التقريب والإرشاد (الصغير)

الباقلاني

مقدمة التحقيق

التقريب والإرشاد (الصغير) للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ قدم له وحققه وعلق عليه الدكتور عبد الحميد بن علي أبو زنيد الجزء الأول مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم قال بدر الدين الزركشي في مقدمة البحر المحيط: "وكتاب التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر، هو أجل كتاب صنف في هذا العلم مطلقًا". وقال أيضًا: (حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لأحب نارهم، فحرروا وقرروا وصوروا، فجزاهم الله خير الجزاء).

التقريب والإرشاد (الصغير) 1

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثانية 1418 هـ / 1998 م طبعة جديدة مُصححة ومُنقحة حقوق الطبع محفوظة (1993 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يُسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

افتتاحية

افتتاحية الحمد لله الذي تقدست عن الشبيه ذاته، وتنزهت عن سمات الحدوث صفاته، وشهدت بربوبيته وألوهيته مخلوقاته، وأذعنت الجبابرة لعزته وعظيم سلطانه. سبحان من إله اتصف بصفات الكمال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويوصل ويقطع، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ} كما نطق بذلك صريح آياته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا ضد ولا ظهير، تنزه عن الولد والوزير، الكل خلقه وإليه المصير، وهو الهادي من يشاء إلى سواء السبيل. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، والمبلغ عنه أمره ونهيه. صلوات ربي وسلامه عليه - أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك - وعلى الآل والصحب من الأنصار والمهاجرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من العلماء العاملين والأئمة المجتهدين، وعباد الله الصالحين، الذين قارعوا أهل الكفر بالسنان، وأهل الزيغ والضلال باللسان، والحجة والبرهان وبعد: فإن كثيرًا من تراث الأمة الإسلامية الضخم الذي خطته أيدي علمائها الأماجد عبر القرون الغابرة قد عدت عليه العوادي، فذهب أدراج الرياح،

وأصبح خبرًا بعد عين. والذي قدر الله له النجاة من هذا التراث ينبئ عن قساوة الفادحة وعظم المصيبة، من خلال ما ضمه من نقول واقتباسات من الأسفار التي ضاعت في خضم الأهوال. فأصبحنا لا نعرف عنه شيئًا إلا هذه النقول التي في بطون الكتب التي سلعت من الهلاك. ولعل أعظم من مُني به التراث الإسلامي الزاخر هو دخول جحافل التتار بغداد، التي زحفت من المشرق لتهلك الحرث والنسل، وتعيث في الأرض الفساد، فدخلت دار السلام في منتصف القرن السابع وأشعلت النيران في دار الحكمة وغيرها، فالتهمت النيران أكداس الكتب، وتصاعدت ألسنة النيران لتبلغ عنان السماء فتظلم بغداد بدخان الكتب الكثيف، الذي أشبه بثوب الحداد على المصاب الأليم الفقيد الغالي. وألقى الغزاة أكداسًا أخرى من الكتب في دجلة لتصبح جسورًا يعبرون عليها. فانقلب ماء دجلة العذب الرقراق إلى لون القطران من سواد مداد الكتب. وقد أجمع المؤرخون على أنه لم يمر على الأمة الإسلامية يوم فيه من الأهوال ما كان في يوم دخول التتار بغداد. قال ابن الأثير في الكامل: "فلو قال قائل إن العالم منذ أن خلق الله أدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صدقًا، وما فعله بختنصر باليهود من القتل وتخريب بيت المقدس فبينه وبين فعل التتار بون شاسع، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وفعل الدجال عند ظهوره يهون عن فعلهم. فقد قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، وقد استطار شررهم وعم ضررهم".

هذا وصف بليغ، وتصوير صادق لعظم المأساة، ولعل فيما حكاه ابن الأثير سلوة لنا عما يقع في هذه الأيام على كثير من المسلمين في شمال العالم وجنوبه من التنكيل بالرجال والنساء والأطفال بأسلوب وحشي يغذيه الحقد على الإسلام وأهله، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون. كان من بين الذين ضمتهم بغداد ردهة من الزمن، وكان له حضور متميز في مجالس المناظرات، وتأثير في حركتها العلمية المناظر البارع والأصولي الفذ، جامع شتات علم أصول الفقه، فقد كان له الفضل في جمع شوارد علم أصول الفقه ونوادره، واستوفى مباحثه ومسائله، كما سيظهر لك ذلك جليًا عند ذكر مؤلفاته. فقد كان كل من أتى بعده من الأصوليين عالة عليه، وخاصة من صنف على طريقة المتكلمين، فأكثروا من النقل عنه ومحاكاته في مصنفاته. منذ أن بدأت النهضة العلمية الحديثة المباركة اشرأبت الأعناق لاستشراف مصنفاته وتاقت النفوس وتمنت العيون أن تكتحل برؤيتها، وخاصة كتابه الموسوم ب"التقريب والارشاد" لما ورد من الثناء عليه من مؤرخي العلوم ومصنفي طبقات الفقهاء وغيرهم. ومنذ فترة طويلة وأنا أقلب فهارس المخطوطات بحثًا عن الجيد النافع، حتى استوقفني عنوان "التقريب والإرشاد" في فهرس المكتبة الآصفية بالهند ولكنني وجدته منسوبًا للحافظ محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا المقدسي. فأوهم ذلك أنه كتاب آخر شابه عنوانه عنوان كتاب القاضي الباقلاني، فأسقط في يدي، وتركت الأمر. وبعد أن مضى أكثر من اثني عشر عامًا رجعت الخواطر مرة أخرى فقررت إحضار صورة المخطوط لأقابله بكتاب "تلخيص التقريب" لإمام الحرمين الجويني الذي أقتني مصورًا له. وأعرضه على النقول الكثيرة التي ينسبها إليه الزركشي في بحره

المحيط فإذا بالحلم يتحقق، واعثر على البغية وأجد الأمر كما توقعت. وزادت فرحتي بأن وجدت المخطوطة خالية من كل نقص واضحة الخط جدًا، فحمدت الله سبحانه وبدأت أقلب العديد من فهارس المخطوطات لعلي أجد لها شقيقة تؤازرها فلم أعثر حتى الآن على شيء. فباشرت بالنسخ، وشرعت في التحقيق لأخرج هذا السفر النفيس من ضياع دام عشرة قرون، ولا أريد أن أشرح لمطالعه ما لقيته من العناء، وما صرفته من الوقت في تحقيق نصه وإخراجه في هذا الثوب، الذي أرجو أن يرضى عنه طلاب العلم ورواد المعرفة، فمن غير شك سيدرك الناظر فيه ذلك. وكل ما أريد أن أقوله: إن تحقيق المخطوطات من نسخة وحيدة أمره عظيم وخطره جسيم، ففي تعدد النسخ خير معين على سد الخلل وتدارك النقص والتصحيف، الذي يقع على يد النساخ، فكون النسخة وحيدة يتطلب من المحقق مراجعة المسألة في العديد من الكتب التي استقى منها المصنف مادته العلمية - إن وجدت - ومراجعتها في الكتب التي اعتمدت عليه، وأكثرت من النقل عنه. ولهذا لم يفارقني كتاب إمام الحرمين "تلخيص التقريب" بل صاحبني بابًا بابًا وفصلًا فصلًا. وكذلك كتاب إمام الحرمين "البرهان" وكتاب الغزالي "المستصفى" و"البحر المحيط" للزركشى. وقد قدمت لهذا الكتاب بدراسة للمؤلف والكتاب لإنارة الطريق وإلقاء الضوء على الكثير مما يتعلق بالكتاب ومؤلفه لمن يريد المطالعة فيه. ومع هذا فإن الكمال لله وحده والنقص من سمات البشر، وما أبريء نفسي عن الخطأ والزلل، وحسبي أنني بذلت قصارى جهدي. وإني لأرجو أن يكون إخواني العلماء وأبنائي طلبة العلم قد وجدوا في صدور هذا الكتاب بغيتهم، سائلًا المولى عز وجل أن يلهمنا السداد والإخلاص في القول والعمل، وأن يكون عملنا في هذا الكتاب لنا ذخرًا، وأن ينفع به كل من طالعه، إنه مولي النعم ودافع النقم، فله الحمد أولًا وأخرًا. المحقق

القسم الدراسي وفيه مقدمة وبابان المقدمة: وهي في الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الباقلانى. الباب الأول: في ترجمة الباقلانى. الباب الثاني: في دراسة كتابة التقريب.

.....................

المقدمة

المقدمة وفيها مبحثان المبحث الأول الحالة السياسية في القرن الرابع الهجري عاش أبو بكر الباقلاني في المشرق الإسلامي متنقلًا بين البصرة وبغداد شيراز وغيرها في القرن الرابع الهجري، في وقت انقسمت فيه الدولة الإسلامية إلى دويلات بعد أن ضعفت سلطة الخليفة العباسي، بل تلاشت، ولم يبق له إلا ذكر اسمه في الخطبة ونقش اسمه على العملة. لقد كان من أقوى الدويلات في المشرق دولة بني بويه، التي تأسست سنة 322 هـ على يد أبي شجاع بويه، الذي كان من سكان جبال الدلم جنوب غرب بحر قزوين. وهو من أصل فارسي لا يحسن العربية. دخل في خدمة السامانيين أولًا، ثم انضم إلى خدمة مرادويج مؤسس دولة بنى زيار سنة 318 هـ. وفي سنة 320 هـ عين مردوايج ولد بويه الأكبر "عليا" ومالوا إليه، ثم بدأ في تحقيق أطماعه، فاحتل أصبهان سنة 321 هـ، ثم كرمان والأهواز والري وهمذان وشيراز سنة 322 هـ وما بعدها بمساعدة أخويه حسن وأحمد. ثم أعلن أولاد بويه استقلالهم عن الخليفة العباسي، فاضطر للاعتراف بهم أنهم نوابه. اتخذ علي بن بويه شيراز مركزًا لدولته إلى أن توفي سنة 338 هـ. فتولى الحكم أخوه حسن الذي نقل دولته للري. وبقيت الري مركزًا لدولته إلى أن توفى سنة 366 هـ.

أما بغداد فقد دخلت في حكم بني بويه في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة 344 هـ حيث توجه إليها أحمد الابن الأصغر لبويه فدخلها وخلع الخليفة العباسي "المستكفي" على أبناء بويه الثلاثة ألقابًا فسمى عليًا "عماد الدولة" وحسنا "ركن الدولة"، وأحمد "معز الدولة وأمير الأمراء". وأمر أن تُنقش اسماؤهم على الدنانير والدراهم. ولكن معز الدولة البويهي جازى الخليفة "المستكفي" على هذا جزاء سنمار. فجرده من جميع سلطاته، وصادر أمواله، وأجرى عليه خمسة آلاف درهم يوميًا لنفقاته، ثم أجبره على التنازل عن الخلافة للمطيع لله. فعامله معاملة في غاية الإذلال والإهانة وسمل عينيه، مما يدل على حقد دفين على بني العباس خاصة، وأهل السنة عامة، لأن بني بويه من الشيعة الزيدية على مذهب الفرقة "السليمانية" نسبة لسليمان بن جرير، بل حاول أحمد معز الدولة نقل الملك للعلويين لولا أن نبهه بعض حاشيته لعواقب ذلك. وفي سنة 356 هـ توفى معز الدولة أحمد، فآل الأمر إلى ولده "بختيار" الملقب بعز الدولة. ولم تكن معاملته للخليفة بأحسن من سلفه، بل ضيق على الخليفة العباسي "المطيع لله" حتى اضطره إلى بيع ثيابه، وأجبره على التنازل للطائع سنة 363 هـ. ثم حدث للطائع ما حدث لوالده على يد بهاء الدولة البويهي سنة 382، وأجبره على التنازل للقادر بالله، الذي بقي على كرسي الخلافة خمسون عامًا. وفي سنة 367 هـ آل أمر بني بويه إلى عضد الدولة بن ركن الدولة فنقل مركز الدولة إلى بغداد وبقيت بغداد مركزًا للدولة إلى سنة 389 هـ، حيث نقلها بها الدولة إلى شيراز مرة أخرى.

بعد ذلك دب الخلاف والنزاع بين بني بويه. وأخذت دولتهم في التقلص وشوكتهم في الضعف. واستمروا على ذلك من سيئ إلى أسوأ حتى سقطت دولتهم سنة 447 هـ بدخول "طغرل" بيك بغداد. هذه اللمحة التاريخية عن الحالة السياسية في المشرق الإٍسلامي عامة، وعن دولة بني بويه خاصة تدل على عدم الاستقرار السياسي إلا في بعض فترات الحكم، كالفترة التي تولى فيها الحكم عضد الدولة البويهي، الذي كان للباقلاني صلة به. فقد كان عضد الدولة من أقوى حكام بني بويه شخصية وأبعدهم نظرًا. وقد كان للوزراء في دولة بني بويه شأن عظيم ومنزلة رفيعة. وبيدهم مقاليد تصريف كثير من أمور الدولة. ولقد كان للباقلاني دور سياسي بارز حيث استقدمه عضد الدولة إلى شيراز من البصرة، وألحقه بمجالس العلماء في قصره. وفي عام 371 هـ أرسله عضد الدولة على رأس سفارة إلى ملك الروم "باسيلوس الثاني" على أثر طمع بعض قادة الروم في ملك باسيلوس. فالتجأ القائد الطامع في الحكم واسمه "ورد" إلى عضد الدولة طلبًا للنصرة والحماية، فأرسل باسيلوس وأخوه لعضد الدولة يعرضان عليه تسليم القائد مقابل إطلاق سراح جميع أسرى المسلمين في بلاد الروم، وعلى أثر ذلك أرسل عضد الدولة القاضي الباقلاني للتفاوض، وعاد الباقلاني يحمل مشروع معاهدة حول ذلك الأمر. ومن ذلك تظهر مكانة الباقلاني عند عضد الدولة. ولم يقتصر الباقلاني في تلك السفارة على دوره السياسي، بل قام بمناظرات دينية، تدل على مدى غيرته على دينه وعلو همته وعزة نفسه، سنذكرها في فصل مناظراته إن شاء الله.

وذكر ابن الأثير في الكامل للباقلاني موقفًا سياسيًا آخر. وهو أن "قرواش بن المقلد" أمير بني عقيل، الذي ألت له السيطرة على الموصل والأنبار والمدائن والكوفة في عهد الخليفة العباسي "القادر بالله" خطب للحاكم بأمر الله الفاطمي، فأرس الخليفة لبهاء الدولة البويهي يستحثه على إخماد الفتنة، فكان للباقلاني دور في إرجاع الخطبة للخليفة العباسي.

الحالة الاجتماعية والثقافية في القرن الرابع الهجري

المبحث الثاني الحالة الاجتماعية والثقافية في القرن الرابع الهجري الحالة الاجتماعية: نظرًا للاضطراب السياسي الموجود في ذلك القرن، وعدم الاستقرار النفسي في داخل دولة بني بويه، الذي كان من مظاهره نقل مركز الحكم في عهد بني بويه عدة مرات بني بغداد وشيراز وغيرهما. ثم تطاول بنو بويه على الخليفة العباسي، ومعاملته معاملة في غاية الإذلال والاحتقار، بدافع بطر القوة أولًا، واعتناق بني بويه للتشيع مذهبًا وميلهم للعلويين ثانيًا وما يحملونه من حقد على أهل السنة عمومًا وبني العباس خصوصًا ثالثًا. كل ذلك حملهم على سلب الخلفاء كل ما كان لهم من حاشية ووزراء ونفوذ. فأصبح الوزراء لبني بويه دون الخليفة. ومظهر آخر من مظاهر عدم الاستقرار تمثل في كون بني بويه لم يكن لهم خلق المسلم من الوفاء لمن لاذ بهم من الوزراء والقضاة وغيرهم، بل نالهم ما نال الخلفاء من مصادرة الأموال والبطش بهم، نذكر بعض النماذج لا على سبيل الاستقصاء والحصر. فمعز الدولة البويهي صادر من ابن شيرازاد خمسمائة ألف درهم. وصادر من صاحب شرطته "الإبزاعجي" ثلاثماية ألف درهم. وصادر جميع أموال وزيره "المهلبي" لما توفى سنة 352 هـ.

وصادر بها الدولة أموال وزيره - سابور بن أردشير - فبلغت مليوني دينار. وصادر عضد الدولة البويهي أموال القاضي أبي على الحسن بن علي التنوخي. وصادر فخر الدولة البويهي جميع أموال وزيره الصاحب بن عباد لما توفي، وصادر أموال قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد كذلك. ولم يبطل هذا التقليد من مصادرة الأموال، وعدم الوفاء إلا على يد شرف الدولة البويهي، على ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم. أطلق بنو بويه لوزرائهم اليد في تصريف شئون البلاد والعباد، فاستغلوا مناصبهم، فأثروا ثراء فاحشًا على حساب عامة الناس، الذين كانوا في فقر مدقع، معظمهم لا يحصل على لقمة العيش، فأصبحت الطبقية مسيطرة في أجلى صورها ومظاهرها. وهذا الواقع يؤدي إلى التفكك بين فئات المجتمع، وإلى عدم التآلف. زد على ذلك الاختلاف في المعتقد بين جمهور الناس والطبقة الحاكمة. فغالبية الناس يعتقدون مذهب أهل السنة. وأما بنو بويه ووزراؤهم وقضاتهم يعتقدون مذهب المعتزلة، الذين استغلوا نصرة السلطان لسوم أهل السنة الكثير من الاضطهاد والمضايقة في اعتقاداتهم. ذكر ابن الأثير في الكامل أن بني بويه كانوا يؤججون نار الفتنة بين أهل السنة والشيعة فيأمرن بلعن معاوية بن أبي سفيان، والتهجم والطعن على الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول - فقد أمر الدولة في العاشر من

الحالة الثقافية

محرم سنة 352 هـ. بإغلاق الحوانيت في بغداد، وإبطال البيع والشراء في الأسواق، وإظهار النياحة، وأن تخرج النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن وجوههن على الحسين بن علي - رضي الله عنهما - وأمر في الثامن عشر من ذي الحجة من نفس العام بإظهار الزينة وإشعال النيران احتفالًا بعيد "غديرخم" مما كان يؤدي إلى قيام اضطرابات مسلحة بين الناس والجند. الحالة الثقافية: بالرغم مما كانت عليه الحالة السياسية من عدم الاستقرار، وما كانت عليه الحالة الاجتماعية من التفكك وانتشار الظلم، فإن هذا لم يضعف الحركة العلمية والثقافية والفكرية، بل قد أججها وزادها قوة، وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها: أولًا: إن الصراع العقدي الموجود بين المعتزلة وأهل السنة من جهة، والشيعة وأهل السنة من جهة أخرى أثرى الفكر الإسلامي، لما كان يدور بينهم من مناظرات في ردهات القصور وعند سواري المساجد. وكذلك فقد نشط التأليف من شتى الفرق والمدارس ليبين كل معتقده ومذهبه بيانًا شافيًا، كما يرد على طعون خصومهم بإسهاب، فألفت المطولات، وخاصة في الاعتقاد. ولم يقتصر كل إمام على مصنف أو مصنفين، بل تجد للواحد منهم العديد من المصنفات. وسيظهر لك هذا الأمر جليًا عند ذكر مصنفات القاضي الباقلاني. التي كان معظمها في مباحث العقيدة وإن تعددت مواضيعها، والفرق التي نقدها، وأبطل ما هي عليه بأدلة ساطعة وبراهين

جلية مع بيان مذهبه الذي يدين الله به وينتصر له. كما يظهر تعدد المصنفات واتساع بسط الاستدلال - أيضًا - في مصنفات قرينه ومعاصرة قاضي قضاة المعتزلة عبد الجبار بن أحمد الذي ألف العديد من كتب الاعتقاد. وعلى رأسها موسوعته التي سماها بالمغني. والتي عثر حتى الآن على أكثر من عشرين مجلدًا منها. ثانيًا: كان كل أمير ووزير يحرص على أن يكون في بلاطه وردهات قصره كبار المفكرين في شتى نواحي المعرفة من الأدباء والشعراء والمتكلمين والفقهاء، يحيطهم برعايته ويغدق عليهم. ويعتبرون عملهم هذا مدعاة للفخر والاعتزاز. ومن هنا ندرك سبب حرص عضد الدولة على استقدام القاضي الباقلاني من البصرة إلى شيراز لكي يمثل أهل السنة في مجالسه العلمية، وإن كان هو معتزليًا رافضيًا. كما أن السبب نفسه هو الذي دفع بالصاحب ابن عبد إلى استقدام عبد الجبار بن أحمد الذي أصبح قاضي قضاة المعتزلة إلى الري. ثالثًا: شيوع الاضطراب السياسي، وانتشار الظلم في المجتمع قد يكون سببًا في حمل كثير من أهل الفكر وذوي العقول الراجحة أن يفروا من العمل السياسي إلى العمل العلمي، وبذلك يتوفر لهم الوقت الطويل للانقطاع للإنتاج العلمي. وهيبة العلماء وحرمتهم وقعت في نفوس كثير من الأمراء. وكان عدم انغماسهم في العمل السياسي ملاذًا لهم من بطش الأمراء والوزراء. فليس من الضروري أن يتبع العمل العلمي والثقافي العمل السياسي قوة وضعفًا.

رابعًا: لقد تولى الوزارة لبني بويه طائفة من كبار الأدباء والعلماء والمفكرين، الذين شجعوا العلم واعتنوا به عناية فائقة. واقتنوا عيون كتب الأدب والفكر بشتى فنونه، وأنفقوا الأموال الطائلة على ذلك. ومن أبرز هؤلاء ابن العميد، الذي قيل فيه "بُدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد". ومنهم الصاحب بن عباد، الذي كان وزيرًا لمؤيد الدولة، ثم لفخر الدولة. وكانت مجالسهما العلمية والأدبية أعظم من أن توصف. وكانت تضم من فحول الشعراء وأساطين الأدب وفحول المتكلمين والفقهاء مالا يحصى كثرة، بالرغم من أنهما فارسيان. ولكنهما كانا في غاية العناية باللسان العربي. بل فاقا كثيرًا من العرب. وكان من الوزراء الذين اعتنوا بالأدب والعلم، وبذلوا فيه الغالي والنفيس الوزير المهلبي، الذي كان وزيرًا لمعز الدولة، ومنهم - أيضًا - الوزير ابن سعدان، وزير صمصام الدولة، وسابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة. ولم تقتصر العناية بالأدب والعلم والفكر على الوزراء بل كان هذا شأن بني بويه، وعلى الأخص عضد الدولة، الذي كان يؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء على ما ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر. كما أنه كان يقول الشعر، ويحكم على معانيه. وقد خصص في داره للحكماء والفلاسفة موضعًا على قرب منه ليشاركهم مباحثاتهم. لقد كان للعراق وفارس في عهد بني بويه الصدارة في العلم والأدب والفلسفة. كما حوت من جهابذة العلماء في شتى الفنون والعلوم ما لم يجتمع لبلد آخر في القرن الرابع.

وبذلك نكون قد ألقينا الضوء على بيئة القاضي الباقلاني الاجتماعية والثقافية، التي أثر فيها بجهوده ومناظراته ومؤلفاته، كما أثرت فيه فدفعته لخوض معركة مع المعتزلة لا هوادة فيها، أشهر فيها قلمه ولسانه دفاعًا عن معتقده، حتى لقبه معاصروه بسيف السنة.

الباب الأول في ترجمة القاضي الباقلاني وفيه أحد عشر مبحثًا الأول: اسمه وكنيته ولقبه الثاني: ولادته ونشأته وأسرته. الثالث: طلبه العلم وشيوخه. الرابع: الوظائف التي شغلها. الخامس: تلاميذه. السادس: مذهبه العقدي والفقهي. السابع: صفاته وأخلاقه. الثامن: رأي العلماء فيه. التاسع: مناظراته. العاشر: مؤلفاته. الحادي عشر: وفاته.

ترجمة ابن الباقلاني

المبحث الأول اسمه وكنيته ولقبه اختلف مصادر ترجمة القاضي الباقلاني على كثرتها في ذكر اسمه واسم أبيه وجده مع اتفاقها على كنيته. فورد في دائرة المعارف الإسلامية باسم أبي بكر بن علي بن الطيب. وهو وهم. خالفت فيه جميع مصادر ترجمته. وبعض المترجمين يعبر عنه بالباقلاني، وبعضهم بابن الباقلاني. والثاني هو الأصوب، لأن والده هو الذي كان يبيع الباقلاء. واسمه على وجه التحقيق عند معظم مصادر ترجمته هو: "القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني". لقبه: "الباقلاني" بفتح الباء الموحدة، وبعد الألف قاف مكسورة، ثم لام بعدها نون، وهي نسبة إلى الباقلاء وبيعه. وفيه لغتان، من شدد اللام قصر الألف، ومن خففها مد الألف فقال باقلاء. والباقلاني نسبة شاذة لزيادة النون فيها. وهي نظير قولهم في النسبة إلى صنعاء صنعاني. وأنكر الحريري في كتابه "درة الخواص" هذه النسبة. وقال: من قصر الباقلاني قال في النسبة إليه باقلي، ومن مد قال: باقلائي، ولا يقاس على صنعاء، لأن ذلك شاذ لا يقاس عليه، ولكن السمعاني في الأنساب لم ينكر النسبة الأولى. ويلقب القاضي الباقلاني - أيضًا - بسيف السنة، وبلسان الأمة، وبالقاضي.

ولادته ونشأته وأسرته

المبحث الثاني ولادته ونشأته وأسرته كثير من العلماء يصعب التوصل إلى معرفة تاريخ ولادتهم على وجه الدقة إلا من كان منهم من أبناء أصحاب الجاه والسلطان حيث يحتفي بميلادهم. أما أبناء عامة الناس فغالبًا لا يفطن لتأريخ يوم مولدهم لحجب الله علم الغيب عن الناس فيما سيكون للمولود من منزلة في المجتمع الذي سيعيش فيه، وما سيكون عليه من جاه ومنصب. أما بالنسبة لتأريخ الوفاة فقلما يمتد الجهل إليها، ولذا تجد كتب التراجم للأعلام لا تخلو من سنة الوفاة، وقلما تذكر سنة الميلاد، وإن ذكرتها فغالبًا يكون على سبيل التقدير والاستنتاج والتقريب. والباقلاني - رحمه الله - ولد في أسرة متواضعة لرجل ليس من مشاهير الناس ولا سادتهم، ويدل على ذلك ما تناقلته كتب التراجم من أن والده كان يبيع الباقلاء ليكسب قوته وقوت عياله. كما أن كتب التراجم لم تذكر لنا من نسله - أيضًا - إلا ابنه الحسن، الذي توفى بعد والده، ويبدو أنه كان من طلبة العلم لما جاء في ختام إحدى نسخ كتاب والده "إعجاز القرآن" المحفوظة بالمتحف البريطاني: "هذا ما كتبه المؤلف لخزانة كتب عضد الدولة، وطالع فيه الحسن ابن المؤلف سنة 399 هـ". وقد ذكر كل من الخطيب البغدادي وصاحب وفيات الأعيان والقاضي عياض في مصنفاتهم أنه صلى على والده لما توفي.

ذكر الزركلي في الأعلام والخطيب البغدادي في تاريخه وغيرهما ممن ترجم له أنه ولد بالبصرة، فهو بصري المولد، ولكنه نسب إلى بغداد لأنه سكنها إما في فترة طلبه العلم أو بعد نبوغه واكتمال شخصيته العلمية. وما ذكره كثير ممن ترجم له من أن عضد الدولة البويهي، الذي تولى الحكم سنة 367 هـ كتب إلى عامله في البصرة أن يشخص إليه الشيخ أبا الحسن الباهلي والشاب المعروف بابن الباقلاني تدل دلالة واضحة على أنه رجع للبصرة بعد نضوجه الفكري، أو أنه تلقى جميع علومه بالبصرة. من هذه الحادثة أخذ بعض من ترجم له سنة ولادته على وجه التقريب. فكون عضد الدولة استدعاه بعد أن تولى الإمارة سنة 367 هـ. وأرسله في سفارة إلى بلاد الروم سنة 371 هـ. فمعنى ذلك أنه إلتحق بقصر عضد الدولة ليمثل أهل السنة في المناظرات بين هذين العامين، وقد وصف أثناء طلبه بأنه شاب فيغلب على الظن أن عمره حين استدعي يقارب الثلاثين عامًا. وعليه، فما ذهب إليه الزركلي في الأعلام أنه من مواليد عام 338 هـ قريب من الصواب، والله أعلم. وأما مصادر التراجم المتقدمة على الزركلي فلم تحدد سنة ميلاده، ولم يبين الزركلي مستنده في تحديد ميلاده. فيغلب على الظن أنه اعتمد على الاستنتاج. أما نشأة القاضي الباقلاني فعامة مصادر ترجمة ذكرت أن مولده بالبصرة فيلزم أن يكون قد نشأ فيها. وما ذكره الخطيب البغدادي وغيره من أنه أخذ الحديث في بغداد على أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد ابن ماسي، وأبي أحمد الحسين بن علي النيسابوري، يدل دلالة واضحة

أنه رحل في طلب العلم إلى بغداد، فقد كانت بغداد حينذاك حاضرة العلم ومركزن العلماء، يشد لها الرحال من كل حدب وصوب. فما ذكره المترجمون من أخذه الحديث على بعض العلماء في بغداد، وما ذكروه من طلب حضوره من عامل البصرة إلى قصر عضد الدولة تدل على أنه بعد تلقي علومه في بغداد رجع إلى البصرة. وبعد التحاقه بديوان عضد الدولة كان ينتقل بين بلدان المشرق. وقد سكن بغداد كما ذكر ابن فرحون المالكي أنه كان يسكن الكرخ. وقد ذكر ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب أنه كان للباقلاني بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة.

طلبه العلم وشيوخه

المبحث الثالث طلبه العلم وشيوخه بدأ القاضي الباقلاني - رحمه الله - طلب العلم في مسقط رأسه - البصرة - ثم رحل إلى بغداد، ونهل العلم على طائفة من العلماء الأفذاذ سنترجم لطائفة منهم ممن بلغنا أنه أخذ عنهم العلم. ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه أخذ الحديث عن أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وأبي أحمد الحسين بن علي النيسابوري، وأخذ علم النظر عن أبي عبد الله بن مجاهد الطائي. فذكر ابن السبكي في طبقاته أنه تتلمذ - أيضًا - على أبي الحسن الباهلي إلا أنه كان أخص بأبي عبد الله بن مجاهد، فأما الاستاذ أبو إسحاق وابن فورك فكانا أخص بالباهلي. وفيما يلي تراجم لبعض من بلغنا أن الباقلاني أخذ عنهم: 1 - ابن مجاهد: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي، صاحب أبي الحسن الأشعري. قدم من البصرة، وسكن بغداد، ودرس عليه الباقلاني الأصول والكلام، كان حسن السيرة والتدين. كان فقيهًا حافظًا متقنًا. له تصانيف كثيرة في أصول الدين. ذكر ابن السبكي وغيره أن الباقلاني تتلمذ عليه. توفي بعد سنة 360 هـ. 2 - أبو الحسن الباهلي البصري صاحب أبي الحسن الأشعري: كان رئيسًا مقدمًا عند الإمامية أولًا، فانتقل لمذهب الأشعري بسبب مناظرة

جرت له مع الشيخ أبي الحسن الأشعري ألزمه فيها الحجة. نشر علم أبي الحسن الأشعري في البصرة. كان من عادته أن يحتجب في درسه عن تلاميذه، وكذلك عن جاريته التي تخدمه، وعن كل الناس، فيرخي الستار بينه وبينهم. وسئل عن سبب ذلك فقال: "إنكم ترون السوقة، وهم أهل الغفلة فتروني بالعين التي ترون أولئك بها". وقال القاضي الباقلاني: كنت أنا وأبو إسحاق الاسفرائيني وابن فورك معًا في درس الشيخ الباهلي، وكان يدرس لنا في كل جمعة مرة واحدة، وكان منا في حجاب يرخي الستر بيننا وبينه. توفي الباهلي سنة 370 هـ. 3 - أبو بكر الأبهري: محمد بن عبد الله شيخ المالكية في عصره. أخذ عنه خلق كثير منهم الباقلاني، الذي صحبه وأطال صحبته. أخرج في آخر حياته ثلاثة آلاف مثقاف فوزعها على تلاميذه. أعطى الباقلاني منه مائة مثقال. ذكر ابن النديم في الفهرست أن مولده بأبهر بأرض الجبل سنة 287 هـ. وتوفي يوم السبت الخامس من شوال سنة 375 هـ. له شرح كتاب ابن عبد الحكم الصغير، وكذلك الكبير. وله كتاب الرد على المزني، وكتاب فضل المدينة على مكة، وكتاب في أصول الفقه. 4 - أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي. ولد سنة 274 هـ، وتوفي سنة 368 هـ. كان يسكن قطيعة الدقيق في بغداد. وهو راوي مسند الإمام أحمد، رواه عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وغيرهما. أخذ عنه الباقلاني الحديث، كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه.

