى، والآخر: أن تكون متعلقة بنفس " فدى "، فلا

يكون فيها أذن ضمير لتعلقها بالظاهر. وإذا كانت صفة كان فيها ضمير لتعلقها بالمحذوف. ووجه ثالث: وهو أن يكون " فدى " هنا مبنيا لوقوعه موقع الأمر، كأنه قال: لأفد بني عمرو، فيكون في " فدى " على هذا ضمير الشاعر عبد مناف، وتكون اللام على هذا متعلقة بنفس " فدى " إلا أنه لما نكرّه نونه كقوله " من البسيط ": مهلاَ فداء لك الأقوام كلهم ... " وما أثمر من مال ومن ولدِ " وكما انشد أبو زيد " من الرجز ": ويهاً فداء لكَ يا فضاله ... " أجرَّه الرمح ولا تهاله " أي: لأَفدك يا فضالة. ولا يجوز أن تكون اللام في " لبنى " على هذا الوجه وصفا لفدى؛ لأنه جارٍ مجرى الفعل، والفعل لا يجوز وصفه كما إن اللام من " سقياَ لك " لا يجوز أن تكون وصفا لسقياً لوقوعه موقع: سقاك الله وأما قوله: " غداة الصباح "، والغداة لا تكون إلا للصباح دون المساء، فإنما فائدة ذلك إن الصباح وأن كان في الأصل مصدرا واسما لمعنى المصدر ثم ظرفا في قولك: جئتك صباحا، كأنه قد دخله فيما بعد معنى آخر جديد، وهو أنه قد صار كالعبارة عن الغارة وبث الخيل على العدو وكقولهم: هذا من فرسان الصباح، أي فرسان غارة الصباح. قال " من الطويل ": بجرد تعادى بالكماة شوازبا ... وخَيل إلى داعي الصَباح سراع فكأنه قال: غداة الغارة. وإذا كان كذلك حصلت فيه الفائدة، ألا ترى أنه ليس كل غداة للغارة كما أن كل غداة لا تكون إلا صبحاً فاعرف ذلك.

هْمُ منعوكم من حُنين ومائِه ... وهم أسلكوكم أَنْفَ عاذِ المطافِلِ والمطاحل. وروى أبو عمرو: أنف عاد، بالدال غير معجمةٍ. الألف فيهما جميعا منقلبة من عاد يعود، ومن عاذ بالشيء يعوذ. ويجوز فيهما كليهما أن يكونا فاعلا من عدوت ومن العداوة، وهي الأرض المطمئنة التي لا ماء لها فتكون اللام محذوفة لسكونها أو سكون أو سكون اللام بعدها كقولك: عجبت من قاضِ البلد. والقول الأول القوي. ويجوز أيضا أن يكونا فاعلا من عاد يعود، وعاذ يعوذ كأنه من الأصل: عائد وعائذ، إلا أن العين حذفت كلاث وشاكٍ. وفيها: وآخرَ عَريان تَعَلَّقَ ثوبُه ... بأهداب غُصْنٍ مُدْرا لم يقاتِلِ يكون " مدبرا " حالا من الضمير في عريان، ويجوز أن يكون حالا من الهاء في ثوبه. فقد جاءت الحال من المضاف إليه كقوله: كأنّ حوامَيه مدبرا وكقوله: كأنّ سراته لدى البيت قائما وقد تقدم ذكره.

وفيها: تركنا ابن حَنواء الحَعور مُجَدَّلا ... لدى نفرٍ رؤوسهم كالفياشلِ ذهب بعضهم غلى زيادة اللام في " فيثلة " لقولهم في معناها الفيشة قال " من الرجز ": وفيشة ليست كهذا الفيشِ وان يكونان اصلين أمثل فتكون فيشلة: " فيعلة " من " د ف ل "، وتكون فيشة كبيضة. ومثله: " عددطيس وطيسل "، فطيس كبيت وطيسل كصيرف. وذهب محمد بن حبيب إلى زيادة اللام في غسل واشتقها من العنس، فوزن غسل على هذا " فَعْللَ ". اللام الثانية زائدة لا محالة. ولو بنيت مثلها من الضرب لقلت: ضَرْبْل، ومن القيام: قومل، ومن البيع: بَيْعلَ. فأما زيادة اللام قي غير هذا فقولهم: ذلك وأولالك وهنالك، وعبدل وزيدل في معنى زيد وعبد الله. وقالوا للأفحج: فحجل. ومثل طيس وطيسل في تداخل الأصلين قولهم:

ضَيّاط وضيطار، وجاء بالهيل والهَيلِيان. وقالوا: الهِلِّمان، ومثله رخو ورخود، وأشباهه كثيرة. وفيها: فعيني ألا فأبكي دُبَيّة أنه ... وَصولٌ لارحام، ومِعطْاءُ سائل دببة: علم، فيجوز أن يكون تصغير " دَباة " كقناة وقُنية، وحصاة وحُصيّة. وأما لامه فياء لقولهم: أرض مدببة إذا أصابها الدَّبي. وقد قيل فيما أظن: مَدْبُوَّةٌ، فهي على هذا واو، والفاء الأولى في قوله " فيعن " عاطفة على ما قبلها كالجواب له وهو كقولك، قام زيد فقم معه. فالفاء عاطفة، وكالجواب. وأما الفاء الثانية فكالجواب أيضا لقوله: " ألا "، وذلك أن فيها معنى التنبيه وافتتاح الكلام فكأنه قال: أنبهك يا عيني فابكي. ومثله قوله " من الطويل ". ألا فاسقياني فَيْهَجا جَيْدَريّة بما سحاب يسبق الحق وباطلي واما همزته " معطاة " فبدل من واو يقال: عطوت الشيء أي تناولته وأعطانيه غيري. قال " من الطويل ": وتعطو برخص غير شثنٍ ... كأنه أساريع أو مساويك اسحل

وقال الآخر " من الطويل ": تَحُتُّ بقرنيها بَريرَ أراكه ... وتعطوا بظلفيها إذا الغصن طالها وقال عبد مناف أيضا " من الكامل ": ولقد أتاكم ما تصوب سيوفنا بعد الهَوَادةَ كُلَّ أحمر صِمْصِمِ " قال " أبو عمرو: بعد الهداوة أي بعد هدوء من الليل. وصمصم ليث من الرجال إذا كان له كلام وعارضة وهم المَلْيَثَةُ والملاوث. تفسير أبي عمرو الهداوة بأنها الهدوء ليس تفسيرا لفظيا، وإنما هو تفسير على المعنى دون اللفظ. وقد يمكن أن تكون الهداوة من لفظ: هدأت إلا انه لو أبدل الهمزة من هدأة واوا كما قالوا في النسب إلى الشاء والماء: شاوى وماوية، وهي المرآة إنما هي منسوبة إلى الماء وبها سميت المرآة لصفائها وبريقها. وعليه بيت الكتاب " من الرجز ": ورب خرق نازح فَلاتُه ... لا يتفع الساويّ فيها شاتُه

ولا حماراه ولا عَلاتُه ... إذا علاها اقتربت وفاتُه ويؤكد عندك البدل إنا لا نعرف في اللغة تصريف " هـ د و "، ومثله عندي ما أنشدناه أبو علي " من الطويل ": موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينا يحلبون الأتاويا حمله أبو علي على أنه مثل " من مشطور الرجز ": سماء الإله فوق سبع سمائيا قالوا: وإذن ابد من همزة الأتآيّ، ولم يذكر البدل. وقد كان الأليق به لو فعل. وقوله: " المليثة " و " الملاوث " ليسا من لفظ واحد وإنما مليئة من الليث كمسبعة من السبع وعينها ياء كما ترى. واما الملاوث فإنه من لاث يلوث، كأنّ الناس يلوثون بهن أمورهم وحوائجهم. رجل ملاث ورجال ملاوث. وأصله مصدر وصف به. وفيها: لولا تفلق بالحجارة رأسه ... قبل السيوف أتاكم لم يُكْلَمِ

أراد: لولا ان تفلق فحذف " أنْ " وأوقع الفعل. وقد سبق القول في مثله فيه قول رؤبة " من الرجز ": لولا يُدالي خفضةَ القدحِ انزرَقْ وفيها: كانت على حَيّانَ صولةٍ ... منى فأخضبُ صفحتيهِ من الدمِ أنث " أولاً " حملا على المعنى كبيت الكتاب " من الكامل ": الحربُ أولُ ما تكون فُتيّةٌ ... تسعى ببزتها لكل جَهولِ فيمن رفع " فُتَيَة "، وله نظائر. وقوله " فأخضبُ " أي فخضبت، فوضع المضارع موضع الماضي كما قال: " من الكامل ": ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني ... فمضيت ثُمّتَ قلتُ لا يعنيني وقد قدمت القول على هذا الفصل.

وفيها: أنْحي صبيَّ السيفِ وسْطَ بيوتهم شقّ المعيّث في أديم المَلْطَمِ قال: " صبيّ السيف ": حرفه. ينبغي أن تكون لام صبي واوا لانه من صَبَوتُ أي: مِلتُ وذلك أن حرف السيف مما يُمال إلى الضريبة لضربها، ألا تراه قد قرنه باُنجى وهي " أععْلُ " من نحوتُ نحوَ كذا أي: ملت إليه، فإن قلت فعلَّه من صبَأتُ أي: مِلتُ. فذلك يضعف هنا لانه لو كان منها مخففا لجاز تحقيقه ولم اسمعه محققا، وليس بقياس أن تجعله مما ألزم التخفيف كبرى والنبيّ والبريّة لقلّة ذلك. وقال عبد مناف من بيتين " من الطويل " وماليَ فيهم معتَبٌ أن عَتبتُهُ ... عليهم، وما فيهم لدي الظلمِ مَنْصَرُ يقول لا يعتبونني ولا ينصرونني. ينبغي أن تكون الهاء في " عَتبتهُ " ضمير مصدر فكأنه قال: ان عتبت عتبا عليهم. فأضمره لدلالة فعله عليه كما قال " من مجزوء الكامل ": مِن كُلّ ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيّة أي قد نلت من كلّ شيء قد نلت نيلا. وقوله: " من كل

ما نال " هو مفعول نلتُ كقولك من الماء شربت ومن الطعام أكلت فإذا استوفى مفعوله علمت أن الهاء في " نلته " إنما هي ضمير مصدر لا ضمير مفعول، وكذلك قول الآخر وهو من أبيات الكتاب " من البسيط ". هذا سراقَةُ للقرآن يدرُسُهُ ... والمرء عند الرشا أن يلقها ذيب أي يدرس درسا. ألا ترى أن قوله " للقرآن " هو مفعول " يدرس "، فإن قلت فإن هذا الفعل لا يتعدى باللام، ألا تراك لا تقول: درست للقرآن، فإنه لما قدمه جاز إلحاق اللام به لأن تقديم المفعول يضعف الفعل شيئا. ألا ترى إلى قول الله تعالى: (إنْ كُنْتُمْ للرؤيا تَعْبُرون). أي: تعبرونها. فإذا جاز " أريد لأنسى ذكرها وأردت لكيما لا ترى لي ذلّةً، فهو مع التقديم أجوز من ضمير المصدر. قراءة ابن عامر: فبهُداهم اقتدِ ": أي اقتد الاقتداء. ومنه قولهم: من كذب كان شرا له وابلغ من قوله: " من الوافر ": إذا نُهى السفيهُ إليه ... وخالَفَ والسفيهُ إلى خلاف أي إلى السَفه، ألا ترى أنه لم يذكر فعلا فيدلّ على مصدره وإنما ذكر اسما وهو السفيه. ودلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالة السم عليه، فالهاء إذن ي " عتبنُه " منصوبة على المصدر، ويجوز أيضا أن تكون منصوبة لأنها مفعول له فيصير تقديره: ما فيهم أعتاب إن عتبت له ومن أجله. أي من أجل امتناعه. فحذف المضاف كقوله " من المتقارب ": وأهلَكَ مهرَ أبيكَ الدواءُ ... ليس له من طعامٍ نصيب

أي فقدُ الدواء. وأنشدناه أبو علي رحمه الله وأنشدنا أيضا معه " من الطويل ": وإني لاستحيي وفي الحق مستحى ... إذا جاءَ باغي العُرفِ إن أتعذّرا أي في ترك الحق مستحى. وأنشده الرواة للخنساء " من البسيط ": يا صخرُ ورادّ ماءٍ قد تناذره أهلُ المواردِ ما في ورده عارُ أي ما في ترك ورده، وهو كثير. ومما اتصل به من شعر أبي ذؤيب: ردّوا السبيّ والنَّعم ... يا حَبَّذا ريحُ الدم نظر السيرافي في الحاشية: أظنه عنه مكسور. وهذا في الحقيقة ليس مكسورا وإنما هو من بحر آخر وهو المنسرح. الضرب الثالث ووزنه " يا حبْ بذا ": " مستفعلن ". " ريحُ حُدْ دَم ": " مفعولن " وبيته من البحر " ويلمّ سعد سعدا " فاستعمل ابو ذؤيب " مفعولن " مكان " مستفعلن "، فانتقل من بحر غلى بحر. فأما أن يكون كسرا فلا وذلك أن الشعر المكسور هو الذي لا يقبله وزن من الأوزان فأما إذا قبله بعضا فاعتقاد كسره خطأ.

(10) وهذا شعر أبى شهاب

(10) وهذا شعر أبى شهاب قال " من الطويل ": ألا يا عناءَ القلب من أمِّ عامرٍ ... ودينتهِ من حُبِّ لا يجاوِرُ فيها: صَناعٌ بأشفاها حَصانٌ بِشكْرِها جَوادٌ بقوت البطن والعِرقُ زاخِرُ لام " الأشفى " ياء لانه من " شفيت ". والتقاؤهما أنه يصل ويشفى من الصنعة كما يصل الدواء ويشفى من المرض. يزيد في انسك بذاك قوله " من الطويل ": وداويتها حتى شتَتَتْ حبشيّةً كأنَّ سندساً وسدوسا فقوله: " داويتها " كقولهم: صنع فرسه، وفي البيت صناع وإنما هو لجودة صنعتها. فهذه مواضع إنما يجمعها التأمل ولطف التوفيق والتوصل. فإنَّك عمرَ الله أنْ تَسْأليهمُ ... بأحسابِنا إذ ما تجلُّ الكبائِرُ عمر الله: منصوب على المصدر أي: عمّرتُكِ الله تعميرا. فجاء المصدر محذوف الزيادة كقولهم: مررت بزيد وحدّه. أي أوحدته بمروري إيحادا. وقال بعض بني أميّة أنشده ابن الأعرابي: دَعْ عنكَ غلق الباب يريد: أغلقه. ومن المصادر المحذوفة الزيادة قول الشمّاخ وهو

من أبيات الكتاب " من الطويل ": أتتني سليم قَضُّها بقضيضها ... تُمَسِّحُ حولي بالبقيع سبالَها فتاقض محذوف الزيادة أي: انقضاضها. ألا ترى أن صاحب الكتاب فسَّره فقال: " كأنه يقول انقضّ آخرهم على أولهم ". فأما قضيتها فليس بمحذوف الزيادة، ألا ترى أن فيه الياء زائدة لكنه محرف الصورة عن مصدر انقضّ الذي هو انقضاض. ومثله في التحريف لا في الحذف قول القطامي " من الوافر ". اكفراً بعد ردَ الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرّتاعا فالعطاء ليس محذوف الزيادة، ألا ترى أن فيه الألف زائدة وإنما فيه الانحراف عن " إفعال " إلى " فَعال ". وقد يجوز في قوله: " بقضيضها " أن يكون القضيض جمع " قَضّ " كعبد وعبيد، ورهن ورهين، وعون وعوين، وطسَ وطسيس. ومعنى نصب " عمر الله " انه كأنه قال: سألت الله أن يعمّرك كما تحب أن يعمّرك. فعمر الله إذن مصدر مضاف إلى الفاعل أي تعمير الله إياك. فأما " ما " من قوله: " إذا ما تجلّ الكبائر " فيحتمل أمرين. أحدهما: أن يكون زائدة كأنه قال: إن تسأليهم إذ يكبر الكبراء لضيق الزمان وشدته فتبين بذلك أفعالهم ويحسن به الثناء عليهم. والآخر: أن يكون نفيا كأنه قال: إذا تصغر الكبراء لضيق الحال وشدة الزمان فتتساوى أحوال الناس وهذا في المعنى كقول الحسن رضوان الله عليه: " لن يزال الناس بخير ما تفاوتت أحوالهم ".

وفيها: فما ذرَّ الشمس حتى كأنما ... ألاحَ بهم قبلَ الشُرَيقةِ طائر الشرق: الشمس فلذلك لما حقّر الحق التاء.

(11) وقال ابو ضب من قصيدة

(11) وقال ابو ضبّ من قصيدة ولقدْ أقودُ الجيشَ احمل رايتي ... للجيشِ يَقْدُمُهُمْ كميٌ أسودُ لام " الكمي " ياء لانه عندهم من كمي الرجل شهادته يكميها إذا سترها. والتقاؤهما أنه يسَّتَّرُ بشجاعته من أن يعرض ضرب الخلل له. وحكى أبو زيد في تكسيره: أكماء. وأنشد " من الطويل ": تركت ابنتك للمغيرة والقنا ... شوارعُ والأكماء تَشْرق بالدم وقال أبو ضب أيضا " من الطويل ": كأنَ حَويّا والجَدِيَّة فوقه ... حُسام صقيل قَصّهُ الضربُ فانحنى لام " الجدية " وهي هنا الدم واو، وقد تقدم ذكر ذلك. فيها: ولم يحبْنها لكن جناها وليُّه ... فَآدَ وآساده فكان كما جنى لم يفسره، والقول فيه أن معنى " آد ": اثقل. أنشد أبو علي لحسان " من المتقارب ": وقامت ترئيك مغدودنا ... إذا ما تنوء به آدها أي أثقلها. ومعناه أثقله وليه أي من تلزمه تبعته. وآسى هو الحاني عليه، فكان كالجاني عليه. ولام " آسى " واو لان معناه جعل نفسه أسوة صاحبه.

(12) وقال خويلد بن واثلة

(12) وقال خُويلد بن واثلة من أبيات " من الطويل ": فقلت لهم قوم بأعناء نخلةِ ... وأجوازها فيهم قراري ومولدي واحد " الأعناؤ " وهي النواحي " عنا " مقصور. وقد تقدم القول على أن لام " عنا " واو.

(13) شعر أبي قلابة

(13) شعر أبي قُلابة " من البسيط ": يا دارُ أعرفها وحشا منازلُها ... بين القوائمِ مِن رَهطٍ فألبانِ ليس قوله " أعرفها " وصفا لدار، وذلك أن الجملة نكرة ودار هذه مخصوصة لقصدك أيها بندائك اياها، والمعرفة لا توصف بالنكرة، ألا تراك تقول: " يا رجلُ الظريف أقبلْ "، وإذا كان كذلك فقوله " اعرفها " استئناف خطاب فكأنه قال لصاحبه: أنا أعرفها ومثله بيت الكتاب للأحوص: يا دار حَسَرها البلى تحسيرا ... وسفت عليها الريح بعدك مُورا ولكن قوله " بحزوي " من قوله " من الطويل " أداراً بحُزوي هجت للعين عَبْرَةً ... فماء الهوى يَرْفَضَ أو يترقرق صفة لدار لانه أخجها مخرج النكرة. واما قوله " من الوافر ": ألا يا بيت بالعلياء بيتُ فهو كبيت الهذلي: يا دار اعرفها. وكذلك قوله " من الرجز ": يا هندُ هندٌ بين خِلْبٍ وكبد

و " وحشا " حال من " ها " في قوله اعرفها، والناصب لها " اعرفها " أي: أعرفها وحشا. ويجوز أن تكون حالا من " دار " والعامل فيها على هذا حرف النداء كما قال " من البسيط ": يا بؤس للدهر ضرارا لأقوامِ وكذلك قوله " من البسيط ": يا دار ميَّة بالعلياء فالسند ... أقوى وطال عليها سالف الأبد قوله::العلياء " في موضع نصب على الحال من " دار " فاعرف ذلك. ويجوز أن يكون " اعرفها " حالا من " دار " ولم يحتج إلى إظهار الضمير لان الأل هنا فعل لا اسم فاعل. فيها: يا وَيْك عمّار لِمْ تدعو لتقتلني ... وقد أُجيبُ إذا يدعون أقراني أعمل الأول من الفعلين، أراد: وقد أجيب أقراني إذا يدعون. ومثله من أعمال الأول كثير. أنشدنا أبو علي لذي الرمة " من الوافر ": ولم امدح لأرضية بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا وأنشد أبو زيد " من الطويل ": قطوب فما تلقاه إلاّ كأنما زوى وجهه أن لاكَهُ فوه حنظلِ وقد يجوز أن يكون قوله: وقد أجيب إذا يدعون أقراني، على أعمال الثاني، ويكون " أقراني " في موضع ب " يدعون "، كأنه أراد: وقد أجيب إذا يدعو أقراني. إلا أنه جاء بعلامة هذا الجمع مع تقدم الفعل على قولهم: " أكلوني البراغيث ".

قال: وروى أبو عمرو: " ويك عمار " جعله مخروما. اعلم ان هذا الذي قاله خطأ وذلك ان الخرم لا يصح في هذا البحر أصلا لأنه من البسيط وأوله سبب لأن تفعيله " مس تف علن فاعلن "، وإنما الخرم فيما أوله وتد مجموع، فإذا حذف الأول من المتحركين خلفه للابتداء به الثاني منها، فأما ما أوله " مس تف علن " فانك أن حذفت الميم لزمك الابتداء بالساكن وهو السين. فأما هذا الإنشاد فلا يصح لأنه يصير تقطيعه إلى " وَي كعم ": فاعلن، و " فاعلن " لا يجوز في أول البسيط على وجه من الوجوه، وإنما المتجوز في زحاف " مس تف علن ": مفاعلن ومُفْتَعِلُن وفَعلتُن. فقوله: مخروم، خطأ لما ذكرت لك. ولكن الوجه فيه عندي أن يكون أراد " يا " فحذفها لفظا وهو ينويها تقدبرا ومثله ما أنشده أبو العباس وغيره من قوله " من الطويل ": لعمري لسعدُ بن الضباب إذا شتا ... أحب إلينا منك فأقرس حمر وإنما البيت " لعمري لسعد بن الضباب ". ولا بد من تقدير إرادة " لعمري " ألا ترى أن أحد لا يجيز خرم " فعولن " كله. وقوله " لعمري " وزنه: فعولن. ونحو هذا مما حذف لفظا وهو مثبت تقديرا مذهب سيبويه في قوله " من المتقارب ": أكُلَّ امرئ تحسبين امرأ ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا ألا تراه ذهب إلى أنه كأنه قد لفظ ب " كلّ " مرة اخرى، فكأنه قال: " وكل نار "، ولولا ذلك لكان فيه عطف على عاملين، وليس هذا مذهب صاحب الكتاب. إلا أن حذف " كل " من بيت عدي امثل من حذف " يا " من بيت الهذلي، ألا ترى أنه قد تقدم ذكر " كل " في أول

البيت فصار لذلك كأنه قد جيء به في آخره، وحذف " يا " من أول بيت الهذلي لم يتقدمها مثلها، فيكون كالعوض من حذفها. وعلى هذا يتوجه عندنا قراءة حمزة: " والأرحام " كأنه قال: وبالأرحام فحذف الباء بعد أن اعملها وصار تقدم الباء في " به " دالا عليها، وكالعوض منها. وإذا جاز ما يحكى عن رؤية إذا قيل له: " كيف أصبحت " فيقول: " خير عافاك الله " وهو يريد " بخير "، فيحذف الباء لفظا ويعملها تقديرا ومعنى. وقول الآخر: رسْمُ دارٍ وقفت في طلله ... كِدت أقضي الغداة من جلله وهو يريد " رب " فيحذفها ويعملها، ولّما يتقدم لها ولا للباء في حكاية رؤية دليل عليها، كان حذف الباء في قوله " والأرحام " وإرادتها لتقدم ذكرها في " به " أمثل. وفيها: إذا لا يقاتل أطراف الظبات إذا ... استوقدن إلا كماةٌ غير أجبان قال " استوقدن " أي التهمن. هذا إذا " استفعل " في معنى " فَعَل " نحو: عجب واستعجب، وهزئ واستهزأ، وقَرَّ واستقر. وقد تقدم ذكره. وأجبان جمع جبان، كسر " فَعال " على " أفعال "، ومثله:

جواد وأجواد وجباء الناقة وأجباء وعراء وأعراء، وهو قليل. ونحو: شريف وأشراف، وقد قدمنا إحصاء ما كسر من " فعيل " على " فعال "، ومبلغه فيما جمعته بضعة عشر حرفا. ونحوه: شريف وأشراف، وقد قدمنا إحصاء ما كسر من " فعيل " على " أفعال "، ومبلغه فيما جمعته بضعة عشر حرفا. ونحوه: عدو وأعداء، وفلو وأفلاء. وقال أبو قلابة أيضا ويقال بل قالها المعطل "من الكامل" أمِن القَتولِ منازِل ومُعَرَّسُ ... كالوشم في ضاحي الذراع يكرس رَدْعُ الخلوقِ بجلدها فكأنه ... رَيْطٌ عتاقٌ في المصان مُضَرَّسُ قال: " المصان " حيث يصان. اعلم انه يريد هنا الموضع المستقر كالبيت والغرقة والخزانة ونحو ذلك مما لا ينقل فجرى مجرى المَدْخَل والمخرج أي موضع الدخول والخروج، ولو أراد الظرف الذي يصان فيه كالتخت والصندوق لقال: " مصْوَن " كالمحلب والمخيط والمقطع والميزر ونحوه مما ينقل ويستعمل، وكان حينئذ يجب فيه تصحيح العين كما تصح في مِروحة ومِسورة لانه منقوص مما لابد من صحته وهو " مفْعال " كأنه مِراوح ومِسوار. قال السكري: المصان كل ما صنت به ثوبا. هذا لفظه البتة وهو فاسد لانه إن أراد موضعا ثابتا غير منتقل فتحه، وان أراد ظرفا يصان فيه الثوب كالتخت ونحوه كسر فقال " مِصْوَن " كما تقدم. ومثله قولهم للدرجة " مَرْقاة " بالفتح وللسلم " مرقاة " وكذلك " المَسقاة " الذي يُسقى فيه، والمِسقاة الإناء يسقى به وفيه. قوله: " كل ما صنعت

به ثوبا " عبارة سيئة ضيقة لأنه كل ما صين به الثوب وغيره من جميع المصونات، وأما وصف " الربط " بالجميع وهو عناق بالواحد وهو عتيق فجائز، وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام. قال الله سبحانه: (وينشئ السَّحابَ الثِّقالَ)، فجمع. وقال: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا)، فوحَّدَ، وكلاهما كثير. يا حَبَّ ما حُبُّ القتولِ وحُبُها ... فلسق، فلا يُنْضِبْكَ حبٌ مُفلِسُ ينبغي أن يكون " حَبَّ " ترخيم حبة اسم علم أو حبّى كسكرى أو حبّاء كورقاء. وقوله " ما حُبُّ القتول " لفظ استفهام في معنى التعظيم كقول الله تعالى: (ما الحاقة؟) و (ما القارعة؟). ثم اخبر بعد ذلك فقال: " حبها فَلَس " أي لا نيل معه. ويجوز وجه آخر وهو أن يكون أراد يا حبذا حُبُّ القتول، فوضع " ما " لايهامها موضع " إذا "، إلا أن " ما " نكرة فهي منصوبة الموضع - كقوله " من البسيط ": " وزاده كلفا في الحب أن منعت " ... وأحَبَّ شيئا إلى الإنسان ما مُنعا ويجوز أن يكون " ما " معرفة موصولة، والعائد عليها محذوف أي: " يا حَبّ الذي هو حب القتول ". وحذفه كقراءة من قرأ: " تماما على الذي أحسن ". وحذف أيضا المقصود بالمحبة المعلم به محذفه في

قوله تعالى: " نِعْمَ العَبْدُ " أي: نعم العبد هو. وفيها: يا برق يخفي للقتول كأنِّه ... غابٌ تشيْمه حَريقٌ يُبَّسُ قال " تشيمه " دخل فيه، هذا من قولهم: شمت السيف، أي أغمدته وقوله: " يخفي " في موضع نصب على الحال أي: يا برق خافيا. معناه ظاهرا ومثله قوله " من السريع ": يا دار أقوت بعد إصرامها ... عاما وما يُبكيك من عامها وقد تقدم القول في نظيره. وقال أبو قلابة أيضا " من الوافر ": يئست من الحذية أمَّ عمرو ... غداة إذ انتحوني بالجناب " قال " أبو عمرو: الحذية: العطية. لأم الحذية واو لقوله " من الطويل ": وقائلةٍ ما كان حذوة بعلها ... غداتئذ من شاء قِرد وكاهل ولام " انتحوني ": واو لأنه من نحوت الشيء، و " أم عمرو " منصوبة على النداء ويجوز أن يكون مفعول " الحذية " أي: يئست من أن أحذى أم عمرو فأعمل المصدر، وفيه اللام كقوله " من الطويل ": لقد علمت أولى المغيرة أنني ... كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا

وفيها: يُصاح بكاهِلٍ حولي وعمروٍ ... وهم كالضارياتِ من الكلاب لام " ضار " واو لقولهم في مصدره: الضراوة. قال عمر رضى الله عنه: " اتقوا هذه المجازر فأن لها ضراوة كضراوة الخمر " يسامُونَ الصبوح بذي مُراخٍ ... وأخرى القوم تحت حريق غاب لا يخلو " مراح " من أن يكون " فُعالاً " أو " مُفْعَلاً ". فأن كان فُعالاً فمن لفظ المَرْخ، وإن كان مُفْعَلاً فهو من لفظ: ريَخت فلانا تربيخا إذا ذللته. قال الراجز: بمثلهم يريّخ المرَيَخ ... والحسب الأوفى وعزجنبخ والعين في بادئ الرأي ياء ويجوز أن يكون " مُراخ " مُفاعَلاً من راخيت ولامه واو لا مِن الرخو.

(14) وقال أبو بثينة القرمي

(14) وقال أبو بثينة القُرَمي من أبيات " من الوافر ": فأغريهم ولا أُغري أليّاً ... فدى لصحابةِ المغُرين نفسي " ألياً " منصوب على أنه حال لا مفعول به. أي: ولا أغربهم ألياً. أي بالغت في إغرائهم فحذف المفعول به لتقدم ذكره في قوله: " فأغريهم ". وقد يجوز أن يكون أراد: ولا أري بهم أو منهم أليا، فينصبه مفعولا به. ومن أمثال الكتاب: " إلاّ حظيَّة فلا أليّة " أي: فليست ألية. ومعناه: نفسي فداء لأصحابي المغرين. ولا ابعد أن تكون الرواية: " فدى لصاحبتي المغرين نفسي " فتحذف الياء لفظا لالتقاء الساكنين. فأجابه أُهْبان بن لُعْط بن عروة من أبيات " من الوافر ": فليت أبا بثينة غير فخْرٍ ... شهدتُ بنى عُتيبة إذ أبيروا حذف اسم ليت ضرورة. أراد: فليتني يا أبا بثينة شهدت بني عتيبة. ومثله ما أنشده أبو زيد " من الطويل ": فليت دفعت الهم عن ساعةً ... فبتنا على ما خليت ناعمي بالِ

أراد: فليتك. وله نظائر. وقال ضُبيس بن رافع العَضَلي يعيّرهم " من الطويل ": أنتم أكلتم سحفةَ ابن مُخَرَمٍ ... حُبيش فلم يأمنكم أحد بعدي ليس هذا باستعمال ل " لم " في المستقبل، وإنما معناه بعدما فعلتم، والوقتان جميعا ماضيان، وهذا كقولك: أحسنت إليك ثم لم أزل بعد إلى هذه الغاية مقيماً على حسن الرأي فيك، ولكنه لو قال فلن يأمنكم أحد بعد؛ لكانت " بعد " مستقبلة. وفيها: وقد خبَأوا جُردانه لرئيسهم ... معاوية الفلحاء انك ماشُكد أنت لتأنيث لفظ " معاوية ". وقياسه لولا معاملة اللفظ: " معاوية الأفلح " ومثله قول الآخر " من الطويل ": وعنترة الفلحاء جاء مُلأَماً ... كأنك فِنْدٌ من عماية اسود ومن تأنيث اللفظ ما أنشدناه أبو علي " من الوافر ": وما ذكر فأن يكبر فأنثى ... شديد الأزم ليس بذي ضروس يريد: القراد. وذلك إنه ما دام صغيرا قراد، فإذا كبر قيل له حلمة. فقوله " أنثى " إنما يريد تأنيث اللفظ لا غير. ومثله مما أطلق عليه أنثى ولا حقيقة تأنيث تحته قوله " من الطويل ":

وكنا إذا الجبار صَعَّرَ خده ... ضربناه فوق الأنثيين على الكَرْدِ يريد بالأنثيين الادنيين، ومنه قولهم لبيضتي الإنسان: الأنثيان. وهذا مما يضعف عندك التذكير في نحو: " حسن دارك "، و " اضطرم نارك "، وإن كان تأنيثا غير حقيقي، ألا ترى أنه قد أطلق لفظ " أنثى " على ما لا حقيقة تأنيث فيه إطلاقه على المرأة والجارية ونحوه، فكما لا يجوز: " قام المرأة " كذلك يضعف: " حسن دارك " فاعرفه. وفيها: وأنْ يجدوا يوماً على بظر أمهم ... طعاماً فلا رعوى عليه ولا قصد وضع كل واحد من المفردين موضع الجميع أي: بظور أمهاتهم. ومنه: " من الوافر ": كلوا في بطن بطنكم تَعِفّوا ... فإن زمانكُمْ زَمَنٌ خَميصُ وقال: الرعوي: البُقيا، شيء يرجع إليه، أرعوي: رجع. وهذا كلام يفهم من ظاهره أن الرعوي من لفظ أرعويت، وليس الأمر فيما عند أهل التصريف كذلك وإنما هو عندهم من لفظ رعيت، وأصلها " رعيا " إلا إن اللام قلبت واواً لأن " فعلى " هنا اسم لا صفه. وقد سبق القول على هذا. وعلى أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن " أرعويت " ليس لامه في الأصل واوا بل اصله عندهم " أرعيت " فكره اجتماع الياءين فقلبت الأولى واوا ليختلف اللفظان، وكأن قائل هذا القول شجع عليه من موضعين. أحدهما: أن معنى أرعويت من معنى المباناة والرعاية، والآخر: انه لم يأت عنهم لفظ " ر ع و "، فلما كان المعنى واحدا ولم يجد لفظ " ر ع و " في الكلام جمله على أنه من لفظ " رعيت " وأن البدل وقع رغبة في اختلاف الحرفين كما وقع في الحيوان على ما رآه الخليل.

