التقوى تعريفها وفضلها ومحذوراتها وقصص من أحوالها

سليمان الأشقر، عمر

تقديم

تقديم الحمد لله الذي ابتلى عباده المؤمنين بما أنزل عليهم ليكونوا من المتقين، والصلاة والسلام على إمام المتقين من الأولين والآخرين، صاحب المقام المحود، والدرجة العالية الرفيعة، الذي يرغب إليه الأولون والآخرين، ليقوم في يوم الدين بالشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي لا يقوم به غيره، والصلاة والسلام على الصحابة الأتقياء النجباء، الذين أقاموا دينهم على التقوى، فأصبحوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجا، وعلى من سلك سبيلهم، واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، وبعد: فقد دعتني قناة الجزيرة القطرية في يوم الأحد الثالث من شوال 1431 هـ الموافق الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) 2010 م للحديث في برنامج (الشريعة والحياة) عن (التقوى)، وعندما درست الموضوع، وسبرت أغواره، وجدت أنه موضوع نافع مفيد، يحتاج إليه المسلمون جميعاً، بل الناس جميعاً، فحاولت أن أستقصي أبعاده، فبحثت عن المؤلفات الموضوعة فيه في مكتبتي الخاصة، فلم أجد فيها من تناوله بالبحث والدراسة، فطلبت من أولادي الذين يعملون بدار نشر خاصة بهم أن يمدوني بما لديهم من كتب تدور حول التقوى، فأفادوني بأنهم لم يجدوا لا في مكتبتهم ولا في المكتبات التي حولهم كتاباً يتناول هذا الموضوع، فرجعت إلى بعض الإخوة الذين لديهم بعض المكتبات الخاصة بهم، فلم أعثر على كتاب واحد، ومع أني عندما رجعت إلى الحاسب الآلي،

وجدت بعض من تناوله بالبحث والدراسة، إلا أني عندما اطلعت على بعض ما كتب فيها وجدتها غير وافية بالغرض. وظننت أنني سأجد بغيتي في الموسوعات، ولكني فوجئت بأن الموسوعة الفقهية الكويتية لم تتناول هذا الموضوع إلا بتعريف التقوى في مبحث التقيَّة، ولم تتناول الموضوع بحال، فرجعت إلى كتب اللغة، وكتب التفسير والحديث والأخلاق، وتتبعت ما كتبه أهل العلم في الموضوع، فكان هذا البحث هو الثمرة لهذه الدراسة. وقد جاءت هذه الدراسة للتقوى في خمسة عشر مبحثاً، تناولت في المبحث الأول منها تعريف التقوى في اللغة والاصطلاح، واستعرضت في هذا المبحث الآيات القرآنية المعرِّفة بالمتقين، وبينت فيه قاعدة التقوى ومدى حاجتنا للتقوى. والمبحث الثاني مخصص لاستحقاق العلي الأعلى لأن يتقى دون سواه. وتحدثت في المبحث الثالث عن كلمة التقوى، فعرَّفت بها، وبيّنت فضلها، وأنها هي المراد بالكلمة الطبية. وبيَّنت في المبحث الرابع أنه لا يستطيع أحد أن يتقي الله تعالى ما لم يكن عالماً بما يتقيه. وبيَّن المبحث الخامس المحذورات التي يجب علينا أن نتقيها. وبيَّنت في المبحث السادس الطرق التي إذا اتبعناها أضاءت التقوى قلوبنا، ويتحقق ذلك بالتعرف إلى الله، وعبادته وحده لا شريك له، والتفكر في خلقه، والتفقه في النصوص المتحدثة عن أهوال القبر، وأهوال يوم القيامة، والإكثار من ذكر الله تعالى.

وبينت في المبحث السابع مدى عناية الإسلام والمسلمين بالتقوى، وبينت في سبعة مطالب كيف وصانا الله ورسله وأنبياؤه بالتقوى، وأوردت كثيراً من النصوص الآمرة بالتقوى، كما أوردت وصية أهل العلم بها، وما قاله الشعراء في هذا الباب. وحذرت في المبحث الثامن من إشغال المرء نفسه بالحديث عما يفعله متقياً به ربه، وهي المسألة المعروفة بتزكية النفس. وبينت في المبحث التاسع مدى حاجة التقوى إلى الصبر، فالناس مع الصبر والتقوى أربعة أقسام. والمبحث العاشر في عظم جرم الذين إذا أمروا بالتقوى أخذتهم العزة بالإثم. والمبحث الحادي عشر يدعو إلى تأسيس الأعمال على التقوى. وبين المبحث الثاني عشر أنه ليس من التقوى الغلو في العبادة. ودعوت في المبحث الثالث عشر المسلمين إلى التعاون على البر والتقوى. والمبحث الرابع عشر فصل طويل يتحدث عن فضل التقوى وعظم قدرها، وفيه عشرون مطلباً، وبينت في هذه المطالب أن التقوى أعظم الخصال التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، والتقوى تشرح الصدور، وبالتقوى يحبنا الله، ويتقبل أعمالنا، وبها نحظى بولاية الحيَّ القيوم، وبالتقوى تعظم درجاتنا عند ربنا، وننال بشرى ربنا في الحياة الدنيا والآخرة، ويجعل الله لنا بالتقوى فرقاناً، ويجعل لنا فرجاً ومخرجاً، وبالتقوى نحظى بلباس هو خير من اللباس الظاهري، وبالتقوى ننجو من النار، ونحظى بجنات النعيم في يوم الدين.

وفي المبحث الخامس عشر وهو المبحث الأخير أوردت سير وأخبار طائفة من المتقين من الأولين والآخرين، وسيرة هؤلاء تظهر أن اللحمة التي تجمعهم على اختلاف الزمان وتباعد المكان واحدة، فكلهم اتخذوا الله ربّاً، وعبدوه حقَّ عبادته، وكلهم امتلأت قلوبهم بمخافة الله وخشيته، وكلهم خافوا نار الله، وطلبوا جنته، وكلهم في الآخرة من الناجين من النار، الفائزين بجنات النعيم. أسأل الله تعالى أن يأجرني فيما كتبت، وأن يرزقني ومن قرأ هذا الكتاب التقوى، وأن ينفع به عباده، إنه سميع قريب مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. عمر سليمان عبد الله الأشقر عمان - الأردن الاثنين 18 من شوال 1431 هـ 27 أيلول 2010 م

المبحث الأول التعريف بالتقوى

المبحث الأول التعريف بالتقوى المطلب الأول التقوى في لغة العرب نقل ابن منظور في معجمه الكبير [لسان العرب: 3/ 971 - 973] عن ابن الأعرابي أنَّ: التُّقاة، والتَّقيَّة، والتقوى، والاتِّقاء بمعنى واحد، وبيَّن ابن منظور أنَّ معنى وقاه الله وقياً ووقاية: صانه، تقول: وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته من الأذى، وتوقَّى، واتقى بمعنى. والوقاء والوقاء والوقاية: كلّ ما وفيت به شيئاً، ووقاك الله شرَّ فلان وقاية، أي: حفظك، وقال أبوبكر: رجل تقي، ويجمع أتقياء، معناه أنه موقٍ نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح، وفي الحديث: «كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أي" جعلناه وقاية لنا من العدو قدامنا، واستقبلنا العدوَّ به، وقمنا خلفه، وقال أفنون التغلبي: لعمرك ما يدري الفتى كيف يتقي ... إذ هو لم يجعل له الله واقيا المطلب الثاني تعريف التقوى في الاصطلاح قال شيخنا الشيخ عبد الله العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: "تقوى الله سبحانه، هي عبادته، بفعل الأوامر وترك النواهي عن خوف من الله وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - " [محاضرة نشرتها مجلة البحوث الإسلامية، الرياض، العدد: 59].

وهذا تعريف جامع للتقوى في الشرع، فالتقوى تكون بعبادة الله تعالى بفعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات الصادرة عن خوف الله وخشيته ومحبته، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]. والتقوى التي في القلب ليست قاصرة على الخوف والخشية، فقد عدَّاها شيخنا إلى الخوف والخشية والرغبة فيما عند الله، وإلى تعظيم حرمته، وهذا صحيح، فإن التقوى هي مجموع ما في القلب من خوف الله وخشيته وتوقيره ووتعظيه ومراقبته، وطلب ما عنده. وقد قصَّر بعض أهل العلم في تعريف التقوى عندما قصروها على فعل المأمورات وترك المنهيات، ومن ذلك قول أبي عبد الله التونسي: "حقيقة التقوى عبارة عن امتثال المأمورات واجتناب المنهيات" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 257]. فإن قصرها على فعل المأمورات وترك المنهيات، ولم يذكر ما حلَّ في القلب منها. ومن التعريفات التي قصَّرت في تعريف التقوى تعريف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فإنه قال: "التقوى ترك ما حرَّم الله، وأداء ما افترض الله" [المطلع على أبواب المقنع: ص99]، ومنها تعريف الكفوي حيث قال: "المتقي في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عمّا يضره في الآخرة، وهو الشرك المفضي إلى العذاب المخلد" [الكليات: ص 38]. فقد قصر التعريف الأول التقوى على ترك المحرمات وفعل الفرائض، ولم يذكر ما في القلب، والتعريف الثاني قصرها على الشرك المفضي إلى العذاب.

المطلب الثالث من التقوى أن تعبد الله رجاء جنته وخوف ناره

ومن التعريفات الحسنة للتقوى ما عرفها به الراغب الأصفهاني، فإنه قال: "التقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه، ثم يسمى الخوف تارة تقوى، والتقوى خوفاً حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضي بمقتضاه، وصار التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور" [المفردات" 530]. ومن أجود ما ورد في تعريف التقوى ما قاله التابعي طلق بن حبيب، فإنه قال: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تجتنب معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله" [كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك (ص 473)، فقرة (1343) وجامع العلوم والحكم: (ص 149)]. فالتقوى لها جنحان، الأول: فعل الطاعات، والثاني: اجتناب معصية الله، وكلاهما صادر عن نور الله، ويريد بالنور الدليل الذي أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، والمتقي يفعل ما فعله يريد ثواب الله عزَّ وجلَّ، ويترك ما نهي عنه يريد النجاة من عذاب الله. ومن التعريفات الجميلة للتقوى التي ذكرها بعض المتأخرين: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". المطلب الثالث من التقوى أن تعبد الله رجاء جنته وخوف ناره زعم بعض العباد والزهاد الذين قلَّ حظهم من العلم الشرعي أنهم يعبدون الله تعالى لذاته، ولا يعبدونه خوف ناره، ولا رجاء جنته، وخطؤهم من وجوه: الأول: أنهم خالفوا ما أمر الله تعالى به، فقد أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نتقي ناره، ونتقي أهوال يوم القيامة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا

النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسُ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، وقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]. وأخبرنا ربنا - عز وجل - أنه أعدَّ للمتقين جنات النعيم، فقال: {لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]. وقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران 15] وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر 73]. فلولا أن الله تعالى يعلم أن ما أطال به الحديث عن الجنة والترغيب فيها، والحديث عن النار، والترهيب منها هو الذي يصلح عباده، لما حدثنا طويلاً عنهما. الثاني: أن الرسل - صلى الله عليه وسلم - والرسل والأنبياء السابقين، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم كانوا جميعاً يطلبون الجنة، ويخافون النار، فقد قال رب العزة محدثاً عن الأنبياء السابقين {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]. وعندما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم -: والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أتشهد ثم أقول: «اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار» قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «حولها ندندن» [مسند الإمام أحمد، 15898]. فهؤلاء اختطوا طريقاً مخالفاً لطريق الرسل والأنبياء والمؤمنين، وما أسوأ أن يختط العبد طريقاً مخالفاً لطريق هؤلاء على مرّ التاريخ والأزمان وهؤلاء هم الفائزون السعداء الذين قال الله تعالى فيهم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ

المطلب الرابع موضع التقوى القلب

الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، وقال فيهم: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63]. الثالث: أن هؤلاء بسبب قلة علمهم ظنوا أن هناك في يوم الدين نعيماً خارجاً عن الجنة، وأنَّ هناك شقاء خارجاً عن النار، وهذا غير صحيح، فأعظم نعيم أهل الجنة رؤية ربهم تبارك وتعالى، وأعظم شقاء أهل النار حرمانهم من رؤية الله تبارك وتعالى. الرابع: الذين يغفلون عن العبادة طلباً للجنة، وخوفاً من النار، يضعف عندهم التعبد لله تعالى، فالعبادة رغباً ورهباً، تقوِّي الباعث على التعبد، فالمتقون الذين فقهوا عن الله تعالى، يسهرون ليلهم، ويكثرون من الاستغاثة بالله أن يدخلهم جنته، ويقيهم ناره، تبارك وتعالى، واسمع إلى ما خوَّف الله به عباده، وتدبَّره وانظر أثره في قلبك {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]. الخامس: التقوى أن نجعل بيننا وبين عذاب الله وقاية من فعل الصالحات وترك السيئات كما في الحديث الذي رواه عدي بن حاتم، قال: قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة» [البخاري: 1417، مسلم: 1016]. المطلب الرابع موضع التقوى القلب تحدثت فيما سبق عن الأعمال التي أمر الله بها عباده ليكونوا من المتقين، وهذه الأعمال من الصلاة والزكاة والصبر والوفاء بالعهد ونحوها لا بد أن تقوم على ما امتلأ به القلب من مخافة الله وتعظيمه وتوقيره، فالعمل إن خلا مما

استقرَّ في القلوب، فلا يكون من التقوى في شيء، فالذي ينفق المال لا يريد به الله، والذي يرائي بصلاته، والذي يفي بالعهد حفاظاً على شرفه ومروءته، أعماله ليست من التقوى في شيء. يدلُّنا على ذلك أن مكان التقوى القلب، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7] أمر الله - تبارك وتعالى - عباده المؤمنين بالمواظبة على التقوى، ثم أعلمهم أنه يعلم ما في صدروهم من الأسرار والخواطر، وقد نهى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمال التي توقع البغضاء والشحناء بين العباد، وأمرنا أن نكون عباد الله إخواناً، ونهانا عن ظلم إخواننا وخذلانهم واحتقارهم، وأخبرنا أن التقوى في القلوب، فقال: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات. [مسلم عن أبي هريرة: 2564]. قال النووي: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: «التقوى ها هنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات، وفي رواية: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» [مسلم: 2564] معنى الرواية الأولى أن الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته" [شرح النووي على مسلم: 16/ 94]. وقال ربُّ العزة في الهدي الذي نحره أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]. فالله تبارك وتعالى لا يصل إليه اللحوم والجلود والدماء، وإنما يصل إليه سبحانه ما يقع في قلب العبد وهو يقدم الهدي والأضحية من تعظيم لرب

المطلب الخامس المقصود الأعظم من العبادات تحقيق التقوى في القلوب

العزة سبحانه، ولذلك قال في آخر الآية: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]. المطلب الخامس المقصود الأعظم من العبادات تحقيق التقوى في القلوب يقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ بعد أن تحدث عن أعمال الحج: "ليس المقصود من الحج تلك الأعمال فقط، وليس المراد مجرد إتعاب البدن أو بذل المال، إنما المقصود الأعظم هو تحقيق التقوى، وما يحصل في القلب ويقوم به من معاني العبودية والخضوع والانقياد لأمر الله وتعظيم شعائره، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ويقول جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [مجلة البحوث الإسلامية، الرياض، العدد، 59، ص 14]. وينبغي للعبد إن أمر بالتقوى أن يخفزه ذلك إلى الاندفاع إلى العمل بطاعة الله، وترك معصيته، وهذا منهج قرآني واضح المعالم، فالقرآن أمر بتقوى الله، ثم نهى عما بقي من الربا، وفي آية أخرى نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة ثم أمر بتقوى الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] ونهى عن التعاون

المطلب السادس تعريف القرآن العظيم بالمتقين

على الإثم والعدوان وأمر بتقوى الله فقال: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 2] وأمرنا الله أن نقول القول السديد، وأمرنا قبل ذلك بالتقوى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70]. المطلب السادس تعريف القرآن العظيم بالمتقين تحدث القرآن طويلاً عن المتقين، فأخبر عن صفاتهم وأعمالهم، وطريقهم، ومصيرهم، ما أعدَّ لهم في جنات النعيم. وسأكتفي بالحديث عن ثلاثة نصوص قرآنية تحدث الله فيها عن المتقين. أولاً: حديث الله تعالى عن المتقين في مطلع سورة البقرة: الموضع الأول الذي تحدث الله فيه عن المتقين مطلع سورة البقرة، قال تعالى: {آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 - 4] وبعد أن عرَّف الله تعالى بهم، حكم عليهم بأنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّنْ رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]. وقد أخبرنا ربنا في الآيات السابقة أن الكتاب الذي أنزله هدى للمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه دون بقية الخلق، وأخبرنا أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، والإيمان من عمل القلب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم ربُّهم، وهذان من الأعمال الظاهرة، ويؤمنون بما أنزل الله إلى رسوله

ثانيا: حديث الله تعالى عن المتقين في آية البر من سورة البقرة

- صلى الله عليه وسلم -، وبجميع ما أنزل إلى أنبيائه ورسله، وأخبرنا أنهم يؤمنون بالآخرة إيمانًا قاطعاً لا شكَّ فيه. ثانياً: حديث الله تعالى عن المتقين في آية البر من سورة البقرة: قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 117]. وقد ذكر ربنا - تبارك وتعالى - في هذه الآية الأعمال التي تدخل في مسمى البر، وأخبر في خاتمتها أن القائمين بهذه الأعمال هم المتقون. وإذا أنت نظرت في هذه الأعمال التي هي أعمال المتقين وجدتها شاملة للدين كلِّه، ويمكن أن نعنون لهذه الأعمال بثلاثة عناوين رئيسة: الأول: العقيدة، وهي التي قال ربنا - تبارك وتعالى - فيها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}. والثاني: الأعمال الظاهرة، وذكر منها إنفاق المال في مجالاته المتعددة، وذكر إنفاقه على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، أي: في إعتاق العبيد، وتحريرهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. والثالث: الأخلاق الكريمة، وذكر منها خلقين: الأول: الوفاء بالعهد، والثاني: الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.

ثالثا: الموضع الثالث في سورة آل عمران

وحكم في ختام الآية أن الذين يقيمون هذه الأعمال هم الصادقون الداخلون في المتقين. ثالثاً: الموضع الثالث في سورة آل عمران: والموضع الثالث الذي تحدث فيه ربنا عن المتقين في سورة آل عمران، فقد أمرنا ربُّنا تبارك وتعالى في ذلك الموضع بأن نسارع إلى مغفرة من ربنا، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، ثم عرَّفنا بالمتقين ببيان الأعمال التي يقومون بها، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران 134 - 135]. وذكر الله تعالى في هذه الآيات أن أعمال المتقين أربعة، الأول: إنفاقهم المال في السراء والضراء، وهذا عمل مالي من أعمال الظاهر، والثاني والثالث عملان أخلاقيان، وهما كظم الغيب والعفو عن الناس، الرابع: أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم استغفروا لذنوبهم. ويظهر من هذا العرض الذي قدمناه أنا التقوى شاملة لمخافة الله التي تدفع صاحبها للقيام بكل الأعمال الصالحة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وترك الأعمال السيئة التي نهى الله عنها.

المطلب السابع حاجتنا للتقوى في الآخرة

المطلب السابع حاجتنا للتقوى في الآخرة أمرنا الله بالتزود في الدنيا لأسفارنا، وأخبرنا أن خير ما نتزود به لآخرتنا التقوى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. والتقوى هو خير زاد إلى دار المعاد، والتقوى الإيمان والعمل الصالح المنبعث عن مخافة الله، والرغبة إليه. فالذي يأتي في يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح، وترجح حسناته بسيئاته، فقد أعطي الحظ العظيم، وفاز في يوم الدين، وعلى المرء أن يكون دائم الاستعداد للرحيل من الحياة، فإنه لا يدري متى يفاجئه الموت. تزود من التقى فإنك لا تدري ... إذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر فكم صحيح مات من غير علِّة ... وكم عليل عاش حيناً من الدهر

المبحث الثاني الله تعالى أهل التقوى

المبحث الثاني الله تعالى أهل التقوى الله تعالى أهل التقوى دون سواه، قال تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، قال ابن عباس: " {أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} يقول الله تعالى: أنا أهل أن أتَّقى، فإن عصيت، فأنا أهل أن أغفر" [عمدة الحفاظ للسمين الحبي: 4/ 384]. والله - سبحانه - أهل التقوى لأنه العظيم، الذي لا أعظم منه، القويُّ القاهرة الذي لا أحد أقوى منه، وهو العزيز الذي لا يغلبه أحد، وهو قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، لا يملك أحدٌ معه شيئاً، وكل العباد سيهلكون، وسيرث الله الأرض جميعاً، وهو العالم بما في السماوات والأرض، وما بينهما، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء. فهو وحده أهل أن يتقى، وتخشع له قلوب العباد سبحانه، وترجى رحمته، ويخاف عذابه. وإذا أنت قارنت ما تخاف في الدنيا من الأعداء والأهوال والمصائب العظام بأهوال الآخرة، تجد أن ما تخشاه من أهوال الدنيا زائل ذاهب، أما الله فله الدنيا والآخرة، وأنت راجع إليه، فلا تنجو من عذابه أبداً.

المبحث الثالث كلمة التقوى

المبحث الثالث كلمة التقوى المطلب الأول كلمة التقوى لا إله إلا الله أثنى الله - تبارك وتعالى: - على الصحابة الذين التزموا بكلمة التقوى في عزوة الحديبية، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]. والمراد بالذين كفروا الذين جعلوا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية كفار قريش الذين أخذتهم الحمية، فخرجوا متعالين مستكبرين، وأصرُّوا على منع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الوصول إلى الحرم وأداء العمرة، وعندما كتبوا العهد بينهم وبينه رفضوا أن يكتبوا "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى، وهي قول: لا إله إلا الله، فعن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قال: «لا إله إلا الله» [قال الترمذي (3265): هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسن بن قزعة، وحكم الشيخ ناصر الدين الألباني عليه بالصحة. صحيح الترمذي: 2603]. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] "شهادة أن لا إله إلا الله" [وصححه محقق ابن كثير: 5/ 626] وقال بمثل هذا القول عليٌّ وابن عمر وعطاء بن أبي رباح، والمسور، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والزهري، وقتادة. [ابن كثير: 5/ 627].

المطلب الثاني فضل كلمة التقوى

المطلب الثاني فضل كلمة التقوى وكلمة التقوى التي هي (لا إله إلا الله) أفضل كلمة، بها يعصم المرء دمه وماله في دولة الإسلام، وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» [مسلم: 23]. والذي يقول: لا إله إلا الله خالصاً من قبله يدخل الجنة، فعن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [مسلم: 26]. وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله، حرَّم الله عليه النار» [مسلم: 29]. ويدلُّ على مدى فضل لا إله إلا الله حديث البطاقة الذي يرويه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلاًّ، كل سجلٍّ منها مدُّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفَّة والبطاقة في كفَّة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة». [قال محقق كتاب نضرة النعيم: 4/ 1335: رواه الترمذي، باب الإيمان (2641)، أحمد في مسنده (2/ 213)، ابن ماجه في الزهد برقم (4300). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على (المسند) رقم (1994): إسناده صحيح].

ابن القيم يبين فضل كلمة لا إله إلا الله

وقد أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنعليه أبا هريرة - رضي الله عنه -، وقال: «اذهب بنعليَّ هاتين، فمن ليقت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه، فبشِّره بالجنة" [مسلم: 31]. وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتلقين الموتى لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فإنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه» [حكم عليه الشيخ ناصر الدين الألباني بالصحة، وعزاه إلى ابن حبان، انظر: صحيح الجامع (5150) وخرجه في الجنائز: 10 والإرواء: 687]. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما قال عبد: لا إله إلا الله قط مخلصاً من قلبه، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضي إلى العرش، ما اجتنبت الكبائر» [حكم عليه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5648) بالحسن، وعزاه إلى الترمذي، وخرجه في المشكاة (2314) والترغيب (2/ 328)] وساق الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع [2/ 1098] جملة من الأحاديث فيها بيان فضل لا إله إلا الله. ابن القيم يبين فضل كلمة لا إله إلا الله: قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبيناً فضل كلمة التقوى: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسِّست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جرِّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد؛ وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنّة، ومن كل آخر كلامه: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة" [إعلام الموقعين: (2/ 6)].

كلمة التقوى هي الكلمة الطيبة

كلمة التقوى هي الكلمة الطيبة: وكلمة التقوى التي هي لا إله إلا الله، هي الكلمة الطيبة التي قال الله تعالى فيها: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]. قال ابن القيم رحمه الله: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله"، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مرضيٍّ لله ثمرة هذه الكلمة، وفي (تفسير علي بن أبي طلحة)، عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة، وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا الله، في قلب المؤمن، وفرعها في السماء، يقول: يرفع به عمل المؤمن إلى السماء". وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان؛ فالإيمان: الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفرعه في السماء: خشية الله" والتشبيه على هذا القول أصحُّ وأظهر وأحسن؛ فإنه سبحانه شبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علواً، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدةٌ إلى السماء. ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامة بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغةً منها،

فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدِّقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سبل ربه ذللاً غير ناكبةٍ عنها، ولا باغيةٍ سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلاً؛ فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، وهذ الكلمة الطيبة تثمر كلماً كثيراً طيباً يقارنه عملٌ صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]؛ فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملاً صالحاً كل وقت. والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً متَّصفاً بموجبها، قائماً قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كل وقت [إعلام الموقعين، لابن القيم: 2/ 299 - 300].

المبحث الرابع لا تكون من المتقين حتى تكون عالما بما تتقي

المبحث الرابع لا تكون من المتقين حتى تكون عالما بما تتقي لا يستطيع أحد أن يتقي ربه مالم يكن عالماً بما يتقيه، فالتقوى - كما سبق - بيانه تكون بفعل الصالحات وترك المنكرات، فإذا كان المرء غير عالم بما يتقي، فقد يظن المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وهذا يقع للمبتدعة كثيراً، فتراهم يبتدعون أعمالاً ما أنزل الله بها من سلطان، يظنون أنها تقربهم من الله تعالى، فالمبتدعون من النصارى لا يغتسلون، ولا يتطيبون، ولا يلبسون الطاهر من الثياب، وعظماؤهم وعبّادهم يعزفون عن الزواج، ويظنون أنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وبعض الزهاد والعباد من هذه الأمة اتخذوا النصارى أسوة. وقد يصير الحال ببعض الناس إلى جعل الأعياد يوم مناحة وحزن، وقد يصوم يوم العيد، وقد يجعل بعض الجهلة يوم موت أبيه يوم فرح، تقام فيه الولائم، وتوزع الحلوى، وكل ذلك من وساوس الشيطان، وقد يدعو الواحد من أهل الضلال إلى النظر والتأمل في النساء الجميلات نظراً يزعم أنه يتأمل فيه في خلق الله، وكلُّ هذا من قلة العلم بالشريعة. قال ابن رجب في [جامع العلوم والحكم: 150]: "وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتَّقى ثم يتقي، قال عون بن عبد الله: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يعلم منها إلى ما علم ومنها، وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال: كيف يكون متقياً من لا يدري ما يتقي؟ ثم قال معروف الكرخي: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة: «إذا رأيت أمتي قد اختلفت، فاعمد إلى سيفك فاضرب به أُحُداً» [مسند أحمد: 16029].

ظن بعض الناس أنه بالتقوى يحصل العلم بغير تعلم

ظن بعض الناس أنه بالتقوى يحصل العلم بغير تعلم: قد يظنُّ بعض الذين لا يعلمون أنهم إذا اتقوا الله علَّمهم الله من غير معاناة في طلب العلم، وقد يحتجون على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة: 282]. وحسبك في ردَّ هذا الخطأ أن تعلم أن هذه الآية ختم الله بها آية الدين، فقد جاء في خاتمة تلك الآية قولة تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. أنسب شيء لهذه الخاتمة أن يتقي العبد ربَّه بفعل ما أمره الله تعالى بخصوص الدَّين، ومن ذلك كتابه الدَّين، وأن توكل كتابته إلى كاتب يكتب بالعدل، وأن يملل الذي عليه الحقُّ على الكاتب، ولا يبخس الذي عليه الحقُّ شيئاً من الدين، فإن كان الذي عليه الحقُّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا قدرة له على الإملاء، فليملل وليُّه بالعدل، وأمر الله باستشهاد شهيدين، فإن لم يوجد فرجل وامرأتان، فالالتزام بهذا الذي أمر الله تعالى به، يحتاج إلى تعلم حتى يتقيه، فإذا كان جاهلاً بتلك الأحكام لم يكن متقياً الله عز وجل بخصوص الدَّين، فمن تعلَّم الأحكام التي في الآية، والتزم بها كان متقياً لله عز وجل.