5 - أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي. ولد سنة 274 هـ. وتوفي سنة 369 هـ. وهو محدث ثقة ثبت. ذكر الخطيب البغدادي أنه أخذ عنه الحديث. 6 - أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، المتوفي سنة 371 هـ. كان من أولاد الأمراء فتزهد حتى بلغ الذروة في الزهد. كان صاحب أحوال ومقامات، وهو من أعيان تلاميذ أبي الحسن الأشعري. أصبح شيخ فقهاء الشافعية في بلاد فارس. كان عظيم التمسك بالكتاب والسنة. ازدحم الناس على جنازته يوم وفاته حتى صلوا عليه مائة مرة. أخذ عنه الباقلاني أصول الفقه. 7 - أبو أحمد الحسين بن علي النيسابوري، ولد سنة 293 هـ، وتوفي سنة 375 هـ. محدث حجة. قال الحاكم: صحبته حضرًا وسفرًا نحو ثلاثين عامًا فما رأيته ترك قيام الليل. أخذ عنه الباقلاني الحديث. 8 - أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري. ولد سنة 293 هـ، وتوفى سنة 382 هـ. إمام في الأدب. وصاحب أخبار ونوادر. له شعر جيد. حرص الصاحب ابن عباد على لقياه، فلم يظفر بذلك. أخذ عنه الباقلاني مسائل في النقد والبلاغة. 9 - أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي المتوفي في سنة 386 هـ. فقيه، نظار، حافظ، حجة. جامع مذهب مالك، وشارح أقواله. إمام المالكية في عصره. كان واسع العلم كثير الحفظ والرواية. يجيد

الشعر مع صلاح وورع وعفة. كان يلقب بمالك الصغير. حاز رئاسة الدين والدنيا، فعرف قدره الأكابر. أخذ عنه الباقلاني الفقه. دفن بداره في القيروان. 10 - أبو الحسين بن سمعون محمد بن أحمد بن اسماعيل البغدادي. الواعظ، صاحب الأحوال والمقامات، كان لطيف العبارة، حسن الوعظ، اشتغل الناس بتدوين حكمه وجمع كلامه. ومن لطيف كلامه ما رواه عنه الصاحب بن عباد، حيث قال: سمعت ابن سمعون وهو يقول: "سبحان من أنطق باللحم، وبصر بالشحم، واسمع بالعظم" وذكر ابن عساكر في تبيين كذب المفتري أن الأستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني والباقلاني كانا يأتيناه فيقبلان يده. ولد ابن سمعون سنة 300 هـ، وتوفي سنة 387 هـ. 11 - محمد بن عمر البزاز، المشهور بابن بهتة. المتوفى سنة 374 هـ.

الوظائف التي شغلها

المبحث الرابع الوظائف التي شغلها لم تذكر كتب التراجم عن حياة أبي بكر الباقلاني شيئًا يذكر قبل التحاقه بالمجالس التي كانت تعقد في قصر عضد الدولة البويهي، والتي أحضر من البصرة لأجل يمثل رأي الأشاعرة فيها. ويبدو من قصة اختياره لذلك أنه كان على جانب عظيم من الشهرة، فقد رشحه قاضي قضاة المعتزلة مع شيخه ابن مجاهد مع حداثة سنه، وفعلًا التحق بهذه المجالس، وشارك في العديد من المناظرات. وكما يبدو أنه انقطع لهذه المهمة في مجالس عضد الدولة، ويعتبر هذه عملًا كلفه به عضد الدولة البويهي. ونظرًا لإعجاب عضد الدولة بالباقلاني اختاره مربيًا لولده الذي سمي فيما بعد بصمصام الدولة. ألف له أثناء تأديبه له كتاب التمهيد ليعلمه عقيدة الأشاعرة، التي كما يبدو أنه اقتنع بها عضد الدولة بعد أن كان يعتقد معتقد المعتزلة. وهذا - أيضًا - يعتبر عملًا كلفه به عضد الدولة بالإضافة إلى عمله الأول. أخذ قدر الباقلاني في الصعود عند عضد الدولة، وظهر تفوقه العلمي، وقدرته الفائقة على الحجاج والنقاش، ومقارعة الخصوم بالأدلة والبراهين الساطعة، وبرز في إقامة الحجج الباهرة على الخصوم في ذكاء مفرط، وبراعة عجيبة، مع إلمام بشتى العلوم، ودراية تامة بمناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية، مما أهله لأن يرسله عضد الدولة البويهي على رأس البعثة التي أرسلها إلى ملك الروم سنة 371 هـ.

أطبقت كتب التراجم على وصف الباقلاني بالقاضي، مما يدل على أنه تولى القضاء، وفي الغالب يكون في فترة حكم تلميذه صمصام الدولة. وذلك لأنه كما تقدم أنه تركن معتقد المعتزلة والتزم بمعتقد الأشاعرة، فنقل القضاء من أيدي المعتزلة ووضعه في أيدي أهل السنة. والذي يظهر لي أنه لم يكن مجرد قاض فقط، بل كان مناطًا به تعيين القضاة. يشهد لذلك ما ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري في ترجمة أبي حامد أحمد بن محمد الاستوائى المتوفى سنة 434 هـ أنه تولى القضاء بعكبرا من أبي بكر ابن الطيب الباقلاني. وبقي أمر آخر من أعماله أشارت إليه كتب التراجم، وهو قيامه بالتدريس في المساجد، فكان يقصده طلاب العلم فيفدون إليه من المشرق والمغرب كما يظهر ذلك جليًا من الفصل الذي عقدناه لتلاميذه. وقد أصبح تلاميذه - فيما بعد - منارات للعلم والمعرفة في المشرق والمغرب. ذكر ابن العماد في شذرات الذهب، وابن فرحون في الديباج المذهب، أنه كان له حلقة عظيمة بجامع المنصور ببغداد، كانت تضم رجال الدولة وعلماء المذهب، ودعاة الفرق المختلفة. هذا ما استطعت الوصول إليه من الأعمال التي كان يشغلها القاضي الباقلاني والمناصب التي تسلمها. ومع هذا فإن هذه الأعمال لم تشغله عن قيامه بالتأليف والتصنيف، وسيظهر لك مدى ضخامة إنتاجه العلمي في شتى العلوم والفنون الذي قلما حصل لغيره.

تلاميذه

المبحث الخامس تلاميذه بلا ريب عالم في منزلة القاضي الباقلاني يتعذر معرفة كل من أخذ عنه، فقد ضربت له بطون الإبل من كل بلد. كما أنه كان كثير التجوال، لم يستقر في بلد واحد، مما هيأت له هذه الأحوال عددًا كبيرًا من طلاب العلم، الذين أخذوا عنه في البصرة وبغداد والري وشيراز وغيرها من بلاد فارس. يقول ابن عساكر في تبين كذب المفتري: وكان الباقلاني حصنا من حصون المسلمين، وما سُر أهل البدعة بشيء كسرورهم بموته - رحمه الله - إلا أنه خلف من بعده جماعة كبيرة من التلاميذ تفرقوا في البلاد". ومالا يدرك كله لا يترك جله، ولذا سنذكر طائفة ممن اشتهر بالأخذ عنه وملازمته، ومنهم: 1 - أبو ذر الهروي: عبد بن أحمد، الإمام المحدث الحافظ الحجة الثقة المالكي الأشعري، المولود سنة 355 هـ، والمتوفى سنة 323 هـ. أخذ عن الباقلاني علم الكلام. ولأخذه هذا قصة لطيفة ذكرها ابن عساكر، فقال: قيل للهروي: أنت من هراة، فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري؟ فقال: سبب ذلك أنني قدمت بغداد لطلب الحديث، فلزمت الدارقطني، وكنت مرة ماشيًا معه، فمر بنا شاب، فأقبل عليه الشيخ وعظمه وأكرمه ودعا له. فلما فارقه قلت: أيها الشيخ الإمام، من هذا الذي بالغت في إكرامه؟ فقال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا. فقال: هذا أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري ناصر السنة، وقامع المعتزلة، ثم أفاض في الثناء عليه. فكان ذلك سبب اختلافي إليه وأخذي عنه.

2 - القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي المولود سنة 362 هـ، والمتوفى سنة 422 هـ. الفقيه البارع، والأصولي المتمكن، والنظار الحجة، والأديب الشاعر من كبار علماء الإسلام. سئل عمن تفقه، فقال: "صحبت الأبهري، وتفقهت على أبي الحسن بن القصار، وأبي القاسم بن الجلاب، والذي فتح أفواهنا وجعلنا نتكلم أبو بكر بن الطيب". قال الباقلاني: لو اجتمع في مدرستي عبد الوهاب وأبو عمران الفاسي القيرواني لاجتمع علم مالك: أبو عمران يحفظه، وعبد الوهاب ينصره. ضاقت به الأحوال في العراق في آخر أيامه، فرحل إلى مصر مارًا بمعرة النعمان، حيث زار أبالعلاء المعري. تولى قضاء مصر، ولم يعش فيها إلا أشهرًا. 3 - أبو عمران: موسى بن عيسى بن أبي حجاج الغفجومي - من بطون بربر المغرب - الفاسي القيرواني. ولد سنة 365 هـ. توفي بالقيروان في رمضان سنة 430 هـ. كان يقرأ القرآن بالسبع ويجوده، مع معرفة بالرجال. يقول أبو عمران: رحلت إلى بغداد بعد أن تفقهت بالمغرب والأندلس على أبي الحسن القابسي، وأبي محمد الأصيلي، وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر، وسمعت كلامه في الأصول والفقه حقرت نفسي، ورجعت عنده كالمبتدئ. 4 - أبو الحسن السكري: على بن عيسى الشاعر. ولد سنة 357 هـ. كان يحفظ القرآن، ويجيد القراءات. كان شاعرًا أديبًا، أكثر من مدح الصحابة والرد على الرافضة والنقض على شعرائهم. درس على الباقلاني علم الكلام، ومدحه بقصيدة طويلة، أختار منها.

اليعربي فصاحة وبلاغةً والأشعري إذا اعتزى للمذهب قاض إذا التبس القضاء على الحجى كشفت له الآراء كل مغيب مازال ينصر دين أحمد صادعًا بالحق يهدي للطريق الأصوب توفي سنة 412 هـ. 5 - القاضي أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني الحنفي الأشعري. ولد سنة 361 هـ كان عالمًا فاضلًا سخيًا، حسن الكلام. كان له في داره مجلس نظر يؤمه الفقهاء. مات بالموصل وهو على القضاء سنة 444 هـ. 6 - أبو طاهر محمد بن علي المعروف بابن الأنباري، المولود سنة 375 هـ. كان واعظًا صالحًا، وعالمًا كبيرًا. درس على الباقلاني الفقه وأصوله وعلم الكلام. ثم توجه للمغرب، ونزل القيروان. أثنى عليه أبو عمران الفاسي، وقال: لا يجود عالم بالأصول في القيروان إلا وقد أخذ ذلك عن أبي طاهر، ولولاه لضاع العلم بالمغرب. توفي سنة 448 هـ. 7 - أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الحريري المالكي. ولد سنة 356 هـ، وتوفي سنة 437 هـ. كان محدثًا صدوقًا، حدث عنه الخطيب البغدادي. درس على الباقلاني أصول الدين وأصول الفقه. 8 - أبو عبد الله: الحسين بن حاتم الأزدي. كان رجلًا ذا علم وأدب. درس على الباقلاني أصول الدين وأصول الفقه. روي عن الباقلاني وصف مناظراته في بلاط الروم. أرسله الباقلاني إلى دمشق ليرد على بعض المخالفين، فعقد المجلس في جامع دمشق. فذكر التوحيد ونزه المعبود،

ونفى عنه التشبيه، وأقام بدمشق مدة. ثم تركها إلى القيروان، وانتفع به أهلها، وبقي فيها إلى أن مات. 9 - ابن اللبان: القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني. كان أحد أوعية العلم، ومن أهل الدين والفضل. درس على الباقلاني كتاب "المقدمات في أصول الديانات"، وكتاب "أصول الفقه" ودرس فقه الشافعي على أبي حامد الاسفرائيني، ومات بأصبهان سنة 446 هـ. 10 - أبو عبد الرحمن السلمي: محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري. ولد سنة 330 هـ، وتوفي سنة 412 هـ. شيخ الصوفية ومؤرخها. كان حافظًا عالمًا بالتفسير والتاريخ والحديث. كان له بنيسابور دويرة للصوفية. أخذ عن الباقلاني أثناء إقامته مع عضد الدولة بشيراز. فقرأ عليه كتاب "اللمع" لأبي الحسن الأشعري. 11 - أبو محمد عبد الرحمن بن أبي نصر. ولد سنة 327 هـ. كان عالمًا ورعًا زاهدًا عدلًا مأمونًا ثقة، وكان يعرف بالشيخ. ذكر القاضي عياض أنه تفقه على الباقلاني وعلق عنه، وكتب في كتبه ما شاهده من مناظرات الباقلاني في الفقه بين يدي ولي العهد ببغداد للمخالفين، عاش ثلاثًا وتسعين سنة. وتوفي في جمادي الآخرة سنة 420 هـ. 12 - أبو حاتم محمود بن الحسن الطبري، المعروف بالقزويني. ولد بآمل، وتوفي بها. قدم بغداد، درس على الباقلاني أصول الفقه، كان حافظًا للمذهب والخلاف والأصول والجدل.

13 - أبو عمرو أحمد بن محمد بن سعدي. أصله أندلسي إشبيلي، كان فقيهًا شيخًا صالحًا، دخل العراق، ولزم أبا بكر الأبهري. سمع من جماعة في مصر والعراق. لقي من المالكية أبا القاسم الجوهري، وأبا بكر الباقلاني وجماعة. نزل المهدية وأفتى فيها، وتوفي بها بعد سنة 410 هـ. 14 - أبو علي الحسن بن شاذان: ولد سنة 339 هـ، وتوفي سنة 426 هـ. كان حنفي المذهب في الفروع وأشعريًا في الاعتقاد. ذكره ابن عساكر في تلاميذ الباقلاني، وقال: كان صدوقًا صحيح الكتاب، يفهم الكلام على مذهب الأشعري. 15 - أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي. ولد سنة 355 هـ وتوفي سنة 435 هـ. محدث حافظ، روي عن القطيعي، ثم أخذ عن الباقلاني, 16 - أبو الفتح محمد بن أبي الفوارس الحنبلي: ولد سنة 338 هـ، وتوفي سنة 412 هـ. حافظ، ثقة، كان مشهورًا بالصلاح، خرج للباقلاني، وأخذ عنه. 17 - صمصام الدولة بن مؤيد الدولة: ولد سنة 353 هـ وتوفى سنة 388 هـ وعمره خمسًا وثلاثين سنه خلف أباه على الملك، كانت له مشاركة في كثير من فروع العلم من أدب وفلسفة وطبيعة وأخلاق وإلاهيات. ألف له الباقلاني كتابه التمهيد أثناء طلبه العلم عليه.

ذكر الباقلاني في كتبه طائفة أخرى ممن أخذ عنه، منهم ابن المعتمر الرقي الذي ذكره في الصفحة الخامسة من كتابه "البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر". وما ذكرناه كافٍ في إظهار شخصيته العلمية، وبيان مدى إقبال طلاب العلم على حلقات درسه رحمه الله.

مذهبه العقدي

المبحث السادس مذهبه العقدي والفقهي مذهبه العقدي: الذي عليه عامة أصحاب كتب التراجم أن أبا بكر الباقلاني كان أشعريًا. ومصنفاته قاطبة تؤيد ذلك. بل كان أعظم أتباع أبي الحسن الأشعري على الإطلاق. وكان المنافح عن مذهبه في زمانه، والمناظر لخصوم الأشاعرة، فلا تجد فصلًا من كتبه إلا وفيه رد على المعتزلة أو نقص لمذهبهم، سواء في كتبه الكلامية أو كتبه الأصولية. وألف العديد من الكتب في تأصيل مذهب الأشاعرة، أو إتمام الجوانب التي لم تكن واضحة في مذهبهم. ولكن ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم يريان أن القاضي الباقلاني يخالف الأشاعرة في بعض القضايا العقائدية الهامة، منها أنه كان يثبت الصفات الخبرية، ومنها إثبات اليد والوجه. ذكر ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب "الفتاوي الحموية الكبرى" أن أبا بكر الباقلاني قال في كتابه "الإبانة" تصنيفه: "فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهًا ويدًا؟ قيل له: قوله تعالى: {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ}. وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا".

ونقل ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية" ما نسبه ابن تيمية للباقلاني، ولكن نسبه لكتابه التمهيد. وفعلًا فقد وجدت في التمهيد ما نسبه له ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حيث قال: "باب في أن لله وجهًا ويدين. فإن قال قائل: فما الحجة في أن لله عز وجل وجهًان ويدين؟ قيل له: قوله تعالى: {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ}. وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. فأثبت لنفسه وجهًا ويدين" ثم أنكر الباقلاني قول من أول اليد في هذه الآية بالقدرة أو النعمة. وبناء على ما تقدم من نقل شيخ الإسلام عنه من كتابه "الإبانة" المفقود حتى الآن. وما هو موجود فعلًا في كتابه "التمهيد" يظهر أن الباقلاني لا يوافق الأشاعرة في نفي بعض الصفات. ولا يؤول النصوص الواردة فيها. ولكن عدم تأويله للنصوص لم يطرد فقال في كتابه "التمهيد" بالنسبة لصفتي الغضب والرضى "فإن قال قائل: فهل تقولون إنه تعالى غضبان، راض، وأنه موصوف بذلك؟ قيل له: أجل، وغضبه على من غضب عليه ورضاه على من رضي عنه هما: إرادته لإثابة المرضى عنه، وعقوبته للمغضوب عليه لا غير ذلك". ونقل ابن تيمية - رحمه الله - عن الباقلاني في كتابه "الفتاوى الحموية" أن الباقلاني ذكر في كتابه "الإبانة": "فإن قيل، فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو عل عرشه، كما أخبر

في كتابه، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} وكذلك فعل تلميذه ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية". أما كتاب الإبانة للباقلاني فلا يعلم مكانه للتأكد من صحة النقل. ولكنه يوجد له كتاب اسمه الإبانة على ما في ترتيب المدارك. وما نقلاه موجود في كتاب "الإبانة" لأبي الحسن الأشعري والموجود في كتب الباقلاني المطبوعة يخالف ما نقله ابن تيمية وتلميذه - رحمهما الله. يقول الباقلاني في الإنصاف: إن الله جل ثناؤه مستو على العرش مستول على جميع خلقه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة. وأنه في السماء إله وفي الأرض إله. وقال الباقلاني في الصفحة الرابعة والستين من الإنصاف: إنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود ... إلى أن قال: ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان". وبناء على ما تقدم فإن كتب الباقلاني التي بين أيدينا تخالف ما نقله عنه ابن تيمية وتلميذه رحمهما الله تعالى. ولو صح نقلهما عنه لأثلج صدر

كل مؤمن يعتقد المعتقد الصحيح. والذي يظهر لي إما أن يكون ما نقلاه موجود فعلًا في كتابه الإبانة، ويكون بذلك قد رجع عما في كتبه التي بين أيدينا إن كان متأخرًا عنها. أو أنه رجع عما في الإبانة إن كانت الإبانة متقدمة. أو أنهما التبس عليهما كتاب أبي الحسن الأشعري الموجود فعلًا فيه هذا الكلام بكتاب الباقلاني. وهذا الاحتمال هو الأرجح في ظني. والله أعلم. لأن أتباعه لم ينسبوا هذا القول له مع شدة حرصهم على نقل أقواله وتدوينها. وما نسبة ابن تيمية - رحمه الله - للباقلاني من مخالفته للأشاعرة، وأنه أقل نفيًا منهم في الصفات يوضح سر قوله عنه في الفتاوي: وهو أفضل المتكلمين المنتسبين للأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده". وبهذا يتضح أن الأشاعرة اليوم لا يوافقون الباقلاني في كل شيء حيث إنه يثبت لله وجهًا ويدًا وهم لا يثبتون. كما أنهم لا يوافقون إمامهم أبا الحسن الأِشعري معتقدة، الذي انتهى إليه ودونه في كتابه "الإبانة"، بل بعضهم ذهب لعدم صحة نسبة الكتاب إليه. بقي خطأ وقع فيه أحد المعاصرين لا يستحق الإشارة إليه لوضوحه من العام والخاص من طلاب العلم، وهو أن الدكتور عبد الكريم بلبع في كتابه "النثر الفني وأثر الجاحظ فيه" قال عندما تكلم عن السجع ومنكريه في القرآن: إنها فكرة قديمة وسائدة منذ أزمان تشبث بها المعتزلة، ومنهم الباقلاني". فالباقلاني وعدواته للمعتزلة يعرفها القاصي والداني، ويشهد لها كل صفحة من كتبه. فهو لا يهادن المعتزلة لا في سفر ولا حضر ولا ليل ولا نهار. ولكن لعل ما ذكره الدكتور زلة قلم.

مذهبه الفقهي

مذهبه الفقهي: أكثر مصادر ترجمة القاضي الباقلاني ذكرت أنه كان مالكيًا في الفروع، وهو الصحيح، ومن هؤلاء ابن الأثير وابن العماد وابن فرحون واليافعي وابن تغري بردى والقاضي عياض حيث ذكر أنه كان شيخ المالكيين في عصره، وأنه انتهت إليه رئاستهم. ومع هذا فإن ابن كثير في البداية والنهاية ذكر أنه اختلف في مذهبه. فقيل إنه شافعي، وقيل إنه مالكي ونسبته للشافعية وهم نتج عن شدة انتسابه للأشعري، وكان الأشعري شافعيًا. وكذلك نسبه للشافعية ابن السبكي في طبقاته. وذكر ابن كثير أنه كان يكتب على فتاويه كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، واستغرب ذلك. وأكد هذه النسبة ابن القيم في كتابه "اجتماع الجيوش الاسلامية". فنقل عن شيخه ابن تيمية أنه قال: " ما بين أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لاسيما بين الباقلاني وبين أبي الفضل التميمي حتى كان الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل: كتبه محمد بن الطيب الحنبلي". وقال ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" ما نصه: وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثالهما أقرب إلى السنة، واتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب".

وما تقدم يدل على أن المقصود من نسبته لأحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه في العقيدة وليس في الفروع الفقهية. فابن تيمية - رحمه الله - يرى أن الباقلاني أشد أتباعًا لأحمد بن حنبل في العقيدة من بعض الحنابلة الخراسانيين الذين مالوا لطريقة ابن كلاب، أو مالوا لآراء المعتزلة. وبهذا اتضح أن أبا بكر الباقلاني كان مالكيًا في الفروع بلا ريب، بل كان رئيسًا لمالكية المشرق.

صفاته وأخلاقه

المبحث السابع صفاته وأخلاقه كان الباقلاني - رحمه الله - رجلًا عالي الهمة، واسع الاطلاع، سريع الخاطر، حاضر البديهة، قوى الذاكرة، مهيبًا، معروفًا بالورع والتدين، والحياة الجادة الهادفة، فلم ينغمس فيما انغمس فيه غيره من رجال دولة بني بويه من ترف ومجون، بالرغم من اتصاله ببلاط عضد الدولة وابنه صمصام الدولة. وسنذكر ما يدلل على اتصافه بهذه الصفات من كتب التأريخ والتراجم: 1 - علو همته وشدة اعتزازه بنفسه: روى القاضي عياض في ترتيب المدارك من لفظ القاضي الباقلاني حادثة شخوصه لمجلس عضد الدولة فيقول القاضي الباقلاني: "دخلت على الملك والناس قد اجتمعوا والملك قاعد على سرير، وبين غلمان بأيديهم السيوف المحلاة، وعن يمينه ويساره مراتب، وما عن يمينه خالٍ، لا يقعد هناك إلا وزير أو ملك، فكرهت أن أقعد بآخر الناس للمذلة، فمضيت وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القضاة عن يساره. فنظر الملك إلى قاضي القضاة نظرًا منكرًا. ولم يكن في المجلس من يعرفني إلا واحدًا. وقد فزعوا لفعلتي وجنايتي. فقال لقاضي القضاة: هذا الرجل الذي طلبه الملك من البصرة، فأعلم الملك بذلك، والتفت إلى، وأومأ بعينه إلى الحجاب فصاروا عني".

وذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك قصة أخرى تدل على نفس الصفة وهي: لما وصل إلى ملك الروم بالقسطنطينية قال من تلقاه ومن معه: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم حتى تنزعوها، وحتى تنزعوا أخفافكم. فرفض الباقلاني، وقال: فإن رضيتم وإلا فخذوا الكتب تقرؤونها ويرسل بجوابها الملك وأعوذ بها، فأخبر بذلك الملك. فقال: أريد معرفة سبب هذا وامتناعه مما مضى عليه رسمي مع الرسل. فسئل القاضي عن ذلك، فقال: أنا رجل من علماء المسلمين وما تريدوه منا ذلك وصغار والله - تعالى - قد رفعنا بالإسلام، وأعزنا بنبينا محمد عليه السلام. وأيضًا، فإن من شأن الملوك إذا وصلتهم رسل من ملك آخر أن يرفعوا قدرهم لاسيما إذا كان الرسول من أهل العلم. فعرف الترجمان الملك بذلك. فقال: دعوه يدخل ومن معه كما يشتهون. 2 - طول نفسه في المناظرات وسعة ثقافته: ذكر ابن عساكر في تبيين كذب المفتري .. حيث قال: "ناظر الباقلاني أستاذه أبا عبد الله بن مجاهد الطائي إلى أن انفجر عمود الصبح، وظهر كلام القاضي عليه". وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان "أن الباقلاني كان طويل النفس في المناظرة مشهورًا بذلك، فجرى يومًا بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة فأكثر فيها القاضي الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا على إنه إن أعاد ما قلت لا غير لم أطالبه بالجواب، أراد بذلك تعجيز خصمه".

وقال علي بن محمد الحنائي على ما في ترتيب المدارك وتاريخ بغداد "كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدر لسعة علمه وحفظه. وما صنف أحد كلامًا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين غير أبي بكر، فإن جميع ما يذكره من حفظه". 3 - فصاحته وبلاغته: نقل صاحب ترتيب المدارك أن أبا محمد البابي الشافعي قال: "لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس لوجب دفعه إلى أبي بكر الأشعري". 4 - ذكاؤه وسرعة بديهته: ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك نقلًا عن الخطيب البغدادي أنه قال: "حضر ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها بعض مجالس النظر مع أصحاب له، إذ أقبل القاضي أبو بكر الباقلاني. فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه، وقال لهم: قد جاءكم الشيطان. فسمع القاضي الكلام، وكان على بعدٍ من القوم. فلما جس أقبل على ابن المعلم وأصحابه، وقال لهم: قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًا}. ومما يدل على ذكائه وفطنته - أيضًا - ما ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري أن الباقلاني دخل على ملكن الروم يومًا فقال له الملك قاصدًا توبيخه: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم، وما قيل فيها. فقال له

الباقلاني: هما اثنتان قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا ومريم ابنة عمران. فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها. وقد برأهما الله مما رميتا به فانقطع الملك، ولم يجر جوابا. ومما يدل على قولة حجته وذكائه - أيضًا - ما ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك وابن عساكر في تبيين كذب المفتري أن الباقلاني حضر مجلسًا ضمه مع البطاركة في حضرة ملك الروم، وبولغ في الاستعداد لذلك المجلس، وحضر البطريك متأخرًا في حاشيته، واستقبله الملك بالتعظيم، فسلم عليه القاضي، ولكن أراد كسر هذا الاحتفاء والأبهة، فقال للبطريك: كيف الأهل والولد؟ فعظم هذا السؤال على الحاضرين. فقال الملك - وقد عجب من قول الباقلاني - ذكر من أرسلك في رسالته أنك لسان الأمة، ومتقدم على علماء الملة. أما علمت أننا ننزه هؤلاء عن الأهل والولد؟ - فقال القاضي: رأيناكم لا تنزهون الله - سبحانه - عن الأهل والأولاد، فهل المطارنة عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله - سبحانه وتعالى - فسقط في أيديهم، ولم يردوا جوابًا. ثم قال الملك للبطريك: ما ترى في أمر هذا الشيطان؟ قال: تقضي حاجتهن وتلاطف صاحبه، وتبعث بالهدايا إليه، وتخرج هذا العراقي من بلدك من يومك هذا إن قدرت، وإلا لم آمن الفتنة به على النصرانية، ففعل الملك ذلك، وأحسن جواب عضد الدولة وهداياه، وعجل تسريحه، وبعث معه عدة من أسارى المسلمين الذين كانوا لدى ملك الروم.

تدينه وكثرة عبادته

5 - تدينه وكثرة عبادته: نقل القاضي عياض في ترتيب المدارك عن أبي عبد الله الصيرفي أنه قال: "كان صلاح القاضي أكثر من علمه، وما نفع الله هذه الأمة بكتبه وبثها فيهم إلا بحسن نيته، واحتسابه بذلك". ونقل عن الخطيب البغدادي أنه قال: "إن ورد القاضي كل ليلة كان عشرين ترويحه، ما تركها في حضر ولا سفر". هذه أبرز صفات الباقلاني التي استطعت إثباتها بالنقل عمن ترجم له. وعدلت عن ذكر كثير من الحوادث التي تثبت هذه الصفات خشية من التطويل.

المبحث الثامن (أ) ثناء العلماء عليه: لقد ذكرت في مبحث صفاته بعض ما أثني به عليه أهل العلم، وسأضيف لما تقدم بعض ما وصفه به العلماء في ترجمتهم له. فالباقلاني - رحمه الله - قام بتثبيت مذهب الأشاعرة، وشارك في تأصيله وانتشاره، فكان أكثر انتاجه العلمي يتصل بعلوم الدين وعقائد الإسلام. فكان تارة يؤصل الأصول ويوضح المذهب، وتارة ينافح عنه من هجوم المعتزلة، ويرد على أصحاب الآراء المخالفة، ويبين زيف عقائدهم، وسيظهر ذلك جليًا في المبحث الذي سأعقده لمصنفاته. ولم يقتصر الباقلاني في دفاعه عن الإسلام من هجوم النصارى، وعن مذهبه من هجوم المعتزلة على التأليف والتصنيف، بل كان يصارعهم وجهًا لوجه في المناظرات. وسنذكر بعض ما ورد في كتب التراجم مما يبين منزلته بين علماء زمانه، ومن ذلك: 1 - نقل القاضي عياض في ترتيب المدارك عن أبي الحسن بن جهضم الهمذاني أنه قال: "كان الباقلاني شيخ المالكيين في وقته، وعالم عصره المرجوع إليه فيما أشكل على غيره". ونقل عن غيره أنه قال: إليه انتهت رئاسة المالكيين في وقته، وكان حسن الفقه عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة وكان ينزل الكرخ". ونقل عن أبي عبد الله بن سعدون الفقيه قوله: إن سائر الفرق رضيت بالقاضي أبي بكر في الكم بين المتناظرين".

ونقل عن أبي عمار الميورفي أنه قال: "كان ابن الطيب مالكيًا فاضلًا متورعًا ممن لم تحفظ له قط زلة، ولا نسبت إليه نقيصة، وكان يلقب بلقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، وكان فارس هذا العلم مباركًا على هذه الأمة، وكان حصنًا من حصون المسلمين، وما سر أهل البدعة بشيء مثل سرورهم بموته. ولي القضاء بالثغر، حسبت مؤلفات القاضي وإملاآته فقسمتها على أيام عمره من مولده إلى موته، فوجدت أنه يقع لكل يوم منها عشر ورقات أو نحوها". 2 - ونقل القاضي عياض في ترتيب المدارك وابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن شيخ الحنفية أبي بكر الخوارزمي أنه قال: "كل مصنف في بغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوى علمه وعلم الناس". 3 - يقول الخطيب البغدادي في تاريخ: "إنه كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم خاطرًا، وأجودهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم". 4 - ونقل القاضي عياض وابن عساكر عن الخطيب البغدادي أنه قال: "كان يدرس نهاره وأكثر ليله، وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضي ورده - وكان ورده عشرين ترويحه ما تركها في حضر ولا سفر - وضع الدواة - وكان ورده عشرين ترويحه ما تركها في حضرة ولا سفر - وضع الدواة بين يديه، وكتب خمسًا وثلاثية ورقة تصنيفًا من حفظه. فإذا صلى الفجر دفعها إلى بعض أصحابه، وأمره بقراءتها عليه، وأملى عليه الزيادات.