(15) وقال أبو بثينة الصاهلي

(15) وقال أبو بثينة الصّاهلي من أبيات " من الوافر ": متَى ما تَبْلُغُهُمْ يوما تجدْهم ... على ما ناب شرَّ بني الدِئيل الئل وعرفج وضمرة بنو بكر. قال: أراد الديل فهمزه. ليس الأمر عندنا نحن كذا وإنما هو " الُئل " كَسرَّ الكلمة على " فعيل " وواحدها " دُئل " أي يجدهم شر من تسمى بهذا الاسم من بني الدئل وبني الدُوَل وبني دُئل، وكسره على الهمزة لحاجته إلى الحركة بالكسر فجاء به على الكليب والعبيد واتبع الأول الثاني بحرف الحلق كالشعير والصئين. ويروي " شربني لديل " أراد شربني ديل، فم أقحم اللام لتوكيد الإضافة كقوله: يا بؤس للجهل ضراباً لأقوام وفيها: إذا مَسحوا سبالهم بدُهْنٍ ... ألهفك عَبْدَ للرجل القتيلِ وضع الواحد موضع الجماعة كبيت الكتاب " من الطويل ": أتني سُليم قضها بقضيضها ... تسمح حولي بالبقيع سبالها والعامل في " إذا " محذوف للدلالة عليه من الأبيات التي قبله، كأنه إذا مسحوه فرحوا وجذلوا له، يهجوهم بذلك. ولا يجوز أن يعمل ما بعد

الهمزة فيما قبلها أيضا عليه فيجوز أن يضمر له ما يتناوله مما هو في معناه. فأجابه سارية بن زُنيم من أبيات " من الوافر ": قَعودٌ في بيوتٍ واضعات ... يشوبون النواطِلَ بالثميل هذا في جمع " ناطل " وهو المكيال هو القياس وأما قولهم في تكسيره " نياطل " فليس بقياس كما لا يقال في " غارب " و " ساعد " و " كاهل " إلا غوارب وسواعد وكواهل بالواو دون الياء والتكسير في هذا محمول على التحقير فكما يجب في تحقيره: نويطل وكويهل وسويعد بالواو البتة للضمة كذلك حمل التكسير عليه كما يحمل التحقير على التكسير في مواضع كثير.

(16) شعر البريق بن عياض

(16) شعر البُريق بن عِياض قال من قصيدة " من الوافر ": فَرَقَّعْتُ المصادِرَ مستقيماً ... فلا عينا وَجَدْتُ ولا ضِمارا قال: قيل " المصادر " جمع صَدْر على غير قياس، مثله ما حكاه صاحب الكتاب: شِبْه ومثابه. قال ويروي مستفيئاً أي راجعا، هذا " استفعل " في معنى " فَعَل " وقد تقدم نظائره أي فاء. ومثله " من البسيط ": عفوا بسهم فلم يُضْرَرْ به أحد ... ثم استفاءوا فقالوا: حبذا الوَضَح أي رجعوا. فلا تَنْسَوا أبا زيد لفقدٍ ... إذا الخفرات أجلين الفرارا قال: أجلين أمرين، أي هرين، وفررن. ينبغي أن يكون " الفرار " هنا مفعولا له أي: هربن للفرار، ومثله من المفعول له وفيه اللام بيت الكتاب " من الرجز ": يركبُ كُلَّ عاقر جُمِهورِ ... مخافةً وزعَلَ المحسورِ والهولَ من تهول الهُبورِ أي وللهول، ومثله لمزاحم " من الطويل ":

لك الخير إن زمعت صرمي وأصبحت ... قوى الحبل بترا حذها الصرم جادف أي للصرم، وقول الهذلي " من الطويل ": فلما اصطففن السير والتف كورها ... عليها كما التفت عروش الجداولِ وفيها: بمرتجزٍ كأنَ على ذراه ... ركابَ الشام يحملن البُهارا قال: قالوا البُهار عدل فيه أربعمائة رطل، وقال أبو عمرو: البهار ستمائة رطل. ينبغي أن يكون " فُعالاً " من بهرني الأمر، لأن الثقل بهر حامله. وفيها: ألا يا عينِ ما فابكي عُبَيْداً ... وعَبْدَ اللهِ والنفرَ الخيارا الفاء بعد النداء سببها عندي ما في النداء من معنى الخبر. وذلك قولك " ألا يا نفس فاصطبري " وقوله " من البسيط ": يا عين فابكي حنيفاً وسط حيهم ... الكاسرين القنا في عورة الدبر ألا ترى أن معناه: أدعوك فابكي، كما تقول: أثنى عليك فزدني من إحسانك. ويدلك على أن في النداء طرفا من الخبر أن رجلا لو قال لها: " يا وانية " لوجب عليه الحد، كما أنه لو قال لها: " أنت زانية " كان الأمر كذلك. وعادِية يُهَلِّكُ من يراها ... إذا بُثَّتْ على فَزَعٍ جهارا

ليست " على " هنا مثلها في قولك: بثت الخيل على زيد، وعلى سرح فلان إنما هي للحال كقولك: قدمت على ناقة أي قدمت وناقتُك معك، ووردت البلد على شدة أي والشدةُ مصاحبة حاضرة، ومثله قول الأعشى " من الطويل ": تضيَّفته يوما فقرَب مقعدي ... وأصفدني على الزمانة قائدا أي: أصفدني قائدا على ما أنا عليه من الزمانة، ف " على " هذه للحال الأولى في نحو قوله " قدمت على فلان " في موضع المفعول به، ألا ترى أن عبرتها عبرته أي أتيت فلانا، ولذلك تقول: قدمت عليك على ناقة. فالأولى مفعول بها والثانية حال حتى كأنه قال: أتيتك محتاجا، ولو كانتا لمعنى واحد لا اجتمعتا، فكأنه قال: إذا بثت وهناك جزع. فما أن شائك من أسْدِ تَرْجٍ ... أبو شبلين قد منع الخِدارا بأجرأ جرأةً منه وأدهى ... إذا ما كارب الموت استدارا جرأة هنا منصوب على التمييز لا على المصدر وذلك إن " افعل " هذه الموضوعة للمفاضلة نحو: " احسن منك "، و " اكرم منك "، لا يجوز استعمال المصدر معها من قبل إن الغرض في المصدر إنما هو التوكيد و " أفعل " هذه قد استغنت بما فيها من المبالغة عن التوكيد بالمصدر، فكذلك لا تقول: " ما أحسنه حسنا ولا إحسانا " ولا " ما اكرم زيدا كرما ولا إكراما " فإذا كان كذلك كان " جرأة " منصوبا على التمييز كقوله

" هذه جرأة جريئة " و " هذا شعر شاعر " وكقوله " من الطويل ": ولولا دفاع الله ضَلَّ ضلالنا ... ولسرنا إنا نُشَلَ ونوأد وكقولهم: " جن جنونه " و " خرجت خوارجه ". ومنه قول الله سبحانه: (فاذْكُروا اللهَ كذِكرِكُم آباءكُمْ أو أشَدَّ ذِكراً). وكأنه قال والله أعلم: أو ذكراً أشد ذكرا، فجعل للذكر ذكرا مبالغة. وذاكرت أبا علي رحمه الله بهذه الآية فأخذ ينظر فيها مستأنفاً للنظر ويردد من القول ما دلني إنه لم يكن قدم فيها فيما قبل نظرا فعجبت من ذلك مع كثرة بحثه وطول مزاولته. فأن قلت فهلا كان تقديره عندك: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو ذكراً أشد) ثم قدم وصف النكرة عليها فنصب على الحال منها كقوله " من الوافر ": لمية موحشاً طلل قديم ... عفاه كل أسحم مستديم قيل إن هذا باب ذكره سيبويه إنه قلما يجيء غي الكلام واكثر ما يجيء في الشعر، وما كانت هذه حاله لم يحسن حمل التنزيل عليه. وقال البريق بن عياض من أبيات " من الطويل ": وكنت إذا الأيام أحدثن هالِكا ... أقول شَوى ما لم يُصِبْنَ صميمي

هذا على حذف المضاف أي أحدثن هلك هالك. ويجوز أن يكون على ظاهره فيكون الهالك هنا مصدرا كالفالج والباطل والباغز وهو النشاط. أنشدنا أبو علي الفارسي " من البسيط ": واستحمل الشوق مني عِرْمِساَ أُجُداَ ... تخال باغزها بالليل مجنونا فكأنه قال: أحدثن هُلكا، ومثله من المصادر على فاعل إلا أنه بالتاء قولهم: العافية والعاقبة والخاصَّة والقاطبة. وفيها: فأصبحتُ لا أدعو من الناس واحداً ... سوى وِلْدَة في الدارِ غيرَ حكيمِ لك أن تجعل " سوى " صفة لواحد وغير حكيم استثناءَ، ولك أن تقلب هذا فنجعل " غير حكيم " صفة ل " واحداً " و " سوى " استثناءً، والوجه الأول كراهية للفصل بين الصفة والموصوف بالاستثناء على أن ذلك مَرَ بنا أنشدنا أبو علي " من الطويل ": أمَرَتْ من الكتان خيطاً وأرسلت ... رسولا إلى أخرى جرياً يعينها ففصل بين " رسول " و " جرى " بقوله: " إلى أخرى ". ولك أن تجعلهما جميعا وصفين وليس لك أن تجعلهما استثناءين، كما لا يجوز لك أن تنصب بالفعل الواحد ظرفين من جنس واحد. وكما لا يجوز لك أن تُعَدّى ما يتعدى إلى الواحد إلى مفعولين نحو: ضربت زيدا، وشتمت

خالدا، ليس أن تجعلهما استثناءين الثاني بدل من الأول لأن معنى الثاني ليس كمعنى الأول. ولا يجوز حمله على الغلط لأن هذا بدل لا يجوز في قرآن ولا شعر. وأما " ولدة " فقال أبو علي هي جمع ولد كأخ واخوة وليس مصدرا كوجهة لأن وجْهَ " ولدة " قائم معروف. وأما قولهم: هو لدتي، فمصدر وصف به. وقال البريق أيضا من أبيات " من الطويل ": لنا الغَوْرُ والإعراض في كل صَيْفَةٍ ... فذلك عضر قد خلاها وذا عَصْرُ قال " ها " تنبيه. قد يجوز أن يكون " ها " ضمير الإعراض أي خلافيها ثم حذف حرف الجر وأوصل الفعل، ومثله قوله: في ساعة يُحَبُها الطعام أي يحب فيها. وقال أيضا " من المتقارب ": ونائحةٍ صوتُها رائِعْ ... بعثت إذا ارتفع المِرْزَمُ كذا رواه " إذا " ولو قال " إذ " للماضي لكان أشبه، ووجه استعمال " إذا " في الماضي إنه حكى ما كان عليه أي أنه كان يبعثها إذا ارتفع، ونحوه قولهم: كان زيد سيفعل كذا، أي كان متوقعا منه ذاك،

وعكسه في الزمان وإن كان نظيره في حكاية الحال قول الله تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم) و " إذ " لما مضى، وإنما هذا حديث عما يكون في القيامة إلا إنه حكى الحال قال " إذ " حتى كأن المخاطبين بهذا حضور للحال. في هذا ضرب من تصديق الخبر أي: كأن الأمر حاضر لا شك فيه وواقع لا ارتياب به. وحكاية الحالين الماضية والآتية كثير في القرآن والشعر، منه ما أنشدناه أبو علي وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى في قوله " من الرجز ": جارية في رمضان الماضي ... تقطّع الحديث بالإيماض ومنه قول الله تعالى: (هذا مِنْ شيعته وهذا من عدوّه) فقال " هذا " و " هذا " ولم يقل أحدهما كذا والآخر كذا، فكذلك قوله: " بعثت إذا ارتفع المرزم " أي: كنت موصوفا بأني أبعثها إذا ارتفع المرزم. وقال البريق أيضا من أبيات " من الطويل ": فواللهِ لولا نعمتي وازْدَريتَها ... للاقيت ما لاقى أبنُ صفوان بالنَّجدِ أراد: وقد ازدريتها، وليست هذه الواو واوَ حال وإنما هي عاطفة جملة على جملة فهو كقوله: قدم محمد، وقد انصرف سعيدٌ، وقد قامت الصلاة، تعطف جملة على جملة وليست واحدة منها منصوبة الموضع بالأخرى. وقال البريق " من الوافر ":

رَميتُ بثابتٍ من ذي نُمارٍ ... وأردفَ صاحبانِ له سواه فيها: وأومأت الكنانةَ أنَ فيها ... معابل كالجحيم لها لظاه قال " لظاه " توقُدٌّ وحِدَّةٌ، أراد إلى الكنانة فلما حذف حرف الجر أوصل الفعل، وقد تقدم نظيره. وفيها: وأحْرِ بآخرٍ قانٍ وإني ... وثالثكم كمعتسفِ السفاه قال أي: سفهاء البهمي قوله في أول قوافيها سواء وجمعه بينهما وبين السفهاء ولظاه يدلك على أنه بنى القصيدة على التقيد لا على الإطلاق، لأنه لو أطلقها لقال سواه والسفاه فاختلف الروّيان مع هناك من الأقوام. نعم وليس الرويان متقاربين تقارب الميم والنون والطاء والدال والصاد والسين ونحو ذلك، فيجوز ارتكاب الأكفاء في ذلك، ألا ترى إلى بعد " ما " بين الهاء والتاء، وإذا كان كذلك كاد يفسد علينا أصلا مجتمعا عليه كلنا. ألا ترى إلى وقوع الإجماع على انه ليس في الشعر روى مقيد يمكن إطلاقه إلا وهو بين ضرب أطول منه وضرب أقصر منه، وذلك نحو الضرب الثاني من " الرمل " وهو: " فاعلان "، ألا تراه فوق " فاعلن " ودون فاعلاتن، وكذلك الضرب السابع من " الكامل " وهو " متفاعلان "، ألا تراه فوق " متفاعلن " ودون " متفاعلان "، وكذلك الضرب الثاني من " المتقارب " هو " فعول " وهو فوق " فَعَل " ودون " فعولن ". وقوله في هذا البيت " سواه " و " لظاه ". وزنه " فعول "، والضرب الأول من

" الوافر " لا يجوز فيه هذا التقيد لانه إذا قَيَد كان " فعول "، ويمكن إطلاقه قصير " فعولن "، وليس تحت " فعول " ضرب اقصر منه بل لا يجوز غبه إلا " فعولن " مقطوفا كما ترى، فأما ما أنشده الرواة من قول جرير " من الوافر ": متى كان الخيام بذي طلوح ... يقيت الغيث أيتها الخيام وقال عمرو بن كلثوم " من الوافر " بشبان يرون القتل مجدا ... وشيب في اللقاء مجربينا فإنما هو تقييد يعرض في الإنشاد في مذهب بعض العرب، وليس شيئا مجتمعة عليه كل اللغات في جميع الإنشاد. ألا ترى أن بعضهم يطلق بحرف اللين فيقول الخيامو، وبعضهم ينون فيقول: الخيامن، وليس شيء من ذلك جائز في قولهم: سواه وسفاه ولظاه؛ لأنه متى أطلقت اختلف الرويان فصار " سواهو " مع " لظاتي " و " لسفاتي " فقد صح بذلك انه مقيد وانه يمكن إطلاقه إلا انه ليس تحته ضرب أقصر منه على ما تقدم به الشرط فقد بان بذلك خروج هذه القيافة عن سائر القوافي. قال: قلت فان هذا الروي مقيد لا يمكن إطلاقه لأنه إن أطلقه اختلف روياه، وإنما الشرط في الروي المقيد إذا أمكن إطلاقه، وهذا ليس ممكنا فقد سقط ما رمت إلزامه. قيل: هذا ساقط عنا من وجهين، أحدهما: أنه إنما شرط نفس إطلاق ولم يشرط اختلاف الرويين ولا اتفاقهما. والآخر: إنك لم تعتقد إطلاقه جعلت ضرب الوافر " فعول " بناء البتة لا على وجه تقييد الإنشاد في بعض مذاهب العرب دون بعض، وهذا ما لا يراه أحد، ألا ترى أن الإجماع واقع على أن الوافر ثلاثة أضرب، وأنت إن

بنيت على هذا التقيد البتة أن له أربعة أضرب فالأمر كما تراه قبيح ضعيف إلا أن له عندي من القياس وجها ما، وذلك أن أبا الحسن قد ذكر أن بعضهم يُنشد " من الرجز ": أقول إذا جئن مذبّحاتِ ... ما أقربَ الموتَ من الحياة فيقف بالهاء فيقول " الحياة "، وهو لا يقف في " مذبحات "، إلا بالتاء، فكما اختلف الرويان في التقيد والوقف لنية اتفاقهما في الإطلاق، كذلك يجوز أن تقول " سواهو " مع " السفاتي " فيختلف الرويان في الوصل، فيحتمل ذلك بعض الاحتمال لنية اتفاقهما في الوقف، وعلى أن هذا أضعف من " مذبحات " مع " الحياة " من قبل ان العمل إنما هو مع الإطلاق لا مع التقيد، ألا ترى أن أكثر الشعر مطلق واقله مقيد. ووجه آخر: وهو أن يجوز " لظاهو " و " السفاهو " فيطلق هاء التأنيث هاء ينوى به الوقف كما حكى صاحب الكتاب من قول بعضهم في العدد الشهربعة ". ومما أجرى فيه الوصل مجرى الوقف من قولهم " العيهل " و " الكلكل " وقوله " من الوافر ": ومَنْ يتقْ فإن الله معه ... ورزق الله مُؤتابٌ وغادي وهو كثير فاعرفه. فلما رَدَّ سامِعَهُ إليه ... وجَلَّى عن عمايته عماه

قال: " سامعة ": أذنه. لا يخلو " السامع " هنا من أن يكون صفة كضارب وشاتم، أو اسما هنا، فإن جعلته صفة فهو على انك نسبت الفعل إليها لظهوره ووقوعه عنها فتكون الأذن كأنها هي السامعة كما قيل للعين " ناظرة "، قال الشاعر " من الطويل ": تصد وتبدي عن أسيل وتتقي ... بناظرة من وحش وجرة مطفلِ قد قيل " الناظرة " هنا العين، وهذا في إسناد الفعل إليه كقوله: " يداك أو كتا وفوك نفخ "، وكقولهم: " فعله برأي عيني وسمع أذني ". قال: وَهُمُ زبابٌ حائرٌ ... لا تسمع الآذان رعدا وكما سمى السيف ماضيا صارما، وان كان آلة، والفعل لغيره، وإنما هو مصروم به أي مقطوع، أنشدنا أبو علي " من المتقارب " ومن يسمع الصوتَ لا يستجيب ... ومن يستجيب ولا يَسْمَعُ فقال: يعني السمع واللسان، وهذا كثير. وكان قياسه أن يؤنث فيقول: فلما ردت سامعته إليه كقوله " بناظرة من وحش وجرة " فيمن أراد بالناظرة العينَ لان الأذن أنثى كما أن العين كذلك، إلا أنه ذكرَّ، ذهب بالأذن إلى العضو كما أنث " البعض " في قول الله سبحانه: " تلتقطه بعضُ السَّيارة "، لان بعض السيارة سيارة وإذا جاز تأنيث المذكر على ضرب من ضروب التأول كان تذكير المؤنث لما في ذلك من رد الفرع غلى الأصل أجدر، وان شئت جعلت السامع هنا اسما بمنزلة الناظر في العين، ويقوى هذا تذكيره ولو أراد الصفة لكان الأظهر التأنيث. وفيها:

فقال: إليكما عنه ولولا ... مقام الجد ما رقبوا ألاه قال: ألاه لا يألونه، يقول: لولا يوم من الأيام وقاك الله به شرا، " قال " أبو عمرو: الجد الحظ. " ما رقبوا ألاه " أي لم يكونوا يألونه، هذا جميع ما فسر به البيت. وهو عندي من " إلا لا " وهو العهد. قال الأعشى: أبيض لا يرهبُ الهُزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلا وفيه وجه آخر أحسن من هذا، يقول: لولا جده ونفاذه ما بالوا بقوله " إليكما " أي لم يحفلوا بتحذيره أي بقوله " إليكما "، كما تقول إذا قال لك الأمير " عليك زيدا " لولا طاعة الأمير لما حفلت علاه. فإن قلت فان " إلى " و " على " إذا اتصلا بالضمير كانا كالياء البتة نحو " إليك " و " عليه ". قيل إنما ذلك ما داما حرفين. وأما في هذا الموضع فقد صارا اسمين فجرى قوله: " لم احفل ألاه " مجرى لم أجد عصاه. كما تقول إذا قال: ما قال زيد ما أحفل به، أي بقوله: " ما "، فتجعلها اسما تمدها، فهذا وجه حسن فيه لطف وصنعة. على أنى قلبت بني جُريب ... زمانَ زمانُهم فيمن قلاه قال: أرادا زمان زمانهم مساعد لهم يكون في الخير والشر، وقلاة: ابغضه. ينبغي أن يكون الكلام على تقدير حذف المضاف أي زمان زمانهم في قلي من قلى أهله فحذف المضافين من الموضعين جميعا كما تقول: " زيد في شغله يعبد الله ".

ولم تفقدْ طوال الدهر حَيّاً ... أخاك السوء حتى لا تراه أي ما دمت تراه فلم تفقده إذا لم تره. قوله " حيا ": حال من " أخاك " ففدم حال المظهر عليه، ومثله قوله: شتى تؤوب ب الحلبة وقال توسعة أبو نهار " من الكامل ": وكأنّ مهري إذا أجَدَّ إيابُه ... يبْرى بجو حمامة لحام أي: حمامة تبري بجو لحمام، فلما قدم وصف النكرة عليها نصب على الحال منها. وأما " السَّوء " بفتح السين فكأنه المصدر الحقيقي لسؤته سوء كصغته صوغا، وكأن السُّوء الاسم منه، إلا أن " السَّوءَ " بفتح السين لا يستعمل إلا وصفا كهذا البيت أو مضافا إليه كقولهم: " وهذا غلام سوء "، قال أبو الحسن: لو أخبرت عن سَوء من قولهم: " هذا غلام سوء " لم يجز لانه كان يلزمك أن تقول: " هذا الذي غلامه سوء " فتجعله خبر مبتدأ، وإنما يستعمل مضافا إليه، وكذلك لا يجوز الأخبار عنه وهو وصف لأنك لو أخبرت عن السّوء من قولك: " رأيت غلامك السَّوء " للزمك أن تقول: الذي رأيت غلامك إياه السوء: فيفسد من وجهين، أحدهما: أن تجعله خبرا، وليس ذاك مستعملا، والآخر: انك تصف بالمضمر، وهذا فاسد. وقال عثمان لا تخبر عن " مذ " في قولك: " لم أره مذ يومان " ونحو ذلك من قبل انك لو أخبرت عنها لجعلتها مبتدأ وهي لا تكون إلا مبتدأة، وكذلك ما نقض أصلا لا يمكن نقضه، لم يجز الدخول له تحت ذلك.

وفيها: فقلتُ له وليس علي خداع ... مُجيبا للنصيح وانْ عصاه فاعل " عصاه " مضمر يدل عليه الحال أي: وان عصاه قلبي، يدل على ذلك البيت الذي قبله والبيت الذي بعده. وقال البريق أيضا " من الوافر ": فأمّا أُمسِ لا فتيانَ عندي ... فقد قَطَّعْتُ بالفتيان عَيْشي في هذا البيت دلالة على جواز تكسير أمثلي الجموع وذلك كقوله: لا فتيان عندي، ألا ترى أن " لا " المبنية مع الاسم بعدها إنما ذلك الاسم واحد يدل على جنسه كقولنا: " لا غلام لك "، ففي هذا نفي جميع الغلمان، فالغلام إذن واحد وقع موقع جنسه. فكذلك قوله: " لا فتيان عندي " إذا فُصَل هذا الجنس فتيانا، ففتيان ها هنا كالواحد الدال على جنسه، وإذا كان في حكم الواحد حَسُنَ تكسيره فكأنه نفى جميع الفتايين لان محل فتيان من فتايين لو نطق به محل رجل من رجال، ونحوه أيضا ما أنشده أبو الحسن من قوله: كم دون سلمى فلوات بيدُ وكذلك قوله جل وعز: (كم تروا من جناتٍ وعيونٍ) فهذا كقولك: " كم تركت من دار وبستان ". فدخول " من " عليه يشهد بأنه تحت الجمع الذي فوقه، ألا ترى إن " من " هنا لا يأتي بعدها الواحد إلا نائبا عن جماعة ودالا عليها، وعلى هذا جاء عنهم " عُريان " و " عرايين "، و " عقبان " و " عقابين "، قال " من الطويل ": عقابين يوم الجن تعلو وتَسْفُلُ

ومنه اسقيه وأساق، وأعبد وأعابد، وأصرام وأصاريم. قال كعب بن معدان الأشقري " من الطويل ": سنشرب كأسا مُرَّةً تترك الفتى ... تليلاً لفيه للغرابين والرخم جمع غربانن ومنه قول العجلان بن خُليدة " من الطويل " جمعت لرهط العائذين سَريّةً ... كما جمع المغمور أشفية الصدر جمع شفاء اشفية، ثم إنهم قالوا في جمع اشفية: أشافٍ

(17) وقال عبد بن حبيب

(17) وقال عبد بن حبيب " من الوافر " تركنا صُبْعَ سُمْيَ إذا استباءت ... كأنّ عجيجهنَّ عجيج نيب قال: سُمْي بلد لم يمر بي من تركيب " س م ي " غير هذا الحرف، وقد يمكن أن يكون من سموت، إلا أنه لما جاء علما لحقه التغيير كما لحق نحو حياة ومعدى كرب. واستباءت " استفعلت " بمعنى " فعلت "؛ لان معناه يبوء بعضها أي يرجع، كذا قال، فهذا كقَرَّ واستقر وسخر واستسخر وقد تقدم القول على نظيره. وكذلك رواية أبى عمرو: استآبت لان معناها آبتْ، ويجوز أن يكون " سُمْي " فُعُلاً في الأصل كأنه سُمُوٌ ثم غيرت إلى سِمُ كادْلِن ثم أسكنت العين تخفيفا واقر القلب بحالة كقولك في رَضيَِ: رَضْيَ، ويجوز أيضا أن يكون مثالا لم يُسَمَّ فاعله، ثم كأنه سمى، ثم أسكنت تخفيفا كقوله: قالت أراه دالفاً قد دُنى له

(18) وقال أبو المورق اللحياني

(18) وقال أبو المُورِّق اللحياني من أبيات " من الطويل ": ولكنْ بني السكران أولاد جَثلة ... يعود لما ألقت من السَّه في الفمِ ومن الست بالفم، جثلة: اسم أمهم، وخثلة بالخاء: مسترخية البظر. من قال " السَّه " فالعين محذوفة، ومن قال " الست " فاللام المحذوفة وهو أكثر من حذف العين وأقرب إلى القياس. وقال السكري بالهاء الأصلية، وهاء التأنيث، وهذا خطأ، إنما التاء عين الفعل في " أستاه " ولو كانت تاء " الست " للتأنيث لبقى الاسم المتمكن على حرف واحد لانه لا اعتداد بتاء التأنيث. وقال أيضا " من الوافر ": إذا نَزَلنْ بنو ليث عُكاظاً ... رأيت على رؤوسهم الغُرابا الغراب ها هنا جنس يراد به الغربان، وفيه مجاز لانه لا يجوز أن يكون جمع غربان الدنيا على رؤوسهم حتى ولو تناهوا في الكثرة.

(19) وقال حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام

(19) وقال حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام " من الطويل ": لحى الله قوماً لم نَدَعْ من سراتهم ... لهم أحداً يندوهم غير ثاقِب قال: يندوهم: يجلس إليهم في ناديهم. في هذا دلالة على إن لام النادي والندى والنداء واو، وقوله غير ثاقب استثناء، وليس حالا؛ لأن ثاقبا اسم رجل. فيها: نُفَجيّ خُمام الناس عَنّا كأنما ... يفجئهم جسم من النار ثاقب لام " نفجي " واو، لأنه فسره فقال: معناه ندفع، وذلك إنه من قولهم " قوس فجواء " إذا بان وتراها عن كبدها كأنه اندفع عنها. ألَمْ يُلْهِ خصى الطابخي وأيره ... بني شَجَعٍ عنا رؤوسَ الثعالبِ قال: هو رجل قتلوه فأكلوه. استعمل الخصى بلا هاء وهو قليل، وإنما العرف فيه الخُصْية كقولها " من الرجز ": لست أبالي أن أكون محمقه ... إذا رأيت خصية مُعَلَّقه فإذا صاروا إلى التثنية كانت بلا تاء. قال " من الرجز ":

تقول يا رباه يا رب هلِ ... إنْ كنت من هذا مُنجيّ أجلي أما بتطليق وأما بارحلي ... كأنّ خصيبه من الندلدلِ ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل وقد جاء نحو هذا قال " من الطويل ": أخصيي حمار بات بكدم نجمة ... أتؤكل جاراتي وجارك سالم وقال: يا بأبي أنت ويا فوق البيب ... يا بأبي خصياك من خصى وزُب أراد: يا بأبي خصييك وزبك من خصى وزب، فثنى على لفظ أحدهما كقوله: لنا قمراها والنجوم الطوالع وكسيرة العمرين ونحو ذلك. وقوله " رؤوس الثعالب " نصبه على الشتم كقوله " من الطويل " وجوه قرود تبتغي مَنْ تجادعُ

(20) وقال عباس بن مرداس

(20) وقال عباس بن مرداس " من الطويل ": فجللتها حُصى جنادةَ غدرْرة ... وأيقنت ما أندى حُليسا وجابرا أندى: أخزى، والمندية: الداهية والفاضحة أيضا، والمنديات: المخزيات. لام " المنديات " عندي واو وذلك إنها تندى في النادي وتذكر في المجالس، ولام النادي كما تقدم واو. وقال القطامي " من البسيط ": لولا كتائب من عمرو تصول بنا ... أوديت يا خيرَ من يندو له النادي فأجابه رجل من بني لحيان " من الطويل ": فدى ركبي ضب تلادي فأننا ... تكلنا عليه داخلا ومجاهرا يريد: اتكلنا عليه، تكَل يُتْكِل. وداخلا ومجاهرا: سرا وعلانية. مثل تكَلَ يَتْكِلُ في حذف فائه وتحريك التاء في مضارعه قولهم: تقى يتقي وتجه يتجه وتسع يتسع. قوله: " داخلا ومجاهرا " ينتصب على الحال وأن كان قد فسره بقوله: سراً وعلانية، لأنه تفسير على محصول المعنى دون موضوع اللفظ.

(21) وقال أبو الرعاش الصاهلي

(21) وقال أبو الرعّاش الصاهلي " من الرجز " إنك لو شَهِدْت يوم الخنْدمة ... إذ فَرَّ صفوان وفَرَّ عِكْرمَه وأبو يزيد قائم كالموتمه قال " الموتمة " أم اليتيم، أيتمت فهي موتمة، بخط السيرافي في الحاشية. الصواب أن يقال الموتمة لها أولاد يتامى، والفعل أيتمت كما يقال أطفلت وأجرت فهي مجرية، إذا كان لها جراء، هذا الذي قاله من جهة القياس على ما ذكره، ولكن الرواية احكم من القياس فأن جاءت مخالفة له اتبع ورفضت، ومع هذا فله وجه من القياس قائم وذلك إنها هي أيضا تيتم من ولدها كما ييتم هو منها ثم ينقل فعلها فيقال: أيتمها الله كقدم وأقدمه الله وضرم وأضرمه غيره، قالوا: واليتيم المنفرد، فلهذا يقال يتيمة ثم يقال أيتمها الله. ومن رواه كالمؤتمة احتمل أمرين، أحدهما: إن يكون

من باب همز: " أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إليَّ مُؤْسي، والآخر: إن يكون من قولهم: ما في سيره أتَم، في معنى يَتَمٌ أي فتور، ومنه اليتيم لضعفه وفتوره. وقوله: " وأبو يزيد " هو على الخرم؛ لأن الواو زائدة وقد تقدم نحو ذلك، ومن قال " وأبو يزيد " بسكون الألف فأنه أبدل إبدالا على حد " قريتُ " و " أخطيت ".