المبحث الخامس المحذورات التي يجب علينا أن نتقيها

المبحث الخامس المحذورات التي يجب علينا أن نتقيها التقوى تتحقق بفعل ما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - به، وترك المحذورات التي نهى الله تبارك وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنها، وسأورد هنا المنهيات التي أوردها ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المجال بشيء من التصرف الاختصار. أولا: تقوى الكفر والشرك: اول ما يجب على العبد أن يتقيه الشرك بالله، والكفر به وبدينه ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه. ثانيا: اتقاء البدع: وتكون البدعة إما باعتقاد خلاف الحقِّ الذي أرسل الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً، والبدعتان في الغالب متلازمتان، قلَّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى. كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال؛ فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون في بلاد الإسلام؛ تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى. وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: تزوجت الحقيقة الكافرة، بالبدعة الفاجرة، فتولَّد بينهما خسران الدنيا والآخرة. ثالثا: اتقاء كبائر الذنوب: والشيطان إذا ظفر بالعبد، زين له الكبائر، وحسَّنها في عينه، وسّوف به، وفتح له باب الإرجاء، وقال له: الإيمان هو نفس التصديق، فلا تقدح فيه

رابعا: اتقاء صغائر الذنوب

الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق؛ وهي قوله: "لا يضرُّ مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة". رابعا: اتقاء صغائر الذنوب: فالشيطان يوسوس للإنسان ويقول له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللَّمم؛ أو ما علمت بأنها تكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات؟ ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه؛ فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحقرات الذنوب، ثم ضرب لذلك مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض، فأعوزهم الحطب، فجعل يجيء بعود، وهذا بعود، حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا ناراً، وأنضجوا خبزتهم؛ فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه» [عزاه جامع مجموع القيم إلى أحمد: (5/ 331) والطبراني في الكبير (10/ 261) وذكر أن الألباني صححه في الصحيحة (389)]. خامسا: اتقاء المباحات: عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترةً من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه، ومن أرتبع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى» [أخرجه الألباني في سلسلة الصحيحة: (896)، وعزاه إلى ابن حبان في صحيحه، والديلمي وغيرهما]. والمباحات لا حرج على فاعلها، ولكن التوسع في فعلها، قد يضير صاحبها.

سادسا: اتقاء الأعمال المرجوحة المفضولة

سادسا: اتقاء الأعمال المرجوحة المفضولة: فالشيطان يأمر العبد بالأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات؛ فيأمره بها، ويحسِّنها في عينه، ويزينها له، ويريه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لا عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية؛ فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له، ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول. [المجموع القيم من كلام ابن القيم، جمع وإعداد منصور بن محمد المقرن: 2/ 1085 - 1190، بزيادة وتصرف].

المبحث السادس كيف نغرس التقوى في قلوبنا

المبحث السادس كيف نغرس التقوى في قلوبنا إذا حلت التقوى في قلوبنا، اطمأن القلب، وانشرح الصدر، وقد تضعف التقوى في القلوب، وقد تقوى حتى تكون كالجبال الشمِّ الراسيات، ويكون ضوؤها كالشمس، وأعظم التقوى أن نتقي الله عز وجل حقَّ تقاته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، أي: اتقوه على نحو ما أمركم به ونهاكم عنه، والذين يتقون الله حقَّ تقاته قليل، قال ابن عباس في تفسير الآية: "أطيعوا الله حقَّ طاعته" وبيّن مجاهد كيف يتَّقى الله حقَّ التقوى، فقال: "هو أن يطاع، ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 257]. وسأورد أربعاً مما دلنا عليه الكتاب والسنّة لغرس التقوى في القلوب. أولا: تعرف العبد إلى ربِّه: أنزل الله تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم، فإذا فقهه الناس وعلموه، أنشأ التقوى في قلوبهم {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 17 - 18]. وقد جعل الله القرآن كتاب هداية {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ومع أن القرآن كتاب هداية للناس جميعاً، إلا أن الذين ينتفعون به هم المتقون دون سواهم. ولولا الكتب المنزلة لما عرف الناس كيف يتقون ربهم، قال تعالى بعد أن بيَّن الأحكام التي تتعلق بالصيام: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] فكيف يتقي الناس ما شرع لهم في الصيام، لولا هذا البيان الذي بيّنه الله، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] فالضلال لا يكون حتى يبين الله للعباد ما يتقونه، فإن، قبلوه، وأخذوا به كانوا من المتقين وإلا كانوا من الضالين، ولذلك لا تقوم الحجة على العباد إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب لقوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وكتاب الله أعظم ما يدلُّ الناس على ربِّهم تبارك وتعالى، فإذا نظر العبد في كتاب الله عز وجل تجلى الله له بعظمته وجلاله وأسمائه وصفاته، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحبِّ كلِّها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء، كما قيل: يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل فتبقى المحبة طبعاً لا تكلفاً، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار

إلى ربه، وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلَّما قوي الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر. وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت، أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة (¬1) رعوناتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر. وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره والتبليغ لها والتواصي بها وذكرها وتذكرها والتصديق بالخبر والامتثال للطلب والاجتناب للنهي. وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من العبد قوة الحياء فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى. وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونرهن لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به وبكل ما يجريه على عبده، ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى ¬

(¬1) الأعنة: جمع (عنان)، وهو الذي تمسك به الدابة.

يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به ويختاره له. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخضوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدَّته. وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه والافتقار إليه، الاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له. وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاءه في منعه، وبره ولطفه وإحسانه ورحمته في قيُّوميَّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه، ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه. وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيُّوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق

ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق

سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكلِّ كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع" [الفوائد، لابن القيم: 80 - 82، دار الكتب العلمية]. ثانيا: عبادة الله تبارك وتعالى بصدق: عباده الله - تبارك وتعالى - وحده لا شريك له تغرس التقوى في قلب العبد، سواءً أكانت عباده مفروضة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والدعاء والنذر ونحوها، أو مستحبة كالنوافل من العبادات، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. لقد نادى ربُّ العزةِّ الناس جميعاً آمراً إياهم بعبادته وحده لا شريك له، وهذا الإله الذي أمروا بعبادته هو المستحق للعبادة، لأنه هو الذي خلقنا وخلق آباءنا من قبلنا، ثم بيَّن سبحانه أن غاية العبادة التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، فالعبادة تنشئ التقوى في القلوب. وإذا أنت نظرت إلى الصلاة وما فيها من أعمال وأقوال، وجدتها تنشأ التقوى في القلوب، فأنت تتطهر أولاً، ثم تقف مستقبلاً القبلة، وبعد أن تكبر تدعو بواحد من أدعية الاستفتاح، الذي تمجد فيه ربك، وتثني عليه، ثم تقرأ الفاتحة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وهي ثناء وتمجيد وتعظيم لله، ثم تقرأ بما تيسر من القرآن، وفي الآيات التي تقرؤها ما فيها من معاني كريمة، تعرفك بالله وصفاته وأسمائه وحقوقه، ثم تكبر راكعاً، ثم تسبح ربك وتثني عليه.

ثم ترفع رأسك قائلاً: سمع الله لمن حمده، حامداً ربك: «ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، ولكنها لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ». ثم تخر مكبراً ساجداً مسبحاً لله تعالى، داعياً إياه بما علَّمك رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أدعية، ثم ترفع مكبراً، فتجلس داعياً الله بين السجدتين، وفي التشهد تذكر التحيات التي تتقدم بها إلى رب العزة، وهي تحيات طيبات وتسلم على النبي، وتصلي عليه، ثم تدعو بما شئت، وتختم بالسلام عن اليمين والشمال، إن هذه الصلاة إن صليتها بتدبر وخشوع أنشأت التقوى في القلب، وغرستها فيه. ومن العبادات التي تنشئ التقوى في القلوب الصيام، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] فالذي يمتنع عن الطعام والشراب والنكاح طيلة نهار رمضان في شهر رمضان لا يمنعه إلا أن الله شرع ذلك وفرضه، تنشأ التقوى في قلبه وتقوى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "أمر الله بالصيام لأجل التقوى، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن، يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصّل التقوى لم يحصل له مقصود الصوم، فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك" [مختصر الفتاوى المصرية: (289)]. ومع أن العبادة تنشئ التقوى، فإن التقوى بدورها تدعو لعبادة الله، وقد صحَّ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذرٍّ ناصحاً ومعلِّماً: «اتَّق الله تكن أعبد الناس» [حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي: 1876، وأخرجه في الصحيحة: 930].

ثالثا: التفكر في خلق الله تعالى

ثالثا: التفكر في خلق الله تعالى: التفكر في خلق الله تعالى يغرس التقوى في القلوب، فالله تبارك وتعالى ملأ هذا الكون الذي نعيش فيه بالآيات الدالة عليه سبحانه، فقد جعل الله سبحانه الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدَّره منازل، لنعلم عدد السنين والحساب، وخلق الله الليل والنهار، وجعلهما يتقارضان، فيطول هذا، وينقص هذا، ثم يقع العكس، وخلق في السماوات والأرض آيات كثيرة عظيمة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 5 - 6] والنصوص الآمرة بالتفكر في آيات الله في الكون كثيرة جداً، والتفكر فيها يدلنا على أن الله لم يخلق الكون عبثاً، فقد خلقه ليكون معبداً لبني آدم يعبدون الله فيه، وهو ليس النهاية، بل وراء هذه الحياة حياة أخرى، يبعث الله فيها العباد ويجازيهم بأعمالهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 190 - 194]. رابعا: التفقه في النصوص المتحدثة عن القبر وعذابه والآخرة وأهوالها: إذا أكثر العبد من تلاوة النصوص القرآنية وقراءة الأحاديث النبوية التي تتحدث عن الأهوال التي ستصيب الناس في القبر والموقف العظيم والنار،

1 - ما يقع للبعد عند موته وبعد الموت

فإن قلبه يمتلئ بمخافة الله تعالى: {لَهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]. وإذا وفق العبد لمعرفة أهوال القبر وأهوال القيامة، ثم تصور أنه واقع في تلك الأهوال، فإن قلبه يرعوي. 1 - ما يقع للبعد عند موته وبعد الموت: جمع شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى روايات الحديث الذي يخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه ما يقع للبعد عندما يأتيه الموت، وما يجري له بعد الموت، ومن تأمل في هذا الحديث بصدق، رزقه الله - إن شاء الله - التقوى، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مستقبل القبلة]، وجلسنا حوله، وكأن، على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، [فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه، ثلاثاً]، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين، أو ثلاثاً، [ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر»] [ثلاثاً]، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة)، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، (وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب

السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم)، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، [فذلك قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض». قال: «فيصعدون بها فلا يمرون - يعني - بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان - بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، [{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 19 - 21] فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال]: أعيدوه إلى الأرض، فإني [وعدتهم أني] منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فـ[يرد إلى الأرض، و] تعاد روحه في جسده، [قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه] [مدبرين]. فيأتيه ملكان [شديدا الانتهار] فـ[ينتهرانه، و] يجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدقت، [فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

[إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينادي منادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدَّ بصره». قال: «ويأتيه [وفي رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، [أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم]، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: [وأنت فبشرك الله بخير] من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح [فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزالك الله خيراً]، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكن]». قال: «وإن العبد الكافر (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد]، سود الوجوه، معهم المسوح (¬1) [من النار]، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيئة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السَّفود [الكثير الشعب] من الصوف المبلول، [فتقطع معها العروق والعصب]، [فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم]، فيأخذهما، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ¬

(¬1) جمع المسح، بكسر الميم، وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للبدن.

ريح جيفه وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان - بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، [ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدها، ومنها أخرجهم تارة أخرى]، فتطرح روحه [من السماء] طرحاً [حتى تقع في جسده] ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، فتعاد روحه في جسده، [قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه]. ويأتيه ملكان [شديدا الانتهار، فينتهر أنه، و] يجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ [فيقول: هاه هاه (¬1) لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها هاه لا أدري]، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد! فيقول: ها هاه لا أدري [سمعت الناس يقولون ذاك! قال: فيقال: لا دريت]، [ولا تلوت]، فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيَّق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. ¬

(¬1) هي كلمة تقال في الضحك وفي الإيعاد، وقد تقال للتوجع، وهو أليق بمعنى الحديث، والله أعلم. كذا في (الترغيب).

2 - تصور المحاسبي لأهوال يوم القيامة

ويأتيه (وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقولك [وأنت فبشرك الله بالشر] من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر! فيقول: أنا عملك الخبيث، [فو الله ما علمت إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله]، [فجزاك الله شراً، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة! لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصبح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: رب لا تقم الساعة». [قال شيخنا الألباني في تخريجه: أخرجه أبو داود (2/ 281) والحاكم (1/ 37 - 40) والطيالسي (رقم 753) وأحمد (4/ 287) و288 و295 و296) والسياق له والآجري في "الشريعة" (367 - 370). وروى النسائي (1/ 282) وابن ماجه (1/ 469) - 470) القسم الأول منه إلى قوله: "وكأن على رؤوسنا الطير"، وهو رواية لأبي داود (2/ 70) بأخصر منه وكذا أحمد (4/ 297) وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 214) و"تهذيب السنن" (4/ 337)، ونقل فيه تصحيحه عن أبي نعيم وغيره]. 2 - تصور المحاسبي لأهوال يوم القيامة: يقول الحارث المحاسبي مصوراً أهوال يوم القيامة: "حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يسمع، ولا شخص يرى، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم. فتوهم كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء، لأنها

صيحة واحدة للعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء - فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغيراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة، وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم. فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة حفاة، صموت أجمعون بالذل والمسكنة والخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله عز وجل في أرضه. ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال، منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها، فتوهم إقبالها بذلّها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور. وأقبل السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكّسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه، فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.

حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب، تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بغلظمها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها، وهي حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة، كما قال الجليل الكبير {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 8 - 9]. فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه. فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم، منكسين لذل العرض على الله عز وجل. فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا، ليس هو بيننا، ولكنه آتٍ من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذلّ يومهم.

فتوهمهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم، ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك، وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء مضعفين بالعدد، وعظم الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً. حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا ظلَّ لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً، وتضايقت فاختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر راتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمه أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه. عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل (وقال مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام» [متفق عليه]. وعن عبد الله رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم» (وقال عليّ: من طول القيام. قالا جميعاً) حتى يقول: رب أرحني ولو إلى النار. وأنت لا محالة أحدهم، فتوهم نفسك راجعة لكربك،

وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى درا السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم". عن قتادة أو كعب، قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]. قال:"يقومون مقدار ثلاثمائة عام، وقال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار، فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد نفحها". فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به، كلَّم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن، يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل، وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وكذلك يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا} [النحل: 111]. فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه، ينادي نفسي نفسي، فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي. فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما

خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى

ظنك بيوم ينادي فيه الله آدم، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله - عز وجل - وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم ففي إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم لأنفسهم، أتوا النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه، فأذن له، ثم خرّ لربه ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله يسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم" [كتاب التوهم والأهوال للحارث بن أسد المحاسبي: ص5]. خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى: الإكثار من ذكر الله تعالى يرقق القلوب، ويصفي الأرواح، ويغرس التقوى في قلوب العباد، قال ابن القيم: "إنَّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله تعالى" [الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص85].

المبحث السابع مدى عناية الإسلام والمسلمين بالتقوى

المبحث السابع مدى عناية الإسلام والمسلمين بالتقوى المطلب الأول لا أنفع للعباد من الالتزام بالتقوى لا أنفع للعباد من الالتزام بالتقوى، والتحلي بها، ولذلك وصّى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بها، ووصّى بها الصالحون من الصحابة والتابعين، وأئمة الدين. وقد سأل أبو القاسم القاسم بن يوسف المغربي شيخ الإسلام ابن تيمية أن يوصيه بما يكون فيه صلاح دينه ودنياه، فأوصاه بالتقوى، قال:"ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها" [الوصية الصغرى، لابن تيمية، ص8]. المطلب الثاني توصية الله الأولين والآخرين بالتقوى أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه وصّى الذين من قبلنا وإيانا بالتقوى، فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. وقال بعض طلبة العلم لشيخه: أوصني، قال: "أوصيك بما أوصى الله به الأولين والآخرين، وهو قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] " [بصائر ذوي التمييز: 5/ 261]. ونادى ربُّ العزة الناس جميعاً آمراً إياهم بتقواه سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

المطلب الثالث توصية جميع الأنبياء أممهم بالتقوى

المطلب الثالث توصية جميع الأنبياء أممهم بالتقوى كل الرسل الذين أرسلهم ربُّ العزة أمروا أقوامهم بالتقوى، ووصوا بها، فأوَّل الرسل الذين أمروا بالتقوى نوح عليه السلام {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 23]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحُ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 105 - 106] وجاء هود من بعد نوح وأمر قومه بمثل ما أمر به نوح قومه {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودُ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124]، وجاء صالح من بعد هود وأمر قومه بالتقوى {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحُ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 142] وذكر الله لوطاً عليه السلام فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطُ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 161] ومثل ذلك قال نبيُّ الله شعيب {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبُ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 177] وأمر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام قومه بتقوى الله فقال: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16]. المطلب الرابع كثرة إيصاء الله هذه الأمة التقوى من ينظر في كتاب الله تعالى يجد أن الله تعالى وصّى هذه الأمة بالتقوى كثيراً، فقد أمرنا الله بلفظ {اتَّقُوا اللَّهَ} أو {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أكثر من ستين مرة، وأمر بالتقوى بألفاظ أخرى مقاربة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]، قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]،

المطلب الخامس توصية رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى

وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196]، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} [البقرة: 223]، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231]، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. هذا ما ورد في سورة البقرة وحدها من أمر الله لنا بالتقوى بلفظ {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وكثرة الأمر من الله تعالى بالشيء الواحد يدلُّ على مدى عناية الله بهذا الأمر. المطلب الخامس توصية رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى وصّى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أفراداً من أصحابه بالتقوى، كما أوصى جميع أمته بها. وقد ضمّن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة التي كانت يبدأ بها خطبة، ثلاث آيات تأمر بالتقوى، وسأذكر بعض النصوص التي وصّى بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بالتقوى، ومنها خطبة الحاجة: 1 - جمع الشيخ ناصر الدين الألباني مجموع ما كان يقوله رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الحاجة من كتب السنّة في رسالة صغيرة، طبعها المكتب الإسلامي، وعنوان لها بـ"خطبة الحاجة" [الطبعة الثانية، 1389 هـ، بيروت]. ونص هذه الخطبة:

«إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شررو أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب 70 - 71]. أما بعد: ثم يذكر حاجته». وقد ساق الشيخ ناصر طرق هذه الخطبة في كتب السنّة. 2 - عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن» [الترمذي: 1987، وقال: هذا حديث حسن صحيح]. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التقوى وحسن الخلق، لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته" [الفوائد: ص 69]. 3 - وعن أبي سعيد الخدري، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. فقال: «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء» [أورده الألباني في الصحيحة ورقمه (555)، وعزاه لأحمد (3/ 82) والطبراني في المعجم الصغير: ص 197، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: ص 243: قال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين].

المطلب السادس توصية أهل العلم بالتقوى

4 - عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدٌ حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» [الترمذي 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح]. 5 - وصّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد أصحابه، فقال له: «عليك بتقوى الله تعالى، والتكبير على كل شرف» [حكم عليه الشيخ ناصر بالحسن، وعزاه إلى الترمذي عن أبي هريرة، صحيح الجامع الصغير: (4046)]. 6 - عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجّة الوداع، فقال: «اتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم» [الترمذي: 616، وقال: هذا حديث حسن صحيح]. 7 - وعن النعمان بن بشير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» [البخاري: 2587، مسلم: 1623]. 8 - وعن جابر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فاتقوا الله في النساء» [مسلم: 1218]. المطلب السادس توصية أهل العلم بالتقوى 1 - كان أبو بكر يقول في خطبته:"أوصيكم بتقوى الله" [المستدرك: (2/ 415) ورقمه: (3447) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد].

2 - وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: "أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك، وجلاء قلبك" [جامع العلوم والحكم: ص 151]. 3 - واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلاً على سرية، فقال له: "أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقياه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة" [جامع العلوم والحكم: ص 151]. 4 - وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: "أوصيك بتقوى الله عز وجل، التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين" [جامع العلوم والحكم، ص: 151]. 5 - ولما وِّلي خطب، وحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ" [جامع العلوم والحكم: ص 151]. 6 - وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج، قلت للحكم: ألك حاجة، فقال: أوصيك بما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [جامع العلوم والحكم: ص 151]. 7 - وصية شيخ الإسلام ابن تيمية بالتقوى: سأل أحد طلبة العلم بالمغرب وهو أبو القاسم القاسم بن يوسف بن محمد التجيبي السبتي المغربي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن يوصيه بما يكون فيه صلاح دينه ودنياه، فكتب له رسالة، سميت بـ"الوصية الصغرى".

وقد جعل عمدة وصيته الحديث الذي وصى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتقوى الله، وسأورد في هذا الموضع بعضاً منها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الجواب: "أما "الوصية"، فما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء" 131] ". ووصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: «يا معاذ: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» [رواه الترمذي (1987) وقال فيه: هذا حديث حسن صحيح]. وكان معاذ - رضي الله عنه - بمنزلة عليَّه؛ فإنه قال له: «يا معاذ! والله! إني لأحبك» [عزاه محقق الوصية الصغرى إلى أبي داود والنسائي وغيرهم، وصححه] وكان يردفه وراءه [عزاه محقق الوصية الصغرى إلى البخاري ومسلم]، وروي فيه: "أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام" [قال محقق الوصية الصغرى: أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح]، وأنه يحشر أمام العلماء برتوة [أي: بخطوة] ومن فضله أنه بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلغاً عنه داعياً ومفقهاً ومفتياً وحاكماً إلى أهل اليمن. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - وصاه هذه الوصية، فعل أنها جامعة، وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير الوصية القرآنية. أما بيان جمعها، فلأن العبد عليه "حقان": حقٌّ لله عز وجل، ـ وحقٌّ لعباده، ثم الحق الذي عليه لا بد أن يخَّل ببعضه أحياناً: إما بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله حيثما كنت» وهذه كلمة جامعة، وفي قوله: «حيثما كنت» تحقيق لحاجته إلى التقوى في

السر والعلانية، ثم قال: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فإن الطبيب متى تناول المريض شيئاً مضراً أمره بما يصلحه، والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيِّس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات، وإنما قدَّم في لفظ الحديث «السيئة» وإن كانت مفعولة، لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة، فصار كقوله في بول الأعرابي: «صبوا عليه ذنوباً من ماء» [رواه البخاري ومسلم]. وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له، والاستغفار والثناء عليه، والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض. وبعض هذا واجب وبعضه مستحب. وأما الخلق العظيم الذي وصف الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - (أي في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]) فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً، هكذا قال مجاهدا وغيره، وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن" [رواه مسلم] وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحب الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر. واسم "تقوى الله" يجمع فعل كل ما أمر الله إيجابياً واستحباباً، وما نهى عنه تحريماً وتنزيهاً، وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد، لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف من المحارم، جاء مفسراً في حديث معاذ، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وصححه: "قيل: يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله وحسن الخلق». قيل: وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال «الأجوفان: الفم والفرج» [رواه الترمذي، وقال فيه: صحيح غريب].

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» [عزاه محققه إلى أبي داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. وتفصيل أصول التقوى وفروعها لا يحتمله هذا الموضع، فإنها الدين كله؛ لكن ينبوع الخير وأصله: إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 23]، وفي قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وفي قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17] بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعاً بهم أو عملاً لأجلهم، ويجعل همته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقه وحاجة ومخافة وغير ذلك، والعمل له بكل محبوب، ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك. 8 - وصية شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بالتقوى: ألقى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز محاضرة في مستشفى الملك فيصل في الطائف أوصى فيها الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات والحضور بتقوى الله، وبيّن لهم كيف تكون تقواهم فيما يخصُّ عملهم، ونشرت هذه المحاضرة "مجلة البحوث الإسلامية في عددها رقم (59) " وجاء في هذه المحاضرة: "وصيتي لنفسي، وللحاضرين جميعاً من أطباء وطبيبات وممرضين وممرضات ومرضى، وإخواني الحضور، وجميع المسؤولين، وصيتي للجميع أن نتقي الله في السر والعلن، لأنه القائل سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197] وهو القائل عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] وهو القائل عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وهو القائل سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب 70 - 71]. فعلينا أن نتقيه سبحانه، وتقواه سبحانه هي عبادته، بفعل الأوامر، وترك النواهي عن خوف من الله، وعن رغبة فيما عنده، وعن خشية له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته، وعن محبة صادقة له سبحانه، ولرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولجميع المرسلين والمؤمنين، فعلينا أن نحب الله بكل قلوبنا، فوق محبة كل أحد، وأن نحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - محبة صادقة فوق محبة أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وغيرهم، وأن نحب الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونحب إخواننا في الله المؤمنين، فالمحبة من أفضل الواجبات، ومن أهم الواجبات المحبة لله وفي الله عز وجل، ثم هذه المحبة لله ولرسوله توجب طاعة الأوامر وترك النواهي، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. فالمحبة الصادقة لله ولرسوله وللمؤمنين تقتضي العمل بطاعة الله، وإخلاص العبادة له، وترك معصيته كما تقتضي طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما جاء به، والحذر مما نهى عنه، والوقوف عند الحدود التي حدّها، مع تقديم سننه وشرعه على أهوائنا، وتوجب أيضاً محبة المؤمنين وإعانتهم على الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر ومحبة الخير لهم وأداء الأمانة. ومما يجب على المسؤولين عن الناس في المستشفيات وغيرها أداء الأمانة، فالطبيب والعامل والمسؤول عن الإدارة وغيرهم كله مسؤولون عن أداء

الأمانة التي وكلت إليهم في العلاج وفي الدواء وفي الرفق بالمريض، وفي غير هذا من شؤون التطبيب، يجب على الجميع أن يؤدوا الأمانة بكل صدق وعناية، وأن يحروصوا على العناية بالدواء النافع والوقت المناسب، وأن يكونوا على بيّنة في وضع الدواء على الداء، وأن يحذروا التساهل في ذلك، وأن يرفقوا بالمريض، وأن يسمع منك اللطف في الكلام وطيب الحديث، لأن هذا يعين على زوال المرض بإذن الله وعلى الشفاء من المرض، وهكذا الطبيبة تعنى بهذا الأمر، فتكون رفيقة حكيمة كالرجل، كلٌّ منهم يكون رفيقاً حكيماً طيب الكلام، يشعر منه المريض بالحنو والعطف والمحبة والحرص على شفائه، ويعنى مع ذلك بالدواء المناسب، وبالوقت المناسب، وبالمقدار المناسب من الدواء حتى لا يزيد فيضرّ المريض، وحتى لا ينقص فلا يحصل به المقصود. كلٌّ من المسؤولين عليه أن يعمل من الخير بقدر ما يستطيع، وكلٌّ عليه أن يؤدي النصيحة، فالطبيب يؤدي الواجب، والممرض يؤدي الواجب، والمدير يؤدي الواجب، والممرض يؤدي الواجب، والمدير يؤدي الواجب، وهكذا الطبيبة والممرضة كلتاهما تؤديان الواجب، وهكذا بقية العاملين كلٌّ يتقي الله، ويؤدي الأمانة التي وكلت إليه بإخلاص لله، ويعظم الله سبحانه، ويحذر من غضبه جلّ وعلا، ويعنى بالمريض، وينصح له ويرفق به رجاء أن يشفيه الله على يدك أيها الطبيب، وعلى يديك أيتها الطبيبة. وكل المسؤولين بالمستشفى عليه تقوى الله، وأن يبذل الوسع والمستطاع فيما ينفع المريض، ويخفف عليه المرض، ويخفف عليه الآلام التي يجدها ويحسُّ بها، ولا شك أن الكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والعناية التامة، كلُّ ذلك مما يخفف عن المريض آلامه، ومما يشرح له صدره، ومما يعين على زوال المرض بتوفيق الله وهدايته ورحمته وإحسانه سبحانه وتعالى.