5 - نقل ابن عساكر عن الصاحب بن عباد أنه كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلاني وابن فوركن والاسفرائيني، وكانوا متعاصرين من أصحاب الأشعري، قال لأصحابه: "ابن الباقلاني بحر مغدق، وابن فورك صل مطرق والاسفرائيني نار تحرق". 6 - ونقل ابن عساكر أن الإمام أبا عبد الله الحسن بن أحمد الدامغاني قال: "لما قدم القاضي أبو بكر الأشعري بغداد دعاه الشيخ أبو الحسن التميمي الحنبلي، وذلك سنة 370 هـ. وكان الحنبلي إمام عصره في مذهبه، وشيخ مصره في رهطه، وكان بحضور أبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسين محمد بن سمعون شيخ الوعاظ وأبي الحسن الفقيه وأبي بكر الأبهري شيخ المالكية، وأبي القاسم الداركي شيخ الشافعية، وأبي الحسن طاهر بن الحسن شيخ المحدثين. وكانوا قمة العلم في زمانهم وتناظر ابن مجاهد والباقلاني في مسألة الإجتهاد وتعلق الكلام بينهما إلى الفجر، وظهر كلام القاضي على ابن مجاهد. وكان أبو الحسن التميمي يقول لأصحابه: "تمسكوا بهذا الرجل، فليس للسنة عنه غنى". 7 - قال ابن خلدون في مقدمته عن الباقلاني: "تصدر للإمامة في طريقتهم - يعني الأشاعرة - وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين وأمثال ذلك". 8 - نقل اليافعي في مرآة الجنان عن أبي القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان النحوي قوله: من سمع مناظرة القاضي أبي بكر لم يستلذ

بعدها بسماع كلام من المتكلمين والفقهاء والخطباء لطيب كلامه وفصاحته، وحسن نظمه وإشارته". 9 - قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في الفتاوي: "وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني المتكلم، وهو أفضل المتكلمين المنتسين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده". وقال في الفتاوى - أيضًا - "فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم - يعني عند الحنابلة - أعظم من أتباعه. والقاضي أبو بكر بن الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره". وقال ابن تيمية في موضع آخر من الفتاوي: "والباقلاني أكثر إثباتًا بعد الأشعري في الإبانة، وبعد الباقلاني ابن فورك فإنه أثبت بعض ما في القرآن". 10 - ذكر ابن عساكر في تبيين كذب المفتري: "أن أبا الفضل التميمي الحنبلي حضر يوم وفاة الباقلاني العزاء حافيًا مع إخوته وأصحابه، وأمر أن ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين. هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردًا على الملحدين. وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام، فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار". 11 - رثاه طائفة من الشعراء ومن ذلك:

الطعون التي قيلت فيه

أنظر إلى جبل تمشي الرجال به وانظر إلى القبر مايحوي من الصلف وانظر إلى صارم الإسلام منغمدًا وانظر إلى درة الإسلام في الصدف هذا غيض من فيض ذكرته ليدل على العديد من كلمات الثناء التي كان الباقلاني أهلاها، والتي لو سطرتها كلها في هذا الفصل لناء عن اتساعها وستتضح منزلته بين العلماء بصورة أبهى وأجلى عند ذكر مصنفاته ومناظراته، فهي خير شاهد له على منزلته العالية ومرتبته الباهرة. الطعون التي قيلت فيه: الباقلاني - رحمه الله - كسائر الناس يوجد من يُعجب به فيثنى عليه، ويوجد من يبغضه أو لا يوافقه فيطعن فيه. وسننقل بعض ما قيل فهي محاولًا بيان وجهة من الصحة وعدمها. فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لم تثبت العصمة لأحد من أمته بعده إلا لمجموعها. وممن طعن فيه: 1 - أبو حامد الاسفرائيني الفقيه الشافعي الكبير القدر المتوفي سنة 406 هـ. نقل السيد أحمد صقر عن فتاوى ابن تيمية في مقدمة كتاب "إعجاز القرآن" للباقلاني: أن أبا حامد الاسفرائيني كان ينهى أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني. وكان يقول: إنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة. وقال: إنه كان أبو حامد إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة الكرخ إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالروزي، ويقول لمن حضر: اشهدوا على بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله أحمد بن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه في جمعات وكان يقول: أنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته.

والناظر في هذا الكلام قد يفهم منه أن الباقلاني يقول بأن كلام الله مخلوق مطلقًا. وهذا منافٍ لما عرف من مذهبه. فالباقلاني يقول بأن الكلام النفسي صفة من صفات الله - سبحانه - غير مخلوق. وأما القرآن المكتوب في المصاحف مخلوق، ولهذا نسب الشيخ أبو حامد الباقلاني للابتداع، ونهى عن الدخول عليه، والكلام معه لأجل هذه البدعة. وأبو حامد معروف بشدة الإنكار على أصحاب الكلام عمومًا والأشاعرة والباقلاني خصوصًا. وكان الباقلاني - رحمه الله - يخرج إلى السوق متبرقعًا خشية من الشيخ أبي حامد لهيبته وعلو منزلته. وهذا الطعن من أبي حامد ووصفه للباقلاني بالابتداع مع التحذير من الدخول عليه فيه تطرق في الإنكار. وهو أعظم الطعون تأثيرًا، نظرًا لأنه من كبار علماء المسلمين في زمانه، الذين لهم أهمية ووزن علمي. 2 - أبو حيان التوحيدي المتوفي سنة 414 هـ. يقول في كتابه "الامتاع والمؤانسة" عن الباقلاني: "إنه يزعم أنه ينصر السنة، ويفحم المعتزلة، وينشر الرواية، وهو في أضعاف ذلك على مذهب الخرمية، وطرائق الملحدة". ونقدم على نقض هذا الكلام لمحة عن حال أبي حيان حتى يعرف أنه ممن تقبل شهادته أو ممن ترد. يقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء: "كان أبو حيان مجبولًا على الغرام بثلب الكرام".

ونقل ابن السبكي في طبقاته عن الذهبي قوله: "كان أبو حيان سيئ الاعتقاد، وكان كذابًا قليل الدين والورع عن القذف، والمجاهرة بالبهتان، والقدح في الشريعة، وكفاه ما كان يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيف إلى السلف الصالح من الفضائح". ونقل الذهبي عن أحد العلماء أنه قال: "لم أزل أرى أباحيان التوحيدي في زمرة أهل الفضل حتى صنع رسالة منسوبة إلى أبي بكر وعمر. وقال: إنهما راسلا بها عليًا. قاصدًا بذلك الطعن على الصدر الأول". ونقل طاش كبرى زادة في كتابه مفتاح السعادة عن ابن الجوزي قوله: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الرواندي والتوحيدي وأبو العلاء المعري، وشرهم على الإسلام التوحيدي، لأنهما صرحا ولم يصرح". وما نقله من الكلام في أبي حيان التوحيدي يجعله مردود الشهادة. فمن يتجرأ على الصحابة وسلف الأمة لا يردعه دينه عن الوقوع فيمن هم دونهم. ومن وصف بالزندقة، فإن كان كما وصف فقد خرج من الدين، ولا يقبل قوله في أحد. وما وصف به التوحيدي الباقلاني ليس بغريب ولا عجيب إذا علمنا أنه وقع في صحابة رسول الله، وفي كبار علماء زمانه ورعًا وفضلًا، فقد وقع في العالم الجليل أبي القاسم الداركي شيخ فقهاء الشافعية المتوفي سنة 357 هـ. وهو من الفضل والورع والوقار مما لا يخفى على أحد، حتى عده بعضهم أنه المجدد على رأس المائة الرابعة. فقال التوحيدي فيه: "أما الداركي فقد اتخذ الشهادة مكسبًا، وهو يأكل الدنيا بالدين، ويغلب عليه اللواط، ولا يرجع إلى ثقة وأمانة، وهو خبيث قليل اليقين".

ورمى جميع المتكلمين بقلة الدين فقال: "ولم أر متكلما في مدة عمره بكى خشية، أو دمعت عينه خوفًا، أو أقلع عن كبيرة رغبة، يتناظرون مستهزئين ويتحاسدون متعصبين، ويتلاقون متخادعين، ويصنفون متحاملين، جذ الله عروقهم، واستأصل شأفتهم، وأراح البلاد والعباد منهم، فقد عظمت البلوى بهم، وعظمت آفاتهم على صغار الناس وكبارهم، ودب داؤهم، وعسر دواؤهم، وأرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أرى بنيانهم متضعضعا، وساكنه متجعجعًا". أفبعد هذا يقبل لأبي حيان قول؟ لأن أظن أحدًا يعلم حاله حق العلم يصدقه فيما يقول. وكتب الباقلاني كلها دليل ساطع على عظم فريته على الباقلاني. فالخرمية التي اتُهم بها الباقلاني فرقة مبتدعة، لا يعدها أحد من مؤرخي الفرق من زمرة المسلمين، لأنها تستحل كل محرم، وتذهب إلى شركة الناس جميعًا في الأموال والنساء، ويجتمع رجالها ونساؤها في ليال ويعكف كل واحد منهم على المرأة التي اتفق جلوسها بجانبه. ويدينون بألوهية بابك الخرمي. ولا أدري كيف يكون الباقلاني من هذه الفرقة ويخفي أمره على جميع الناس عدا أبا حيان. وكيف يتركه حساده المتربصين به، ولا يرفعون أمره للسلطان فيهدر دمه ويصلبه كما فعل ببابك الخرمي. ففرية أبي حيان على الباقلاني فرية مفضوحة، لا تستحق كل هذا الاهتمام والرد. وأما الدوافع على فعل أبي حيان هذا - فيما أظن - هو إشباع نهمه في نهش أعراض المسلمين الذي عليه يجيته. فهو متأس بالحطيئة الذي لا ينطق لسانه إلا بهجاء الناس، فلما لم يجد من يهجوه هجا نفسه.

وقد تكون أسباب لوقوع اختياره للمتكلمين عمومًا والقاضي الباقلاني خصوصًا. ولعل منها بغضه لعلم الكلام والمتكلمين. أو يكون فعله هذا انتصارًا لأستاذه أبي سليمان المنطقي الذي يعادي القاضي الباقلاني. والله أعلم. 3 - أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي المتوفي 446 هـ. ألفن الأهوازي كتابًا في مثالب أبي الحسن الأشعري خصوصًا وأصحابه عمومًا ورد عليه ابن عساكر بكتابه "تبين كذب المفتري" وممن ناله طعن الأهوازي القاضي الباقلاني، فقال ابن عساكر في تبيين كذب المفتري وهو ينقل طعن الأهوازي على الباقلاني ويرد عليه: "وأما ما ذكره في حق القاضي أبي بكر الباقلاني - رحمه الله - من أنه كان أجير الفامي، وأنه إنما ارتفع قدره بمداخلة السلاطين لا بالعلم، فهو عين الجهل والتعامي وهل ينكر فضل القاضي في العلم والفهم من شم أدنى شمة من العلم؟ فتصانيفه في الخلق مبثوثة، وعلومه عنه مستفادة موروثة، وقد كان يدرس المدة الطويلة في دار السلام، ويصنف الكتب الجليلة في قواعد الإسلام، فقوله في حقه قول من لا يتحاشى من الكذب". وتعليق ابن عساكر على طعن الأهوازي كاف في الجواب إلا إني أضيف أن الأهوازي مثل التوحيدي مردود الشهادة لعدم تزيكة أهل العلم له من محدثين وغيرهم. ويكفيه قبحًا تجرؤه على وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عنه تلميذه الخطيب البغدادي: أبو علي الأهوازي كذاب في الحديث والقرآن جميعًا"، وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "الأهوازي ضعيف".

وذكر ابن عساكر في تبيين كذب المفتري أن الأهوازي كان سالميًا مشبهًا مجسمًا حشويًا، ألف كتابًا سماه " البيان في شرح عقود أهل الإيمان" شحنه بأحاديث الصفات، ومن اطلع على ما فيه من الآفات، ورأى ما فيه من الأحاديث الموضوعة، والروايات المستنكرة المدفوعة، والأخبار الواهية الضعيفة، والمعاني المتنافية السخيفة، كحديث ركوب الجمل وهو: "رأيت ربي يوم عرفة بعرفات على جمل أحمر عليه إزاران وهو يقول: قد سمحت قد غفرت إلا المظالم". وحديث عرق الخيل، وهو: "إن الله - تعالى لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق" قضى عليه في اعتقاده بالويل. والسالمية التي ينتمي لها الأهوازي تقول: "إن الله سبحانه يرى في صورة آدمي" ويعتقدون أن الميت يأكل في قبره ويشرب. وأن الله سبحانه يقرأ القرآن على لسان كل قارئ. ومن هذا حاله كيف يقبل قوله في علماء المسلمين؟ 4 - ابن حزم أبو محمد علي بن أحمد المتوفى سنة 456 هـ. نسب له أقوالًا معظمها لم يقلها الباقلاني، ولا توجد في كتبه، ومن ذلك: (أ) قال في كتابه "الدرة فيما يجب اعتقاده": "قال الباقلاني: إن جميع المعاصي جائزة من جميع الأنبياء حاش الكذب في البلاغ فقط". والذي وجدته في كتابه "التقريب والإرشاد" موضوع التحقيق في هذا الكتاب أنه جوز عليه التورية والمعاريض في غير البلاغ إذا احتاج إليهما، وجوز السهو والنسيان والمعاصي فيما يخصه من الفرائض" ووضح

إمام الحرمين في البرهان قول الباقلاني فنسب له القول بامتناع الفواحش والموبقات والأفعال المعدودة من الكبائر، وحصر الخلاف في الصغائر، وارتضى قول الباقلاني. ونقل الشوكاني في إرشاد الفحول عن الباقلاني أنه نقل الإجماع على عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر. ونقل الآمدي في الإحكام عن الباقلاني مثل ما نقل الشوكاني. وبهذا يظهر مدى التجني في النقل من ابن حزم على أبي بكر الباقلاني. (ب) قال ابن حزم في الدرة: "وما قال أحد من أهل الإسلام أن الإيمان عقد بالقلب دون نطق باللسان إلا طائفة من أهل البدع والشذوذ كجهم بن صفوان وأتباعه وابن الباقلاني وابن فورك، ومن وافقهم". والذي وجدته في كتابه الأنصاف: "واعلم أننا لا ننكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان على ما جاء في الأثر، لأنه إنما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة". ولكن الباقلاني في كتابه التمهيد عرف الإيمان بأنه التصديق بالله تعالى، وهو موجود في القلب. ثم بين أن هذا هو الإيمان في اللغة، وهو عل أصله يرى أن المشرع لم يغير معاني الكلمات في اللغة إلى الشرع. فأجمل في التمهيد الكلام مما حدا بابن حزم وغيره إلى نسبة الباقلاني للإرجاء بدون بيانه المراد بالإرجاء في كتابه الفصل: حدث قال: "ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من المرجئة

منهم محمد بن الطيب الاقلاني ومن تبعه" والأمانة العلمية تقتضي أن يفصل مقالة الباقلاني حتي لا يظن ضان أنه يقول: " لا تضر مع الإيمان معصية" كما يقول جهم وغيره. (ج) قال ابن حزم في الفصل بعد أن ذكر الشاعرة وأن ابن الباقلاني كبيرهم: "فرقة مبتدعة تزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس الآن رسول الله، ولكن كان رسول الله. وهذا قول ذهب إليه الأشعري، وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالي ورسوله، ولما أجمع عليه أهل الإسلام ونعوذ بالله من هذا القول، فإن صراح". والذي وجدته في الإنصاف للباقلاني: "ويجب أن يعلم أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل ولا تتخرم بخروجهم عن الدنيا، وانتقالهم إلي دار الآخرة، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم، وحالة اشتغالهم، إما بأكل أو شرب أو قضاء وطر" ففرية ابن حزم هذه وضحت بهذا النقل وضوح الشمس. وقد كذب نسبة هذا القول للشاعرة عموما أبو القاسم القشري في رسالته لأهل العراق التي أرسلها من خراسان وشرح فيها ما نال الشاعرة وأهل السنة من البلاء، ونفي هذا القول وقع من احد من الشاعرة في مجلس مناظرة، ولا جد في كتاب لهم، والرسالة بطولها نقلها ابن السبكي في طبقاته. (د) يقول ابن حزم في كتابه الفصل: "ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب

الباقلاني، وجميع الرافضة من الشيعة إلي أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه". والذي وجدته في كتابة التمهيد قولمنها: قال قائل: خبرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم؟ قيل لهم: يجب أن يكون علي أوصاف: منها: أن يكون قرشياً من الصميم. ومنها: أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً منقضات المسلمين. ومنها: أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب، وتدبير الجيوش والسرايا، وسد الثغور، وحماية البيضة، وحفظ الأمة، والانتقام من ظالمها، والأخذ لمظلومها، وما يتعلق به من مصالحها. ومنها: أن يكون ممن لا تلحقه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود، ولا جزع لضرب الرقاب. ومنها: أن يكون أمثلهم في العلم، وسائر هذه الأبواب إلي يمكن التفاصيل فيها إلا أن يمنع عارض من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفصول". ثم أقام الأدلة علي كل ما قاله فقال: "وإما ما يدل علي جواز العقد للمفصول وترك الأفضل لخوف الفتنة والتها رج فهو أن الإمام ينصب لدفع العدو وحماية البيضة، وسد الخلل، وإقامة الحدود، واستخراج الحقوق، فإذا خيف بإقامة أفضلهم الهرج والفساد والغالب وترك الطاعة، واختلاف السيوف، وتعطيل الأحكام والحقوق، وطمع عدو المسلمين في اهتضامهم، وتوهين أمرهم، صار ذلك عذراً واضحاً في العدول عن الفاضل إلي المفصول.

ويدل على ذلك أيضا علم عمر-رضي الله عنه- وسائر الأمة والصحابة بأن في الستة فاضلاً ومفضولا، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدي إلي صلاحهم وجمع كلمتهم من غير إنكار أحد علي عمر ذلك. وفريته علي الباقلاني خاصة والشاعرة عموما وضحت بهذا النقل. (هـ) قال ابن حزم في كتابه الفصل "قال الشاعرة في كتبهم: الروح تنقل عند خروجها من الجسم إلي جسم آخر، هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه، وأظنه الرسالة المعروفة بالحرة". والذي وجدته في الإنصاف للباقلاني. والذي جزم السيد أحمد صقر في مقدمة إعجاز القرآن أنه كتاب "الحرة" "ويجب أن يعلم أن كل ما ورد به الشرعة من عذاب القبر، وبسؤال منكر ونكير، ورد الروح إلي الميت عند السؤال، ونصب الصراط والميزان والحوض والشفاعة للعصاةة من المؤمنين، كل ذلك حق وصدق". فأثبت رجوع الروح للميت. ثم هذا المذهب لم أجد من نسبه لأحد من الشاعرة، ولكن نسب هذا المذهب للقائلين بالتناسخ وهم السمينة وطائفة من الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون، ونسب للمنوية وبعض اليهود. وعرف في دولة الإسلام عن السبئية، الذين قالوا: إن عليا حلت روح الإله فيه، وعن البيانية والجناحية والخطابية والراوند من الروافد الحولية، ونسب لبعض القدرية كأحمد ابن خابط ومن تابعه. وينظر في ذلك الفرق بين الفرق للبغدادي.

(و) يقول ابن جزم في كتابه الفصل: ومن شنعهم- بعني الشاعرة- قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار لنقل القرآن: "إن تقسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سوره شيء فعله الناس، وليس من عند الله، ولا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ". والموجود في مخطوطة الانتصار اللوحة الرابعة: "ترتيب الآيات أمر واجب، وحكم لازم، فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وأن ترتيبه ونظمه ثابت علي ما نظمه الله تعالي ورتبه عليه رسوله م آي السور، لم يقد من ذلك آي كل سورة ومواضعها، وعرفت مواقعها، كما ضبطت منه نفس القراءات، وأنه يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رتب سوره علي ما انطوي عليه مصحف عثمان، ويمكن أن يكون قد وكل ذلك إلي الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه، وأن هذا القول الثاني أقرب وأشبه أن يكون حقاً". فالباقلاني يري أن ترتيب الآيات في السور توقيفي من الرسول صلى الله عليه وسلم من غير شك. ونقل الإجماع علي ذلك الزركشي في البرهان، وحكاه السيوطي في الإتقان وإنما الخلاف في ترتيب السور، فذكر السيوطي علي أن جمهور العلماء غلي أنه اجتهاد من أصحابه، ولذا اختلف مصاحف الصحابة في ترتيبها، وقد ذكر السيوطي في الإتقان وجه الاختلاف بين مصاحف الصحابة في الترتيب، وبين أن للقاضي الباقلاني فيها قولان.

وأقول: ما مبرر التشنيع علي إمام اختار قولاً قال به معظم علماء، وله ذلك أدلة مقنعة؟. (ز) نقل ابن حزم في الفصل عن الباقلاني أنه يقول: "جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". والذي وجدته في التمهيد للباقلاني في معرض الرد علي البراهمة الجاحدين للرسل:: "ثم يقال له: ما أنكرتم علي من قال من مثبتي نبوة الرسل أن الله تعالي ليس يفضل احد الشخصين علي الآخر المجانس له ابتداء، ولا لأجل جنسه، ولكن لأجل أنه مستحق للتفضيل بالرسالة وغيرها بعلمه والإخلاص في الاجتهاد .... فيكون التفضيل بالرسالة إذا أراد الله سبحان إرسال بعض عباده إلي باقي، لأنه أفضلهم وأكثرهم عملاً". ويقول الإيجي في المواقف: "وأفضل الناس بعد رسول الله هو عندنا- يعني الشاعرة- وعند أكثر قدماء المعتزلة أبو بكر الصديق". وابن حزم لم يبن أين وجد ما نقله حتي تعلم صحته من سقمه، مع أن ما وجدناه في التمهيد والمواقف يخالفه، فيغلب علي الظن أن ما نقله ابن حزم هو وهم أو تجنبي دفعته إليه سجيته. والله أعلم. (ح) يقول ابن حزم في الفصل: "ومن العجيب أن هذا النذل الباقلاني قطع بأن داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس. أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته مع عظيم جهله؟ ولكن من يضلل الله فلا هادي له".

ولعل هذا هو السر في هجوم ابن حزم علي الباقلاني علي الخصوص والشاعرة علي العموم. ولكن الأمر لم يقف علي الشاعرة والباقلاني، فالسب والشتم والطعن لم يفلت فيه من لسان ابن حزم إلا النادر من علماء الأمة. وقد بين العلماء حاله، وحذروا من النظر في كتبه، ومن ذلك: 1 - قال ابن السبكي في طبقاته عن كتاب الفصل:"كتابة هذا من أشهر كتبه، وما برح المحققون من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الازدراء بأهل السنة". 2 - قال ابن العماد في شذرات الذهب: كان ابن حزم كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت منه القلوب، واستهدفت الفقهاء وقته، فتمالؤا علي بغضه، وردوا قوله، وأجمعوا علي تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من قتنتة، ونهوا عواملهم عن الدنو منه، والأخذ عنه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده. ونقل عن "العريف" قوله المشهور: "كلن لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين". 3 - نقل سعيد الأفغاني في كتابه ابن حزم الأندلسي عن أبي بكر ابن العربي أنه قل: "نشأ ابن حزم وتعلق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلي داود، ثم خلع الكل، واستقل بنفسه، وزعم أنه إمام الأئمة، يضع ويرفع، ويحكم ويشرع، وينسب إلي دين الله مالي منه، ويقول عن العلماء مال يقولوا، تنفيرا للقلوب عنهم". 4 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "ابن حزم خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل

الحديث في معاني مذهبهم ..... إلي أن قال: مضموما إلي ذلك كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوي متابعة الظواهر". 5 - نقل لشوكاني في إرشاد الفحول عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه وصف ابن حزم بالمكابرة، لأنه أنكر حجية مفهوم الموافقة. ولعل من أسباب افتراءات ابن حزم علي الباقلاني موقفه من أهل الظاهر. فقد إمام الحرمين في البرهان قوله الباقلاني في أهل الظاهر وهو: هؤلاء داود وطائفة من أصحابه، وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء، ولا يتخرق الإجماع بخروجهم عنه، وليسوا معدودين من علماء الشريعة". وقال أبوا إسحاق الشيرازي في شرح اللمعة: " كان أبو بكر الباقلاني يقول: نحن نفسق نفاه القياس، فإنهم مخالفون إجماع الصحابة بنفي القياس". وقال العطار في حاشيته علي شرح جمع الجوامع: "قال حبر الأصول أبو بكر الباقلاني: "إني لا أعدهم من علماء الأمة، ولا أبالي بخلافهم ولا فارقهم". 5 - وممن طعن في الباقلاني الدكتور عبد الرحمن بدوي المعاصر ذكر في كتابة "مذاهب الإسلاميين": "إن الباقلاني لم يتعلم اصطلاحات أهل المنطق، ثم علل ذلك بأنه راجع إلي قلة بضاعته إن لم يكن جهله التام بالفلسفة الأرسطية بخاصة، والفلسفة اليونانية بعامة".

وهذا الكلام من تطاول الأقزام على العمالقة. فالباقلاني له كتب في نقض المنطق الارسطوطاليسي، وليس هو الوحيد في ذلك، فقد سلك هذا المسلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وألف في ذلك كتابين هما: ((نقض المنطق)) طبع بعناية الشيخ محمد حامد الفقي. وكتابه ((الرد على المنطقيين)) طبع برعاية إدارة ترجمان السنة في باكستان. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ((موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)) ((أن أبا بكر بن العربي وضع قانوناً مبنياً على طريقة القاضي أبي بكر الباقلاني)) وذكر ابن القيم في كتابه ((مفتاح دار السعادة)) في معرض نقض المنطق: ((ووقفت على رد متكلمي الإسلام عليه، وتبين فساده وتناقصه من أهل الكلام والعربية كالقاضي أبي بكر بن الطيب، والقاضي عبدا لجبار والجنائي وابنه وأبي المعالي، وخلق لا يحصون كثرة)). فشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر أن له طريقة تنسب إليه. وابن القيم نقل أنه نقض المنطق الارسطوطاليسي، وكيف يمكنه نقضه بدون علمه بدقائقه؟ هذا ما وجدته مما قيل في الباقلاني مدحاً وثناء، وطعنا وذماً. فما ورد مفصلاً مبرراً وظهر لنا غيره أجبنا عنه بما وجدناه في كتبه أو كتب أصحابه، وحكمت على ما قيل بالرد مع ذكر الدليل على فساد ما نسب إليه، لأنه يجب على المسلم أن يذب عن أعراض المسلمين ما استطاع لذلك سبيلاً. والذي ظهر لي أن طعن ابن حزم، وأبو حيان التوحيدي، وأبو علي ألأهوازي، والدكتور عبد الرحمن بدوي كله باطل بل فيه افتراء متعمد من بعضهم لعدم الأمانة في النقل عنه. ويلتمس العذر لبعضهم بالجهل في حقيقة ما عليه الباقلاني.

وأما ما ذكره شيخ الشافعية أبو حامد الاسفرائيني في نقده للباقلاني ووصفه بالابتداع وتبرؤه من معتقده. فهي مسألة وافق فيها أبو بكر الباقلاني عامة الشاعرة بناء على تقسيمهم الكلام إلى نفسي وإلى صوت وحرف. بل هي أعظم مسألة خالف فيها الشاعرة طريقة السلف. وللإسفرائيني حق في إنكاره على من يخالفه. ولكن قد لا يكون الحق معه في الأسلوب الذي اختاره وما من عالم من علماء الأمة إلا وله وعليه، لعدم ثبوت العصمة لأحد من البشر عدا رسل الله وسلامه عليهم.

مناظراته

المبحث العاشر مناظراته ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك وأن أبا عبدا لله الأردي قال: ((كان الملك عضد الدولة يحب العلماء، وكان مجلسة يحتوي منهم على عدد عظيم من كل فن، وأكثرهم الفقهاء المتكلمون، وكان يعقد لهم مجالس للمناظرة. وكان قاضي قضاته -بشر بن الحسين- معتزليها فقال له: عضد الدولة يوماً: هذا المجلس عامر بالعلماء، إلا إني لا أرى فيه قاعداً من أهل الإثبات -يعني أهل الحديث- ينصر مذهبه. فقال له قاضيه: إنما هم أصحاب تقليد ورواية، يروون الخبر وضده، ويعتقد جميعاً، ولا أعرف منهم أحداً يقوم بهذا الأمر، ثم أقبل يمدح المعتزلة. فقال له عضد الدولة: محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر له، فانظر أي موضع فيه مناظر نكتب له ويحضر مجلسنا، فلما عزم عليه قال القاضي: أخبروني أن بالبصرة شيخاً وشاباً: الشيخ يعرف بأبي الحسن البالي، وفي رواية أبي بكر بن مجاهد، والشاب يعرف بالباقلاني. فكتب الملك من حضرته يومئذ بشيراز إلى عامله بالبصرة ليبعثهما إليه، وأرسل مالاً لنفقتهما من طيب ماله. فلما وصل الكتاب إليهما. قال الشيخ وبعض أصحابه: ((هؤلاء القوم كفرة فسقه -لأن بني بزيه من الديلم روافد- لا يحل لنا أن نطأ بسطهم، وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت)).

قال القاضي: فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومن في عصرهم عن المأمون إنه فاسق لا نحضر مجلسه حتى ساق الإمام أحمد بن حنبل إلى طرطوس وجري عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه هذا الأمر، وتبين له ما هم عليه من الحجة، وأنت -أيضاً- أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجرى على الفقهاء ما جرى على الإمام أحمد، وبقولون بخلق القرآن ونفي الرؤية. وها أنا خارج أن لم تخرج. فقال الشيخ: إذ شرح الله صدرك لهذا فاخرج)). فإذا السبب في إحضار البلقاني إلى مجالس عضد الدولة هو مشاركته في المناظرات الدائرة في مجالسة، والتي كانت قاصرة على علماء الدولة المعتزلة. ثم أرسل عضد الدولة الباقلاني إلى بلاد الروم في سفارة. وهناك عقد العديد من المناظرات. والراغب في الإطلاع على مناظرات الباقلاني وما دار فيها يجدها في الكتب التالية: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك - الجزء السابع- والكامل لابن الأثير وتبين كذب المفتري لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوي، والبداية والنهاية لابن كثير، وعيون المناظرات للسكوني، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وطبقات الخضري مناظراته في بلاد الروم في رسالة سماها ((الباقلاني)). ومناظرات الباقلاني تنقسم إلى قسمين: فالقسم الأول هو الذي عقده مع المعتزلة وغيرهم في مجالس عضد الدولة وغيرها وهو كثير جداً يصعب حصره. والقسم الآخر هو ما عقده في بلاد الروم أثناء سفارته إليها، وهو ممكن الحصر، نظراً لقصر المدة التي أقامها عندهم.

أما مناظراته في بلاد الروم فمواضيعها كما يلي: 1 - قصة الإفك. حاولوا فيها التشنيع على الرسول صلى الله عليه وسلم، وألزمهم فيها بما نسب لمريم ابنة عمران. وقد ذكرتها في مبحث صفاته كدليل على فطنته وحدة ذكائه. 2 - سؤال البطريك الأعظم عن أهله وولده، لإلزامهم بنفي الولد عن الله، وقد ذكرتها في مبحث صفاته _أيضاً- كدليل على فطنته. 3 - انشقاق القمر ومحاولة تكذيبهم لهذه الآية. وقد ألزمهم بالقول بها بنزول المائدة وبرؤية الكسوف في موضع دون موضع. 4 - قول النصارى في عيسى عليه السلام إنه ابن الله اعتماداً على إحيائه الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص. وبين لهم أنه عبد الله ورسوله، وأن ما ظهر على يديه هو بفعل الله سبحانه وتعالى. 5 - قولهم باتحاد اللاهوت بالناسوت. أما مناظراته في مجالس عضد الدولة وغيرها في دولة بني بويه فلا حصر لها، ونذكر منها: 1 - قصته مع ابن العلم المعتزل لما وصف القاضي -رحمه الله- بأنه شيطان .. ذكرتها في مبحث صفاته، دليلاً على فطنته وسرعة بديهته. 2 - التكليف بما لا يطاق. حدثت مع الأحدب رئيس المعتزلة البغداديين، وبرفقته عدد كبير من معتزلة البصرة منهم: أبو إسحاق النصيبي. وانتهت المناظرة بميل الملك القاضي الباقلاني. 3 - مسألة الرؤية: أي رؤية الله يوم القيامة، التي ينكرها المعتزلة، وكانت بحضرة عضد الدولة ومعه أبو إسحاق النصيبي.

4 - التنجيم: وكانت مع أبي سليمان المنطقي، وبحضور وزير عضد الدولة وابن الصوفي، قبيل سفر القاضي إلى بلاد الروم. وانتهت بانقطاع أبي سليم المنطقي. 5 - الاجتهاد: حدثت مع شيخه أبي عبدا لله بن مجاهد الطائي، وبقيت إلى الفجر، وظهر كلام القاضي الباقلاني على شيخه. وكانت في محضر حافل من العلماء بيت أبي الفضل التميمي الحنبلي. 6 - ناظر أبا سعيد الهاروني، وهي التي تحداه فيها أن يعيد كلامه ويعفيه من الجواب ولم توضح المصادر موضوع المناظرة. 7 - طلب مناظرة قاضي قضاة المعتزلة عبد الجبار بن أحمد. فأرسل له أحد تلاميذه، وهو أبو القاسم البستي. هذا ما استطعت الإشارة إليه من مناظراته، والمناظرات تعتبر من أهم النشاط العلمي، الذي لا تقل فائدته عن المصنفات.

مؤلفاته

المبحث العاشر مؤلفاته لقد تنوعت مصنفات الباقلاني فشملت شتي أنواع العلوم اللغوية والدينية. وقد أحصي منها القاضي عياض في ترتيب المدارك ما يزيد على خمسين مصنفاً بين كبير وصغير تناولت أصول الدين الفقه وأصول التفسير والفقه واللغة والجدل والسيرة والتاريخ. والذي بلغني أنه طبع منها خمسة فقط هي: 1 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، المشهور بالتمهيد. ألفه للأمير صمام الدولة بن عضد الدولة لما دفع والده به إلى القاضي ليؤدبه، ويبين له فيه ما يعتقد أهل السنة، والرد على أهل البدع والأهواء، وغيرهم، وخاصة المعتزلة. وقد بين فيه القاضي فساد عقائد هذه الطوائف، وذكر بعض فضائل الصحابة والخلفاء الراشدين الأربعة، وقد طبع هذا الكتاب أربع - فيما أعلم- إحداها بتحقيق محمد عبد الهادي أبوريده ومحمود محمد الخضري طبع سنة 1947 م. وثانيها بتحقيق الأب اليسوعي رتشارد يوسف مكارثي. وثالثها بتحقيق عماد الدين أحمد. صدر سنة 1987 م. ورابعتها بتحقيق الشيخ محمد عبد لرازق حمزة، شيخ دار الحديث المكية.