(22) شعر سلمى بن المقعد القرمي

(22) شعر سلمى بن المقعد القرمي " من الطويل " " و " أفلت منا العلقمي تزحفا ... وقد خطفت بالظهر واللمّة اليدُ جريضاً وقد ألقى الرداء وراءه ... وقد ندر السيف الذي يتقلَّدُ موقع " ج ر ض " في كلامهم الشدة، منه قولهم: جَمَلٌ جِرواض وجرائض للشديد، ومنه الجَرَض للشدة عند الموت. وأما همزة " الرداء " فمنقلبة من ياء لقولهم: فلان حسن الردية، وأما همزة " الوراء " فاصلية، لقولهم في تحقيرها: وُرَيِّئَة، فثبات الهمزة يدل على كونها أصلا، ولو كانت بدلا لعادت ياء وحذفت كسماء وسُمّة وعظاءة وعُظيّة، تقول العرب: " فلان وُرَسِّئَة الحائط " فيها: جمعنا عليهم طائفيهم بغارةٍ ... هزيم كما انقار الخباء الممددُ طائفاهم: ناحيتاهم. همزة " الطائف " بدل من ياء لأنه من طاف الخيال يطيف، إذا ألَمَّ بناحيته، ويجوز أن يكون بدلا من واو من طاف القوم يطوفون بالشيء، إذا أحاطوا به. وأما همزة " الخباء " فبدل من ياءٍ لأنهم يقولون: خبيت الخباء أي اصلحته، وليست من لفظ " خبأت "

وإن كان المعنى عليه، وقد تقدم ذكره. وعين " اتقار " واو لأنه من قَوَّرْتُ. وقال سلمى بن المقعد أيضا " من الوافر ": ستعلمُ يا فُضيلُ أنْ التقينا ... ذراعي هِرَّةٍ رُبطَتْ بحبلِ فَلَسْتَ بقاتلي أنْ رُمْتَ قتلي ... ولا آذتك أمُّكَ أم قَمْلِ قال: " ذراعي هرة " نداء أي: يا ذراعي هرة، فإذا كان كذلك كان مفعول " تعلم " محذوفا إن كانت بمعنى عرفت، وإن كانت بمعنى " علمت " فمفعولاها محذوفان. وصار قوله " فلست بقاتلي إن رمت قتلي " دليلا عليهما وبدلا في اللفظ، والمعنى منهما، فكأنه قال: ستعلم إنك إن رمت قتلي قصرت عنه، كما صار قوله تعالى: " لهم مَغْفِرةٌ واجرٌ عظيم " بدلا من المفعول المحذوف، ودليلا عليه في قوله: " وَعَدَ اللهُ الذينَ آمنوا وعمِلوا الصالحات " وكما إن قوله " من الطويل ": عشية ما وَدَّ ابن غَرَاء أمَّه ... لها من سوانا إذ دعا أبوانِ فقوله: " لها من سوانا أبوان " بدل من مفعول وددت وله نظائر. وقال سلمى أيضا " من الطويل " فيوماً بأذناب الدحوض وتارةً ... انسئها في زهوِه والسوائلِ " الزهو ": المكان المرتفع الظاهر من الأرض. و " السوائل ": جمع مسيل وهو ما سال فيه الماء من الأودية. هذا مما تقدم القول على نظيره،

وذلك إن المسيل لما أشبه المصدر نحو: المسير والمحيض جمعه جمع اسم الفاعل فقال: السوائل، فأما أبو علي رحمه الله فأنشدنا " من الطويل " فليتك حال البحرُ دونك كله ... وكنت لقي تجري عليه السوائِلُ وذهب إلى إنه جمع " سيل "، وكلاهما على تشبيه المصدر باسم الفاعل، والمكان جارٍ مجرى المصدر لاشتراكهما في جريانهما على الفعل وقد سبق ذكر ذلك. وقال سلمى أيضا: وقلت تجنبها قريُّ فإنني ... مُطأطئها في وسط عز الصواهل قال " قريّ " اسم رجل، يحتمل لام قرى أمرين: الواو فيكون كسريّ من السَرْو، والياء فيكون كسرى النهر لأنهم قد كسره على سُريان، وقد يمكن أن يكون من قرأت مخفف الهمزة، وألزم التخفيف لكونه علما. وقال سلمى " من الوافر ": رجال بني زُبيدٍ غيبتهم ... جبال أمُول لا سُقيتْ أمولُ " أمول ": فعول، من لفظ الأمل، ولا يجوز أن يكون " فعل " من لفظ

المال لأنه لو كان كذلك لوجب تصحيح العين لمشابهة الزيادة في أوله زيادة الفعل، وقد سبق نحو هذا في لوقة وألوقة. وقال أيضا " من الكامل ": إنا نزعنا من مجالس نخلة ... فنجير من حُثُنٍ بياضَ ألَمْلَما " ألملم " عندنا فَعَلْعَل من لفظ الألم كصمحمح وبَرَهْرَهة، ولا يكون من لفظ " لَمْلَمْتُ "، وهذا حجر ململم؛ لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا الأسماء الجارية على أفعالها نحو: مُدَحْرَج ومُسَرْهَفِ. وكذلك القول فيمن روى: يَلَمْلَم؛ لأن الياء بدل من همزة " ألَمْلَم " لأنا لا نعرف في الكلام لفظ " ي ل م ". هذا هو الوجه، وقد يجوز أن يكون أصلا برأسه وأن لم يتصرف في غير هذا، وقد تقدم القول على مثله. وفيها: لّما عَرَفْنا إنهم آثارنا ... قلنا وشمسَ لنخضِبنهم دَما " شمس ": صنم اقسم به. ينبغي أن يكون قولهم على هذا " عبد شمس " غير مصروف إنما أرادوا به عبد هذا الصنم فأضافوه إليه على

اعتقادهم في الأصنام إنها آلهة لهم كما قالوا: عبد العزى وعبد اللات وعبد بغوث ونحو ذلك، ويكون هذا الصنم معتقدا فيه التأنيث كتأنيث اللات والعزى والسجة والبجة ونحو ذلك من الأصنام، فلذلك لم تصرف شمس. فأن قلت ما أنكرت أن يكون هذا الصنم مذكرا إلا أنه لم تصرف شمس لأنها مؤنثة؟ قيل: هذا ظاهر عنا وذلك أن المذكر إذا سمي بمؤنث ثلاثي صرف نحو: رجل سميته هندا وجُمْلاً وقدما وكبدا فكذلك لو كان هذا الصنم مذكرا لوجب إذا سمى بشمس أن يصرف أيضا، وقد كان أبو علي رحمه الله يقول في قولهم: " عبد شمس " وتركهم صرف " شمس " إنما ذلك لأنه ذهب فيه إلى الشيء بعينه كقول الخليل في الحارث والعباس، وإن شمس من قولهم عبد شمس كقولهم. " من الكامل " وإلى أبن أم أُناسَ ارحل ناقتي جعل " أناس " كأنه هو الأم فدخله تأنيث الأم فلم يصرفه.

(23) وقال الحشر النابري

(23) وقال الحَشْر النابري " من الطويل ": فيا عجباً منكم تميم وداركم ... بعيد بجنبي نخلةٍ فالمناقِب ذكرّ " بعيد " ولم يقل بعيدة، وذلك لما قدمناه من تشبيه العرب " فعيلاً " بفعول، وتشبيه فَعول بفُعول. ومنه " قوله تعالى ": " إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين ". وقوله " من الطويل ": بأعين أعداء وهُنَّ صديقُ وقال تعالى: (فأنهم عَدوٌّ لي إلا رب العالمين)، وقرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى " من الطويل " ألا ليت أيام الصفاءِ جديدُ ... ودهراً تَوَلَّى يا بثين يعودُ ومنه قولهم: " جُلّة خصيف " و " ناقة سديس " و " ريح خريق " وهو كثير. وفيها: تقول هُذيل لا غَزاوة عنده ... بلى، غزوات بينهن توائب

الغزاوة كالشقاوة والبناوة والسراوة والزذاوة، مصدر " الرذي " الحسير من الإبل ونحوها، وأكثر ما تأتي " الفَعالة " مصدرا إذا كانت لغير المتعدي كما ترى، فأما الغزاوة ففعلها متعدٍ وهو غزوت، وكأنها إنما جاءت على: غَزُوَ الرجلُ، أي جاد غزوه، وقَضُوَ: جاد قضاؤه، كما إن قولهم في التعجب: ما اضربَ زيدا، كأنه على " ضَرُب " إذا جاد ضربه وكذلك: ما أخرجه، على " خَرُج "، وما آكله على " أكُلَ " وإن لم ينطقوا به. وعلى إننا روينا عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: " ضَرُبَتْ يَدُه " أي جاد ضربها، وكان أبو علي رحمه الله يستحسن هذه الحكاية على الكوفيين لموافقتها موجب القياس عنده.

(24) وقال عمر بن قيس المخزومي من هذيل

(24) وقال عمر بن قيس المخزومي من هُذيل " من الوافر " أجنّي كلما ذُكرت قُريمٌ ... أبيت كأنني أُكوى بجَمْرِ قال قوله: " أجنّي " أراد من أجل أني، وكلمة يقولونها: " لا حين بك " أي لا خفاء بك، وهو ظاهر أي أدرك ما أردت ولا خفاء بما تريد. معناه يرجع عندي إلى أنه قال: أبجدّي كلما كان كذا وكذا، وتأويل ذلك أن " ج ن ن " إنما هي موضوعة لخفاء الشيء ومنه الجن، ولذلك قيل لهم الخافي لاستتارهم، قال القُحيف " من الوافر ": ديارُ الحي تضربها الطِلالُ ... بها أهل من الخافي ومال ومنه الجنان القلب لاستتاره، وجنون الليل أي ظلمته، وكذلك بقية الباب ومنه قولهم: لا جن بهذا الأمر أي لا خفاء به، فكذلك قوله: " أجني كلما ذكرت قريم أبيت كذا " أي: أبجد مني ذلك، والجد في الأمر مما يلابس الفكر ويجنه القلب ويشعره الفكر، وكأن النفس مُجِنّة له ومنطوية عليه كقوله: وحفظة أكَنَّها ضميري أي: أضمرها وأجنها وانطوى عليها، وقوله: ثم انطويت على غمر وقول الآخر " من الخفيف ": ولنقل الجبال أهون من بث حدي ... ث، حنت عليه الضلوعُ وهذا باب واسع جدا في الشعر القديم والمولد جميعا؛ فلهذا ما رجع قوله

" أجني " إلى معنى: أجدّي، فهذا اقرب مأخذاً من أن يقول إنه أراد: من أجل أني، ثم حذف حرف الجر فصار: أجل أني، ثم حذف الهمزة من أجل والهمزة من أن واللام أيضا وكسر الجيم لأن هذه أعمال كثيرة، ولك عن جميعها سعة ومندوحة. فأجابه ساعدة بن عمرو " من الوافر ": فزلت تُحمَل الموصولَ حتى ... تنيك من الكنائن رابَ عشر قال: الموصول: السيف، وراب عشر مثل قوله: قاب، ينبغي أن يكون قبل للسيف الموصول لما وصل به من قائمه، وأما الكنائن فجمع كَنّة أنشدنا أبو علي " من الوافر ": وأنّ كنائني لنساء صِدق ... وما ألّى بنيّ ولا أساءوا ونحو من كنة وكنائن، حرة وحرائر وجزة وجزائر وحقة وحقائق ولصة ولصائص وظنة وظنائن وهمة وهمائم - تأنيث شيخ هم -، وعثة وعثائث. وقوله " تحمل الموصول " أي تجعل له حمائل، ولم يذكر أبو سعيد هذا بشيء. وقوله في " راب عشر " أي قاب، معناه زهاء عشر. ومقياس عشر كقول الله سبحانه: (فكان قاب قوسين) أي: قياس قوسين. وعينه عندي ياء لأنه من الريب، وذلك أن الذي يقيس على الشيء لا بد فيه من ترخيم وتظن، وليس مم يُعلم قياسا بمنزلة ما يدرك ضرورة وعياما، فالنفس به كالمستريبة وليست فيه على يقين علم المشاهدة، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم لترون ربكم كما ترون ليلة البدر لا تضامون في رؤيته "، أي: لا تلقكم فيه كلفة البحث والنظر بل يُعْلَمُ القديم سبحانه ضرورة لا استدلالاً ولا قياسا.

(25) وقال غاسل بن غزية الحربي

(25) وقال غاسل بن غُزَيّة الحُرَبي " من البسيط ": أمن أُمية لا طيفٌ ألَمَّ بنا ... بجانبِ الفرع والأعراء قد رقدوا قال: الأعراء القوم الذين لا يهمهم الأمر، واحدهم عِرْوٌ، اللام على ما ترى واو، وقد يجوز أن تكون ياء كأنه عارٍ مما يلحق المهم بالأمر فيعود إلى أنه من العُرْى، وخيل أعراء. وأراد: من أميمة طيف، فزاد " لا " كما قال الهذلي " من الكامل ": أفعنك لا برقٌ كأنّ وميضَه فزاد " لا " وهو كثير، واكثر ذلك مع النفي كقوله " من الرجز ": وما ألوم البيض ألاّ تسخرا ... لما رأين الشمط القفندرا يريد: أن تسخر، وكقول الله سبحانه: (لئلا يعلم أهلُ الكتاب) أي: ليعلم وذلك لتوكيد النفي، ونظيره عندي زيادة لام الإضافة مع حال الإضافة كقولهم: لا أبا لك، ولا يدا لك و " قول الشاعر ": يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا و" قوله ": يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام

فزيدت اللام وتوكيدا للإضافة، ومثله في التوكيد قوله: أطربا وأنت قِنسَّريُّ ... والدهر بالإنسان دواريُّ أي دوار، فزاد ياء بالإضافة توكيدا لمعنى الصفة، وقد سبق القول على ذلك. وفيها: فقلت: رُدي وقولي القومُ قد طلعوا ... للغور، والغزو يستذكى وينجردُ قال: يستذكي ويتحرك ويشتد، وهو عندي " يستفعل " في معنى " يفعل " ولامه واو، فكأنه يذكو كما تذكو النار. وفيها: ارجع حتى يشيحوا أو يشاح بكم ... أو تهبطوا الليث إنْ لم يَعْدُنا لَددُ عين " تشيحوا " ياء لظهورها في قوله " من الطويل ": بدرت إلى أولاهم فسبقتهم ... وشايحت قبل اليوم إنك شيح وعين " الليث " على ظاهرها ياء وهي من لفظ الليث إلا أن يجيء أمر يستنزل عن الظاهر، وكذلك فعل صاحب الكتاب في " سِيد " حمله على لفظه فقال فيه: " سُييد " كفيل وفيل. فقد حصل هذا عيارا يوزن به غيره. ثم انْصَبَبْنا جبال الصفر معرضة ... عن اليسارِ وعن أَيماننا جَدَدُ قوله: " جبال الصُفْر معرضة " جملةَ في موضع الحال من " نا " والجملة

إذا جرت حالا لم يكن لها يد، أما من الحرف الرابط وهو الواو وأما من الضمير وان اجتمعا كان أقوى. فمثال الواو وحدها قولنا: مررت بزيد وعمرو جالس، ومثال الضمير وحده قولنا: مررت بزيد وجهه مكشوف، ومثال اجتماعهما قولنا: مررت بزيد وعلى يده باز، وليس في قوله: " جبال الصفر معرضة " حرف رابط ولا ضمير راجع، فالحرف لا يحسن إضماره وحذفه لقلة ذلك، ألا ترى إلى ضيق حكاية أبي عثمان عن أبي زيد من قولهم: " أكلت لحما سمكا تمرا "، فإذا كان كذلك عدلت إلى تقدير حذف الضمير لاتساع ذلك فكأنه قال: جبال الصفر عن اليسار منان ودل على ذلك أمران، أحدهما: أن المعنى عليه، ودلالة الحال في اليان جارية مجرى دلالة اللفظ، والآخر: ما ظهر من الضمير فيما عطف عليه من قوله: " عن إيماننا "، فكأنه قال عن يسارنا أو عن اليسار منا، فأما اليسار فلم تأت عنهم فيما علمت مجموعة، بل " اليمين " قد تجمع شمال وشمائل وأشْمُل، قال العجلي " من الرجز ": يبري لها من أيمُنٍ وأشمل ... ذو خرق طلس وشخص مُذألِ وأما اليسار فلم تجمع، وعلة ذلك عندي شيئان، أحدهما، استغناؤهم عن تكسيرها بتكسير " شمال " فيكون هذا مما قاله سيبويه: " وقد يستغنون بالسيئ عن الشيء حتى يكون المُستغنى عنه مسقطا من كلامهم البتة "، والآخر أن اليسار واليُسرى إنما هو تفاؤل باليُسر وعدول عن الشؤم، وإنما هي الشؤمى ضد اليُمنى، قال: فأنحى على شؤمي يديه فلما كانت فرعا معدولا إليه عن أصل قد استمر تكسيره ضاق موضعها فلم

يعامل الفرع في التصرف معاملة الأصل، فهذا فرق. وأعلم انه ليس في كلام العرب اسم في أوله ياء مكسورة إلا قوله " يسار " حكاها بعض الكوفيين وقد سألت نفسي عن ذلك واجب عنه في بعض ما أثبته عن نفسي من كلامي في موضع غير هذا فتركته هنا. وفيها: حين السيوف بأيدي القوم ناهلةٌ ... تصدر عنهم وفيهم تارة تَردُ ينبغي أن تكون عين " تارة " واوا اشتقاقا وقياسا جميعا، أما الاشتقاق فلأنه من معنى " التَّوْرِ "، والتور: الرسول. قال " من السريع ": والتور فيما بيننا مُعْمَلٌ ... يرضى به المأتيّ والمُرْسِلُ والتقاؤهما أن الرسول من شأنه أن يذهب ويجيء، والتارة هكذا معناها، ألا ترى أنها تردد الشيء طورا كذا وطورا كذا كما أن الرسول مرة يرد وأخرى يصدر، ويؤكد عندك كون عينها واوا أيضا قولهم في معناها: طورا وطورا وأطوارا، والطاء أخت التاء فكأنهما لذلك حرف واحد، وقد ترى تعاقبهما في نحو قولهم: الترياق والطرياق والترنجين والطرنجين، وفي قول علقمة " من الطويل ": وفي كل حي قد خبطَّ بنعمةٍ ... فَحُقَّ لشأن من نداك ذنوب أي خبطت، وقالوا: فحصط برجلي، وله نظائر. وقالوا في المتْرَس: المِطْرَس، وكلاهما أعجمي والعرب تسمى المطرس لزازا. فهذا وجه الاشتقاق. وأما وجه القياس فلأنها عين، وقد سبقت وصية صاحب الكتاب في نحو هذا بما قد عرفته.

(26) وقال الفهري ابن أخت بني قريم من صاهلة

(26) وقال الفهري ابن أخت بني قُريم من صاهلة " من الكامل ": لما رأيت بني عَديَ مَرّحوا ... وغلت جوانبهم كغلي المرجلِ قال: مرحوا من المرحى، والمرحى موسى الحرب، لم يعرف أبو عمرو مَرَحوا، انتهى كلامه. الظاهر في معنى الحرب على ما فسره انه مرساها أن يكون " مَفْعَلا " من أفظ الرحى، ومعناها، ألا ترى إلى كثرة ما جاء عنهم من تشبيه موضع الحرب بالرحى، قال عمرو بن كلثوم. " من الوافر ": قريناكم فجعلنا قراكم ... قُبيل الصبح مرداة طحونا يكون ثقالها شرقيَّ نجدٍ ... ولهوتها قضاعة اجمعينا وقال الآخر " من الخفيف ": ثم الدبرات دارت رحانا ... ورحى الحرب بالكُماة تدور ومن كلام ابن عباس في صفة أمير المؤمنين عليهما السلام: " فحمل عليهم حملةً أحالهم فيها جولان الرحى بثفالها "، فإذا كان كذلك لم يجز أن يكون " مرحوا " من لفظ الرحى؛ لأنه لو جعلته منه لكان " مَرَّحوا ": مَفَّعوا، وهذا مثال غير موجود في كلامهم. فإذا كان كذلك حملت " مرّحوا " على أنه مرّحوا من المرح، وبناؤه على " فَعّلوا " لكثرة المرح منهم كقولهم: " موّتت الإبل " و " قّوّمت الخيل "، ويدل على أنه من المرح أيضا قوله يليه: " وغلت جوانبهم كغلي المرجل "، فالغليان: النشاط والحركة والاضطراب، وكذلك المرح، وهذا أمر ظاهر، فهذا أذهب عندي في الصواب مما قاله السكري.

(27) وقال أبو جندب بن مرة

(27) وقال أبو جندب بن مرّة " من الرجز ": أنى امرؤ أبكي على جارَيه ... أبكي على الكعبي والكعبيّة ولو هلكت بكيا عليه ... كانا مكان الثوب من حقويّه ليس هذا في الفحش كقوله " من الوافر ": ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تُبقي خمور الأندرينا يسلب حرف اللين لينه، إلا أن فيه مع ذلك ضربا من الضعف لأن الإدغام لم يستهلك منع جميع مدة ما دام ما قبل الحرف منه، ألا ترى أنه لا يجوز مع " الكعبية " الفدية والفتية ونحو ذلك، بل قد يجوز معها - إذا انفتح ما قبلها - غيرها نحو: ليّا وطيّا يجوز معه نجيا وظبيا وذلك لأنه انضاف إلى الإدغام انفتاح ما قبل الحرف فزال المد، فأما امتناع من امتنع من الجمع بين ليّا وظبيا، فليس ذلك شيئا يرجع إلى حرف اللين إنما هو لأنه لا يجمع بين المشدد وغيره في الروي، وقد قدمنا القول على فساد امتناعه من هذا ونحوه في كتابنا الموسوم ب " المعرب في شرح القوافي " عن أبي الحسن رحمه الله.

(28) قال سويد بن عمير الخزاعي

(28) قال سويد بن عُمير الخزاعي " من الكامل ": القوم أعلم لو ثقفنا مالكاً ... لاصطفاف نسوتُه وهُنَ أوالي قال: أولى " فواعل " من " ألوت " أي وهن حزانٌ أي لا يجتهدون، لغة هذيل: ألوت أي قدرت واستطعت، فحقيقة قوله " وهن أوالي " أي قوادر على البكاء وإنما وصفهن بالقدرة عليه لأنهن كن يكثرن منه فاكتفى بالسبب الذي هو القدرة من المسبب الذي هو القدرة من المسبب الذي هو البكاء، وهذا كثير وقد مضى مثله. وفيها: يابا خصيلة لن يميتك بعدها ... يابا خصيلة غير شيب قَذال أراد: يا أبا خصيلة، فحذف الهمزة تخفيفا كقول أبي الأسود " من الكامل ": يابا المغيرة ربَّ أمرٍ معضل ... فرّجته بالمكر مني والدَّها وحكى أبو زيد: " لا بَلك " وقد تقدم القول في هذا. وقال أيضا " من الطويل ": ألا ابلغنا أفناء لحيان آيةً ... وكنت متى تجهل خصيمك يجهل المخاطب بقوله: " ابلغنا " صاحباه، والمخاطب بقوله " متى تجهل خصيمك " هو نفسه كأنه فيما بعد نفسه كقراءة من قرأ: " أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير " أي: اعلم أيها الرجل. وواحد الإفتاء: فنى مقصور، لأمه مشكلة، وينبغي أن تكون من الواو من قولهم شجرة

فنواء، ووجه التقائهما أن أفناء الناس جهاتهم ونواحيهم، وشجرة فنواء أي لها أفنان ونواح، فهذا وضوحا وانكشافا. وأما ألف " متى " فإنها أصل غير منقلبة، وذلك أن هذا اسم مبني، والأسماء المينية عندنا في كثير من الأمر لاحفة بالحروف، فكما أن ألف " إلا " و " أيا " و " هيا " ونحو ذلك أصول غير متقلبات فكذلك ألف " متى ". فأن قلت: فقد أمالوها وهذه طريق الانقلاب قيل لم يُمل لانقلابها ولكن لتحقيق مذهب الاسمية لها كما أمليت ألف " أنّي " لذلك لا لأن شيئا من ذلك منقلب، فأن قلت: فهلاً أميلت على هذا ألف " إذا " وهي اسم؟ فالجواب عن ذلك من موضعين، أحدهما: أنا لا نعرف في جميع الكلام علة توجب الإمالة، وإنما جميع أسبابها أسباب جوازها لا أسباب وجوبها، والآخر: أن " إذا " اقعد في شبه الحرف من " متي "، وذلك لقيام " متي " في كلا وجهيها الشرط والاستفهام بنفسها، وأن " إذا " في الشرط لا تنفك من الإضافة، وذلك عندنا مضعف لها لا مقوّ كما يظن، وأما المكانية فأضعف من " متى " لمنابها عن الفاء في جواب الشرط وتضمنها معناها، ولا بد قبلها من جملة تبعها. وقد تقصيت القول على بابها في غير هذا الكتاب فاعتمدت عليه ولم أُطل هنا بإعادته. وفيها: وتنسى الأُلى جشنا بهم فتركتهم ... لدى خلف يسعون في كل مُرْمَلِ وكذلك القول في ألف الأُلى ليست عندنا منقبلة، ولو قيل إنها منقلبة لقربها من المتمكن أشد من قرب " متى " لكان وجها، وكذلك ألف " لدى " هي كألف " إلى " وأن كانت " لدى " اسما، ألا تراها عوملت معاملة " إلى " مع المضمر فقيل: لديك ولديه، كإليك وإليه.

(29) وقال عمرو بن هميل اللحياني

(29) وقال عمرو بن هميل اللحياني " من الوافر ": ألا من مبلغ المعبيَّ عني ... رسولاً أصلها عندي ثبيتُ وقد قال الفراء في قول الشاعر " من الكامل " لو كان في قلبي كقدرِ قُلامقٍ ... حباً لغيرك قد أتاها أرسلي إنه إنما كَسَّر رسولاً على أرسل، لأنه ذهب بالرسول هنا إلى المرأة، وذلك إن أكثر من يرسل في هذا المعنى النساء دون الرجال، فلما أراد المرأة غلَب فيه معنى التأنيث فكسَّرَ " فَعُولاً " على " أَفْعُل "، و " أفْعُل " مما يكسَر عليه هذا النحو نحو: أتان أتُن وعُقاب وأعْقُب وعناق وأعنق ولسان والسُن، وإذا كان الرسول بمعنى الرسالة فقد كفينا هذا التمحُّل والتطلّب فلتقل إنه كسَر رسولا على أرسُل؛ لأن الرسول ههنا الرسالة وهو مؤنث البتة، وقد ذكرت في أول هذا الكتاب طرفا مما حمل من هذا النحو على معناه دون لفظه كقوله " من الطويل ": فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوصٍ كاعبانِ ومعصرُ

وقوله " من الطويل ": وإن كلاباً هذه عشرُ أبْطُنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشر وفيها: تعلّمْ أنَّ شرَّ فتى أناسٍ ... وأوضَعَهُ خُزاعِيٌّ كتيتُ قال: كتيت: بخيل، يقال إنه لكتيتُ اليد أي: بخيل. أصل ذلك أن الكتيت صوت غليان القدر إذا قلّ ماؤها، فهو أقل صوتاً واخفض حالا من غليانها إذا كثر ماؤها فهو إلى الضيق والقلّة. وقال عمرو بن جنادة " من الوافر ": لقد أسرفت حين كسَوتُ ثوبي ... مرابدَ بالحجازِ لها كتيتُ " قال " أبو عمرو: كتيت: غليان، كتَ يكِتُّ. ينبغي أن يكون هذا اللفظ مشتقا من الصوت، وذلك لأن الكتيت غليان القدر إذا قلَ ماؤها فكأنها تقول: كتّ كتْ، فاشتقّ منه على حكاية الصوت، ومثله قولهم تغطمطت القدر إذا قالت: غِطْ مِطْ حكاية صوتها، ومنه قولهم في صوت البحر " من الرجز ": كالبحر يدعو هيقماً وهيقما ... كالبحر ما لقِمتَهُ تَلقَّما

وأنشدنا أبو علي: يدعو الأشاخيب هشاما تهشُمُهْ وقال: هشام حكاية شخب اللبن، ومنه بيت الراعي " من الطويل ": إذا ما دَعْت شِيبا بجني عُنيزةٍ ... مشافِرُها في ماءِ مُزْنٍ وباقِلِ وإنما الشيبُ صوت مشافرها عند الماء، ومنه قولهم في اسم الفرج: الخاقباق، وإنما سمى بصوته. قال " من الرجز ": قد أقبلت عرةُ من عراقها ... ممدودة الرجل بخاقباقها ومثله الخازباز، وإنما هو صوت الذباب فسمي به وهذا كله شاهد للكتيت، وقد ذهب بعضهم إلى أن العبارات كلها إنما أوقعت على حكاية الأصوات وقت وقوع الأفعال، ولا ابعد أن يكون الأمر كذلك، ثم إنها تداخلت وضورع ببعضها بعض، ألا ترى إن الخضم لكل رطب والقضم لكل يابس وبين الرطب واليابس ما بين الخاء والقاف من الرخاوة والصلابة، وكذلك قَطْع وقَدْع، فقدع الإنسان قطع له عن فعله إلا أن الطاء أصفى من الدال، والقطع بالسيف. ونحوه: أصفى ضربا، وانصع فعلا من القذع الذي إنما هو كلام، وبين الطاء والدال ما بين الفعل والقول، وهذا باب إنما يصحب وبنجذب لمتأمله إذا تفطن وتأتى له ولاطفه ولم يجف عليه، ومنه قولهم: بحثت التراب ونحوه، وهو على ترتيب الأصوات الحادثة عنده، فالباء للخفقة بما يبحث به عن التراب والحاء فيما بعد كصوت رسوب الحديدة ونحوها إذا ساخت في الأرض والثاء لحكاية صوت ما ينبث من التراب فتأمله، فإن فيه غموضا. فأما قولهم: بحثت عن حقيقة هذا الأمر، وبحثت عن حقيقة هذه المسألة فاستعارة للمبالغة في طلب ذلك المعنى، ولا نترك الحقيقة إلى المجاز إلاّ لضرب من المبالغة، ولولا

ذلك لكانت الحقيقة أولى من المجاز، ولقد هممت غير دفعة بتصنيف كتاب في هذا المعنى وترتيبه وكشف معانيه وطرقاته وإظهار وجه الحكمة المعجزة الدالة على قوة الصنعة فيه، ولكن الوقت لضيقه مانع منه ومن الله المعونة. وقال عمرو بن هميل " من الوافر ": خزيمةُ عمُّنا وأبي هُذَيلٌ ... وكلُّهُم إلى عِزٍّ وَلِيت قال أي وليت ذلك منهم. هذا اللفظ منه ربما أوهم إن قوله " وليت " منقطعة الموضع عن إعراب ما قبلها، وليس كذلك بل وليت مجورة الموضع لأنها صفة لعزّ أي إلى عزٍّ وليته، أي كانت لي ولايته وقديمه فحذف عائد الصفة تشبيها للصفة بالصلة، ومنه بيت الكتاب " من الوافر ": أبحت حمى نهامة بعد نجدٍ ... وما شيء حميت بمُستباحِ وله نظائر.

(30) وقال عامر بن سدوس الخناعي

(30) وقال عامر بن سدوس الخناعي " من الطويل ": ألم تسلُ عن ليلى وقد نَفِدَ العُمْرُ ... وأوحش من ليلى والموازِجُ والحَضْرُ قال: الموازج والحضر موضعان. يجوز أن يكون الموازج فواعِلاً من مَزَجتُ كعوارض ودوارس، ويجوز أن يكون من الأزج فيكون مفاعَلاً، خففت همزته فخلصت، قال العجاج " من الرجز ": عَنْسٌ تخالُ خلقَها المُفَرَّجا ... تشيدُ بنياناً يُعالي أَزَجا وفيها: وإنْ أمْسِ شيخاَ بالرجيع والْدّةً ... وتُصبحُ قومي دونَ دارهمُ مصْرُ قال مع والده، قال وتُصبح جواب. لام أمسيت ياء لقولهم: لكلّ همًّ من الهموم سَعَه ... والصبحُ والمسيُ لا فلاحَ معه

وقد أبدلت هذه الياء جيماً. قال: حتى إذا ما أمسجت وأمْسَجا وفي هذا عندي أقوى دليل على صحة ما تدعيه من أنّ العرب إذا هجرت أصلا من الأصول وانصرفت عنه فإنها تنويه وتعقيده، ألا ترى أنه لولا أن اصل " أمست " عنده أمْسَيَت لما قال: أمسجت، فإذا كان كذلك علمت به أن أصل دعت: دَعَوَتْ، وأصل قضتْ: قَضَيَتْ، فبهذا ونحوه ادعت علماء العربية إن كثيرا من هذه الألفاظ المستعملة المطردة لها أصول مرفوضة مطرحة، وإنها مع اطراحها وهجرها فإنها مراعاة معتدة وإن ظهور ما ظهر منها في بعض الأحوال دليل على تقدير نظائره وإرادة مثله مما عدا استعماله.

(31) وقال مرة بن عبد الله اللحياني

(31) وقال مُرّة بن عبد الله اللّحياني " من الوافر ": تركنا بالمراحِ وذي سُحيم ... أبا حيّان في نفرٍ منافي " مراح ": فِعال من المرح، وميمه أصلية، ولا يكون من الرَوَح لأنه كان يلزم فيه مِرْوَح، فيصح كما يصح نحو: مروحة ومِخْيَط لانه منقوص من " مِفعال " على ما بينه الخليل. (32) وقال إياس بن جُنْدب بن المعترض " من الوافر ": ألا " يا " ليت شعري يا لّقومٍ ... أجَهْلْ يا أبن بجدة أم غرام في هذا البيت دلالة على فساد قول من قال إن قولهم: " يا لَزيد " معناه: يا آل زيد، ألا ترى إنه لا تضاف " آل " هذه " إلا " إلى الأخص الأعرف فتقول: هؤلاء آل الله، " قال سبحانه ": (أدخلوا آل فرعون اشَدَّ العذاب). فلا تقول: رأيت آل رجل، ولا: كلمت آل امرأة وقد قال: " يا لقوم " وهو نكرة غير معرفة فقد ثبت إن معناه يا قوم، زقزم ليس من الأعلام ولا من الخواص.

(33) وقال خالد بن زهير بن المجرب

(33) وقال خالد بن زُهير بن المُجَرِّب " من الطويل " لعمر بني هند لقدّ دقَّ مضغكم ... ويؤتم إلى أمرٍ إليّ عجيبِ قال: " دق مضغكم ": صغر شأنكم، هذا تفسير على المعنى لا على اللفظ، ألا ترى إن أحدا لا يسمه الشأن مضغاً. وتفسير معناه إنه استصغر شأنهم فسماه مضغا لأن هذه كلمة بُكنى بها عن الضعة والصَّغار كقولك: جاءني يمضغ كلامه، أي وكلامه فاتر ساقط. ومنها: ولم يُجْدِ فعلي نقرةً بُمسافعٍ ... فيُثنى أمناً كان غير مثيب معناه: فعلي بمسافع، فإن حملته على هذا كان فيه الفصل بالأجنبي، ألا ترى إن الباء كانت تكون من صلة " فعلي " وقد فَصَلْتَ بينهما بقولك " نقرةً " أجنبية منهما لأنها منصوبة ب " يُجْدِ " فإذا كان كذلك حملته على مضمر محذوف يدل عليه " فعلي " كأنه قال فيما بعد: فعلت بمسافع، ونظيره قول الله سبحانه: (إنَّ الذينَ كفروا يُنادَون لَمَقْتُ الله اكبرُ مِنْ مقتِكم أنفسكُمْ إذ تُدْعَون إلى الإيمان فتكفرون)، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع.