المطلب السابع وصية الشعراء بالتقوى

وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يرضيه، وأن يمنحنا الفقه في الدين، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يوفق القائمين على هذا المستشفى، وكذلك أسأله لجميع القائمين على مستشفيات المملكة في كل مكان، أسأل الله أن يوفقهم جميعاً لما يرضيه، وأن يعينهم على أداء الواجب، وعلى أداء الأمانة، وأن يبارك في جهودهم، وينفع بها المسلمين جميعاً، وأن ينفع جميع المعالجين في المستشفيات، وأن يصلح قلوب الجميع، وأعمال الجميع". المطلب السابع وصية الشعراء بالتقوى 1 - قال ابن المعتز فيما نقله عن ابن رجب في [جامع العلوم والحكم: ص 150]: خلَّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التقى واصنع كماشٍ فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرنًّ صغيرةً ... إنه الجبال من الحصى 2 - وذكر ابن رجب في [جامع العلوم والحكم، ص 152] أن الإمام أحمد كان ينشد: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا ... تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً ... ولا أنَّ ما يخفى عليه يغيب 3 - وقال أحد الشعراء: لا تحقرنَّ ما الذنوب صغيراً ... إن الصغير غداً يعود كبيرا إن الصغير ولو تقادم عهده ... عند الإله مسطّراً تسطيرا فازجر هواك عن البطالة لا ... تكن صعب القياد وشمّرنّ تشميرا

إن المحب إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا فاسأل هدايتك الإله بنيِّةٍ ... فكفى بربك هادياً ونصيرا 4 - وقال ابن القيم في نونيته: وإذا ما خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل ... لها إنَّ الذي خلق الظلام يراني 5 - وقال أحد الشعراء: يا من يرى مدَّ البعوض جناحه ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها ... والمخ يجري في تلك العظام النحل امنن عليَّ بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول 6 - وقال آخر: من عرف الله فلم يغنه ... معرفة الله فذاك الشقي ما يفعل العبد بعزِّ الغني ... والعزّ كل العزّ للمتقي 7 - وقال ابن حبان البستي في [مختصر روضة العقلاء: ص 31]: ألا إنما التقوى هي العزُّ والكرم ... وفخرك بالدُّنيا هو الذُّلُّ والعدم وليس على عبدٍ تقىيٍّ نقيصةٌ ... إذا صحَّح التقوى وإن حاك أو حجم 8 - وأورد قول شاعر آخر قال: إذا انتسب الناس كان التَّقيُّ ... بتقواه أفضل من ينتسب ومن يتقِّ الله يكسب به ... من الحظِّ أفضل ما يكتسب ومن يتَّخذ سبباً للنجاة ... فإنَّ تقى الله خير السَّبب

المبحث الثامن فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى

المبحث الثامن فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى نهانا رُّبنا - تبارك وتعالى - عن تزكية أنفسنا، وذلك بمدح الواحد منَّا نفسه، وثنائه عليها، وذكر ما فعله من أفعال خير، من صلاةٍ وصوم، وزكاة، وحجٍّ وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وقد علَّل الله - تبارك وتعالى - للنهي عن التزكية بكونه العالم بمن اتقى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ومن استحضر أن الله تعالى عالم به، مطَّلع على أعماله وأقواله فإنه يتواضع لله تبارك وتعالى، ويصغر في عينيه ما عمله، ويكون خائفاً دائماً أن لا يتقبل الله تعالى منه، وأن يضيع عمله، فيصبح عمله هباءً منثوراً، فإن العجب بالأعمال من محبطات الأعمال. والذي يعلم يقيناً أن الله تعالى يراه ويعلم بما كان منه من تقوى يطمئن إلى أن الله لا يضيع عمله، وسيجازيه به، قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]. قال: {لا يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: 44]. وكما على العبد أن يكون دائماً على حذر أن يشغل نفسه بتزكية نفسه، فعليه أن يحذر من تزكية غيره، فقد يجرُّه ذلك إلى نوع من التملق والنفاق، وقد تنفخ تلك التزكية العظمة والعجب فيمن زكيته، فيقطع المرء بتزكيته عنق صاحبه.

المبحث التاسع حاجة التقوى إلى الصبر

المبحث التاسع حاجة التقوى إلى الصبر المطلب الأول من يتق ويصبر فلن يضيع الله علمه الذي يقوم بالتقوى مخافةً لله، وعملاً بالصالحات، وتركاً للمحرمات، لا بد له من الصبر، فإن الذين لا يصبرون، لا يستطيعون الإتيان بالعبادات على وجهها، ولا يطيقون الجهاد في سبيل الله تعالى. ولذا فإن الله تعالى ذكر "الصبر والتقوى" جميعاً في غير موضع من كتابه وبيّن أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين، وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]، وقال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران 186]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 - 120].

المطلب الثاني أقسام الناس في التقوى والصبر

وقال إخوة يوسف له: {لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] [الزهد والورع والعبادة: 108]. المطلب الثاني أقسام الناس في التقوى والصبر ذكر شيخ الإسلام أن الناس في التقوى، وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام: الأول: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة. الثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلي بعدو يخفيه عظم جزعه وظهر هلعه. الثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم، كاللصوص والقطّاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام؛ والكتَّاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصيرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام.

وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق، ومن طلاّب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرّمة نظراً أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب: كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر. وأما القسم الرابع، فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 - 21]، فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلباً، وأقلهم رحمةً وإحساناً وعفواً، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد، مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهراً بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق: "فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [مسلم: 2564]. فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهاً لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردَّة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار.

وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». وإذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، فكلُّ من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبراً على ما قدره وقضاه، كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك [الزهد والورع والعبادة، لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص 150 - 107].

المبحث العاشر عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم

المبحث العاشر عظم جرم الذي إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم ذمَّ الله - عز وجل - صنفاً من عباده إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، وهؤلاء حسبهم جهنم وبئس المهاد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]. ولا شك أن هذا الصنف من الناس صنف باغ طاغ متجبر، ولذا فإنه إذا قيل للواحد منهم: اتق الله، تجده بغى، وطغا، وثار، وأرغى وأزبد، وقد يؤذي مخاطبه، وقد يقتله، ويفتك به. وحسبك أن تعلم أن الله تعالى قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] وقد سقت النصوص الكثيرة القرآنية والنبوية الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]. وتقوى الله وصية الله للأولين والآخرين من البشر، والمؤمن إذا قيل له: اتق الله، تواضع لها، وأخبت، ورقَّ قلبه، وإذا كان قد زلَّ وأخطأ، فإنك تجده قد ارعوى، واستغر وتاب، وأناب.

المبحث الحادي عشر تأسيس الأعمال على التقوى

المبحث الحادي عشر تأسيس الأعمال على التقوى ينبغي أن تؤسس الأعمال على التقوى، ومن ذلك بناء المساجد، ودور الأيتام، والمدارس، والجامعات، وقد ذمَّ الله تعالى في العهد النبوي الذين بنوا في المدينة في منطقة قباء مسجداً ضراراً، أرادوا من ورائه أن يتخذوه موضعاً للتآمر على رسول الله وعلى المؤمنين معه، فنهى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن افتتاحه والصلاة فيه، وكان بناته قد دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة فيه، فكشف الله سترهم، فضح أسرارهم، وأنزل فيهم قرآناً يتلى تحذيراً من كلِّ من فعل مثل فعلهم، ورغَّب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم في المسجد الذي بني على التقوى، وهو الذي بني لعبادة الله، وفيه الذين يحبُّون أن يتظهروا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرُ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ} [التوبة: 107 - 110]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "سبب نزول هذه الآيات الكريات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرفٌ في الخزرج كبير.

فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، واظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارّاً إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألَّبهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحدٍ، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله، وكانت العاقبة للمتقين. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصَّفين، فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصيب ذلك اليوم، فجرح في وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشجّ رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق، يا عدوَّ الله! ونالوا منه وسبّوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شرّ. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحدٍ، ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوعده ومنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنَّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، ويغلبه ويردُّه عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -

إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلِّي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله». فلما قفل - صلى الله عليه وسلم - راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء، الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}: وهم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجداً واستعدُّوا بما استطعتم من وقوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} إلى {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة، وغير واحد من العلماء. وقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله ابن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، قالوا: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني من تبوك - حتى نزل بذي أوان - بلدٍ بينه وبين المدينة ساعةٌ من نهار، وكان أصحاب مسجد الضِّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة

الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ولو قدمنا - إن شاء الله تعالى - أتيناكم فصلينا لكم فيه». فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك ابن الدُّخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عديٍّ - أو: أخاه عامر بن عديٍّ - أخا بلعجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه». فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخشم، فقال مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجا يشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرَّقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} إلى آخر القصة. وقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ}، أي: الذين بنوه {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}، أي: ما أردناه ببنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، أي: فيما قصدوا وفيما نووا، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء، وكفراً بالله، وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الفاسق، الذي يقال له: الراهب، لعنه الله. وقوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، نهي من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - والأمة تبع له في ذلك، عن أن يقوم فيه، أي: يصلي فيه أبداً، ثم حثَّه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى، وهي طاعة الله، وطاعة رسوله، وجمعاً لكلمة المؤمنين ومعقلاً وموئلاً للإسلام وأهله. ولهذا قال تعالى:

{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء. ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» [الترمذي: 324، ابن ماجه: 1411]. وفي الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً [البخاري: 1191، 1193، 1194، مسلم: 1399]. وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو في جف المدينة، هو المسجد الذي أسس على التقوى. وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى. ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله ابن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا». تفرد به أحمد [مسند أحمد: 21107، صحح متنه محقق ابن كثير: 5/ 444]. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد الساعدي قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الآخر: هو مسجد قباء. فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه، فقال: «هو مسجدي هذا». تفرد به أحمد أيضاً [قال محقق ابن كثير: أخرجه أحمد [22805] وابن أبي شيبة [في مصنفه: 2/ 370، 372] والطبري [في تفسيره: 11/ 28] والطبراني [في الكبير: 6025]. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد والطبراني رجال الصحيح. ابن كثير: 5/ 445].

وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هو مسجدي هذا». تفرد به أحمد [قال محقق ابن كثير 5/ 444: صحيح، أخرجه أحمد: (11846)]. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث، حدثني عمران ابن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هو مسجدي». وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة، عن الليث - وصححه الترمذي - ورواه مسلم كما سيأتي [وصححه محقق ابن كثير: 5/ 444، أخرجه أحمد: (11046)]. {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرُ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ} يقول تعالى: لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، ومن بنى مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما بنى هؤلاء بنيانهم {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}، أي: طرف حفيرة منثالة {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يصلح عمل المفسدين. قوله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، أي: شكّاً ونفاقاً بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع، أورثهم نفاقاً في قلوبهم، كما

أشرب عابدو العجل حبه. وقوله: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، أي: بموتهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسديّ، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف. {وَاللَّهُ عَلِيمُ}، أي: بأعمال خلقه {حَكِيمُ}، في مجازاتهم عنها، من خير وشر [تفسير ابن كثير: 5/ 440 - 447 بشيء من الاختصار].

المبحث الثاني عشر ليس من التقوى الغلو في العبادة

المبحث الثاني عشر ليس من التقوى الغلو في العبادة بعض الذي ينسبون إلى الإسلام يغالون في التعبد ظانين أن ذلك من التقوى، وقد غالى بعض الصحابة في ذلك، فردَّهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى جادّة الصواب، فقد ورد أن نفراً من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاؤوا إلى بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسألوا عن عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا فكأنهم تقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، وتحدثوا عن أنفسهم، فأخبر أحدهم أنه يقوم الليل ويصلي ولا ينام، وأخبر الآخر أنه يصوم الدهر، ولا يفطر، وأخبر الثالث أنه يعتزل النساء، فخطَّأهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن لهم وجه الصواب. وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» [البخاري: 5063]. وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم الليل كله، ولا يصوم الشهر كله، كان يقوم أدنى من ثلثي الليل، ويقوم نصفه وثلثه، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] وكان يصوم من الشهر ويفطر، وكان يتزوج النساء، وأخبر أن الذي هو عليه هو سنّته.

المبحث الثالث عشر التعاون على البر والتقوى

المبحث الثالث عشر التعاون على البر والتقوى أمرنا ربنا - تبارك وتعالى - بالتعاون على البر والتقوى، فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. والتعاون على البر والتقوى معلم من معالم الأمة المسلمة فيما بينها، وقد ذكرت آية البر التي جعلت البر شاملاً للعقيدة، ولإيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأدخلت في التقوى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن التقوى الوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، قال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وهذه الأعمال شاملة للدين كله، وهي جميعها قابلة للتعاون عليها فيما بين المسلمين. فالذين يتعاونون فيما بينهم للتعرف على الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين، متعاونون على البر والتقوى، ويدخل في ذلك مجال الدارسة والتعلم، ومجال التدريس والتعليم في هذه الموضوعات، كما يدخل في ذلك معالجة المشكلات، وتوضيح الشبهات، ومن ذلك أيضاً التأليف في هذه المجالات.

ومن التعاون على البر والتقوى التعاون في مجال سد حاجات المحتاجين، والإنفاق على من رغَّب الله في الإنفاق عليهم من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب. ومن التقوى أن تقيم الصلاة، وتأمر الناس بإقامتها، وتعلم الذين لا يحسنون الصلاة كيف يصلونها على الوجه الصحيح إن كنت تعلمه. ومن التقوى أن تؤدي الزكاة، وتأمر الناس بأدائها على الوجه الصحيح، وتعلمهم كيف يخرجونها إن كانوا لا يعلمون كيفية إخراجها. ومن التقوى أن تفي بالعهد، وتأمر الناس بالوفاء به، وأن تصبر في البأساء والضراء وحين البأس. ومن التقوى الجهاد في سبيل الله، ودعوة الأمة الإسلامية إلى إقامة الجهاد، ودعوة أغنياء المسلمين إلى الإنفاق على المجاهدين، وشراء ما يحتاجونه من سلاح وطعام، والإنفاق على أسر المجاهدين.

المبحث الرابع عشر فضل التقوى وعظم قدرها

المبحث الرابع عشر فضل التقوى وعظم قدرها قال الفيروز آبادي متحدِّثاً عن فضل التقوى وعظيم شرفها: "اعلم أن التقوى كنز عزيز، إن ظفرت به فكم تجد له فيه من جوهرٍ شريف، وعلقٍ نفيس، وخير كثير، ورزق كريم، وغنمٍ جسيم، وملك عظيم، فهي الخصلة التي تجمع خير الدنيا والآخرة، وتأمَّل ما في القرآن من ذكرها كم علَّق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 259]. وقال الأستاذ وهبة الزحيلي: "التقوى قاعدة الإسلام، وجماع الخير، والعاصم من كل شرٍّ، والباعث على كل فضيلة، وخلق كريم، وهي أساس النجاة في الدنيا والآخرة، وسبيل السعادة، وطريق التوصل إلى الطمأنينة والاستقرار، والشعور بالرضا والارتياح، بل وسبب تيسر الرزق الحلال" [أخلاق المسلم، ص 52]. المطلب الأول التقوى الخصلة التي تجمع خير الدنيا والآخرة قال الفيروز آبادي مبيناً كيف كانت التقوى هي الخصلة الجامعة لخير الدنيا والآخرة: "أليس الله سبحانه أعلم بصلاح العبد من كلِّ أحد، ولو كانت في العالم خصلةٌ هي أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظ للأجر، وأجلُّ في العبودية، وأعظم في القدر، وأولى في الحال، وأنجح في المآل من هذه الخصلة التي هي التقوى لكان الله سبحانه أمر بها عباده وأوصى خواصّه بذلك؛ لكمال

المطلب الثاني التقوى تشرح الصدر والفجور يدسي النفس

حكمته ورحمته، فلما أوصى بهذه الخصلة جميع الأولين والآخرين من عباده واقتصر عليها، علمنا أنها الغاية التي لا متجاوز عنها، وأنه عز جل قد جمع كل محض نصح، ودلالة، وإرشاد، وتأديب، وتعليم، وتهذيب في هذه الوصية الواحدة كما يليق بحكمته ورحمته، فهي الخصلة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، الكافية لجيمع المهمات، المبلغة إلى أعلى الدرجات. وهذا أصلٌ لا مزيد عليه، وفيه كفاية لمن أبصر النور واهتدى، وعمل واستغنى. والله وليُّ الهداية والتوفيق. ولقد أحسن القاتل: من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشَّقي ما يصنع العبد بعزّ الغنى ... والعزُّ كلُّ العزِّ للمتقي [بصائر ذوي التمييز: 5/ 261]. المطلب الثاني التقوى تشرح الصدر والفجور يدسي النفس قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "البرُّ والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعاً وبسطاً عما كان عليه قبل ذلك؛ فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه الله شرح صدره. والفجور والبخل يقمع النفس ويعضها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق. وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في الحديث الصحيح فقال: «مثل البخيل والمتصدِّق كمثل رجلين عليها جبَّتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فجعل المتصدِّق كلما همَّ بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى

أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقة قلصت، وأخذت كلَّ حلقة بمكانها» - وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه في جيبه "فلوه رأيتها يوسِّعها فلا تتسع" [البخاري: 5797، مسلم: 1021 من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم]. وإخفاء المنزل وإظهاره تبعاً لذلك، قال تعالى: {يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 59].فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسَّها صاحبها في بدنه بعضها في بعض، ولهذا وقت الوت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرَّة التقية النفية التي قد زكاها صاحبها فارتفعت واتسعت ومجدت ونبلت، فوقت الموت تخرج من البدن تسيل كالقطرة من في السقاء، وكالشَّعرة من العجين. قال ابن عباس: إن للحسنة لنوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وسعةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في القلب، وسواداً في الوجه، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} [الأعراف: 58]. وهذا مثل البخيل والمنفق. قال: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} [الأنعام: 125]، وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [البقرة: 257]. وقال له في سياق الرمي بالفاحشة وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} الآية [النور: 21]. فبيَّن أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة، ولهذا قال: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية [النور: 30]. وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروهٌ فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقاً لكتاب

المطلب الثالث الله يحب المتقين

ربه مؤمناً بما جاء عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة، فتزكوا بذلك أيضاً، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها (تتدنس) وتندس وتنقمع". المطلب الثالث الله يحب المتقين أخبرنا ربنا - عز وجل - أنه يحب المتقين، فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] وأمر الله تعالى المؤمنين بإتمام عهد المشركين إلى مدتهم، وهذا من التقوى، وأخبر في ختام الآية أنه {يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] وأمر الله المؤمنين أن يقموا العهود التي بينهم وبين المشركين، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]. وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الله يحب التقي الغني الخفي» [مسلم: 2965]. وإذا كان الله يحبُّ المتقين، فإنه معهم بنصره وتأييده وتوفيقه، فقد أمر الله تعالى المؤمنين إذا اعتدى عليهم المشركون أن يعاملوهم بمقدار المثل، فلا يزيدوا في العدوان عليهم بأكثر مما عاملوهم به، ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]. وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار، وأن يكون قتالهم إياهم فيه شيء من القوة والغلظة، وطاعة المؤمنين ربهم فيما أمرهم به يدخلهم في التقوى، والله يحبُّ المتقين {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] وأخبر الله تعالى في آخر آية من سورة النحل

المطلب الرابع إنما يتقبل الله من المتقين

أنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]. المطلب الرابع إنما يتقبل الله من المتقين أخبرنا ربنا - عز وجل - أن ولدين من ذرية آدم قدَّم كلُّ واحد منهما قرباناً لله عز وجل، فتقبل الله من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، فقال الذي لم يتقبل الله قربانه لأخيه الذي تقبل الله قربانه: لأقتلنك، فقال له: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. فعلة عدم قبول الله لمن تقربوا إليه بقرابين هو عدم وجود التقوى عند هؤلاء، ولو وجدت التقوى في قلوبهم لتقبل الله قرابينهم ونذورهم، ولو كانت قليلة، فقد كان المنافقون يلمزون المطوعين من المؤمنين، الذين لا يجدون من المال إلا النزر اليسير، فيسخرون منهم، فتهدد الله المنافقين اللامزين وتوعدهم، وأثنى على المؤمنين المتقربين بالمال اليسير الذي تقربوا به {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابُ أَلِيمُ} [التوبة: 79]. وحسب المتقين أن العمل لا يتقبل إلا منهم، قال الفيروز آبادي: "ثم تأمل أصلاً واحداً، هب أنك جاهدت وثابرت جميع عمرك في العبادة، وعشت ما عشت، وحصل لك من العنايات ما حصل، أليس ذلك كله متوقفاً على

المطلب الخامس لا يقبل الله الأعمال إلا من المتقين

القبول؟ وإلا كان هباءً منثوراً، وقد علمنا أن الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين، فرجع الأمر كله إلى التقوى" [بصائر ذوي التمييز: 5/ 260]. المطلب الخامس لا يقبل الله الأعمال إلا من المتقين سبق أن بيّنت أن الله تعالى أخبرنا أن ابني آدم لصلبه قدَّم كلُّ واحد منهما قرباناً لربه، فتقبل الله قربان أحدهما دون الآخر، فتهدد الولد الذي لم يتقبل الله قربانه أخاه بالقتل، فقال الذي تقبل الله قربانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. و {إِنَّمَا} تفيد الحصر، والمعنى: أن الله يقبل من المتقين دون غيرهم. وهذا يدلُّ على أن الولد الذي لم يقبل الله قربانه، لم يكن متقياً لله فيما قدَّمه من قربان. والذي عليه أهل السنّة والجماعة أن المؤمن إذا كان متقياً لله في عمله الذي تقرب به، فإنه مقبول، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن، كان عاصياً في غيره، كأن يكون زانياً أو سارقاً أو قاطعاً رحمه. وخالف في ذلك الخوارج، فذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة كافر، إلا أن يتوب، فلا يقبل الله صلاة الزاني ولا صيامه ولا زكاته، ولم يحكم عليه المعتزلة بالكفر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: بين الكفر والإيمان، ولكنه في الآخرة من الخالدين في النار. والذي عليه أهل السنّة والجماعة أ، العمل حتى يقبل يحتاج إلى شرطين: الأول: أن يكون مشروعاً، فإن تقرب العبد إلى ربه بعمل غير مشروع فال يقبل، والعمل المشروع كالصلوات المفروضة، والسنن التي تصحب الصلاة

المفروضة، وقيام الليل، وصيام رمضان، وصوم يوم عرفة، وصوم عاشوراء، وصيام الاثنين والخميس، ونحو ذلك مما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. والعلم غير المشروع، العبادات المبتدعة، والمنهي عنها، كالذي يصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها، أو يصوم يوم العيد أو نحو ذلك، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ». والثاني: أن يكون العمل الذي يتقرب به إلى الله خالصاً لله، فلا يعبد مع الله تعالى أحداً، ولا يرائي بعبادته، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. فهذه الآيات اشترطت لقبول الأعمال الصالحة الإيمان، والكفر لا يتقبل الله منه. وقد سئل الفضيل بن عياض عن المعنى المراد بقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا عليٍّ: ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنّة، والمراد بكونه على السنّة، أي: موافقاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي سميناه بالمشروع. قال شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] أي: ممن اتقاه في ذلك العمل بأن يكون عملاً صالحاً

خالصاً لوجه الله، وأن يكون موفقاً للسنه كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبّهِ فَليَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولَا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110]، وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً) [ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، ج4، ص 310 - 311]. وسُئل ابن تيمية عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يكفر ذلك بالصلاة والاستغفار؟ الجواب الحمد لله: "قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7 - 8]، فمن كان مؤمناً، وعمل عملاً صالحاً لوجه الله تعالى، فإن الله لا يظلمه بل يثيبه عليه، وأما ما يفعل من المحرم اليسير، فيستحق عليه العقوبة، ويرجى له من الله التوبة، كما قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، وإن مات ولم يتب، فهذا أمره إلى الله تعالى، هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته، ولا يشهد له بجنة ولا نار، بخلاف الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون: إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته. وأهل السنّة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] أي: ممن اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملاً صالحاً خالصاً لوجه الله، وأن يكون موافقاً للسّنة، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا

المطلب السادس الله ولي المتقين

وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} [الكهف: 110] ... " [ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، ج4، ص 312 - 313]. وقال ابن تيمية أيضاً: "لا يجوز أن يراد بالآية أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها، لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير، لم يخلص من الذنب، بل هو متَّقٍ في حال تخلصه منه. وأيضاً فول أتى الإنسان بأعمال البر، وهو مصر على كبيرة، ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة، وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقاً" [ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج7، ص 496 - 497، راجع في هذا الموضوع: (موسوعة المسلم في التوبة والترقي في الإيمان): 2/ 1287) للأستاذ الدكتور منير البياتي]. المطلب السادس الله ولي المتقين أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أنه ولي المتقين، أي هو ناصرهم ومؤيدهم، يحميهم، ويدافع عنهم، وأولياء الله لا خوف عليهم في الدنيا، ولا هم يحزنون {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]. وولاية الله للمؤمنين تأتي في مقابل تولي الظالمين بعضهم لبعض {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]. وأخبر الله أن

المطلب السابع كرامات الأولياء

المتقين ليس لهم من دون الله من ولي ولا شفيع {لَيْسَ لَهُمْ مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]. وهذا التعريف لأولياء الله الذي نصّ الله عليه في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] يدلُّ على أن كل مؤمن تقي، فإنه لله ولي، وهذا يدلُّ على مدى ضلال بعض المسلمين الذين ينسبون الولاية إلى أقوام جهلة، علمهم بالعقيدة والشريعة قليل، وجهلهم بهما كثير، حتى إن الواحد منهم قد لا يعلم كيف يصلي، وكيف يتوضأ، وتجده متلطخاً بالنجاسات، مغرقاً في الترهات، وقد تجد الواحد منهم مشتغلاً بالسحر والشعوذة، مضلاً لعباد الله، والناس يظنون فيه التقى، وهو أبعد الناس عن التقى. المطلب السابع كرامات الأولياء أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم الذين آمنوا وكانوا يتقون {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]. فكل مؤمن تقي، فهو لله ولي، وقد يخرق الله - تبارك وتعالى - لبعض أوليائه العادات، ولكن الذين خرقت لهم العادات لا يكونون أولياء إلا إذا كانوا مؤمنين أتقياء، أما الكفار وأهل البدع الضالون الذين تخرق لهم العادات، فتراهم لا يصلون، ولا يتوضؤون، تراهم مخالفين للكتاب والسنّة، ثم تراهم يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، فهؤلاء ضالون

ليسوا من الولاية في شيء، وكثير من الكفرة والمشركين من اليهود النصارى وغيرهم يجري على يديه بعض الخوارق، وهذه الخوارق أحوال شيطانية، وليست بأحوال رحمانية. وأولياء الرحمن المؤمنون المتقون - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - نوعان: الأبرار أصحاب اليمين؛ والسابقون المقربون، فالأولون هم المقربون إلى الله بفعل ما فرضه وترك ما حذَّره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات، كما روى البخاري في صحيحه [ورقمه: 6502] عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إليّ عبدٌ بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه». فقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث نوع أولياء الله المتقربين بالفرائض، ونوع أهل النوافل بالمحبة، وما لم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم يأمر الله به ورسوله لا أمر إيجاب ولا استحباب، ولا فضَّله الله ورسوله بالترغيب فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله، وإن كان كثيرٌ من عبَّاد المشركين وأهل الكتاب والمبتدعين يتقربون بما يظنونه عبادات، وليس مما أوجب الله ورسوله ولا أحبَّه الله ورسوله، فهؤلاء ضالون مخطئون طريق الله.

وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسق، ومنهم مذنب، ومنهم مؤمن مخطئ أخطأ في اجتهاده، والخوارق التي تحصل بمثل هذه الأعمال التي ليست واجبةً، ولا مستحبة، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يكرم الله به أولياءه، كالخوارق التي تحل بالشرك والكواكب وعباداتها، وعبادة المسيح والعزير وغيرهما من الأنبياء، وعبادة الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادة الأصنام، فإن هؤلاء قد تجعل لهم أرواحٌ تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن لا بد أن يكذبوا مع ذلك، كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]. وقد تقتل بعض الأشخاص أو تمرضه، وقد تأتيه بما تسترقه من الناس، إما دراهم وإما طعام وإما شراب أو لباس أو غير ذلك. وهذا كثير جداً. فمن كذَّب بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظنّ أن هذه كرامات أولياء الله المتقين فهو كافرٌ بدين رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صيّاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد ظنّه بعض الصحابة الدجَّال، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تبيّن له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له حالٌ شيطاني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد خبأت لك خبيئةً» [مسلم: 2924]، فقال: الدُّخ الدُّخ، وكان قد خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اخسأ، فلن تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهَّان». وقال له: «ما ترى؟» قال: أرى عرشاً على الماء، وقال: يأتيني صادقٌ وكاذب. [أخرجه مسلم: (2925، والترمذي: 2247 عن أبي سعيد الخدري]. وذلك العرش هو عرش إبليس. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه» [مسلم: 2813].

المطلب الثامن الذين لا يدخلون في الولاية

وأما كرامات أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببها ما أمر الله به من الأعمال والواجبات والمستحبات، وأكابر أولياء الله يقتدون بنبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فلا يستعملون الخوارق إلا لحاجة المسلمين، أو لحجَّةٍ في الدين، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تجري الخوارق على يديه لحجَّةٍ للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة. والأحوال التي تحصل عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلُّها شيطانية، ولهذا تبطل أحوالهم إذا قرئت عليهم آية الكرسي، فإنها تطرد الشيطان، وإذا أرادوا دعوا شيوخهم وتوجَّهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم على ألسنتهم حال الوجد الشيطاني بكلام لا يفهمه صاحبه إذا افاق، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وقد يطير أحدهم في الهواء، فهذا ونحوه من الأحوال الشيطانية. وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين، فمشى هو والعسكر الذي معه بخيولهم على البحر، فما ابتلت لبود سروجهم، وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم ركعتين لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فصارت عليه برداً وسلاماً. [جامع المسائل: 2/ 98 - 101 لشيخ الإسلام ابن تيمية]. المطلب الثامن الذين لا يدخلون في الولاية والذين لا يدخلون في ولاية الله سبحانه ثلاثة أصناف: 1 - الكفار والذين لا يعملون بطاعة الله: فرجال الدين من اليهود والنصارى والمتدينون منهم كفار، لا يدخلون في ولاية الله تعالى، والكفار لا

المطلب التاسع أكرم العباد عند الله أتقاهم

يكونون أولياء لله تعالى بحال، ويخطئ الذين يحسنون الظن بهؤلاء ويعظمونهم، فهم خارج الولاية، وليسوا بمؤمنين، ولا متقين. 2 - الذين لا يعملون بطاعة الله: يزعم بعض الضالين أنهم بلغوا مرتبة في الدين، تسقط عنهم التكاليف، فتراهم لا يصلون، ولا يصومون، وقد يرتكبون الحرام، وتراهم يزعمون أنهم أولياء لله، وكذبوا، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا سادة الأولياء، ولم يدعوا فرضاً، وكانوا يديمون فعل الطاعات وترك المحرمات، وكم أضل الضالون بدعواهم الولاية عباد الله. 3 - المجانين والمضيِّعون لعقولهم: يعتقد بعض العوام الذين لا علم عندهم أن بعض المجانين أولياء لله تعالى، ومن المعلوم أن الذين يفقدون عقولهم، لا يبايعهم الناس، ولا يناكحونهم، ولا يبيعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يقبل الناس شهادتهم، ولا يكلون إليهم أعمالهم من التجارة والصناعة والزراعة، وأقوالهم لغو، فإذا كانوا كذلك، فلا يصح منهم الإيمان والتقوى، ولذا فإن الناس يفقدون عقولهم عندما يجعلونهم في مرتبة الأولياء، الذين يقدسونهم، ويعظمونهم [راجع: الفرقان، لشيخ الإسلام ابن تيمية: ص 126]. المطلب التاسع أكرم العباد عند الله أتقاهم يتصارع الناس فيما بينهم، ويتنازعون، ويدَّعي كل فريق أنه الأفضل والأكرم، فقد ادعى هذه الدعوى كلٌّ من اليهود والنصارى ومشركي العرب {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] والذين لا يعلمون هم مشركو العرب.

وادَّعى كلٌّ من اليهود والنصارى أنهم أهل الجنة دون غيرهم {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. وأعلمنا ربنا أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا حتى نتبع دينهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] وأخبرنا ربنا أنه خلق العباد من ذكر وأنثى، وجعل العباد شعوباً وقبائل ليتعافوا، لا ليتقاتلوا، ويتنازعوا، وصرِّح بأن الأكرم والأفضل هو الأتقى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وأخبرنا أبو هريرة أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم» [البخاري: 3353]. واتقى الناس كلهم أولهم وآخرهم هو رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك يقول فيما رواه عنه أنس بن مالك: «والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له» [البخاري: 5063، مسلم: 1108]. ويأتي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التقوى بقية أولي العزم من الرسل، وهم: إبراهيم ونوح وموسى وعيسى، ثم يأتي بعدهم بقية الرسل والأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، على تفاوت في كل طائفة منهم. ولما كانت التقوى درجاتٍ عاليات، يتفاوت فيها العباد تفاوتاً كبيراً، فقد أعلمنا ربنا في سورة الفرقان أن عباد الرحمن الذين أخبر عنهم في آخر السورة يدعون ربَّهم أن يجعلهم للمتقين إماماً {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما روى عنه عبد الله بن مسعود يدعو ويقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغنى» [مسلم: 2721].

المطلب العاشر بشرى الله للمتقين في الدنيا والآخرة

المطلب العاشر بشرى الله للمتقين في الدنيا والآخرة أخبرنا الله - تبارك وتعالى - أنه يبشر المتقين في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفُ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 63]. وهذه البشرى تسوقها الملائكة إليه عندما تحضر لقبض روحه، تبشره بالجنة والمغفرة، وتقول له: لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد، نحن أولياؤك في الحياة الدنيا والآخرة، ولك ما تشتهي نفسك، ولك ما تقرُّ عينك، نزلاً من غفور رحيم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32]. وجاء في الحديث الذي يرويه البراء: «إن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه، بيض الثياب، فقالوا: اخرجي أيها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج من فمه، كما تسيل القطرة من في السقاء» [حكم محقق ابن كثير (3/ 500) على هذا الحديث بالصحة، وعزاه إلى عبد الرازق وأحمد والحاكم]. وفي يوم القيامة تتلقى الملائكة الأتقياء تبشرهم وتطمئن قلوبهم، قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].

المطلب الحادي عشر إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا

المطلب الحادي عشر إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا أخبرنا ربنا - عز وجل - أننا إذا اتقيناه فإنه يجعل لنا فرقاناً، نفرق به بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]. ويصبح العبد بهذا الفرقان كالبصير، ويكون الذي حرم التقوى وضلَّ عنها كالأعمى، فالبصير يبصر ما حوله، ويشقُّ طريقه إلى مراده، ويسير على هدى، بينما الذي حرم التقوى لا يستطيع أن يعرف الخير والصواب، ولا يستطيع أن يحققه. المطلب الثاني عشر يجعل الله للمتقين من كل ضيق فرجا أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أنه من يتقيه فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجاً {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ويجعل له من أمره يسراً {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. وقد عرَّفنا ربنا عز وجل بما تحقق للمؤمنين بتقاهم، ففي معركة بدر نصر الله المتقين وهم أذلة {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. وأخبرنا ربنا كيف أنزل عليهم ملائكته، فقال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا

وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِّنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران: 124 - 127] وأخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قصة ثلاثة ممن قبلنا، كانوا في سفر، فأمطرتهم السماء، فأووا إلى غار، فجرف السيل صخرةً، فانطبقت على فم الغار، فأصبحوا كالمقبورين وهم أحياء، وعلموا أنه لا منجى من الله إلا إليه، فتقربوا بأفضل ما عملوه لله، فانفرجت الصخرة، وخرجوا يمشون، فقد جعل الله لهم من ضيقهم فرجاً، ومن بلائهم يسراً. عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خرج ثلاثة نفر يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غرا في جبل، فانحطّت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فقال أحدهم: اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج فأرعى، ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلالب، فآتي به أبويّ فيشربان، ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي، فاحتبست ليلة، فجئت فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجليّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأةً من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا

تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت تركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة، قال ففرج عنهم الثلثين. وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، حتى شريت منه بقراً وراعيها، ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما استهزئ بك، ولكنها لك، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنها، فكشف عنهم». وذكر ابن كثير في تفسيره قصة طريفة، نقلها عن الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل - حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري، المعروف بالدُّقي الصوفي، قال هذا الرجل: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزَّبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق، على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه، فإنها أقرب، فقلت: لا خبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب، سلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر ووادٍ عميق، وفيه قتلى كثير. فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمَّر، وجمع عليه ثيابه، وسلَّ سكيناً معه وقصدني، ففرت من بين يديه وتبعني، فناشدته الله، وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوَّفته الله والعقوبة، فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه، وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين؟ فقال: عجِّل، فقمت أصلي، فأرتج عليّ القرآن، لم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه، افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، فإذا أنا بفارس قد أقبل من

المطلب الثالث عشر فتح الله بركات السماء والأرض على المتقين

فم الوادي، وبيده حربةٌ، فرمى بها الرجل، فما أخطأت فؤاده، فخَّر صريعاً، فتعلّقت بالفارس، وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً. وذكر ابن عساكر في ترجمة "فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية"، قالت: "هزم الكفار يوماً المسلمين في غزاة، فوقف جواد جيِّدٌ بصاحبه، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء، فقال للجواد: ما لك؟ ويلك! إنما كنت أعدُّك لمثل هذا اليوم. فقال له الجواد: وما لي لا أقصِّر، وأنت تكل علوفتي إلى السُّواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال: لك عليّ عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري، فجرى الجواد عند ذلك ونجّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره. واشتهر أمره بين الناس، وجعلوا يقصدوه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الروم أمره، فقال: ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها، واحتال ليحصِّله في بلده، فبعث إليه رجلاً من المرتدين عنده، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيّته في الإسلام وقومه، حتى استوثق، ثم خرجا يوماً يمشيان على جنب الساحل، وقد واعد شخصاً آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره، فلما اكتفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم، إنه إنما خدعني بك، فاكفنيهما بما شئت، قال: فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرجل سالماً" [تفسير ابن كثير: 4/ 676]. المطلب الثالث عشر فتح الله بركات السماء والأرض على المتقين أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن يفتح على عباده من البشر بركات السماء والأرض إذا هم آمنوا واتقوا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96].

المطلب الرابع عشر المتقون هم المفلحون

وقد أخبر نوح عليه السلام قومه بأن توبتهم إلى الله واستغفارهم له، سيؤدي إلى غفران ذنوبهم، لأن الله غفار للتائبين ويحل بهم بركاته، فينزل لهم من السماء المطر الكثير، ويمدهم بالأموال والأولاد، ويجعل لهم جنات، ويجعل لهم الأنهار {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]. وأعلمنا ربنا أن الشرك والكفر والذنوب والمعاصي توقع العباد في المصائب والزلازل والفتن، وتصيب الناس بالمحل والفقر، وتمنع قطر السماء، وتزيل جنات الأرض: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]. المطلب الرابع عشر المتقون هم المفلحون أمرنا الله - تبارك وتعالى - بالتقوى لنكون من المفلحين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] ونادى الله - تبارك وتعالى - المؤمنين ناهياً إياهم عن الربا أضعافاً مضاعفة آمراً إياهم بالتقوى لعلهم يفلحون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]، ونادى الله المؤمنين آمراً إياهم أن، يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله لعلهم يفلحون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]

المطلب الخامس عشر الأتقياء إخوة في الله

وأمر الله أولي الألباب بتقواه لعلهم يفلحون {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]. والمفلحون الفائزون السعداء في يوم الدين، هم الذين يبيض الله وجوههم، ويثقل في يوم القيامة موازينهم، ويسوقهم في ذلك اليوم إلى الجنة خالدين فيها، ونعم عقبى المتقين {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، وهؤلاء المفلحون هم حزب الله {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. المطلب الخامس عشر الأتقياء إخوة في الله الأتقياء من هذه الأمة على دين واحد، وملة واحدة، ربهم واحد، ورسولهم واحد، وقبلتهم واحدة، ولذلك فإنه يرجى أن يكونوا متحابين فيما بينهم، كما تآلفت قلوبهم في الله وعلى طاعته {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ولذا فإنه إذا وقع بينهم ما يكدِّر العلاقة سارع الآخرون إلى الإصلاح فيما بين المتخاصمين، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. وأخبرنا ربنا عز وجل أن الأخلاء المتحابين تتحول محبتهم في يوم الدين إلى عداوة وبغضاء، إلا المتقين، فإن إخوتهم تشتد وتدوم، {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوُّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] ذلك أن محبة المؤمنين كانت في الدنيا لله تعالى، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره زال وانفصل.

المطلب السادس عشر تكفير الله خطايا المتقين

وأخبر بنا أنه ينزع ما في قلوب المؤمنين المتقين في يوم الدين، فيصبحون إخواناً على سرر متقابلين {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. المطلب السادس عشر تكفير الله خطايا المتقين أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أنه {مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] وأعلمنا أن أهل الكتاب لو آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة: 65]. وهذا التكفير لذنوب المتقين يصفي قلوبهم وأعمالهم من الرجس والدنس، ويطهرهم تطهيراً لا غاية بعده، فإن الذنوب إذا كثرت أهلكت صاحبها وأوبقته. المطلب السابع عشر العاقبة للمتقين أعلما ربنا سبحانه أن العاقبة للمتقين، فقد قال لرسوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] وأخبرنا الله أن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ثم تكون العاقبة للمتقين، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. وقد حدثنا ربنا كيف كانت عاقبة المكذبين من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب، فقد عاندوا رسله وكفروا بما أنزله الله عليهم،

ثم كانت العاقبة للمرسلين، ودمر الله الكافرين، وهذه الأمة قارعت أعداء الله، وكانت الحرب بيننا وبين أعدائنا سجالاً، يوم لنا ويوم علينا، ثم كانت العاقبة للمتقين، فانتصر المسلمون على أعدائهم، وفتحوا مكة، ثم فتحوا الجزيرة العربية، ثم فتحوا العراق وفارس، وبلاد الشام، ومصر وغيرها، وكانت لهم عاقبة الدار، {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وقد أعلمنا ربنا أنه كتب في كتابه الذي أنزله على نبيه داود، وهو الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباده الصالحون {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. وقد وجدت هذا الذي ذكره القرآن في المزمور السابع والثلاثين من مزامير داود، فالذكر الذي جاء فيه قوله: "1 لا تغر من الأشرار، ولا تحسد عمّال الإثم، 2 فإنهم مثل الحشيش سريعاً يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون. 3 اتكل على الرب وافعل الخير. اسكن الأرض وارع الأمانة. 4 وتلذذ بالرب فيعطيك سؤل قبلك. 5 سلِّم للرب طريقك واتكل عليه وهو يجري، 6 ويخرج مثل النور برَّك، وحقَّك مثل الظهيرة. 7 انتظر الرب واصبر له، ولا تغر من الذي ينجح في طريقه، من الرجل المجري مكايد. 8 كفَّ عن الغضب، واترك السخط، ولا تغر لفعل الشر" [المزمور السابع والثلاثون: 1 - 8]. ثم قال بعد هذا الذكر: "9 لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. 10 بعد قليل يكون الشرير. تطَّلع في مكانه

فلا يكون. 11 أما الودعاء فيرثون الأرض، ويتلذذون في كثرة السلامة" [المزمور السابع والثلاثون: 9 - 11]. ثم ذكر المزمور المزيد من الذكر، ثم قال: "29 الصديقون يرثون الأرض ويسكونها إلى الأبد" [المزمور السابع والثلاثون: 29]. نهى هذا المزمور عن الغيرة من الأشرار الذين يملكون الجاه والمال والسلطان، ونهى عن حسد عمّال الإثم من الكفر والشرك والذنوب والمعاصي، فإنه سيكون حالهم حال الحشيش سريعاً ما يجف ويذبل ويقطع، وأمر بالتوكل على رب العباد، وفعل الخيرات، وأمر بسكنى الأرض، أي في جانب من جوانبها، وأمر بحفظ الأمانة، وأمر بعبادة الله بحبة واشتياق، فيعطيك ما تطلبه، وأمر بأن يسلم العبد للرب طريقه، ويتوكل عليه، فيخرج برّك مثل النور، ويبرز حقك كما تبرز الظهيرة، وأمر بانتظار الرب والصبر له، أي: بالمحافظة على طاعته، والصبر على ذلك، ونهى عن الغيرة من الذي ينجح في عمل الشر، وأمر بالكف عن الغضب، وترك السخط، ولا يضر الإنسان ما يفعله الأشرار. ثم قرر بعد هذا الذكر كله أن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم الذين يرثون الأرض، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. ثم ذكر أن الشرير وهو الشيطان وأتباعه سيهلكون، وأما الودعاء الصالحون فهم يرثون الأرض، ويتلذذون في كثرة السلامة، وهذا يكون على الوجه الأكمل بعد نزول عيسى كما سبق بيانه. ثم ذكر المزمور المزيد من الذكر وقال: "الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد".

المطلب الثامن عشر لباس التقوى خير من اللباس الحسي

وهذا الذي ذكر في هذا المزمور إخبار بما سيكون عليه حال الأمة الإسلامية في آخر الزمان. المطلب الثامن عشر لباس التقوى خير من اللباس الحسي أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أنه أنزل علينا لباساً يواري سوءاتنا، وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير، قال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. نادى الله بني آدم مخيراً إياهم أنه أنزل عليهم لباساً يوري سوءاتهم، كما أنزل عليهم ريشاً، يتزينون به، وهذا هو اللباس الظاهري الذي يواري عورات العباد الجسدية، وأخبرنا أن هناك لباساً داخلياً يواري عوراتنا الداخلية، واللباس الداخلي هو لباس التقوى، وهو خير من اللباس الظاهري. ولباس التقوى هو الذي يحفظ على المرء دينه وخلقه، ويقيم العلاقة الطيبة مع ربه، ويدفع المرء إلى فعل الطاعات واجتناب السيئات. إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تلقب عريانا ولو كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان الله عاصيا المطلب التاسع عشر إنجاء الله تعالى المتقين من النار أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أن كل الناس سيردون النار في يوم القيامة، وهذا الورود حتم لازم لا بدمنه، وقد قدَّره الله وقضاه، ثم بعد ذلك ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثياً، قال تعالى: {وَإِنْ مِّنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى

المطلب المتمم للعشرين المتقون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر

رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]. وقال الله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]. المطلب المتمم للعشرين المتقون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر المتقون على اختلاف أجناسهم على مر التاريخ الإنساني هم أهل الجنة، وقد أسلفت القول: إن جميع الرسل والأنبياء جاؤوا بالتقوى، وكانوا على التقوى، وأمروا بها، وتقوى كل رسول والصادقين من أتباعه تكون بحسب ما شرع الله لهم، فقد كان من التقوى عند بني إسرائيل عدم العمل في يوم السبت، وصلاتهم كانت صلاتين، ويصلونها وفق ما شرع الله تعالى لهم، وصومهم بحسب ماشرع الله لهم، وليس ترك العمل في يوم السبت من التقوى في شريعتنا، وفرض الله علينا الصلاة خمساً، وكذلك الصوم والزكاة، وفيها بعض ما نخالف فيه شريعة التوراة، فالصوم عند بني إسرائيل من الفجر إلى الغروب، ثم يباح لهم الطعام والشراب والنكاح إلى الفجر، ما لم ينم الواحد منهم، فإذا نام قبل الفجر حرمت عليه المفطرات إلى غروب الشمس من اليوم التالي، وكان الأمر في أول الإسلام كذلك، ثم أباح الله ذلك كله إلى الفجر ناموا أو لم يناموا. وقد أكثر الله تعالى من إخبارنا في كتابنا عن مصير المتقين، وأعلمنا ربنا أن {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]، وقال: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 169].

وإنما كانت الأخرة للمتقين، لأن غير المتقين من الكفرة والمشركين والمنافقين يكونون في الموقف في بلاء عظيم، بينما يكون المتقون في ظل العرش، ثم يساق الكفار إلى النار {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]. أما المتقون الموحدون فيساقون إلى الجنة زمراً {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 72] وأخبرنا ربنا عز وجل أن المتقين عندما يأتون الجنة تفتح لهم أبوابها، ويجدون الملائكة يرحبون بهم {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامُ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. وقد تحدث القرآن طويلاً عن جناب النعيم التي أعدها الله للمتقين، وتحدث عما أعده تبارك وتعالى فيها من النعيم، فمن ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15]. وقال ربُّ العزة سبحانه وتعالى: {لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] وقال سبحانه: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار} [الزمر: 20] وقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 60 - 63]. وقال تعالى ضارباً المثل للجنة التي وعد المتقون: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا}

[الرعد: 35]، وقال سبحانه: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرُ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا} [الفرقان: 15]، وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45 - 46]. وتحدث ربنا عن المقام الأمين الذي يحلُّ فيه المؤمنون في يوم الدين، فهم في جنات وعيون، وأخبرنا أنهم يلبسون من سندس وإستبرق، ويجلسون في ذلك اليوم متقابلين، وأخبرنا أنه زوجهم الحور العين، وأخبرنا أنهم يدعون في الجنة بأنواع كثرة من الفاكهة حال كونهم آمنين، فلا يموتون بعد دخولهم جنات النعيم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 51 - 57]، وقال رب العزة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16]. وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِمْ مِّنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَاسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَاثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 17 - 28].

وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]. وقال ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} [المرسلات: 41 - 44]. وقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَاسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 31 - 36].

المبحث الخامس عشر قصص المتقين وأخبارهم

المبحث الخامس عشر قصص المتقين وأخبارهم كان الصالحون الأخيار من البشر على التقوى قديماً وحديثاً، ومن ينظر في سير المتقين من الأولين والآخرين، يجد مسارهم واحداً، ومعالمهم واحدة، وقد حوى هذا المبحث مطلبين، الأول: حسن الخاتمة لأولياء الله المتقين. والثاني: سير بعض المتقين من الأمم السابقة، ومن هذه الأمة، والمتقون من هذه الأمة بعضهم من الصحابة والصحابيات، وبعضهم من التابعين وأتباع التابعين. المطلب الأول حسن خاتمة أولياء الله المتقين من الصفات المشتركة بين المتقين حسن الخاتمة عندما يأتيهم الموت ويحضرهم، فكلهم يأتيه الموت وقد استنار وجهه، وظهرت البشرى على مظهره، وقد يحدِّث بما يراه في ذلك الموقف العصيب. 1 - فمن هؤلاء الحافظ السِّلفي، فإنه مات عن ست ومائة من السنين، فلما حضره الأجل لمز يزل يقرأ الحديث عليه إلى أن غربت الشمس من ليلة وفاته، وهو يردُّ على القارئ اللحن الخفي، وصلَّى يوم الجمعة الصبح عند انفجار الفجر، وتوفي بعدها [سير أعلام النبلاء: 21/ 39]. 2 - ومنهم الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي. قال أبو موسى: "مرض أبي في ربيع الأول مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام، واشتد ستة عشر يوماً، وكنت أسأله كثيراً: ما يشتهي؟ فيقول: أشتهي

الجنة، أشتهي رحمة الله، لا يزيد على ذلك، فجئته بماء حار فمدّ يد، فوضأته وقت الفجر، فقال: يا عبد الله، قم صلِّ بنا وخفف، فصلَّيت بالجماعة، وصلَّى جالساً، ثم جلست عند رأسه، فقال: أقرأ يس، فقرأتها، وجعل يدعو وأنا أؤمّن، فقلت: هنا دواء تشربه، قال: يا بني ما بقي إلا الموت، فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله سبحانه، فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى والله، فقلت: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحد شيء، ولا لأحد عليَّ شيء، قلت: توصيني. قال: أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه، فسلموا، فردّ عليهم، وجعلوا يتحدثون، فقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه، ويشير بعينيه، فقمت لأناول رجلاً كتاباً من جانب المسجد فرجعت، وقد خرجت روحه، رحمه الله" [سير أعلام النبلاء: 21/ 467]. 3 - ومنهم الشيخ الصالح أبو البركات، إسماعيل بن أبي سعيد أحمد بن محمد ابن دوست النيسابوري، قال ابن سكينة: كنت حاضراً لما احتضر، فقالت له أمي: يا سيدي، ما تجد؟ فما قدر على النطق، فكتب على يدها: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ثم مات [سير أعلام النبلاء: 20/ 161]. 4 - ومن هؤلاء أبو الوقت الشيخ الإمام الزاهد الخير، شيخ الإسلام، مسند الآفاق، عبد الأول بن الشيخ المحدث المعمر أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السِّجزيُّ، ثم الهرويُّ المالينيّ. قال يوسف بن أحمد الشيرازي في "أربعين البلدان" له: لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدَّر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك

هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعوَّلي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليَّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلوِّ إسنادك. فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حقَّ معرفتي، لما سلَّمت عليّ، ولا جلست بين يديَّ، ثم بكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا. يا ولدي، تعلم أني رحلت أيضاً لسماع "الصحيح" ما شياً مع والدي من هراة إلى الداووديِّ ببوشنج، ولي دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يديَّ حجرين، ويقول: احملهما، فكنت من خوفه أحفظهما بيديَّ، وأمشي وهو يتأمَّلني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجراً واحداً، فألقي ويخفُّ عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه، وأقول: لا. فيقول: لم تقصِّر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعةً، ثم أعجز، فيأخذ الآخر، فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني. وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم، فيقولون: يا شيخ عيسى، ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالاً لحديث رسول الله ورجاء ثوابه. فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي، حتى صارت الوفود ترحل إليّ من الأمصار، ثم أشار إلى صاحبنا عبد الباقي بن عبد الجبار الهرويِّ أن يقدِّم لي حلواء، فقلت يا

سيدي، قراءتي لجزء أبي الجهم أحُّب إليّ من أكل الحلواء، فتبسَّم، وقال: إذا دخل الطعام خرج الكلام، وقدّم لنا صحناً فيه حلواء الفانيذ، فأكلنا، وأخرجت الجزء، وسألته إحضار الأصل، فاحضره، وقال: لا تخف ولا تحرص، فإني قد قبرت ممن سمع عليّ خلقاً كثيراً، فسل الله السلامة. فقرأت الجزء، وسررت به، ويسَّر الله سماع "الصحيح" وغيره مراراً، ولم أزل في صحبته وخدمته إلى أن توفي ببغداد. قلت: وبيَّض لليوم وهو سادس الشهر قال: ودفنّاه بالشُّونيزيَّة. قال لي: تدفني تحت أقدام مشايخنا بالشُّونيزية. ولما احتضر سندته إلى صدري، وكان مستهتراً بالذكر، فدخل عليه محمد بن القاسم الصوفيُّ، وأكبَّ عليه، وقال: يا سيدي، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» فرفع طرفه إليه، وتلا: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27] فدهش إليه هو ومن حضر من الأصحاب، ولم يزل يقرأ حتى ختم السورة، وقال: الله الله الله، وتوفي وهو جالسٌ على السجادة [سير أعلام النبلاء: 20/ 307 - 308]. 5 - ومنهم الشيخ العالم القدرة المفتي شيخ الشافعية فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي الشافعي. قال أبو شامة: أخبرني من حضره قال: صلى الظهر، وجعل يسأل عن العصر، وتوضأ ثم تشهَّد وهو جالس، وقال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، لقّنني الله حجتي، وأقالني عثرتي، ورحم غربتي. ثم قال: وعليكم السلام، فعلمنا أنه حضرت الملائكة، ثم انقلب ميتاً [سير أعلام النبلاء: 22/ 189].