قال سزكين في "تاريخ التراث العربي": له شرح بعنوان ((التسديد في شرح التمهيد)) للقاضي عبد الجليل بن أبي بكر الربعي. 2 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به. ذكر الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمة إعجاز القرآن أن الكتاب المطبوع باسم الإنصاف هو كتاب ((رسالة الحرة)) وقطع بذلك، واعتمد فيما ذهب إليه على أمرين: الأول: قال الباقلاني في مقدمته: ((قد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية)). الثاني: إن القاضي عياض جامع كتب الباقلاني لم يذكر كتاب الإنصاف في كتبه. وقد ورد باسم ((رسالة الحرة)) في الفصل، وفي كتاب ابن القيم)) اجتماع الجيوش الإسلامية. وطبع باسم الإنصاف مرتين: الأولي بتحقيق محمد زاهد الكوثري سنة 1369 هـ. والثانية بتحقيق عماد الدين أحمد حيدر سنة 1986 م، وموضوعه في أصول الدين. 3 - إعجاز القرآن: وهو في بيان وجوه الإعجاز في القرآن، وخاصة بديع نظمه وبلاغته، وما يحتويه من الأمور الغيبية سواء ما سيحدث، أو ما حدث في العصور الغابرة، وفيه مقارنة بينه وبين بعض الشعر والخطب. مع ذكر بعض مسائل علوم القرآن. وقد طبع في القاهرة على هامش كتاب الإتقان للسيوطي سنة 1315 هـ، وطبع مرة أخرى بتحقيق وتعليق السيد أحمد صقر سنة 1954 م بالقاهرة. 4 - كتاب الانتصار لصحة نقل القرآن والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان. طبع بتحقيق الدكتور محمد سلاما مذكورا سنة 1973 م.

له مختصر بعنوان ((نكت الانتصار)) لأبي عبدا لله الصيرفي بترتيب عبد الجليل ابن أبي بكر الصابوني الربعي على ما في تاريخ التراث لسركين. نقل منه السيوطي في الإتقان في عدة مواضع وكذلك ابن حزم في الفصل. 5 - كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر، طبع بتحقيق الأب اليسوعي رتشارد يوسف المكارتين سنة 1958. وقد أحال عليه المصنف في كتابنا هذا. وذكره القاضي عياض باسم ((الكرامات)). وفيما يلي كتبه التي لم تطبع: 6 - هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين. ذكر سزكين في تاريخ التراث 1/ 4/50 أنه يوجد منه قسم في مكتبة الأزهر في 248 ورقة، برقم 21 كلام. وذكر أنه يوجد له مختصر بعنوان ((تخليص الكفاية من كتاب الهداية)) لمحمد بن أبي الخطاب بن خليل الأشبيلي، وله نسخة في جامع القيروان. ووصفه القاضي عياض في ترتيب المدارك بأنه كبير الحجم، وذكره أبوا لمظفر الاسفرائيني في التبصرة في أصول الدين، وذكره الباقلاني في التمهيد. 7 - كتاب نقض النقض على الهمذاني. ذكره الاسفرائيني في التبصير، وأشار إليه ابن تيمية في كتاب النبوات. وذكر أن عبد الجليل بن أحمد قاضي قضاة المعتزلة صنف كتابا في نقض اللمع لأبي الحسن الأشعري. ورد عليه الباقلاني بكتاب سماه ((نقض اللمع)). وذكره القاضي عياض في مصنفاته، ووصف بأنه كبير.

8 - كتاب النقض الكبير: ذكره إمام الحرمين في الشامل على ما ذكره السيد أحمد صقر في مقدمة إعجاز القرآن فقال إمام الحرمين: ((قال أبو بكر الباقلاني في النقض الكبير: من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له، فقد خرج عن المعقول)). والمذكور في ترتيب المدارك ((كتاب نقض الفنون للحافظ))، ولا أعلم هل هما كتابان أم كتاب واحد؟ نرجو أن يكشف المستقبل جوابا لهذا السؤال. 9 - كتاب الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة. ذكره ابن تيمية في الفتاوى 5/ 98، والفتاوى الحموية ص 67، والرسالة التسعينية ص 421، وكذلك تلميذه ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهنمية ص 147، وابن العماد في شذرات الذهب: 3/ 169 والقاضي عياض في ترتيب المدارك. 10 - كتاب كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجاحد والعناد. ألفه قبل التمهيد، لأنه يحيل عليه، فقأ في ص 34 ((وتقصينا طرفا من الكلام في الأبواب التي قدمنا ذكرها في كتاب ((كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجاحد والعناد)) بما نستغني به عن الترداد. وذكره القاضي عياض باسم كتاب ((الاستشهاد)). 11 - كتاب أكفار المتولين وحكم الدار. ذكره في التمهيد ص 479 حيث قال: ((وقد ذكرنا ما في هذا الباب في كتاب أكفار المتولين وذكرنا ما روي في معارضتها)). وقد ذكره في كتابه التقريب والإرشاد هذا، وذكره في ترتيب المدارك باسم (الكفار

المتولين وحكم الدار)). وذكره البغدادي في الفرق بين الفرق ص 133، ونقل منه حوالي عشر صفحات في الطعن على النظام. 12 - كتاب التعديل والتحوير: ذكره في ترتيب المدارك باسم ((التعديل والتجريح)) وهو تصحيف. 13 - كتاب شرح اللمع. اللمع لأبي الحسن الأشعري شرحه الباقلاني أثناء إقامته بشيراز، وطبع الأصل بتحقيق د. حمود غرابة سنة 1955 م، وترجمه للإنجليزية الأب مكارتي، على ذكره سزكين في تاريخ التراث العربي 1/ 4/38، وذكره القاضي عياض. 14 - كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار في الرد على الباطنية. ذكره ابن السبكي في طبقاته 4/ 192 بعنوان ((كشف أسرار الباطنية)) وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 346 وأفاد منه ابن حزم في الفصل 4/ 222، وذكره القاضي عياض. 15 - كتاب مناقب الأئمة ونقض المطاعن عن سلف الأمة. ذكره الباقلاني في التمهيد ص 548، فقال: وقد بسطنا ذلك ضربا من البسط في كتاب مناقب الأئمة. قال سزكين: موجود منه الجزء الثاني في 235 ورقة في الظاهرية برقم 66 تاريخ. وذكره القاضي عياض. 16 - كتاب دقائق الكلام والرد على من خالف الحق من الأوائل ومنتحلي الإسلام. وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 350 بعنوان: ((دقائق الحقائق)).

وذكره القاضي عياض باسم ((دقائق الكلام)). 17 - كتاب التبصرة. ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 350، والقاضي عياض في ترتيب المدارك. 18 - كتاب الإمامة الكبيرة. ذكره ابن حزم في الفصل 4/ 225، وذكره القاضي عياض باسم الأمانة الكبيرة. 19 - كتاب الإمامة الصغيرة. ذكره القاضي عياض باسم الأمانة الصغيرة. 20 - كتاب إمامة بني العباس. ذكره القاضي عياض. 21 - نصرة العباس وإمامة بنيه في المعجزات. أورده القاضي عياض بلفظ نبيه. قال هو جواب أهل استيجاب. 22 - كتاب على المتناسخين. ذكره القاضي عياض. 23 - كتاب الحدود في الرد على أبي طاهر محمد بن عبدا لله بن قاسم ذكره القاضي عياض. 24 - كتاب على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن. ذكره القاضي عياض.

25 - كتاب المقدمات في أصول الديانات. ذكره القاضي عياض. 26 - تصرف العباد والفرق بين الخلق والاكتساب. ذكره القاضي عياض. 27 - كتاب البيان عن فرائض الدين وشرائع الإسلام، ووصف ما يلزم ممن جرت عليه الأقلام من معرفة الأحكام. ذكره القاضي عياض. 28 - كتاب رسالة الأمير. ذكره القاضي عياض. 29 - كتاب المسائل القسطنطينية. ذكره القاضي عياض. 30 - المجالسات المشهورة. ذكره القاضي عياض. 31 - كتاب جواب أهل فلسطين. ذكره القاضي عياض. 32 - البغداديات. ذكره القاضي عياض. 33 - النيسابوريات. ذكره القاضي عياض. 34 - الجرجاني. ذكره القاضي عياض.

35 - مسائل سأل عنها ابن عبد المؤمنز ذكره القاضي عياض. 36 - الأصبهانيات. ذكره القاضي عياض. 37 - كتاب شرح أدب الجدل. ذكره القاضي عياض. 38 - كتاب في أن المعدوم ليس بشيء. ذكره القاضي عياض. 39 - كتاب فضل الجهاد. ذكره القاضي عياض. 40 - كتاب الدماء التي جرت بين الصحابة. ذكره القاضي عياض. 41 - كتاب الأحكام والعلل. نقل منه الزركشي في البحر المحيط 5/ 111 باسم "الأخبار عن أحكام العلل". وقال هو مجلد لطيف. ذكره القاضي عياض. 42 - كتاب أمالي اجماع أهل المدينة. ذكره القاضي عياض. 43 - كتاب مسائل من الأصول. ذكره القاضي عياض. 44 - كتاب الأصول الكبير. أو التقريب والإرشاد الكبير.

أحال عليه في كتابنا هذا باسم الأصول الكبير. ووصفه الاسفرائيني في كتابه التبصير في الدين ص 119 أنه يبلغ عشرة آلاف ورقة. ذكره القاضي عياض بالاسمين. ويغلب على الظن أنهما كتاب واحد. 45 - كتاب الأصول الأوسط. أو التقريب والإرشاد الأوسط. أحال عليه في كتابنا هذا. ولم يذكره القاضي عياض، ولكن ذكر مختصر التقريب والإرشاد الأوسط. وقال لم أره. والذي يظهر لي أنهما كتاب واحد سمي بالاسمين. بدليل اشتراكهما في كلمة الأوسط. وكذلكن فإن القاضي عياض ذكره بالاسم الأول في الكتب التي رآها. وذكره بالاسم الثاني في الكتب التي لم يرها. 46 - كتاب الأصول الصغير. أو التقريب والإرشاد الصغير. ذكره القاضي الباقلاني في الكتب التي رآها بالاسم الأول، وفي الكتب التي لم يرها بالاسم الثاني. والذي يبدو لي أنهما كتا بواحد، وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا، بدليل أنه أحال على الكبير والأوسط في كتابه هذا، فإذن هذا الكتاب هو التقريب والإرشاد الصغير. 47 - المقنع في أصول الفقه. ذكره القاضي عياض بهذا الاسم. وقد ذكر آخرون كتبًا أخرى أظن أنها من باب الاختلاف في التسمية فقط. وهذا القائمة الطويلة من الكتب، والتي بلغ عدد صفحات بعضها عشرة آلاف ورقة تدل على قدرة فائقة على التأليف والتصنيف، وعلى أن الله - سبحانه وتعالى - بارك للباقلاني في وقته، وقد ذكر أبو الفضل التميمي أن مصنفات الباقلاني سبعين ألف ورقة في الرد على الملحدين على ما في تبيين كذب المفتري ص 221.

وفاته

المبحث الحادي عشر وفاته توفي الباقلاني - رحمه الله - آخر يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة 403 هـ. ودفن يوم الأحد. وصلى عليه ابنه الحسن، الذي اخترمته المنية بعد أبيه. ودفن القاضي - رحمه الله - في داره بنهر دابق في بغداد، ثم نقل بعد ذلك إلى مقبرة باب حرب، ودفن بجوار قبر الإمام أحمد بن جنبل - رحمهم الله جميعًا، وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك: وجدت عند غير الخطيب البغدادي أنه توفى سنة 404 هـ، أيام بهاء الدولة، والخليفة القادر بالله. ن ولكنه جزم بخطئه. والتاريخ الذي اختاره القاضي عياض اعتمد فيه على الخطيب البغدادي في تاريخه. ذكر القاضي عياض أن تلميذه أبا عمران الفاسي أثبت سماعه منه إملاء في رمضان من سنة 402 هـ. وذكر ابن عساكر في تبيين كذب المفتري أن شيخ الحنابلة أبا الفضل التميمي الحنبلي المتوفي سنة 410 هـ حضر يوم وفاته العزاء حافيًا مع إخوته وأصحابه، وأمرن أن ينادى بين يدي جنازته: "هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردًا على الملحدين، وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة". وقد كان بين أبي الفضل والقاضي مخالطة ومؤانسة وإعجاب وتقدير، وذلك لما ذكره القاضي أبو الفضل بأنه اجتمع رأسه ورأس القاضي على مخدة واحدة سبع سنين".

وهكذا انتهت حياة القاضي الباقلاني بعد صراع متواصل مع المعتزلة وسائر الفرق والطوائف تارة بالتصنيف وأخرى بالمناظرات. تصدر المجالس شابا وكان له فيها القدح المعلى. وفارق هذه الدنيا شيخًا عن عمر يزيد على الستين بقليل. وخلف وراءه ما خلد ذكراه من هذا التراث الضخم، الذي يبهر المطلع على عناوينه والذي يتمنى كل طالب علم أن تظهر مصنفاته الكثيرة والعظيمة إلى حيز الوجود.

الباب الثاني في كتاب التقريب والإرشاد وفيه مباحث الأول: اسم الكتاب وصحة نسبته للباقلاني. الثاني: مخطوطة الكتاب وصفتها. الثالث: المصادر التي أفاد منها، والتي أفادت منه في شتى العلوم. الرابع: مختصراته وشروحه. الخامس: أهمية الكتاب ومدى حاجته إلى التحقيق والنشر. السادس: دراسة مسألة "الألفاظ الشرعية". السابع: دراسة مسألة "حمل اللفظ المشترك بين معنيين على معنيية". الثامن: عملي في الكتاب.

اسم الكتاب وصحة نسبته للباقلاني

المبحث الأول اسم الكتاب وصحة نسبته للباقلاني ختم ناسخ نسخة الكتاب التي بين يدي الجزء الأول بما يلي: "تم الجزء الأول من كتاب التقريب والإرشاد، ويتلوه في الجزء الثاني. باب: الكلام في حكم أفعال الرسول صلوات الله عليه وسلامه، والحمد لله حق حمده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وهو بخط يد العبد الفقير إلى رحمة الله الغني بالله محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا القدسي، رحم الله من دعا له بالمغفرة". وكتب على الصفحة الأولى من المخطوطة: "الجزء الأول من التقريب والإرشاد" وكتب في موضع آخر من الصفحة الأولى بخط مخالف لخط الناسخ، ويبدو أنه من المفهرس للمكتبة: "التقريب والإرشاد في علم الكلام والأصول للحافظ محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا المقدسي. وهذه النسخة بخط مؤلفها كتبها بيده سنة 548". وأقول ما كتب في آخر المخطوط بنفس خط المخطوطة يعتمد عليه في تعيين الكتاب أكثر مما يدونه مصنفو المكتبات. لأن مصنف المكتبة ظن أنه لنفس الناسخ وفي الواقع والحقيقة هو لغير الناسخ. والكتاب بهذا الاسم نسبه للباقلاني كل من ترجم للباقلاني أو أرخ لعلم أصول الفقه. والمصدر الأهم في معرفة مصنفات الباقلاني هو كتاب القاضي عياض المالكي "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك". والقاضي عياض رحمه الله يشاركه في المذهب، وقريب العهد به وفاةً، حيث توفي سنة 544 هـ. وقد جمع القاضي عياض في كتابه هذا للقاضي الباقلاني ما ينوف على خمسين مصنفًا معظمها وجدها بخط

شيخه أبي علي الصدفي كما ذكر هو ذلك عند ذكر هذه الكتب. وقد ذكر القاضي عياض للباقلاني ثلاثة كتب تسمى بالتقريب والإرشاد أحدها الكبير والثاني الأوسط والثالث الصغير. وقد أحال الباقلاني في موضعين من الكتاب الذي أيدينا إلى الكبير والأوسط. مما يدل على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو "التقريب والإرشاد الصغير". كما يشهد إلى أن الكتاب الذي بين أيدينا هو الصغير لا الكبير ولا الأوسط أن أبا المظفر الاسفرائيني في كتابه التبصير في الدين ذكر أن كتابه الكبير يشتمل على عشرة آلاف ورقة. والذي بين أيدينا لا يزيد على ألف صفحة. والكتب التي ترجمت للباقلاني نسبت عامتها له كتاب التقريب والإرشاد، ولكن الكتب التي نقلت أراء الباقلاني فتارة كانت تذكر قول الباقلاني بدون عزوه لأحد من كتبه، وتارة تعزوه إلى كتاب التقريب والإرشاد وتارة تعزوه لكتاب التقريب على عادة كثير من المصنفين في اختصار اسم الكتاب المعزو إليه لشهرته بين العلماء، وتارة كانت تعزو القول إلى "مختصر التقريب والإرشاد" للباقلاني، تعزوه إلى "تلخيص التقريب" لإمام الحرمين. وسنبين هذا بالتفصيل في الفصل المخصص لمن استفاد من كتاب التقريب والإرشاد. وزيادة في التوثق من صحة نسبة الكتاب لمؤلفه. قابلت الكتاب الذي بين أيدينا بمختصر التقريب لإمام الحرمين الذي عندي مصور له. فوجدت الكتابين يخرجان من مشكاة واحدة، وكثيرًا يكون التوافق في العبارة بالإضافة إلى المعنى.

وزيادة في التوثق اخترت مواضع من الكتب التي نقلت عبارات منه وخاصة الكتب التي كانت تنص على أن هذا لفظ القاضي في التقريب ككتاب الزركشي "البحر المحيط" الذي ذكر في مقدمة كتابه أن عنده نسخة من التقريب والإرشاد ولهذا كان ينقل منه مباشرة بدون واسطة. وإليك بعض النماذج المنقولة منه ومعزوة إليه باسم التقريب والإرشاد: 1 - قال الزركشي في البحر المحيط: وبهذا الأخير صرح القاضي في التقريب فقال: "فإن قيل: ما تقولون لو ثبت أسماء شرعية هل تحمل على موجب اللغة أو الشرع؟ قلنا: يجب الوقف، لأنه يجوز أن يراد بها ما هو لها اللغة، ويجوز أن يراد ما هو في الشرع، ويجوز أن يريد الأمرين، فيجب لتجويز ذلك الوقف حتى يدل دليل على المراد"، وهذا النقل مطابق لما هو موجود في كتابنا هذا في الصفحة الخامسة والتسعين من المخطوطة. 2 - قال الزركشي في البحر المحيط: قال القاضي: واعتلوا لذلك بضرب من الجهل، وهو أنه لو توهم عدم الفعل لعدمت أحكامه بأسرها، فوجب أن تكون أحكامه هي هو". وهذا مطابق لما هو في الصفحة الخامسة والأربعين من المخطوط من كتابنا هذا.

3 - قال الزركشي في البحر المحيط: "وهو الذي نص عليه القاضي في التقريب قال: ولا يحتاج إلى تكرارها والتكلم بها في وقتين، لعلم كل عاقل أنه يصح قصده من نفسه يقول: لا تنكح ما نكح أبوك، إلى نهيه عن العقد، وعن الوطء جميعًا". وهذا موافق لما في الكتاب الذي بين أيدينا في الصفحة السابعة عشرة بعد المائة من المخطوط. وقد وجدت عشرات المواضع متطابقة مع ما نقله الزركشي وعزاه إلى التقريب والإرشاد مما لا يدع مجالًا للشك أن الكتاب الذي بين أيدينا هو التقريب والإرشاد.

مخطوطة الكتاب وصفتها

المبحث الثاني مخطوطة الكتاب وصفتها مخطوطة الكتاب محفوظة في مكتبة آصفية في سركار عالي بمدينة حيدرآباد الدكن برقم (2249) كلام قديم. ولا تزال هي النسخة الوحيدة التي نما إلى علمي وجودها، بالرغم من البحث المتواصل في فهارس المكتبات العامة والخاصة منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة. ولعل بإخراج الكتاب إلى النور ونشره أن تظهر له نسخ أخرى ممن هو مبتور الأول والآخر، ولا تعرف هويته. والمخطوطة مكونة من جزئين. وصلني الجزء الأول منها، وعدد صفحاته ست وثلاثون وخمسماية صفحة. تتفاوت سطور صفحاته، فتتراوح ما بين تسعة عشر سطرًا وخمسة وعشرين سطرًا. وهي مكتوبة بخط نسخ جميل جدًا، وأكثر حروفها منقوطة، وبهامشها تصويبات وتعليقات مفيدة. بعضها إكمال لنقص وسقط وقع في المخطوط، يشير له بإشارة خاصة. وبعض العبارات توضيح للعبارة الموجودة في المتن، لأنها بنفس معنى المتن، لكن بأسلوب آخر. وكل هذا يؤكد أن ناسخها من طلاب العلم، بل من العلماء. حالة المخطوط ممتازة خالية من النقص أو الطمس أو عبث الأرضة والرطوبة سوى سقط يسير جدًا في أولها يتعلق بتعريف الفقه لغة، وتداركت هذا النقص من كتاب "تلخيص التقريب" لإمام الحرمين. النسخة مكتوبة في سنة 548 هـ بعد وفاة المنصف بمائة وخمس وأربعين سنة بخط الحافظ محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا القدسي. كما هو مدون في الصفحة الأخيرة من المخطوط. وأشار كاتبها إلى أن الجزء الثاني يبدأ بحكم أفعال الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

وأما مصنف المكتبة فقد وهم وظن أن الكتاب لنفس الناسخ، فكتب على الصفحة الأولى: "التقريب والإرشاد في علم الكلام والأصول للحافظ محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا، وهذه النسخة بخط مؤلفها كتبها بيده" وهذا سبب عدم الاهتداء للكتاب هذه السنوات من عمر النهضة العلمية الحديثة. وقد تابع بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي (763) S,I مصنف المكتبة الآصفية. فنسب الكتاب لكاتبه محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا القدسي. وتابع بروكلمان على هذا محمد رضا كحالة في كتابه معجم المؤلفين: 12/ 38 حيث نسب كتاب التقريب والإرشاد إلى كاتبه المتقدم أيضًا.

المصادر التي أفاد منها الباقلاني

المبحث الثالث المصادر التي أفاد منها الباقلاني، والكتب التي استفادت منه المصادر التي أفاد منها: نقل القاضي عياض في ترتيب المدارك عن علي بن محمد الحنائي قوله: "إن القاضي كان يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدر لسعة علمه وحفظه، وما صنف أحد كلامًا إلا احتاج أن يطالع كتب المخالفين غير أبي بكر، فإن جميع ما يذكره من حفظه". ونقل عن الخطيب البغدادي أنه ذكر في تاريخه: "كان الباقلاني كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده، وضع الدواة بين يديه، وكتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه ليلته وأمر بقراءته عليه، وأملى عليه الزيادات فيه". فعالم هذه حاله أصبح علمه ي صدره، ووهبه الله من دقة الفهم وقوة البيان ونبوع الاستنباط قلما يشير فيما يؤلفه إلى مصادر معلوماته، لأنها أصبحت محفوظة في صدره، لا يرجع عند تأليفه كتبه إلى تلك المصادر. فهي كالمادة الخام يصنعها ويصقلها وينقحها فيخرجها بكرًا. ثم إن الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ. لم يتقدم عليه من فرسان فن أصول الفقه إلا اليسير. فبعد أول مدونٍ لعلم أصول الفقه - الشافعي رحمه الله - اقتصر طائفة ممن صنف في أصول الفقه إما على شرح الرسالة، أو

التأليف في مباحث في أصول الفقه، كما فعل عيسى بن أبان وابن سريج وأبو الحسن الكرخي. وأول من ألف كتابًا جمع فيه مباحث أصول الفقه - فيما أعلم - هو الجصاص أبو بكر أحمد بن على الرازي الحنفي في كتابه المسمى بالفصول. الذي ألفه مقدمة لكتابه أحكام القرآن. ويعتبر كتاب القاضي الباقلاني هذا هو الثاني الذي لم فيه شمل مباحث أصول الفقه. ولكنه كان أكمل وأشمل من كتاب الجصاص. وقد عاصره في التأليف قرينه قاضي قضاة المعتزلة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الذي توفي بعد الباقلاني سنة 415 هـ، فكاد العلم أن يكتمل على يد قاضي قضاة المعتزلة. وقاضي الأشاعرة القاضي الباقلاني. ولأجل ما تقدم، لا نجد ذكرًا لكتب المتقدمين، ولا لأسماء العلماء في كتابه هذا إلا نادرًا. فقد ذكر من الكتب كتاب "أحكام القرآن" للشافعي فيما انتهيت من تحقيقه، ولم أجد أنه أشار إلى غيره. وأما بالنسبة لمن سبقه من العلماء فقد أكثر من الإشادة لرأي القدرية، حتى لا تكاد مسألة تخلو منه، وقد ذكر بعض علمائهم بالاسم، منهم أبو الحسن الكرخي والثلجي وابن الجبائي. كما ذكر بعض الحنفية منهم عيسى بن أبان. كما ذكر من الطوائف الأخرى أبا شمر المرجئ. وقد كان - رحمه الله - يكثر من الإحالة على كتبه تارة بذكر اسمها مثل: إعجاز القرآن والكبير والأوسط في أصول الفقه، والفرق بين معجزات الرسل وكرامات الأولياء. وإكفار المأولين، وغيرها. أما إحصاء أسماء الواردين في الكتاب من العلماء الذين نسبت لهم أقوال أصولية على وجه الدقة لا يكون إلا بعد الانتهاء من الكتاب كاملًا، وكذلك بالنسبة للكتب التي استفاد منها مباشرة.

الكتب التي استفادت منه

الكتب التي استفادت منه: الكتب التي استفادت منه لا تدخل تحت حصر، لأن كل من ألف كتابًا في أصول الفقه أو كتب العلوم الشرعية الأخرى، التي لها علاقة بمباحث أصول الفقه على طريقة المتكلمين، لابُد وأن يذكر آراء القاضي الباقلاني، سواء صرح باسم الكتاب الذي استقى منه آراء الباقلاني أو لم يصرح به. ومن أهم من أفاد من كتاب الباقلاني "التقريب والإرشاد" هذا تلميذ الباقلاني - إمام الحرمين - الذي اختصر كتابه هذا وسماه "تلخيص التقريب" حيث أفاد منه في كتابه "البرهان" فيما يزيد على مائة وخمسين موضعًا. لم يذكر اسم الكتاب الذي بين أيدينا إلا مرتين فقط. وكان في عامتها ينقل رأي الباقلاني دون نسبته لكتاب باسمه، ولكن بتتبع هذه الآراء وجدتها موافقة لما في التقريب والإرشاد إلا نادرًا. وقد تابع إمام الحرمين في نقل آراء الباقلاني، إما اعتمادًا على كتب الباقلاني مباشرة أو بواسطة كتب إمام الحرمين حجة الإسلام محمد بن محمد الغزالي، وسيف الدين الآمدي، وفخر الدين الرازي. وهؤلاء هم أساطين علم أصول الفقه على طريقة المتكلمين. وكل من جاء بعدهم من الأصوليين الذين صنفوا على طريقة المتكلمين كان عالة عليهم، ن وأفاد من مصنفاتهم، التي لا تخلو من آراء الباقلاني، فنقولها بواسطتهم أو بالاطلاع على كتب الباقلاني مباشرة. والناظر إلى فهارس ما حقق منها، وزين بفهارس تنبؤ عن أسماء الكتب الواردة فيها، وعن أسماء العلماء الواردة في متن الكتاب يشعر بأهمية القاضي الباقلاني وآرائه الأصولية. وسأذكر نماذج للكتب التي استفادت منها اعتمادًا على فهارس ما حقق منها:

1 - البحر المحيط للزركشي: ورد النقل عن الباقلاني فيه فيما يزيد على خمس ماية موضع في معظمها عزا النقل للباقلاني فقط، وفي بعضها عزاها للتقريب مقرونة باسم الباقلاني. وورد في بعضها العزو للتقريب بدون اقترانه بالباقلاني، وفي مواضع يسيره معزوًا للتقريب والإرشاد. 2 - ذكره ابن النجار الحنبلي في كتابه "شرح الكوكب المنير" في ست مواضع باسم التقريب. ونقل عن الباقلاني بدون نسبة إلى كتاب محدد في خمس وستين موضعًا آخر. 3 - ذكره كمال الدين بن أبي شريف المقدسي في حاشيته على الدرر اللوامع في تحرير جمع الجوامع في موضعين باسم التقريب والإرشاد، وفي أحد عشر موضعًا باسم التقريب ونسب للقاضي الباقلاني آراء بدون عزوها إلى كتاب في خمس وسبعين موضعًا. 4 - ونسب الباجي في إحكام الفصول للباقلاني آراء في ستين موضعًا بدون نسبتها لكتاب معين. ولم يذكر الباقلاني مقرونًا بكتابه التقريب إلا في موضع واحد. 5 - ونسب أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع للباقلاني أقوالًا في أربع وعشرين موضعًا لم يقرن باسمه اسم الكتاب الذي أخذ منه آراءه. 6 - ذكره القاضي أبو يعلي بن الفراء الحنبلي - الذي عايشه فترة من الزمن - في كتابه العدة في ستة عشر موضعًا. لم يذكر فيها اسم كتابه التقريب إلا مرة واحدة. وقد وجدته استفاد منه في مواضع لم ينسبها إليه وخاصة في أول الكتاب. 7 - ذكره الزركشي في كتابه سلاسل الذهب في ست وثلاثين موضعًا. قرنه مرة واحدة بالتقريب والإرشاد وأخرى بالتقريب فقط.

8 - نقل عن الباقلاني الطوفي في شرح مختصر الروضة في سبع وثلاثين موضعًا، ولكنه لم يقرنه باسم كتابه الذي أخذ منه هذه الآراء. 9 - ذكره الأصفهاني محمود بن عبد الرحمن في شرح المنهاج للبيضاوي في أربعين موضعًا لم يقرنه باسم كتابه الذي أخذ منه آراءه. 10 - أكثر من النقل عنه ابن السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج. وكان غالبًا يقرن اسمه بالتقريب والإرشاد. والقصد من ذكر هذه الكتب التمثيل والتدليل على انتشار آرائه والعناية بكتبه عمومًا والتقريب والإرشاد على وجه الخصوص. وبهذا يظهر مدى استفادة من جاء بعده بآرائه وكتبه."

مختصرات الكتاب وشروحه

المبحث الرابع مختصرات الكتاب وشروحه ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك للباقلاني ثمانية كتب في أصول الفقه. الذي يغلب على ظني أنها على وجه الحقيقة خمسة. ويكون قد كرر ثلاثة منها لتعدد تسميتها، وهو أنه ورد تسميتها تارة بكتاب الأصول الكبير، وكتابه الأوسط وكتابه الصغير، ووردت مرة أخرى باسم التقريب والإرشاد الكبير والأوسط والصغير. أما الكتابان الآخران لم يحدث فيهما تعدد الاسم وهما: المقنع في أصول الفقه وكتاب أمالي إجماع أهل المدينة. والباقلاني - رحمه الله - اشتهر عنه بسط العبارة في مؤلفاته، كما غلب عليه الاستطراد في نصب الحجج والبراهين بما لا تحتاج كتبه معه إلى شرح وتوضيح. وهذا شأن الباقلاني حتى في مناظراته، كما أورد ذلك عنه كل من ترجم له. فنقل القاضي عياض في ترتيب المدارك قول معاصريه فيه، فقال: "كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه فلا يقدر لسعة علمه وحفظه". ويقول اليافعي في مرآة الجنان: "وكان ذا باع طويل في بسط العبارة مشهورًا بذلك حتى أنه جرى بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة يومًا، فأطال القاضي أبو بكر فيها الكلام ووسع في العبارة، وزاد في الإسهاب، وبالغ في الإيضاح والإطناب، ثم التفت إلى الحاضرين، وقال: اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت، لا غير، لم أطالبه بالجواب".

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "وكان كثير التطويل في المناظرة مشهورًا بذلك عند الجماعة". وقد ذكر أبو المظفر الاسفرائيني في كتابه التبصير في الدين "إن كتاب الباقلاني الكبير في الأصول اشتمل على عشرة آلاف ورقة". وبعد أن ألفه شعر القاضي الباقلاني لطول الكتاب أنه بحاجة إلى اختصار، فاختصره في الأوسط. ثم شعر ثانية أنه في حاجة إلى اختصار، فاختصره في الصغير - وهو الذي بين أيدينا - وهذا الكتاب ذكر ابن السبكي أنه كان عنده في أربع مجلدات. ومعظم من ينقل آراء الباقلاني ينقلها منه، ولذا كان أكثر تداولًا من الكبير والأوسط. ولم يبلغني أن أحدًا شرح الكتاب الذي بين أيدينا، وذلك لأنه مبسوط العبارة مع أنه مختصر لكتابه الكبير. ولذا فإن كتابه الكبير يقوم مقام الشرح له، ولذا كان يحيل عليه وعلى الأوسط في كتابه الذي بين أيدينا. وحتى ولو قدر له أن شرح، فلا يتصور أن يكون في قيمة أصله، لأن خير من يشرح عبارة مؤلف من المؤلفات هو مؤلفه، لأنه أعلم بمقصوده. والكتاب الذي بين أيدينا مع أنه مختصر لكتاب من قبل مؤلفه، فهو أيضًا أشد حاجة من الشرح إلى ربط أفكاره بعضها مع بعض، لأن طوله قد ينسي المتأخر المتقدم. كما أنه بحاجة إلى بيان مواضع الإحالات الكثيرة، التي كان يحيلها على كتبه الأخرى الأصولية وغيرها. وشعر إمام الحرمين الجويني - رحمه الله - أن الكتاب بحاجة إلى اختصار، ولذا قام بالمهمة فاختصره قبل أن يصنف كتابه "البرهان" الذي

استقلت فيه شخصيته العلمية، والذي أكثر فيه من مخالفة القاضي الباقلاني، وقد سمى إمام الحرمين المختصر ب "تلخيص التقريب". وتلخيص التقريب عندي صورة لمخطوطته في 210 ورقات، كل ورقة فيها خمسة وعشرون سطرًا. وهي مكتوبة بخط دقيق. وفي هوامشها مقابلات. وبأولها تمزيق وسقط لعبث الأرضة بها في أكثر من عشرين ورقة من أولها. وسقط من وسطها ورقة كاملة لعلها من المصور. ويوجد للمخطوط صورة في قسم مخطوطات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم (1872) والأصل موجود في جامع المظفر بتعز بالجمهورية اليمنية برقم (314). وبمقابلة الكتاب الذي بين أيدينا بكتاب إمام الحرمين وجدت أنه اختصره إلى النصف تقريبًا. وقد كان في اختصاره له مقرًا لأقواله قلما يخالفه في رأي كسائر المبتدئين في متابعة من يشتغلون بكتبهم. وهذا كان هو شأن الغزالي مع إمام الحرمين، كان متابعًا له في كتابه المنخول. ولكن لما نضج فكره واستقلت شخصيته وألف المستصفى خالف إمام الحرمين في كثير من اختياراته. وكثير ممن ينقل آراء الباقلاني من المتأخرين يعتمد في نقلها على "تلخيص التقريب" لإمام الحرمين. وقد حدث خلط من بعض الأصوليين بين كتاب إمام الحرمين " التلخيص" وبين الكتاب الذي نحققه، لأن بعض الأصوليين يطلق على هذا الكتاب "مختصر التقريب" وبعضهم يقرن اسم الكتاب باسم المؤلف فيقرنه بإمام الحرمين، أو بالباقلاني، فيكون تمييزًا لأحدهما عن الآخر.