(34) وقالت أم تأبط شرا ترثيه

(34) وقالت أمُّ تأبَّطَ شَرَّاً ترثيه يُجَدِّل القِرْنَ ويُروى النَّدْمان ... ذو مقِطٍ يَرْمي وراء الأخوان المأقط: مجتمع الجيش للحرب وهو " مَفْعِل " من الأقِط لأنه لبن يجمع، وقالت أيضا فيه: وآ ابناه وآ أبن الليل ... ليس بُزمَّيل شروب للقيل يضرب بالذيل ... كمُقْرَب الذيل زُميل: ضعيف وهو " فُعَّيل " من الزِمل والزميل، وهو الرديف كأنه ملصق مستضعف.

(35) وقال شاعر بني قريم

(35) وقال شاعر بني قُريم " من الوافر ": تأبطُ سَوأةَ وَحَملْتَ شَرّاً ... لعلك أن تكون من المصابِ أي الذين يصابون، ذهب بالمصاب إلى الجنس كقوله أنشدناه أبو علي وقرأته على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى " من الرجز ": إِن تنجلي يا ميّ أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظاعن المولّى يريد في الظاعنين المولين وانشد أبن الأعرابي " من الرجز ": يا حبذا نضحك بالمشافر ... وبالعثانين وبالحناجرِ على رؤوسٍ كرؤوس الطائر يريد: الطير. وفيها: فزلتم تهربون ولو كرهتم ... تسوقون الخزائمَ بالنقابِ قال: يريد ما زلتم، وهي لغة لهم. الشائع في هذا إنما هو حذف " لا " كقوله " من الطويل ": فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي: لا ابرح، إلا إنه شبه " ما " ب " لا " كما شبه " لم " ب " ما "، قال الأعشى " من المتقارب": أجدَّك لم تغتمض ليلة ... فترقدَها مع رُقّادها أي: ما تغتمض، وأنشدنا أبو علي " من الوافر ": أجدك لن ترى بثُعيلبات ... ولا بيدانَ ناجيةً ذمولا أراد " ما ترى "، وذلك إن الفعل بعد " أجدَّك " إنما هو للحاضر والحال ونفى فعل الحال إنما هو ب " ما " دون غيرها. وينبغي أن تكون " الخزومة " وهي البقرة سميت بذلك لأنها تخزم إلى غيرها أي تشد إليها ليحرث عليها، وكذا العرف في البقر في غالب الأمر. قال الله عز وجل: (لا ذلولٌ تُثيرُ الأرْضَ ولا تسقي الحَرْثَ).

(36) وقال شاعر فهم واسمه كاثف

(36) وقال شاعرُ فَهْم واسمه كاثف " من الطويل ": غَداةَ تساهمنا الطريقَ فبزنا ... سوام كقَلْس البحر جونٌ وأبْقَعُ قال: قلس البحر: السحاب، ينبغي أن يكون سمى بذلك تشبيها بأحاليل اللبن أي مجاريه، وذلك لأن الوادي مجرى السيل، ولذلك قيل له وادٍ لأنه فاعل من " ودَى يَدى " أي سال، قال أبو علي: ومنه الوديّ لما يخرج من جذع النخلة الأكبر كأنه شيء سال منها، ومنه عندي الدية، ألا ترى إنه شيء يُتَحلَّبُ دفعة بعد أخرى على ترتيب أدائها من المُؤدِّي لها إلى مستحقها فكأنها استحلبت شيئا فشيئا. ولم يصرف " أحليل " لأنه ذهب به إلى البقعة، ومثله قراءة من قرأ: " إِنَّكَ بالوادي المُقَدَّسِ طُوى " فلم يصرفه للتعريف والتأنيث. ومثله قول طفيل " من الطويل ": جلبنا من الأعراف أعرفِ غمرةٍ ... وأعرافِ لُبْن الخيل من خير محلبِ و" لُبْن " اسم جبل، إلا أنه ذهب به إلى تأنيث البقعة فلم يصرفه. وقوله " لأنبئت " بعد قوله " ولو ساءلت " فيه ترك الغيبة إلى الحضور ومثله قوله الله سبحانه: (الحمد لله رب العالمين) ثم قال: (إِياكَ نعبد)، وقال عنترة " من الكامل ": شطت مزار العاشقين وأصبحت ... عسراً عليّ طلابك ابنة مخرم

(37) وقال الجموح السلمي

(37) وقال الجَموح السلمي " من الطويل ": فلا وأبيك الخير تهلك بعدها ... سوى هرم وزلت تكسب مغنما هو على حذف المضاف أي: سوى هُلْك هرم، وذلك لأنه كان ضربه ضربا ظن به إنه مات ولم يكن الأمر كذلك.

(38) وقال المذال بن المعترض

(38) وقال المُذال بن المعترض " من الطويل ": إذا ما قتلنا بالمحمدِّ مالكٍ ... سراةَ بني لاي فزاح غليلي قال: المحمد الذي يُحمد من الرجال، لم يمرر بي هذا اللفظ صفة إلا في هذا الموضع، وقياس من قال الحارث والعباس والمظفر أن يقول في العلم اسم رجل: " هذا المحمد " كقوله: " هذا العباس " إلا أنه لم يمرر بنا في الاستعمال أن يراد به الشيء بعينه ولو قاله قائل لم يكن عندي مخطئا قياسا على الحارث والحسن والحسين والمظفر والمؤمل ونحو ذلك، وعلى أنه لو فعل ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى به من كل أحد لأنه لا أحد أحق بأن يُضعف ويكرر حمده منه عليه السلام. وقال المذال أيضا: يا عين فأبكي المالكين أول ... الفوارس الأضايف المحول ويروي: فوارس، قال جمع مالك، وقال: الأمور التي تنزل بهم كأن الأمر حول من غيرهم إليهم، وقد يكون الأضايف جمع ضيف كأنه تحول من عند من لم يرض ضيافته إليهم. هذا جميع ما قاله السكري في التفسير، وأما قوله: " أول " فيحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون نكرة مصروفا كقوله: " فعلنا هذا أولا وآخرا "، إلا أنه لم يطلقه وجاء به على قوله: وآخذ من كل حي عُصُم ولم يقل عصما، وعلى قوله " من الرجز ": أعددتُ للوِرد إذا الورد حَفَز ... غربا جرورا وجُلالا خُزَخَز

ونحو ذلك. والآخر: أن يكون معرفة بالمضاف المنقطع هو دونه فيكون في موضع ضم كقولك " ابدأ بهذا أول "، وقيده كما قيده في القول الأول لأنه بناه على أنه من السريع لا من الرجز، وأما من روى " فوارس " بلا لام فهو اظهر أمرا في الوزن، لأن وزن قوله: فوارسل: " فواعلن " على مَنْ رواه " الفوارس " باللام، فإنه خزم لام التعريف، وفي هذا ضرب نمن الضعف، وذلك أنه قد ثبت عندنا بوجوه الأدلة القوية أن العرب قد أجرت لام التعريف فيما عرفته مجرى الجزء من الكلمة غير المنفصل منها، والخزم إنما يجوز في حرف المعنى إذا لم يبين مع ما دخل عليه بناء بعضه من بعض نحو واو العطف وفائه ولام الابتداء وغير ذلك إلا أنه يشبه لام التعريف بحرف العطف في نحو قولك: " وهو زيد " ونحوه، ألا ترى انه أسكن الهاء وهذا يوجب ألا ينوي فصل الواو نته لما يلزم في ذاك من نية الابتداء بالساكن. وأيضا فقد رووا بيت عبيد: لله در الشباب والشعر الأسود ... والراتكات تحت الرجالِ فهذا لا يتوجه إلا على خزم لام الجر ولام التعريف جميعا فيكون الابتداء كقوله: لا هدررش " فاعلاتن "، وإذا جاز أن يحذف مع حرف التعريف لام الجر كان حذفه وحده أولى بالجواز. وأما قوله: وقد تكون الأضايف جمع ضيف، فإن " فَعْلاً " لا يكسر على " أفاعل " ولكن يجوز أن يكون كسر ضيفا على أضياف ثم كسر أضيافا على أضايف ثم حذف الياء الزائدة على حد قوله " من الرجز ": قد قربت سادانها الروائسا ... والبكرات الفسجَّ العطامسا

إلا أنك مع هذا جعلته جمع ضيف فسد المعنى لأنك تجعل الفوارس هم الأضياف، وليس المعنى على هذا، إنما المعنى: انهم يقرون الأضياف فهذا ظاهره كما تراه منتقض ولكن فيه عندي وجهان سوى هذا الظاهر، أحدهما: أن يكون على حذف المضاف كأنه قال الفوارس ذوي الأضياف أو مُحلى الأضياف ثم حذف المضاف كقولها " من البسيط ": يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل الموارد ما في ورده عار أي: ما في ترك ورده، فهذا إن حملته على ظاهره فسد معناه، وان حملته على حذف المضاف استقام أمره فهو وعروض البيت الذي نحن في تفسيره سواء، ومثله قوله " من المتقارب ": وأهلك مهر أبيك الدواء ... ليس له من طعام نصيب أي ترك الدواء، وقال الآخر " من الطويل ": وإني لاستحيي وفي الحق مستحى ... إذا جاء باغي العرف أن أتعذرا أي: في تركه، أنشدنا أبو علي هذين البيتين فهذا وجه. وأما الثاني: وهو أغمض من هذا، فإن يكون " الضايف " جمع إضافة على أنه وصف بالمصدر على قولك: هذا رجل عَدْل، أي: عادل، وماء غور أي غائر كأنه جعله هو الشيء بعينه على قوله: وهن من الأخلاف بعدك والمطلِ وعلى قوله " من الطويل ": لخلابة العينين كذابة المنى ... وهُنَّ من الأخلاف والولعانِ فكذلك هذا، كأنه جاء به على قوله: هذا رجلٌ إضافة، إذا كثرت أضافته الأضياف كأنه جُعل مخلوقا من إضافة كما أن الأول كأنه

جعلن مخلوقات من الأخلاف والمطل والولعان ثم عكس المصدر على حد قوله " من الطويل ": وبايعت ليلى في الخلاء ولم يكن ... شهود على ليلى عدول مقانع فكما كسر " عدلاً " وإن كان في الأصل مصدرا فكذلك كسر الإضافة على أضايف، وأصلها أضاييف فحذف الياء الثانية التي هي بدل من ألف " إِفعالة "، ورد ما كان حذفه من إضيافة لالتقاء الساكنين، العين كان أو ألف " إِفعالة " على خلاف الرجلين فيه، من قبل إنه قد زال في مثال " مفاعيل " التقاء الساكنين فوجب الرد كما تقول في تحقير مبيع " ومقيل وجمعهما ": مُبييع ومقييل ومباييع ومقاييل فترد موضع العين أو واو " مفعول " لزوال التقاء الساكنين ونحوه قول الآخر " من الرجز ": سَلِطْ على زرع الجنى الوالج ... من الدبا ذا طبقٍ أفائج بالهمز، قال الفراء همز ألف " إِفعالة " وهي مصدر أفاج افاجةً، وذهب إلى أن المحذوف عين الفعل كقول أبي الحسن، والوجه عندي إنا لا وجه له لأنه يريد " أفاعيل " فكان فياسه إن حذف الزائد أن يقول: أفاوج، إلا إنه عندي كهمز مصائب، ثم تنصب بالأضايف كما ترى المحول لأنها مصدر فعمل النصب. قال قلت: فكيف يجوز إعمال المصدر مع جمعه؟ فإن ذلك جائز قياسا وسماعا، أما السماع فلما ورد: وواعدتني مالا أحاول نفعه ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب

فنصب بمواعيد وان كان مجموعا، وهذا مما نبه عليه أبو علي، وقد مر بي أنا غير هذا هو قول الأعشى " من البسيط ": كما جربوه فما زادت تجاربهم ... أبا قدامة إلا المجد والفنعا فالوجه إن يكون " أبا قدامة " منصوبا بتجاربهم لامرين، أحدهما: إنه اقرب إليه من " زادت "، والآخر: إنه قد نصبه قبل ذلك ب " جربوه " فكان الأليق أن ينصبه بتجاربهم لأنه مصدره كقولك: ضربته فما زاد ضربي جعفرا إلا خبالا. فالمحول على هذا منصوب بنفس الأضايف، وعلى القول الأول منصوب بفعل محذوف يدل عليه قوله " الأضايف " أي ذوي الأضايف، فكأنه قال: يضيفون المحول، كما إن قوله: تاجٍ طواه الابنُ مما وجفا ... طيّ الليالي زلفا فزلفا سماوةَ الهلال حتى احقوقفا كذلك ألا ترى إن تقديره عنده صيّره مثل سماوة الهلال، ودل طواه على صيره كذلك، فأما عند أبي عثمان فإنه منصوب ب " طي الليالي " والذي قال كل واحد من الجلين صحيح مستقيم بل إذا جاز بإضمار فعل لم يتقدمه شيء من لفظه كان إضماره بحيث يتقدمه لفظه أعني في الأضايف ويضيفون أولى.

(39) وقال حبيب أخو بني عمرو بن الحارث

(39) وقال حبيب أخو بني عمرو بن الحارث " من الكامل ": ولقد نظرتُ ودون قومي منظرْ ... من قيسرونَ فبلقع فسلاب ينبغي أن يكون النون في قيسرون أصلا لوقوعها موقع الجيم من خيسفوج والزاي من عيضموز ونظيرها النون من حيزبون، ولو كانت نونها زائدة لقال من قيسرين فجعل الإعراب في الواو، ألا ترى إلى قلة زيتون على أن بعضهم جعل زيتونا: " فيعولا " واشتقه من " الزَّين " وإن لم يكن مألوفا هربا من حمله على " فَعلون " وكذلك قال أبو الحسن في الماطرون إنه من بنات الأربعة لما رأى النون معربة تباعد عن زيتون، وإذا جاز أن يحكم أبو الحسن بأصلية نون الماطرون مع إنه لا نظير لها من الأصول يقابلها لأنه ليس في الكلام مثل " فاعَلُول "، كان الحكم بأصلية نون قيسرون لوجودك لها أصلا قابلها وهو جيم خيسفوج أولى، ومثل ذلك عندي نون أطربون وهو أحد بطارقة الروم، قال عبد الله بن " سبرة " الحرشي " من البسيط ":

وإن يكن أطربون الروم قطعها ... فإن فيها بحمد الله منتفعا فثبات النون مع الإضافة دليل على كونها أصلا، وإذا كانت أصلا فالهمزة في أولها إذن أصل ومثال الكلمة " فَعْلَلُون " بمنزلة " عضرفوط "، ألا ترى أن بنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أوائلها إلا فيما كان جاريا على فعله نحو: مُسَرهْفَ ومُعَذْلَج.

(40) وقال الجموح

(40) وقال الجموح " من البسيط ": لا دَرَّ درُّك إني قد رَميتهمُ ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذري بِمَحدودِ يريد: لولا أن حددت فحذف " أن " وقد تقدم القول على نظيره، وجواب لولا محذوف يدل عليه ما يليه فكأنه قال: لولا أن حددت لا غنيت أو لأثّرت، فحذف الجواب ودَلَّ عليه بقية الكلام وما ضمنه خبره، وقد لامته امرأته واستعجزته لاهِ أبن عمك أني قد رميتهمُ ... حتى رأيت سَوما غير مردودِ أراد: للهِ أبن عمك، فحذف حرف الجر ولام التعريف، فإما ما يدل على حذف حرف الجر فهو أن هذه اللام الباقية مفتوحة ولام الجر مع المظهر مكسورة. وأما ما حكى فيها من الفتح مع المظهر فشاذ، وكما إن فتحة لام " لاهِ " تدل على إنها ليست لام الجر فكذلك أيضا فتحتها تدل على إنها ليست لام التعريف من حيث كانت لام التعريف ساكنة كما إن لام الحر مكسورة، فالباقية إذن إنما هي لم " إِلاهِ " أو لام " لاه " على افتراق قولي سيبويه فيه. ووزن " لهِ " من قوله: لاه ابن عمك في قوله أن أصل الاسم " لاه ": " عال "، لأن الألف التي هي همزة محذوفة، ووزنه في قوله الآخر أن أصله " لاه ": بوزن " عاب وناب ": " فَعَل " ولم يحذف منه في القول الثاني شيء. وخالف ابن يزيد صاحب الكتاب في هذا فقال إن اللام من قوله " لاهِ إبن عمك " هي لام الجر وقد حذفت لام التعريف ولام " لاهِ " الأصلية. قال: وإنما انفتحت في " لاهِ ابن عمك " وإن كانت للجر والاسم مظهر، من قبل أنها جاوزت الألف فلزم فتحها قبلها، وهذا تعسف والذي دعاه إلى ارتكابه هربه من حذف الجار. وقد حكى أبو العباس نفسه إن رؤبة كان يقال له:

كيف أصبحت؟ فيقول: خير عافاك الله. يريد: بخير، ويحذف حرف الجر وحكى سيبويه: اللهِ لأقومَنَّ مقصورة الألف يريد واللهِ لأقومَنَ، ويحذف حرف الجر وأنشدوا: رسمِ دار وقفت في طلله ... كدت اقضي الغداة من جَلَلِه يريد: رب رسم دار. فإذا جاز هذا إلى غيره مما حذف حرف الجر منه جاز أيضا حذف حرف الجر في قوله: " لاهِ ابن عمك "، وروينا عن قطرب أن فيها لغات: " لاهِ ابن عمك " و " لهىُ ابن عمك " و " لهِ أبوك " بهاء مكسورة، و " لهُ أبوك " بهاء " مضمومة " وقد حكى سيبويه أيضا قولهم " لَهِيَ أبوك " وقد شرح هذا في موضع غير هذا. وفيها: حتى إذا انقطعت مني قرينتُهُ ... أخرجتُ من ناجزٍ عندي وموجودِ القرينة: النفس، سميت بذلك لمقارنتها الجسم وفيها لغات: القرينَة والقرونةُ والقرون والقَرْنَة، وقوله: " أخرجت من ناجزٍ عندي " ينبغي أن يكون على حذف المفعول وإقامة صفته مقامه، كأنه قال: " أخرجت دمعاً من ناجز "، ويجيء على قول أبي الحسن أن تكون " من " زائدة كأنه قال: أخرجت ناجزاً عندي وموجوداً، كقوله في قول الله سبحانه: (ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها من بَرَدٍ). أي جبالا فيها برد، وحكى عنهم: " قد كان من مطر " أي: قد كان مطر، " وقد كان من حديث فخلِّ عني " أي: قد كان حديث، وأما سيبويه فلا يرى زيادة " من " في الواجب.

(41) وقال وليعة بن الحارث

(41) وقال وُلَيْعَة بن الحارث " من الوافر ": قتلتُ بهم بني ليثِ بن بكسرٍ ... بقتلي أهلِ ذي حزن وعقل أبدل: قتلي من " هم " في " بهم " إلا أنه أعاد العامل وهو حرف الجر، ومنه قول الله سبحانه: (قال الملأُ الذين استكبروا من قومه للذين استُضْعِفوا لِمَنْ آمَنَ منهم) فأعاد اللام، وهذا مما يدلك على أن البدل ليس من جملة المبدل منه ولأجل ذلك جاز: يا أخانا زيدُ أقبِل، فاعرفه. (42) وقال غالب بن رزين شاعر من هذيل " من الطويل ": فيا لوليعٍ لو هداك مُحَرَّبٌ ... إلى يومِهِ لِم يُمْسِ ظمآن جائعا وهذا أيضا مما يدلك على أن: يا لبكر ويا لزيد إنما معناه: يا بكر ويا زيد، وليس كما يظن به أنَّ معناه: يا آلَ بكر، ألا تراه قال: لو هداك، ولم يقل: لو هداكم، فكأنه قال: " يا وليعة لو هداك ".

(43) وقال محرف بن زبير

(43) وقال محرِّف بن زبير " من الرجز ": نحن منعناها من العباهِله ... من ضارخٍ من خلفنا ذي واسله قال: ذي واسلة أي: ذي قرابة، هذا " فاعِلة " بمعنى: " فعلية " أي: وسيلة، وقد تعلم إن السين أخت الصاد، فالوسيلة قريبة من لفظ الوصيلة ومن معناها وهذا مما قدمت لك ذكره من تقارب الالفاظ لتقارب المعاني نحو: النضحِ والنضخ، والنفث والنفذ، والحظ والحثَ والحذ، وعليه قولهم: مَتّ ومدّ ومطّ، حتى إنهم قالوا في هذه الأحرف الثلاثة أن معناها واحد وانشدوا للعجاج " من الرجز " شاطٍ يمطّ الرسن المحملجا ولو شئت لقلت إن اكثر اللغة كذلك.

(44) وقال أبو عمارة بن أبي طرفة

(44) وقال أبو عمارة بن أبي طرفة أنت تجيب دعوة المضوف قال معناه: المُلْجأ المُضاف. وجه ذلك عندي أنه بنى اسم المفعول هنا من الفعل على حذف زيادته وهي الهمزة من " أضفته فهو مُضاف " كأقمته فهو مُقام وأدرته فهو مُدار، فُعِلَ هذا في اسم المفعول كما فُعِل في اسم الفاعل نحو: أبقل المكان فهو باقل وأورس فهو وارس وكقوله " من الرجز ": يخرجن من أجواز ليلٍ غاض أي: مُفْضٍ، وكقوله: يكشف من جُماته ولوُ الدال ... عباءةً عبراءَ من أجنٍ طال أي: المدلى، ونظيره ما جاء من اسم المفعول على حذف الزيادة قوله " من الطويل ": إذا ما استحمت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق ولا يقال: ودعته وأودعته من الدّعة، ومثله من حذف زيادة المصدر قوله " من الخفيف ":

عمرك الله ساعةً حدثينا ... ودعينا من قول مَن يؤذينا أي: تعميرك الله، وقولهم: جاء زيد وحده أي: أوحد نفسه بالمجيء إيحادا، وقول بعض بني أمية: دَعْ عنك غلق الباب أي: إغلاقه. وإذا كان كذلك فقد كان قياسه أن يقول: أنت تجيب دعوة المضيف لأنه من الياء لقولهم الضيف، إلا أنه قد جاء نحو هذا، أنشدوا " من الطويل " ويأوي إلى زُغْبٍ مساكين دونهم ... فلاً لا تخطاه الرفاق مهوب وقياسه " مهيب "، لأنه من الهيبة، وحكموا أيضا: " رجل مسور به " من السير و " طعام مكول " وهو من الكيل، وأصلها: مكيول وميسور، فحذفت عين " مفعول " وأقرت واوه، وهذا مما يؤكد قوله خلاف قول أبي الحسن، وكذلك قوله " مضوف ". وفيها: وكل سهم حشر مشوف لك في " حشر " قولان. أن شئت قلت أنه أخرج حشراً على أصله، وأصله حَشِر، فأسكن تخفيفا، ويؤكد ذلك أن " فَعِلاً " في الصفات أكثر وأقيس من " فَعْل "، أما الكثرة فمن السماع، واما وجه القياس فلأن

سكون العين هو الأصل، والاسم هو الأول فكثر " فَعْل " في الأسماء، وحركة العين زيادة وفرع، والصفات ثوان وفروع فكثر " فَعِل " في الصفات ليضم الفرع إلى الفرع كما ضم الأصل إلى الأصل، وأيضا فإن " فَعِلاً " بوزن الفعل نحو: علم وسلم، والصفة أشبه بالفعل و " فَعْل " مثال لا يوجد في الأفعال أبدا فلذلك كان في الصفة قليلا منفردا، وإن شت قلت أنه في الأصل " فَعل " ساكن العين إلا أنه اضطر إلى تحريكه وكسره فقال " حَشِر " كما انشده أو زيد: علامَ قتل مسلم تعبدا ... مذ ستة وخَمِسون عددا فكسر عين " خمسون " للحاجة إلى إقامة الوزن فكسر ولم يفتح على العرف نحو الخَفَف والحَشَك، له كأنه راجَعَ أصلا، ألا ترى أن " فَعْلاً " قد تجد اصله " فَعِلاً " نحو قولهم في: عَلِمَ، عَلْم، وفي فَخِذ، فَخْذ، فجرى في مراجعة الأصل نحواً من صرف ما لا ينصرف وقصر الممدود. وفيها: ولم تَشْظَ حين الغَمْز والتعطّفِ لام " الشظا " مشكلة، ولا دلالة في شَظِيَ يشظى، الا انهم قد قالوا فيما يساوقه الشُواظ والوشيظة، ولم أرَ هنا الياء، وهذا مذهب كان أبو علي يأخذ به. ومغنى الوشيظ والشظا متقاربان لان الوشيظة قطيعة عظم لاصقة بالعظم الصميم، وهذا نحو الشظا والشظية، فهذا يقوي الواو.

(45) وقال حدير شاعر بني ذؤيبة

(45) وقال حُدير شاعر بني ذؤيبَة " من الوافر ": ألم تعلم بمحبسنا حياشا ... وحيَّ خويلد حتى استقاما قال: حياش اسم رجل وهو من " ح وش "، وكأنه مصدر سمي به من قولهم: حُشْتُ الصيدَ حَوْشاً وحياشاً، ولو صُغت من " حُشت " اسما غير مصدر لقلت " حواشاً " في " فِعال " منه، ومنه قول العجاج: يَخْلِطْنَ بالتأنُسِ النَّوارا فصح، وان كان نارينور معتلا، لانه أراد الاسم لا المصدر، ومثله عندنا تسميتهم الرجل " إياساً " وهو كحِياش من حاش يحوش، لانه مصدر أشبه إياساً، أي اعطيته. أنشدت ابا علي لرؤبة يا قائد الجيش وزير المجلسِ ... أُسنى فقد قلت رفاد الأوّس فاستفصحه وقال: لو كان أبو عثمان يصرف له ما زاد على هذا، وذهب السكري في غير هذا الكتاب إلى أن " إياسا " مصدر أيست من كذا، قال أبو علي رحمه الله: وليس كذلك، وإنما هو مصدر أُسْتُ أي أعطيت كما سموه عَطاءً. وقد تقدم ذكر هذا ولا مصدر ل " أيست " لانه مقلوب من " يئست "، ولو كان أصلا غير مقلوب لاعتل كهبت لكنه صَح لانه في معنى ما صحت عينه وهو " يئست " فاعرفه:

(46) وقال عقيل بن زياد الهذلي

(46) وقال عقيل بن زياد الهذلي " من الوافر ": ولو جاريتني لمدى بعيد ... تجرَّدَ لا ألفُّ ولا عَثورُ أي: تجرد مني رجل لا آلف ولا عثور، وهو الرجل المذكور، وهذا هو الذي كان أبو علي رحمه الله يسميه التجريد، ولقد احسن العبارة عنه ونحوه قول طرفة " من الرمل ": جازت البيدَ إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفورٍ خَدِرْ وهي اليعفور، وقد تقدم القول على هذا المعنى مستقصى.

(47) وقال عبد الله بن أبي تغلب الهذلي

(47) وقال عبد الله بن أبي تغلب الهذلي " من المتقارب ": أرقت ومالك ألا تناما ... وبت تكابد ليلاً تماما قد قالوا: ليل التمام، فأضافوه، وقال هنا: ليلاً تماما فوصف به، قال " من الطويل ": يُسَهَّدُ في ليل التمام سليمُها ... لحلي النساء في يديه قعاقع ومثله مما يوصف به تارة ويضاف إليه تارة قولهم: " قدحٌ نضارٌ "، و " قدحُ نضارٍ "، و " سَهْمٌ غَرْبٌ "، و " سَهْمُ غربٍ "، و " عنقاءٌ مُغْرِبٌ "، و " عنقاءُ مغرَبٍ ". وله نظائر وفيها: إذا الموتُ أن من مَعْشَرٍ ... فئاماً يعود فيُفنى فئاما قال: الفئام جماعة من الناس، هو عندي من قول زهير " من الطويل ":

ظهرن من السوبان ثم جزعنه ... على كل قينى قثييب ومفأمِ ألا تراهم قالوا في تفسيره أن المفأم: المشبع الصبغ، والتقاؤهما انه كأنه جمعت فيه أجزاء من الصبغ كثيرة، وكلام العرب كله جار مجرى الأمثال. وفيها: ربيعاُ وصخراً ولا جابراً ... وعِصمةَ أمسوا عظاماً وهاما ألف " هامة " بدل من واو قياسا واشتقاقا، أما القياس فالحمل على الأكثر، وأما الاشتقاق فلأنَّ الهامة الميت، قال " من الطويل ": تمتع بليلى إنما أنت هامة ... من الهام يدنو كل يوم حمامها قرأته على أبي سهل عن السكري، وقرأت عليه عنه أيضا " من الطويل ": كذلك ما كان المحبون قبلنا ... إذا مات موتاها تزاورُ هامها والتقاؤهما أن الميت عندهم في حكم النائم، والنائم في حكم الميت، وردت بذلك الأشعار ومطرد الاستعمال، قال " من الطويل ": ألمّا يئنْ للنائمين انتباهه ... فقد طال ذا نوما وطال بكائيا وهو كثير جدا، وقد قلوا: هَوَّم إذا نام، أنشدنا أبو على رحمه الله لذي الرمة " من الطويل ": وألا ينال الركب تهويم وقعة ... من الليل إلا اعتادني منك زائر وقرأت عليه للشنفري، وأنشدناه أيضا أبو بكر المراغي محمد بن علي عن أبي إسحاق " من الطويل ":

فلم تَكُ إلا نبأةٌ ثم هَوَموا ... فقلنا قطاة ريع أم ريع أجدلُ فهذا واضح كما تراه. وفيها: تنال بهم وبأمثالهم ... بحار العلاء ونأبى الظُلاما أراد الظلامة، فيجوز أن يكون حذف الهاء كما حذفها الآخر من قوله " من الطويل ": أبلِغ النعمان عن مألُكاً ... انه قد طال حبسي وانتظار يريد: مألكةٌ، ثم أنه أطلق الروي فألحقه الألف، ويجوز غير هذا وهو أن يكون إبدال هاء " الظُلامة " ألفاً كما أبدل الآخر آلاف من قوله " من الوافر ": ولاعبَ بالعشي بني بنية ... كفعل الهر تلتمس العظايا

يريد: العظاية، وقال أبو عثمان في " العظايا " انه شبع ألف النصب بهاء التأنيث، فهذا قول، والأول اسلم منه فبدّل بعد أواري الجياد ... نَفْحَ جنوب تثير الرَّغاما واحد الأواري: آرى، ومثالها " فاعول " كعاقول وجاروف، وهو من: " أرت القدر تأرى "، اذا التصق بها اسفلها، فإذا كسر قيل أوارى كعواقيل قال " من البسيط ": إلا الأواريّ لأياً ما أينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ثم حذفت الياء الأولى المبدلة من واو " فاعلول " فبقى " أوار " كقولهم في " أواقيّ ": أواق، قال: أواقي سدى تغتالهن الحوائك ولك تخفيف كل ما كان من هذا النحو مثقلا نحو قولك في: أمانيّ: امان، وفي بخاتيّ: بخاتٍ، وفي اواخيّ: أواخٍ، وفي مصاريّ: مصارٍ. وفيها: ولم يُبق منها رثا الهالكين ... ألا تجملها والقَواما

قال: أي مرثيتها اياهم، ينبغي أن يكون وأحدهما رثية كمشية ومشى، ويسرة وسير، يراد به الحال. وفيها: ترى الخيلَ حولِِ مناديهم ... رواكدَ متشجراتٍ صياما ينبغي أن يكون واحد " المنادي ": مندى، وهو النادي أي المجلس، ويجوز أن يكون جمع: مندّى كقوله: جدب المُندّى شئز المعوَّقِ وفيها: على كل شوهاءَ فيّاضة ... ونَهْدِ المراكل يُرى اللجاما قال: يشرى: يحرك، هو من قولهم: " شرى البرق يشري " إذا اضطرب فلامه مشكلة وقد تقدم القول عليها، وإذا أشكل أمر اللام فحملها على الياء أولى، وانشد ابن الأعرابي " من البسيط ": وانني حوث ما يُشرى الهوى بصري ... من حوث ما سلكوا أدنو فأنظر كذا رواه " يشري " بالشين معجمة ورواه غيره: " يسري " بالسين غير معجمة من فوق، ورواية ابن الأعرابي أسَدُّ وأعلى.

وفيها: فذلك خُطّ لنا في الكتابِ ... ما كان طوقٌ يزين الحماما " ما " ها هنا مصدر إلا إنها منصوبة على الظرف كقولك: " لا أكلمك ما طار طائر " أي مدة طيران الطائر، ولا يجوز أن ينصبها " خُطّ " لانه ماضٍ، و " ما كان طوق يزين الحماما " مستقبل ولا يحسن ان يتناوله " لنا " لأنها هنا فارغة غير مشغولة لتعلقها ب " خط "، والظرف أو حرف الجر اذا تعلق بالظاهر لم يجز أن يتعلق به غيره، وإذا كان كذلك حملته على مضمر يدل عليه ما قبله وكأنه قال: " هو لنا ما طار طائر "، ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يجعل لذلك خبرين أحدهما " خط " والآخر " لنا " على قولهم " حلو حامض "، فإذا كان كذلك علقت " لنا " بمحذوف، وعلقت " ما كان طوق يزين الحماما " بقولك " لنا " كقولك: " هذا لنا أبداً ".