المطلب الثاني سير المتقين وأخبارهم

المطلب الثاني سير المتقين وأخبارهم تقديم: تحدثت عن المتقين والتقوى فيما مضى، وسأسوق في هذا البحث شيئاً عن المتقين وقصصهم وأخبارهم، وهي قصص موثقة، بعضها مستمد من القرآن وبعضها من كتب السنّة النبوية الصحيحة، وبعضها مستمدة من تراجم الرجال التي دونها الفضلاء من أهل العلم. وهذه القصص تحوي أنواعاً من أهل الفضل اختلفت أزمنتهم، كما اختلفت أعمالهم وإنجازاتهم، ولكنهم جميعاً يضمهم إطار واحد، فهم جميعاً من أهل التقوى، لقد ترجم كثيرون للأتقياء، ولكن في تراجم وسير بعض الذين ترجم لهم بعض الخلل في مقاصدهم أو أعمالهم أو عبادتهم، بل أدخلوا فيهم من ليس منهم، فقد أدخلوا فيهم بعض المجانين، أو من يسمونهم عقلاء المجانين، وأدخلوا فيهم من ليس له بصيرة بالعبادة والقيم والأخلاق. لقد أدخلت في المتقين في هذا المبحث ملكة مصر التي كانت امرأة فرعون، فرفضت الملك، ورضيت بالإسلام، وطلبت الجنة، وأدخلت فيهم مؤمن آل فرعون، الذي وقف بجانب الحق، وصدع بالحق في مجلس فرعون وزبانيته. وأدخلت فيهم بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم القائد الفذّ خالد ابن الوليد، ومنهم الذي ولي مدينة من المدن، ومنهم الذي التزم بالإسلام، ولم يجامل فيه أحداً، ومنهم بعض التابعين وأتباع التابعين، وبعض هؤلاء أعطاه الله الجمال، فطمعت فيه النساء فاستعصم، وبعضهم أصبح خليفة، فأقام الدين، وأحقَّ الحقَّ وأبطل الباطل.

1 - ملكة مصر زوجة فرعون

وبعضهم من بلغ بعلمه درجة الإمامة في الدين، فقام بما كلفه الله به خير قيام، فوقف في وجه الحكام الذين أرادوا أن يحرفوا هذا الدين، كما عزف عن الذين أحسنوا الظن بالإمام من الحكام، فأرادوا أن يغرقوه بالمال ومتع الحياة، فأبى. ومنهم العلماء الذين صدعوا بالحق، فابتلوا، وقدُّموا أنفسهم قرابين في مواجهة الطغاة الظالمين. إن مجموع الذين اخترتهم من المتقين يمثلون شخصية واحدة، توضح التقوى الحقيقة التي ينبغي أن ينسج على منوالها، فهم جميعاً أخذوا الدين عن رضا واقتناع، وفقهوا هذا الدين على وجهه الصحيح، وأحيوا القلوب والنفوس به، ووقفوا في وجه الطغيان وقاوموه، وكانوا أصحاب بصيرة، أخذوا أنفسهم بالحق، ولم تشغلهم الدنيا عن إصلاح أنفسهم. 1 - ملكة مصر زوجة فرعون بلغ الطغيان بفرعون موسى إلى أن يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم، وفي تلك الفترة العصيبة من حياة بني إسرائيل ولد نبي الله موسى، فأمر الله أم موسى أن تضع ابنها في صندوق، ثم تلقيه في نهر النيل، فجرى به النهر إلى بركة في قصر فرعون، فأتي به إلى ملكة مصر زوجة فرعون، فلما رأته ألقى الله حبَّه في قلبها، فتوسلت إلى فرعون أن لا يقتله، لعله ينفعهما، أو يتخذانه ولداً، وهم لا يشعرون {وَقَالَتْ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].

ونجّى الله تبارك وتعالى موسى من القتل، وعاش موسى في قصر فرعون، معزَّزاً مكرماً، فقد اتخذته الملكة ابناً لها، وبهذا ظهر عجز فرعون، وقلة علمه، فالذي كان يبحث عنه فرعون، ويريد قتله قبل أن يكبر، ويقضي على ملكه، كان يعيش في قصره، ويأكل طعامه، ويطيعه خدّامه. وقتل موسى رجلاً من شيعة آل فرعون، ففرّ إلى مدين، وبقي هناك بضع سنين، ثم عاد إلى مصر، وأوحى الله إليه في عودته، وأرسله إلى فرعون وقومه، وطالبه بأن يرسل معه بني إسرائيل، ليخرج بهم إلى الأرض فلسطين، التي أعطاهم إياها في عهده لإبراهيم، فأبى فرعون، وطغا وبغى، وأعاد قتل الأبناء، واستحياء النساء، وفي هذه الفترة التي زاد فيها طغيان فرعون وعلوه آمنت زوجته، وتمردت على زوجها، فعذبها زوجها عذاباً شديداً، فلما اشتد بها العذاب توجهت إلى بها تدعوه، أن يقبضها إليه، وأن يبني لها عنده بيتاً في الجنة، وينجيها من فرعون وعمله، وأن ينجيها من القوم الظالمين، وقد ضرب الله بها المثل في كتابه العزيز، فأبقى ذكراها مثلاً يتلى إلى يوم القيامة، يقتدي به المؤمنون، ويتعظ به الصالحون، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] لقد آثرت امرأة فرعون، وهي الملكة التي حيزت لها الدنيا، آثرت ما عند الله، فأعرضت عن دنيا فرعون، وطلبت ما عند الله ورضوانه، وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، أنه لم يكمل من النساء على مستوى البشرية كلها إلا آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران [صحيح البخاري: 3411]. وأخبرنا أن خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -[صحيح ابن حبان: 6951].

2 - مؤمن آل فرعون

2 - مؤمن آل فرعون في العصر الفرعوني الذي اشتد فيه طغيان فرعون موسى، كان في الأسرة الفرعونية أمير فرعوني، هدى الله قلبه إلى الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، وكان يدافع عن موسى عندما يبحث أمره في أعلى مستوى من مستويات شؤون الحكم، وقد أعلمنا ربنا بما كان من ذلك الأمير في دفاعه عن موسى أمام أعلى مستوى من رجال الدولة عندما أرادوا أن يتخذوا قراراً بقتل موسى، فقال لهم منذراً ومحذراً: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالحجج والبينات الدالة على صدقة، فإن كان كاذباً، فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي توعدكم به. ووعظهم قائلاً لهم: أنتم اليوم الملوك، لكم العز والغلب، ولكن من الذي ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، فقال فرعون في رده: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، عند ذلك خوفهم الأمير المؤمن أن ينزل الله تعالى بهم مثل العذاب الذي أنزله بقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود والذين من بعدهم، والله لم يكن ظالماً عندما أحلّ بأولئك الأقوام ما أحلّه بهم. وخوفهم يوم القيامة الذي هو يوم التناد، حذرهم ذلك اليوم الذي يولون فيه مدبرين ما لهم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد. وذكرهم بما كان من بعث الله لآبائهم نبيه ورسوله يوسف عليه السلام، فواجهه كثير منهم بالشك بالدين الذي جاءهم به، حتى إذا هلك قالوا: لن يبعث الله لهم رسولاً من بعده. وواجه فرعون هذا الخطاب المليء بالحجج والبراهين بمزيد من الظلم والطغيان، وأمر فرعون وزيره هامان بأن، يبني له صرحاً عالياً، ليصعد فيه

ليرى هناك رب الأرض والسماوات، فعاد الأمير المؤمن ليصدع بالحق، وليخاطب بقية الفطرة في نفوس فرعون ومن معه، فذكرهم أن الدنيا متاع قليل، وأن الآخرة هي المتاع الحق، وأنها دار القرار، وأنبهم ووبخهم، فهم يدعوهم إلى النجاة، وهم يدعونه إلى النار، هم يدعونه إلى الكفر والشرك، وهو يدعوهم إلى العزيز الغفار، وبيَّن لهم أن الآلهة التي يدعونها، ويعبدونها آلهة باطلة ليس لها الشيء لا في الدنيا ولا الآخرة، وفوض في نهاية حديثه أمره إلى الله إن الله بصير بالعباد، فوقاه الله شر ما مكروا، وحاق بآل فرعون سوء العذاب. وقد حدثنا ربنا - تبارك وتعالى - عن ذلك كله في موضع واحد في سورة غافر، فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ *وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَّبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَابِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا

3 - الصحابية أم سليم بنت ملحان الأنصارية

كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 26 - 46]. 3 - الصحابية أم سليم بنت ملحان الأنصارية تقديم: أم سليم صحابية أنصارية، أسلمت فملك عليها الإسلام نفسها، فلم يبق لغير الإسلام فيها شيء، لم تجامل زوجها الكافر، فرحل عنها، ومات غريباً كافراً، وتزوجت بعده أحد أثرياء المدينة، وكان كافراً، فجلعت مهرها منه

إسلامه، وجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجراً، فجعلت ابنها أنساً خادماً له، فخدمه عشر سنين، فاستفاد صحبته وعلمه وأدبه وكونت أم سليم أسرة ظللها الإسلام بظلَّه، واتصلت هذه الأسرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففاز أعضاؤها كلهم، وسعدوا. ترجمة أم سليم: 1 - التعريف بأم سليم: اشتهرت هذه المرأة الصالحة بكنيتها، وهي أم سليم، وأصحُّ ما قيل في اسمها أنها الغميصاء أو الرُّميصاء، وهي بنت ملحان ابن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الخزرجية الأنصارية [سير أعلام النبلاء: 2/ 304]. وهي والدة الصحابي الجليل أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء الإسلام، فشرق زوجها بالإسلام، وخرج من المدينة، وهلك بالشام. 2 - زواج مهره إسلام الزوج: خطب أم سليم بعد هلاك زوجها أبو طلحة، وهو زيد بن سهل بن الأسود النجاري الخزرجي، فقالت له: "أنت كافر، وأنا مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري، فأسلم، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته، وبقى مجاهداً من بعده، وتوفي في سفينة تجري على ثبج البحر، ودفنوه بعد سبعة أيام في جزيرة نائبة غير معروفة". 3 - قوة علاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها وبأسرتها: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي بيتها، وكان يقبل عندها، وكانت تجمع عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام، وتضعه في قوارير، وتدوف به طيبها، وطيب أهلها، وكانت تهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تمر بساتين زوجها، فيقبله منها، وكان زوجها يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأتي صحبة العدد الكبير من أصحابه، فيدعو الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطعام القليل، فيكفي العدد الكثير.

وقد دعا لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودعا لابنها أنس، وأخبر أنها في الجنة. 4 - قوة قلبها: وكانت تصحب زوجها في غزواته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتخذت في بعض تلك الغزوات خنجراً لتجأ به بطن من يقترب منها من الكفار. 5 - قوة شخصيتها وقوة فقهها في دينها: وقد كانت أم سليم قوية الشخصية، تعقل ما تسمعه، وتتصرف وفق ما تراه صواباً، وقد رأينا كيف سارعت إلى الدخول في الإسلام، وكيف اقتنعت به، واستوعبت أنه الحق، وأن غيره من الأديان باطل، وبخاصة تلك الأصنام التي كانت تعبد في المدينة المنورة والجزيرة العربية، لقد فقهت أنها آلهة باطلة، لا تستحق أن تعبد من دون الواحد الأحد، وقد عارضها زوجها مالك بن النضر فيما ذهبت إليه، فلم تلتفت إلى معارضته، وكانت تلقن ابنها الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يرضي تصرفها زوجه، ويحاول أن يصدها عن ذلك، فلا تقبل منه. وعندما كانت تفعل ذلك، وتقول لأنس: "قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن محمداً رسول الله" كان يقول لها زوجها: لا تفسدي عليّ ابني، فتقول: "إنني لا أفسده" [طبقات ابن سعد: 425 - 426] وقد رأى منها زوجها ما عكَّر مزاجه، وأطار صوابه، فخرج من المدينة إلى الشام، وهناك هلك. 6 - كيف اختارت زوجها: مات الزوج، وأصبحت أم سليم غير ذات زوج، وطمع في الاقتران بها بعض أفذاذ الرجال، لقد جاءها أبو طلحة خاطباً، وكان مثله مناسباً، تتمناه أي امرأة في المدينة، ولكنها بسهولة ويسر حسمت أمرها، وخاطبته بوضوح وصراحة: "يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة، لا يصح لي أن أتزوجك".

وقالت له أيضاً: "فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره" [الطيالسي: 2056، بوساطة: أحكام الجنائز: ص 24]. وقالت لأبي طلحة قبل أن يدخل الإسلام تحاجّه: "أرأيت حجراً تعبده، لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبه تأتي بها النجار، فينجرها لك، هل يضرك؟ هل ينفعك؟ ". قال أبو طلحة: "فوقع في قلبي الذي قالت" [سير أعلام النبلاء: 2/ 305، هامش الكتاب نقلاً عن ابن سعد في الطبقات: 8/ 426]. وذكر ابن سعد في طبقاته [بإسناد صحيح، 8/ 426 - 427] أن أم سليم قالت لأبي طلحة: "إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتهم فيها النار لاحترقت؟ ". لقد كانت الحجج التي ساقتها أم سليم حججاً قوية، سهلة الفهم، فاقتنع أبو طلحة، ودخل في الإسلام، وكان إسلامه هو المهر الذي طلبته الزوجة، لم ترد المال والملابس والذهب والفضة، إنها تريد الإسلام دون سواه، لتقترن به. 7 - عناية أم سليم باليتيمة التي كفلتها: وجاءت أم سليم يتيمة لها، وشكت إليها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقيها، فدعا عليها بأن لا يكبر سنُّها، فأذهلها ما سمعت وانطلقت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسرعة تلوث خمارها، حتى لقيته، فوضَّح لها ما غاب عنها، فعن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس (¬1)، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليتيمة، فقال: «آنت هية؟ لقد كبرت، لا ¬

(¬1) يعني أم سليم هي أم أنس.

كبر سنُّك» فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية! قالت الجارية: دعا عليّ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يكبر سنِّي، فالآن لا يكبر سنِّي أبداً، أو قالت: قرني. فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمرها، حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لك يا أمَّ سليم! " فقالت: يا نبي الله! أدعوت على يتيمتي؟ قال: «وما ذاك يا أمَّ سليم!» قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنُّها، ولا يكبر قرنها. قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «يا أمَّ سليم! أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشرٌ، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحدٍ دعوت عليه، من أمتي، بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ، أن تجعلها لها طهوراً وزكاة وقربة تقرِّبه بها منه يوم القيامة». لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقنعاً لأم سليم فيما علل به دعوته، فعادت بعد علمها أن دعوة الرسول تزيد يتيمتها أجراً، ولا تضيرها. 8 - قصة أم سليم عندما توفي انبها: كان لأبي طلحة وأم سليم ولد يحبانه حبّاً شديداً، ومرض الطفل، وتضعضع أبو طلحة لمرض ولده، وفي ويوم خرج أبو طلحة للصلاة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العشاء فمات الغلام، فطلبت أم سليم من أهل دارها أن لا يعلم أحد منهم أبا طلحة بموت ولده، فلما عاد مع جمع من أصحابه، سأل عن الغلام، فأخبرته أنه أسكن ما يكون، وقدمت له ولأصحابه العشاء، وبعد أن أويا إلى فراشهما تزينت وتطيبت، فنال منها ما يناله المرء من زوجته، وفي الصباح أخبرته بما كان بطريقة فيها كثير من الروية والحكمة، فالمال والأهلون ودائع، ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع.

فأصبح أبو طلحة يخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهما في ليلتهما، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم بارك لهما"، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان ابن لأبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة، فقبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني، قالت أم سليم: هو أسكن ما كان فقربت إليه العشاء فتعشى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: وراوا الصبي. فلما أصبح أبو طلحة أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: «أعرستم الليلة؟» قال: نعم، قال: «اللهم بارك لهما» فولدت غلاماً. قال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرسلت معه بتمرات، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم، تمرات، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها، ثم أخذ من فيه فجعلها في في الصبي وحنكه به، وسماه عبد الله [البخاري: 5470 مسلم: 2144]. قليل من النساء والرجال يستطيع أن يفعل فعل أم سليم، فقد أفرغ الله عليها من الصبر أمراً عجباً، فقد عشَّت زوجها وأصحابه، وعندما خرج الضيوف تعطرت وتزينت، وواقعها زوجها، وقد أكرمها الله تعالى، فكانت عاقبتها إلى خير. 9 - فعل أم سليم في الحروب: كانت أم سليم تخرج مع المقاتلين في الحروب، وتشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزواته، وكانت تداوي المرضى، وتقوم على الجرحى، وتنقل الماء على ظهرها، فتفرغه في أفواه المقاتلين، وقد نادت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بعد أن أنزل الله عليه نصره، وأمده بجند من عنده قائلة له: "يا رسول الله، اقتل من بعدنا من الطلقاء، انهزموا بك يا رسول الله"، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يا أم سليم، إن الله كفانا وأحسن» [مسند أحمد: 21/ 440، ورقمه: 14049. قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين].

4 - الصحابي الجليل عاصم بن ثابت قيس

ومما يدل على قوة قلبها أنها اتخذت خنجراً، تريد به بعج بطن من يريدها من الأعداء، وقد أخبرنا أنس - رضي الله عنه -: "أن أبا طلحة جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أم سليم، قال: يا رسول الله، ألم تر إلى أم سليم مها خنجر"، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ما تصنعين به يا أم سليم؟». قالت: "أردت إن دنا مني أحد طعنته به" [مسند أحمد: 19/ 162، ورقمه: 12108 وقال محقوه: صحيح على شرط مسلم]. 4 - الصحابي الجليل عاصم بن ثابت قيس تقديم: عاصم بن ثابت صحابي جليل، أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلّة من أصحابه إلى هذيل بناءً على طلب طائفة منهم، ليعلمهم، فغدروا بهم، وأرادوا أسرهم، فأبى عاصم أن يعطيهم نفسه، وقاتلهم، فرماهم بنبل حتى فنيت نباله، وطاعنهم برمحه، حتى انكسر رمحه، وقتل رجلاً منهم، وجرح اثنين، ودعا ربه أن يحمي جسده من المشركين كما حمى دينه، فأجاب الله دعاءه. ترجمته: 1 - التعريف به: قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ترجمته: عاصم بن ثابت بن قيس، يكنى أبا سليمان، شهد بدراً وأحداً، وثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ حين ولّى الناس وبايعه على الموت. وكان من الرماة المذكورين، وقتل يوم أحد من أصحاب لواء المشركين مسافعاً والحارث، فنذرت أمهما سلافة بنت سعد أن تشرب في قحف (¬1) عاصم الخمر، وجعلت لمن جاءها برأسه مائة ناقة. ¬

(¬1) العظم الذي فوق الدماغ، أو ما انفلق من الجمجمة وانفصل.

2 - قوة عاصم في دينه: فقدم ناس من هذيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه أن يوجه معهم من يعلِّمهم، فوجَّه عاصماً في جماعة، فقال لهم المشركون: استأسروا، فإنا لا نريد قتلكم، وإنما نريد أن ندخلكم مكة، فنصيب بكم ثمناً. فقال عاصم: لا أقبل جوار مشرك، وجعل يقاتلهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم، حتى انكسر رمحه، فقال: "اللهم إني حميت دينك أول النهار فاحم لحمي آخره" فجرح رجلين وقتل واحداً، وقتلوه، فأرادوا أن يحتزّوا رأسه فبعث الله الدَّبر (¬1). فحمته، ثم بعث الله إليه سيلاً في الليل فحمله، وذلك يوم الرَّجيع (¬2). وعن بريدة بن سفيان الأسلمي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عاصم بن ثابت وزيد بن الدَّثنة، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبي مرثد، إلى بني لحيان بالرجيع فقاتلوهم، حتى أخذوا أماناً لأنفسهم إلا عاصماً فإنه أبى، وقال: لا أقبل اليوم عهداً من مشرك، ودعا عند ذلك، فقال: اللهم إني أحمي لك دينك، فاحم لي لحمي، فجعل يقاتل وهو يقول: ما علّتي وأنا جلدٌ نابل ... والقوس فيها وترٌ عنابل إن لم أقاتلهم فأمي هابل ... الموت حقّ والحياة باطل وكلُّ ما حمَّ الإله نازل ... بالمرء، والمرء إليه آئل قال: فلما قتلوه قال بعضهم لبعض: هذا الذي آلت فيه المكية وهي سلافة، فأرادوا أن يختزّوا رأسه ليذهبوا به إليها، فبعث الله عز وجل رجلاً من ¬

(¬1) ذكور النحل، أو الزنابير. (¬2) كان ذلك سنة 3 هـ، والرجيع: ماء لبني هذيل قرب مكة.

5 - الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب

دبرٍ فلم يستطيعوا أن يحتزّوا (¬1) رأسه، رواه أبو يعلى الأصبهاني [صفة الصفوة 1/ 460]. 5 - الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب تقديم: الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أمير المؤمنين وقائدهم في الحبشة، وكان خطيبهم والمحاور عنهم بين يدي النجاشي، رجع هو ومن معهم إلى المدينة المنورة من الحبشة منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، ولاّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمرة جيش ثالث ثلاثة في معركة مؤتة. ترجمته: 1 - التعريف بجعفر: قال ابن الجوزي في ترجمته: جعفر بن أبي طالب، أمه فاطمة بنت أسد، وكان أسنّ من عليّ - رضي الله عنه - بعشر سنين، أسلم جعفر قديماً، وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، ومعه امرأته أسماء، فلم يزل هنالك حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر سنة سبع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أدري بأيهما أنا أفرح بقدوم جعفر أم بفتح خيبر». 2 - قوة عارضة جعفر في خطبة وجودة حواره: عن أم سلمة قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشيَّ، آمننا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا ان يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له ¬

(¬1) ألف (أنا) في أول الأبيات، لا تلفظ هنا، ليستقيم الوزن، والعنابل: الغليظ الشديد. وهابل: ثاكل، وحمَّ الإله الأمر: قدَّره، وآثل: صائر وراجع، وآلت: حلفت، ورجلاً: النحل الكثير.

أدماً (¬1) كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً (¬2) إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشيّ فيهم، ثم قدِّموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أيكلمهم. فخرجا فقد ما على النجاشي، فدفعا إلى كل بطريق هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمانٌ سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا ي دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فهمهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم، فأشيروا إلى الملك بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، فقالوا: نعم. ثم قربوا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلَّماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما. فغضب النجاشي، ثم قال: لا، هيم الله (¬3) إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد (¬4) قوماً جاوروني، نزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى ¬

(¬1) الأدم: الجلد وهو اسم جمع. (¬2) البطارقة: يراد بهم الوزراء، جمع بطريق، ومعناه في الأصل: الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب وتقدم عندهم. (¬3) هيم الله: من ألفاظ القسم. (¬4) كاده يكيده: خدعه ومكر به.

أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولان سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قال: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم (¬1) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين آخر من هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، دعانا إلى الله عز وجل لنوحِّده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكفٍّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة. وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدّقناه وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما ¬

(¬1) أي: صحفهم وكتبهم.

حرَّم علينا، وأحللنا ما حلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذَّبونا، وفتنونا على ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحلّ ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا (¬1) وحالوا بيننا وبين قومنا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا تظلم عندم أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، قال: اقرأه عليّ، فققرأ عليه صدراً من (كهيعص) (¬2) فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته (¬3) وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكم أبداً. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً أعيبهم عنده بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل إن لهم أرحاماً، فقال: والله لأخبرَّنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. فقالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال فيه الله عز وجل، وما جاء به نبينا، كائن في ذلك ما هو كائن. ¬

(¬1) أثقلوا، من المشقة وهي الشدة. (¬2) هي سورة مريم. (¬3) بلَّلها بالدموع.

فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عسى ابن مريم؟ قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، هو عبد الله وروحه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قال: فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. ثم قال: اذهبوا فأنتم سيوم (¬1) بأرضي - والسيُّوم: الآمنون - من سبَّكم غرم، ثم من سبَّكم غرم، ثم من سبَّكم غرم، ردوا عليهما هداياها فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي". [رواه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في المسند برقم (1740)، وهو في السيرة لابن هشام 1/ 357 - 362]. وعن أبي هريرة قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم، ويحدثونه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسميه أبا المساكين (¬2). 3 - استشهاد جعفر في مؤتة: استشهد جعفر بن أبي طالب بمؤتة سنة ثمانٍ من الهجرة. وعن ابن عمر قال: وجدنا فيما أقبل من بدن جعفر ما بين منكبيه تسعين ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف. وعن أنس بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى جعفراً وزيداً، نعاهما قبل أن يجيء خبرهما وعيناه تذرفان [صفة الصفوة: 1/ 511 - 519]. ¬

(¬1) سيوم: أي آمنون، وهي كملة حبشية تضمّ سينها. وقد تفتح. (¬2) الحديث صحيح أخرجه البخاري بنحوه في فضائل جعفر برقم (3708) والترمذي في فضائل جعفر برقم (3770)، وابن ماجه في الزهد برقم (4125) واللفظ له.

6 - الصحابي الجليل أبو ذر

6 - الصحابي الجليل أبو ذر تقديم: الصحابي الجليل أبو ذر - رضي الله عنه -، أصدق الناس لهجة، كان شجاعاً صادقاً جريئاً، دعا قومه إلى الإسلام، فآمنوا شيئاً فشيئاً، صدع بالحق وهو بالشام، فأخرج من الشام، ورجع إلى المدينة، ثم خرج منها إلى الربذة، حتى جاءه الموت، فمات فيها غريباً، وهيأ الله له طائفة من المسلمين، غسلته، وكفنته، وصلّت عليه، ودفنته. ترجمته: 1 - التعريف به: قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى فيه: أبون ذر، جندب بن جنادة، كان طوالاً آدم، وكان يتعبد قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم بمكة قديماً، وقال: كنت في الإسلام رابعاً، ورجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم قدم المدينة، قال خفاف بن إيماء: كان أبو ذر شجاعاً ينفرد وحده، فيقطع الطريق، ويغيره على الصِّرم (¬1) كأنه السبع، ثم إن الله تعالى قذف في قلبه الإسلام، وسمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأتاه. وعن عبد الله بن صامت قال: قال أبو ذر: لقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، قال فقلت: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين تتوجه؟ قال: حيث وجهني الله عز وجل. قال: وأصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء (¬2) حتى تعلوني الشمس. ¬

(¬1) الصِّرم، الجماعة ينزلون بابلهم ناحيةً على ماء. (¬2) الخفاء: الكساء، وكل شيء غطيت به شيئاً فهو خفاء، النهاية (2/ 57).

2 - أبو ذر يبحث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة: قال أبو ذر: فانطلقنا حتى نزلت بحضرة مكة، وانطلق أخي أنيس فراث (¬1) عليّ فقتل: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله عز وجل أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن. قال أنيس: قد سمعت قول الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعراء (¬2) فو الله ما يلتام، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. 3 - ما أصاب أبا ذر من الأذى حين سأل أهل مكة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: قال: فقلت له: هل أنت كافيَّ حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم فكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له (¬3) وتجهموا له. فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت (¬4) رجلاً منهم فقلت له: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إليّ. قال: الصابئ. قال: فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة (¬5) وعظم حتى خررت مغشياً عليّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يا بن أخي ثلاثين، من بين ليلة ويوم، ما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن (¬6) بطني، وما وجدت في كبدي سخفة (¬7) جوع. ¬

(¬1) أبطأ. (¬2) عبارة النهاية: (4/ 31): (لقد وضعت قوله على أقراء الشعراء فلا يلتئم على لسان أحد) قال: (أي على طرق الشعر وأنواعه وبحوره، وأحدها: قرء، بالفتح). (¬3) أي أبغضوه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) أي: استضعفت. (¬5) المدرة: القطعة من الطين. (¬6) العكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن، جمع عكن. (¬7) سخفة الجوع: رقّته وهزاله. أو الخفة التي تعتبري الإنسان إذا جاع.