أهمية الكتاب

المبحث الخامس أهمية الكتاب، ومدى حاجته إلى التحقيق والنشر ذهب جميع من أرخ لأصول الفقه خصوصًا وللتشريع عمومًا إلى أن أول من صنف في أصول الفقه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، حيث وضع كتابه المسمى بالرسالة من أجل توحيد الصفوف وإنهاء الفرقة وإحلال الألفة بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي في المشرق بطلب من الإمام عبد الرحمن بن مهدي، وقد أثمرت "الرسالة" فكانت هي البلسم الذي ضمد الجراح وشفا الصدور، فكانت هي المولود المبارك. ثم أردفها الشافعي - رحمه الله ببعض الكتب الأخرى في أصول الفقه كإبطال الاستحسان، واختلاف الحديث، وجماع العلم. وكل من جاء بعد الشافعي حاول أن يكمل المسيرة، ويتم ما بدأ به الشافعي إما بشرح وتوضيح ما احتوت عليه، أو التأليف في مباحث متفرقة في أصول الفقه، كما فعل عيسى بن أبان الحنفي حيث ألف حجية خبر الواحد، وحجية القياس. وبقي الأمر كذلك حتى وضع الجصاص أبو بكر أحمد بن علي الرازي كتابه الفصول مقدمة لكتابه أحكام القرآن، فجمع معظم مباحث أصول الفقه على طريقة الحنفية. ويقول الزركشي في مقدمة البحر المحيط: "وجاء من بعد الشافعي فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا حتى جاء القاضيان، قاضي السنة أبو بكر بن الطيب وقاضي المعتزلة عبد الجبار بن أحمد، فوسعا العبارات، وفكا الإشارات، وبينا الاجمال، ورفعا الأشكال". وقد ألف الأول عدة كتب كما تقدم في مصنفاته، وألف الثاني كتابه " العمد" وكتبًا أخرى. وكتاب

التقريب والإرشاد وكتاب العمد يعتبران أول كتابين جمعًا مسائل أصول الفقه وفوائده. فكتاب الباقلاني الذي بين أيدينا يعتبر أول كتاب مستوعب لجميع مباحث أصول الفقه. ويمتاز عن كتاب القاضي عبد الجبار - العمد - بخلوه عن قواعد المعتزلة الأصولية، بل وجه الباقلاني همه فيه إلى إبطال قواعد المعتزلة التي لها علاقة بأصول الفقه كالقول بالتحسين والتقبيح العقليين، ووجوب الأصلح على الله، وخلق العباد أفعالهم وغيرها. كما أن أهمية الكتاب تكمن - أيضًا- في كون كل من جاء بعد الباقلاني من المتكلمين كان عالة عليه، لابُد وأن يزين كتابه بذكر أقوال الباقلاني. فالعثور على كتاب "التقريب والإرشاد" - في نظري - يعتبر حدثًا مهمًا بالنسبة للمختصصين في علوم الشريعة عمومًا وأصول الفقه خصوصًا. ولكل ما تقدم فالحاجة ماسة جدًا لإخراج الكتاب من سجنه في ثوب قشيب بعد سجن دام ما يزيد على عشرة قرون. ولا أظن أن هناك كتابًا في هذا الفن أحق بالإخراج والظهور منه، لأن الكتاب يمثل مدرسة خاصة في آرائه. واعتمد عليه من جاء بعده أكثر مما اعتقد هو على غيره، فآراؤه تتسم بالابتكار إجمالًا. وأما أهمية تحقيق الكتاب فهي نفسها التي تدعو لتحقيق أي كتاب آخر. ومنها: التأكد من صحة ما عزي إليه من أقوال في كتب المتأخرين عنه، وخاصة أن أكثر من ينقل أقواله كان ينقلها بالواسطة اعتمادًا على كتاب إمام الحرمين "تلخيص التقريب" أو البرهان، أو كتب من سبقهم عمومًا. وقد يعتري الناقل الغفلة أو الوهم فينسب للباقلاني ما لم يقله،

وفعلًا وجدت نماذج لذلك فعلى سبيل المثال نسب البعلي في القواعد والفوائد الأصولية وابن النجار في شرح الكوكب المنير إلى الباقلاني القول بالتفريق بين الفرض والواجب، وهو يقول في كتابه هذا: "فصل في أن الواجب هو الفرض". ومنها: قد وجدت بعض الأقوال نقلت عن الباقلاني مبتورة مما توهم خلاف مراده. وبذلك لا يكون نقلها دقيقًا، وبتحقيق الكتاب ومقابلة ما فيه بالكتب التي أكثرت من النقل عنه يتضح ما بينه وما بين غيره من فوارق. ومنها: حاجة الكتاب لربط مادته العلمية ببيان مواضع الإحالة في كتبه المطبوعة أو في المواضع المتقدمة في نفس كتابه هذا. حتى يسهل على الناظر فيه الوصول إلى ما يريد. وسأبين في الفصل الخاص بمنهج التحقيق ما قمت به ومدى فائدته.

الأسماء الشرعية

المبحث السادس الأسماء الشرعية بين يدي هذه المبحث: نظرًا لأن الحواشي في كثير من الأحيان تضيق عن كل ما يريد أن يقوله المحقق للكتاب. وقد يكون ضروريًا في بعض الأحيان استقصاء الكلام في بعض المسائل الواردة في الكتاب المحقق. لذا رأيت أن أقوم ببحث مسألتين من المسائل الواردة في الكتاب على وجه التفصيل والاستقصاء بقدر المستطاع من حيث جمع الأقوال، والاستطراد في الاستدلال لها، وبيان ثمرة النزاع فيها. أرجو أن يكون في ذلك نفع للناظر في الكتاب، وقد وقع اختياري على مسألتين، جعلت كل واحدة منهما في مبحث خاص. وسأبين في كل مسألة سبب وقوع اختياري عليها دون سائر المسائل، ولولا ما أخشاه من الإطالة لقمت ببحث أكثر من مسألتين. وكانت المسألة الأولى التي وقع اختياري عليها هي ما عنونت بها لهذا المبحث "الأسماء الشرعية". سبب اختيار هذه المسألة: الذي وجدته في معظم كتب أصول الفقه عدم الدقة في نسبة القول للباقلاني في هذه المسألة حتى من أقرب الناس للباقلاني وأكثرهم اشتغالًا بكتبه، مثل إمام الحرمين في البرهان فقد قال: "وقال آخرون: هي مقرة

تعريف الأسماء الشرعية

على حقائق اللغات، لم تنقل ولم يزد في معناها، وهو اختيار القاضي أبي بكر - رحمه الله". ثم قال: "واستمر القاضي على لجاج ظاهر". ثم قال: "وهو غير سديد، فإن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع والسجود من الصلاة، ومساق ما ذكره أن المسمى بالصلاة الدعاء فحسب". وسيأتي عند ذكر الأقوال في المسألة وبيان حقيقة قول الباقلاني أن ما نقله عنه إمام الحرمين لم يكن دقيقًا. وقد تابع إمام الحرمين على هذا النقل جماعة باعتبار أنه أوثق مصدر لنقل أقواله في ظنهم. علمًا بأن الزركشي في البحر المحيط نقل الاتفاق على وجود زيادة في المعنى الشرعي عن المعنى اللغوي. تعريف الأسماء الشرعية: عرف أبو الحسين البصري في المعتمد الاسم الشرعي بأنه "ما استفيد بالشرع وضعه للمعنى". وعرفها فخر الدين الرازي في المحصول بنفس تعريف أبي الحسين فقال: "هي اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى". وقال بعد ذكره التعريف: سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللغة، أو كانا معلومين، لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو كان أحدهما مجهولًا والآخر معلومًا. فدخل في تعريف أبي الحسين الأقسام الأربعة المتقدمة. لكن القسم الرابع وهو ما كان المعنى معلومًا لأهل اللغة واللفظ غير معلوم - لا يعتبره الجمهور من الأسماء الشرعية. وتابع فخر الدين الرازي أبالحسين البصري في تعريفه، وبالتالي تابعه في اعتبار القسم الرابع من الأسماء الشرعية، كما تابع الرازي بعض الأصوليين على ذلك.

وذكر أبو الحسين البصري أن عبد الجبار بن أحمد اشترط في الاسم الشرعي شرطين هما: كون المعنى ثابتًا بالشرع. وكون وضع الاسم له بالشرع. ومثل الصفي الهندي على ما في الإبهاج بشرح المنهاج الأقسام الأربعة الداخلة في تعريف أبي الحسين والرازي، فقال: مثال ما كانا مجهولين أوائل سور القرآن. ومثال ما كانا معلومين لأهل اللغة لفظة "الرحمن" في إطلاقها على الله سبحانه. ومثال ما كان اللفظ معلومًا لهم والمعنى غير معلوم هو لفظ "الصلاة والصوم". ومثال ما كان المعنى معلومًا لهم واللفظ غير معلوم كلفظة "الأب". أما الفريق الآخر، وهم الذين يرون أن هذه الألفاظ كانت معروفة في اللغة، ولكن الشرع استعملها استعمالًا آخر، فقد أشعرت عباراتهم بذلك. فعرفهما أبو يعلي في العدة بأن الاسم الشرعي: "هو الاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع اللغة". وعرفها أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع بأنها "كون اللفظ في اللغة موضوعًا لمعنى وورد الشرع به في غيره". فكل عرف الأسماء الشرعية بحسب حقيقتها عنده. فالمعتزلة ومن قال بقولهم - وهو أنها نقلت إلى معاني جديدة لا تشترط فيها علاقة بين المعنى التي كانت له في اللغة والمعنى الشرعي الجديد - عرفها بما عرفها به أبو الحسين.

ومن قال إنها نقلت من اللغة إلى الشرع، ولكن لوجود علاقة بين معناها اللغوي ومعناها الشرعي عرفها به أبو يعلي وأبو إسحاق الشيرازي. فيما بينته في تعريف الألفاظ الشرعية ما يكفي لمعرفة المراد بها، ولكن نظرًا لأن المعتزلة قسموها إلى دينية وشرعية كان من المناسب بيان أصل هذا التقسيم وما يترتب عليه، وبيان سبب تفريق بعض الأصوليين بين الدينية والشرعية. الأصل في تقسيم الأسماء الشرعية إلى دينية وشرعية هم المعتزلة. فقالت المعتزلة الأسماء الدينية ثلاثة: الإيمان والكفر والفسق. وهي عندهم مستعملة في الشرع في غير معناها اللغوي تمامًا. ولهذا أثبتوا المنزلة بين الإيمان والكفر وهي الفسق، وهي منزلة بين المنزلتين، فالفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، فالمقصود بالدينية الاعتقادية أو ما يتعلق بأصول الدين. وأما الشرعية عندهم فكما سبق بيان حقيقتها أنها أسماء لغوية نقلت في الشرع عن أصل وضعها اللغوي إلى أحكام شرعية كالصلاة والحج والزكاة والصيام. فالمقصود بالشرعية العملية. ولكن الرازي في المحصول: نقل عن المعتزلة أنهم يقسمون الأسماء التي نقلها الشرع إلى أسماء أجريت على الأفعال كالصلاة والزكاة، وهي المسماة بالشرعية وإلى أسماء أجريت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق، وهي المسماة بالدينية. وما نقله الرازي مخالف لما نقله غيره عنهم، وهو ليس بسديد، لأنه يلزم عليه دخول المصلي والمزكي لأنها من أسماء الفاعلين في الأسماء الدينية، ويلزم - أيضًا - دخول لفظ الإيمان والكفر والفسق في الشرعية، لأنها أفعال.

تحرير محل النزاع في المسألة

وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله - في شرح اللمع أن هذه أول مسألة نشأت في الاعتزال، وذلك أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - لما قتل ظهرت البدع، وكثرت الشرور. فقال أهل الشام: نحن نطالب بدم عثمان، وقوم من أصحاب علي تبرؤا منه. وجرت بينهم من الحروب مالا يخفي. فجاءت المعتزلة بعدهم بقليل فقالوا: ننزلهم منزلة بين المنزلتين، فلا نسميهم كفارًا ولا مؤمنين، ونقول: هم فسقه، حتى أطلقوا هذا القول على عظماء الصحابة كطلحة والزبير، حتى قال كبراؤهم، مثل واصل بن عطاء: "لو شهد عندي علي وطلحة على باقة بقل لم أقبل حتى يكون معهما ثالث، لأن أحدهما فاسق". فقيل لهم: "إن الإيمان في اللغة، وقد نقل في الشرع إلى غيره، فجعل اسما لمن لم يرتكب شيئًا من المعاصي، فمن ارتكب شيئًا منها خرج من الإيمان ولم يبلغ الكفر". تحرير محل النزاع في المسألة: 1) محل النزاع هو الأسماء الشرعية فقط دون الحرف والفعل. قال الرازي في المحصول: الأقرب أنه لا يوجد الفعل الشرعي والحرف الشرعي، والدليل على ذلك الاستقراء، وكذلك فإن الفعل يكون شرعيًا بتعًا للمصدر، وليس لذاته. 2) النزاع في الألفاظ التي وضعها المشرع لتدل على معاني جديدة بلا قرينة، فهي حقائق شريعة، مثل الصلاة والزكاة والصيام.

أما ما استعمله المتشرعة - الفقهاء والمتكلمون - من ألفاظ، كلفظ الإجماع ولحن الخطاب فتحمل على المعنى الشرعي فقط اتفاقًا، لأنها أصبحت حقائق عرفية، تعارف عليها أهل الشرع، فلا حاجة لهم فيها إلى قرينة. 3) اتفق جميع أهل العلم على أن الأسماء الشرعية يستفاد منها في الشرع معنى زائدًا عن أصل وضع اللغة، وهذا صرح به الباقلاني. واختلفوا في تلك الزيادة هل تجعل الأسماء موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع، كما يقول المعتزلة، أو هي منقولة للشرع مع وجود علاقة بين المعنيين، أو هي مبقاة على الوضع اللغوي، وإنما تصرف الشرع في شروطها وأحكامها. وتتميما للفائدة نقل الزركشي في البحر المحيط عن تعليقة القاضي حسين أن التصرف الذي حدث من الشرع في هذه الأسماء لا يعدو عن ثلاث حالات هي: الأولى: ما زاد فيها من كل وجه، كالصلاة، فإنها في اللغة الدعاء، فأبقاها الشارع على معنى الدعاء، وزاد القراءة والركوع والسجود. الثانية: ما نقص فيها من كل وجه كالحج، فإنه في اللغة القصد، وفي الشرع القصد إلى بيته الحرام. الثالثة: ما نقص فيها من وجه وزاد من وجه، كالصوم، فإنه في اللغة الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص مع شروط أخرى كالنية وغيرها.

الأقوال في المسألة

وبهذا اتضح أن محل النزاع هو الأسماء الشرعية دون الحرف والفعل، وكذلك هو الألفاظ التي استعملها المشرع دون الألفاظ التي اصطلح عليها المتشرعة، وفي أن المعنى الزائد الذي دلت عليه هذه الأسماء هل يكون نقلًا للفظ نقلًا كليًا بدون علاقة، أو هو نقل مع علاقة بين المعنيين، أو لا يوجد نقل، بل هي مبقاة. وسيأتي مزيد تفصيل لذلك عند ذكر أقوال أهل العلم في محل النزاع بإذن الله. الأقوال في المسألة: 1 - نقل أبو الحسين البصري في المعتمد عن قوم من المرجئة نفي جواز نقل الألفاظ، وقال: "وبعض عللهم تدل على أنهم أحالوا ذلك، وبعض عللهم الأخرى تدل على أنهم قبحوه". وكذلك فعل أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد فقال: والكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما: إنه يجوز نقل الأسماء، وكذلك فعل في الجزء الثاني من التمهيد. ولكن الرازي في المحصول والآمدي في الإحكام نقلا الاجماع على جواز النقل عقلًا وحصرًا الخلاف في الوقوع. ومن علم حجة على من لم يعلم. فما ذكره أبو الحسين - من وجود الخلاف في الجواز مع تسمية من قال بعدم الجواز، واستدل لهم - يُقدم على نفي الرازي والآمدي. 2 - ذهب المعتزلة والخوارج وتابعهم على ذلك بعض الفقهاء إلى جواز نقل الألفاظ اللغوية إلى معاني شرعية نقلًا كليًا بدون أي علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي. فهي معاني مبتكرة ابتكرها المشرع، يجوز أن لا يلاحظ فيها المعنى اللغوي، وإذا حدث أن وجدت علاقة بين المعنى اللغوي

والمعنى الشرعي فإنه اتفاق بطريق الصدفة ليس مقصودًا. فالأسماء الشرعية عندهم ليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها. قال أبو الحسين في المعتمد: "ذهب شيوخنا والفقهاء إلى أن الاسم اللغوي يجوز أن ينقله الشرع إلى معنى آخر. ثم قال: ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسم مبتدأ، وبين أن ينقل إليها اسم من أسماء اللغة مستعمل في معنى له شبه بالمعنى الشرعي، بل نقل اسم لغوي إليه أولى": ووافق المعتزلة في مذهبهم أبو الخطاب في التمهيد رأيًا استدلالًا. ونقله عن شيخه أبي يعلي. ولكن الموجود في العدة خلافه. ونقله عن أبي حنيفة. وما نقله أصحاب أبي حنيفة خلافه، والصحيح أن الذي قال بهذا القول هو الدبوسي والسرخسي والبزدوي، كما في فواتح الرحموت وأصول السرخسي وميزان الأصول. 3 - ذهبت جماهير الأصوليين إلى أن الشرع تصرف في اللفظ اللغوي، كما تصرف أهل العرف في بعض الألفاظ بنقلها عن معناها الموضوعة له أصلًا، إما على سبيل قصر اللفظ على بعض معناه، كقصر لفظ الدابة على ذوات الأربع، أو على سبيل التجوز بإضافة الشيء إلى غير ما هو له كقولهم: الخمر محرمة، والمحرم شربها. وقالوا: وكذلك الألفاظ الشرعية خصصت لفظه الصلاة، واستعملت في دعاء مخصوص. ولكن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا الواقع. فبعضهم عبر عنه أنه نقل، ولكن ميزة عن قول المعتزلة بأنه ليس نقلًا مطلقًا، بل مع وجود علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، مثل فعل

أهل اللغة بالألفاظ العرفية. وبعضهم اضطرب مثل الشيخ أبي إسحاق الشيرازي فسماه في التبصرة نقلًا، وتردد في شرح اللمع. وبعضهم أبي أن يسميه نقلًا. ي وحرروا مرادهم بدون وصفه بأنه نقل. وهذا القول كما هو ظاهر إنه مذهب وسط بين مذهب الباقلاني والمعتزلة. واتفق أصحاب هذا القول على أنها مجازات لغوية لعدم استعمال المشرع لها في معانيها اللغوية. وذهب بعضهم إلى أنها اشتهرت فأصبحت حقائق شرعية. 4 - مذهب الباقلاني: قال في التقريب ص 387 "إن الذي عليه أهل الحق وجميع سلف الأمة من الفقهاء وغيرهم أن الله سبحانه وتعالى لم ينقل شيئًا من الأسماء اللغوية إلى معان وأحكام شرعية، ولا خاطب الأمة إلا باللسان العربي ولا أجرى سائر الأسماء والتخاطب إلا على ما كان جاريًا عليه في وضع اللغة". ولكنه في نقاشه للمعتزلة في ص 395 قال: "الصلاة في اللغة هي الدعاء، ولكن أخذ علينا أن تكون دعاء على شروط ومعه نية وإحرام وركوع وسجود وقراءة وتشهد وجلوس، فالاسم في الشريعة لما كان صلاة في اللغة، وإن ضمت إليه شروط شرعية". وقال: "الحج في اللغة هو القصد، ولكنه في الشرع قصد إلى بيت مخصوص". وبضم كلام الباقلاني إلى بعضه يظهر أنه يقول بوجود تغيير في استعمال اللفظ في الشرع عن استعماله في اللغة. ولكن مع هذا فإنه لا يقر بوجود ألفاظ تسمى بالشرعية، ولا يسلم بالنقل. ونقل كثير من الأصوليين عن الباقلاني موافق لما هو في التقريب.

وأما إمام الحرمين - وهو أكثر العلماء اشتغالًا بآراء الباقلاني الأصولية - قال في البرهان: وقال آخرون: هي مقرة على حقائق اللغات، لم تنقل، ولم يزد في معناها، وهو اختيار القاضي أبي بكر، رحمه الله" ثم وصف ما هو عليه أنه لجاج ظاهر، ووصفه بأنه قول غير سديد. ونسب المازري قول الباقلاني في شرحه للبرهان للمحققين من الفقهاء والأصوليين من المالكية. ونقله الزركشي في البحر المحيط عن أبي الحسن الأشعري. 5 - ذهب أبو إسحاق الشيرازي للقول بالنقل في الأسماء الشرعية دون الأسماء الدينية احترازًا عن بدعة المعتزلة والخوارج. ونسب هذا القول الزركشي في البحر المحيط لابن الصباغ واختاره. قال في شرح اللمع ويمكننا أن نحترز من هذه المسألة عن الألفاظ الدينية، فنقول: إن الأسماء منقولة إلا هذه المسألة". وقال: "ويمكننا نصرة ذلك - أي النقل - من غير أن نشارك المعتزلة في بدعتهم، وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ". 6 - ذهب الآمدي في الإحكام إلى التوقف. قال في الأحكام: "وإذا عرفت ضعف المأخذ من الجانبين، فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين، وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه.

أدلة القول الأول وهم القائلون بعدم الجواز

فهذه أهم الأقوال في المسألة. وسأحاول الاستدلال لها مع مناقشة الأدلة التي فيها ضعف إن شاء الله. أدلة القول الأول وهم القائلون بعدم الجواز: 1) نقلها عما وضعت له في اللغة يكون قلبًا للحقيقة، وقلب الحقائق مستحيل لا يجوز. وأجيب: إن كون الاسم اسما للمعنى غير واجب له، وإنما هو تابع للاختيار، بدلالة انتفاء الاسم عن المعنى قبل المواضعة، وأنه كان جائزًا أن يسمى المعنى بغير ما سمي به نحو تسمية البياض سوادًا، إلى غير ذلك. وعليه يجوز أن يصطلح على سلب الاسم عن معناه ونقله إلى غيره وقولكم "إنه مستحيل" يصح لو كان انفكاك الاسم عن المعنى مستحيلًا. 2) ومن قال بالقبح قال: إن نقل الاسم عن معناه إلى معنى آخر يقتضي تغيير الأحكام المتعلقة به وتعطيلها، وهو قبيح. وأجيب: بأننا لا نسلم أن تعطيل الأحكام قبيح، فإن النسخ يعطل الأحكام وليس قبيحًا. ولو سلمنا قبحه، فإنما يكون في الاسم الذي تعلق به فرض دون ما لم يتعلق به فرض، ثم لو نقل اسم الصلاة عن الدعاء لم يسقط فرض الدعاء. ولو قصد المشرع سقوطه لبين لنا ذلك. واستدل أبو الحسين البصري في المعتمد للقول بالجواز: 1 - إن الشريعة جاءت بعبادات لم تكن معروفة في اللغة، فلم يكن بد من وضع اسم لها لتتميز به عن غيرها، كما يجب ذلك في مولود يولد للإنسان، كما يضع أهل الصنائع لكل ما يستحدثونه من أدوات أسماء تعرف بها، ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسما مبتدأ، وبين أن ينقل

أدلة المعتزلة والخوارج على وقوع النقل

إليها اسم من أسماء اللغة مستعمل في معنى له شبه بالمعنى الشرعي، بل نقل اسم لغوي إليه أولى. 2 - لا يمتنع تعلق مصلحة بنقل اسم من معناه اللغوي إلى معنى شرعي، كما لا يمتنع ثبوتها في جميع العبادات، ولا يكون في هذا النقل وجه قبح. وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع حسنه، إذ المصلحة وجه حسن. وبهذا يتضح أن نقل الاسم من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي غير مستحيل، بل هو جائز عقلًا. لأن الاسم ليس واجبًا للمعنى بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية، وأن أرباب الحرف يحدثون أسماء لأدواتهم المستحدثة، وكذلك من يولد له مولود يضع له اسما. أدلة المعتزلة والخوارج على وقوع النقل: 1) احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على وقوع النقل بأن الشرع أطلق اسم إسلام وإيمان وكفر وفسق على معاني مخصوصة. وهو ما لم يعرفه أهل اللغة، ولا وضعوا هذه الأسماء لما أطلقت عليه. ويدل على ذلك الحديث المتفق عليه والذي فيه: جاء جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فقال: يا محمد، ما الإسلام؟ ... ثم قال: ما الإيمان؟ ... ثم قال صلى الله عليه وسلم "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم". فلولا أن الاسم شرعي لما احتاج إلى بيانه، لأن العرب تعرفه. واعترض على هذا بأن صاحب الشريعة بعث ليعلم الناس الأحكام لا الأسماء.

وأجيب: بأن المشرع إذا وضع حكمًا فلابد أن يضع له اسما يعرف الناس هذا الحكم، ليميزه عن غيره، فصار ذلك عائدًا إلى الأحكام. 2 - إن لفظ "الصلاة" لم يكن مستعملًا في اللغة لمجموع الأفعال الشرعية كالركوع والسجود والتسبيح والتكبير والقعود والنية وغيرها، لأن أهل اللغة لم يكونوا يعرفون هذه الصلاة ولا شروطها وأركانها، ثم صار اسم الصلاة اسما لمجموع هذه الأفعال، حتى لا يعقل من إطلاق اسم الصلاة سواها. فيكون بذلك نقلها المشرع إلى استعمال جديد. واعترض الباقلاني على هذا الدليل بأن الصلاة أطلقت على جميع هذه الأفعال، لأن الصلاة في اللغة بمعنى الإتباع، فالتالي للسابق يسمى مصلٍ لأنه تالٍ له، وكذلك المأموم متبع لفعل الإمام ومقتفٍ أثره. وأجاب المعتزلة أنه يلزم على ذلك أن لا تسمى صلاة المنفرد صلاة، وهو مخالف لإجماع الأمة، وكذلك السنة التي ورد فيها تسمية صلاة المنفرد صلاة. واعترض الباقلاني - أيضًا - بأن الصلاة سميت صلاة للدعاء الذي فيها. ولذا لم تنقل الصلاة في الشرع، بل بقيت في معناها الذي وضعت له، وهو الدعاء. وأجاب المعتزلة عن هذا الاعتراض بأنه إذا قصد الباقلاني من كلامه أن لفظ الصلاة تطلق على جملةٍ من الأفعال التي تتألف منها الصلاة لأن فيها دعاء فقد سلمتم بما نريده من إفادة الاسم لما لم يكن يفيده في اللغة. وإن قصدتم أن اسم الصلاة واقع على الدعاء، فذلك باطل، لأن المفهوم من لفظة "صلاة" جملة الأفعال. لأننا نفهم من قولكم فلان خرج من الصلاة إذا فرغ من أفعالها، وإن كان متشاغلاً بالدعاء.

ويلزم على قولكم أن الصلاة هي الدعاء أن صلاة الأخرس لا تسمى صلاة لأنه لا دعاء فيها. ويلزم - أيضًا - أن المصلي إذا أخل بالقراءة والركوع والسجود أن يقال إنه قد صلى. ويرد على هذين الإلزامين بعدم صحتهما. وهو أن صلاة الأخرس فيها دعاء، ولا يلزم النطق في الدعاء. ويبطل الإلزام الثاني، لأننا لا نقول بصحة الصلاة بدون شروطها" 3 - كان لفظ الصوم يفيد في اللغة الإمساك عمومًا سواء كان عن الكلام كقوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} أو الأكل والشرب ليلًا أو نهارًا، وأصبح يفيد في الشرع إمساكًا مخصوصًا. وكذلك لفظ "الزكاة" يفيد في اللغة النماء. ثم جعل في الشرع اسم لإخراج جزء من المال طهرة له. وهو في الحقيقة نقصان وليس بزيادة. وكذلك "الحج" في اللغة القصد مطلقًا. وفي الشرع هو قصد البيت الحرام، مع الوقوف والإحرام والطواف. فالشرع في جميع هذه الألفاظ تصرف بنقلها إلى معان غير معانيها اللغوية. وأجاب الباقلاني - رحمه الله - أن هذه الألفاظ بقيت في معانيها اللغوية ولم تنقل، ولكن شرط المشرع في كونها مجزئة شروطًا آخر تنضم إليها، فالمشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع. ولم يسلم الباقلاني بأن الشرع أحدث عبادة لم يكن لها في اللغة اسم.

4 - نقل أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع (30) عن أبي علي الجبائي بأنه استدل لوقوع النقل بأن المشرع شرع عبادات ذات أركان وهيئات، ولم يكن لها اسم في اللغة، لذا دعت الحاجة إلى وضع أسماء لها تتميز بها عن غيرها، وكان أولى الأسماء بها ما ثبت له عرف في الشرع، وكثر استعماله فيه. وصار هذا بمنزلة أرباب الصناعات في صناعتهم إذا استحدثوا آلات وأدوات لم يكونوا وضعوا لها أسماء تتميز بها عن غيرها. لحاجتهم إلى ذلك، وعلى هذا وضع الأسامي في اللغات، فكذلك هنا. والباقلاني يرد على هذا الدليل بعدم التسليم بإحداث الشرع عبادة لم يكن لها اسم في اللغة، كما تقدم. والذي يجيب به أصحاب القول الوسط عن أدلة المعتزلة. بأنهم يسلمون بتصرف المشرع في استعمال الألفاظ، وذكر الرازي في المحصول أن استعمال المشرع وتصرفه من باب التجوز، فأصبحت الألفاظ مجازات لغوية. ومن المعلوم أن التجوز لا يكون إلا بعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد. فالمشرع لما اختار لفظ الصلاة ليدل على العبادة المعروفة إنما اختارها لوجود علاقة بين المعنيين، وهي أن الصلاة في الشرع فيها حقيقة الدعاء. بل الدعاء مخ العبادة، وكذلك لفظ "الصوم" يوجد علاقة بينه وبين المعنى الشرعي لأن كلًا منهما إمساك. وكذلك سائر الأسماء الشرعية. ولذا يمنعون نقل المشرع للفظ نقلًا مطلقًا بدون علاقة، كما فعل المعتزلة.