(48) وقال رجل من هذيل يذكر أباه

(48) وقال رجل من هذيل يذكر أباه " من المتقارب ": نفاني وكنت ابنه حقبة ... غليه أؤول إذا أُنْسَبُ ينبغي أن يكون الناصب ل " حقبة " ما في ابنه من معنى الفعل، فكأنه قال: كنت منسوبا إليه معروفا ببنوته ومثل ذلك ما انشده لجرير " من الطويل ": تركت بنا لوحاً ولو شئتِ جادنا ... بعيد الكرى ثلج بكرمان ناصح فنصب " بُعيدَ الكرى " بما في ثلج من الثلج لانه بمعنى بارد، وأنشدنا أيضا: أنا أبو المنهال بعضَ الأحيان فعلق الظرف بما في أبي المنهال من معنى الحدث كأنه قال: أنا المُجدي أو الدافع والحامي في بعض الأحيان. وإذا جاز لهذا التقدير أن يرفع به الفاعل كان نصبه للظرف أسوغ وأسهل، قال لي أبو علي رحمه الله مرةً: الظرف يعمل فيه الوهم مثلا، فمما رفع به فيه الفاعل قوله " من الطويل ": كأنَّ لنا منه بيوتا حصينةً ... مًسوحاً أعاليها وساحاً كسورها

وكأنه قال: سوداً أعاليها وخضراً كسورها، وله نظائر وقد ذكرت. وقال هذا الرجل أيضا " من الطويل ": شكوت أميرّ المؤمنين شكايتي ... فكان حباي أنْ جُررت علي فمي يجوز أن تنصب " أمير المؤمنين " له منادى، ويجوز أن تنصبه لأنك أردت حرف الجر فكأّنه قال: شكوت إلى أمير المؤمنين، فلما حذف الجر وصل بنفسه الفعل كقوله: بأسرع الشدّ مني يوم لانية ... لما عرفتهم واهتزت اللمم

(49) وقال أبو الحنان الهذلي زياد بن علبة

(49) وقال أبو الحنّان الهُذلي زياد بن عُلبة " من الوافر ": نت البيض اللباخيات خَوْدٌ ... يجول وشاحها جُمّ العظام كان ينبغي أن يقول: جمّاء العظام لأن الموصوف به واحد كقوله: يَطُفْنَ بجمّاءِ المرافق مكسال إلا أنه لما كان الجمم للعظام نفسها جاز جمعه إياها واصله " جُمٌّ عظامها " فحذف الضمير من العظام وأودعه الجُمَّ وأقرّ الجمع بحاله حملا على المعنى، ونظير هذا قوله " من الطويل ": يا ليلة خُرْسَ الدجاج طويلة ... ببغداذَ ما كادت عن الصبح تنجلي وقول الآخر: حُمّ العظام خَدلة المُخَدَّمِ وقول الآخر: ذرقت حليب الضان جُمّ القوادم

" وفيها ": سجيس الدهر ما سجعت هتوف ... على فرع من البلد التهامى القول عندي في " سجيس الدهر " مم هو قد قال ابن الأعرابي فيما رويناه عنه: سجس الماء إذا تغير، ومعنى: سجيس الدهر، بقية الدهر، وبقية الشيء إذا طال انفرادها فسدت، قال " من الوافر ": تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح وقال: أرى الدهر كنزا كل ليلة والفساد والنقصان كله ينقاد إلى موضع واحد، وشواهد هذا في النثر والنظم أكثر من أن أحصيها، فهذا يكشف معن " سجيس الدهر " فأعرفه. وفيها: تَسَدَّت بي جواز البيد وحدي ... إلى جمل دُجى ليلٍ التمام بلا هادٍ هداها ما تَسَدّى ... إليها بين أثلة والقدام " ما " هنا استفهام، وأراد: تتسدى فحذف التاء الثانية كقولك: أنت تذكَّرُ أي: تتذكر، فحذفت التاء الثانية لدخول تاء المضارعة عليها.

(50) وقال رجل من هذيل

(50) وقال رجل من هُذيل يا ربِّ أشقاني بنو مُؤمّلِ ... فارمِ علي قفّانهم بَمنْكَلِ قال " قفانهم ": جماعتهم، ينبغي أن يكون " قفّان ": فَعْلانا من قولهم: قَفَّ يقفّ إذا يبس واجتمع، وحدثنا بعض أصحابنا قال: نزل معاوية بامرأة فقال لها: هل عندك من قِري؟ فقالت: نعم، خبز خَمير، وماء نمير، ولبن وغير، فلما أكل قال لها: سلي حاجتك، فسألته في الحي أجمعين فقال: ليس هكذا قلت لك، فقالت له: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تنزل واديا فتترك أسفله يرف وأعلاه يقف. فلو كان قفّانَ " فَعَالاً " لكان من لفظ قولهم: شادة " قفية " أي: قفيّة إذا ذبحت حتى ينفصل قفاها، ولا تكون النةن في " قفينة " بدلا من ياء " قفيّة " كما قالوا: أتانين في أتانيّ؛ لانهم قد صرفوا فعلها فقالوا: قفيت الشاة أقفيها قفياً.

(51) وقال عبد الله بن مسلم بن جندب

(51) وقال عبد الله بن مسلم بن جُنْدب " من الطويل ": فقولوا لها قولا رفيقاً أعلها ... سترحمني من زَفرةٍ وعويلِ كان ينبغي لاختصاص " لعلّ " بالاستقبال ألا يجمع بيتها وبين السين كما لم يجمع بين " إن " والسين وسوف، وكذلك " إن " إذا لم تكن أيضا " من الطويل ": لعلك إنْ دَهْرٌ أصابك صرفه ... ستذكرني يوماً إذا ذًقْتَ دائيا وقال عبد الله أيضا " من البسيط ": لكنه شاقه أنْ قيل ذا رَجَبٌ ... يا ليت عدَّةَ حولي كله رجبا يحكي الكوفيون: " ليت زيدا قائما " على أن " ليت " هي الناصبة للاسمين جميعا، عندنا نحن بخلاف ذلك، بل هي عندنا على بابها من نصب الاسم ورفع الخبر، فأما ما أنشده صاحب الكتاب من قوله: يا ليت أيامَ الصبا رواجعا

فانه حمله على فعل محذوف. قال كأنه قال: " أقبلت رواجع "، فكذلك هذا أيضا كأنه قال: يا ليت عدّة حولي كله بدلت أو سميت رجبا. وقال عبد الله أيضا " من الطويل ": وجَنَ عليك الليل دانٍ رواقه ... وراعيت للهم النجومَ الدوانيا يجوز أن يكون " دانٍ " في موضع نصب وأراد " دانيا رواقه " إلا أنه أجرى المنصوب مجرى المرفوع والمجرور كقوله يا دارَ هِنٍ عفت إلا أثافيها ... بين الطوى، فصارات فواديها وقوله " من المتقارب ": إذا كان هادي الفتى في البلاد ... صدْرَ القناة أطاع الأميرا وقوله " من الرجز ": سوّى مساحيهن تقطيط الحقق تقليل ما قارعن من سم الطرق وهو كثير جدا. ويجوز أن يكون تقديره: وجن عليك الليل رواقة دان، يجعل الجملة في موضع الحال، ثم قدمت الخبر على المبتدأ كما تقول في الصفة: مررت برجل قائم أبوه، يريد: أبوه قائم، ثم قدمت. وفيها: مع الشَّوْقِ يوم الأربعاء لقيتها ... فما بال يوم الأربعاء وماليا

قال: فلما سمع أبو السائب المخزومي بهذا البيت قال: لا بل ما باله وبال يوم الأربعاء. ينبغي أن تكون ألف " بال " منقلبة عن واو لامرين، أحدهما: انها عين، وهذا واضح، والآخر: انه من معنى البول وان غمض الطريق إليه، وذلك انه معني ما حالك وما بالك سواء، ويقال: هو بحال سوء وبال سوء، والحال: الحمأة وكأنها سميت لاستحالتها ونتنها، وقد ساغ عنهم أن الاستحالة مصروفة إلى التغير والكراهة كقولهم: قد استحال فلان عن المودة أي فسد بعد صلاح، ولا يقال: قد استحال فلان عن القطيعة إلى الصلة، ولا عن الشر غلى الخير، وإذا ثبت بذلك أن الحال في أكثر أمرها إلى التغير المقترن بالفساد، وكان البال بمعنى الحال لم يمتنع أيضا أن يكون من معنى البول لفساده كما إن الحال هي من معنى الحمأة، وقد تقصيت هذا الفصل في موضع آخر من كلامي وتعليقي.

(52) شعر أبي صخر

(52) شعر أبي صخر قال " من الطويل ": تعزيت عن ذكر الصبا والحبائبِ فيها: ولو انهم قالوا لقد كنت مرة ... عرفت ولم أنكر جواب المجاوب قال: أراد كنت تحبهن فكيف تنهانا. إذا استضعف من جهة السماع ومن طريق القياس جميعا حذف خبر " كان " وقلما مَرَّ بي منه، ووجه ضعفه من قبل القياس أن خبر " كان " إنما لزمها ليفاد منه الحدث المخترم منها، ألا ترى انك إذا قلت: " كان زيد قائما "، فإنك إنما استفدت الحث الذي هو القياس من قائم لا من " كان "، ف " كان " خبرها جميعا يفيدان ما يفيده الفعل مجردا بنفسه. فكما لا يجوز انفكاك الفعل من دلالة الحدث إلا في هذه الأفعال التي لزمها أخبارها أعواضا مما جردت منه من أحداثها، أعني كان وأخواتها من نحو: أصبح وأمسى وبقية الباب، فكذلك لا يحسن حذف خبر " كان " لما ذكرت لك، وليس كذلك خبر المبتدأ لانه لم يؤت به عوضا من حذف مخترم فيلزم ترك حذفه كما يترك خبر الحديث من المثال المصوغ لتحصيل الحدث في أحد الأزمنة وهي المثل التي يسميها النحويون الأفعال. فهذا وجه امتناع حذف خبر " كان " وأخواتها من طريق القياس، فإن جاء فيها شيء من ذلك فهو لامرين، أحدهما: انه في الأصل خبر المبتدأ وقد ساغ واطرد حذف خبره، والآخر: انه قد شابه المفعول بانتصابه بعد المرفوع، والمفعول سائغ شائع حذفه.

وفيها: فإن يلبسوا بُرْدَ الشبابِ وخاله ... وأغتدِ في أطمار أشعت شاحبِ عين " الحال " ياء لانه من الخيلاء قال: والخال ثوب من ثياب الجُهَال. وفيها: قصار الخطى شم شُموس عن الخنا ... خدال الشَّوى فتح الأكفِّ خراععبِ شُموس: شامسة كقاعد وقعود، كسَّره على حذف الزيادة، ويجوز أن يكون جمع " شَموس "، فقد كسروا " فَعِيلة " على " فُعول "، أنشد الفراء " من الوافر ": وذبيانية أوصت بنيها ... بأ كذبَ القراطفُ والقطوفُ وقال: هو جمع قطيفة، ومثله: منيئة ومُنُوء، وسفينة وسفوف، و " فَعول " أخت " فَعيل " كسروا أيضا " فَعول " على " فُعول ". كمورِ السُقي في حائر غَدق الثرى ... عذاب اللمى يُحبين طَلَّ المناسبِ قال: السُقي، التي تسقي الماء، ينبغي أن يكون " السقي " جمع سُقيا،

وهو على حذف المضاف كأنه قال: كمور ذوات السقي، ثم أقام المضاف إليه مقام المضاف وفيها: فلا تغتبط يوما بدنيا ولو صفت ... ولا تأمنن الدَّهرَ صَرْفَ العواقبِ نكر " دنيا " وهي تأنيث الأدنى، وأنت لا تقول في الصغرى صُغرى، ولا في الكبرى كبرى لكنه لما كثر استعمالها اسما شبهت بغيرها من الصفات نحو الرجعي والعذري والعمري، وقد قال العجاج: في سعي دنيا طالما قد مَدّت وحكي ابن الأعرابي فيها الصرف، وقال أيضا: شهبوها ب " فُعْلَل ". الصرف يدل على تنقل حالها وبعدها عن حكم أخواتها. وفيها: فَحرّ على سيف العراقِ ففرشه ... فأعلام ذي قوس بأدهم ساكبِ عين " السيف " ياء كما ترى، ويدل عليه قولهم في جمعه: أسياف، فهذا كنيق وأنياق، وريق وأرياق، قالوا ومنه قولهم: درهم مُسيّف، لأنه لا كتابة حوله كما أن السيف أجرد لا يُنبت شيئا، ومنه عندي قولهم: السيف، لانصلاته وانجراده. فلمّا علا سودّ البصاقِ كفاتُه ... تُهيب الذرى منه بِدُهْمٍ مقارب فجلل ذا عَير فالإسناد دُونَه ... وعن مخمص الحُجاج ليس بناكب

ويروى: ذا عنز، وكلاهما جبل، والبقة الحرة. إن شئت جعلت جواب " لمّا " تهيب وكان لفظ المضارع في معنى الماضي كأنه قال: أهابت وجعلت على هذا قوله: فجلل عطفا على " أهابت " الذي تهيب في موضعه، وإن شئت جعلت " يهيب " حالا منه وجعلت الجواب قوله: " فجلل "، واعتقدت زيادة الفاء. أي: فلما كان ذلك جلل، وزيادة الفاء مشهورة قد مضى صدر منها في صدر هذا الكتاب. وأما قوله: " وعن مخمص الحجاج ليس بناكب " ففيه دليل على جواز تقديم خبر " ليس " عليها، ألا ترى أن " عن " هنا متعلقة بناكب الذي هو خبر " ليس " وقد قدمه عليها، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل، ومثله قول الله سبحانه: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم)، ف " يوم " متعلق بمصروف، ويحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون " يوم " متعلقا بما دل عليه: (لَيْسَ مَصْروفا عَنْهُمْ). ألا ترى أن معناه: يوم يأتيهم يحيق ويقع بهم كما أن قوله تعالى: (يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لا بُشْرى يومئذ للمُجرمين) في معنى: يوم يرون الملائكة يساؤون ويحزنون، والآخر: أن يكون (يوم يأتيهم) متعلقا بنفس " ليس "؛ لانه إذا جاز أن ترفع وتنصب للفظها كذلك يجوز أن يتعلق الظرف بها أيضا للفظها. قال لي مرة أبو علي رحمه الله: الظرف يعمل فيه الوهم مثلا، وكذلك أيضا يكون قوله: " وعن مخمص الحجاج ليس بناكب "، في معنى عن مخمصهم لا ينكب فيتناوله ما دل عليه قولهم " ليس بناكب "، وإن شئت أيضا علقته بنفس " ليس " لأن حرف الجر يجري مجرى الظرف في تناوله أضعف العوامل، ألا ترى إلى قولهم: " هذا مارٌ بزيدٍ أمسِ " فتعلق الباء باسم الفاعل وإن كان ماضيا، ولكن كما جاز أن تعلق به أمس كذلك جاز أن تعلق به الباء، وقد مر بي للجحاف " بن حكيم " السلمي " من الطويل ":

أبا مالك هل لمتني مُذ حضضتني ... على القتل أم هل لامني لك لائم وفيها: يميل قفازاً لم يك السيل قبله ... أضَرَّ بها فيها جباب الثعالبِ " القفاز ": الصخور واحدتها قفازة، ويروى " قفاز "، وهو مكان، ويروى " جحاش الثعالب " أي أولادها. أراد لم يكن السيل فحذف النون لالتقاء الساكنين وكان قياسه إذ كان موضعا تتحرك فيه النون إن يقرها لقوتها بالحركة ولا يحذفها، ألا ترى أنّ من قال: " لم يك زيدٌ قائما " إنما يقول: لم يكن الرجل قائما، فيحرك النون ولا يحذفها على أنه قد جاء نحو هذا محذوفا، روينا عن قطرب في كتابه الكبير " من الرمل ": لم يك الحق سوى إن هاجه ... رسم دار قد تعفّى بالسّرَر أراد: ولم يكن الحق، فحذف، وأن كانت النون متحركة، ووجه ذلك عندي شيئان، أحدهما: أن يكون قَدّر حذف النون قبل مجيء الساكن بعدها، فلما جاء الساكن من بعد أمضاه على سبق الحذف إلى ما قبله كما قال أبو بكر في قول من قال: " هذا القاضِ " بلا ياء إنه حذف الياء قبل

دخول اللام أقرّ الحذف بحاله لأنه ألحقها حرفا قد حذفت ياؤه، ومثله قوله أيضا في قوله " من الوافر ": وطرتُ بمنصُلى في يعملات ... دوامي الأيدِ يخبطن السريحا إنه الحق اللام " أيد " فأقر حذف الياء على ما كان عليه، وقوله أيضا في قوله " من الكامل ": كنواحِ ريش حمامةٍ نجدية ... ومسحتِ باللثتين عصفَ الأثمد ألحق الإضافة بعد أن حذف الياء فبقيت بحالها محذوفة، فهذا وجه، والآخر: أن يكون لم يعتد حركة النون لالتقاء الساكنين فعلم إنه متى حركها لم يغن عنده شيئا وكانت حركة التقاء الساكنين في حكم السكون بدلالة قولهم: اردد الباب، واحلل الحبل، وغير ذلك. ومثل الحذف ها هنا مع الحركة أيضا قول بعض بني أسد " من الطويل ": فاِلاُّ تك المرآة أبدت وسامةً ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم وفيه ضرورة أخرى وهي إنه حذف النون مع إدغام اللام فيما بعد، وذا أشد، ألا ترى إن من قال في بني العنبر: بلعنبر، وفي بني الحارث: بلحارث، لم يقل في بني النجار: بنّجار، لئلا يجمع بين الإعلالين: الحذف والإدغام؛ ووجه جوازه عندي على قلته وضعفه إن إدغام حرف

التعريف لا يكاد يُعتد ألا ترى إنه قد يدغم في أماكن كثيرة لو كان غير لام التعريف فيها لم يدغم نحو التبْن، فتدغم لامه في التاء ولو كانت غير لام التعريف لم يدغم نحو: التفت والتفات والتقاء، وكذلك الطلب، فتدغم، وتقول: " هل طلبت؟ " فلا تدغم وكذلك الثقال، فتدغم، وتقول: هل ثبت؟ فلا تدغم، فلما كثر إدغام لام التعريف في الأماكن التي يظهر فيها غيرها كانت المعاملة كأنها مع الأكثر الذي هو الإظهار، وسقط فيه لما ذكرنا حكم الإدغام، فصار لذلك قوله: لم يك السيل، كقوله: لم يك المطر، فلم يبق فيه حكم للإدغام وبقى الاعتذار من الحذف. وفيها: رفعت له صَدْري وأيقنت أنه ... أزامل نجم حاله غير كاذب " الأزامل ": الأصوات. القول فيه عندي إنهم سموا الصوت أزملاً من الزميل وهو الرديف، والتقاؤهما إن الرديف يأتي بعد الراكب كما إن الصوت تتبعه حَنَّةٌ إن كان ذا حنين أو صدى يعارضه تابعا له ولاحقا به، فمن هناك التقاؤهما. وفيها: ليروي صدى داود واللحد دونه ... وليس صدى تحت العِداء بشارب ينبغي أن يكون لام " الصدى " ياء لاستمرار الإمالة فيها، وأما " داود "

فيجوز همز واوه للزوم الضمة لها فتقول: " داؤد " فإن كسّرته بعدما همزته فقياسه عندي إن تقر همزته بحالها ولا تردها إلى الواو وإن كانت الضمة قد زايلتها فتقول: دوائيد بوزن دواعيد، وكذلك أيضا تجيز في طاووس إن تهمزه فتقول: طاؤوس، فإن كسرت قلت: طواويس. وليس الهمز لاكتناف ألف التكسير الواوان لو كان ذلك لصحت الواو لبعدها عن الطرف بالياء كما صحت في طواويس لبعدها عنه بالياء، لكن لما دخل العين من الهمز في الواحد، فإن قلت: فكيف أقررت الهمزة وقد زالت الضمة التي عنها كان وجوبها؟ قيل: إن العين إذا قلبت همزة جرت لقوة العين مجرى الهمزة الاصلية، ولذلك قال سيبويه في تحقير قائم: قويئم، قال: فأجريته مجرى همزة سائل، وعلى ذلك ما حكاه أبو الحسن من قولهم في قلب أدؤر: آدُر ولم يقل مع زوال الضمة: أوْدر، أفلا ترى كيف أجرتها العرب لأنها عين مجرى همزة أرؤس إذا قلت آرُس، فعلى هذا تقول في داود إذا همزته دوائيد بون دواعيد فأعرف ذلك. وأما قوله " دونه " فإنه ظرف في موضع الحال من " اللحد " أي: ويروي اللحد معترضا دونه أو حائلا دونه كقولك: " مررت بزيد وعمروٌ عنده "، ف " عنده " في موضع نصب لكونه حالا من عمرو وذلك أن الظرف يجري صفة على النكرة، وما جرى على النكرة صفة جرى على المعرفة حالا كقولك، مررت برجل قائم، ومررت بزيد قائما. قال أبو سعيد: والعداء الصخر الذي يوضع على القبر. لام " العداء " واو لأنه يعدو عنه ما يلم به أي يثنيه ويصرفه، ولأن بعضهم قد قال فيه: " عِدْوٌ " بوزن: جرو. ولكن يقر العين والنفس أن ترى ... بعقدته فضلات زرق دواعب

نصب " النفس " بفعل آخر مضمر كأنه قال: يقر العين ويطيب النفس كقوله " من الكامل ": فعلا فروع الأيهقان وأطلقت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها أي: وأفرخت نعامها. وقرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد أبن يحيى " من الطويل ": تراه كأنَّ الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه أمسى له وفر أي: ويفقأ عينيه، وقرأت عليه أيضا عنه: تسمع للأجواف منه صَرَدا ... وفي اليدين جُسْأةً وبَددا أي: وترى في اليدين جساوةً، والمشهور في هذا: متقلدا سيفا ورمحاً، وقرأت على أبي بكر أيضا عن أحمد بن يحيى:

علفتها تبناً وماء بارداً ... حتى شتت هَمّالةً عيناها أي: وسقيتها ماءً بارداً. وأما " فضْلات " فإسكان عينها وهي اسم لا وصف ضرورة، أنشدنا أبو علي لذي الرمة " من الطويل ": أبت ذِكَرٌ عَوَّدْنَ أحشاءَ قلبه ... خفوقاً ورفضات الهوى في المفاصل وقال الآخر " من الطويل ": ولكنَّ نَظْراتٍ بعينٍ مريضةٍ ... الآل اللواتي قد مضَلْن بنا مَثْلا وقول الآخر " من الطويل ": فراعَ ودَعْوات الحبيب تروع وأنشدني بعض أصحابنا " من الرجز ": عَلَّ صُروفَ الدهرِ أو دُولاتِها ... تُديلنا اللمَّةَ من لَمّاتِها فتستريحَ النَفس من زفْراتها الغرض: زَفَراتها. وفيها: فعجلت ريحان الجنان وعُجّلوا ... زمازيم فوّار من النار شاهِبِ اراد: " فعجل لي ريحان الجنان، وعجل لهن زمازيم فوّار "، فقلب للعلم بالموضع، والقلب كثير منه قوله: أسلموها في دمشق كما ... أسلمت وحشية وَهقا

ومنه قوله: ما أمسك الحبلَ حافرُه ومنه: أوبلغت سوآتِهم هَجَرُ ومنه: " إذا طلعت الشعري واستوى العودُ على الحِرباء "، وشاهب أراد أشهب، فبناه على " فاعل " وقالوا شيء ثاقل بمعنى ثقيل، قال وروينا عن الفراء: ممكورة غرثي الوشاح السالس ... تضحك عن ذي أشر غضارس يريد: السلس، وقرأت على أبي سهل أحمد بن زياد بن محمد عن السكري " من الطويل " بمنزلة أما اللئيم فسامِنٌ ... بها، وكرام الناس بادٍ شحوبها ومثله قول كثير " من الطويل ": وصفراء رعبوب كأنّ وشاحها ... على ناعم من غاب دجلة غاري أراد: أغير، فهذا يجوز أن يكون فعلاً كقولهم: كبش صاف ويوم راحٌ، ويجوز أن يكون أراد غائرا فقلب، كشاكٍ ولاثٍ. وقال أبو صخر أيضا " من الكامل ": بكر الصبا منا بكور مزايل

فيها: وعنائبٍ غَدَوية تندى ضحىً ... وغياطل للهو بعد غياطلِ أراد: عنائب، يريد السراب، ويروي: جنائب يريد ريح الجنوب. يجوز أن يكون " عنائب " جمع عنبيّة يريد الخمر وكان يجب إذ كسر على مثل بُختيّة وبخاتي أن يكون عنابيّ إلا إنه في التقدير خفف فصار: عَنابٍ كمهريّة ومهارٍ، وبختية وبخاتٍ، فلما صار إلى عنابٍ قلبه فصار: عنائب، فقياسه على هذا إن لا يهمز لأنها ياء متحركة في الأصل إذا قلت عنابيّ أو خففت فقلت رأيت عنابي، وليست بهمزة عرضت في الجمع، ومثله من الجمع حمار مصريّ وحمير مصاريّ، روينا ذلك عن محمد بن حبيب، وزعم إنه أخبر به أبن الأعرابي فكتبه عن محمد حكاه له أبن حبيب عن أبي ثوبة، ومثله من المقلوب ما رويناه عن أبي علي يرفعه إلى يعقوب " من الطويل ": لقد أورثتني يوم قَوّ حزازة ... مكان الشجا تجول تحت الترائق أراد: التراقي جمع ترقوة، إلا إنه هكذا روى الترائق بالهمز، وقياس هذا أن يكون هذا عنائب بالهمز. و " غذوية " منسوبة إلى الغداة أول النهار وفيها: جاوزتنا بقلي اللذات الصبا ... وأذى وأقذار وشيب شامل لام " أذى " ياء عندي لاطراد الإمالة فيه، ولأنها لام، والياء أغلب على اللام من الواو، وإن علقت اللام في " اللذات " بنفس " قلى " فلا ضمير

فيها لتعلقها بالظاهر، وإن جعلتها وصفا ل " قلى " ففيها ضمير لتعلقها بالمحذوف، ولام " قلى " ياء لقوله: قالت سُليمى إنني لا أبغيه ... أراه شيخاً عارياً تراقيه محمرة من كبر مآقيه ... مقوساً قد ذرئت مجاليه يقلى الغواني والغواني تقليه ولام " الصبا " واو لإنه من " صبوت ". وفيها: وبسحبة تغشى السواد وعشوة ... مالي عدمتك من رفيق خاذل قال: سحبة غشاوة على بصره، ينبغي أن يكون " سحبة ": فُعْلَة من سحبت الشيء كأنه ينسحب على ناظره وهو قريب من لفظ " السُحْمة " ومن معناها؛ لأنه شيء يسودّ له ما أنار وأضاء من بصره، ولام " تغشى " ياء وليس من لفظ الغشاوة لقوله سبحانه: " ينظرونَ إليكَ نَظَرَ المغشيّ عليه من الموتِ "، ولا أحد يقول مغشو في هذا المعنى، ومنه قولهم: الغشى لغشاء الشيء ولا تحمله على قِنية لقلته. وفيها: يهذي وتشهره العيونُ ومُخُّهُ ... رارٌ، وليس بما يريد بنابل عين " رار " ياء لقوله:

أقول بالسبت فويق الدير ... إذ أنا مغلوب قليل الغير والعظم مني باديات الرير هكذا رووه بفتح الراء، ويقال: رار المخ واراره الله أي أذابه. قال " من الوافر ": أرار الله نقيك في السُلامى ... على من بالحنين تعوّلينا بل قد أتاني ناصح عن كاشح ... بعداوة ظهرت وزَغْر أقاول قال: " زغر " كثرة، وهذا مما كنت قدمت ذكره من مقاربة اللفظ لمقاربة المعنى، ألا ترى إلى قرب الخاء من الغين وقد قالوا: زخر الوادي، إذا كثر ماؤه، فمعنى الكثرة شامل لهما إن الخاء أرطب صوتا من الغين فكأن الماء خصّ بها لذلك، وإذا تفطنت لذلك وجدت فيه معاني لطاقاً غامضة فلا ترين إن في هذا المذهب جوراً وتعسفاً، فإن في هذه اللغة من اللطائف ما يجفو هذا في جنبه فقد مر بنا كثير منه وسيأتيك في هذا الكتاب طرف من نحوه. وتنلك أظفاري ويبرِك مسحلي ... بَرْيَ الشَّيب من السِراء الذابل ينبغي أن تكون لام " السراء " واوا وذلك لأنه الشجر الذي تعمل منه القسى، فإن شئت قلت لا يتخذ إلا من أسرى الخشب وأجوده، كما تقول من إكرامه، وإن شئت كان من سراة الشيء لأنه ينبت في سراة الجبل وهو أعلاه، وسراة من الواو لقوله " من الطويل ":

وأصبح موضوع الصقيع كأنه ... على سوات النيب قطن مندف وفيها: تجلو عن أوجه جنَّةٍ وكشوحها ... أو عن مها بلق بجوٍّ باقِلِ ألف " مها " واو لأنه في الأصل البلَّور، ويقال البَلّور، ثم شُبّه النجوم بها وبقر الوحش أيضا لبياضهما، ويدل على إن ألف " مها " بدل من واو إنه من معنى الماء لبياض البلُورة وصفائها، وقد قالوا: موهتَ عليّ، إذا حَسَّنَ حديثه وجعله كأن عليه ماءً، وقالوا في تكسيره: أمواه، وتحقيره: مُويه، وقالوا: ماهت الرَكيّة تموه، وقالوا: تماه، وحكي أبو زيد ماهت تميه ميهاً. وظاهر هذا إنه من الياء لا من الواو، وينبغي أن يكون بدلاً للياء من الواو لضرب من التخفيف، وأصل هذا أن يكون ماه يميه من الواو " فَعِل يَفْعِل " كحسب يحسب في الصحيح كما قال الخليل ذلك في تاه يتيه، وطاح يطيح إنهما " فَعِل يفعِلُ " من الواو، فلما جرى في الكلام ماه يميه، أشبه لفظه لفظ باع يبيع، فقال في مصدره ميهاً اتباعاً للفظ وجنوحا إلى خفة الياء، ف " المها " إذنْ مقلوب، ومثاله " فَلَعْ " من الماء. وحكى صاحب الكتاب: مًهاة ومًها لماء الفحل، وهذا أيضا عنده مقلوب لأنه من الماء ماء الفحل نفسه، وقوله عن أوجه بوجوب التخفيف يدل على إن الشعر قد يبنى على أحد الأمرين: التخفيف البتة، والتحقيق البتة، وفي هذا شاهد لإجازة ما حظره الخليل وأجازه أبو الحسن من إن يجوز: أيسيء مع يسوء قافيتين في قصيدة، ألا ترى إنه إذا بنى البيت على تحقيق الهمزة كما بناها هذا الآخر على تخفيفها البتة، صحَّ الرويان فلم يختلفا، ونظير هذا مما بُني فيه الشعر على التخفيف البتة ما أنشدناه أبو علي رحمه الله لذي الرمة " من الطويل ":

من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان أبصرن بازيا فقوله: منال وزنه " فَعول " فلو حققت فقلت: " من آل " لكان وزنه " مفعول " وهذا لا يجوز في الطويل، وهكذا رووه " من آل " بالتخفيف ومثله بيت الأعشى: هؤلي ثم هؤلي كلاً أعطي ... ت نعالاً محذوةً بمثال فقوله: " كل لنع طي " وزنه " فاعلاتن "، ولا بُدَّ فيه من تخفيف الهمزة، وقد تقصيت هذا الموضع في كتابي " المُعْرِب " وهو كتاب تفسير القوافي عن أبي الحسن. و " جنة " ينبغي أن يكون جمع جان، كُسّر " فاعل " على " فِعْلَة " كما كسر " فعيل " عليها في صبيّ وصبية وعليٍّ وعليه، وقد يكون مصدرا لقوله سبحانه: " أم به جِنّةٌ " أي: جنون. وقوله: " باقل " يريد " مبقل " يقال: أبقل فهو باقل، وأورس فهو وارس، وأغضى فهو غاض، وأدلى فهو دالٍ، وذلك فيما جاء على " أفْعَل " فهو فاعل، وقد قالوا: مُبقل، قال دُؤاد بن دًؤاد، وقد قال له أبوه: يا بني ما أعاشك بعدي؟ فقال: أعاشني بعدك وادٍ مُبْقِلُ ... أكُلُ من حَوذانه وأنْسِل وقال أبو صخر أيضا:

أرقت لطيف من علية عامدِ ... ونحن إلى أذَراء خُوضٍ هواجدِ قال: أذراؤها ما أُستذري به أي استتر به من الريح، لامه واو؛ لأن واحده الذرا مقصور، وهو من لفظ " الذروة " ومعناها، وقوله " علية " هي من تأنيث " علي " جعلت علماً، فقد يجوز أن تكون من قول القطامي " من البسيط ": أمْسَتْ عُلَيّةُ يرتاح الفؤاد لها ... وللرواسم فيما دونها عمل تصغير عَلية هذه، وأصله عُليّية، فلما اجتمعت ثلاث ياءات وسطاهن مكسورة ثَقُلَتْ فحذفت الآخرة كما قالوا في تحقير أحوى: أُحَيّ، وفي تحقير سماء: سُميّة، وحكى أبو الحسن أن قوما ذهبوا في نحو: عطاء وعُطيّ، إلى إن المحذوفة من الثلاث هي الوسطى، قال: وهو وجه، أو كلاماً هذا نحوه، فهذا وجه في تكسير " عُلَيّة ". ووجه ثان. وهو أن يكون تحقير " علوة " فيكون كشكوة وشُكيّة؛ ف " عُلية " على هذا فُعَلية، وفي القول الأول " فُعيّة "، ومن رأى أن المحذوفة من الثلاث هي الوسطى فوزنها أيضا " فُعلية "، فأما في كيل التحقير من غير تحرير التصريف فوزنه " فُعَيلة " في جميع الأقوال، فإن قلت فقد قال في اللامية " من البسيط ": ألمحةّ من سنا برق رأى بصري ... أم وجه عالية اختالت به الكِلَلُ فلا يجوز أن يكون " عُليّة " تحقير " عالية "، إلا إن تحمله على تحقير الترخيم كقولك في فاطمة: فُطيمة، وكأنّ هذا أوجه من القولين الأولين؛ لأنه قد جاء بالتكبير مع التحقير في قصيدة واحدة، فحكم أحدهما على صاحبه.