4 - إغلاظ أبي ذر القول لامرأتين: قال: بينما أهل مكة في ليلة قمراء - أي مضيئةٍ - إضحيانٍ (¬1) وضرب الله على أصمخة أهل مكة (¬2) وما يطوف بالبيت غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافاً ونائلة (¬3)، فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر، قال: فما ثناهما ذلك، قال: فأتتا عليّ فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لم أكن، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وهما هابطان من الجبل فقالا: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قالا: فما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. 5 - مقابلة أبي ذر للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر: قال: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى ركعتين، قال: فأتيته فكنت أول من حيّاه بتحية الإسلام، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله (¬4) ممن أنت؟» قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده، فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، قال: فأردت أن آخذ بيده، فقد عني صاحبه (¬5) وكان أعلم به مني، قال: «متى أنت هاهنا؟» قال: قلت: كنت هاهنا منذ ثلاثين من بين يوم وليلة. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنها مباركة، إنها طعامٌ طعم» (¬6). ¬

(¬1) ليلة إضحيانٌ: مضيئة مقمرة. ويقال أيضاً: إضحيانة. (¬2) أي أنامهم. والأصمخة: جمع صماخ وهو ثقب الأذن. (¬3) إساف ونائلة: صنمان كانا منصوبين عند الكعبة. (¬4) في صحيح مسلم: وعليك ورحمة الله. (¬5) قدعه: كفه. (¬6) أي أنها تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.

6 - تضييف أبي بكر لأبي ذر: قال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طعامه الليلة، قال: ففعل، قال: فانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها. 7 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر أبا ذر بالرجوع إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام: فلبثت ما لبثت، ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني وجّهت إلى أرض ذات نخل، فلا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله عز وجل ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً. قال فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت أبي قد أسلمت وصدّقت. قال: فما بي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت. فتحملنا حتى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ. وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمنا، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فأسلم بقيتهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غفار غفر الله، وأسلم سالمها الله». انفرد بإخراجه مسلم [الحديث صحيح أخرجه مسلم في فضل أبي ذر]. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن أبا ذر لما دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلم، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك حتى يأتيك أمري، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبّ عليه فقال: ويلكم ألستم

تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ يعني عليهم. فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، وثاروا إليه، فضربوه فأكب عليه العباس فأنقذه [الحديث أخرجه البخاري في الفضائل، باب إسلام أبي ذر، وأخرجه مسلم في فضائل أبي ذر]. وعن أبي حرب بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر» [رواه الإمام أحمد، والحديث أخرجه أيضاً باختلاف يسير الترمذي بسند حسن في مناقب أبي ذر برقم 3803 وابن ماجه في المقدمة برقم 156 والطبراني والبزار]. 8 - خطبة أبي ذر في المسلمين عند الكعبة: وعن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلّغه؟ قالوا: بلى: قال: فإن سفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حرُّه لطول النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدَّق بما لك لعلك تنجو من عسيرها، اجعل الدنيا مجلسين مجلساً في طلب الحلال، ومجلساً في طلب الآخرة، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده، اجعل المال درهمين درهماً تنفقه على عيالك من حلّه، ودرهماً تقدمه لآخرتك، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده. ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبداً. 9 - أبو ذر يرسل إلى صاحب له أصبح أميراً يعظه: وعن نافع الطاحي قال: مررت بأبي ذر فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: أتعرف

عبد الله بن عامر؟ قلت: نعم. قال: فإنه كان يتقرأ معي ويلزمني، ثم طلب الإمارة. فإذا قدمت البصرة فترايا (¬1) له، فإنه سيقول: لك حاجة؟ فقل له: أخلني، فقل له: أنا رسول أبي ذر إليك، وهو يقرئك السلام، ويقول لك: إنا نأكل من التمر، ونشرب من الماء، ونعيش كما تعيش. فلما قدمت تراءيت له فقال: ألك حاجة؟ فقلت: أخلني أصلحك الله، فقلت: أنا رسول أبي ذر إليك، فلما قلتها خشع لها قلبه، وهو يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إنا نأكل من التمر، ونشرب من الماء، ونعيش كما تعيش. قال: فحلل إزاره ثم أدخل رأسه في جيبه، ثم بكى حتى ملأ جيبه بالبكاء. 10 - أبو ذر العابد الزاهد: عن أبي بكر بن المنكدر قال: بعث حبيب بن مسلمة وهو أمير بالشام إلى أبي ذر بثلاث مائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبو ذر: ارجع بها إليه، أوما وجد أحداً أغرّ بالله عز وجل منا؟ ما لنا إلا ظلٌّ نتوارى به، وثلّة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل. وعن جعفر بن سليمان قال: دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلّب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟ قال: لنا بيت نوجه إليه صالح متاعنا. قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا، قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ذر قال: والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرةً تعضد ويؤكل ثمرها. ¬

(¬1) أي: تراءى له، أي: تصدى له ليراك.

عن ابن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: قال أبو ذر: الصاحب الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الصامت، والصامت خير من مملي الشر، والأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير من ظن السوء (¬1). روى البخاري في أفراده من حديث زيد بن وهب قال: مررت بالرّبذة فقلت لأبي ذر: ما أنزلك هنا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] فقال: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب عثمان: أقدم المدينة، فقدمت، فكثر الناس عليّ كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكر ذلك لعثمان فقالك: إن شئت تنحّيت، فكنت قريباً، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل. روى ابن سيرين قال: قدم أبو ذر المدينة، فقال عثمان: كن عندي تغدو عليك تروح اللقاح (¬2). قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثم قال: ائذن لي حتى أخرج إلى الرَّبذة، فأذن له فخرج. 11 - قصة وفاة أبي ذر: عن إبراهيم الأشتر عن أبيه، عن أم ذر قالت: لما حضر أبا ذر الوفاة بكيت فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لي بنعشك، وليس معنا ثوب يسعك كفناً، ولا لك. فقال: لا تبكي وأبشري، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً». ¬

(¬1) يعني إذا كان لك مال فختمت عليه حتى لا تسيء الظن بأهلك وخدمك فهو خير من أن تتركه غير مختوم، وتظن بالناس الظنون. (¬2) مفردها لقحة ولقوح: وهي الناقة الحلوب العزيرة اللبن.

وإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم: «ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين» (¬1). وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية أو جماعة، وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذبت، ولا كذبت، فأبصري الطريق، قالت: فقلت: أنَّى وقد ذهبت الحاجّ وتقطعت الطرق؟ فقال: انظري، فكنت أشتد إلى الكثيب فأقوم عليه، ثم أرجع إليه فأمرّضه. قالت: فبينما أنا كذلك إذ أنا برجال على رواحلهم، كأنهم الرُّخم (¬2). فألحت بهم، فأسرعوا إليّ ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إليّ، فقالوا: ما لك يا أمة الله؟ قلت: امرؤ من المسلمين تكفّنوه، يموت. قالوا: وما هو؟ قلت: أبو ذر. قالوا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: نعم. قالت: ففدَّوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه، حتى دخلوا عليه، فسلموا عليه، فرحب بهم، وقال: أبشروا، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً».، وسمعته يقول لنفرٍ أنا فيهم: «ليموتن رجل منكم بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين»، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قرية أو جماعة، وأنا الذي أموت بفلاة من الأرض، والله ما كذبت ولا كذبت، وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً أو لامرأتي ثوب يسعني كفناً لم أكفن إلا في ثوب ولي أو لها، وإني أنشدكم الله لا يكفنّي رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً، قال: فليس من القوم أحد إلا وقد فارق من ¬

(¬1) الحديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في مسنده في قصة وفاة أبي ذر. (¬2) مفردها رخمة: طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع.

7 - الصحابي الجليل خبيب بن عدي بن مالك

ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار فقال: أنا أكفنك في ردائي هذا، وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي (¬1). قال: أنت فكفني، فكفنه الأنصاري، ودفنه في النفر الذين معه، منهم حجر بن عديّ بن الأدبر، ومالك بن الأشتر في نفر كلهم يمانٍ. [أخرج هذا الخبر في وفاة أبي ذر الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح]. وقد ذكر محمد بن إسحاق في المغازي أن أبا ذر مات بالرَّبذة سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه ابن مسعود منصرفه من الكوفة [صفة الصفوة: 1/ 584 - 599]. 7 - الصحابي الجليل خبيب بن عدي بن مالك تقديم: الصحابي الجليل خبيب بن عدي بن مالك أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستطلع الأخبار، فعلمت هذيل به وبمن معه، فلحقوا بهم، وقتلوا بعض أصحاب خبيب، وأسروا خبيباً، وقتلوه بعد أسره، فلم يظهر جزعاً، ولا فزعاً، وهو القائل: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي ترجمته: 1 - قال ابن الجوزي في ترجمته لخبيب: "شهد خبيب أحداً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيمن بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بني لحيان، فأسروه هو وزيد بن دثنة، فباعوهما من قريش فقتلوهما وصلبوهما بمكة بالتنعيم. ¬

(¬1) العيبة: الزنبيل من أدم. أو ما تجعل فيه الثياب كالصندوق ونحوه.

وروى البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة عيناً (¬1)، فأمر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا بالهدة (¬2) بين عسفان ومكة ذكروا لحيٍّ من هذيل، يقال لهم بنو لحيان، فنفروا إليهم بقريب من مائة رجل رامٍ، فاقتصوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزلٍ نزلوه، فقالوا: تمر يثرب، فاتبعوا آثارهم، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا، فأعطوا بأيدكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحداً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصماً في سبعة، ونزل إليهم نفر على العهد والميثاق: منهم خبيب، وزيد بن الدَّثنة، ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، فو الله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى، فجرّروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة، حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنت الحارث موسى ليستحد بها فأعارته فدرج بنيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده، وإنه لموثق ¬

(¬1) أي عشرة من المخبرين أو الرصد. (¬2) الهدّة (بتشديد الدال وقد تخفف): موضع بين عسفان ومكة.

بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلّ، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين فتركوه، فركع ركعتين، وقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً (¬1)، ولا تبق منهم أحداً". وقال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع (¬2) ثم قام إليه أبو سروعه عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سنَّ لكل مسلمٍ قتل صبراً (¬3) الصلاة. وأبو سروعة أسلم وروى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرج له البخاري في الصحيح ثلاثة أحاديث. وقال سعيد بن عامر بن حذيم: شهدت مصرع خبيب، وقد بضعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعه (¬4) فقالوا: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً شيك بشوكة. وعن إبراهيم بن إسماعيل قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه وحده عيناً إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا ¬

(¬1) بدداً: يروى بكسر الباء: جمع بدّة وهي الحصة والنصيب، أي اقتلهم حصصاً مقسمةً لكل واحد حصته ونصيبه. ويروى بفتح الباء، أي متفرقين في القتل واحداً بعد واحد. (¬2) الشلو: العضو، ممزَّع: مقطَّع ومفرقّ. (¬3) يقال: قتل فلان صبراً، أي: حبس أو أوثق حتى يقتل أو يموت. (¬4) جذع الإنسان، جسمه ما عدا الرأس واليدين والرجلين.

8 - الصحابي المجاهد خالد بن الوليد

أتخوف العيون فرقيت فيها فحللت خبيباً، فوقع إلى الأرض، فانتبذت عنه غير بعيد، ثم التفت فلم أر خبيباً، ولكأنما ابتلعته الأرض فلم ير لخبيب أثر حتى الساعة [صفة الصفوة: 1/ 619 - 622]. 8 - الصحابي المجاهد خالد بن الوليد تقديم: الصحابي الجليل المجاهد والقائد الفذ المحنّك خالد بن الوليد، الذي تحبه النفوس، وتتلو سيرته العطرة الألسنة، وتهفو القلوب إلى وجود قائد فذ مثله عندما يحيط بها الأعداء، وتتناوشها السهام من كل جانب. ترجمته: 1 - التعرف به: قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في ترجمته: هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. يكنى أبا سليمان وأمّه عصماء، وهي لبابة الصغرى بنت الحارث، أخت أم الفضل امرأة العباس. 2 - إسلام خالد بن الوليد: قال المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، قال: سمعت أبي يحدِّث، قال: قال خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: لما أراد الله بي ما أراد من الخير، قذف في قلبي حبَّ الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا انصرفت وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمداً سيظهر، ودافعته قريش بالراح يوم الحديبية، فقلت: أين المذهب؟ وقلت: أخرج إلى هرقل، ثم قلت: أخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية، فأقيم مع عجم تابعاً لهم، مع عيب ذلك عليّ؟ ودخل رسول الله - رضي الله عنه - مكة عام القضية، فتغيّبت فكتب إليّ أخي:

"لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك فقال: أين خالد، فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثل خالد جهل الإسلام، استدرك يا أخي ما فاتك". فما أتاني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرى في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا، فذكرتها بعد لأبي بكر فقال: هو مخرجك الذي هداك الله فيه للإسلام، والضيق: الشرك، فأجمعت الخروج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبت من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد، فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعاً، فأدلجنا سحراً، فلما كنا بالهدّة إذا عمرو بن العاص فقال: مرحباً بالقوم. فقلنا: وبك. فقال: أين مسيركم؟ فأخبرناه وأخبرنا أنه يريد أيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاصطحبنا، حتى قدمنا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول يوم من صفر سنة ثمان، فلما طلعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمت عليه بالنبوة، فردّ عليّ السلام بوجه طلق فأسلمت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد كنت أرى لك عقلاً، رجوت أن لا يسلمك إلا إلى الخير» وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدٍّ عن سبيل الله، فقال: «إن الإسلام يجبّ ما قبله»، ثم استغفر لي، وتقدَّم عمرو وعثمان بن طلحة فأسلما، فو الله ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما يجزبه. 3 - تولي خالد الإمارة بعد استشهاد الأمراء في مؤتة: وعن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت قال: لما كان يوم مؤتة، وقتل الأمراء، أخذ اللواء ثابت ابن أقرم، وجعل يصيح يا للأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه، فنظر إلى خالد ابن الوليد فقال: خد اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحقُّ به، لك

سنّ، وقد شهدت بدراً، قال ثابت: خذه أيها الرجل، فو الله ما أخذته إلا لك، وقال ثابت للناس: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم، فحمل اللواء، وحمل بأصحابه، ففضّ جمعاً من جمع المشركين. وعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية. 4 - خالد سيف من سيوف الله: وعن عبد الملك بن عمير، قال: استعمل عمر أبا عبيدة بن الجراح على الشام، وعزل خالد بن الوليد، قال: فقال خالد ابن الوليد: بعث عليكم أمين هذه الأمة، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة» [القصة وحديثا خالد وأبي عبيدة أخرجهما الإمام أحمد في المسند (4/ 90) ورجال أحمد رجال الصحيح، إلا أن عبد الملك بن عمير لم يدرك أبا عبيدة، وهو حديث صحيح بشواهده - انظر مجمع الزوائد (9/ 348)]. 5 - جهاد خالد بن الوليد: قال العلماء بالسير: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد ابن الوليد في سرايا، وخرج معه في غزاة الفتح، وإلى حنين، وتبوك، وفي حجة الوداع، فلما حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه أعطاه ناصيته، فكانت في مقدم قلنسوته، فكان لا يلقى أحداً إلا هزمه (¬1). ولما خرج أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أهل الردة كان خالد بن الوليد يحمل لواءه، فلما تلاحق الناس به استعمل خالداً ورجع إلى المدينة، وكان خالد يقول: ما أدري من أي يوميّ أفرّ؟ من يوم أراد الله عز وجل أن يهدي لي فيه شهادة، أو من يوم أراد الله عز وجل أن يهدي لي فيه كرامة؟ ¬

(¬1) القصة صحيحة أخرجها أبو نعيم في دلائل النبوة.

9 - الصحابي الجلي سعيد بن عامر بن حذيم

6 - وفاة خالد: ولما عزله عمر بن الخطاب لم يزل مرابطاً بحمص حتى مرض، فدخل عليه أبو الدرداء عائداً فقال: إن خيلي وسلاحي على ما جعلته في سبيل الله عز وجل، وداري بالمدينة صدقة، قد كنت أشهدت عليها عمر بن الخطاب، ونعم العون هو على الإسلام، وقد جعلت وصيتي وإنفاذ عهدي إلى عمر، فقدم بالوصية على عمر فقبلها، وترحم عليه. ومات خالد فقير في بعض قرى حمص على ميل من حمص، وموضعه اليوم في وسط المدينة، سنة إحدى وعشرين، فحكى من غسله أنه ما كان في جسمه موضع صحيح من بين ضربةٍ بسيف أو طعنةٍ برمح أو رمية بسهم. وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة بكى فقال: "لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء". وعن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه، فقيل لعمر: إنهن قد اجتمعن فانههنّ. فقال عمر: وما عليهن أن يرقن دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة. قال وكيع: النقع: الشق، واللقلقة: الصوت - رضي الله عنه -. [صفة الصفوة: 1/ 650 - 655]. 9 - الصحابي الجلي سعيد بن عامر بن حذيم تقديم: هذا الصحابي الجليل سيرته سيرة عطرة، تملك عليك نفسك عندما تتأمل فيها، فإنك راءٍ فيها رجلاً جعل الله بين عينيه، وقصد ربّه في كل أفعاله

وأعماله، ولم يجعل للعباد حظاً فيما يقوم به، استعمله عمر بن الخطاب على حمص، فكان خير والٍ، ولم تشغله الولاية عن طاعة الله، وطالبته زوجته وأصهاره بالدنيا التي بين يديه، فأبى إلا أن يجعلها لله، وحسبه أن عمر - رضي الله عنه - أبكاه ما كان عليه سعيد. ترجمته: 1 - التعريف به وزمن إسلامه: قال ابن الجوزي: سعيد بن عامر بن حذيم بن سلامان بن ربيعة الجمحي، أسلم قبل خيبر، وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بعدها. 2 - تولية عمر له حمص: وعن عبد الرحمن بن سابط قال: أرسل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى سعيد بن عامر، فقال: إنا مستعملوك على هؤلاء، فسر بهم إلى أرض العدو، فتجاهد بهم، فقال: يا عمر، لا تفتنّي، فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي، ثم تخليتم عني. وعنه قال: دعا عمر بن الخطاب رجلاً من بني جمح يقال له: سعيد بن عامر بن حذيم، فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا. فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين، فقال: والله لا أدعك، قلدتموها في عنقي وتركتموني، فقال عمر: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال: قد جعل الله تعالى في عطائي ما يكفيني دونه أو فضلاً على ما أريد. 3 - زهد سعيد في الدنيا: قال: وكان إذا خرج عطاؤه ابتاع لأهله قوته منه وتصدّق ببقيته، فتقول له امرأته: أين فضل عطائك؟ فيقول لها: قد أقرضته، فأتاه ناس فقالوا: إن لأهلك عليك حقاً، وإن لأصهارك عليك حقاً، فقال: ما أنا بمستأثر عليهم، ولا بملتمس رضا أحدٍ من الناس لطلب الحور العين، ولو

اطّلعت خيرة (¬1) من خيرات الجنة، لأشرقت لها الأرض كما تشرق الشمس، وما أنا بمتخلف عن العنق الأول بعد أن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجمع الله عز وجل الناس ليوم، فيجيء فقراء المؤمنين فيزفّون كما يزفّ الحمام (¬2)، فيقال لهم: قفوا عند الحساب. فيقولون: ما عندنا حساب ولا آتيتمونا شيئاً، فيقول ربهم عز وجل: صدق عبادي، فيفتح لهم باب الجنة، فيدخلونها قبل الناس بسبعين عاماً» [قال في مجمع الزوائد: (1/ 261) أخرجه الطبراني، وروى الترمذي في الزهد «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً»]. فبلغ عمر أنه يمر به كذا وكذا لا يدخن في بيته، فأرسل إليه عمر بمال، فأخذه فصرره صرراً، فتصدق به يميناً وشمالاً. وعن حسان بن عطية قال: لما عزل عمر بن الخطاب معاوية بن أبي سفيان عن الشام بعث سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي. قال: فخرج معه بجارية من قريش نضيرة الوجه، قال: فما لبث إلا يسيراً، حتى أصابته حاجة شديدة، قال: فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه بألف دينار، قال: فدخل بها على امرأته فقال: إن عمر بعث إلينا بما ترين، فقالت: لو أنك اشتريت أدماً وطعاماً وادخرت سائرها، فقال لها: أو لا أدلّك على أفضل من ذلك؟ نعطي هذا المال من يتجّر لنا فيه، فنأكل من ربحها وضمانها عليه، قالت: فنعم إذاً، فاشترى أدماً وطعاماً، واشترى غلامين وبعيرين يمتاران عليهما حوائجهم وفرقها على المساكين وأهل الحاجة. ¬

(¬1) يريد الحورية. (¬2) زف في مشيه وأزف: أسرع.

قال: فما لبث إلا يسيراً حتى قالت له امرأته: إنه قد نفد كذا وكذا، فلو أتيت ذلك الرجل، فأخذت لنا من الربح، فاشتريت لنا مكانه، قال: فسكت عنها، ثم عاودته فسكت عنها، حتى آذته ولم يدخل بيته إلا من ليل إلى ليل. قال: وكان رجل من أهل بيته ممن يدخل بدخوله. فقال لها: ما تصنعين؟ إنك قد آذيته، وإنه قد تصدق بذلك قال: فبكت أسفاً على ذلك المال. قال: ثم إنه دخل عليها يوماً فقال: على رسلك إنه كان لي أصحاب فارقوني منذ قريب، ما أحبُّ أني صددت عنهم، وإن لي الدنيا وما فيها، ولو أن خيرة من خيرات الجنان اطّلعت من السماء لأضاءت لأهل الأرض، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكسى خير من الدنيا وما فيها. فلأنت في نفسي أحرى أن أدعك لهن من أن أدعهن لك، قال: فسمحت ورضيت. 4 - عمر يتعجب مما عليه سعيد: وعن مالك بن دينار قال: لما أتى عمر - رضي الله عنه - الشام طاف بكورها (¬1)، قال: فنزل بحضرة حمص، فأمر أن يكتبوا له فقراءهم قال: فرفع إليه الكتاب، فإذا فيه سعيد بن عامر بن حذيم أميرها فقال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم؟ قالوا: نعم. فعجب عمر، ثم قال: كيف يكون أميركم فقيراً، أين عطاؤه؟ أين رزقه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين لا يمسك شيئاً. قال: فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار، فصرّها ثم بعث بها إليه، وقال: أقرئوه مني السلام، وقولوا: بعث بهذه إليك أمير المؤمنين، تستعين بها على حاجتك، قال: فجاء بها إليه الرسول، فنظر فإذا هي دنانير، قال: فجعل يسترجع، قال: تقول له امرأته: ما شأنك يا فلان أمات ¬

(¬1) مفردها كورة، وهي المدينة والصقع.

أمير المؤمنين، قال: بل أعظم من ذلك، قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني، الفتنة دخلت عليّ، قالت: فاصنع فيها ما شئت، قال: عندك عون؟ قالت: نعم. قال فأخذ دريعة (¬1) فصرّ الدنانير فيها صراراً، ثم جعلها في مخلاة، ثم اعترض جيشاً من جيوش المسلمين، فأمضاها كلَّها. فقالت له امرأته: رحمك الله لو كنت حبست منها شيئاً نستعين به، قال: فقال لها: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى أهل الأرض لملأت ريح مسك» وإني والله ما كنت لأختارك عليهن. فسكتت [أخرجه الطبراني في الأوسط، ورمز له السيوطي بأنه صحح. وقد ورد معناه في حديث آخر أخرجه البخاري في الرقاق، والترمذي]. 5 - عمر يكشف الحال الذي اشتكى أهل حمص من سعيد: عن خالد بن معدان قال: استعمل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بحمص سعيد بن عامر بن حذيم. فلما قدم عمر حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يقال لأهل حمص الكويفة الصغرى، لشكايتهم العمّال. قالوا: نشكوه أربعاً: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا يغنظ الغنظة بين الأيام، أي: تأخذه موتة. قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تفيل رأيي (¬2) فيه اليوم، ما تشتكون منه؟ قالوا: لا يخرج حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت لأكره ذكره، إنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجينهم. ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم. ¬

(¬1) تصغير الدرع: قميص المرأة. (¬2) فيّل رأيه: قبّحه وخطّأه وضعّفه.

10 - سليمان بن يسار

فقال: ما تشتكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: ما يقولون؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عز وجل، قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: ما يقولون؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف، ثم أدلكها ثم أخرج إليهم من آخر النهار، قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة (¬1) بين الأيام. قال: ما يقولون؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذع، فقالوا: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً شيك بشوكة. فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً، فتصيبني تلك الغنظة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيّل فراستي فيه [صفة الصفوة: 1/ 660 - 666]. 10 - سليمان بن يسار تقديم: هذا أحد علماء التابعين، كان يشبه نبي الله يوسف، فقد كان من أحسن الناس وجهاً، وطمعت في جماله أكثر من امرأة، فكان خوفه من الله تعالى يردعه عن الفاحشة، ويقيه السوء. ترجمته: 1 - التعريف به: قال ابن الجوزي: سليمان بن ياسر مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كان مكاتباً لها يكنى أبا أيوب. ¬

(¬1) وفي نسخة: (تغنظه الغنظة). والغنظ: أشد الكرب والجهد.

2 - حسنه وجماله وطمع النساء فيه: عن مصعب بن عثمان قال: كان سليمان بن ياسر من أحسن الناس وجهاً، فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت له: ادن، فخرج هارباً عن منزله، وتركها فيه، قال: سليمان: فرأيت بعد ذلك يوسف عليه السلام فيما يرى النائم، وكأني أقول له: أنت يوسف؟ قال: نعم أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهمّ. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خرج عطاء بن يسار وسليمان بن يسار حاجّين من المدينة، ومعهما أصحاب لهم، حتى إذا كانوا بالأبواء نزلوا منزلاً، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم، وبقى عطاء بن يسار قائماً في المنزل يصلي. قال: فدخلت عليه امرأة عن الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجةً، فأوجز في صلاته، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، قال: ما هي؟ قالت: قم فأصب مني، فإني قد ودقت (¬1)، ولا بعل لي. فقال: إليك عني، لا تحرقيني ونفسك بالنار. ونظر إلى امرأة جميلة، فجعلت تراوده عن نفسه، ويأبى إلا ما يريد، قال: فجعل عطاء يبكي ويقول: ويحك إليك عني، قال: اشتد بكاؤه، فلما نظرت المرأة إليه وما داخله من البكاء والجزع، بكت المرأة لبكائه، قال فجعل يبكي والمرأتة بين يديه تبكي، فبينما هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته، فلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي، فبينما هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجة، فلما نظر إلا عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي في ناحية البيت، بكى لبكائهما لا يدري ما أبكاهما، وجعل أصحابهما يأتون رجلاً رجلاً، كلما أتى رجل فرآهم يبكون ¬

(¬1) ودقت، أي: أرادت الفحل.

يبكي لبكائهم، لا يسألهم عن أمرهم، حتى كثير البكاء، وعلا الصوت، فلما رأت الأعرابية ذلك قامت فخرجت. قال: فقام القوم فدخلوا، فلبث سليمان بعد ذلك وهو لا يسأل أخاه عن قصة المرأة إجلالاً له وهيبة، قال: وكان أسنَّ منه. قال: ثم إنهما قدما مصر لبعض حاجتهما، فلبث بها ما شاء الله، فبينا سليمان ذات ليلة نائم إذ استيقظ وهو يبكي، فقال عطاء: ما يبكيك يا أخي؟ قال: فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة، قال: وما هي؟ قال: لا تخبر بها أحداً ما دمت حياً، رأيت يوسف النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فجئت أنظر إليه فيمن ينظر إليه، فلما رأيت حسنه بكيت، فنظر إليّ في الناس، فقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه. قال: فهلاَّ تعجّبت من صاحب المرأة البدوية بالأبواء؟ فعرفت الذي أراد فبكيت واستيقظت باكياً. قال عطاء: أي أخي وما كان ما حال تلك المرأة؟ فقصّ عليه عطاء القصة، فما أخبر بها سليمان أحداً حتى مات عطاء، فحدَّث بها بعده امرأة من أهله، قال: وما شاع هذا الحديث بالمدينة إلا بعد موت سليمان بن يسار رضي الله عنهما. وعن ابي الزناد عن أبيه قال: كان سليمان بن يسار بصوم الدهر، وكان عطاء بن يسار يصوم يوماً ويفطر يوماً.