أدلة الباقلاني على عدم النقل

أدلة الباقلاني على عدم النقل: 1) وصف الله - سبحانه وتعالى - القرآن الكريم بأنه عربي في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا}، وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} وقوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}. وظواهر هذه الآيات وغيرها يوجب كون القرآن كله عربيًا مستعملًا فيما استعملته العرب، وإلا كان خطابًا لهم بغير لغتهم. وبذلك يبطل دعوى المعتزلة وغيرهم أن المشرع تصرف بوضع أسماء على غير إطلاق اللغة. وأجاب الجمهور وغيرهم عن هذه الآيات بأن استعمال الشرع لبعض هذه الألفاظ في غير ما وضعته له العرب لا يخرج القرآن عن كونه خطابًا بلسان العرب. فالعرب استعملت بعض الألفاظ في غير ما وضعت له، مثل كلمة حمار للبليد، والبحر للكريم، ولم يقل أحد إن هذا إخراج للخطاب عن لغة العرب. وكذلك اشتمال القرآن على ألفاظ شرعية قليلة لا يخرجه عن كونه عربيًا. فالعبرة بالأعم الأغلب. ولذا لا يمتنع إطلاق اسم الأسود على الثور الأسود وإن كان في جلده شعرات بيض. ثم الآيات التي استدللت بها لا تدل على كون القرآن كله عربي، لأنه قد يطلق لفظ القرآن على بعض القرآن. فقد قال سبحانه في سورة يوسف {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا} وأراد تلك السورة. وذهب الفقهاء إلى

أنه لو حلف شخص أن لا يقرأ القرآن فقرأ آية منه حنث في يمينه. فالآية الواحدة تسمى قرآنًا. 2 - لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نقل بعض الأسماء اللغوية إلى أحكام شرعية لوجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يوقف الأمة على نقل هذه الأسماء توقيفًا تقوم به الحجة على المكلفين ليقطع عذرهم، فيكون بطريق يفيد العلم الضروري أو النظري. وما دام لم يثبت خبر يفيد القطع في ذلك ولا ورد في الكتاب، ولا أجمعت الأمة عليه، ولا دل على ذلك العقل الجازم يجب القطع على كذب دعوى المعتزلة. وأجاب عن هذا الدليل أصحاب القول الوسط والمعتزلة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بيانًا تامًا ما المعاني التي نقلت الألفاظ إليها، فبين المقصود بالصلاة بصلاة جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم صلاته صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وبين المقصود بالحج وقال: "خذوا عني مناسككم" وبين ما تجب فيه الزكاة وأنصبتها وشروطها ولمن تدفع وكيف تدفع. كما قام جبريل عليه السلام ببيان بعض هذه الأسماء كما حدث في بيان معنى الإسلام والإيمان والإحسان. وكذلك قام الصحابة ببيان مدلولات هذه الألفاظ لمن بعدهم. وأجابوا عن اشتراط الباقلاني حدوث البيان بطريق يفيد العلم بأنه قد حدث في بعضها، وذلك بتكرار فعل تلك العبادة كالوضوء والصلاة. وكذلك

دليل من قال بالتفريق بين الدينية والشرعية

اشتراطه ثبوت البيان بطريق قطعي إنه لا دليل عليه، وهو متعذر لا يصح إلا على قول من يقول بالتكليف بما لا يطاق. 3 - يلزم على قول المعتزلة بأن المشرع نقل الأسماء عن معانيها اللغوية ولو لم يكن بينهما مناسبة أنه يجوز أن يقول المشرع: اقتلوا المشركين وهو يريد المؤمنين. ويقول: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} وهو يريد القاتلين، وبذلك يكون قد خاطبهم بغير لغتهم. وأجاب الجمهور عن هذا أنه لازم على قول المعتزلة والخوارج، لأنهم يقولون بالنقل المطلق. وأما القائلون بالنقل بشرط وجود علاقة فلا يلزم على قولهم. وقد يجيب المعتزلة بأن لازم القول ليس بقول لقائله، ولم ينقل أحد عن المعتزلة ولا عن غيرهم مثل هذا الاستعمال. دليل من قال بالتفريق بين الدينية والشرعية: حجة أبي إسحاق الشيرازي في عدم القول بالنقل مطلقًا، بل يقول بالنقل فيم دل الدليل عليه. هو ترتب حدوث بدعة على قول المعتزلة في جوازه في الألفاظ الدينية. ولهذا حصر قوله في النقل في الألفاظ الشرعية. ولهذا قال في شرح اللمع: "ويمكننا نصرة ذلك - يعني النقل - من غير أن نشارك المعتزلة في بدعتهم. فنقول: إن هذه الألفاظ التي ذكرناها منقولة من اللغة إلى الشرع، وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ، وإنما يكون على حسب ما يدل عليه الدليل. ولم يثبت النقل في جميع الألفاظ مثل: الفرس والتمر، والخبز، وإنما ثبت في بعض الأسماء دون بعض".

دليل القول بالتوقف

دليل القول بالتوقف: أما الآمدي في الإحكام بعد أن ذكر أدلة الأقوال الواردة في المسألة وناقشها قال: "وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين، فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين، وأما ترجيح الواقع منهما، فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه" وهذا يدل على أنه متوقف في المسألة لعدم وجود دليل قطعي يدل على أحد القولين، وخاصة وأن الآمدي يرى أن القواعد الأصولية قواعد قطعية لا تثبت بأدلة ظنية. حجة القول الوسط: استدل من توسيط بين المذهبين سواء صرح بالنقل مع وجود علاقة، أو أثبت تصرف المشرع، ولكن لم يسمه نقلًا. وبعض أصحاب هذا القول مثل فخر الدين الرازي اقتصر على تسميتها مجازات لغوية، وبعضهم قال: إن هذه المجازات اللغوية اشتهرت حتى أصبحت المعاني المجازية هي المتبادرة إلى الذهن. وبذلك أصبحت حائق شرعية. ويمثل هذا الرأي الوسط جماهير الأصوليين منهم الشافعي وإمام الحرمين والغزالي وابن برهان وغيرهم. وقد أنكر هؤلاء على أصحاب القول بالنقل للألفاظ اللغوية من اللغة إلى الشرع، نقلًا بدون علاقة، وهم المعتزلة، كما تقدم في إجابتهم عن أدلة المعتزلة. وأنكر على من أنكر تصرف المشرع في بعض الألفاظ بنوع من التصرف، سواء سموه نقلًا لوجود علاقة، أو لم يسموه نقلًا. وقال هؤلاء: إن الموضوعات الشرعية مسميات لم تكن معهودة من قبل، فلابد لها من أسماء تعرف بها تلك المسميات. وهذا التصرف الذي حدث من المشرع فيها لا يخرج عن حالتين:

أولهما: تخصيص اللفظ ببعض المسميات، كما فعل أهل اللغة في الألفاظ العرفية، كلفظ الدابة: ولم ينكر أحد هذا التصرف. ومثله فعل المشرع في لفظ الحج والصوم والإيمان. حيث استعملها في معان لها علاقة بمعناها اللغوي. فهو ليس نقلًا كليًا للفظ. كما يقول المعتزلة، بل يوجد ارتباط وعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي. ثانيهما: إطلاق أهل اللغة الاسم على ما يتعلق به ويتصل به، كتسميتهم الخمر محرمة، وفي الحقيقة المحرم شربها. وكذلك تصرف المشرع في لفظ الصلاة بعد أن كانت لا يفهم منها إلا الدعاء، أصبحت في الشرع تدل عليه وعلى غيره معه من تكبير وقراءة وركوع وسجود وقيام، وكل ما أدخله عرف الشرع في معناها. وبذلك أثبت أصحاب هذا القول تصرفًا للمشرع في بعض الألفاظ، ولكن انكروا على المعتزلة ما ذهبوا إليه من القول بالنقل بدون ارتباط أو علاقة. ومما أنكر به أصحاب هذا القول على من لم يُثبت للمشرع تصرفًا ما قاله الغزالي: "إنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسامي، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية كما ظنه قوم". ثم قال: "فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة، فما أحدثه الشرع من عبادات ينبغي أن تكون لها أسماء معروفة، ولا يكون ذلك إلا بنوع تصرف في الألفاظ اللغوية". وأما إمام الحرمين فعبارته في حق الطرفين حادة كعادته. فقال في شأن المعتزلة، ومن قال بقولهم: "ومن قال: إنها نقلت نقلًا كليًا، فقد

الترجيح

زل، فإن في الألفاظ الشرعية اعتبار للمعاني اللغوية". وقال في حق الباقلاني ومن تابعه: "أما القاضي - رحمه الله - فإنه استمر في لجاج ظاهر، فقال في الصلاة إنها الدعاء، وطرد ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام، وهذا غير سديد". والذين لم يعبروا عن تصرف المشرع بالنقل احتجوا: 1) - بأن النقل خلاف الأصل. 2) - التجوز في استعمال اللفظ أو قصره على بعض معانيه لا يسمى نقلًا، لأنه كفعل أهل العرف. ولم يسم أهل العرف ما فعلوه نقلًا. 3) - لم يسموه نقلًا كرد فعل على مذهب المعتزلة والخوارج، الذين تشددوا في تسميته نقلًا. ولما ترتب على قول المعتزلة في بدعة الطعن على الصحابة بقولهم إن الإيمان الذي حدث منهم هو الإيمان اللغوي. ولم يحدث منهم الإيمان الديني. الترجيح: بعد ما أوردنا أدلة كافة الأقوال في المسألة وناقشناها. ظهر أن كل قول من القولين المتطرفين - قول المعتزلة وقول الباقلاني - جمع بين صواب وخطأ. فقد أخطأ المعتزلة في قولهم وضع المشرع أسماء لما استجد من عبادات ومعاني شرعية بدون اعتبار معاني الألفاظ من جهة اللغة. وألحق أن جميع الأسماء الشرعية - بعد التقصي - لها علاقة بمعانيها اللغوية. وأصاب المعتزلة في إثبات التصرف للمشرع، لأن تطابق المعنى الشرعي والمعنى اللغوي من كل وجه لم يحدث. وأما تسمية تصرف المشرع نقلًا أو عدم تسميته نقلًا فهو خلاف لفظي.

ثمرة النزاع في هذه المسألة

أما الباقلاني فجمد بقوله إن الألفاظ مبقاة على وضعها اللغوي، وإن كان عند استدلاله أثبت تصرفًا للمشرع في نطاق ضيق على فلتات لسانه، فجعل ما دلت عليه الألفاظ الشرعية من معنى زائد عن المعنى اللغوي إنما هو شروط فقط، ولكن لم تتغير ماهية اللفظ. والذي حدا بالباقلاني - رحمه الله - إلى الوقوف في هذا الموقف الجامد - الذي عابه عليه أشد الناس تأثرًا بآرائه الأصولية كإمام الحرمين والغزالي - مسألة جد خطيرة، وهي استغلال المعتزلة هذه المسألة في الطعن على الصحابة بعدم إثبات الإيمان الشرعي لهم. كما سنذكر ذلك في ثمرة النزاع في هذه المسألة. بل ذهب الخوارج إلى أبعد من ذلك، فوصفوا بعض الصحابة بالكفر. وبناء على ما تقدم يكون القول الوسط هو الراجح. وهو قول من أثبت تصرف المشرع، فنقل الأسماء عن معناها اللغوي على سبيل التجوز لوجود علاقة بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي. فأصبحت الأسماء الشرعية مجازات لغوية. ثم لما اشتهرت بحيث إذا أطلقت لم يفهم منها إلا المعنى الشرعي أصبحت حقائق شرعية، لأن أمارة الحقيقة التبادر إلى الذهن. ثمرة النزاع في هذه المسألة: يوجد للنزاع في هذه المسألة ثمرات عدة، بعضها يعود للاعقاد، وبعضها الآخر للفروع الفقهية، وبعضها الآخر للغة. أما في جانب الاعتقاد فاختلف العلماء في حقيقة الإيمان بناء على اختلافهم في جواز نقل الشرع بعض الأسماء من اللغة إلى الشرع. واختلفوا أيضًا في وجود منزلة بين الإيمان والكفر أو لا يوجد. ومن أهم العوامل التي سببت النقاش حول وجود منزلة بين المنزلتين، وحكم مرتكب الكبيرة هو ما وقع من حروب على أثر مقتل عثمان بن عفان -

رضي الله عنه - كوقعة الجمل وصفين، مما جعل الناس يتساءلون عن الحق وعن المخطئ. وهل المخطئ كافر أو مؤمن؟ فكانت الخوارج تقول بكفر مرتكب الذنوب، والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأهل السنة عمومًا ذهبوا إلى أنهم مؤمنون ناقصوا الإيمان بقدر ما ارتكبوا من الكبائر. وذهب واصل بن عطاء - مؤسس مذهب الاعتزال - إلى أنهم فاسقون في منزلة بني منزلتي الكفر والإيمان. وهذه أول مسألة من مسائل المعتزلة. وقد أجمعوا عليها على تعدد فرقهم واختلاف مشاربهم. ونقل أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع حقيقة قولهم فقال إنهم قالوا: "ننزل الصحابة منزلة بين المنزلتين، فالا نسميهم لا كفارًا ولا مؤمنين، ونقول إنهم فسقة"، ونقل عن واصل بن عطاء أنه قال: "لو شهد عندي علي وطلحة على باقة من البقل لم أقبل حتى يكون معهما ثالث، لأن أحدهما فاسق" ثم قال الشيرازي: "قيل لهم: إن الإيمان في اللغة التصديق، الصحابة مصدقون موحدون. وقد وعد الله المؤمنين الجنة في قوله تعالى: {وعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فقالوا: صدر منهم الإيمان اللغوي الذي هو التصديق، ولكن الشرع نقل هذا اللفظ إلى فعل الطاعات. فالصحابة صدقوا ولم يطيعوا، بل ارتكبوا شيئًا من المعاصي فخرجوا من الإيمان، ولم يبلغوا الكفر، فهم فاسقون في منزلة بين المنزلتين. وبهذا يتضح أن المعتزلة بنوا طعنهم في الصحابة، ووصفهم إياهم بعدم الإيمان على نقل كلمة الإيمان من معناها اللغوي الذي هو التصديق إلى المعنى الشرعي. ولذا فالإيمان عند المعتزلة والخوارج هو مجموع ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والباقلاني - وهو القائل بعدم النقل - يرى أن الإيمان باق على معناه اللغوي، وهو التصديق. ولكن أهل الحق ذهبوا إلى أن الإيمان لم يبق على معناه اللغوي تمامًا، بل أصبح في الشرع عبارة عن "التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح" ولم يختلفوا في دخول التصديق بالقلب فيه، واختلفوا في دخول العمل في الإيمان. ولهم في ذلك تفصيلات ليس الغرض من ذكر ثمرة النزاع تحرير المذاهب، فمحل ذلك كتب العقيدة، فيرجع في ذلك إلى لوامع الأنوار البهية، وشرح العقيدة الطحاوية والمواقف للإيجي وغيرها. والمقصود من إيراد هذه الثمرة بيان استغلال المعتزلة والخوارج مسألة نقل اللفظ للطعن على الصحابة رضوان الله عليهم. الثمرة الثانية: وهي لغوية: ذهب من قال بالنقل من المعتزلة وغيرهم إلى أن الحقائق ثلاثة: الأولى: الحقيقة اللغوية: وهي اللفظ الذي وضعه أهل اللغة لمعنى ابتداء، ولم يطرأ عليه تغيير، مثل كلمة إنسان. الثانية: الحقيقة العرفية. وهي اللفظ الذي نقل عن موضوعه الذي وضع له ابتداءً وأصبح هو المتبادر للذهن. فإن كان النقل على يد أهل اللغة عمومًا سمي عرفية عامة، مثل كلمة دابة كانت في كل ما دب على الأرض، وأصبحت في ذوات الأربع. لا يكاد يفهم منها إلا ذلك إذا أطلقت.

وإن كان النقل على يد أصحاب الفنون كالأدباء والنحويين والفقهاء مثل كلمة: الرجز والعطف والمناسخة. تسمى عرفية خاصة. الثالثة: الحقيقة الشرعية: وهي الأسماء التي استعملها المشرع فيما فرض من عبادات وغيرها. والمعتزلة ترى أن الأسماء الشرعية وضعها المشرع وضعًا مبتدئًا. فهي حقائق شرعية. ولهذا عرف أبو الحسين البصري المعتزلي في المعتمد الحقيقة بأنها: "ما أفيد بها ما وضعت له في الأصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به". ثم قال: "ودخل في هذا الحد الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية، والحقيقة الشرعية". وذهب القائلون بعدم النقل إلى عدم دخول الأسماء الشرعية في الحقيقة وقصروا إطلاق الحقيقة على الحقيقة اللغوية فقط. ولذا عرفها شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني بأنها: "كل كلمة أريد بها نفس ما وضعت له في وضع واضع وقوعًا لا يستند فيه إلى غيره". وعرفها ابن الأثير في كتابه المثل السائر أنها "اللفظ الدار على موضعه الأصلي". وعرفها ابن جني بأنها: "ما أقر في الاستعمالات على أصل وضعه في اللغة" وقد جرى ابن قدامة في الروضة في تعريفه للحقيقة على هذا المذهب، حيث قال في تعريفها: "هو اللفظ المستعمل في وضعه الأصلي". الثمرة الثالثة: وهي تعود للفروع الفقهية. الأسماء الشرعية المجردة عن القرائن على ماذا تحمل؟

ذكرنا أن أهل العلم اختلفوا في الأسماء الشرعية على ثلاثة أقوال: الأول: إنها حقائق لغوية، لم تنقل عن ما وضعتها له العرب، وهو ما ذهب إليه الباقلاني ومن تابعه. الثاني: إنها مجازات لغوية، وهو قول فخر الدين الرازي، ونقله الزركشي في البحر المحيط عن الإمام الشافعي - رحمه الله. الثالث: إنها حقائق شرعية سواء كانت متعلقة بأصول الدين أو بفروع الشريعة، وهو مذهب المعتزلة والخوارج، ومن قال بقولهم. تحرير محل النزاع: اتفق أهل العلم على أنه إذا وجدت قرينة تبين المراد في الإطلاق، فإنها تحمل عليه، فهي ليست في محل النزاع. فإذن محل النزاع إذا تجرد الاسم عن القرائن. 1 - ذهب المعتزلة إلى حملها على عرف الشرع، فإذا وردت لفظة الصلاة مجردة عن القرينة حملت على العبادة المعروفة ذات الركوع والسجود، وكذلك لفظة الحج تحمل على قصد بيت الله الحرام، وكذلك سائر الألفاظ. قال أبو الخطاب الكلوذاني في كتابه التمهيد وهو ممن يقول بقول المعتزلة في هذه المسألة" "وفائدة الخلاف أن يخاطبنا الشرع بشيء مثل الصلاة، فإنها عندنا محمولة على الصلاة الشرعية، لا يجوز العدول عن ذلك إلا بدليل وقرينة، وعندهم المراد به الصلاة اللغوية، لا يجوز العدول عنها إلى هذه الشريعة إلا بقرينة".

2 - وقال الباقلاني في كتابه هذا - التقريب والإرشاد. فإن قيل: فما تقولون لو ثبت أسماء شرعية، وإن كانت ألفاظًا لغوية، لكنها منقولة في الشرع إلى أحكام غير التي وضعت لها في حكم اللسان، ثم ورد الشرع بذكرها، هل كان يجب حملها على موجب اللغة أو موجب الشرع؟ قيل: "كان يجب الوقف في ذلك، لأنه يجوز أن يراد بها ما هي له في اللغة، ويجوز أن يراد بها ما هي له في الشرع، ويجوز أن يراد بها الأمران إن كانا مثلين يمكن أن يقعا معًا في وقت واحد أو وقتين. فإن كانا خلافين صح أن يريدهما جميعًا معًا، وإن كانا ضدين صح أن يريدهما على الترتيب، ويجب لتجويز ذلك أجمع الوقف إلى أن يدل دليل على المراد به - على ما نبينه من بعد في حكم المحتمل من الألفاظ". فخلاصة كلام القاضي أنه ذهب إلى الوقف لوجود الاحتمالات التي ذكرها، فعاملها معاملة المجمل، لأنها لفظ مشترك عنده. وعاب الإبياري في شرحن البرهان على الباقلاني ما ذهب إليه، فقال: "قول القاضي: إنه مجمل يناقض مذهبه في حجة الأسماء الشرعية - اللهم إلا أن يكون له قول آخر بإثباتها، وإلا فالإجمال مع اتحاد جهة الدلالة محال. أو يكون ذلك منه تفريعًا على قول من يثبتها، وهذا ضعيف. فإنه من أين له الحكم عليهم أنهم يسوون بين النسبة إلى المسمين". وتعقيبًا على كلام الإبياري أقول: "لقد تقدم في تحقيق الأقوال في المسألة أن ما نسبه إمام الحرمين في البرهان للقاضي أبي بكر الباقلاني

من عدم تصرف الشرع أدنى تصرف في الألفاظ اللغوية لا بزيادة ولا بنقص مخالف لما صرح به الباقلاني، ونقلته عنه من التقريب، وقد جرى الإبياري في نقده على ما نقله إمام الحرمين عن الباقلاني في البرهان. ولذا ما نقد به الإبياري الباقلاني صحيح لو كان نقل إمام الحرمين لمذهب الباقلاني صحيحًا. ولذا استدرك الإبياري في نقده بعبارة لطيفة، تدل على شدة يقظته، وحدة ذكائه، وذلك لبعد احتمال وقوع الباقلاني في مثل هذا التناقض. وبناء على ما تقدم أقول: لقد صرح الباقلاني في كتابه هذا بأن المشرع استعمل بعض الألفاظ اللغوية، وتصرف فيها نوعًا من التصرف، ولهذا حكمه عليها بالإجمال متناسب مع مذهبه لترددها بين إرادة المعنى اللغوي والمعنى الشرعي عند إطلاقها. فمثلًا لفظ " الوضوء" هل يراد به الطهارة التي تبيح الصلاة وترفع الحدث، أو يراد به النظافة، وكذلك غيرها. الإبياري معذور في نقده الباقلاني، أو يراد به النظافة، وكذلك غيرها. والإبياري معذور في نقده الباقلاني، لأنه بناء على ما وجده في البرهان، فظنه هو حقيقة مذهب الباقلاني. 3 - وممن قال بالاجمال القاضي أبو يعلي في العدة حيث قال: "فأما قوله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} فإن ذلك مجمل، لأن الصلاة في اللغة الدعاء، فكان كما قال تعالى: {ومَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إلاَّ مُكَاءً وتَصْدِيَةً} وفي الشريعة هي التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة، فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن يكون

مجملًا، وكذلك الزكاة في اللغة النماء والزيادة، من قولهم زكا الزرع إذا زاد ونما، والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك، واللفظ لا يدل عليه ولا بنبئ عنه. وهذا ظاهر كلام أحمد - رحمه الله - ذكره في كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "ومن أصحاب الشافعي من قال: ليس بمجمل، وأن الصلاة في اللغة دعاء، فكل دعاء يجوز إلا أن يخصمه الدليل". 4 - وقال الغزالي في المستصفي: "والمختار عندنا أن ما ورد في الإثبات والأمر فهو للمعنى الشرعي، وما ورد في النهي كقوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك". فهو مجمل. وبني على قول الغزالي هذا صحة صيام النفل بنية من النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: "إني إذن صائم" حملا على الصيام الشرعي. أما نهيه صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم النحر فيكون مجملًا، لأنه في النهي. قال الآمدي في الإحكام: "والمختار ظهوره في المسمى الشرعي في طرف الإثبات، وظهوره في المسمى اللغوي في طرف الترك".

1 - فمن فروع خلافهم هذا اختلافهم في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" هل المراد به أن الطواف كالصلاة حكمًا في الافتقار للطهارة، فيكون المراد بالصلاة الصلاة الشرعية، أو أن الطواف يشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغة. 2 - وكذلك اختلافهم في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقهما جماعة" هل المراد به أقل عدد تنعقد به الجماعة في الصلاة أو المراد به الجماعة الحقيقية. فذهب جماعة إلى أن لفظ الصلاة، ولفظ الجماعة في الحديثين مجملان، فلا يحمل كل لفظ على أحد معنييه إلا بقرينة، وذهب آخرون إلى أنه أظهر في المعنى الشرعي. فيحمل الحديث الأول على أن الطواف كالصلاة في اشتراط الطهارة ويحمل الثاني على أن أقل عدد يحصل به فضيلة الجماعة هو اثنان. 3 - وكذلك اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم "توضؤا مما مست النار" هل المقصود به الوضوء الشرعي أو الوضوء اللغوي. فمنهم من قال: إنه مجمل لوجود الاحتمالين، فلا يحمل على أحدهما إلا بقرينة. ومنهم من يرى أنه يحمل على المسمى الشرعي، لأن حمل لفظ المشرع على عرفه أظهر.

4 - وكذلك اختلفوا في المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح". فذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أن المراد به المعنى اللغوي، وهو الوطء ومنه قول الشاعر: كبكر تريد لذيذ النكا ح وتهرب من صولة الناكح ولذا ذهب الحنفية إلى أنه يحرم الوطء على المحرم ولا يحرم عليه العقد. وذهب المالكية وغيرهم إلى حمل النكاح في الحديث على العقد، ولهذا ذهبوا إلى تحريم العقد أيضًا، وذلك لأن حمل كلام المشرع على المعنى الشرعي أظهر. 5 - وكذلك اختلفوا في المراد بقوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}. فحمل الحنيفة كلمة (ما نكح) على معناها اللغوي، وهو الوطء فيكون المعنى لا تطؤا ما وطأها الأب بزنى أو غيره، ولذا من زنى بها الأب فهي موطوءة له. وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن المراد بالنكاح في الآية العقد، لأن النكاح حقيقة شرعية، ولفظ الشرع يحمل على المعنى الشرعي، ولذا فإن الزنى لا يوجب حرمة المصاهرة عندهم.

مسألة حمل اللفظ المشترك على معنييه

المبحث السابع (في دراسة مسألة حمل اللفظ المشترك على معنييه لو معانيه) سبب اختيار هذه المسألة للدراسة: اخترت هذه المسألة للدراسة لأمرين: أولهما: إن الأصوليين لم يحرروا مذهب الباقلاني، بل نسبوا له ما لم يقل به. وسنذكر حقيقة مذهبه كما هو في كتابنا هذا، ونبين ما نسبه له الأصوليون في كتبهم عند بيان الأقوال في المسألة. ثانيهما: أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية اللغوية، التي لها فروع فقهية كثيرة جدًا. وهذا المسألة لأهميتها اشتهرت عند الأصوليين باسم "المسألة الشافعية" كما ذكر ذلك ابن السبكي في رفع الحاجب. وستظهر أهميتها عند ذكر بعض ما يتفرع عليها من فروع في نهاية المسألة. تحرير محل النزاع: عنوان الآمدي في الإحكام لها بما يلي: "اختلف العلماء في اللفظ الواحد، من متكلم واحد، في وقت واحد، إذا كان مشتركًا بين معنيين - كالقرء للطهر والحيض - أو حقيقة في

أحدهما، مجازًا في الآخر - كالنكاح المطلق على العقد والوطء - ولم تكن الفائدة فيهما واحدة، هل يجوز أن يراد به كلا المعنيين معًا، أو لا؟ ". ذكرت ما عنون به الآمدي للمسألة، لأن في القيود التي ذكرها تحرير جزئي لمحل النزاع في المسألة. وسأبين ما خرج عن محل النزاع بالقيود التي ذكرها. أضيف قيودًا أخرى لكي يتحرر محل النزاع في المسألة فأقول: احترز "باللفظ الواحد" عن اللفظين، فإنه يصح أن يراد بهما معنيين إجماعًا. واحترز بقوله: "من متكلم واحد" عن المتكلمين، لأنه يجوز أن يريد أحدهما باللفظ المشترك أحد المعنيين، ويريد الآخر المعنى الآخر إجماعًا. واحترز بقوله: "في وقت واحد" عن إطلاق المتكلم الواحد اللفظ المشترك لمعنيين في وقتين، فإن ذلك جائز إجماعًا. فنقول مثلًا: رأيت عينًا، ويريد الباصرة. وفي وقت آخر يقول: رأيت عينًا، ويريد الجارية. وقال: "إذا كانت مشتركة بين معنيين، أو حقيقة في أحدهما مجازًا في الآخر، لأن الكلام في المسألتين واحد، عند جمهور المتكلمين فيهما. ويلحق بالحقيقة والمجاز ما له معنيان أحدهما صريح والآخر كناية، مثل قولهم: "كثير الرماد". والجمهور على أن الكناية من المجاز خلافًا ومجازان، وقام الدليل على عدم إرادة الحقيقة، فهل يحمل على مجازيه؟ واحترز بقوله: "ولم تكن الفائدة فيهما واحدة" عن اطلاق اللفظ المتواطئ، كالأسود يطلق على الزنجي والقار، فهو يفيد فائدة واحدة، وهي القدر المشترك بينهما، وهذا متفق على أن يدل على معنييه - الزنجي والقار.

بهذا تبين أنه خرج من محل النزاع: اللفظين، واللفظ الواحد إذا كان من متكلمين أو كان من متكلم واحد ولكن في وقتين، واللفظ المتواطئ لأن الفائدة من إطلاقه على معنييه واحدة. واشترط القائلون بحمل اللفظ على معنييه أو معانيه أن يكون الجمع بين المعنيين ممكنًا، فخرج بذلك ما كان معنياه ضدين، كاستعمال صيغة "إفعل" في الطلب والتهديد، فإنه لا يمكن الجمع بينهما، ولا الحمل عليهما. وكذلك يخرج النقيضان، كإطلاق لفظة (عسعس) على الإقبال والإدبار، ولم ينقل عن أحد القول بالجواز في حالة كونهما ضدين أو نقضين إلا عن أبي الحسن الأشعري، كما ذكره الزركشي في البحر المحيط نقلًا عن صاحب الكبريت الأحمر، واستغربت هذا النقل، ونقل الإجماع على المنع في حالة الضدين والنقيضين عن الأستاذ أبي منصور. وبهذا تحرر محل النزاع في المسألة، وظهر أنه فيما إذا كان الجمع بين معنيي المشترك ممكنًا بالإضافة لكون الإطلاق في آن واحد، من متكلم واحد، بلفظ واحد. المقصود بالأقسام الثلاثة الداخلة في المسألة: الأول: اللفظ المشترك: عرفه فخر الدين الرازي في المحصول بأنه: "اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعًا أولًا من حيث هما كذلك".

فخرج بقوله: "الموضوع لحقيقتين مختلفتين" الأسماء المفردة الموضوعة لحقيقة واحدة. وخرج بقوله: "وضعا أولًا" ما يدل على معنيين أحدهما حقيقي والآخر مجازي. وخرج بقوله: "من حيث هما كذلك" اللفظ المتواطئ، فإنه يتناول الماهيات المختلفة، ولكن لا من حيث إنها مختلفة، بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد. وقوع المشترك في لغة العرب وطرق معرفته: المشترك واقع في لغة العرب والقرآن والسنة على الصحيح. ومنه لفظ "القرء" للطهر والحيض، "وعسعس" للإدبار والإقبال. "والصريم" لليل المظلم وللصبح. ويعرف كون اللفظ مشتركًا بطرق ثلاث هي: 1 - يثبت بإحدى طرق إثبات كون المعنى حقيقي على المعنيين أو المعاني كلها، كأن تكون جميع المعاني تبادرها للذهن على حد سواء. 2 - بسماع أهل اللغة التصريح بالاشتراك في كتبهم اللغوية والمعاجم. 3 - الاستدلال بحسن الاستفهام، لأن الاستفهام يحسن عند تردد الذهن بين معنيين.

الثاني: ما له معنى حقيقي ومعنى مجازي: والمعنى الحقيقي: هو المعنى المستفاد في أصل وضع اللغة. وأما المعنى المجازي: هو المعنى المستفاد من نقل اللفظ إلى معنى آخر، لوجود علاقة بين المعنيين، وقرينة صارفه عن إرادة المعنى المراد في أصل وضع اللغة، وذلك مثل استعمال لفظة "اللمس" في مس البشرة للبشرة على سبيل الحقيقة، وفي الجماع على سبيل التجوز، وكذلك استعمال كلمة "الأب" في الوالد على سبيل الحقيقة وفي الجد على سبيل المجاز. ويلحق بالحقيقة والمجاز الصريح والكناية، لأن جماهير أهل اللغة على أن الكناية من المجاز خلافًا لفخر الدين الرازي على ما ذكره صاحب الطراز مثل قولهم: "كثير الرماد" فمعناه الصريح أنه كثير الرماد المتخلف من إحراق الحطب. ومعناه المستفاد من الكناية هو كونه كريم. وعند جماهير أهل اللغة إن المعنى الحقيقي والصريح راجح على المعنى المجازي والكناية إذا تجرد عن القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي والصريح. الثالث: وهو وجود لفظ له معنى حقيقي قامت الدلالة على أنه غير مراد، وله مجازان أو عدة مجازات متساوية فهل يحمل على جميع مجازاته المتساوية إذا كان ممكنًا الجمع بينهما؟. ويمثلون لهذه الصورة بلفظ "الشراء" في قول القائل "لا أشترى" فلها معنى حقيقي، وهو نفي الشراء عن نفسه. فإذا قامت قرينة على عدم إرادته يكون المراد أحد معنييه المجازيين الذين هما: السوم وشراء الوكيل. والنزاع في كون اللفظ يحمل عليهما معًا أولًا".