وفيها: قطعن مُلاّ قفراً سوى الرُمْد والمها ... وغير صدّى من آخر الليل صاخدِ قال: صاخد صائح، صَخَد يَصْخَد، لام " مُلا " واو لأنه ما أتسع من الأرض وقالوا: الملوان: الليل والنهار، والملاوة من الدهر ما اتسع من الدهر، وقوله " وغير صدى " محمول على المعنى لأن قوله " قفرا سوى الرمد " في معنى غير الرمد فحمل المعطوف على المعنى كما قال أبو الحسن في قول الله سبحانه: " أو كالذي مَرَّ على قريةٍ "، قال: قيل إنه محمول على المعنى لأن معنى قوله " تعالى ": ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربه "؛ أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مَرَّ على قرية، والحمل على المعنى كثير جدا في الإيجاب وضده، وقد ذكرنا صدرا منه وستراه. وفيها: ينوش بصلت الخد أفنان غيلة ... تدنت دواني عيصها المتقاودِ عين " عيص " ياء كما ترى؛ لأنهم قد قالوا في تكسيره: أعياص، فأما قولهم: " اعتاصت الحاجةُ "، فمن العوصاء وهي الشدة، وذلك إنها إذا تعذرت اشتدت، وقد قيل فيها: العيصاء، فهذا من العيص كأنها نشبت فلمتنحلّ كما ينشب العيص بعضه في بعض، واجتمعوا كلهم على أمر عويص بالواو البتة، أنشدني بعض أصحابنا برواية لبعض جَرْم " من البسيط ": وأُبْطِرُ الخصم ذا العوصاء حجَتُه ... حتى يلجلج بين العي والحصر وضَمَت على رَقو أغن من التقا ... دميث الرُبا حُرٍّ فُضول المجاسد

قالوا: الرقواء الكثيب، شبه عجيزتها به، لام " النقا " من الرمل فيها قولان: الياء والواو، لقولهم: نَقَيان ونَقَوان. بأطيبَ نَثْرا من سُليمى وغرّة ... إذا ما سقى كأس الردى كل راودِ ذكرَّ فعل الكأس لأنه إنما يريد الردى نفسه، وهو مذكر ولا كأس في الحقيقة هناك، ونظيره كثير. فما روضة بالحزم طيبة الثرى ... ولتها نجاء الدلو بعد الأباردِ قالوا: الحزم أغلظ من الحزن، فهذا مما عرفتك من تقارب الألفاظ لتقارب المعاني، فكما أن الميم أقوى لفظا من النون فكذلك الحزم أغلظ من الحزن، ولهذا صرفوا " الحَزْنَ " فاستعملوه في الحزن لأنه عرض وهو دون الجوهر، ولم يستعملوه بالميم إلا في الغليظ من الأرض، ولام " النجاء " واو لأن واحده " نَجْوٌ " وقد جمعوه " نُجُوا، أنشد الرواة " من الوافر ": أليس من البلاء وجيب قلبي ... وإيضاعي الهموم مع النُجُومِّ وليس في كلامهم " فُعول " جمعا ولامه واو صحيحة إلا أحرف وهي هذا نَجْوٌ ونُجُوّ وحكى سيبويه: إنكم لتنظرون في نحو كثيرة جمع نحو، وحكى أبو زيد في الصدر: " بَهْوٌ وبُهُوٌ، وحكى ابن الأعرابي: أَبٌ وأُبُوّ، وابْنٌ وبُنُوٌ، وأنشد للقاني يمدح الكسائي " من الطويل ": أبي الذمُّ أخلاق الكسائي وانتمي ... من المجد أخلاق البُوِّ السوابقِ

وقال أبو صخر أيضا " من الطويل ": هل القلب عن بعض الدجاجة نازع فيها: وإذْ لم يَصِحْ بالبين وبينها ... أساحمُ منها مُسْتَقِل وواقعُ كَسَّرَ الصفةَ تكسير الاسم، يريد غربانا سُحْما أي سودا، وكأنه استعمله أيضا كما قالوا: الأحامرة جمع أحمر، وكما قالوا: الأساود والأداهم والأجارع. وفيها: فأدِّ لها ما استودعتك مُوَفَّرا بأحسن ما كانت تُؤدى الودائعُ " بأحسن " في موضع نصب على المصدر، كأنه قال: فأدِّ لها ذلك أحسن ما تُؤدى الودائع، كقولك: قمت أحسن قيام، وجلست أحسن جلوس، فالباء على هذا زائدة. وفيها: إذا رمتُ يموما صَرْمَها لم يَزْل لها ... نصيحٌ يُصاديتي من القلب شافعُ لام " يصاديني " عندي بالياء، وذلك أن معناه: يداريني، وكأنه يعارضه مرة منهنا ومرة منهنا من " الصدي " الذي يعارض الصوت ولام " الصدي " ياء لاستمراره الإمالة فيها، وقالوا: هو يصاديه ويداريه ويُداليه ويُداجيه ويفانيه، فلام " يصاديه " ياء كما مضى، وكذلك يداريه كأنه يختله بالرفق به فهو من قوله " من الطويل ": فإن كنت لا أدري الظباء فاتني ... أدُسُّ لها تحت التراب الدواهيا

ومن هنا لم يجز عندنا أن نطلق على القديم سبحانه: أنه دار، كما يقال فيه عالم وذلك أن معنى " دريت الشيء " من معنى " دريت الصيد "، وذلك أن معنى " دريت به " أي: تأتيت لعلمه ومعرفته وتلفظت فيه كما تتأتّى للصيد فتختله وهذا معنى منزّه عنه عن القديم سبحانه، وأما " داليته " فمن الواو في قوله: لا تقلواها وأدلواها دلوا ... أن مع اليوم أخاه غَدْوا فمعنى " أدلواها " أي: أرفقها بها، ومعنى " داليه " رفقت به، وهذا واضح، كل شيء ظلمه قال " من الطويل ": فما شبه كعب غير أغتم فاجر " أبى مذ دجا الإسلام لا يتحنف وكذلك معنى " يداجيه " أي يساتره بالعداوة ولا يجاهره بها، وأما " يفانيه " فهو في معنى " فنيت " وذلك أنه يروم أن يُفنى رأي صاحبه وعزمته وبصيرته ليدهاه ويختله فهو من معنى " الفنا "، وليس في " فَنَيْتُ " ولا في الفناء ولا في يفنى دليل على أحد الحرفين، إلا أنني قد كنت قدمت أن معنى " فناء الدار " راجع إلى معنى: تنيت السيئ، وذلك أنها تفنى عند حدها وتثنى به عن امتدادها واستطالتها، والثاء وفق الهاء بالهمس أيضا لام، والياء أغلب على اللام من الواو، ويُوَنّس بالحلال شيئا أنهم قالوا: ثناء الدار، بالثاء في معنى فِناء.

وقال أبو صخر أيضا " من الطويل ": ألمّ خيال طارقٌ متأوِّب ... لأم حكيم بعدما نمتُ موصبُ وفيها: وأهلي بواد من تهامة غائر بأسفل هضيمة أراك وتنضُبُ " تنضب " عندي من: نَضب ينضَبُ، إذا بعد لأنه من شجر البر لا الريف كما قيل: شَوْحَط فهذا " فَوْعَل " من شَحطَ يشحط كما أن ذاك " يفْعُلُ " من نَضَبَ يَنْضبُ، وأما الأراك ف " فَعال " من أرك بالمكان يأرك أُروكا أي أقام به، وذلك لانه شجر ثابت أصيل في مكانه، وليس بجميع الشجر تمكنه ثباته. وفيها: ومندونها قاع البقيع فأسقفٌ فبطن العقيق فالخبيتُ فعُنْبُبُ

يجب أن يكون عين " الفاع " واوا لقولهم في تكسيره: أقوُع وأقواع، وكسروة أيضا على قيعة وقيعان، واما " عُنْبُب " ف، " فُعءلُل " تجعل النون اصلا لمقابلتها الاصول نحو باء " حُبْرُج "، وعين " بُعْثُط " فهي إذن كنون " صُنْتُع " وإن كان اشتقاقه من " عبَّ الماء يُعبُّ " لكثرة ماء هذا الوادي فهو " فُنْعُل ". هجان فلا في اللون شام تثينه ... ولا مَهَق يغشى الغسيقات مُغربُ قال: الغسيقات الشديدات الحمرة، عين " شام " وهي جمع شامة ياء لقولهم رَجل أشْيَمُ، وامرأة شيماء، حكى ذلك أبو زيد. سراجُ الدُجى تغتلّ بالمسك طِفْلَة ... فلا هي مِتفال ولا اللون أكْهَبُ قال: تغتل من الغالية تغلغلت وتغليت، أما تغليت فلا يدفع أن يكون من الغالية لاعتلال لاميها، وأما تغللت فليس من الغالية لصحة لامه، ولكنه من الغَلَل وهو الماء الجاري في أصول الشجر وهو من قولهم: انغلّ في موضع كذا، أي: دخل فيه، ومنه الغلالة من تحت الدرع لأنها غُلَّت تحته وعليه بقية الباب، وأما " الغالية " فلامها تحتمل الحرفين جميعا، أما الواو فلأنها تغلو قيمتها، وأما الياء فلأنها كأنها تغلي لحدة رائحتها. دَميثة ما تحت الثياب عميمة ... هضيم الحثا بكْرُ المَجَسَّةِ ثَيِّبُ عين " ثيب " واو لأنها من ثاب يثوب أي رجع كأنها رجعت عن حال إلى أخرى.

فكأن لها أُدّى وريقة ميعتي ... وليدا إلى أن رأسي اليوم أشيبُ قال: يريد " وُدّى " وهي لغته، قال والرّيق من الرَوق وهي أوله. ينبغي أن تكون " أنْ " هذه مخففة من الثقيلة لا التي تنصب الفعل، " فتلك " تختص بالفعل وهذه بعدها الاسم المبتدأ وخبره " أشيب " فإنما هي ك " أنْ " في قوله " من البسيط ": في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالك كل من يحفى وينتعل فكذلك هذا البيت كأنه قال: إلى أنه رأسي أشيب، وأما الريق فمحذوف بمنزلة مَيْت من ميّت. وفيها: ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ... ومن دون رَمسينا من الأرض مَنكِب لام " الأصداء " ياء لاستمرار الإمالة في الصدى، وقد تقدم هذا. وقال أبو صخر أيضا يمدح أبا خالد عبد العزيز بن عبد الله بن خالد ابن أسيد " من البسيط ": أرائحٌ أنت يوم اثنين أم غادي ... ولم تُسَلِّمْ على ريحانة الوادي حكى سيبويه: " هذا يوم اثنين مباركا فيه "، واستدل بانتصاب الحال بعده على تعريفه، وينبغي أن يكون بيت أبي صخر هذا على تلك اللغة، وفيه على هذا تعريفان، أحدهما: باللام تعريف الحارث والعباس، والآخر:

تعريف العلمية والوضع كزيد وبكر كما أن عروبة والعَروبة للجمعة كذلك قال " من الطويل ": فبات عذوبا للسماء كأنما ... يوائم رهطا للعروبة صيّما وقال " من الوافر ": أؤمل أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار أو التالي أخوه دبار أولا ... فمؤنس أو عروبة أو شتلر ومنه قولهم للمنية: شعوب والشعوب، وحكى أبو زيد: " ما ألقاه إلا فينة والفينة "، ونظائره كثيرة واسعة. وأما " الريحان " ففيه قولان، أحدهما: أن يكون أصله: ريّحان " فَيعلان " من الروح ثم قلب في التقدير فصار " ريّحان " كهيّبان وتيّجان، فلما اعتل وطال الزموه حذف عينه تخفيفا كما ألزموا حذفها باب كينونة وقيدوه، فصار ريحانا كما ترى، والآخر: أن يكون " فَعلان " إلا أنه قلبت واوه ياء استحسانا للتخفيف كما قلبت في الأريحية، وفي قوله " من الكامل ":

ولقد رأيتك بالقوادم نظرة ... وعلي من سدف العشي رياح بفتح الراء، فريحان على هذا " فَعلان " ورياحين " فعالين "، وعلي القول الأول " ريّحان ": " فعيلان "، وعلى لفظه " فيلان " ورياحين " أفالين "، كما أن قوله " قياديد " من قوله "من البسيط": بات يقحمها ذو أزمل وَسقت ... له الفرائش والسُلب القياديد مثالها " فياليل "، وكما أن " أيانق " في قوله من جعل الياء عينا مقدمة " أعافا " في قول من جعلها عوضا من العين " أيافل " والعين محذوفة. وفيها " لولا رجاء نوال منك آمَلُهُ ... والدّهر ذو مِرر قد خَفَّ عوادي أراد: لخف عوادي، كذا معناه ألا أنه حذف وصارت " قد " كالغموض منها، وليست عوضا البتة لجواز اجتماعها، وقال " من الطويل ": فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد ومما اجتمعا في قوله " من المتقارب ": فإني وجدِّك لو لم تجيء ... لقد قلق الخرْت إلا انتظارا وحقيقة " قد " هنا إنها لتقريب الفعل مبالغة في المعنى، فكأنه قد كاد يهجم لولا ما علق به وجعل سببا لمنعه.

وفيها: وحبَّذا بخلها عنا ولو عَرَضت ... دون النوالِ بعلات وألدادِ قال: هو من قوله " هويلدة عن حاجته "، ومن قوله سبحانه: " وهو ألّدَّ الخصام "، هو عندي جمع " لدد " مصدر " ألد " وقد لضدِدت لددا، وإذا جمع المصدر فإنما ذلك لانه وضع على النوع، فأما حقيقة المصدر فلا يجوز تكسيره لاستحالة ذاك في المعنى إذا كان جنسا ولا غاية وراء الجنس في العموم والسعة فكيف يكسر ما لا نظير له وَهْما، وعدّى البخل ب " عن " وأنت لا تقول: بخلت عن كذا، وذلك لانه حمله على المعنى إذ كان معناه: وحبذا انصرافها وازورارها عنا قوله: قد قتل الله زيادا عني وقد تقدم ذكره. وفيها: يُصبي تبسمها من لا يكلمها بمثلها يشتفى ذو النيقة الصادي عين النيقة واو أصلها: نوقة فقبلت للكسرة قبلها كقيمة وفيقة، يدلك على ذلك قولهم في " تفعَّل " منها: تنوّق، وإن كان الأفصح تأنق ألا أن " تنوّق " قد جاء، قال ذو الرمة " من الطويل ": " كأن عليها سحق لفق تنوقت بح حضرميات الاكف الحوائك ولام " الصادي " ياء لقولهم: صديان، يقال: صاد وصادية وصديان وصدٍ وصدية.

يا أطيب الناس أردانا ومبتسما ... كيف العزاء وقد زودتني زادي لام " العزاء " تحتمل أمرين: الواو والياء، والواو أغلب، حكى أبو زيد في " فِعْلة " منها العِزْوَة، وحكى أيضا فيها التَعزوة ألا أنه لا دليل في هذا، وذلك أنك لو بنيت من " رميت " مثل " تَفْعُلةَ " على التأنيث لقلت: " تَرْمُوة " ومن " قضيت ": " تَقْضُوة "، تقلب لأمها للضمة قبلها، وأيضا فإن معنى قولهم: " عزّيت فلانا "، أنك سلّيته بذكر مصائب الناس غيره وأضفت حاله إلى حال من مصابه، كما قالت " من الوافر ": وما يكون مثل أخي ولكن ... أسلّى النفس عنه بالتأسي وقال سعران السلاماني " من الطويل ": ذكرت أبا أروى فبت كأني برد الأمور الماضيات وكيل وقال لبيد " من الطويل ": فأن أنت لم ينفعك علمك فأنتسب ... لعلك تهديك القرون الأوائل فمعنى " العزاء " اذن ما تراه " من " مقابلة الإنسان حاله بحال غيره ونسبته إياها، وهذا هو معنى قولهم: " عزوت فلانا إلى أبيه " إذا نسبته إليه، أنشدنا أبو علي " من الرجز ": اطلب أبا نخلة مَنْ يأبوكافقد سألنا عنك من يعزوكماإلى أبٍ فكلهم ينفيكا

وعلى أنهم قد قالوا: عزيته إلى أبيه، والواو أعلى. وفيها: تخشى عوائده طورا وتنظمه ... نشط النواسج في أنيار حساد قوله " أنيار " دلالة على أن عين النير ياء، وإنما ليست كعين " زير " لان ذاك من زاريزور، ولكن ليس في قوله " نيَّر " دلالة على كون العين باء، ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون " فيْعل " كتحيز لانه " تفعيل " من حاز يحوز، كتفيهق وكذلك قوله هو الجواد ابن الجواد ابن سبل ... أنْ ديموا جاد وإن جادوا وبل فظاهر الأمر في " ديّموا " أنه " فَيْعَلوا " لانه من دام يدوم وعلى أن ابن السكيت قد حكى: " دام المطر يديم دَيْما "، وهذا من الياء البتة، إلا أن يحمله متعجرفا على القلب، فقد حكى أبو زيد: " ماهت الركيّة تميه ميها "، وعلة ذينك عندي أنه بناه على " فَعِلَ - يَفْعِل " كحسب يحسب في الصحيح، فلما رأى الياء ثابتة في المضارع والكسرة في الماضي، وهو " مهت " جرى في اللفظ مجرى " بعت أبيع " فأنس بالياء وصارت كأنها أصل لأنها جاءت مجيئا لا يستعمل في ذوات الواو إلا فيما شذّ وعلى قول رجل واحد أعني الخليل، فلما شذ في الاستعمال وقل القائل به لم يكد يُعتْد به فمن هنا أشبهت " بعت - تبيع " فأجرى مصدره عليه فقيل " ميها " كما قيل " بيعا "، هذا عندي أولى من أن يهجم عليه باعتقاد استمرار القلب فيه ساذجا من غير ضَعَة مُسَوَغة وعلى أنه يجوز أن يكون لغتين قد تكثر إحداهما وتقل الأخرى كما قال أبو عثمان

في قولهم: " كدت تكاد كيدا وكودا " قال: " ولا يستعملون من " كَوْد " فعلا ". والطرف في مقلة إنسانها غرق ... بالماء تذري رشاشاً بعد أجوادِ لام " تذري " واو؛ لأنه من " الذِروة "، إلا إنك ينبغي لك أن تعلم أنه مما كنت قدّمت ذكره من باب السلب نحو: أعجمت الكتاب، وأشكيت الرجل وكذلك: أذريته عن الفرس أي سلبته ذروته كما سلبت المعجم استعجامه وكما اقلعت للمشتكي عما يشكوه فينبغي أن يضم " أذريت " على تلك الألفاظ المقدم ذكرها في هذا المعنى. وفيها: كما تثنى حُميا الكأس شاربَها ... لم يقض منها طلاه بعد إنفادِ قال: " طلاه " لذته، قال: طلاه مثل ظماه ينبغي أن تكون لام " طلاه " ياء تشبيهاً بالطلى ولد الظبية للينه ونعمته ولام الطلى - ولد الظبية - ياء لقولهم في جمعه: طليان. وفيها: والمرسمون إلى عبد العزيز بها ... معاً وشتى ومن شَفْعٍ وفُرّادِ " اسم الرجل في سيره " قال أبو بكر محمد بن الحسن قلت لأبي حاتم: أتجيز " أرسم البعير "، قال: لا، إنما أقول: " رسم البعير فهو راسم " من إيل رواسم. قلت فما تصنع بقوله " من الطويل ": أجدت برجليها النجاء " وكلفت ... غلامي بعيريَّ الرسيم فارسما

قال إنما أراد فارسم الغلامان بَعيريهما، وقد ترى بيت أبي صخر هذا يدل على " أرسم الرجلُ بعيره " كما قال أبو حاتم، وأرادوا " المرسموها " ثم زاد الباء ففصل ما بين الفعل ومفعوله بها كقول الله سبحانه: " ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهْلُكَة " وينبغي أن يكون انتصاب " معاً " و " شتى " على التمييز لا على الحال، ألا ترى أنه عطف عليه ما وجهه التمييز وهو قوله " ومن شفع وفراد " ودخول " من " في الكلام تؤذن بصحة التمييز، ويدلك على جواز دخول " من " على " مع " ما حكاه صاحب الكتاب من قول القائل " مِنْ معه "، وحكى غيره: " كنت معهم فانصرفت من معهم "، كما جاز أن تدخل " من " عليها مضافة كذلك أيضا يجوز دخولها عليها وتقديرها فيها مفردة بل كونها مفردة أقرب بها إلى التمكن، ألا ترى إلى قول الله سبحانه: " ثُمَّ لنَنْزِعَنَّ من كلِ شيعةٍ أيُّهم أشَدّ " ولا: " أي أشد " لأنه بالإفراد إلى القياس وهو الإعراب، وأما الخليل وينس فكانا يقولان فيما حكاه عنهما: " أضرب أيٌّ أفضل " فيرفعان وذلك إنهما كانا يريانه مع الإضافة مُعرياً فأقرّاه على ذلك مع إفراده، وغرضنا نحن مذهب سيبويه لا غير وكان أبو علي رحمه الله يستنكر قول من قال: إن الإضافة أحجى بإيجاب البناء من الإفراد، ألا ترى إن المضاف واقع موقع صدر الكلمة، وصدر الكلمة جزء منها، فهو بالحرف أشبه، وكان يستدل على أن الإضافة لا توجب الإعراب ببناء " أيُّهم " مع إضافتها وبناء " كم " في قولهم: " كم درهم لك " مع كونها مضافة. وقد يجوز أن تكون " من " في " شفع " زائدة على قول أبي الحسن بزيادتها في الواجب، فكأنه قال: " معاَ وشتى وشفعاً وفراداً " فينتصب حينئذ أن شئت على الحال، وأن شئت تمييزاً.

وفيها: بجسْرَةٍ كفنيق الشَّوك مُدْمَجة ... أو دَوْسَرٍ مثل علج العانِ وَخّادِ " العان " جمع عانة، وعين الفعل منها واو لقولهم في الجمع: عُون كقارة وقُور، وقالوا: استعان الرجل إذا حلق عانته، ويجب أن تكون عين العانة هذه واوا لقولهم في تحقيرها: عُوينة، وأما المعونة ف " مَفْعَلَة " من " العَوْنِ "، وقال بعضهم: هي " فَعُولَة " من " الماعون ". ويفسد هذا القول تكسيرهم إياها على " معاوِن "، ولو كانت " فَعولة " لوجب الهمز: " معائن " كجلوبة وحلائب، وليس أحد يقول: حلاوب، ولا عجاوز، وهذا واضح. وقال " من الطويل ": قطعتُ بهن العَيْش والدَّهرَ كُلَّهُ ... فجّر ولو طلت إليك المناسِبُ قال: " طلت " حسنُت، وأعجبت، من هذا عندي قولهم لامرأة الرجل: طلّته، لأنها تعجبه وتحسن في عينه. وفيها: فأقسم لا تنفك مني قصيدة ... تُثبّى لها ما صاح في الجو ناعب لام " تثبى " واو عندنا لأن منه " الثُبّة " وهي الجماعة فمعنى تثبى له يكرر ذكرها شيئا بعد شيء، وأنشد: كم ليَ من تدرِّاٍ مذَب ... أشوس أبّاء على المثبي وقال لبيد " من الطويل ": تثبّي بناء من كريم وقوله ... ألا انعم على حسن التحية واشربِ

ووجه الدلالة من " ثبة " على أن اللام واو أن الثُبَة محذوفة اللام وقد وصى أبو الحسن بحمل ما حذفت لامه وأشكلت على الواو، قال لكثرة ذلك وإنه أكثر من الياء. وما نزل الرُّكبان بالخّيفِ من مِني ... ثلاثاً وما خاضَ الظلامَ الكواكِبُ حياتي وأن يصبح صداي يقفرةٍ ... تَجُرُّ عليه المعصرات الحواصبُ يرثني له الراوون من بعد موتتي ... ثنائي يعيه مشرقٌ ومغاربُ لا تكون " حياتي " بدلا من " ما نزل الركبان " لاختلاف مقداريهما وفساد المعنى مع البدل، وذلك أن حياته إنما مدتها عمر إنسان وذلك معلوم القدر، وما نزل الركبان يطول جدا مدته، وكذلك مدة خوض الكواكب الظلام، فأن قلت: فإذا كان الثاني أقل من الأول جاز إبداله منه كنت " ضربت زيداً رأسه "، وإنما يقبح إبدال الأكثر من الأقل ك " ضربت رأس زيداٍ زيداً " لسلب الإنسان والعود إلى الاستبهام قبل: لعمري أن إبدال الأقل من الأكثر سائغ، إلا أنه في هذا الموضع فاسد وذلك إنه يقول إنه لا يزال يروى قصائده فيه أبداً، فإذا عاد فقال بل مُدَّة حياتي، فقدر حياته بالإضافة إلى امتدادا الدهر لا يعتد أصلاً تراجع عمّا تمدّح به وأوجب الحق بشرطه إِياه على نفسه، فإذا كان كذلك كان " حياتي " منصوبا على الظرف بفعل محذوف دل الكلام عليه، فكأنه قال فيما بعد: أمدحه حياتي فأن مت روى الرواة مَدْحي فسار بعدنا أبداً في الشرق والغرب، وأما " ثنائي " فمنصوب لأنه مفعول ليس ثنى ثان، قال كثير " من البسيط ": أمسى تراث أبن ليلى وهو مقتسم ... في أقربيه بلا مَنٍّ ولا ثمنِ ورثتهم فتسلَّوا عنك إذ ورثوا ... وما وَرَثْتك غير الهم والحزنِ

وقالت " من الطويل ": مضى وورثناه دريس مفاضة ... وأبيض مصقولا طوالاً محامله وأما " مِني " فكان أبو علي رحمه الله يقول: إن لامه ياء وكان يشتقه من " منيت الشيء " إذا قدرته من قوله: حتى تلاقي ما تمني لك الماني أي: يقدر لك المقدر، وكان يجمعهما بأن يقول انها إنما سميت " منى " لأن الناس يقيمون بها فيقدرون أمورهم وأحوالهم فيها، وهذا صحيح مستقيم. وفيها: إذا عشت لي حتى أموتَ فلا أسَلْ ... خلافك في عيش وما حُمَّ واجبُ لك في " أسل " وجهان، أحدهما: إنه أراد الرفع فلا أسل خلافك

فاسكن لكثرة الحركات كقوله " من السريع ": فاليوم اشربْ غير مستحقب ... إِثماً من الله ولا واغل والآخر: أن يكون أراد الدعاء، أي: فلا سألت، فجزم لذلك، ودخول " في " هنا حمل على المعنى؛ لأن معنى: " سألتك في كذا " رغبت إليك فيه، فلما دخله هذا المعنى جاز فيه " في "، كقول الله سبحانه: " الرفثُ إلى نسائِكم "، وقد تقدم ذكره. وفيها: حَدَث مُزْنَةٌ من حضرموت مرتَّةٌ ... ضَجوعٌ لها منه مُربٌ وحالبُ قال: " حضرموت " لغتهم، فيه عندي قولان، أحدهما: أنه لما كان علماً ومركباً دخله تغيير الفتحة إلى الضمة كأشياء تجوز في الإعلام مختصة بها كت " موهَب " و " تهلَل " و " حيوَة " و " معدى كرب " و " مكوزة "، وغير ذلك، والآخر: أن يكون لما رأى أن الاسمين قد ركبا معا وجربا مجرى الشبه ثم الشبه بينهما فضم الميم ليصير " حضرموت " على وزن " عَضْرَفُوط "، فإذا فعلت هذا ذهبت في ترك صرفه إلى التعريف والتأنيث للبلدة، وذلك إنه وإن كان في الأصل مركبا فقد صار فيما بعد إلى وزن الواحد، وباب ما لا ينصرف أغلب أسباب منعه الصرف إنما هو

شبه اللفظ كت " أحمد " و " يعفر " و " تنضُب " علما، وفي القول الأول منعْتَ الصرف للتعريف والتركيب كت " بعلبك " وبابه. وقال أبو صخر أيضا " من الطويل ": عفا سَرّفٌ من جُمْلَ فالمرتمى قَفْرُ ... فَشِعْبٌ فأدبار الثنيّات فالغَمْرُ فخيفُ مِني أقوى خلاف قطينه ... فمكة وحْشاً من جميلة فالحِجْر الشعراء تغير وتحرف الأعلام لإقامة الأوزان من ذلك قولها " من الطويل ": اقلب طرفي في الفوارس لا أرى ... حزاقا، وعيني كالجارة من القطر قالوا: أرادت حازوقا فقالت: حزاقا، وقال " من الطويل ": أبوك عطاء ألأمُ الناس كلهم ... فقبح من فحل، وقبحت من نجل يريد: عطية، وقال " من الوافر ": وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علِقتْ بثعلبة العلوق يريد: ابن سيار، وقال " من الكامل ":

ودعا بمحكمة أمين سكها ... من نسيج داود ابي سلاّمِ يريد " أبي سليمان "، وكذلك قوله عندي " من الطويل ": وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سُليم كُلَّ قضاء ذائل على تحقير الترخيم كزهير من أزهر، وسويد من أسود، دون أن يكون عندك من تحريف الضرورة. قيل يمنع من تحقير سليمان إنما هو تحقير سلمان، وإذا كان تحقيرا لم يجز تحقيره كما لا يحقر نحوه: كُليب وجُعيفر، فإذا كان كذلك كان تحريفا لا ترخيما، فكذلك قوله في البيت الثاني " جميلة " وفي الأول " جُمْل " هو من التحريف الذي تقدم ذكره، ولو كان مكانه " جميلة، لكان أسهل لانه كان يكون تحقيرا بعد تكبير كقول القطامي " من البسيط ". أمست عُلية يرتاح الفؤاد لها ... وللرواسم فيما دونها عمل مع قوله " من البسيط ". المحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه عالية اختالت به الكلل ف " 'ثليّة " ينبغي أن يكون ترخيم " عالية ". وفيها: وَبَلَّ الندى من آخر الليل جبها ... إذا استوسنت وأستثقل الهدف الهِدْرُ قال: " الهدر " الثقيل، وكذلك الهدف، ينبغي أن يكون الهدف من قولهم: " هنا هدف الرمية "، كأنه لثقله وقلة تصرفه منصوب للمصائب

والنوائب، وليس معه من الحركة والتصرف ما يتقي به نوازل ما يكرهه، وكذلك الهدر من الشيء المهدر أي: المطرح أي ساقط، وأما " استوسنت " ف " استفعلت " في معنى الثلاثي أي: وَسنت تونس، وكذلك " استثقل " وقد تقدم ذكر مجيء " استفعل " في معنى " فَعَل ". وفيها: بأسفنط كَرْم ناطفٍ زَرَجونه ... يعقب سرّى جادت به مُزُن قُمْرُ قال: أراد بعقب سحاب سرى، قال: واسفنط رومي اسم الخمر، أما " سرّى " فعلى إقامة الصفة مقام الموصوف، ومثله قوله: مالك عندي غير سهم وحَجَر ... وغير كبداء شديدة الوتر جادت بكفى كان من أرمى البشر أي: بكفى " رجل " كان من أرمى البشر، وأغلظ من هذا قول الآخر: والله ما زيد بنامَ صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه

أي: " بإنسان نام صاحبه "، فحذف الموصوف وباشر بحرف الجر نفس الفعل، وليس " نام صاحبه " بعلم ك " تأبط شرا " و " ذرّى حبا " و " جلا الصبح " ولو ذلك يدل على ذاك قوله معه: " ولا مخالط الليان جانبه " فمعناه، إذن: " ما زيد بنائم صاحبه ولا مخالط الليان جانبه "، وما فائدة ذلك؟ قيل: معناه ألا أنه لا يصاحب إلا النجباء الأذكياء مثله دون دون الثقال البلداء وهذه عادة للشعراء، قال " من البسيط ": وقد أصاحب فتيانا شرابهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم وقال في نحوه " من البسيط ": وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مثلٌّ شلول شلشلٌ شول وأنشد أبو زيد " من الرجز ": وصاحب نبهته لينهضا إذا الكرى في عينه تمضمضا فقام عجلان وما تأرضا ... يمسح بالكفين وجها أبيضا

وهو كثير، وقد يجوز أن يكون صاحبه قلبه أي هو يقظان الفؤاد، والقول الأول أظهر، وأما " أسفنط " فأجتمع الناس على أنه رومي إلا ابن الأعرابي فإنه قال هو عربي وأخذه من " سَفطَت نفسي " أي: طابت، وهو أسفط نفسا من فلان، وذلك لطيب الخمر، فإن كان كذلك فقد ثبت به مثال لم يأت به صاحب الكتاب، ألا ترى أنه لم يذكر في الأمثلة " إفْعنْل "، وينبغي أن يكون العمل على ما أطبقت الجماعة عليه. وفيها: فَقَلَّ به ما عرّسوا ثم أنهجت ... لمنزلة أخرى بهم طُرُقٌ غُبْرُ ليست " ما " هذه " ك " ما " في قوله: " قلما زرتني " و " قلما لقيت زيداً "؛ لأن " ما " من " قلما زرتني " حذف لوقوع الفعل بعده كما أصلحت " ما " حرف الجر وهيّأته لوقوع الفعل بعده في قول الله سبحانه: " رُبَّما يَوَدُّ الذينَ كفروا لو كانوا " وقوله: ربما أوفيت في عَلَم ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ وكما أصلحت الظرف للجملة من غير إضافة في قوله " من الكامل ": أعلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المُخْلسِ وليس كذلك " ما " من قوله: " فَقَلَّ به ما عرسوا " إنما هذه ما المصدرية

في قولك: " عجبت مما صنعت " أي: من صنيعك، و " مما قمت " أي: قيامك وهي مرفوعة ب " قَلَّ " يدل على ذلك فصله بينها وبين " قَلَّ " بالظرف، وهذا الفصل إن وجد بين المضاف والمضاف إليه وبين حرف الجر وما جره في قوله " من الطويل " ف لو كنتُ في خلقاء من رأس شاهق ... وليس إلى منها النزول سبيل ونحو ذلك، فأنا لم نجده معترضاً بين الجزأين المركبين في نحو معدي كرب وقاليقلا ومارسرجس، ولا فيما أصلح فيه الجزء الثاني الجزء الأول لمباشرة " ما "، لولا الثاني لم يباشره نحو: ربما قام، وقلما زارنا، وبعدما أفنان رأسك كالثغام، وإذا كان هذا مفقودا غير موجود لم يجز أن يحمل بيت أبي صخر عليه، فأما الفعل المصلح للفعل بعدهما في قولك: " قَلّما زرناك "، فإنه عندنا لا فاعل له وذلك أن " ما " المضمومة إليه كفّته عن اقتضائه الفاعل وأصارته إلى حكم آخر، وقد تقصى هذا في عدة أماكن من كلام أبي علي وكلامي فتركت الإطالة بذكره. وفيها: سمون بنا يَحْتَبْنَ كُلَّ تنوفة ... تَضِلّ بها عن بيضهن القطا الكُدْرُ لا يجوز أن تكون " تنوفة " من النوف ولا من " أناف على كذا " أي: علاه؛ لأنها لو كانت منه لوجب تصحيحها لموافقة الزيادة في أولها زيادة الفعل وللزم أن تقول: تَنْوَفَة ك " تَدْوَرَة "، وتصحيحها أيضا في التكسير فتقول تناوِف كمعونة ومعاوِن، فهي إذن من لفظ " ت ن ف "، ولا اعرف لهذا الأصل استعمالاً في غير هذا الموضع.