11 - الخليفة الراشد التابعي

أسند سليمان عن أبي هريرة وابن عمرو، وابن عباس في خلق كثير من الصحابة. 3 - وفاته: وتوفي سنة سبع ومائة، وقيل سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وأسند عطاء عن أبيّ بن كعب وابن مسعود وأبي أيوب الأنصاري في خلق كثير من الصحابة. توفي سنة ثلاث ومائة وقيل: سنة أربع وتسعين وكان يكنى أبا محمد وهو مولى ميمونة أيضاً رضي الله عنهما [صفة الصفوة: 2/ 82 - 84]. 11 - الخليفة الراشد التابعي عمر بن عبد العزيز بن مروان تقديم: هذه نبذة موجزة من سيرة الخليفة الراشد، وهو من علماء التابعين، المسمَّى بعمر بن عبد العزيز بن مروان، ولي الخلافة سنتين وبضعة شهور، فأحيا الدين، وأقام العدل، وأبطل الظلم، وأخذ على يد السفهاء، واعتصم بالله، واتقاه، واشتغل بمصالح المسلمين، وأعرض عن زهرة الدنيا الفانية، وطلب ما عند الله والدار الأخرة، فحمد المسلمون سيرته في حياته وبعد مماته، ولا يزال المسلمون يعطرون مجالسهم بسيرته، ويترحمون عليه، ويترضون عنه، ويعدونه في مصف الخلفاء الراشدين. ترجمته: 1 - التعريف بعمر بن عبد العزيز: قال ابن الجوزي فيه: عمر بن عبد العزيز بن مروان، يكنى أبا حفص، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. قال محمد بن سعد: قال: ابن شوذب: لما أراد عبد العزيز بن

مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيِّمه: اجمع لي أربع مائة دينار من طيّب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيتٍ لهم صلاح، فتزوج أم عمر بن عبد العزيز. قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر ابن عبد العزيز، رضي الله عنهم. 2 - عمر مجدد القرن الأول: وقال حميد بن زنجويه: قال أحمد بن حنبل: يروى في الحديث: أن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فإذا هو الشافعي. 3 - زهد عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة: وعن الضحاك بن عثمان قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان بن عبد الملك صفَّت له مراكب سليمان، فقال: ولولا التقى ثم النُّهى خشية الردى ... لعاصيت في حبِّ الصِّبا كلِّ زاجر قضى ما قضى، فيما مضى، ثم لا يرى ... له صبوة أخرى الليالي الغوابر ثم قال: إن شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إليِّ بغلتي. وعن سهل بن يحيى بن محمد المروزي قال: أخبرني أبي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدّه أو رجّة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين، قرّبت إليك لتركبها. فقال: ما لي ولها؟ نحُّوها عني، قرّبوا إليّ بغلتي. فقرِّبت إليه بغلته، فركبها، فجاءه صاحب الشُّرط يسير بين يديه بالحربة، فقال: تنحَّ عني ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين.

4 - مقام عمر في المسجد بعد توليه الخلافة: فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقال: يا أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبةٍ له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فل (¬1) أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعاً، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلفٌ، فاعلموا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أباً حيّاً لمعرق في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها ولا في كتابها، إنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً". ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: "يا أيها الناس، من أطاع الله فقد وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". ثم نزل فدخل، فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين. ¬

(¬1) فل: فعل أمر من ولى يلي.

5 - عبد الملك بن عمر بعظ الخليفة: ذهب عمر بعد ذلك المقام في المسجد يتبوَّأ مقيلاً، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بنيّ أقيل، قال: تقيل ولا تردّ المظالم؟ قال: أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمّك سليمان، فإذا صلّيت الظهر رددت المظالم، قال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه، فالتزمه، وقبَّل بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني. فخرج، ولم يقل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذميّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل، فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، قم فاردد عليه يا عباس ضيعته، فردَّ عليه، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يده وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردّها مظلمةً مظلمةً. 6 - بين عمر بن الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز: فلما بلغت الخوارج سيرة عمر، وما رد من المظالم اجتمعوا، فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل، فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم، وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم، وشنئاً لمن بعدهم من أولادهم، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك على هذا.

فلما قرأ كتابه كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد، السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أما بعد: فإنه بلغني كتابك، وسأجيبك بنحوٍ منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما تزعم فأمُّك "بنانة" أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل، وتدور في حوانيتها، ثم الله أعلم بها، اشتراها ذبيان من فيء المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك، فبئس المحمول وبئس المولود. ثم نشأت فكنت جباراً عنيداً، تزعم أني من الظالمين، لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حقُّ القرابة والمساكين والأرامل، وإنَّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لك، وويلٌ لأبيك، ما أكثر خصماء كما يوم القيامة، وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟ وإنَّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف، يسفك الدَّم الحرام، ويأخذ مال الحرام، وإنّ أظلم مني، وأترك لعهد الله من استعمل قرّة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر، أذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب، فرويداً يا بن بنانة، فلو التقى خلقتا البطان، وردَّ الفيء إلى أهله، لتفرغت لك ولأهل بيتك، فوضتعهم على المحجَّة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رايته بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإنَّ لكلٍّ فيك حقاً والسلام علينا، ولا ينال سلام الله الظالمين. 7 - وقائع جرت بعد تولي عمر الخلافة: أ - عن عمر بن ذر قال: مولىً لعمر بن عبد العزيز حين رجع من جنازة سليمان: مالي أراك مغتّماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه يغتم، إنه ليس من أمة

محمد - صلى الله عليه وسلم - أحد في شرق الأرض وغربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه غير كاتبٍ إليّ فيه ولا طالبه مني. ب - وعن بعض خاصة عمر بن عبد العزيز: أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاءً عالياً، فسئل عن البكاء فقيل: إن عمر بن عبد العزيز خيَّر جواريه فقال: إنه قد نزل لي أمر قد شغلني عنكن، فمن أحبَّ أن أعتقه أعتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، ولم يكن مني إليها شيء، فبكين يأساً منه. ج - وعن مالك بن دينار قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء في رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ قال: فقيل: لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنه إذا قام خليفة صالح كفّت الذئاب والأسد عن شائنا. د - وعن مسلم قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب وشمعةٌ تزهر، وهو ينظر في أمور المسلمين، قال: فخرج الرجل فأطفئت الشمعة، وجيء بسراج إلى عمر، فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبَّق ما بين كتفيه، قال: فنظر في أمري. هـ - عن الثقة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم: أما بعد فإنك كتبت إلى سليمان كتباً لم ينظر فيها حتى قبض رحمه الله، وقد بليت بجوابك، كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر، وتذكر أنه قد نفد الذي كان يستضاء به، وتسأل أن يقطع لك من ثمنه مثل ما كان للعمّال، وقد عهدتك، وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم والسلام.

و - وعن رجاء بن حيوة قال: كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخيلهم في مشيته، فلما استخلف قوّموا ثيابه اثنى عشر درهماً: كمّته (¬1) عمامته وقميصه وقباءه وقرطقه (¬2) ورداءه وخفَّيه. ز - وعن يونس بن أبي شبيب قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف البيت وإن حجزة إزاره لغائبةٌ في عكنه (¬3). ثم رأيه بعد ما استخلف ولو شئت أن أعدَّ أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت. ح - وعن مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة، اغسلي قميص أمير المؤمنين، قال: نفعل إن شاء الله، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه؟ قالت: والله ماله قميصٌ غيره. ط - وعن الفهري عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز يقسم تفاح الفيء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحة، فانتزعها من فيه فأوجعه، فسعى إلى أمه مستعبراً، فأرسلت إلى السوق، فاشترت له تفاحاً، فلما رجع عمر وجد ريح التفاح فقال: يا فاطمة هل أتيت شيئاً من هذا الفيء؟ قالت: لا. وقصّت عليه القصة فقال: والله لقد انتزعتها من ابني لكأنما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحةٍ من فيء المسلمين. ¬

(¬1) الكمة: القلنسوة المدورة لأنها تغطي الرأس. (¬2) القرطق (بضم القاف وفتح الطاء): قباء ذو طاق واحد، معرب. (¬3) كناية عن السمنة والعكنة: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً ... جمع: عكن.

ي - وعن شيخ من أهل الشام قال: لما مات عمر بن عبد العزيز كان استودع مولىً له سفطاً (¬1) يكون عنده، فجاؤوه فقالوا: السفط الذي كان استودعك عمر؟ قال: ما لكم فيه خير، فأبوا حتى رفعوا ذلك إلى يزيد بن عبد الملك، فدعا بالسفط، ودعا بني أمية، وقال: خيركم هذا فقد وجدنا له سفطاً وديعة قد استودعها: ففتحوه، فإذا فيه مقطَّعات من مسوح كان يلبسها بالليل. ك - عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلّت عنهم العبرة، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين ممَّ بكيت.؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريقٌ في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه. ل - وعن زياد بن أبي زياد المديني قال: أرسلني ابن عامر بن أبي ربيعة إلى عمر ابن عبد العزيز في حوائج له، فدخلت عليه وعنده كاتب يكتب، فقلت: السلام عليكم، فقال: وعليك السلام، ثم انتبهت، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: يا بن أبي زياد، إننا لسنا ننكر الأولى التي قلت، والكاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة، فقال لي: اجلس، فجلست على أسكفَّة الباب (¬2)، وهو يقرأ وعمر يتنفس صعداً (¬3)، فلما فرغ أخرج من كان في البيت حتى وصيفاً كان فيه، ثم قام يمشي إليّ حتى جلس بين يديّ، ¬

(¬1) السفط: وعاء كالقفة. (¬2) خشبة الباب التي يوطأ عليها. (¬3) صعداً: شديداً.

ووضع يديه على ركبتي ثم قال: يا ابن أبي زياد، استدفأت في مردعتك (¬1) هذه، قال: وعليّ مدرعة من صوف، واسترحت مما نحن فيه، ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة رجالهم ونسائهم، فما ترك منهم أحداً إلا سألني عنه، وسألني عن أمورٍ كان أمر بها بالمدينة فأخبرته، ثم قال لي يا بن زياد ألا ترى ما وقعت فيه؟ قال: قلت: أبشر يا أمير المؤمنين، إني أرجو لك خيراً. قال: هيهات هيهات، قال: ثم بكى حتى جعلت أرثي له، فقلت: يا أمير المؤمنين بعض ما تصنع، فإني أرجو لك خيراً، قال: هيهات هيهات أشتم ولا أشتم، وأضرب ولا أضرب، وأوذي ولا أؤذى. ثم بكى حتى جعلت أرثي له، فأقمت حتى قضى حوائجي، ثم أخرج من تحت فراشه عشرين ديناراً، فقال: استعن بهذه، فإنه لو كان لك في الفيء حقّ أعطيناك حقك، إنما أنت عبدٌ، فأبيت أن آخذها، فقال: إنما هي من نفقتي، فلم يزل بي حتى أخذتها، وكتب إلى مولاي يسأله أن يبيعني منه فأبى وأعتقني. م - وعن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزَّني، ثم قل: يا عمر ما تصنع؟ ن - وعن عبيد الله بن محمد التميمي، قال: سمعت أبي وغيره يحدث أن عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يجري عليهم، وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم، فشكوا إلى عمته فاطمة بنت مروان أم عمر، فدخلت، فقالت: إن قرابتك يشكونك، ويزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتهم حقاً، ولا أخذت منهم حقاً. ¬

(¬1) جبة من صوف مشقوقة.

فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً، فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره، قال: ودعا بدينار، وجنب (¬1) ومجمرة، فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمرّ تناوله بشيء فألقاه على الجنب فنشّ (¬2)، فقال: أي عمة أما تأوين (¬3) لابن أخيك من مثل هذا؟ فقامت، فخرجت على قرابته، فقالت: تزوّجون إلى آل عمر، فإذا نزعوا الشُّبه جزعتم؟ اصبروا له. 8 - خطبة من خطب عمر بن عبد العزيز: عن أبي سليم الهذلي قال: وخطب عمر بن عبد العزيز فقال: "أما بعد: فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سدىً، وإن لكم معاداً، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واشترى قليلاً بكثير، وفانياً بباقٍ، وخوفاً بأمن، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون؟ كذلك حتى تردّ إلى خير الوارثين، في كل يوم وليلة تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيّبوه في صدع من الأرض في بطن صدع، ثم تدعونه غير ممهد، ولا موسَّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيراً إلى ما قدّم، غنياً عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب ما أعلم عندي، وما يبلغني عن أحد منكم ما يسعه ما عندي ¬

(¬1) القطعة من الشيء، يريد هنا جنب شاة، أي: قطعة من اللحم. (¬2) نشك صوت. (¬3) أوى له: رحمه ورق له.

إلا وددت أنه يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه، وايم الله لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكن سبق من الله عز وجل، كتاب ناطق وسنّة عادلة دلَّ فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته". ثم وضع طرف ردائه على وجهه، فبكى وشهق وبكى الناس، وكانت آخر خطبة خطبها. 9 - أبيات كان عمر يتمثل بها، قال سعيد بن محمد الثقفي: سمعت القاسم بن عزوان، قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات: أيقطان أنت اليوم أم أنت نائم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم فلو كنت يقظان الغداة لحرَّقت ... مدامع عينيك الدموع السّواجم بل أصبحت في النوم الطويل وقد ... إليك أمورٌ مفظعات عظائم نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ ... وليلك نومٌ والردى لك لازم يغرُّك ما يفني وتشغل بالمنى ... كما غرَّ باللذات في النوم حالم وتشغل فيما سوف تكره غبَّه (¬1) ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم وعن القاسم بن غزوان، قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات. 10 - موقف عمر ممن بكَّته بأنه أفقر ولده من بعده: عن هاشم قال: لما كانت الصَّرعة التي هلك فيها عمر، دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال: يا ¬

(¬1) غب الشيء: عاقبته وفي نسخة: عيبه. ولعلها: غيبه، أو عينه. وعين الشيء: ذاته ونفسه. والعين أيضاً: العيب.

أمير المؤمنين إنك أفقرت أفواه ولدك من هذا المال، وتركتهم عيلةً (¬1) لا شيء لهم، فلو وصّيت بهم إليّ، وإلى نظرائي من أهل بيتك. قال: فقال: أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال، فو الله إني ما منعتهم حقاً هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت بهم، فإن وصيي وولي فيهم الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، بنيَّ أحد الرجلين، إما رجل يتقي الله، فسيجعل الله له مخرجاً، وإما رجل مكبّ على المعاصي، فإني لم أكن أقوّيه على معاصي الله. ثم بعث إليهم، وهم بضعة عشر ذكراً، قال: فنظر إليهم فذرفت عيناه، ثم قال: بنفسي الفتية الذين تركتهم عيلةً لا شيء لهم، فإني بحمد الله قد تركتهم بخير، أي بنيّ إن أباكم مثل بين أمرين: بين أن تستغنوا، ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا، ويدخل الجنة أحبَّ إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله. 11 - وفاة عمر بن عبد العزيز: وعن ليث بن أبي رقبة، عن عمر: أنه لما كان مرضه الذي قبض فيه، قال: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحدَّ النظر، فقالوا: له إنك لتنظر نظراً شديداً، فقال: إني لأرى حضرةً ما هم بإنسٍ ولا جانٍ، ثم قبض - رضي الله عنه -. اسند عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة، والسائب بن يزيد، ويوسف بن عبد الله بن سلام. ¬

(¬1) العيلة: الفقر.

12 - الفضيل بن عياض التميمي

وقد أرسل الحديث عن القدماء منهم عبادة بن الصامت والمغيرة بن شعبة وتميم الداري وعائشة وأم هانئ. وقد روى عن خلق كثير من كبار التابعين، كسعيد بن المسيب، وعبد الله ابن إبراهيم بن قارظ، وسالم وأبي سلمة وعروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة ابن زيد، وعامر بن سعد بن أبي وقاص وأبي بردة بن أبي موسى، والربيع بن سيرة، وعراك بن مالك، وأبي حازم، والزهري، والقرظي، في خلق كثير يطول ذكرهم، وقد ذكرنا مسنداته عنهم في كتاب أفردناه لأخباره وفضائل، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة من أخباره هاهنا. وتوفي - رضي الله عنه - لعشر ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنةً وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات بدير سمعان، وقبر هناك [صفة الصفوة: 2/ 113 - 172]. 12 - الفضيل بن عياض التميمي تقديم: الفضيل بن عياض عالم امتلأ قلبه من خشية الله، فصام كثيراً من أيامه، وقام لياليه، جاءه الخليفة هارون الرشيد، فأسمعه ما رقَّ له قلبه وأوجعه، وأبكى عينه، وعرض عليه الدنيا، فأبى أن يأخذ منها شيئاً، اعتنى في وعظه بمعالجة القلوب، وكان همَّه العناية بنفسه قبل غيره. ترجمته: 1 - التعريف به: قال ابن الجوزي: الفضيل بن عياض التميمي، يكنى أبا علي، ولد بخراسان، وقدم الكوفة، وهو كبير، فسمع بها الحديث، ثم تعبد، وانتقل إلى مكة، فمات بها.

2 - من كلام الفضيل بن عياض: أ - عن إبراهيم بن أحمد الخزاعي قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لو أن الدنيا كلها بحذافيرها جعلت لي حلالاً، لكنت أتقذّرها. ب - وعن أبي الفضل الخزاز قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: أصلح ما أكون أفقر ما أكون، وإني لأعصي الله، فأعرف في خلق حماري وخادمي. ج - وعن إسحاق بن إبراهيم قال: كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسّلة، كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة يردّدها. وكان يلقى له حصير بالليل في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة، حتى تغلبه عينه، فيلقي نفسه على الحصير، فينام قليلاً، ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم هكذا حتى يصبح. د - قال: وسمعت الفضيل يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبّل كبّلتك خطيئتك. هـ - وعن مهران بن عمرو الأسدي قال: سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة بالموقف، وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء، يقول: واسوأتاه، وافضيحتاه، وإن عفوت. ز - وعن أحمد بن سهل قال: قدم علينا سعد بن زنبور، فأتيناه، فحدثنا، قال: كنا على باب الفضيل بن عياض، فاستأذنا عليه، فلم يؤذن لنا، فقيل لنا: إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن. قال: وكان معنا رجل مؤذن وكان صيّتاً، فقلنا له اقرأ: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] ورفع بها صوته، فأشرف علينا

الفضيل، وقد بكى حتى بلَّ لحتيه بالدموع، ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينيه، وأنشأ يقول: بلغت الثمانين أو جزتها ... فما أؤمّل أو أنتظر؟ أتى لي ثمانون من مولدي ... وبعد الثمانين ما ينتظر؟ علتني السنون فأبلينني ... ................................... قال ثم خنقته العبرة، وكان معنا علي بن خشرم فأتمّه لنا، فقال: علتني السنون فأبلينني ... فرقّت عظامي وكلَّ البصر ح - عن أبي جعفر الحذّاء، قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذ الوادي، فقلت له: إن كنت تظنَّ أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك، فبئس ما تظن. ط - عن الحسين بن زياد قال: دخلت على فضيل يوماً فقال: عساك إن رأيت في ذلك المسجد، يعني المسجد الحرام، رجلاً شراً منك، إن كنت ترى أن فيه شراً منك فقد ابتليت بعظيم. ك - عن يونس بن محمد المكي قال: قال فضيل بن عياض لرجل: لأعلّمنك كلمة هي خير من الدنيا وما فيها، والله لئن علم الله منك إخراج الآدمين من قلبك حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره؛ لم تسأله شيئاً إلا أعطاك. ل - وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه، فأغلق دونك أبواب المغفرة، وأنت تضحك كيف ترى تكون حالك.

م - وعن محمد بن حسان السمني، قال: شهدت الفضيل بن عياض، وجلس إليه سفيان بن عيينة، فتكلم الفضيل فقال: كنتم معشر العلماء سرج البلاد، يستضاء بكم فصرتم ظلمةً، وكنتم نجوماً يهتدى بكم، فصرتم حيرة، ث لا يستحي أحدكم أن يأخذ مال هؤلاء الظَّلمة، ثم يسند ظهره يقول: حدثنا فلان عن فلان، فقال سفيان: لئن كنا لسنا بصالحين فإنّا نحبّهم. 3 - الفضيل بن عياض يعظ هارون الرشيد: وعن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني، فخرجت مسرعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: ويحك قد حكَّ في نفسي شيء (¬1)، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة. فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليَّ أتيتك، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله. فحدَّثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، فقال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امض بنا إليه. فأتيناه، فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إليَّ أتيك، قال: خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا عباس، اقض دينه. ¬

(¬1) يقال: حكَّ في صدري شيء. أي عمل وأثر.

فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله. قلت: هاهنا الفضيل بن عياض. قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة؟ أليس قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس للمؤمن أن يذل نفسه»، فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ المصباح، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت. فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كفُّ هارون قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عزَّ وجلّ، فقلت في نفسي: ليكلمنَّه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك من الموت، وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك آباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولدًا، فوقِّر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل، فأحبَّ للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟

فبكى هارون بكاء شديداً حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين فقال: يا بن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا، ثم أفاق، فقال له: زدني رحمك الله فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي، أذكِّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبداً، حتى ألقى الله عز وجل. قال: فبكى هارون بكاءً شديداً، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أمّرني على إمارة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل». فبكى هارون بكاءً شديداً، وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز جل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشّ لأحد من رعيتك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة» [أخرجه البخاري في الباب الثامن من كتاب الأحكام ومسلم في الإمارة باب فضيلة الأمير العادل، ومعناه أن يكون مستحلاً لغشهم]. فبكى هارون وقال له: عليك دين؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجّتي، قال: إنما أعني دين العباد، قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحّده، وأطيع

أمره، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلّك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلَّمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال هارون: أبا عباس، إذا دللتني على رجل فدلّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين. فدخلت عليه امرأة من نسائه، فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبة، فلا كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل، فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج، فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا، قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصر فرحمك الله، فانصرفنا. وقد أسند الفضيل عن جماعة من كبار التابعين منهم الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، ومسلم الأعور، وأبان بن أبي عياش، وروى عنه خلق كثير من العلماء [صفة الصفوة 2/ 237 - 247].

13 - الإمام أحمد بن محمد بن حنبل

13 - الإمام أحمد بن محمد بن حنبل تقديم: هذا رجل قلَّ نظيره من الرجال، طلب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجال في المشارق والمغارب، وجمع من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من حمل اثني عشر بعيراً، كان يحفظها كلها. ووقف في وجه الخليفة المأمون ومن ورائه المعتصم، اللذين أرادا أن يقررا العقيدة الباطلة التي تزعم أن القرآن مخلوق، فوقف في وجوههما، وقوف الجبال الشمِّ الراسيات، وحفظ الله به دين المسلمين، لم تلن قناته، ولا وهن عزمه، ولا هدَّته السياط التي أنزلها الحكام على جسده. وابتلي بالدنيا، فقد قربه الخلفاء، وأغدقوا عليه الدنيا، فأبى أن يدنس نفسه بمتاعها الفاني، ومتعها الزائلة، علَّم العلم، وهدى الخلق، ووقف نفسه على ربه، فعاش إماماً، ومات إماماً، فأحبته الأمة حيّاً وميتاً، رحمه الله رب العالمين. ترجمته: 1 - التعريف به ونسبه: قال ابن الجوزي: أحد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، جيء به من مرو حملاً، فولد في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة، فأما نسبه فأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أبنأنا أبو بكر بن ثابت، قال: أنبأنا أحمد بن عبد الله الحافظ: أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: أنبأنا عبد الله ابن أحمد، حدثنا أبي أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب

ابن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن تزار بن معد بن عدنان بن أدّب بن أدد بن الهميسع بن جمل بن النبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام. 2 - عمله في بداية أمره: عن أبي بكر المروزي قال: قال لي أبو عفيف - وذكر أبا عبد الله أحمد بن حنبل - فقال: كان في الكتّاب معنا وهو غليّم يعرف فضله وكان الخليفة بالرقّة فيكتب الناس إلى منازلهم (¬1)، فيبعث نساؤهم إلى المعلّم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل، ليكتب لهم جواب كتبهم، فيبعثه، فكان يجيء إليهم مطأطئ الرأس، فيكتب جواب كتبهم، فربما أملو عليه الشيء من المنكر، فلا يكتبه لهم. 3 - تواضعه: عن إدريس بن عبد الكريم قال: قال خلف: جاءني أحمد بن حنبل يستمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه، فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه. 4 - مدى حفظه للحديث: عن أبي زرعة قال: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. قال أبو جعفر بن أحمد بن محمد بن سليمان التُّستريّ: قيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ المحدّثين أحفظ؟ فقال: أحمد بن حنبل، حزرت كتبه اليوم الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر حملاً، وعدلاً (¬2)، ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حديث فلان، وكل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه. ¬

(¬1) أي أن الناس الذين كانوا مع الخليفة بالرقة يكتبون الرسائل إلى ذويهم. (¬2) العدل: نصف حمل.

وعن إبراهيم الحربي قال: رأيت أحمد بن حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء. وعن أحمد بن سنان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لأحمد ابن حنبل، ولا رأيته أكرم احداً كرامته لأحمد بن حنبل: وكان يقعد إلى جنبه إذا حدّثنا، وكان يوقّره ولا يمازحه، ومرض أحمد فركب إليه فعاده. قال المصنف رحمه الله: قلت: كانت مخايل النّجابة تظهر من أحمد - رضي الله عنه - من زمان الصِّبا، وكان حفظه للعلم من ذلك الزمان غزيراً، وعمله به متوفراً، فلذلك كان مشايخه يعظّمونه، فكان إسماعيل ابن عليّة يقدّمه وقت الصلاة يصلّي بهم، وضحك أصحابه يوماً فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟ وكان ابن مهدي يقول: ما نظرت إليه إلا ذكرت به سفيان الثوري، ولقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمة. 5 - شيء من سيرته: عن أبي بكر المروزي قال: كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، لا يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمت بختمةٍ ختمها، كان يسرُّ ذلك. وعن أبي عصمة بن عصام البيهقي قال: بتّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه، فلما أصبح نظر في الماء، فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله، رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل؟ وعن أبي داود السجستاني قال: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم. وعن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: جالست أبا يوسف ومحمد بن الحسن ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي فما هبت أحداً منهم ما هبت

أحمد بن حنبل، ولقد دخلت عليه في السجن لأسلّم عليه، فسألني: رجل عن مسألةٍ فلم أجبه هيبةً له. وعن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف ثوباً ولا أشدّ تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً وأشدَّه بياضاً من أحمد بن حنبل. وعن علي ابن المديني قال: قال لي أحمد بن حنبل: إني لأحب أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعني من ذاك إلا أني أخاف أن أملّك أو تملّني. قال: فلما ودّعته قلت: يا أبا عبد الله توصيني بشيء؟ قال: نعم ألزم التقوى قلبك، والزم الآخرة أمامك. وقال أبو داود السجستاني: كانت مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط. وعن إبراهيم الحربي قال: كان أحمد بن حنبل يأتي العرس والختان والإملاك، يجيب ويأكل. وعن إسحاق بن راهويه قال: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمّالين، إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المواساة، فلم يقبل من أحد شيئاً. وعن الرمادي قال: سمعت عبد الرزاق - وذكر أحمد بن حنبل فدمعت عيناه فقال: قدم، وبلغني أن نفقته نفدت، فأخذت عشرة دنانير، وأقمته خلف الباب، وما معي ومعه أحد، وقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، وقد وجدت الساعة عند النساء عشرة دنانير، فخذها فأرجوا ألا تنفقها حتى يتهيأ عندنا

شيء. فتبسم وقال لي: "يا أبا بكر لو قبلت شيئاً من الناس قبلت منك". ولم يقبل. وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: جاءتني حسن فقالت: يا مولاي قد جاء رجل بتلِّيسةٍ (¬1) فيها فاكهة يابسة، وبهذا الكتاب، قال صالح: فقمت فقرأت الكتاب فإذا فيه: يا أبا الله أبضعت لك بضاعة إلى سمرقند، فوقع فيها كذا وكذا، ورددتها فيها كذا وكذا، وقد بعثت بها إليك وهي أربعة آلاف درهم، وفاكهة أنا لقطتها من بستاني، ورثته عن أبي، وأبي ورثه عن أبيه. قال: فجمعت الصبيان، فلما دخل دخلنا عليه، فبكيت، وقلت له: يا أبة أما ترقُّ لي من أكل الزكاة؟ ثم كشفت عن رأس الصبية، وبكيت فقال: من أين علمت؟ دع حتى أستخير الله تعالى الليلة، قال: فلما كان من الغد قال: يا صالح إني قد استخرت الله تعالى الليلة فعزم لي ألا آخذها، وفتح التلّيسة، ففرّقها على الصبيان، وكان عنده ثوبٌ عشاري (¬2) فبعث به إليه وردّ المال، قال صالح: فبلغني أن الرجل اتخذه كفناً. وعن علي بن الجهم قال: كان له جار فأخرج إلينا كتاباً فقال: أتعرفون هذا الخط؟ قلنا: هذا خط أحمد بن حنبل، كيف كتب لك؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمد بن حنبل أياماً لم نره، ثم جئنا إليه لنسأل عنه، فقال لنا أهل الدار التي هو فيها: هو في ذلك البيت، فجئنا إليه ¬

(¬1) التليسة (بكسر التاء وتشديد اللام): هنة تسوى من الخوص، فتوضع فيها الزجاجة، وتطلق أيضًا على ما يشبه الكيس. (¬2) أي: ثوب طوله عشر أذرع.