الأقوال في المسألة: 1 - ذهب الشافعي وأبو علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد إلى جواز أني يراد باللفظ جميع ما يتناوله إذا تجرد عن القرينة، فيكون إطلاقه على معنييه على سبيل الحقيقة. نسب هذا القول للثلاثة الرازي في المحصول والآمدي في الإحكام، ونسبه أبو الحسن في المعتمد للجبائي وعبد الجبار، ونسبه إمام الحرمين في البرهان لجماهير الفقهاء ونسبه الزركشي في البحر المحيط للشافعي ولأبي علي ابن أبي هريرة. واختاره أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وشرحها والتبصرة، وابن النجار في شرح الكوكب، ونسبه لأكثر أصحابه ونسبه السمرقندي في الميزان لعامة أهل الحديث، واختاره الإسنوي في التمهيد، ونسبه الجصاص لأبي يوسف ومحمد بن الحسن. ونسب الرازي في المحصول والآمدي في الأحكام وابن الحاجب في المنتهى والإسنوي في نهاية السول وغيرهم إلى الباقلاني هذا القول، وهو مخالف لما هو في كتابه هذا حيث قال في كتابه هذا ص 422: "فإن قيل: فهل يجب حمل الكلمة الواحدة - التي يصح أن يراد بها معنى واحد، ويصح أن يراد بها معنيان - على أحدهما أو عليهما بظاهرها أم بدليل يقترن بها؟ قيل: بل بدليل يقترن بها لموضع احتمالها للقصد بها تارة إليهما، وتارة إلى أحدهما، وكذلك سبيل كل محتمل من القول، وليس بموضوع في الأصل لأحد محتملية" وبهذا يظهر أن قول الباقلاني مطابق للقول الثالث وهو قول إمام الحرمين. وقد نقل الزركشي في البحر المحيط

اضطرابًا شديدًا فيما نسبه العلماء للباقلاني وسيأتي أن إمام الحرمين نقل عن الباقلاني التفريق بين المشترك? فإيجاز حمله على معنييه? ولكنه لم يجز حمل اللفظ على حقيقتة ومجازة? وما هو هنا لا يوافق هذا النقل? إلا أن يكون للباقلاني كلام في كتاب آخر يغاير هذا. 2 - ذهب لمنع حمله على معنييه أبو هاشم الجباني وأبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري على ما في المعتمد لأبي حسين البصري. ونسبة الرازي في المحصول لأبي حسين البصري ونسبته ليست صحيحةً. واختاره ونصره ابن الصباغ على ما في البحر المحيط. ونسبةً الجصاص لأبي حنيفةً. ونسبة الباقلاني في كتابه هذا لجماعة من أصحاب أبي حنيفة. واختاره أبو الخطاب في التمهيد. ونقله ابن النجار في شرح الكوكب عن ابن القيم في كتابه جلاء الافهام? وعزاء للاكثرين. واختاره الجصاص ووصف حمله على معنييه بالاستحالة ونسبة الأمدي لأبي هاشم وأبي عبد الله البصري. وذكر أبو الحسين أن أبا عبد الله اشترط أربعة شروط. وهي التي سبق أن ذكرتها عند تحرير محل النزاع? فهي شروط متفق عليها عند الجميع وليست خاصة بأبي عبد الله البصري. 3 - يجوز أن يحمل على معنييه إذا وجدت قرينة? ولا يحمل على معنييه إذا تجرد عن القرائن? وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان? وبه قال ابن الحجاج في المنتهى? وابن السبكي في جامع الجوامع? والقرافي في شرح تنقيح الفصول. وعلى هذا يكون إطلاقه على معنييه مجازًا? فلا يحمل إلا بقرينةً. وهو علامة المجاز.

4 - يجوز الحمل على معنييه في الجمع والمثنى كلفة "الاقراء" دون لفظ "القرء" نقله الزركشي في البحر المحيط عن بعض الشافعية اعتمادًا على حكاية الماوردي ذلك عنهم? وهذا القول بناء على جواز تثنية المشترك وجمعه? ونقل هذا التفريق ابن النجار في شرح الكوكب المنير. 5 - يحمل اللفظ المشترك على حقائقه مطلقًا? ولا يحمل على حقيقته ومجازه جميعًا. نسبة امام الحرمين في البرهان لجماعة منهم الباقلاني حيث قال: ((وعظم نكير القاضي على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز جميعًا. وعلل ذلك بأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جمع بين النقيضين)). وقد تقدم ما وجدته في التقريب? وهو مخالف لهذا النقل عن الباقلاني? ولعل ما ذكره إمام الحرمين موجود في كتبه الاخرى أو في هذا الكتاب في موضع آخر لم يبلغ تحقيقنا إليه. وبهذا القول قال أبويعلي في العدة 1/ 188. ولكنه ذهب لجواز الحمل بدون تفريق ففي موضع أخر من كتابه العدة وهو: 2/ 703. 6 - لا يجوز في وضع اللغة استعماله في معنييه على الجمع? ولكن يجوز أن يريد به المتكلم المعنيين. وبهذا قال أبو الحسين في المعتمد والغزالي في المستصفي والرازي في المحصول. ومال لاختياره السمرقندي في الميزان ولم يصرح به. 7 - ذهب الهمام بن الكمال في التحرير على ما في التقرير والتحبير إلى أنه يحمل على معنييه لغةً إذا كان اللفظ مثنى أو مجمع? مثل قولهم: ((القلم أحد اللسانين? والخال أحد الأبوين)). ويحمل على معنييه إن كان مفردا عقلًا لا لغةً.

وهذا القول يشارك القول السادس فيما إذا كان اللفظ المشترك مفردًا. 8 - ذهب قوم الى التفريق بين النفي والإثبات. فقالوا: يحمل اللفظ المشترك على معانيه في النفي دون الإثبات? وذلك لأن النكرة في سياق النفي تعم. ومثلوه بأنه لو حلف لا يكلم مواليه يتناول الاعلى والأسفل. 9 - الوقف الأمدي في الأحكام ولكنه لم يصرح بالوقف? بل ناقش أدلة الفريقين? وترك المسألة بدون ترجيح واختار حمله على معنييه في منتهى السول. الاستدلال: سأجمل الاستدلال بحيث أذكر أدلة المانعين عمومًا? ثم استدل لمجوزي حمل المشترك على معنييه عمومًا. وبعد الانتهاء من الاستدلال للفريقين? أذكر معتمد كل قول من الأقوال الفرعية - بإذن الله - وسأبدأ بذكر أدلة المانعين. أدلة المانعين: احتج أبو عبد الله البصري بدليل عقلي? وهو أن الإنسان يجد من نفسه تعذر استعمال اللفظ في حقيقته ومجازة معًا? كما يتعذر تعظيم زيد والاستخفاف به في أن واحد. ويجاب على ذلك بجوابين:

الأول: لا نسلم بحكم الأصل. فإنه لا يمتنع تعظيم زيد والاستخفاف به في حال واحد. الثاني: سلمنا جدلًا بحكم الأصل? ولكن يوجد فرق بين الأصل والفرع? فالقياس باطل? فتعظيم زيد والاستخفاف به في آن واحد يختلف عن حمل اللفظ المشترك على معنييه. أو اللفظ على حقيقته ومجازة? فالمتكلم يجوز أن يريد المعنى الحقيقي والمعنى المجازي بخطابين في وقت واحد? فالتعظيم بنبئ عن ارتفاع حال المعظم? والاستخفاف به ينبئ عن أتضاع حالةً? ومحال أن يكون الإنسان في حال واحدةً مرتفع الحال متضع الحال? وليس ذلك إرادة الاعتداد بالحيض ثم نحن لا نقول بالحمل إلا فيما يمكن فيه الجمع بين المعنيين. واحتج أبو عبد الله البصري -أيضًا- بهذا القول بأن المتكلم لو استعمل الكلمة الواحدةً في حقيقتها ومجازها في آن واحد لكان قد أراد استعمالها فيما وضعت له? وأراد العدول بها عما وضعت له في آن واحد? وذلك متنافي. كما يستحيل إرادة الاقتصار على الشيء والمجاوزة عنه إلى غيره. ويجاب عن ذلك أن المتكلم إذا استعمل لفظة ((النكاح)) في العقد وفي الوطء? فإنه يكون أراد بها الوطء? وأراد بها العقد? فلا يوجد في فعله هذا عدول? بل يكون استعمالها في معنييها? فإن قصد أبو عبد الله انه أراد أن لا يستعملها فيما وضعت له فليس صحيحًا. فإن قال: هذا لازم على حملكم لها على معنييها.

يجاب عنه: بأنه لا يلزم? لأننا نقول يراد بها المعنى الحقيقي? والمعنى المجازي. المستعمل للكلمةً فيما هي مجاز فيه لابد أن يضمر فيها كاف التشبيه? وأما المستعمل لها فيما هي حقيقةً فيه فلا يضمر كاف التشبيه فيها. ومحال أن يضمر الشيء ولا يضمره. ويجاب على ذلك: بأن المتكلم لو قال: ((رأيت أسباع)) وأراد أنه رأى أسدًا ورجالًا شجعانًا? فإنه لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه في بعضهم دون البعض? لأن معنى إضمار الكاف هو أن يقصد باسم الأسد ما هو كالأسد. استدل أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في كتابه ((الفصول)) بأن الصحابة لما اختلف في المراد من قوله تعلى: ((أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)) أن كل من أثبت أحد المعنيين نفي المعنى الأخر أن يكون مرادًا. فعلي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا: المراد الجماع? وكان عندها أن اللمس باليد غير مراد. وذهب ابن عمرو وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - إلى أن المراد بالآية اللمس باليد دون الجماع. فكانا لآجل ذلك لا يريان أن للجنب أن يتيمم. فحصل من ذلك اتفاقهم على انتفاء إرادة المعنيين جميعًا بلفظ واحد. وهذا يدل على أنهم كانوا لا يجيزون إرادة المعنيين بلفظ واحد.

ويمكن أن يجاب عن دليل الجصاص هذا بأننا لا نسلم أن كل من أثبت أحد المعنيين نفي المعنى الآخر أن يكون مرادًا. بل يوجد من الصحابة من حمل اللمس على المس باليد? ومع هذا أباح التيمم للجنب. مما يدل على أنه حمله على معنييه, والذين نقل عنهم من الصحابة أنه لا يرى للجنب أن يتيمم هو: عمر بن الخطاب? وعبد الله بن مسعود? وذكر الضحاك أن ابن مسعود رجع عن قوله هذا على ما في مصنف ابن أبي شيبة. ونقل قوله ورجوعه ابن قدامة في المغني أيضًا. واستدل لهذا القول من جهة اللغةً أبو الحسين في المعتمد بقوله: لا يجوز أن يراد بالكلمة الواحدةً المعنيين المختلفين سواء كانا حقيقتين أو حقيقة ومجازًا. فمثلًا: وضع أهل اللغة كلمة ((حمار)) للبهيمةً وحدها حقيقةً? والبليد وحد مجازًا? ولم يستعملوه فيهما معًا. ولو قال: ((رأيت حمارين)) لم يعقل منه أنه رأى بهيمتين ورجلين بليدين وكذلك في الحقيقتين مثل: القرء للحيض والطهر. فقد وضعته أهل اللغة للحيض وحده? وللطهر وحده? ولم يضعوه لهما معًا. لأنهم لو وضعوه لهما معًا? لكان استعماله في أحدهما مجازًا. وللزم - أيضًا - وضعهم لهما معًا? أن يفهم من لفظةً ((قرءان)) طهرين وحيضتين? ولا يمكن أن يكون مرادًا من قوله: اعتدي بقرء أن تعتد بالطهر والحيض معًا. وأجيب: لا نسلم بأنه إذا لم يكن موضوعًا للمجموع لم يجز استعماله في المجموع? بل وضعه لكل واحد من المعنيين كاف في الاستعمال في المجموع مجازًا.

ويمكن تقرير الجواب على وجه آخر: الوضع لكل واحد من معنييه كاف لاستعماله في الجميع? ويكون ذلك استعمالًا له فيما وضع له? لأن كل واحد من تلك المعاني قد وضع له ذلك اللفظ? ولا يلزم من استعماله في المجموع اشتراط الوضع للمجموع. 6 - ذكر الباقلاني في كتابه الذي بين يديك أنهم استدلوا لمذهبهم بأنه لو جاز حمل اللفظ على معنييه لجاز أن يراد بالقول ((أفعل)) الإباحةً والزجر والإيجاب والندب. وكذلك لو جاز الحمل على معنييه لجاز أن يريد بقوله: ((اقتلوا المشركين)) المشركين والمؤمنين? وبقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)) الناس والبهائم. وأجاب الباقلاني عن ذلك: بأننا لا نقول بحمل اللفظ على معنييه إلا إذا لم يمتنع الجمع بين المعنيين? وفي جميع الأمثلة التي ذكرتموها يمتنع الجمع للتضاد الموجود. كما أن لفظ ((الناس)) لا يجري على البهائم? وكذلك لفظ ((المشركين)) لا يجري على المؤمنين في حقيقة ولا مجاز. أدلة المجوزين لاستعماله في معنييه: 1 - وقوعه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} والصلاة من الله سبحانه وتعالى ((الرحمة أو المغفرة بالاتفاق? ومن الملائكة ((الاستغفار)). وهما معنيان متغايران? واستعملت لفظةً الصلاةً فيهما دفعةً واحدةً? وذلك بإسنادها الى الله تعالى وإلى الملائكة. وإنما عدت إلى الصلاة بحرف ((على)) ولم تعد باللام لمعنى التعطف والتحنن.

واعترض على الاستدلال بهذه الآيةً تاج الدين الأرموي بأن قوله تعالى: ((يصلون)) فيه ضميران? أحدهما عائد على الله? والآخر عائد إلى الملائكةً? وتعدد الضمائر بمنزلة تعدد الأفعال? فكأنه قال: ((إن الله يصلي وملائكته تصلي)). فهو بمثابة ذكر فعلين. ومسألتنا في استعمال اللفظة الواحدة في معنيين وليس في استعمال لفظين في معنيين. وأجيب على هذا الاعتراض: بأن الفعل في هذه الآيةً لم يتعدد قطعا? وإنما تعدد في المعنى? فاللفظ واحد والمعنى متعدد. واعترض الغزالي - أيضًا - على الاستدلال بهذه الآيةً بأن لفظ الصلاةً في آلية استعمل في القدر المشترك بين المغفرةً والاستغفار? وهو الاعتناء وإظهار الشرف. فقال في المستصفي: الأظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين? وهو العناية بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لشرفه وحرمته? والعناية من الله تعالى مغفرة? والعناية من الملائكة استغفار ودعاء. وأجيب على اعتراض الغزالي: بأن إطلاقها على الاعتناء مجاز لعدم التبادر إلى الذهن? وقد ثبت أن الصلاةً في آلية مشتركةً بين المغفرةً والاستغفار? فالعمل عليهما أولى لما فيه من مراعاة المعنى الحقيقي. واعترض - أيضًا - على الاستدلال بالآية: بأنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر لوجود قرينةً تدل عليه? كما حدث في قول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ويكون أصله: إن الله يصلي وملائكته يصلون. وأجيب: بأن الاضمار خلاف الأصل. 2 - وقوعه في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}. ووجه الاستدلال بأنه اسند السجود إلى المذكورين في الآيةً. وحقيقة سجود الناس وضع الجبهةً على الأرض? وهو غير متصور من الدواب ومن الشمس والقمر والنجوم? فالسجود منها هو الخضوع والخشوع? فاستعمل السجود في الآية في معنييه. واعترض تاج الدين الأرموي على هذا الاستدلال بعدم تسليم أنه استعمال للفظ الواحد في معنييه? وإنما هو استعمال ألفاظ متعددةً? لأن حرف العطف بمثابة تكرار العامل? فيكون تقدير الآيةً: إن الله يسجد له من في السموات? ويسجد له من في الأرض? وتسجد له الشمس? ويسجد له القمر? إلى آخر المذكورات في الآيةً? فليس فيه إعمال للمشترك في معنييه? بل أعمل مرة في معنى? ومرة في معنى أخر. وأجيب على هذا الاعتراض: بأننا لا نسلم أن حرف العطف بمثابة العامل? بل هو موجب لمساواة الثاني بالأول في مقتضى العامل إعرابًا وحكمًا. والعامل في الثاني هو الأول بواسطة العاطف على الصحيح عند النحويين.

وأجيب بجواب أخر وهو: أنه لو سلمنا أن العاطف بمثابة العامل للزم أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو موضع الجبهة على الأرض لأنه مدلول الأول? وهو باطل? لأنه لا يمكن أن يكون سجود الشمس والقمر كذلك. 3 - استدل أصحاب هذا القول بأن ابن عمر - رضي الله عنه - يرى أن قبلة الرجل لآمراته تنقض الوضوء لأنها من الملامسة. وأنه يرى ان الجنب يلزمه التيمم إذا فقد الماء? وأخذ الحكمين من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مما يدل على أنه حمل اللمس في الآية على الوطء والمس باليد معًا. وأجيب: بأنه لا يمتنع أن يكون علم وجوب التيمم على الجنب إذا لم يجد الماء أخذًا من السنةً كحديث عمران بن الحصين المتفق عليه وغيره. 4 - قال سيبوية: ((قول القائل لغيره? الويل لك)) خبر ودعاء? فقد جعله مفيدًا لكلا المعنيين معًا. وأجاب الآمدي أنه ليس فيه ما يدل على أن كل الألفاظ المشتركةً? أو ما له معنيان - أحدهما حقيقي والآخر مجازي موضوعةً لهما معًا? كما أن عبارة سيبوية ليست صريحةً في الاستعمال في المعنيين جميعًا في آن واحد? بل قد يكون مستعملًا فيهما على البدل.

5 - واستدل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه هذا على الجواز وإمكان الوقوع. بأن كل عاقل يصح أن يقصد بقوله: لا تنكح ما نكح أبوك? نهيه عن العقد وعن الوطء جميعا من غير تكرار اللفظ? وقال: ومن ينكر هذا يكون مكابرا. حجة القول الثالث? وهو الذين اشترطوا وجود قرينة للحمل على المعنيين? اللفظ المشترك وضع في لغة العرب لمعنييه على البدل? واللفظ لا يحمل على المعنى المجازي إلا إذا وجدت قرينة صارفة عن إرادة المعنى الحقيقي. وأما بالنسبة لماله معنى حقيقي ومعنى مجازي? فإن حمل اللفظ على معنييه الحقيقي والمجازي معا استعمال مجازي - أيضا - فلا يتم إلا بوجود قرينة تدل على أن المراد المعنيين معا. حجة القول الرابع: وهم الذين قالوا بحمله على معنييه في المثنى والجمع دون المفرد. قالوا: المثنى والجمع في حكم تعدد الأفراد? فقولك: ثلاث عيون في وة قولك? عين وعين وعين? فكما تريد أن يجوز بالأولى العين الجارية مثلا? وبالثانية العين الباصرة? وبالثالثة عين الشمس? فكذا في الجمع. وأجيب: بعدم التسليم أن الجمع في حكم تعديد الأفراد? ولو سلمناه لكان في حكم تعديد أفراد نوع واحد. حجة القول الخامس: وهم الذين فرقوا بين المشترك? وبين ما له معنيان? أحدهما حقيقي والآخر مجازي? فإجازه في الأول دون الثاني.

قالوا: ما له معنيان أحدهما حقيقي والآخر مجازي يحمل اللفظ على معناه الحقيقي إذا تجرد عن القرينة?ً ويحمل على معناه المجازي إذا وجدت قرينة صارفة له عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي? فلا يكون اللفظ مجملًا. أما اللفظ المشترك فحكمه التوقف لأنه مجمل? فإذا لم يقم دليل على أن المراد أحدهما يتوقف فيه. فإذا أمكن حمله على معنييه? فإنه يحمل? وبذلك يحل إشكال التوقف. حجة القول السادس: وهو من يرى عدم جواز إطلاقه على معنييه معًا في وضع اللغة? ويجوز في قصد المتكلم على خلاف وضع اللغة. واستدل له أبو حسين في المعتمد: المشترك وضع في اللغة لمعانيه على سبيل البدل? أما إذا استعمله شخص وقصد به معانيه يكون مقبولًا لإمكانه? كقول أحدهم ((اعتدي الصوص على عيون زيد)) ويقصد على العين الباصرةً ففقؤوها? وعلى العين الجارية فغوروها? وعلى عين الذهب والفضة فسرقوها? وعلى جاسوسة فضربوه صح ذلك. حجة القول السابع: وهم القائلون يحمل على معنييه لغة إذا كان اللفظ مثنى أو جمعًا ويحمل على معنييه عقلًا لا لغةً إن كان مفردًا. استدل لذلك الكمال بن الهمام على ما في التقرير والتحيير بأن قولهم: ((القلم أحد اللسانين? والخال أحد الأبوين)) أريد باللسان الكلام حقيقة والقلم مجاز? وأريد بالأبوين الوالد حقيقة والخال مجازًا.

حجة القول الثامن: وهم القائلون بجواز استعمال المشترك في معنييه في السلب دون الإثبات? وكذلك فيما له معنيان أحدهما حقيقي والآخر مجازي? بأن النكرة في سياق النفي تعم? فيجوز أن يراد بها معانيها المختلفة كأن يقول: ((لا تعتدي بقرء)) فيحمل على معنييه الطهر والحيض. ولو قال اعتدي بقرء فلا يحمل إلا على أحد معنييه إما الطهر وإما القرء. وضعف الآمدي الفرق بين النفي والإثبات تبعا لأبي الحسين البصري? وتابعهما على ذلك البيضاوي في المنهاج على ما في نهاية السول للاسنوي. كما أنه أجيب عن هذا الدليل بأن النكرة في سياق النفي تعم في أفراد مدلول واحد لا في أفراد المدلولات المختلفة. حجة القول التاسع: وهو القول بالتوقف. وسبب توقفه هو تعارض الأدلة عنده مع عدم القدرة على الترجيح بين أدلة الفريقين. الترجيح: لقد بينت باختصار ما تمسك به القائلون بالأقوال المتقدمة. مع مناقشة هذه الأدلة في الغالب لتظهر مدى قوة الاحتجاج بها. وظهر لي من ذكر هذه الأدلة ومناقشتها أن اللفظ المشترك وضع في أصل اللغة ليدل على

ثمرة النزاع

معانيه على البدل. فإذا وجدت قرينة تدل على المعنى المراد باللفظ المشترك حمل اللفظ عليه. وإذا لم توجد قرينة تدل على المعنى المراد? فالراجح أنه لا يمتنع أن يرا باللفظ سواء كان مفردًا أو جمعًا مثبتًا أو منفيًا جميع معانيه الصالح لها بشرط إمكان الجمع بين معانيه. وأما إذا لم يكن الجمع بين معانيه ممكنا لتضادها أو تناقضها فلا يجوز حمله على معانيه المختلفة. ويبقى النزاع في أحاد الصور بين المجوزين لحمل اللفظ على معانيه في تحقق الحمل وعدمه بالفعل بناء على مدى توفر الشروط التي سبق بيانها في تحرير محل النزاع في المسألة. وقد اختلف الفقهاء في حجكم بعض الفروع الفقهية بناء على اختلافهم في جواز حمل اللفظ على معانيه أو عدم جواز حملها. وسنذكرها كثمرة النزاع في هذه القاعدة الأصولية الهامة. ثمرة النزاع: ظهرت ثمرة النزاع في فروع كثيرةً جدًا? وسنذكر بعضها فيما يلي: 1 - لمس المرأةً يوجب نقض الوضوء عند الشافعي - رحمه الله - وكذلك الجماع لقوله تعالى: (أو لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) فحمل اللمس على حقيقته ومجازةً معًا. وعند أبي حنيفة لا ينتقض الوضوء بلمس المرأةً? لأن المراد بالمس في الآيةً ((الجماع)) وهو المعنى المجازي? ولا يمكن عنده حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا. فقصره على معناه المجازي.

2 - شرب النبيذ المسكر يوجب الحد عند الشافعي - رحمه الله - كالخمر حملًا للفظ الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} على حقيقته وهو المعتصر المسكر من العنب? وعلى مجازه? وهو المسكر من غير العنب. وعند أبي حنيفةً لا يوجب شرب النبيذ الحد? لأن النص ورد بإيجاب الحد بشرب الخمر? وهو حقيقة في ماء العنب المسكر? وإنما سميت باقي الأشربة من باب المجاز? وعنده - رحمه الله - لا يجوز إرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معًا. ولذا قصره على المعنى المجازي. ذهب الشافعية إلى عدم جواز عقد الزواج المحرم? ولا يجوز له الوطء أيضا حملًا للفظ على حقيقته وهو الوطء? وعلى مجازه وهو العقد في قوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا ينكح المحرم ولا ينكح)). وعند أبي حنيفة يجوز له العقد دون الوطء حملا للفظ على حقيقته فقط. 4 - ذهب الشافعية وغيرهم إلى أن أولياء الدم يخيرون بين القصاص والدية في القتل العمد العدوان حملًا لكلمة ((سلطانا)) في قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} على معنييها? وهما القصاص والدية.

وذهب الحنفية لعدم التخيير? فحملوا قوله ((سلطانا)) على القصاص فقط? لعدم جواز حمل اللفظ على معنييه معًا. 5 - احتج الشافعية على أن طلاق المكره لا يقع بقوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه أبو داود وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)) حملا للفظ على معنييه? وهما الجنون والإكراه)). وذهب الحنفية إلى أن اللفظ مشترك? والمشترك حكمه التوقف لأنه مجمل? فلا يحمل على معنييه? ولا على أحدهما إلا بقرينة? ولهذا ذهب الحنفية إلى وقوع طلاق المكره. 6 - ذكر التلمساني في مفتاح الأصول: أن بعض أهل العلم ذهبوا إلى أن المدعو لتحمل الشهادة تلزمه الإجابة كالمدعو لأدائها بعد التحمل? وذلك حملًا للفظةً الشهداء على معناها الحقيقي? وهو إطلاقها على من تحمل الشهادة? وحملًا لها على معناها المجازي? وهو ما سيصير إليه بعد التحمل. ونقل هذا القول الماوردي عن الحسن البصري. وهو مذهب الشافعية. قال الشيرازي في المذهب: ((تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل {وَلا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ونقل الماوردي عن ابن عباس وقتادة والربيع أنهم حملوا اللفظ على تحمل الشهادة. ونقل أيضًا عن مجاهد والشعبي وعطاء أنهم حملوا اللفظ على أدائها عند الحاكم.

7 - ذكر السرخسي في أصوله أن الحنفية ذهبوا إلى أنه لو أوصى رجل بثلث ماله لمواليه. وله موال أعتقوه? لا تصح الوصيةً? لأن الاسم مشترك يحتمل أن يكون المراد به ((المولى الأعلى)) ويحتمل أن يراد به ((المولى الأسفل)) وفي المعنى تغاير? فالوصية للمولى الأعلى تكون للمجازاة وشكرهم على إنعامهم? والوصية للأسفل تكون للزيادة في الإنعام عليه. ولا ينتظم اللفظين المعنيين جميعا? للمغايرة بينهما? بقى الموصي له مجهولًا? فلا تصح الوصية. وقال الإسنوي في التمهيد في المسألة وجوه: أصحها كما قاله في الروضة والمنهاج أنه يقسم بينهما - ويكون هذا بناء على حمل اللفظ على معنييه - وقيل: يصرف إلى الموالي من الأعلى? لقرينة مكافأتهم? وقيل: يصرف للموالي من أسفل? لجريان العادة بذلك لأجل احتياجهم غالبًا. وقال في المغني: ((وإن اجتمعوا فالوصيةً لهم جميعًا يستوون فيها? لأن الاسم يشمل جميعهم? وقال أصحاب الرأي: الوصية باطلةً لأنها لغير معين)). 8 - وفي أصول السرخسي: قال أبو حنيفة - رحمه الله - فيمن أوصى لبني فلان? وله بنون لصلبه? وأولاد البنين? فإن أولاد البنين لا يستحقون شيئًا? لأن الحقيقة مرادةً فيتنحى المجاز? لعدم جواز حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا. وذهب ابن قدامة في المغني إلى أن بني فلان لم يكونوا قبيلة فهو لولده لصلبه? ولا يدخل أولاد الأولاد إلا بقرينة. ثم قال: ويحتمل أن يدخل

ولد البنين في الوصية إذا لم تكن قرينة تخرجهم? لأنهم دخلوا في اسم الولد في كل موضع ذكره الله تعالى من الإرث والحجب وغيره. 9 - ونقل السرخسي في أصوله عن كتاب السير أنه إذا استأمنوا على آبائهم لا يدخل أجدادهم في ذلك لعدم حمل اللفظ? وهو ((الآباء)) على حقيقته ومجازه معًا. وإذا استأمنوا على أمهاتهم لا تدخل الجدات في ذلك? لأن الحقيقةً مراده فيتنحى المجاز? ولا يجوز حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في آن واحد. ولم أجد قولًا للشافعيةً في خصوص مسالة الاستئمان? ولكن أصولهم تقتضي دخول الأجداد والجدات? حملًا للفظ على حقيقته ومجازه. 10 - ونقل السرخسي في أصوله أنه قال في الجامع: لو أن عربيًا لا ولاء عليه أوصى لمواليه? وله معتقون ومعتق معتقين فغن الوصية لمعتقه فقط? وليس لمعتق المعتق شيء? لأن اسم الموالي للمعتقين حقيقة? وأما المعتق فيسمى مولى مجازًا? وإذا صارت الحقيقة مرادةً يتنحى المجاز. ولا يحمل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا. ولم أجد قولا للشافعيةً في خصوص هذه الصورة. ولكن أصولهم تقتضي أن يحمل اللفظ على المعتقين ومعتق المعتقين. في هذا العدد من الفروع الفقهية المترتبة على هذه القاعدةً الأصوليةً تظهر ثمرةً النزاع فيها.

وكما ذكرنا أن القول بعدم حمل اللفظ المشترك على معنييه? وكذلك اللفظ الذي له معنيان حقيقي ومجازي منسوب للحنفية. ولكن توجد بعض الفروع الفقهية حمل فيها الحنفية? وخاصة قاضي القضاة أبو يوسف ومحمد بن الحسن اللفظ على معنييه. واختلف العلماء إزاء ذلك على قولين فبعضهم يرى أن القاضي أبا يوسف ومحمد بن الحسن يقولان بحمل اللفظ على معنييه? وبعضهم مثل السرخسي يرى أن هذه الفروع خارجة عن القاعدة? وسنذكر بعض هذه الفروع. ومن ذلك ما ذكره السرخسي وغيره من اصولي الحنفية. 1 - قال السرخسي: قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إذا قال: لله علىّ أن أصوم رجب ونوى به اليمين كان نذرًا ويمينًا? واللفظ للنذر حقيقة ولليمين نذرًا. 2 - من حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان يحنث إذا دخلها ماشيًا أو راكبًا? حافيًا أو منتعلًا? مع أن حقيقةً وضع القدم أن يكون حافيًا. 3 - قال السرخسي: قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن - رحمهما الله - إذا حلف أن لا يشرب من الفرات? فأخذ الماء من الفرات في كوز فشربه يحنث كما لو كرع في الفرات? وعند أبي حنيفة لا يحنث إلا بالكروع. 4 - وعند القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن - رحمهما الله - أنه لو حلف لا يأكل من هذه الحنطةً فأكل من خبزها يحنث كما لو أكل عينها? وفي هذا جمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ في حالةً واحدةً. وعند أبي حنيفة لا يحنث إلا إذا أكل من عين الحنطة قبل طحنها.

5 - لو قال: يوم يقدم فلان امرأته طالق. فقدم ليلًا أو نهارًا يقع الطلاق واسم اليوم للنهار حقيقة ولليل مجازًا. 6 - لو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان عاريةً أو بأجر يحنث كما لو دخل دارا مملوكةً له. 7 - قال محمد بن الحسن في السير: ولو استأمن على بنيه يدخل بنوه وبنو بنيه وهو مخالف لما سبق نقله عن الإمام أبي حنيفة من القول بعدم دخول بني بنيه. 8 - لو استأمن على مواليه? وهو ممن لا ولاء عليه يدخل في الأمان مواليه وموالي مواليه. وهو مخالف لما سبق عن جمهور الحنفية في القول بعدم دخول موالي مواليه. والسرخسي اعتذر عن هذه الفروع. فقال إن ظاهرها الخروج عن أصلهم? ولكنها في الواقع إنما حمل فيها اللفظ على معنييه من باب العموم في المجاز. فمثلا يقول: إن المقصود بالحلف عن دخول دار فلان هو مكان سكناه? وهو شامل لكونه حافيا او منتعلًا مالكًا أو مستأجرًا? ماشيًا أو راكبًا. وكذلك يقول: إن المقصود بطلاق زوجته يوم قدوم فلان هو وقت قدومه? وهو شامل لليل والنهار. ومع هذا فقد توجد بعض الفروع يتعذر الاعتذار عنها بهذا العذر وذلك مثل حمل الحنفية قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}. على الأمهات والجدات? والبنات وبنات البنات.

وحملوا قوله تعالى {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} على الآباء والأجداد عملًا للفظ على حقيقته ومجازه? ولا أظن أن عندهم عن هذا الحمل جواب معتد به يصلح للاعتذار. والله أعلم. وبهذا انتهى الكلام على هذه المسالةً الأصوليةً اللغوية الهامة? تحريرًا لعنوانها? ولحل النزاع فيها? ولأقوال أهل العلم وأدلتهم على اختلاف مناهجهم? مع مناقشتها? وبيان الراجح? ثم ختمنا البحث فيها ببيان بعض الفروع الفقهية المترتب النزاع فيها على النزاع في المسالةً الأصوليةً. وقد اقتصرت في المبحثين الأخيرين على دراسة مسألتين? كل مسألة في مبحث? خشية الإطالة والملل.

عمل المحقق في هذا الكتاب

المبحث الثامن عملي في هذا الكتاب بعد أن قدمت دراسة وافيةً لمؤلف الكتاب أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني? في باب يتكون من أحد عشر مبحثًا تناولت فيها كل ما يتعلق بالمؤلف? وقد قدمت لهذا الباب مبحثين بينت فيهما حالة عصره السياسيةً والعلميةً. واتبعت هذا ببيان مكون من سبعة مباحث خصصتها للكتاب موضع التحقيق. مما ألقي الأضواء الكاشفة على المصنف وكتابه? حتى يكون المطالع للكتاب على عل مسبق بحال المؤلف وكتابه. ولابد لي أن أبين الآن - بين يدي القسم التحقيقي - ما قمت به أثناء تحقيق نص الكتاب ليكون المطالع على درايةً بمصطلحات التحقيق وأسلوبه وطريقته. في نظري إن مهمة المحقق الأولى في تحقيق أي كتاب هي إخراج الكتاب موضع التحقيق في ثوب جذاب? تزينه عناوين بارزة? مقسما إلى فقرات? مع التدخل بوضع علامات الترقيم كالنقط والفواصل وعلامات الاستفهام وغيرها. تعين على فهم المعنى بيسر وسهولةً. مع المحافظة التامةً على نص المؤلف? وعد التدخل فيها بالتغيير إلا في حالة الضرورة القصوى? كعدم استقامة العبارةً على أي محمل من المحامل. أو حدوث تصحيف في آيةً. مع التنبيه على ذلك في حواشي الكتاب. وأما مهمة المحقق الثانية هي تزيين النص بحواش توضح مبهم النص وتشرح غامضةً? وتنبه على إشارته وإيماءاته. مع الترجمةً للأعلام والطوائف والفرق? والكتب الواردة في متن الكتاب. وترقيم الآيات وتخريج الأحاديث والآثار والأشعار الواردة في النص.