وقال أبو صخر أيضا " من الطويل ": عفت ذاتُ عرْق عُصلُها فرئامُها ... فدهناؤها وَحْشٌ وأجلى سوامُها فيها: كأنّ على أنيابها من رُضابها ... سبيئاً نفي الصفراء عنها أيامُها قال: سبيئاً عسلاً، والصفراء: النحل، والأيام: الدخان، حدثنا أبو علي يرفعه إلى بعض أصحابنا قال: يقال " آمَ العسّال الوَقْبَةَ يؤمها أياما "، وذلك إذا دخن عليها ليخرج النحل فيشتار العسل، والأيام على ما ترى مصدر وعينه في الأصل واو، وقرأت على أبي بكر محمد بن الحسن في نوادر أبي عمرو الشيباني، قال: الأيام العُودُ الذي فيه النار يُدَخَّنُ به على النار، وذكر السكري هنا إنه الدخان نفسه، والذي يجمع بين هذه الأقاويل إنه في الأصل مصدر فسمي به مرة الدخان ومرة العود الذي يدخن به، ولو كسرته على " أفْعِلة " كانت عينه آومة وعلى " فُعلان " لقلت: أومان وعلى " فُعْل ": أُوم. بماذيّةٍ جادت لها زَرَجونةٌ ... معتَّقَةٌ صهباء صافٍ مدامُها

قال: ماذية عسل أبيض، ينبغي أن تكون ماذية " فاعولة " من مذى يمذي، إذا سال، وذلك لرقة العسل، وكأنها شُبّهت بالمذي لرقتها وبياضها، وكذلك عندي ما جاء في شعر هُديل من الماذية يراد به المرآة وذلك لبياضها وما عليها من ماء الصقال، فكأن ماء يسيل عليها، يدلك على ذلك قولهم لها: الماوية، فهي منسوبة إلى الماء لما ذكرنا. بعقب سرَى في مُزنة رَجَبيَّةٍ ... بقاع حنيّ يومَ أجلى غمامُها أي: يعقب سحاب سرى، فحذف الموصوف وقد تقدم شرحه قبل، وحنيّ: " فعيل " من حنوت، وليس يحسن أن تجعل " حنيّ " جمع حنيّة تعني القوس، وذلك إنهم إنما يصفون القسيّ بأن منابتها الأشعاف وأعالي الجبال والقاع منخفض، فأما كان " حنيّ " مكاناً مخصوصا، وأما كان نبتاً متحنياً لعلوه وكثافته. وفيها: فطهر منهم بطن مكة ماجدٌ أبيٌّ شراة الضيم حين يُسامها قال: الشراة الحد، ينبغي أن يكون لامها ياء حملا على الأكثر ولا يمنع أيضا فيه الواو. ومن رأيه ذي الفَضْلِ واليمن والتقى ... أغر سماوي إليه ذِمامُها قال: سماوي سحاب نشأ من ناحية السماوة. يشج بها عرض الفلاة تعسفا ... وأما إذا يخفى من أرض علامُها

" من " في قوله: " ومن رأيه " متعلقة ب " يشج " أي إنما سار وأرتحل برأيه، ومن أجل فضله ويمنه، وأما " عَلامها " بفتح العين فينبغي أن يُحمل على إنه أراد عملها فأشبع الفتحة فنشأت بعدها ألف كقولهم في " أمين ": آمين، وفي " بين ": بينا، وفي قولهم: جيء به من حيث وليسا أي: وليس، وفي قوله " بمنتزاح " وهو يريد " منتزج ": مُفتعَل، من النزح وقد قالوا في جمع " عَلَم ": عِلام، كجبل وجبال، فيجوز أن يكون " علامها " وأما تفسيره قوله: " أغر سماويّ " بأنه سحاب نشأ من قبل السماوة: فساقط، وذلك إنه قد فارق صفة السحاب وانتهى إلى المدح لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بم أمية بن أسيد ألا تراه قال: " أغر سماويّ إليه زمامها " وهذا أمر يخص المدح، ولا معنى للسحاب هنا، ولكن يجوز أن يريد ب " سماويّ " إنه ينسبه إلى السماء ومعالي الأمور كقول الله تعالى: (ما هذا بَشَراً إنْ هذا إِلاُّ مَلَكْ كريم). وفيها: شَمِتَّ بقتلي مالك وهجوتها عليك خزايا قوم لوط وذامُها قد قالوا في جمع " أذية ": أذايا، فيجوز أن يكون " خزايا " جمع " خزية " فقد كسروا " فَعْلَة " على " فعائِل " ككنّة وكنائن. وقال أبو صخر أيضا " من الطويل " لليلى بذات البين دار عرفتها ... وأخرى بذات الجيش آياتُها سَطْرُ

هكذا رواه " البَين " بالفتح، ورويناه عن أحمد بن يحيى وغيره " البين " بكسر الباء، قال: " سفر " كتابٌ غفل، أي: دَرَست فصارت أعلامها إغفالا، ينبغي أن يكون السفر من قولهم: سفرت البيت، أي: كنسته، فكأنه كنست الكتابة من الشطرين فصار غفلا بعد أن كان بها معلما. وقال أبو صخر أيضاً " من الطويل ": بأهلي من أمي على نأبه شكلا ... ومن لا أرى في العالمين له مثلا فأقسم بالله الذي اهتزّ عرشه ... على فوق سبع لا اعلّمه بُطلا بأن لليلى في الفؤاد عَلاقةٍ ... على اليأس يوماً ما سقى الشَرَبُ النخلا أخلص " فوق " اسماً، إلا تراه أدخل " على " عليها، فعلى هذا يجوز أن تقول " فوقُك رأسك " كقولك: " أعلاك رأسك "، و " أعلاك " مرفوع بالابتداء، وقوله: " على فوق سبع " يدفع إنشاد أبي علي بيت الكتاب " من الطويل ": له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماءُ الإله فوقَ سبع سمائيا وكان يقول أن السابعة هي العرش وهي التي أراد بقوله: " سماء الإله " وقوله: " لا اعلمه بُطْلا " منقول من " علم " المتعدية إلى فعول واحد بمعنى " عرف " كقول الله سبحانه: " ولقد علمتم الذينَ اعتَدَوْا منكم في السَّبْتِ " أي: عرفتم، ألا تراه عدّاه إلى مفعولين أحدهما الهاء

والآخر " بطلا " ولو كانت منقولة من المتعدية إلى مفعولين لوجب أن تَخَطّى إلى الثالث لأن تلك منى تعدت إلى أثنين لم يكن بد من الثالث إجماعا، وإنما الخلاف هل يجوز الاقتصار على المفعول الأول دون الثاني والثالث أوْ لا؟ وقوله: " على اليأس يوما "، فاليوم هنا لا يراد به ما يشفع الليلة من بياض النهار خاصة، وإنما الغرض فيه هنا الدهر عموما أيامه ولياليه كقول الآخر " من مجزوء الرمل ": حبّذا العرصات يوماً ... في ليالٍ مقمرات وقد تقدم ذكر نظير. وفيها: ترى الشيب بالأصال يمشون نحوه ... يحيّونه كَهْلاً، ومَنْ لم يكن كهلا " مَنْ " هنا نكرة لأنها معطوفة على " كهلاً " وما بعد " مَنْ " صفة لها وموضعه من الإعراب نصب، فأما " كهلا " فإن شئت جعلته حالا أي: كهولاً وغير كهول، فوضعت الواحد في موضع الجميع كقوله سبحانه: " ثم يخرجكم طِفْلاً ". وقد تقدم ذكره، وأنْ شئت جعلته تمييزاً كأنه أراد. حييونه من كهول وغير كهول، ولا يجوز أن يكون " كهلاً " حالاً منه لفساد معناه. وفيها: أتى أُمَّه قد واعَدَ الغزو فتيةً ... كِراماً نثاهم لا لئاماً ولا عُزّلا لام " النثا " واو لقولهم: نثا الخير ينثوه نثواً.

وفيها: بضربٍ يُطاطي البيضَ من فوق رُؤْوسِهم ... إذا أكرهت فيهم سمعت لها قَصْلا قال: " قصْلاً " أي قطعاً، هو عندي على حذف المضاف أي صوت قصل، لأن القصل نفسه لا يدركه السمع وكسَّر رأساً على " رؤس " كقوله " من الطويل ": فيوماً إلى أهلي ويوماً إليكم ... ويوماً أمر الخيل رؤس أجبال وقد تقدم ذكر ما كسر من " فَعْل " على " فُعْل " نحو: سَقْف وسُقْف وحَشْر وحُشْر وكَثَ وكُثَ ووَرْد ووُرْد، ونظير قوله: " سمعت لها قصلاً " قول جرير " من الوافر ": سمعت حمامةً طِربت بنجد ... فما هجتَ العشيَة يا حماما أي: سمعت صوت حمامة، وعليه قول الله تعالى: " هل يسمعونكم إذ تدعون " أي: هل يسمعون دعاءكم، وينبغي أنْ يُنْشَدَ بضرب يُطاطي، بترك الهمزبين الطاءين، ألا تراه قد أبدل الثانية البتَة ضرورة فالأحسن أن يخفف الهمزة الأولى ليتشابه اللفظان، ولو حقق الأولى، وقد أبدل الثاني لكان في اللفظ من التنافر ما تراه، والشعر أحوج الكلام إلى تشابه أحواله وتناصر ألفاظه، ولذلك عندي ما قدّموا الأرداف والتأسيس، أمام مدّات الوصل ليتشاكلن. وقال أبو صخر أيضا من قصيدة " من الوافر ":

بياض الرأس ما لم تأت أمراً ... يكون سواه أتوحل حلال قال: أراد " حِلٍّ " فخفف هذا التخفيف أكثر ما يكون في القول في المقيدة نحو قوله: ها إنّ ذا غضب مطر وقوله " من الرمل ": ما أقلت قدماي إنهم ... نعم الساعون في الأملا المبر وقوله " من الرمل ": أصحوت اليوم أن شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر وقلما يجيء في حشو البيت إلا أنه قد جاء، فمنه قوله أنشدناه أبو علي وقرأته أيضا عليه: بكيّ بعينك واكفَ القَطْرِ ... أين الجواري العالي الذكر يريد: الجواري، وأنشدنا أبو علي لعمران بن حطان " من البسيط ": قد كنت عندك حولاً لا تروعني ... فيه روائع من أنس ولا جان هكذا انشدناه معتقدا فيه التخفيف مع ما تراه من الإطلاق، وقد يجوز فيه عندي وجه آخر وهو أن يكون أبدل النون الثانية لاجتماع المثلين كقولهم: " أمليت الكتاب " في معنى أمللت من قوله سبحانه: " وليُمْلِلِ الذي عليه الحقُ "، وكما حكى أحمد بن يحيى من قولهم: " لا وربيك لا أفعل "، يريد: وربك وعلى هذا تأول أبو علي قوله: وآليت لا أملاه حتى يُفارقا

قال: أراد: لا أمَلّه، فأبدل الثاني، ومنه قول الشاعر " من الخفيف ": أنّ سلمى هي المنى لو تواتي ... حَبَّذا هي من خُلَّةٍ لو تخالي أراد: تخالُّ، فإذا أمكن ذلك كان حَمْل بيت عمران على هذا الضرب من البدل أخلق من حمله على الحذف؛ لأن البدل على كل حال أحسن من الحذف، ومما حذف في الوصل قوله " من الكامل ": أزهير أنْ يشب القذالُ فإنني ... رب هيضل لجب لففت بهيضل فاذا جاز الحذف في الحرف على قلته فيه فهو في الاسم لكثرته فيه أولى، ووجه ذلك عندي إنه أجرى الوصل في الشعر مجرى الوقف على القافية فخفف، ونظير هذا عندي قوله: يا ليتها قد خرجت من فمه ... حتى يعود الملك في أسطمه أجرى الوصل مجرى الوقف فثقَّل مع الإطلاق نحو: الأضْخِمّا والعَيْهَلَ وكذلك قول الآخر، أنشده أبو زيد: مَحْضٌ نجاري طيّبٌ عُنْصُرِّي إلا أن هذا ومن فمه أغلظ من الأضخما والعَيْهَلّ وبعدما اخصبّا، وذلك انهما مضافان ولا سيما إلى مضمر، والوقف دونه لا يجوز، فإذا ساغت نية الوقف فيما هذه حاله كانت نيته فيما يمكن الوقف عليه أمثل. وفيها: وما مُتَرجِّزُ الآذيّ جَونٌ ... له حُبُكٌ يطم على الجبال

الأذى " فاعول " من الأذى، كما أن الآريّ " فاعول من أرى يأري، إذا انقبض واحتبس، وكما أن الماذيّ " فاعول " من مذى يمذي. وأما " ضاويّ " فيحتمل أمرين فيما رواه أبو علي، أحدهما: أن يكون " فاعولاً " من الضوى، والآخر: أن يكون " فاعليّاً " منه حذفت لامه على قولهم في ناجيةٍ: " ناجيّ "، وأما العارية ف " فَعَلِيّة " من قولهم: تعوروا العواريّ بينهم أي تداولوها ومن قوله: مسح الأكف تعاوروا المنديلا وأما الجاديّ ف " فاعول " من الجيّة وهي طريقة الدم، سمي بذلك لحمرته، كذا أرى أنا فيه، ولم أعلم أحدا من أصحابنا ذكره، وينبغي أن تكون لام " الجديّة " واوا، فقد دللت على صحة هذا فيما مضى، وأما " الباري " فأعجمي. وفيها: كفاني كُلَ أبيض خالديّ ... طويل الباع مُضْطلع الحمال ينبغي أن يكون أراد الحمالة فحذف الهاء كما حذفها مالك بن جبار من قوله " من البسيط ": إِنّا بنو عمكم لا أن نباعلكم ... ولا نصالحكم إلا على ناحِ قالوا: أراد ناحية، وقد تقدم ذكر نحو هذا. وقال أبو صخر أيضا من قصيدة " من الطويل ": وركبان أنضاء يَبُلُّ رحالهم ... ضريب عثانين من الثلج بارد القوافي مجرورة، قال: ويروي: " من الليل ". ظاهر الأمر في " بارد " أن يكون صفة ل " عثانين "، وأن كان جمعا متناهيا، ألا ترى أنه قد شابه الواحد بأن جُمع فقيل:

هن يعلُكْن حدائداتها قرأته على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى وأنشدنا أبو علي: قد جرت الطير أيامنينا ... قالت وكنت رجلا فطينا: هذا لعمر الله إسرائينا وحكى أبو الحسن: " صواحبات يوسف " و " مواليات العرب "، فلما جُمعَ جَمْعَ الواحد جاز أن يوصف بلفظ الواحد، ووجه آخر: وهو أن يكون صفة " ضريب " إلا أنه ألحقه ياءي الإضافة توكيدا لمعنى الصفة كقول العجاج: غُضْفٌ طواها الأمس كلاّبيّ وقد تقدم القول عليه، وكذلك أراد " بارديّ " فلما وقف خفف وذكر البرد مع الثلج توكيدا. وقال أبو صخر أيضا من قصيدة " من البسيط ": جهم المحيا عبوس باسل شرس ... وَرْد قُصاقِصَة، رئبالة شكم

قال: الرئبال من الأسد كالقارح من الخيل التي تمت أسنانه، قال: هذا عن أبي حفص عمر بن بُكير، قال: وشكم غضوب، ينبغي أن يكون من " الشكيمة " وهي شدة الخلق ومنه شكمته إذا كافأته فكأنه يقابل أعداءه مكافئا لهم، فإن قلت فإن الشكْمَ هو المكافأة مرسلة لا يخص خيرا من شر فكيف أخلصتها هنا للشر؟ قيل: لا ينكر أن يكون الشيء في الأصل سائغا غير مقصور ثم يراد في بعض الأحوال المبالغة فيقتصر على أحد ما يقع عليه كقولنا للكعبة: بيت الله، ولعلم حلال الشريعة وحرامها: الفقه، وللثمين من تجارة: الجوهلا، ونحو ذلك، فكما اختص هذا للخير كذلك اختص " شكم " للشر، والمعنى الجامع هما إرادة المبالغة لا سيما وقد تقدم في أول البيت ما جذب إلى ذاك وحدا على قصره على ما يضاهيه. وفيها: شيبت بموهبة من رأس مرقبة ... جرداء مهيبة في حالق شمم قال: موهبة غدير، هذا عندي مما شَذّ في تصريفه لأن العرب لا تكاد تبني " مَفْعَلاً " بفتح العين مما فاؤه واو إنما هو " مَفْعِل " بكسرها نحو: الموضع والموقع والموجِدة والمورِدة، إلا أنه قد جاء من هذا ما قدمت ذكره منه قولهم: مَوْضَع بفتح الضاد، قد حكيت كذلك عن الفراء وقالوا: مَوْجَل ومَوْحَل وموقَعَة الطائر، وقالوا: أكل الرطب مَوْرَدَةٌ والبطنة مَوْسَنَة، وقالوا: مَوْظَب ومَوْثَب، ولم يذهب فيه إلى لفظ " م ر ق "، قال: وأما مَوْألَة فمن اخذها من ذاك فهي من هذا الباب، ومن أخذها من " مَألْتَ " فهي " فوْعَلَة "، ومثل قوله مَهْيَبَة في تصحيح عينها قولهم: " هذا طعام مَطْيَبَة للنفس " و " كثرة الشرب مَبْوَلة " و " الفكاهة مَقْوَدَة إلى الأذى "، وقالوا في " المَثُوبة ": المَثْوَبَة، وفي " المشُورة ": المَشْوَرَة، وقالوا في العلم: مَرْيَم ومَدْيَن ومكْوَزَة، وكأنَّ الغدير سمى مَوْهَبَة؛

لأنه كأنه عطية وهبة من الله، وذلك لإفراط سرورهم به وانسهم بوروده. قبله: كأنّ معتقةً في الدن مغلقة ... صهباء مصعقة من رانيء رَدم قال: يقال رانت به الخمر، وهذا كان يوجب فيه عندي " رائن " كباع فهو بائع، وإنما رواه رانيء بالهمز، ولو كان قبله لوجب فيه رانٍ كشاك من شائك، ولاث من لائث، والذي أراه فيه إنه " فاعِلُن " من لفظ " اليُرَنّأ " وهو الحِنّاء، فاراد هنا اللون وصبغه، فإن قلت: فقد قال صهباء، والصهبة بعيدة من الحمرة؟ قيل: لا ينكر ذلك، وذلك إن الصهباء قد صارت اسما للخمر حتى تُطلق عليها على اختلاف ألوانها وكالمدام هو اسم لها وأن لم يطل دوامها لما استمر فيها. وقال أبو صخر أيضا من قصيدة: فُسُمْيٌ فأعناءُ الوجيع فسابس ... إلى عنق المصياغ من ذلك لا أعرف في الكلام تركيب " س م ي " إنما هو " س م و " فقد يمكن أن يكون بُني من " سموت " اسما على " فُعُل " فكان تقديره " سُمُو "، فلما تطرفت وأنضم ما قبلها قلبت ياء فصارت " سُمٍ " ثم أنه اسكن العين كقولك في ضُرِبَ: ضُرْبَ، فأقر الياء بحالها وإن زالت الكسرة لفظاً لتقديره إياها معنى كقول الآخر قرأته على أبي صالح عن اليزيدي يرفعه إلى الأصمعي: قالت أراه دالفاً قد دُنى له أراد: دُنِىَ فهي " فُعِل " من دنوت، فعلى هذا يتوجه كون السُمى من سموت، وأما " الاعناء " فواحدها " عناً " وهو الناحية ولامه واو، وقد

تقدم القول عليه. وفيها: جَلَوا من تهامي أرضنا وتبدلوا ... بمكة باب اليون والريط بالعصب قرأت على الحسين بن علي عن أبي عبد الله محمد بن العباس عن محمد بن حبيب لكثير " من الطويل ": جرى دون باب اليون والعصب دونه ... رياح اسقت بالتقاو اشمت وهو بمصر، والقول فيه إن كان عربيا كان غريبا، وذلك إنه ثالث يوم ويوح مما فاؤه ياءٌ وعينه واو، وهذا هو الظاهر، وقد يجوز أن يكون بنى " فُعْلاً " من " يَيَنَ " وهو اسم موضع على قول أبي الحسن في " فُعْل " من البيع: يُوع. وقال: والجن لم تنهض بما حملتني ... أبداً ولا المصباب في الشَّرْم " المصباب ": السفينة، و " الشرم " ما لم يدرك غوره من البحر. القول في " الشرم " إنه سمى بذلك لأنه من: شرمت الشيء أي: شققته، وذلك أنه الموضع المنشق الغائر من البحر، وقيل له شرم كما قيل له بحر والبحيرة: المشقوقة الأذن من النوق، ولذلك قيل له البَضيع لأنه " فَعيل " من بضعت أي: شققت.

وفيها: أن أرى الذي قد ظن أن ستري ... وضَحَ النهار وعالي النجم أنتصب " وَضَحَ النهار "، وليس يحسن أن تجعله بدلا من الهاء المحذوفة من ستراه من قبل أنه حذفها للإيجاز والبدل يشابه التوكيد بما فيه من التكثير والتوكيد للإسهاب والإسهاب ضد الإيجاز. وفيها: ومطوَس سَهْل مدامِعُه ... لا شاحب عارٍ ولا جَهْمِ قال: " مطوس " حسن، قد تمكن معنى الحسن في هذا اللفظ حتى قال رؤية: " طاووسا "، وهذا كقولهم: مررت بحية ذراع طولها، وبكتاب طين خاتمه، ومررت بقاع عرفج كله، هذا ومنه قول الآخر: كأنّ لها منه بيوتاً حصينة ... مسوماً أعاليها وساجاً كسورها فرفع ب " وساج " و " مسوح " لما كان معنى مسوح: سود، ومعنى وساج: خضر. وقال لسعيد بن عبد الملك " من الوافر ": أصاب أبو سعيد حين سمّى ... سعيدا حين سمّاه سعيدا لم يفسره أبو سعيد السكري، والقول عليه أنه كأنه قد أصاب والد سعيد حين اجمع تسميته في أن سماه سعيداً فاستعمل " حين " الثانية في موضع " أنْ " وقد كثر استعمال ظروف الزمان عن " أن " وذلك لمقاربة المصدر

لظرف الزمان من ذلك قولك: " أحسنت إليك إذ أطعتني " معناه: إن أطعتني أي: من أجل أن أطعتني، وأسأت إليك إذ عصيتني، أي: من أجل أن عصيتني، ألا ترى أن الثاني مُسبب عن الأول ومن حكم السبب أن يتقدم ما كان مسببا عنه، ومنه قول الله سبحانه: " ولن ينفَعكُم اليوم إذ ظلمتم أنَكُمْ في العذابِ مشترِكون "، أي: لن ينفعكم من أجل أن ظلمتم اشتراككم في العذاب، وله نظائر، وفي هذه الآية ما هو اكثر من هذا ولأبي علي فيها قول وراجعته فيها فخرج ما قد اثبت. ثم ما خرج من شعر أبي صخر

(53) وهذا شعر مليح بن الحكم

(53) وهذا شعر مُليح بن الحكم قال: تشوقت اثر الظاعن المتفرق فيها [287] [من الطويل]: إذا هن ظاهرن اللجين صدعنه ... بسر الشبا يخرقنه كل مخرق لام (الشبا) واو وهو الحدة لقولهم في جمعه: شبوات، ومنه شبوة العقرب لحدتها. وفيها: يجللها الأحمال عبد كأنما ... جلين بماء المذهب المترقرق ينبغي أن يكون (المذهب) هنا مصدرًا كقولك بماء الأذهاب كما قال محمد بن يزيد في قولهم: حروف المعجم، إن المعجم هنا الإعام، وقرأ بعضهم فيما حكاه أبو الحسن: "ومن يهن الله فما له من مُكْرم" أي: من اكرام، هذا هو الوجه. وقد يجوز أن يكون (المذهب) هنا اسم المفعول كأنه قالأ: بماء الشيء الذي يذهب وماء الذي يذهب هو ماء الذهب، ويجوز أن يكون اراد بماء الجوهر المذهب به ثم حذف حرف الجر فأرتفع الضمير لقيامه مقام الفاعل فلما ارتفع [288] استتر في اسم المفعول على ما تقدم من قوله [من الطويل]: [كأن ثبيرا في عرانين وبله] ... كبير أناس في بجاد مزمل

أي: مزمل فيه، والجوهر المذهب به هو الذهب فكأنه قال: جلين بماء الذهب ففي (المذهب) على هذا القول والقول الذي قبله ضمير مرفوع، فأما وهو مصدر في القول الأول فلا ضمير فيه لأنه ليس بصفة لأنه ليس باسم مفعول. وفيها: أصول الغضا لم نصح حتى تعوددت ... به من أجيج الواهج المتودق لام (الغضا) ياء لقولهم فيه: الغضياء كالطرفاء والقصباء، جاء ذلك في شعر الطرماح، قالأ: [غضي عن الفحشاء يقصر طرفه .... وإن هو لاقي غارة لم يهلل] وفيها: لتلتمس عينًا سوى عينك التي ... وهبت بجاري دمعك المترقرق [289] قال: ويروى (ذهبت)، أما من روى (وهبت) فإنه يحتمل أمرين، أحدهما: أن يريد التي وهبتها فحذف العائد تخفيفًا، والآخر: أن تكون الباء زائدة كأنه قال: التي وهبت جاري دمعها، وأما من قال: (ذهبت) فإنه يحتمل أمرين أيضا، أحدهما: ذهبت بها بجاري دمعها كما تقول ذهبت بمالك بالاتفاق، وحذفت (بها) كقول سيبويه في قول الله تعالى: " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا"، أي: فيه، فحذفه. ويجوز أن يكون حذف الباء فبقي (ذهبتها) ثم حذف الضمير في الصفة

ويكون الجاري على هذا مصدرا كالباطل والفالج أي بجريان دمعها، والآخر: أن يكون على ظاهره. وفيها فإن تنجلي بالود عني وتبخلي ... بوصلك أو تدلي بأشعث مخلق يحتمل هذا قولين، أحدهما: حذف المفعول كأنه قال: فإن تصرفي [290] الود، وحسن له أيضا زيادة الباء أن معناه: فإن تنصرفي بالود، فهو إذن من قول الله سبحانه: " الرفث إلى نسائكم"، وقد ذكرت أشباهه، فإني كما قد تعلمين ابن حرة ... لقرم هجان وابن آل محرقِ يحتمل: (كما قد تعلمين) أمرين، أحدهما: أن يكون اعتراضا بين اسم (أن) وخبرها أي فإني ابن حرة وقد تقدم ذكر هذا الاعتراض، والآخر: أن يكون خبر (أن) وابن حرة خبرا آخر كقولنا: (هذا حلو حامض)، وإذا كانت (كما قد تعلمين) اعتراضا كانت الكاف خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كما تعلمين وحذف المبتدأ.

ونحن قتلنا مقبلا غير مدبر ... تأبط ما تزهق بنا الحرب تزهق هذا يدل على جواز تقديم حال المظهر، أراد: قتلنا تأبط مقبلا، فقدم، ومثله ضربت جالسة هندا، وقد قدمنا نظيره [291]، وأراد (تأبط شرا) فحذف المفعول للعلم به. ولذا جاز هذا مع ياءي الإضافة إليه تأبطي وفي برق نحره: برقي، ينسب إلى الصدر ويترك العجز فضلة كان، أو أحد ركني الجملة. صبحناهم والشمس خضراء غضة ... بذات الغضى حد السنان المخرق لام (الغضى) ياء لجواز امالتها ولأنها لام مجهولة، وقد تقدم قانون هذا. وفيها: ضربنا بهن الهام من كل جائز ... عن الدين أو من تائه متبطرق قال: (متبطرق) متكبر، هذا يؤكد عندك صرف ما كان من الأعجمي تدخله الألف واللام واجراه لذلك مجرى أصول كلام العرب لدخول اللام عليه، وذلك نحو رجل سميته نيروزا ولجاما، ألا تراهما لدخول اللام عليهما في النيروز واللجام جاريين مجرى القيصوم والكتاب، ووجه الدلالة [292] أنه أشتق من البطريق (تفعلل) فقال: تبطرق فهو متبطرق، فجرى مجرى تدحرج فهو متدحرج، فالاشتقاق منه يحلقه بأصول كلام العرب التي هي مصادر. قال أبو علي ومنه قول رؤبة: هل ينجيني حلف سختيت ... أو فضة أو ذهب كبريت

قال: فسختيت من سخت كزحليل من زحل، وإذا جاز أن يشتق من اعلام كلام العجم على بعدها عن أصول كلام العرب كان الاشتقاق من أجناسها المشابهة لاجناس كلام العرب أجوز وذلك قولهم: قد تفر عن الرجل، إذا طغى وعلا أمره، فهذا من فرعون، وفرعون علم، فسختيت من سخت، ومتبطرق من بطريق لجواز السخت، والبطريق أولى بالجواز. وفيها [293]: بضرب يزيل الهمام شدة وقعه .... بكل حسام في صبي ورونق قال: (صبيه) فوق ظبته، لا يجوز أن تكون الباء في (بكل) من صلة الضرب حتى يصير تقديره بضرب بكل حسام، وذلك أن قوله: (يزيل الهام شدة وقعه) صفة لضرب، والصفة إذا جرت على الموصوف آذنت بتمام الاسم وانقضائه، ألا ترى أنه لا يجوز: (عجبت من ضربك الشديد عمرا الضعيف) ـ، ولكن يجوز أن تكون الباء في قوله: (بكل) صفة أخرى لـ (ضرب) فتكون حينئذ متعلقة بمحذوف وفيها ضمير الموصوف كأنه قال: (بضرب كائن بكل حسام) وما يكون من صلة المصدر في حال قد يكون خبرا عنه وصفة له، ألا ترى إلى قولك: عجبت من اياب زيد إليك، فـ (إليك) متعلقة بنفس المصدر وقد قال الله سبحانه: " إن إلينا إيابهم "، فجعل (إلينا) خبرا عن المصدر ويجوز أيضا أن تكون الباء [294]، في (بكل حسام) متعلقة بفعل محذوف دل عليه قوله (بضرب) أي: ضربناكم بكل حسام، وقد تقدم نظير هذا. أما لام (صبي السيف) فينبغي أن تكون واوا لأنه طرفه وكأنه صغير بالإضافة إلى جملة السيف كصغر الابن من الأب، أو لأنه طرفه والانسان كالطرف لأبيه وكل واحد

منهما طرف لصاحبه أي ناحية له وقتر، قال [من الطويل]: فكيف باطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صلوح وقد قالوا: صبوت إليه، أي ملت إليه، والشيء إنما يميل إلى الشيء بأطرافه وجهاته فتكون اطرافه أقرب إلى الميل إليه من زبرته ومعظمه. وقد علمت ذاك القبائل كلها .... ومن قد فككنا من أسير ومطلق أي: ممن كان أسيرًا، وهو الان مطلق عنه بفكنا إياه، فحكى حال الأسر في حال الفك كما يحكي حال الموت في حال الحياة في نحو قوله: إذا ما مات ميت تميم ونحو ذلك فاعرفه، وقد تقدم ذكره. وإن أفتخر ابلغ مدى المجد كله ... وإن اقتصر أبلغ سناء وأصدق لام (السناء) واو لأنه الشرف، وقالوا: سنايسنو، إذا استقى كأنه رفع الماء من البئر ونحوها، وروينا عن قطرب: سنى في المجد يسنى سناء، وسنا يسنو سناء أيضًا، وهذا قاطع. وفيها: وداوية ملساء تمسي سباعها ... بها مثل عواد السقيم المغفق

يجوز أن يكون من (الدو) فاعلة ثم نسب إليها فحذف لامها كقولك في ناجية: ناجي، وقال الفراء: أصلها دوية، فأبدل الواو الأولى الفا، يريد نحو يا جل ويا حل، ويجوز فيها عندي وجه ثالث، وهو أن يكون بني منها (فعلية) إلا أنه [296]، أعل العين وصحح اللام كـ (غاية) و (طاية) و (ثاية)، ومثلها في المثال العارية، إلا أن لام هذه صحيحة فأعلت عينها. وفيها: بعنس تبيت العيس ترتع تحتها ... خبيا يبلى كل سفعاء سيلق قال: (سيلق) حديدة، ينبغي أن تكون من قول الله: سلقوكم بألسنة حداد. وقول الشاعر [من الخفيف]: إن تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألد ذا مسلاق وهذا يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكون ذا صوت مسلاق أي صلب شديد، والآخر: أن يكون اراد: وخصيما ألد مسلاقا، فجاء بذا على ما يقوله في اضافة المسمى إلى اسمه، وقد تقدم نحوه في قوله [من الكامل]: [فكأنها بالجزع بين نبايع] ... وآلات ذي العرجاء نهب مجمع وقال مليح أيضا من قصيدة [297] [من الوافر]: يظفن بعوهج غيداء مثل الـ .... غمامة برقها عمل منير

قال: اجتمعت العين والهاء غير مفصولة منها ومفصولة، فغير المفصولة، نحو: عهر وعهار، ومفصولة نحو: عوهج وعمه، فإن تقدمت الهاء على العين لم يكن من الفصل بد وذلك نحو: الهراع وهيع وهجع. وفيها: جوافل في السراب كما استقلت .... فلوك البحر زال بها الشرير قال: (الشرير) شجر البحر، جمع (الفلك) على فلوك، كـ (برج) وبروج، وينبغي أن يكون ذلك المجموع هو الواحد من قول الله سبحانه: في الفلك المشحون، لا الجميع في قول الله تعالى: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم. وذلك أن سيبويه قال: لا يكسر التكسير إلا عن تقدم سماع. فتضجع تارة وتقيم أخرى ... بهن طوالب القصد الصدور [298] يرتفع (الصدور) بـ (طوالب) كما تقول: (مررت برجال طوالب زيدا نساؤهم)، وإن شئت رفعت (الصدور) بالقصد كقولك: (حب القيام زيد) أي: إن يقوم زيد، فتعمل المصدر، وفيه اللام كقوله (عن الضرب مسمعا)، فيصير تقديره: (طوالب إن تقصد الصدور). وقال مليح أيضا من قصيدة أولها [من البسيط]: بأن الخليط الذي ما دونه أحد ... عندي ولو لم يكن يدري بما أجِدُ