والباب مردود عليه وإذا خلقان، فقلنا له: يا أبا عبد الله ما خبرك؟ لم نرك منذ أيام. قال: سرقت ثيابي. فقلت له: معي دنانير فإن شئت فخذ قرضاً، وإن شئت فصلة، فأبي أن يفعل، فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت ديناراً فأبى أن يأخذه، وقال: اشتر لي ثوباً واقطعه بنصفين، فأومأ إليّ أنه يأتزر بنصف، ويرتدي بالنصف الآخر، وقال جئني بنفقته، ففعلت وجئت بورق فكتب لي وهذا خطّه. وعن محمد بن موسى بن حماد الزيدي قال: حمل إلى الحسن بن عبد العزيز الجرويِّ من ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار، فقال: يا أبا عبد الله، هذه ميراث حلالٍ، فخذها فاستعن بها على عائلتك، فقال: لا حاجة لي فيها، أنا في كفاية، فردَّها ولم يقبل منها شيئاً. وعن السري بن محمد خال ولد صالح قال: جاء أحمد بن صالح يوضئ أبا عبد الله يوماً، وقد بلّ أبو عبد الله خرقةً فألقاها على رأسه، فقال له أحمد بن صالح: يا جدي أنت محموم، قال أبو عبد الله: وأنّى لي بالحمّى؟ وعن رحيلة قال: كنت على باب أحمد بن حنبل والباب مجافٌ، وأم ولده تكلمه، وتقول له: إنا معك في ضيقٍ، منزل بيت صالح يأكلون ويفعلون، وهو يقول: قولي خيراً، وخرج الصبي معه، فبكى، فقال له: أيّ شيء تريد؟ قال: زبيب، قال: اذهب فخذ من البقّال حبة. وعن أبي بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل. وقال: سمعت أبا عبد الله يقول: أسرُّ أيامي إليَّ يومٌ أصبح وليس عندي شيء.

وعن صالح بن أحمد قال: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر فينفض الغبار عنها، ثم يصيّرها في قصعة، ثم يصبُّ عليها ماءً حتى تبتلّ، ثم يأكلها بالملح، وما رأيته قطّ اشترى رمّاناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة، إلا أن يكون يشتري بطيخة، فيأكلها بخبزٍ أو عنباً أو تمراً، فأما غير ذلك فما رأيته قطّ اشتراه، وربما خبز له فيجعل في فخّاره عدساً وشحماً وتمرات شهريز (¬1)، فيخص الصبيان بقصعة فيصوت ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون، ولا يأكلون، وكان كثيراً ما يأتدم بالخل، وكان يشترى له شحم بدرهم، فكان يأكل منه شهراً، فلما قدم من عند المتوكل أدمن الصوم، وجعل لا يأكل الدسم، فتوهّمت أنه كان جعل على نفسه إن سلم أن يفعل ذلك. وعن النيسابوري صاحب إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأمير: إذا جاء إفطاره أرنيه، قال: فجاؤوا برغيفين خبز وخيارة. فأريته الأمير فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يقنعه. وعن الحسن بن خلف الصائغ قال: جاءني المروزي في علة أبي عبد الله، قال: أبو عبد الله عليل، فذهبت بالمتطبّب، فدخلنا عليه. قال: ما حلك؟ قال: احتجمت أمسٍ. قال: وما أكلت؟ قال: خبزاً وكامخاً (¬2) قال: يا أبا عبد الله تحتجم، وتأكل خبزاً وكامخاً؟ قال: فما آكل؟ وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد. ¬

(¬1) نوع من التمر مشهور. (¬2) الكامخ: إدام يؤتدم به، وخصه بعضهم بالمخللات.

وقال المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، فما أشتهيه. وعن إبراهيم بن شماس قال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام يحيي الليل. وعن المروزي، قال سمعت أبا عبد الله يقول: قد وجدت البرد في أطرافي ما أراه إلا من أدماني أكل الخل والملح. وعن سليمان بن داود الشاذكوني: أن أحمد رهن سطلا عند فاميّ (¬1) فأخذ منه شيئاً يتقوّته، فجاء فأعطاه فكاكه فأخرج إليه سطلين، فقال: انظر أيهما سطلك؟ فخذه، قال: لا أدري أنت في حلٍّ منه، ومما أعطيتك، ولم يأخذ، قال الفامي: والله إنه لسلطه، وإنما أردت أن أمتحنه فيه. وعن عبد الله بن أحمد قال: كان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق. وعنه قال: كنت أسمع أبي كثيراً يقول في دبر الصلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، صنه عن المسألة لغيرك. 6 - شيء من دعائه: عن أبي عيسى عبد الرحمن بن زاذان قال: صلّينا، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل حاضر، فسمعته يقول: "اللهم من كان على هوى أن على رأي، وهو يظن أنه على الحق وليس هو الحق، فردّه إلى الحق حتى لا يضلّ من هذه الأمة أحدٌ، اللهم لا تشغل قلوبنا ¬

(¬1) الفامي: نسبة إلى (فامية) بلدة في العراق.

بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولًا لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشرِّ ما عندنا، ولا ترنا حيث نهيتنا، ولا تفقدنا من حيث أمرتنا، أعزَّنا ولا تذلّنا، أعزَّنا بالطاعة ولا تذلّنا بالمعصية". 7 - كان يكره أن يطلب منه الناس الدعاء: وعن علي بن أبي حرارة، قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل، فسله أن يدعو الله لي، فمضيت، فدققت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: رجل من أهل ذلك الجانب، سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجلٍ مغضبٍ، وقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فولّيت منصرفاً، فخرجت عجوز من داره، فقالت: أنت الذي كلّمت أبا عبد الله؟ قلت: نعم. قالت: قد تركته يدعو الله لها. قال: فجئت من فوري إلى البيت، فدققت الباب فخرجت على رجليها تمشي، حتى فتحت لي الباب، وقالت: قد وهب الله لي العافية. 8 - ثابته على الفتنة في البلاء والرخاء: وعن ميمون بن الأصبغ قال: كنت ببغداد، فسمعت ضجةً فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يمتحن، فدخلت فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: {قُلْ لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] فضرب تسعةً وعشرين سوطاً. وكانت تكّة أحمد حاشية ثوبٍ فانقطعت، فنزل السراويل عانته، فرمى أحمد طرفه إلى السماء، وحرّك شفتيه، فما كان بأسرع أن بقي السراويل لم ينزل.

فدخلت إليه بعد سبعة أيام فقلت: يا أبا عبد الله رأيتك تحرّك شفتيك، فأي شيء قلت؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي ستراً. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة من أبو الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة من أبو الهيثم؟ فقال: لما أخرجت للسياط، ومدّت يداي للعقابين، إذا أنا بشاب يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. فقال: أنا أبو الهيثم العيّار اللص الطرّار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوطٍ بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان، لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن، لأجل الدين، قال: فضربت ثمانية عشر سوطاً بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفاً، وخرج الخادم فقال: عفا عنه أمير المؤمنين. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي: يا بني لقد أعطيت المجهود من نفسي، قال: وكتب أهل المطامير إلى أحمد بن حنبل: إن رجعت عن مقالتك ارتددنا عن الإسلام. وعن أحمد بن سنان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حلٍّ في يوم فتح بابك أو في فتح عمورية فقال: هو في حلّ من ضربي. وقال إبراهيم الحربي: أحلّ أحمد بن حنبل من حضر ضربه، وكلَّ من شايع فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي دواد داعية لأحللته. وقال صالح بن أحمد بن حنبل، ورد كتاب علي بن الجهم: إن أمير المؤمنين، يعني المتوكل قد وجّه إليك يعقوب المعروف بقوصرة، ومعه جائزة، ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال، فيّتسع القول لمن يبغضك.

فلما كان من الغد ورد يعقوب، فدخل عليه، فقال: يا أبا عبد الله، أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول: قد أحببت أن آنس بقربك، وأن أتبَّرك بدعائك، وقد وجّهت إليك عشرة آلاف درهم معونةً على سفرك. أخرج صرّةً فيها بدرة نحو مائتي دينار، والباقي دراهم صحاح، فلم ينظر إليها، ثم شدّها يعقوب، وقال له: أعود غداً حتى أبصر ما تعزم عليه وانصرف. فجئت بإجّانة خضراء، فكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا صيّره عندك، فصيّرتها عند رأسي فوق البيت، فلما كان سحراً إذا هو ينادي: يا صالح، فقمت فصعدت إليه، فقال: ما نمت ليلتي هذه، فقلت: لم يا أبة؟ فجعل يبكي، وقال: سلمت من هؤلاء، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قد عزمت على أن أفرّق هذا الشيء إذا أصبحت، فقلت: ذاك إليك، فلما أصبح قال: جئني يا صالح بميزان؛ وقال: وجّهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجّه إلى فلان، يفرّق في ناحية، وإلى فلان، فلم يزل حتى فرّقها كلّها، ونفضت الكيس، ونحن في حالةٍ الله تعالى بها عليم. فجاء بنيّ لي فقال: يا أبة أعطني درهماً، فنظر إليّ، فأخرجت قطعةً، فأعطيته، وكتب صاحب البريد: إنه قد تصدق بالدراهم من يومه، حتى تصدّق بالكيس. قال عليّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين: قد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال؟ وإنما قوته رغيف. فقال لي: صدقت يا عليّ. قال صالح: ثم أخرجنا ليلاً معنا حراس، معهم النفّاطات (¬1)، فلما أضاء الفجر قال لي: يا صالح معك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم، فأعطيتهم ¬

(¬1) ضرب من السرج يستصبح به، أو أدوات من النحاس يرمى فيا بالنفط والنار.

درهماً درهماً، ودخلنا العسكر، وأبي منكّس الرأس، ثم أنزل دار إيتاخ، وجاء عليّ بن الجهم، فقال: قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرّقها، وأمر أن لا يعلم بذلك فيغتمّ. ثم جاءه أحمد بن معاوية فقال: إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك، ويشتهي قربك، وتقيم ههنا تحدّث؟ فقال: أنا ضعيف. ثم حمل إلى دار الخلافة. فأخبرني بعض الخدم أن المتوكل كان قاعداً وراء ستر، فلما دخل أبي الدار قال لأمه: يا أماه قد أنارت الدار. ثم جاء خادم بمنديل فيه ثياب فألبس، وهو لا يحرك يديه، فلما صار إلى الدار نزع الثياب عنه، ثم جعل يبكي، ثم قال: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم؟ ثم قال: يا صالح وجّه هذه الثياب إلى بغداد تباع وتصدّق بثمنها، ولا يشتري أحد منكم شيئاً منها. وأجريت له مائدة وثلج، وضرب الخيش، فلما رآه تنحّى، فألقى نفسه على مضربةٍ له، وجعل يواصل ويفطر في كل ثلاثةٍ على تمرٍ شهريز. فمكث كذلك خمسة عشر يوماً، ثم جعل يفطر ليلةً وليلةً، ولا يفطر إلا على رغيف، وكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها، فيأكل من حضر. وأمر المتوكل أن تشترى لنا دار، فقال: يا صالح لئن أقررت لهم بشراء دار، لتكونن القطيعة بيني وبينك، فلم يزل يدفع شرى الدار حتى اندفع. ثم انحدرت إلى بغداد، وخلّفت عبد الله عنده، فإذا عبد الله قد قدم، وقد جاء بثيابي التي كانت عنده، فقلت له: ما جاء بك؟ فقال: قال لي: انحدر، وقل لصالح: لا تخرج، فأنتم كنتم آفتى، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أخرجت واحداً منكم معي، ولولا مكانكم لمن كانت توضع هذه المائدة؟

وفي رواية أخرى: ثم إنه مرض، فأذن له المتوكل في العود إلى بغداد فعاد. 9 - وفاة الإمام أحمد: توفي - رضي الله عنه - في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وقد استكمل سبعاً وسبعين سنة. قال المروزي: مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومرض تسعة أيام وتسامع الناس، فأقبلوا لعيادته، ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون، فربما أذن للناس، فيدخلون أفواجاً يسلّمون عليه، فيرد عليهم بيده. وقال أبو عبد الله: جاءني حاجبٌ لابن طاهر فقال: إن الأمير يقرئك السلام، وهو يشتهي أن يراك، فقلت له: هذا مما أكره، وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره. ووضأته فقال: خلّل الأصابع، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس، حتى ملؤوا السكك والشوارع، فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجّت. وعن إسحاق قال: مات أبو عبد الله وما خلّف إلا ست قطع أو سبع، وكانت في خرقةٍ كان يمسح بها وجهه قدر دانقين. وعن حنبل قال: أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال: هذا من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يجعل على كل عين شعرة، وشعرة على لسانه، ففعل ذلك به بعد موته. وعن صالح بن أحمد قال: قال لي أبي جئني بالكتاب الذي فيه حديث ابن إدريس عن ليث عن طاووس أنه كان يكره الأنين، فقرأته عليه، فلم يئنّ إلا في الليلة التي مات فيها.

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده، وبيدي الخرقة لأشد بها لحييه، فجعل يعرق ثم يفيق، ثم يفتح عينيه، ويقول ببيده هكذا: لا بعد لا بعد، ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبة أي شيء هذا، قد لهجت به في هذا الوقت، تعرق حتى نقول: قد قضيت، ثم تعود فتقول: لا بعد، لا بعد. فقال لي: يا بني ما تدري ما قلت؟ قلت: لا. فقال: إبليس لعنه الله قائم حذائي عاضّ على أنامله يقول لي: يا أحمد فتَّني، فأقول: لا بعد، لا بعد، حتى أموت. وعن بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد بن حنبل فيمن حضر، قال: فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة، وحزر من حضرها من الرجال ثمان مائة ألف، ومن النساء ستين ألف امرأة. وعن موسى بن هارون قال: يقال: إن أحمد بن حنبل لما مات مسحت الأمكنة المبسوطة التي وقف الناس عليها للصلاة فحزر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ستمائة ألف وأكثر، سوى ما كان في الأطراف والحوالي والسطوح والمواضع المتفرقة أكثر من ألف ألف. وقال أبو بكر المروزي: رأيت أحمد بن حنبل في النوم كأنه في روضة، وعليه حلّتان خضراوان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشي مشيةً لم أكن أعرفها، فقلت: يا أحمد ما هذه المشية التي لم أكن أعرفها لك؟ فقال: هذه مشية الخدّام في دار السلام، فقلت: ما هذا التاج الذي أراه على رأسك؟ فقال: إن ربي عز وجل أوقفني، وحاسبني حساباً يسيراً، وحباني وقرّبني وأباحني

14 - الداعية المجاهد سعيد بن جبير

النظر إليه، وتوّجني بهذا التاج، وقال لي: يا أحمد، هذا تاج الوقار توّجتك به كما قلت: القرآن كلامي غير مخلوق. وعن أبي يوسف بن لحيان قال: لما مات أحمد بن حنبل رأى رجل في منامه كأن على كل قبر قنديلاً فقال: ما هذا؟ فقيل له: أما علمت أنه نوّر لأهل القبور قبورهم بنزول هذا الرجل بين أظهرهم، قد كان فيهم من يعذَّب فرحم. وعن أبي علي بن البناء قال: لما ماتت أم القطيعي دفنها في جوار أحمد بن حنبل، فرآها بعد ليال، فقال: ما فعل الله بك؟ فقالت: يا بني رضي الله عنك، فلقد دفنتني في جوار رجل تنزل على قبره في كل ليلةٍ - أو قال في كل ليلة جمعةٍ - رحمةٌ، تعمّ جميع أهل المقبرة، وأنا منهم [صفة الصفوة: 2/ 336 - 359]. 14 - الداعية المجاهد سعيد بن جبير تقديم: سعيد بن جبير الداعية الذي وقف في وجه الظلم والطغيان، وسلّ سيفه لحرب الحجاج، وعندما ظفر به الحجاج وأراد قتله، وقف في وجهه وقوف الجبال الصمّ الراسيات، لم تلن قناته، ولم ترتخ مفاصله، وأحسن جواب الحجاج، وحاوره فخصمه وأفحمه، أراد الحجاج الطاغية غلبته وإذلاله، فباح لسانه بقول فصيح، وحجَّة غالبة، وأقدم على الموت إقدام الذي لا يبالي به، فامتلأ الحجاج غيظاً، ولم يجد أمامه إلا أن يقتله، وكان ذلك ما كان سعيد يؤمله، ولم يبق الحجاج بعده إلا أياماً، ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأخذه الله إليه مذموماً مغلوباً مدحوراً، وقد أحسّ الحجاج بأنه غلب، فكان لا يهدأ باله، ولا تستقر أحواله ويكثر من قول: ما لي ولسعيد بن جبير، ويوم القيامة تجتمع الخصوم، فيحكم بينهم العزيز العليم.

ترجمته: 1 - التعريف به: قال ابن الجوزي: سعيد بن جبير، مولى لبني والبة. يكنى أبا عبد الله بن الحارثية، من بني أسد بن خزيمة. 2 - عبادته وتبتله: عن عبد الله بن مسلم قال: كان سعيد بن جبير إذا قام إلى الصلاة كأنه وتدٌ. عن القاسم بن أبي أيوب الأعرج، قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش. وقال القاسم بن أبي أيوب: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية [البقرة: 281]. قال يزيد بن هارون: أنبأنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين. عن هلال بن خبّاب قال: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج في كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة. وعن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: لدغتني عقرب، فأقسمت عليّ أمي أن أسترقي، فأعطيت الراقي يدي التي لم تلدغ، وكرهت أن أحنثها (¬1). 3 - كان مستجاب الدعوة: قال أصبغ بن يزيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديكٌ كان يقوم الليل بصياحه، (قال): فلم يصح ليلةً من الليالي حتى ¬

(¬1) أي كره أن يجعل أمة حانثة في يمينها والرقية (بضم فسكون): ما ينفثه الراقي على مكان اللدغ أو يقوله من كلام.

أصبح، فلم يصلِّ سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته؟ قال: فما سمع له صوتٌ بعدها، فقالت أمّه: يا بني لا تدع على شيء بعدها. عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية. عن يحيى بن عبد الرحمن قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] حتى يصبح. 4 - ما جرى لسعيد مع طاغية عصره الحجاج: قال المصنف: كان سعيد ابن جبير فيمن خرج على الحجاج من القراء، وشهد دير الجماجم (¬1)، فلما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة، فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة، فبعث به إلى الحجاج. وعن أبي حصين قال: أتيت سعيد بن جبير بمكة، فقلت: إن هذا الرجل قادم، يعني خالد بن عبد الله، ولا آمنة عليك، فأطعني واخرج، فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، قلت: والله إني لأراك كما سمّتك أمك، سعيداً. قال: فقدم مكة، فأرسل إليه فأخذه، فأخبرني يزيد بن عبد الله قال: أتينا سعيد بن جبير حين جيء به، فإذا هو طيب النفس، وبنيّة له في حجره، فنظرت إلى القيد فبكت، فشيّعناه إلى باب الجسر، فقال له الحرس: أعطنا كفلاء، فإنا نخاف أن تغرق نفسك. قال يزيد: فكنت فيمن كفِّل به. عن داود بن أبي هند قال: لا أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة ¬

(¬1) موقعة كانت بين جيش الحجاج وجماعة عبد الرحمن بن الأشعث.

الدعاء، ثم سألنا الشهادة، فكلا صاحبي رزقها، وأنا أنتظرها، فكأنه رأي أن الإجابة عند حلاوة الدعاء. عن عمر بن سعيد قال: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دعي ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة. عن الحسن قال: لما أتي الحجاج بسعيد بن جبير قال: أنت الشقي بن كسير؟ قال: بل أنا سعيد بن جبير. قال: بل أنت الشقي بن كسير، قال: كانت أمي أعرف باسمي منك، قال: ما تقول في محمد؟ قال: تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم. قال: سيد ولد آدم، المصطفى، خير من بقي وخير من مضى. قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مضى حميداً وعاش سعيداً، ومضى على منهاج نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير ولم يبدّل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله خيرة رسوله، مضى حميداً على منهاج صاحبيه، لم يغير، ولم يبدل. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً، المجهّز جيش العسرة، الحافر بئر رومة، المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابنتيه، زوّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من السماء. قال: فما تقول في عليّ؟ قال: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول من أسلم، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك. قال: بثّ بعلمك (¬1)، قال: إذاً نسوءك ولا نسرّك. قال: بثَّ بعلمك. قال: اعفني. قال: لا عفا الله عني إن ¬

(¬1) أي قل ما تعلم.

أعفيتك. قال: إني لأعلم أنك مخالفٌ لكتاب الله، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة، وهني التي تقحمك الهلاك، وسترد غداً فتعلم. قال: أما والله لأقتلنك قتلةً لم أقتلها أحداً قبلك ولا اقتلها أحداً بعدك، قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام، السيف والنَّطع، فلما ولّى ضحك، قال: قد بلغني أنك لم تضحك، قد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، ومن حلم الله عنك، قال: يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]، فصرف وجهه عن القبلة فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، قال: اضرب به الأرض، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم. قال ابن ذكوان: إن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير، فأصابه الرسول بمكة، فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره، ويقوم ليله، فقال الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك، فاذهب إلى أي طريق شئت، فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني، فإن خلّيت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه. قال: فذهب به، فلما دخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد ابن جبير. فقال: بل شقيّ بن كسير. فقال: أمّي سمّتني. قال: شقيت. قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنّك من دنياك ناراً تلّظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك.

ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نبيٌّ مصطفى، خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار أعزّ الله به الدين، وجمع به بعد الفرقة، قال: فما هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ قال: فاروق وخيرة الله من خلقه، أحبَّ الله أن يعزّ الدين بأحد الرجلين، فكان أحقُّهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: مجّهز جيش العسرة، والمشتري بيتاً في الجنة، والمقتول ظلماً، قال: فما تقول في عليّ؟ قال: أوّلهم إسلاماً، وأكثرهم هجرة، تزوج بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أحب بناته إليه. قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن؟ قال: سيُجزون بأعمالهم، فمسرورٌ ومثبور (¬1)، ولست عليهم بوكيل. قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت بنفسك أعلم، قال: بثَّ فيَّ علمك، قال: إذاً أسوءك ولا أسرّك، قال: بثَّ. قال: نعم، ظهر منك جورٌ في حدّ الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطّعنك قطعاً، وأفرِّقنَّ أعضاءك عضواً عضواً. قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك. قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: إني أشهدك إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة. ¬

(¬1) مثبور: هالك أو مطرود من رحمة الله.

فلما ذهبوا به ليقتل تبسّم، فقال له الحجاج: ممَّ ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح فأضجع فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79]. فقال: الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة، فقرأ سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. فقال: كبُّوه على وجهه، فقرأ سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. فذبح من قفاه. قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: اللهم يا قاسم الجبابرة اقسم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع في جوفه الدود فمات. عن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدت مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمّها. عن يحيى بن سعيد، عن كاتب الحجاج، يقال له يعلى، قال: كنت أكتب للحجاج، وأنا يومئذ غلام حديث السن، فدخلت عليه يوماً بعد ما قتل سعيد ابن جبير، وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت مما يلي ظهره، فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ فخرجت رويداً، وعلمت إنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب (¬1) الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً. وفي رواية أخرى: عاش بعده خمسة عشر يوماً، وفي رواية: ثلاثة أيام وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي. ¬

(¬1) أي لم يلبث.

عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه. قال المؤلف: أسند سعيد بن جبير عن علي - رضي الله عنه -، وابن عمر، وابن عمرو، وأبي موسى وابن المغفل، وعديّ بن حاتم، وأبي هريرة، وغيرهم، وأكثر رواياته عن ابن عباس. 5 - عمره يوم وفاته: وقتل في سنة أربع وتسعين، وقيل سنة خس وتسعين، وفي مدة عمره ثلاثة أقوال: أحدها سبع وخمسون سنة، وقد رويناها آنفاً. والثاني: تسع وأربعون سنة. قال أبو نعيم الفضل بن دكين في جماعة، والثالث: اثنتان وأربعون سنة. قاله علي ابن المديني [صفة الصفوة: 3/ 77 - 86].

المراجع

المراجع مرتبة على حروف المعجم 1 - أحكام الجنائز، للشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1388 هـ - 1969 م. 2 - أخلاق المسلم، أ. د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، سوريا، الطبعة الرابعة، 1429 هـ - 2008 م. 3 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، السعودية، الدمام، الطبعة الأولى، 1423 هـ. 4 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1385 هـ. 5 - تفسير القرآن العظيم، للحافظ إسماعيل بن كثير، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م. 6 - سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، بيت الأفكار الدولية، جدة. 7 - الجامع الصحيح، لمحمد بن إسماعيل البخاري، بيت الأفكار الدولية، جدة، 1419 هـ - 1988 م. 8 - الجامع الصحيح، لمسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، بيت الأفكار الدولية، جدة، 1419 هـ - 1998 م. 9 - جامع العلوم والحكم، لعبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، دار المعرفة، بيروت. 10 - جامع المسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الثانية، 1427 هـ. 11 - شرح العقيدة الواسطية، للدكتور صالح بن فوزان، وزارة الأوقاف، قطر، 1428 هـ - 2007 م. 12 - الزهد والرقائق، لعبد الله بن المبارك، مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. 13 - الزهد والورع والعبادة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: حماد سلامة، ومحمد عويضة، مكتبة المنار، الأردن، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م. 14 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392 هـ - 1972 م. 15 - سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة، 1413 هـ - 1994 م. 16 - شرح النووي على مسلم، ليحيى بن شرف النووي، دار الخير، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1994 م. 17 - صحيح الجامع الصغير، للشيخ ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408 هـ - 1988 م.

18 - صفة الصفوة، لجمال الدين، أبي الفرج بن الجوزي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1399 هـ - 1979 م. 19 - عمدة الحفاظ، لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. 20 - الفوائد، لمحمد بن أبي بكر بن القيم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولي، 1424 هـ - 1993 م. 21 - الفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار طويق، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ - 1993 م. 22 - الكليات، لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1413 هـ - 1993 م. 23 - لسان العرب، لابن منظور، ترتيب يوسف خياط، ونديم مرعسلي، طبعة لسان العرب، بيروت، الطبعة الأولى. 24 - مجلة البحوث الإسلامية، تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض. 25 - مجموعة المسلم في التوبة والترقي في مدارج الإيمان، للأستاذ الدكتور منير البياتي، دار النفائس، عمان، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2006 هـ. 26 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم، نشر المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى. 27 - المجموع القيم، لابن القيم، لمنصور بن محمد المقرن، دار طيبة، الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م. 28 - مختصر روضة العقلاء، لابن حبان البستي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 29 - مختصر الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: حامد الفقي، دارب ابن القيم، القاهرة، الطبعة الأولى، 1368 هـ - 1949 م. 30 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ - 1997 م. 31 - المطلع على أبواب المقنع، لمحمد ابن أبي الفتح الحنبلي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401 هـ - 1981 م. 32 - المفردات، للحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1381 هـ - 1961 م. 33 - الهدية في مواعظ الإمام ابن تيمية، تحقيق: سليم الهلالي، الطبعة الأولى، 1406 هـ. 34 - موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إشراف صالح بن عبد الله بن حميد، دار الوسيلة، جدة، الطبعة الخامسة، 1428 هـ - 2007 م. 35 - الوابل الصيب من الكلم الطيب، لمحمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية، دار الدعوة، القاهرة. 36 - الوصية الصغرى، لشيخ الإسلام ابن تيميمة، تحقيق: سليم الهلالي، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

§1/1