قال: أي ليس عندي أحد يعدله، واراد: وإن كان هو لا يدري بما أجد، لا يجوز أن يكون (عندي) صفة لـ (أحد)، لأن المعنى أنه ما عندي أحد أقرب إلي منه، وقد يجوز على هذا أن يكون دونه هو المستقر، و (عندي) فضلة فارغة متعلقة بدونه وهو ذو الضمير، ويجوز فيه [299] عكس هذا، وهو أن يكون (عندي) هو المستقر وفيه الضمير و (دونه) فضلة فارغة معلقة بـ (عندي)، وقد يجوز أن يكونا خبرين كـ (حلو حامض) من قولك: (هذا حلو حامض)، فإذا كان ذلك كذلك ففي كل واحد منهما ضمير إلا أن الضمير الذي يتقاضها المبتدأ من خبره إذا كان حاملا لضميره إنما هو في مجموع الظرفين لا في إحدهما لأنه ليس إحدهما هو الخبر دون صاحبه فيعود الضمير منه لنفسه على مبتدأه، وقد يجوز أن يكون دونه حالا لـ (أحد)، وأصله أن يكون صفة لـ (أحد) مؤخرًا عنه، فلما قدم عليه نصب على الحال منه كقوله [من الطويل]: أبنت فما تنفك حول متالع ... لها مثل آثار المبقر ملعب ومن رفع بالظرف لم يكن فيه ضمير لرفعه الظاهر إلا أنه لا يجوز أن يكون الرافع للنكرة إلا الظرف [300] الأول لأن ما ارتفع بالظرف كالفاعل. سدسا وبزلا إذا ما قام راحلها ... تحصنت بشبا اطرافه غرد صريف الفحل لقطمه، وحد (غرد) وإن كان خبرًا عن الأطراف

حملاً على المعنى لأنه كأنه قال: كل طرف منها غرد، ومثله ما أنشده أبو الحسن [من البسيط]: [وجفنة كنضيح البئر متأقة] .... ترى جوانبها بالشحم مفتوقا أي: كل جانب منها، ومثله ما حكاه أبو زيد من قولهم: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مائة، أي: كسا كل واحد منا حلة واعطى كل واحد منا مائة، عليه قول الله سبحانه: " فاجلدوهم ثمانين جلدة" أي: اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة اعتبارًا بقوله جل وعز: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة". قال [301] يا ابن التي حد ثناها باع أي: كل واحدة منهما باع، وعليه عندي قوله تعالى: أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر. أي: أو لم نعمر كل واحد منكم ما يتذكر فيه من تذكر. وفيها: فالعين تحمل أشواقًا مضاعفة ... والعين تكحل فيها الصاب والرمد ينبغي أن تكون عين (الصاب) واو حملا على الأكثر، وقد مضى ذكرها. كدلج الشرب المجتار زينه ... حمل عثاكيل فهو الواثن الركد

قال: (المجتار) المتجاور، بعضه قريب من بعض، أخرج هذا على موجب قياسه ولم يصحح هنا كما صحح في أكثر الأمر، وأجرى في الاعلال مجرى (اعتاد) و (اقتاد)، وقد تقدم [302] القول على بابه. وفيها: كأنها يوم تثنينا تحيتها ... غمامة من سماك صوبه قرد ذكر (السماك) وأخرجه مخرج واحد من جماعة كل واحد منها سماك، وهو نحو قولهم: (أما البصرة فلا بصرة لك) فإن قلت: فهناك سماكان، فمن هنا جازت الإشاعة قيل: هو وإن كان كذلك فإن النوء إنما هو لاحدهما وهو السماك الأعزال والرائح لا نوء له، وفيه أكثر من هذا. تثني لنا جيد مكحول مدامعها ... لها بنعمان أو فيض الشرى ولد قال: (الشرى) ما كان حول الحرم، ينبغي أن تكون لام (الشرى) ياء لأنها مجهولة، فالياء أغلب من الواو على اللام، وكذا رأيته في الخط العتيق مكتوبا بالياء، وإن كانوا قد كتبوا (القرا) للظهر بالياء وهو من الواو وكذا (مازكا) [303] كتبوه بالياء. وفيها: وحب ليلى ولا تخشى محونته ... صدع بنفسك مما ليس ينتقد قال: (محونته) عاره أو تباعته، يمكن أن يكون (محونة): (فعولة) من المحنة لأن العار من أشد المحن وأغلظها، ويجوز أن تكون (مفعلة) من (الحين) على قول أبي الحسن في (مضوفة) و (مبوعة)، وذلك أن

العار كالقتل أو أشدـ، فإن كسرت على القول الأول همزت فقلت: محائن كعجائز، وعلى الثاني لا تهمز كمعايش. وفيها: سعلاة ظلماء حرف لا تورعها ... خشاشة مثل حجل الساق والمسد عطف المعرفة على النكرة، والعطف نظير التثنية وأنت لا تجمع في التثنية بين المعرفة والنكرة، وفرق [304]، بينهما الذي جاز هذا لأجله أن العطف يتباين وفيه الاسمان، ويمتاز أحدهما من صاحبه، والتثنية يصاغ لها فلا يكونان إلا من لفظ واحد، وأما قوله (لنا قمراها) و (وجزاني الزهدمان) و (سيرة العمرين)، فإنك لم تجمعها إلا بعدأن سميت كل واحد منهما باسم صاحبه فصارا كأنهما قمر وقمر، وعمر وعمر، وزهدم وزهدم، لولا ذاك لم يصغ من اسمين مختلفين اسم واحد من لفظ واحد، ألا ترى أنك لما لم ترد هذا وعمدت إلى صياغة اسم واحد من اسمين البتة ضممت بعض حروف احدهما إلى بعض حروف صاحبه فقلت: عبقسي وعبدري وعبشمية ومرقسي، ومما جاء من عطف المعرفة على النكرة قوله: [أرمي عليها وهي فرع أجمع] ... وهي ثلاث أذرع والأصبع إلا أن النكرة التي هي خشاشة موصوفة فهي أقرب [305] من المعرفة.

مهشة لدليج الليل صادقة ... وقع الهجير إذا ما شحشح الصرد شحشح: صاح، لك في نصب (وقع الهجير) مذهبان، إن شئت على أنه مفعول صادقة كقولك: (صدقت القتال) أي بالغت فيه ووفيته ما يجب له، فإن شئت على أنه تمييز مشبه بالمفعول كقوله أجب الظهر والشعر الرقابا وقوله، أنشدنا أبو علي [من الطويل]: لقد علم الايقاظ أخفيه الكرى ... تزججها من حالك واكتحالها لا تستزاد ولا تثني براكبها ... إذا تفاضلت العيدية النجد قالوا: النجود الماضية، ولا تثني براكبها أي: لا تؤخره حتى ينثوي عليه، والعيدية: الإبل منسوبة إلى عيدان بن مهرة. ينبغي على هذا القول أن يكون [306] العيدية مما غيرته ياء الإضافة كقولهم في أمس: أمسي، وفي الدهر: دهري، وفي الحمض: ابل حمضية، وفي الرمل: رملية، ونظائره كثيرة. وأما (عيدان) فينبغي أن يكون من نخلة عيدانة إن ينصرف لأن النون أصلية لأنه من (عدن بالمكان) أي أقام به، وذلك لطول لبث النخل، وإن كان (عيدان) كرحيان إذا جعلته (فيعلان) مخففا فإنه لا ينصرف. وقال [من الطويل]: وإن رددوا فيها النسوع تباعدت ... بها صعداوي كل أحمر بازل أي: تباعدت اجوافها بالنسوع قبل تنفس صعداوي، وكل جمل بازل، وصعداواه تناهى ما بين نفسيه، فـ (صعداوى) على هذا التفصيل منصوب على الظرف من المكان.

فلما دنت ملأرض حتى تقربت ... إليها وحتى طبقت بالكلاكل [307] وقاموا إليها بالولايا فشمرت ... بها قردات التي شم الكواهل قال: أراد فما دنت، قال: ومعناه تقربت الأرض إليها لسعة اجوافها وعظم بطونها، هذا الذي ادعى السكري فيه أن (لما) بمعنى (ما) شيء لم يعلمه أتي في نثر ولا نظم ولا المعنى أيضا عليه، ألا ترى أنه لم يرد أنها لم تدن من الأرض حتى كذا، والمعنى أنها لما دنت من الأرض وتقربت وألزقت أجوافها بها كان كذا، ولكن النظر في جواب (لما) أين هو؟ فأما على مذهبنا فإنه على حذف الجواب للعلم به كما قدمنا القول فيه من قوله جل وعز: " فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه"، وأما على قول البغداديين فإنه يجيء على زيادة الواو كأنه قال: قاموا إليها بالولايا، وقال: يجيء على قولينا جميعا أن تكون الفاء زائدة كأنه قال: شمرت لأننا نحن نرى زيادة الفاء كما يرونه هم. [308] وفيها: نقية بن المحجرين كأنما ... كست مذهبا مجرى الدموع الهوامل

(مذهب) هنا مصدر كالمنزل والمدخل والمخرج، وقد يجوز أن يكون على حذف المضاف أي: ماء مذهب، وماء المذهب هو ماء الذهب فكأنه قألأ: كست ماء الذهب، وقد سبق القول على مثله. فلما اصطففن السير والتف كورها ... عليها كما التفت غروس الجداول أراد: اصطففن في السير، فحذف في نصبه تشبيها بالظرف كقول الهذلي: باسرع الشد مني يوم لانية [لما عرفتهم واهتزت اللمم] أي في الشد، وإن شئت كان تقديره أصطففن للسير فلما حذف اللام نصبه لأنه مفعول له كبيت الكتاب. [ويركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور] والهول من تهول الهبور وكقول مزاحم [من الطويل]: لك الخير إن زمعت صرمي وأصبحت ... قوي الحبل بترا جذها الصرم جاذم أي: جذها للصرم.

وقال أيضا من قصيدة [من الطويل]. إلى أن رأيناها كأن سحابها ... وقد نضبت فيه ملاء مضرج همزة (ملاء) عندنا بدل من واو وهي من الملوين وهما الليل والنهار، والتقاؤهما أن السعة تجمعهما، فأما قول الهزلي [من الوافر]: كأن ملاءتي على هزف ... يعن مع العشية للرئال فإنه إنما بني الواحد على الجماعة وهو الملاء فلذلك همز كما بني العظاءة والعباءة على العظاء والعباء، وقرأت على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: يقال ملاوة من [310] الدهر، وملاوة وملاوة ومدوة وملوة ومَلوة، وذلك كله لما اتسع من الزمان ومنه قولهم: (مضى ملي من الليل) فلامه كما ترى واو فهي كعلى وقصى ودعى، فإن قلت: فإن ما يثن واحده على جمعه من هذا النحو تأتي فيه الصحة والهمزة جميعا نحو: عظاءة وعظاية وصلاءة وصلاية، ولم نسمعهم قالوا في ملاءة: ملاوة، يعني الثوب، قيل قد يلزم بعض هذا الفرعية والبدل البتة، ألا تراهم قالوا: ألاءة وهمزها بدل من ياء، وإن كان مذهب صاحب الكتاب أنها همزة أصلية، ويدل على أنها بدل من ياء ما رويناه عن ابن الاعرابي من قولهم: سقاء مألي إذا دبغ بالألاءة، لا يحسن حمل مألى على البدل لأنهم لم نسمعهم قالوا قط: (مألو)، ولأن كون اللام هنا غير همزة أجدر لأمرين، أحدهما: قلة باب سلس، وقلق، والآخر: تكرير الهمزة في المواضع التي [311] تضيق فيها الحروف الصحاح.

وذهب أبو بكر إلى أباية، ولا ألاية، فرب فرع لزم فلم يستعمل أصله. وفيها: ليوردها الماء الذي نشطت له ... ومن دونه أثباج فلج فتوج إن كان (توج) اعجميا لم يتجه تصريفه إلا على أنه لو كان عربيا لوجب فيه كذا وإن كان عربيا احتمل أمرين: أحدهما: (فوعل)، والآخر: (فعول) وكلاهما من لفظ (التاج)، ولا يحسن حمله على (فعل) لأن هذا مثال يخص الفعل فأما (عثر) و (بذر) فمنقولان وهما علمان وكذلك (خضم) لا كله، وأما (شلم) لبيت المقدس فأعجمي وكذلك (بقم)، فأما قول العجاج: بجوف بصري أو بجوف توجا فلا يدل على أنه (فعل) لأنه إن ان أعجميا ففيه العجمة [312]، والتعريف وإن كان عربيا فقد يكون فيه التعريف والتأنيث. وفيها: به من هواك اليوم قد تعلمينه ... جوى مثل موم الربع يبهي ويبهج يجوز أن تكون الهاء في (تعلمينه) ضمير (جوى) لا على أن تكون (تعلمينه) صفة تجري، لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف ولكنه يكون اعتراضا ولا موضع له، ويجوز أن يكون له موضع على أن يكون حالا

من (جوى) لأنه وصف نكرة قدم عليها و (علمت) ها هنا بمعنى (عرفت) للاقتصار به على مفعول واحد، ويجوز أن يكون الهاء ضمير المصدر كقراءة ابن عامر: فبهداهم اقتده، أي: اقتد الاقتداء. وعين (الموم) واو على ظاهره، وقد يجوز على قول أبي الحسن إن يكون (فعلا) من لفظ الميم لقولهم: (ميمت ميما)، وعلى أنهم قد قالوا: رجل مموم من الموم وهو الجدري والبلسام جيمعا، وهذا [313] يقطع بالواو ولا يلتفت إلى قولهم [من الطويل]: [وتأوي إلى زغب مراضيع دونها] ... فلا، لاتخطاه الرقاب مهوب وإلى ما حكاه الفراء من قولهم: رجل مسور من السير لقلة ذلك. وفيها: تصدت بسهل المدمعين يزينه ... عذاب اللمى كالاقحوان مفلج ذهب بجمع (العذاب) إلى الأسنان ووحد (مفلج) لأنه أراد الفم والثغر، وقد تقدمت شواهد نحو هذا. فقالت: ألا قد طال ما قد غررتنا ... بخدع، وهذا منك حب مزلج ليس في كلام العرب (فعل- يفعَل فعْلا) إلا أربعة أحرف: (سحر = يسحر سحرا) و (خدع- يخدع خدعا) و (صرع- يصرع صرعا) حكاها أبو زيد بكسر الفاء منهما والرابع (فعل – يفعل فعلا) هذا المثال.

وفيها [314]: إذا استحلقت ماطورة يستهلها ... محال كدكان الضفيرة مدمج قال: (الضفيرة) حجارة تجع من قبل الماء، إن أخذت دكانا من الدكة فهو (فعلان)، وإن أخذته من دمنت الدكان تدكينا فهو (فعال) حكاها محمد بن الحسن عن الأشنانداني. وقال أيضا [من الطويل]: وخفوا فأما الجامل الجون فاسترى ... بليل، وأما الحي يعد فأصبحوا (استرى): افتعل، من سرى يسري، وقلما يبنى (افتعل) حتى يكون الثلاثي منه متعديا نحو: قطع وأقتطع، وشوى واشتوى، وعلاه واعتلاه، وقد مر بي نحو هذا مما ثلاثيه غير متعد وهو قوله أنشدناه أبو علي: حتى إذا اشتاك سهيل في السحر ... كشعلة القابس يرمي بالشرر و (شاك) غير متعد، وقال الآخر [من الطويل]: [بدا منك غش طالما قد كتمته] كما اكتتمت داء ابنها أم مدو [315] وهذا لا ثلاثي له متعديا إنما هو مفتعل في الدنواية، ومنه (دنا) و (ادنا) و (سما) و (استما)، وقد مرت بي من نحو هذا أحرف صالحة. وأما (بعد) من قوله: (وأما الحي بعد فأصبحوا) فمتعلقة بقوله

(أصبحوا)، فإن قلت: فكيف يتقدم ما بعد الفاء وهي جواب عليها وأنت لا تجيز: (إن تأتني زيدًا فاضرب)، قيل: هذا مع (أما) جائز وذلك إن تقدير نظم الكلام معها مخالف لظاهره، ألا ترى إلى قوله الله سبحانه: (فأما اليتيم فلا تقهر)، وذلك أن معناه: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، فهو كلام محمول على باطن معناه دون ظاهر لفظه، والكلام في (أما) هذه، وما يتصل بها طويل دقيق. وفيها: فما كان عن يومين حتى تصدعوا ... لبين كما انشق الرداء المصيح [316] يجوز أن يكون (عن) زائدة حتى كأنه قال: فما كان يومان أي قلم يمض يومان حتى تصدعوا، وقد جاءت زيادة (عن) قال [من الطويل]: أتدفع عن نفس أتاها حملها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع إلا أنه وإن كان زاد (عن) فقد حذف أخرى قبلها ونحوه بيت الكتاب إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما عى من يتكل زاد (على) وحذف (على) أي: لم يجد يوما من يتكل عليه، وعلى كال حال فقد زيدت في الموضعين (عن) و (على) جميعا، فقد يجوز أن تكون (عن) غير زائدة في البيت، ولكن على أن يكون اسم (كان) مضمرًا فيها فكأنه قال: فما كان ما نحن فيه عن مضى يومين أي بعد مضي يومين حتى كان كذا وكذا، فيكون (عن) بمعنى (بعد) كقول الله جل وعز: " لتركبن طبقا عن طبق".

[317] وفيها: وهن مناخات بأجرع تغتدى ... بأيد لها فيهن للسدو مطرح لم يصرف (أجرع) وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء بتكسيره على الأجارع دون الجرع، ففي هذا شاهد لامتناع سيبويه من صرف (احمر) إذا سمى به ثم اشاعه ونكره. وفيها: قصمن الحجول الغامضات باسؤق ... خراعب حتى تبرها يتضبح قال: التبر ما لم يدخل النار، فإذا ادخل النار فهو الذهب والابريز والعقيان. قد كنت عملت قديما مسألة في أسماء الذهب والفضة، ونحن نقول هنا ما يقرب، أما التبر فإنه (فِعْل) من التبار، وهو الهلاك من قوله سبحانه: " وليتبروا ما علوا تتبيرا "، وذلك أنه قبل أن يدخل النار ويصفي من تراب معدنه فهو ضائع مستهلك، وأما [318]، ابريز فـ (افعيل) من (برز - يبرز) كأنه ابرز من خبثه وترابه وأما (العقيان) فـ (فعلان) من (عقى - يعقي) والعقي وهو ما يخرج من بطن المولود قبل أن يأكل الطعام، وقد قالوا للنجو: البراز، فـ (ابريز): (افعيل) من هذا اللفظ، والمعنى، وأما الذهب فكأنه أذهب عنه خبثه ورديئه.

وفيها: فبات دموعي توة ثم لم تفض ... على زند كادت لها العين تمرح قال: (توة) حينًا طويلا، وقد مضى توة من النهار أي ساعة. ينبغي أن يكون (توة): (فعلة) من التو، والتوى هو الهلاك كأنه شيء قد استهلك وتوي من الزمان كما قال: وإذا مضى شيء كأن لم يفعلِ وفيها: بذي حبك مثل القنى تزينه ... جدامية من نخل خيبر دلح [319] قال: القنو الكباسة وهي القنا وأقناء وقنى جمع الجمع، ويقال (نخل جادم) إذا اوقر هكذا لفظ السكري البتة: قنى جمع الجمع وهذا خطأ إنما ينبغي أن يقول: اقناء جمع القلة، وقنى جمع الكثرة، فأما أن يكسر (أفعال) على (فعول) فذا ما لا يقوله أحد، ولو كان ذلك جائزا لجاز لآخر أن يقول: إن (كلابا) جمع (أكلب) و (حمر) جمع (أحمرة) و (بيوتا) جمع (أبيات) وينبغي أن يكون السكري أراد ما اردناه لفساد ما جاء في ظاهر لفظه إلا أنه أساء في العبارة وذلك أنه ليس من أهل الصناعة.

وفيها: بطعمة رجع بات ينسج متنه ... صبا حيث يستعلى لها حين ينفح معنى (يستفعل) هنا (يفعل) يريد: يعلو. وفيها: وهن على مسلوعة زيم الحصى ... تنير ويغشاها هماليج طلح [320] قال: (مسلوعة): محجة، تنير: تضح. ينبغي أن يكون هذا من قولهم: السلع للشق في الجبل كأنه انغمز هذا الطريق للسير فيه فصار كالخد في الأرض، والسلع في الجبل لأنه موطأ مذلل، قال أبو النجم: [يأتي لها من ايمن وأشمل .... وهي حال الفرقدين تعتلي] تغادر الصمد كظهر الأجزل وفيها: وقد صرع القوم الكرى بعدما مضى ... هزيع وسرحان المفازة يضبح هزيع: (فعيل) من قولهم: يتهزع أي يضطرب مشيه ويسرع، وذك لاسراع ذلك الوقت واضطرابه بظلمته كما قالو: (مضى عنك من الليل) وهو من الرمل العانك الذي يضطرب فيه من يمشيه. وقال مليح أيضا من قصيدة:

تذكرت ليلى يوم أصبحت قافلا ... بزيزاء والذكرى تشوق وتشعف [321] قال: (زيزاء) أرض خشنة أو بلد، ينبغي أن يكون (زيزاء) هنا علما معرفة لامتناع صرفها، ولو كانت نكرة لانصرفت لأن (فعلاء) ينصرف نحو: علباء وقيقاء وزيزاء للأرض الخشنة. وفيها: وأغلب من أعلام تيمي كأنه ... إذا ما اكتسى في طخية الليل أكلف قصر الممدود، ويجب إذا قصر الممدود أن يعامل معاملة ما ارتجل كذاك مقصورا فصار (تيمي) كـ (سكري) لا يصرف لالف التأنيث المقصورة كما لا يصرف لها إذا كانت ممدودة، وتكتب أيضا بالياء كما تكتب (سكرى) كذلك لأنها الف متجاوزة لعدة الثلاثة كذلك القول في نحو: العروى والنفسيى والاصدقي والاطبي وعاشوري، يكتب ذلك كله إذا قصر بالياء. وفيها: بتلك علقت الشوق أيام بكرها ... قصير الخطى في قدعة متعطف [322] قال: (قدعة) دراعة، لا تبلغ ساقيه. ينبغي أن تكون قدعة (فعلة) من قدعت الرجل إذا كففته عن الشيء، والتقاؤهما أن الدراعة القصيرة كأنها قدعت أي: كفت عن أن تبلغ الساقين على معتاد الحال في الدراريع وفيها: وبالوتر مما يلقطون من الحصني ... وبالبدن تكبو في الدماء وتنزف

لام (الدم) ياء لقولهم [من الوافر]: [فلو أنا على حجر ذبحنا] ... جرى الدميان بالخبر اليقين وقد جاء عنهم (الدموان)، فاللام على هذا واو، بالخبر اليقين وقد جاء عنهم (الدموان)، فاللام على هذا واو، وقالوا أيضا (دمان)، فاللام هنا محتملة ما تحتمله في (دم) وقد قالوا في تكسيره: أدماء ودمي، قال: قلت أيا تسفك أدماءهم ... تق الذي يعلم ما تفعل وقال [من المتقارب]: ولا يرد السيف أدماءهم ... دميا يصاب بها المحرم [323] وقالوا في تأنيثه: دمة، وفي خبر لحاتم قال فخرج فإذا البيوت دمة واحدة يريد بالتأنيث القطعة من الدم وقد قالوا فيه: هذا دما، ورأيت دما ومررت بدما، قصر في هذه اللغة البتة، أنشدنا أبو علي [من الرمل]: غفلت ثم اتت ترقبه ... فإذا هي بعظام ودما كقولك: بعظام وعصا، وأنشدنا هو وغيره بيت ابن الحمام [من الطويل]: فلسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدما وفي أمثال بني أسد: (ولدك من دمي عقبيك)، وممنه عندي الدمية المصورة، وقد تقدم وجه الجميع بينهما. وفيها: فألقوا عليهن السياط فشمرت ... سعالى عليها الميس تملو وتقذف

قال: (تملو) تسبح، حقيقته عندي أي تتسع في جريها [324]، ومد بوعها من الملاوة والملوين وهما سعة الزمان وامتداده. وفيها: وحتى تعممن اللجين كأنه ... على مستدار الهام عطب مندف ينبغي أن يكون (العطب) من معنى العطب، وذلك أن القطن لا يكاد ينتفع به إلا بعد أن يستهلك حال القطنية منه بالغزل، ونحو هذا هو العرف في بابه والاكثر وإن كان قد ينتفع به في أول الحال في غير ذلك. وقال مليح أيضا من قصيدة [من الطويل]. تراه كتخفاق الجناح ودونه ... من النير أو جنبي ضرية منكب ينبغي أن تكون لام (ضرية) واوا لاستمرار الواو في (الضرو) و (الضرواة) ولا نعرف (ض ر ى). وفيها: فقلت لها يا ليل كيف أزوركم ... وقد جعلت جعلت في جنبك الحرب تحدب [325] قال: تحدب تحرك وتجد. بلي ثم نرمى بالنجائب نحوها .... دجى الليل عن هاماتها تتجوب حذف الفعل لدلالة الكلام عليه، أراد بلى نزورها ثم نرمي فحذف الفعل كما قال الله سبحانه: " بلى قادرين على أن نسوى بنانه ". أي: بل نجمعها قادرين فدلت الحال على الفعل الناصبها كما دل المعطوف وهو نرمي على المعطوف عليه المحذوف وهو (نزورها).

وقال مليح أيضا من أرجوزة: أمست خلاف الألة السواحق الهمزة بدل من واو (الولة)، يعني الرياح كأنها قوله: فنحن في هبوبها، قال ابن احمر: ولهت عليه كل معصفة .... هوجاء ليس للبهازير [326] وفيها: أكدر يغضى عجل التراهق في قوله (يغضى) دلالة على كون همزة (الغضاء) بدلا من ياء ومثله قوله [من البسيط]: كم من جراب عظيم جئت تحمله ... ودهنة ريحها يغضى على المقل وفيها: ساج باعراض الفضاء الفاهق القول على لام (الفضاء) هو واو لقولهم: فضا يفضو فضوا وفضاء والفاضي الواسع، وأفضى إلى الشيء أي صدر في فضائه وفرجته، وجمع الفضاء أفضية. وفيها: هركوله ليست من العسالق كأنما تصبح بالرواوق حكى أبو الحسن أنه بلغه عن الخليل أن الهاء في (هركولة) زائدة [327] كأنها تر ل في مشيها، ومثله من زيادة الهاء غير آخر: (هجرع) و (هبلع) فيمن اخذها من الجرع والبلع، وقالوا: هجزع بالزاي للجبان فهذا على هذا النحو من الجزع، وأنشد ابن الاعرابي:

[باتت بليل ساهد وقد سهد] ... هلقم يأكل أطراف النجد فهذا (هفعل) من اللقم وقالوا في (هركولة) هركلة وأنشدني الشجري لبعض شعراء عقيل وهو عساف (من الكامل): هركلة فنق نياف طلة ... لم تعد عن شعر وحول خرعب فهذا على هذا (هفعلة)، وهذه نوادر، ومما زيدت الهاء فيه حشوا امهات ومثالها فعلهات. وأما (الرواوق) فأراد به الرواويق جمع راووق فحذفت الياء وهو ينويها ولذلك صحيح الواو الثانية والقول فيها القول في قوله: [حنى عظامي وأراه ثاغرى] ... وكحل العينين بالعواور [328] وقول الآخر وهو جعال الهمذاني [من البسيط]: أسد هواوسة بيض غطارفة ... غلب جحاجحة زيز إذا انطلقوا إلا أن الواو هنا بعدت عن الظرف فجرى ذلك مجرى طواويس وقال الاخر: تسمع للمرء بها عواولا

وفيها: أو كسبايا البربر الحوالق أما أراد (بربر) وهي قبيلة فزاد اللام كزيادتها في قوله [من الطويل]: وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا .... شديدا باعبار اخلافة كاهله يريد ابن يزيد، وهو كثير منه قوله: ولقد جنيتك اكمؤوا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر قال أبو عثمان سألت الأصمعي عن ذلك فقال أراد اللام. وأما إن يكون أراد جمع بربري كرومي وروم ويهودي [329] ويهود، وكذا اجاز أبو على فيما أنشده أبو زيد من قوله [من البسيط]: يا نصر هل غير ما جهل فإنكم ... ريش العصافير قد أفسدتم الاسدا أجاز إن يكون جمع (أسدي) كيهودي ويهود ثم عرف باللام فقال: البربر والأسد كاليهود والروم ونحو ذلك. وفيها: يمشون بين نابل ودارق استعمله كتارس من الترس ولم أسمعه من الدرقة إلا هنا، فأما تقيله وأما ارتجله.

وفيها: وخاتم الملوك غير العالق قال أراد المتعلق بالباطل، هذا أيضا مما قدمت لك من نقلهم الشيء وقد كان محتملا موضعين يخص به أحدهما كبكر وبابه، وفي هذا عندي طرف من شبهه بنقل [330] الأجناس الشائعة إلى الأعلام الضيقة. وقال مليح أيضا من قصيدة [من الطويل]: نأى من حراه من يحب قربت ... صروف النوى منه الذي لا تحاول لام (الحرى) وهو الذرى والعراء عندي ياء لقولهم: حرى – يحرى، إذا نقص وحية حارية إذا نقص جسمها وانضم بعضهم اجزائها إلى بعض ومنه تحريت الحق أي: نوت منه وقربت إليه وضايقته فلم اتباعد منه وذكلك انت حرى بالامر وحر أي صقب منه وغير بعيد عنه. وفيها: ولم ترج في الود المكتم بيننا ... أأكثر فيه الناس أم قال قائل قال: (لم ترج) لم تخف، إنما جاز تعليق (رجوت) هذه بما فيها من الخلاج والشك فشابهت (ظنت) فجاز تعليقها [331] كما تعلق الظن ونحوه وإنما يجوز التعليق بحيث يجوز الالغاء ولولا ما في الخوف والرجاء من معنى الخلاج والإبهام المضارع للظن لما جاز تعليقها كما جاز عرفت لقربها من (علمت) في قولك: (قد عرفت أبو من أنت وأيا من أنت مكني به). وفيها: ودوني هيام المعاصم فاللوى ... ومن دون باب اليون بحر وساحل إن كان (هيام) من الياء احتمل ثلاثة أوجه، أحدهما: أن يكون (فعالا)

كالجبار وكالكلاء أو كالضراب والقتال، والآخر: إن يكون (فيعالا) كالخيام والقيام، والثالث: إن يكون (فوعالا) كتوراب وإن كان من الواو كان (فيعالا) لا غير كالزياد والصياغ والقيام. وأما (اليون) فقد ذكرناه. وفيها [332]: سروا والكرى يمرى العيون وفوقهم ... ظلال له تغشاهم وغياطل ينبغي أن يكون لام (الكرى) ياء لاستمرار الامالة فيها، ولو قيل أنها واو لأنها من معنى (الكرة) لاجتماع النائم وتقبضه كاجتماع الكرة وتقبضها، ولام (الكرة) واو لقولهم: كروت بالكرة لكان وجها. وسألني أبو عي رحمه الله يوما فقال ما لام قوله: والظل لم يفضل ولم يكر أخذنا جميعا ننظر فيه فال: هو من قولهم: (ساق كرواء) لاجتماعها، وانضمام أجزائها، ثم افرقنا قلما لقيته بعد قلت: قد ودت في ذلك المعنى شيئا جيدا قاطعا قال: ما هو؟ قلت: قولهم الكروان لدقة ساقيه فاسحسنه وقال: هذا نهاية. وقال مليح أيضا من قصيدة [333] [من البسيط]: كأن صفحة باب خل من شبح ... إلى الشراخيب والدايات منسوج قال: (الشرخوب) العظيم الفقار، الديات جمع داية إلا أنه اسكن العين والأصل تحريك الهمزة كقوله [من الطويل]:

كأن علوب النسع في دأياتها .... [موارد من خلقاء في ظهر قردد] ولا يجوز أن يكون خفف في الجمع دون اعتقاده التخفيف في الواحدة وخفف الواحدة ثم جمع. فإن كان خفف الجمع وحده فكان قياسه أن يجعل الهمزة بن بين فيقول: دايات، وهذا تكسير موضعه من البيت، وإن كان خفف الواحدة فكان تقديره الداية بالف ساكنة كقولك في رأس: رأس، وفي رأل: رال، فقد كان ينبغي أن يحرك في الجمع الحركة الضعيفة في همزة بين بين وذلك أن الواحد لم يبدل ابدالا على حد اخطيت وقريت وتوضيت، فتجرى داية ودايات مجرى غاية وغايات ودارة ودارات وإنما هو تخفيف قياسي [334]، وفيه الهمزة مقدرة معتدة، ولكن سكون الهمزة اضعفها فلم ينبر فيها بشيء من الهمز، فأما إذا صرت إلى الجمع فإنك تعتقد وجوب الحركة فجب حينئذ أن تجعلها للحركة همزة بين بين فتقول: داياتها، فلما حظر الوزن ذلك عليه اسكنها وهمز، وهو مع ذلك معتقد التخفيف في الواحد فيها فوجب اخراجها إلى اللفظ كما وجب مع التخفيف في الواحد، وإذا خففت في نحو هذا الحركة القوية في مثل قوله [الطويل]: [أبت ذكر عودن أحشاء قلبه ... خفوقا] ورفضات الهوي في المفاصل كان تخفيف الحركة الضعيفة في الهمزة المخففة أجدر بالجواز وإن كان ابدالها البتة على رأي أبي الحسن في قوله [من الطويل]:

[وصم صلاب ما يقين من الوجى] ... كأن مكان الردف منه على رال فهو أمر واضح، إلا أن القول الأول أشبه لأنه تخفيف قياسي، وهذا الثاني إبدال ضروري. وهذا آخر ما نجز من ديوان هذيل وتم الكتاب وكتبه أسعد بن المعالي بن إبراهيم بن عبد الله في شهور سنة ثمانين وخمسمائة حامدا الله تعالى على نعمه ومصليا على خيرته من خلقه محمد النبي وعلى آله ومسلما، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1