والمهمة الثالثة للمحقق هي إتباع الكتاب بفهارس تسهل للناظر في الكتاب الرجوع لكل ما يريده منه من موضوعات وغير ذلك. وفعلًا قد قمت بهذه المهمات الثلاث بشكل أرجو أن يكون مقبولًا. أما بالنسبة للمهمة الأولى? فقد نسخت صورة مخطوط الكتاب بحسب قواعد الإملاء الحديثة. وأبرزت العناوين بعد أن كانت في ثنايا السطور? ولكن لم أتدخل في وضع عناوين جديدة إلا نادرا لأن مصنف الكتاب قد كفاني المؤنةً حيث إنه كان يضع عنوانا لكل باب. حيث انه قسم كتابه إلى أبواب. وكل باب بمثابة المسالة عند غيره من الأصوليين. وكان أحيانا يقسم الأبواب إلى فصول. وكل فصل هو عبارة عن جزء مسالة عند غيره. وأثناء نسخ صورة المخطوط كنت أقسم النص إلى فقرات بحسب المعنى? وتدخلت في النص بوضع نقط بين الجمل? وفواصل كلما احتاج النص إلى ذلك. وحاولت المحافظة على نص المؤلف? فلم أتدخل إلا في حالات نادرةً جدًا? مثل إضافة ألفاظ تنزيه الله كلفظ ((تعالى)) قبل ذكر الآية? أو إضافة - صلى الله عليه وسلم - قبل الحديث? لأن الناسخ أو المؤلف كان يتساهل في ذلك أحيانًا. ولم أشر في الحواشي إلى إضافة لفظ تنزيه الله والصلاة والسلام على رسوله لكثرتها. أما المهمة الثانيةً? وهي خدمة النص فقد قمت فيه بما يلي: 1 - أعدت مقابلة المنسوخ بالمخطوط للتأكد من صحة النسخ. 2 - وضحت المبهم وشرحت الغامض في نظري. 3 - حاولت ربط لواحق الكلام بسوابقه كلما طال الفصل? نظرًا لاستطراد المصنف في بعض الأحيان في الاستدلال والمناقشة.

4 - وثقت الأقوال المنسوبة للمذاهب وبعض العلماء بقدر الإمكان? وهي قليلة?ً بسبب تقدم المصنف? وما اشتهر عنه من تدوين علومه من حفظه. 5 - أبديت وجهة نظري في بعض ما ورد من لفظ المؤلف إذا كنت أرى خلافه مع التدليل والتعليل? وخاصة بالنسبة لمباحث الكتاب الأولى التي تطرق فيها لبعض أحكام العقائد. 6 - كنت أذكر بعض من وافق الباقلاني أو خالفه في رأيه? مع بيان مكان وجود المسألة في بعض كتب أصول الفقه. 7 - رقمت الآيات القرآنية الواردة في النص. 8 - خرجت الأحاديث والآثار الواردة في النص وفي القسم الدراسي من كتب الأحاديث مستعينًا بكتب تخريج الأحاديث. 9 - خرجت الأشعار الواردة في النص وتركت ما تعذر تخريجه? وهو نادر. 10 - ترجمت للأعلام الواردة في النص? وتركت ترجمة من لا يسع طالب العلم جهلة من الأعلام لوضوحه كالخلفاء الأربعة وغيرهم. 10 - ترجمت للرق والطوائف التي لها أقوال علمية فقط. 11 - عرفت بالكتب الواردةً في النص كلما أمكن. 12 - وضعت خطا مائلا عند بدء كل صحة في المخطوطة وبمحاذاته رقم تلك الصفحة في المخطوطة. 13 - ألحقت بالكتاب نماذج لصور صفحات الكتاب. 14 - وأما بالنسبة للمهمة الثالثة فقد ألحقت الكتاب المحقق بالفهارس التالية:

1 - فهرس الآيات القرآنية الواردةً في النص ورتبتها حسب سور القرآن. 2 - فهرس الأحاديث والآثار? ورتبتها حسب ورودها في النص. 3 - فهرس الأشعار? ورتبتها حسب قافيتها. 4 - فهرس الكتب الواردة في النص? ورتبتها حسب حروف الهجاء. 5 - فهرس الأعلام الواردة في النص فقط? مرتبة حسب حروف الهجاء. 6 - فهرس الفرق والطوائف مرتبةً حسب حروف الهجاء. 7 - فهرس موضوعات الكتاب.

باب القول في حقيقة الفقه وأصوله

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على خاتم النبيين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب القول في حقيقة الفقه وأصوله فإن قال قائل. ما حقيقة الفقه؟ قيل: الفقه في حقيقة اللغة هو العلو, ولا تفصل العرب في كلامها بين قول القائل: فقهت الشيء وبين قوله علمته" بيد أن أرباب الشرائع خصصوه بضروب من العلوم تواضعا واصطلاحا. فالفقه إذا في مواضعة الفقهاء والمتكلمين هو" العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية التي يتوصل إليها بالنظر دون العقلية" نحو

التحريم والتحليل والإيجاب والإباحة والندب, وإجزاء الفرض, أو لزم قضائه, وصحة العقد وفساده ووجوب غرم, وضمان قيمة متلف وجناية، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية. وقد يعرف هذه الأحكام من لا يعرف أحكام فعل المكلف العقلية, من نحو كونه عرضا وجنسا مخصوصا ومخالفته للأجسام, إلى غير ذلك من الأحكام المعلومة بقضية العقل, ويعرف هذه القضايا العقلية من لا يعرف أحكام الفعل الشرعية، وما يجزئ منه ومالا يجزئ وما يملك به من العقود وينفذ, وما لا يملك به, إلى غير ذلك. ولا خلاف في أن إطلاق اسم الفقه لا يجري على العلم بالنحو والطب والفلسفة, وأن إطلاق اسم الفقيه لا يجري على أحد من العلماء بهذه العلوم في عرف الاستعمال. وإنما يجري على العالم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية. فصل فأما أصول الفقه فهي: " العلوم التي هي أصول العلم بأحكام أفعال المكلفين". وقد علم أن العلم بهذه الأحكام لا يحصل إلا عن نظر في أدلة قاطعة وأمارات, يؤدي النظر فيها إلى حصول العلم بأحكام فعل المكلف, إما غن الدليل القاطع بغير توسط غلبة ظن ذلك, أو بتوسط غلبة الظن بحصول الحكم, على ما سنشرحه من بعد, فيجب أن تكون العلوم التي تبنى عليها

العلوم بالفقه هي أصول الفقه, وأن تكون الأدلة التي يتوصل بالنظر فيها إلى العلم بأحكام أفعال المكلفين أصول العلم بها, من حيث لم يمكن العلم بها دون حصولها, وحصول العلوم التي بحصولها يمكن النظر في تلك الأدلة على مراتبها, وليس يمكن النظر في أدلة الفقه مع عدم تلك العلوم, ولا يمكن -[3]- التوصل بكمال العقل والعلم بالتوحيد والنبوة وما يتصل بذلك إلى العلم بأحكام المكلفين, لو لم ينصب الأدلة عليها من الخطاب في الكتاب والسنة والإجماع والمودع في ذلك من معاينة المعلق بها الأحكام, فيجب لذلك أن يكون ما ذكرناه هو أصول الفقه وسنشرح ذلك ونرتبه على واجبه في مواضعه. إن شاء الله. فصل آخر يجب العلم به اعلموا- وفقكم الله- أن الذي يجب البداية بذكر ما هيته وحده وأقسامه ومراتيه"هو" العلم وما يتصل ببابه. والدليل على وجوب هذا الترتيب أن كل ما تنعم فيه مما عدا العلم ويخبر عن حده وماهيته من معدوم وموجود, وقديم ومحدث, وحد ومحدود, ودليل ومدلول عليه, وحكم عقلي وشرعي, وعلة ذلك ودليلة, وعبارة ومعبرة عنه إنما هو ضرب من ضروب المعلومات, وبعض متعلقات العلم, ولن يتوصل إلى تفصيل حقائق المعلومات إلا بعد معرفة العلوم وأقسامها ومراتبها, أو الفرق بينها وبين ما ليس منها, ليعلم المتكلم على بعض تلك المعلومات أته عالم بما يخبر عنه, وأن ذلك الأمر معلوم له.

باب القول في حد العلم وحقيقته

باب القول في حد العلم وحقيقته إن قال قائل. ما حد العلم؟ قيل له:" حده حد كل أمر محدود هو تفسير وصف المسئول عنه واسمه بقول جامع للمحدود" ومانع من أن يدخل فيه ما ليس منه, أو أن يخرج منه ما هو منه, ويكون سامعه أقرب عند سماعه إلى معرفة معنى ما يسأل عنه". هذا هو حد كل محدود. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون حد العلم أنه:" معرفة المعلوم على ما هو به" وإن حد بأنه" تبين المعلوم على ما هو

به" جاز ذلك, لأن هذين الحدين يحيطان بجميع العلوم, فلا يدخلان فيها ما ليس منها, ولا يخرجان منها وما هو منها- والحد إذا أبان المحدود مما ليس منه, ودار وانعكس, ولم ينتقض من أحد طرفيه كان صحيحا ثابتا. وقد حده بعض أصحابنا بأنه" إثبات -[4]- المعلوم على ما هو به" وقال آخرون, بل هو" إدراك المعلوم على ما هو به"

وقيل:" الثقة بأن المعلوم على ما هو به" وقيل:"ما يستحق أن يشتق للعالم منه اسم عالم" تحديده بما قدمه ذكره كاف صحيح. وقد شرحنا القول في هذه الحدود, وأخبرنا عن المختار منها في غير هذا الكتاب بما يغني الناظر فيه إن شاء الله وقد يصح تحديد الأمر المحدود بحدين وأكثر من ذلك, إذا كانا- في حصره وإبانته عما ليس منه- يجريان مجرى واحد, إلا أنها تفسيران لوصفه وتسميته. وقولنا"إنه معرفة المعلوم على ما هو به أو إدراكه أو تبيينه أو إثباته إنما يستعمل على وجه التأكيد, وحذف القول على ما هو به غير مخل

بصحة الحد, لأن العلم لا يصح أن يتعلق بالمعلوم- ويكون تبينا له أو معرفة أو إدراكا أو إثباتا له- إلا على ما هو به. ولو تعلق به على ما ليس هو به لكان جهلا, وخرج عن كونه علما, فيصح لذلك أن يقال: حده أنه معرفة المعلوم أو تبين أو إثبات أو إدراك من غير أن يقال على ما هو به. فإن قيل ذلك فعلى وجه الزيادة في البيان والتأكيد. فإن قيل" ولم عدلتم عن القول بأنه معرفة الشيء أو تبينه أو إثباته إلى القول بأنه معرفة المعلوم؟ قيل له: لأجل أن القول معلوم أعم من القول شيء, لأن الشيء لا يكون إلا موجودا, والمعلوم يكون معدوما وموجودا. ويعلم المعدوم معدوما كما يعلم الموجود موجودا. وقد ثبت أن المعدوم منتف ليس بشيء. وإذا قيل: حده أنه معرفة الشيء أو إثباته أو تبينه خرج العلم بالمعدوم الذي ليس بشيء عن أن يكون علما وانتقض الحد, لأنه علم بما ليس بشيء فوجبت الرغبة لما ذكرناه عن ذكر الشيء إلى ذكر المعلوم.

فصل الكلام على القدرية في حد العلم

فصل الكلام على القدرية في حد العلم قد زعم بعضهم أن حدة" إنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط" وقال آخرون منهم:" إنه اعتقاد الشيء على ما هو به على غير وجه الظن والتقليد". -[5]- وقال آخرون منهم: حده" إنه اعتقاد الشيء على ما هو به إذا وقع

عن ضرورة أو دليل" وقال آخرون منهم: حده" إنه اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى معتقده" وكل هذه الحدود باطلة. فأما ما يدل على فساد تحديده بأنه" اعتقاد الشيء على ما هو به فقط" فهو أن ذلك يوجب المخمن والظان إذا اعتقدوا الشيء على ما هو به عالمين باعتقادهما ذلك, وهذا باطل للاتفاق على أن العالم بأي طريق علم المعلوم, فإنه لا يجوز كونه على غير ما علمه, والظان لكون الشيء- و'ن اعتقده على ما هوبه- وأصاب في اعتقاده فإنه يجد من نفسه تجويز كونه على خلاف ما ظنه به وتوهمه. فلو كان الظن ىعلما لوجب إذا كان اعتقاد المظنون على ما هو به أن يسد مسد العلم وينوب منابه, ولم يجوز الظان الأمر الذي ظنه كونه على خلاف ما اعتقده, كما لا يجوز العالم بالشيء ذلك, ولما لم يكن الأمر كذلك بأن الظن من العلم وفارقه, وبطل ما قالوه. وأما ما يدل على فساد ما في أقاويلهم فأمور. أقربها: أنها حدود تقتضي لا محالة أن يكون العالم بالعلم معتقدًا في

إطلاق أو تقييد, لأن العلم صفة تتعلق بالعالم, فإذا كان حده أنه اعتقاد مطلق أو اعتقاد على وجه فلابد من تعلقه بمعتقد, فيجب باقتضاء هذا الحد كون العالم معتقدا في إطلاق أو تقييد وأن يتعدى تحديد العلم به إلى وجوب كون العلم معتقدا، وأن يكون ذلك حده, ولو كان ذلك كذلك لوجب كون القديم معتقدا لمعلومات على ما هي به اعتقادا مطلقا, أو على بعض الوجوه التي ذكروها في حد العلم, من كونه مضطرا أو مستدلا أو متذكرا للاستدلال أو ساكن النفس إلى معتقده. ولما أجمعت الأمة على بطلان ذلك بطلت هذه الحدود وفسدت، وليس لهم أن يقولوا إنما يجب كون العالم معتقدا- إن كان ذا علم- هو اعتقاد. فإذا لم يكن للقديم علم لم يكن معتقدا, لأننا إذا بينا بما سلف وجوب تعدي -[6]- حد العلم إلى حد العالم صار حده" إنه المعتقد للشيء على ما هو به مطلقا أو على وجه ما" والحدود يجب طردها وإجراؤها في الشاهد والغائب, وإحالة نقضها فبطل ما قالوه. وقد تكلمنا عليهم على حدودهم هذه في الكلام في أصول الديانات وبينا نقضها بغير طريق بما يغني متأملة. إن شاء الله.

والواجب أن يقال لهم: ما معنى سكون النفس إلى معتقده؟ فإن قالوا: سكون النفس السكون في المكان الذي هو ضد الحركة فقد أبطلوا، لأن الواحد منا يصح وجود العلم به, ويكون متحركا غير ساكن, كما يصح مع وجود السكون. وأن قالوا" سكون النفس هي طمأنينة القلب التي هي اليقين والعلم. قيل لهم. فهذا العلم الذي وصفتموه بأنه سكون النفس لا يخلو من أن يكون اعتقاد الشيء على ما هو به, أوليس باعتقاد أصلا لا مطلقا ولا مقيدا. فإن قلتم، إن هذا العلم ليس باعتقاد أصلا فقد أبطلتم حدكم للعلم بأنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقد أثبتم علما ليس باعتقاد. وإن قلتم, إن اعتقاد الشيء على ما هو به لم يخل من أن يكون معه سكون النفس إلى معتقده, أو ليس معه سكون النفس إلى معتقده. فإن لم يكن مع هذا الاعتقاد سكون النفس فقد أبطلتم حدكم للعلم بأنه اعتقاد للشيء على ما هو به مع سكون النفس إلى معتقده مع أنه يبطل بالظن والتقليد. وإن قلتم, هذا العلم الذي هو سكون النفس اعتقاد للشيء على ما هو به سكون النفس إلى معتقده. قيل لكم، وذلك السكون الثاني لا يخلو من أن يكون علما أو غير علم. فإن لم يكن علما فلا تأثير له لا في أن يكون الاعتقاد يصير به علما, وإن كان علما فلا يخلو من أن يكون اعتقادا أو ليس باعتقاد. فإن كان اعتقادا فلا يخلو من أن يكون معه سكون آخر أم لا, على ما بيناه حتى يتسلسل

أبدًا إلى غير غاية ونهاية. وذلك محال، فبطل ما قالوه.

باب الكلام في أقسام العلوم

باب الكلام في أقسام العلوم جميع العلوم تنقسم قسمين: فقسم منها علم قديم ليس بحادث لا عرض ولا جنس من الأجناس, ولا يحصل العلم به اضطرارا ولا استدلالا, ولا مما له ضد ينفيه, ولا يصح عدمه, ولا يختص في تعلقه بمعلوم أو معلومات مخصوصة, بل هو متعلق بما لا نهاية له منها, وهو علم الله سبحانه الذي هو لم يزل ولا يزال عالما به, وقد بينا هذه الجملة وغيرها من أحكامه في كتب أصول الديانات بما يقنع متأملة إن شاء الله. فصل والضرب الآخر منها: علوم الخلق من الملائكة والإنس والجن وغيرهم من الأحياء. وهي كلها تنقسم قسمين. فقسم منها علم اضطرار, والقسم الآخر علم نظر واستدلال أو واقع عن تذكر نظر واستدلال.

فعلم الاضطرار منها ما وقع عن درك الحواس, ومبتدأ في النفس من غير درك حاسة, وهي التي يوصف كل علم منها بأنه أول ومبتدأ وحاصل بأوائل العقول. ومعنى وصف هذا القسم بأنه ضرورة ينصرف إلى ثلاثة معان. أحدهما: متواضع عليه بين الفقهاء والمتكلمين. والمعنيان الآخران لغويان. فأما معنى وصفه بأنه ضرورة في المواضعة, وهو أنه ما لزم نفس المخلوق لزوما لا يمكنه معه الخروج عنه والانفصال منه ودفعه عن نفسه بحجة أو بشبهة, ولا تلحق الشكوك والريب في متعلقة, وكل هذا الألفاظ بمعنى واحد, وهو أنه لا يمكن دفعه عن النفس بحال. وإنما قلنا: ما لزم نفس المخلوق لزوما لا يمكن دفعه والخروج عنه, ولم نقل ما لزم نفس العالم لكي يخرج علم القديم بهذا الشرط عن كونه ضرورة ويخرج سبحانه عن كونه مضطرا -[7]- لأن علمه بكل معلوم لازم لذاته على الوجه الذي يلزم ذواتنا علوم الضرورات، فالباطن عندنا عنده ظاهر, والخفي علينا جلي عنده, وسرنا علانية له, وليس لأحد أن يقول لنا قولوا لذلك إنه

مضطر إلى العلم بمعلوماته, لأننا إنما وضعنا قولنا" علم ضروري" لما لزم نفس المخلوق على هذه السبيل, ومنعنا ذلك في القديم لمنع الأمة له, ولئلا يوهم كونه محتاجا إلى العلم بما يعلمه لدفع ضرر عنه, أو أنه ملجأ ومكره على العلم بما هو عالم به, ومحال في صفته الأمران جميعا. فأما معنى وصف العلم وغيره بأنه ضرورة في وضع اللغة فهو إنه مما تمس الحاجة إليه, أو مما يقع الإكراه عليه والإلجاء إليه. ولهذا قال الله تعالى: {إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْه} وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَاد}. وقالوا في المكره على الطلاق والعتاق وغير ذلك إنه مضطر إليه ومحمول ومكره عليه. فصل فأما معنى وصف القسم الثاني بأنه علم نظر واستدلال وهو أنه علم لا يحصل للعالم به إلا عن ابتداء نظر أو تذكر النظر. ومبتدئ النظر هو الذي ينظر ويستدل ليعلم حقيقة ما ينظر فيه ما ليس بعالم به, ومتذكر النظر هو المنتبه من نومه والمفيق من غلبته والذاكر له بعد سهوه ونسيانه. فصل وقد يكون تذكر النظر كسبا للعبد تارة, ويكون ضرورة غير كسب له لأن تذكر النظر هو العلم به, وقد يكتسب هذا العلم تارة ويضطر إليه أخرى. وقولنا:" علم نظر واستدلال" لفظ إضافة له, إلى النظر أو تذكر

النظر اللذين كان عنهما. وقولنا: "علم نظري واستدلالي" نسبة له, وهو على أوزان الأسماء المنسوبة. نحو قولك عربي وقرشي وفارسي وأبطحي, وأمثال ذلك من الأسماء المنسوبة. فمعنى النسب والإضافة فيه واحد. فصل وقد يوصف هذا الضرب من العلوم بأنه كسبي, كما يوصف بأنه نظري, ومعنى وصفه ووصف غيره من أجناس مقدورات العباد بأنه كسب عند المتكلمين من أهل الحق ومخالفي القدرية" إنه ما وجد بالموصوف به, وله عليه قدرة محدثة", وبذلك انفصل معنى الكسب من معنى الإبداع والإنشاء والخلق الذي ينفرد الله تعالى بالوصف به والقدرة عليه دون خلقه. وأما معنى وصفه بأنه كسب -[8]- في وضع اللغة فهو إنه مما يجتلب المكتسب له به نفعا ويدفع به ضررا. ولذلك يقولون في الجوارح المعلمة أنها كواسب لحصول الانتفاع بصيدها. والله تعالى لا يجوز كونه قادرا على ما يحدثه بقدرة محدثة, ويستحيل اجتلابه للمنافع ودفع

المضار, فاستحال لذلك في صفته الاكتساب.

باب القول في ذكر طرق العلوم الضرورية

باب القول في ذكر طرق العلوم الضرورية وجميع علوم الاضطرار تقع للخلق من ست طرق لا سابع لها. فمنها العلوم الخاصلة بالمعلومات عن درك الحواس، وهي حاسة الرؤية وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة اللمس, وكل علم حصل عند إدراك حاسة من هذه الحواس فهو علم ضرورة لا ريب فيه. ولابد من حصول العلم بالمدركات لكل عاقل سليم من الآفات, لأن العلم بذلك من كمال العقل, نعني بذلك أنه لابد من كون العاقل عالما بما يدركه وإن كان

يعلم ذلك من ليس بكامل العقل على ما نبينه من بعد في الإخبار عن ماهية العقل. والإدراك جنس يوجد بجزء واحد من الحاسة. فالمدرك من الحي ما قام به الإدراك من جملته، والإدراك صفته, واللمس والذوق والشم مماسات يوجد الإدراك ببعض الحواس عندها, وهو جنس يخالفها. والمدركات شيء غيرها، وقد تكون أجساما وتكون أعراضا, وإدراك كل شيء غير الإدراك لغيره وخلافه سواء كان غيره مثله أو ضده وخلافه, أو خلافه وليس بضده, لذلك يدرك الشيء من لا يدرك مثله ولا ضده ولا خلافه, وهو في هذا الباب جار مجرى العلوم التي يجب اختلافها متى تغايرت معلوماتها, والمختلف من جميع العلوم والإدراكات غير متضاد, وليس من الإدراكات عند أهل الحق ما يحتاج إلى بنية مخصوصة وبله. وإنما لا يوجد النوم بكل حاسة من هذه الحواس إلا إدراك جنس أو أجناس مخصوصة، لإجراء الله العادة بذلك. ولوخلق إدراك جميع المدركات في حاسة واحدة في وقت واحد لكان ذلك صحيحا جائزا -[9]- ولو بعث نبيا يخرق هذه العادات لكان ذلك عاما من أعلامه. والحواس على التحقيق أربعة, وهي: حاسة الرؤية وحاسة السمع وحاسة الشم وحاسة الذوق. وجميع جوارح الإنسان الحية حاسة اللمس, لأنه يدرك بها بها الحرارة والبرودة والصلابة والرخاوة واللين والخشونة، وليس إدراك ذلك حاسة مخصوصة, وإنما خصت اليد بالوصف بأنها حاسة

اللمس, لأن اللمس إنما يقع غالبا دون غيرها من الجوارح وإن كانت موضعا للإدراك, وجميع المدركات لنا إنما هي الأجسام والألوان والأكوان على اختلافها, والكلام والأصوات على اختلافها, والروائح والطعوم على اختلافها, والحرارة والبرودة والصلابة والرخاوة واللين والخشونة والاعتماد. هذه جملة أجناس المدركات. وقد شرحنا هذه الجمل في الكلام في أصول الديانات بما فيه كفاية لمتأمله إن شاء الله. وإنما وجب القضاء على أن العلم بجميع الدركات ضروري للزومه- مع اختلافه- للنفس على وجه لا يمكن دفعه عنها، على حد ما بيناه من قبل. فصل وأما الطريق السادس من طرق الضرورات فهو العلم المبتدأ في النفس من غير درك حاسة من هذه الحواس, وذلك نحو علم العالم بنفسه وما يجده فيها من الصحة والسقم واللذة والألم والميل والنفور والإرادة والأغراض والقوة والضعف, وغير ذلك مما يعلمه الحي إذا وجد به. ونحو العلم باستحالة اجتماع الضدين، وكون الجسم في مكانين معا, وأن المعلوم لا ينفك من عدم أو وجود, ونعني بذلك أنه لا ينفك من أن

يكون شيئاً موجوداً أو ما ليس بشيء. وأن الموجود لا ينفك من أن يكون وجوده عن أول أو لا عن أول, وأن كل موجودين فلابد من أن يكونا مثلين أو مختلفين, وأن الاثنين أكثر من الواحد, وأن الأجسام متى كانت موجودة فلابد من أن تكون مجتمعة أو متفرقة. وأن الخبرين المتضاد مخبرهما لابد أن يكون أحدهما صدقا والآخر كذبا, والعلم بأن تصرف من نراه من العباد مقدور ومراد له على صفة تصرفنا -[10]- المقدور لنا. ونحو حصول العلم بما جرت العادة بحصوله لا محالة، من نحو العلم بحصول الشبع والري والإسكان عند تناول الطعام والشراب, وحصول الاحتراق عند مجاورة النار, والألم عند الضرب, وأن ما يرى ويوجد من الدور والقصور, وضروب الأشكال والصور من المصنوعات لا يحصل مخترعا في وقتنا والعادة بحالها إلا عند ممارسة العبادة له وحركاتهم واعتماداتهم, ونحو العلوم الحاصلة لهم بامتناع ما جرت العادة بامتناعه من إحياء الأموات وقلب الجماد حيوانا ودجلة ذهبا وشيب الغراب وابيضاض القار, وأمثال ذلك من علوم العادات, ونحو العلم بشجاعة الشجاع وجبن الجبان وبر البار وعقوق العاق والتحية والاستهزاء وإلطاط الملط وإلحاح الملح وخجل الخجل ووجل الوجل, وقصد القاصد إلى من يقصده ويخاطبه, وما يريده أحيانا بكلامه, وإرادة المعرض في كلامه, والرامز المشين بجوارحه. والعلم بما تواترت عنه الأخبار من دعوة الرسل وشرائعهم

فصل: العلوم المبتدأة في النفس بالمعلومات من غير إدراك لها على ضربين

وتحذيرهم لقومهم, وغير ذلك من الممالك والدول والوقائع والسير, والعلم الحاصل بالصين وخراسان وغيرهما ما قرب وبعد من الأقاليم والأمصار. فصل وجميع هذه العلوم المبتدأة في النفس بالمعلومات من غير إدراك لها على ضربين: فضرب منها يحصل مبتدأ في النفس, لا عند سبب يشاهد أو يسمع, نحو علم العالم بوجود نفسه, وما يجده فيها من تعاقب الصفات التي ذكرها من الصحة والسقم والغم والفرح والقوة والضعف, إلى غير ذلك. ونحو العلم بموجب العادات من وجوب ما يجب فيها وامتناع ما يمتنع، ونحو العلم بأن الحي لا يكون ميتا والموجود لا يكون معدوما، وأن العشرة أكثر من الخمسة إلى أمثال ذلك مما يطول تتبعه. فصل والضرب الآخر لا يبتدئ في النفس بجري العادة إلا عند سبب يشاهد أو يسمع نحو, العلم بالبر والعقوق, والخجل والوجل, والشجاعة والجبن، وما يقصد القاصد بخطابه? والعلم بمخبر الأخبار المتواترة لأن الله تعالى قد أجرى العادة بأن لا يفعل العلم بشيء من ذلك دون سماع الخبر, ومشاهدة الأحوال والأمارات من الرموز والإشارات، والكر والفر, والصفرة والحمرة, واضطراب الشكل والجوارح واللفظ, وغير ذلك مما يعلمه العالم من حال غيره عند مشاهدة أحوال ظاهرة عليه, وهذه الأحوال والأسباب لا حد لها ولا صفة مخصوصة تخصص وتنعت بلفظ أو خط, وإنما يحدث العلم بمشاهدتها عند المشاهدة, وقد تختلف وتزيد وتنقص, وإنما يختص بالعلم بمخبر هذه الأخبار والأحوال التي ذكرناها العاقل السليم من الآفات دون البهائم والأطفال والمنتقصين. وقد يعلم كثيرا من مقاصد المشير والمخاطب من له

فصل: الأسباب التي تحصل العلوم عند مشاهدتها وسماعها على ضربين

ضرب من التمييز من الأطفال والمنتقصين. فصل وجميع هذه الأسباب التي تحصل العلوم عند مشاهدتها وسماعها على ضربين: فضرب منها: من مقدورات الله سبحانه غير كسب للعباد ولا من مقدوراتهم، نحو صفرة الوجل وحمرة الخجل, وتغير الألوان واضطراب الأشكال, وذلك غير مقدور للعباد وما جرى مجراه. والضرب الآخر: من خلق الله تعالى وكسب العباد, نحو الأخبار المتواترة, والكر والفر والإقتضاء والدفع, وما جرى مجرى ذلك من مقدورات الخلق, وجميع هذه الأحوال التي يضطر عند العلم بها إلى العلم بأحوال أصحابها ليست أدلة على العلم بما يضطر إليه ولا موجبة له ولا مولدة له, وإنما يخترع العلم عندها اختراعا. وليس من علوم الضرورة المبتدأة في النفس العلم بحسن حسن وقبح قبيح, ووجوب فعل أو إباحته أو حظره, بل ذلك معلوم بقضية السمع دون العقل, على ما نبيته من بعد, ولا العلم بالصنائع الحاصل عند التعلم والممارسة، بل ذلك حاصل باكتساب، وعلى قدر القرائح والأذهان والحرص والإعراض، ولذلك يتفاضل في العلم بذلك العقلاء, ويضعف العلم ويقوى

وتختلف أحوال حصوله بحسب ما ذكرناه من أسباب اكتسابه.

باب الإخبار عن ماهية العقل وكماله وحقيقته

باب الإخبار عن ماهية العقل وكماله وحقيقته اختلف الناس فقه فقال قائلون:"هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات". وقال آخرون: مادة وطبيعة. وقال قوم" جوهر بسيط. وقال الجمهور من المتكلمين: هو العلوم الضرورية. والذي نختار أنه" بعض العلوم الضرورية" التي سنذكرها. والذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون جوهرا من الجواهر, لأن

الدليل قد دل على أنها كلها من جنس واحد، فلو كان العقل جوهرا لكان من جنس العاقل, ولا يستغنى العاقل بوجود نفسه ولكان في كونه عاقلا ما يغنيه عن وجود مثله وما هو من جنسه, وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه. فمحال كونه عاقلا بجوهر من جنسه. ويدل على فساد ذلك أنه لو كان جوهرا لصح قيامه بداية ووجوده لا بعاقل, ولصح أن يحيا ويعقل ويفعل ويكلف, لأن ذلك أجمع مما يصح ويجوز على الجواهر, وفي فساد ذلك أجمع دليل على أنه ليس بجوهر, فيجب لذلك أن يكون عرضا، ومحال أن يكون عرضا غير سائر العلوم، لأنه لو كان ذلك كذلك لصح وجود سائر العلوم مع عدمه حتى يكون العالم بدقائق الأمور غير عاقل, أو وجوده مع عدم سائر العلوم حتى يكون الكامل العقل غير عالم بنفسه ولا بالمدركات ولا بشي من الضرورات، إذا لا دليل يوجب تضمن أحدهما للآخر, وذلك نهاية الإحالة. ولأنه لو كان غير سائر العلوم لكان لا يخلو أن يكون مثلها أو ضدها وخلافها, أو خلافها وليس بضد لها, فمحال كونه مثلا لها, لأنها مختلفة, والشيء لا يشبه أشياء مختلفة. ولأنه لو كان مثلها لاستغنى بها عن وجوده ولوجب أن يكون عقلا, ويستحيل أن يكون ضدها وخلافها، لأن ذلك يوجب استحالة اجتماعها. وذلك باطل باتفاق, ومجال كونه خلافا, وليس بضد لها, لأنه لو كان ذلك كذلك لجاز وجود كل واحد منهما مع ضد صاحبه ووجود أحدهما مع ضد الآخر حتى يكون العقل موجودا مع الجهل بالضرورات والمشاهدات, أو يوجد العلم بالضرورات, وبكل ضرب من العلوم والدقائق مع -[13]- ضد العقل من الخبال والاختلال، وذلك معلوم فساده بأول في العقل, فثبت أنه لا يجوز أن يكون جنسا مخالفا لسائر العلوم، ووجب أن يكون هو العلوم كلها أو بعضها، ومحال أن يكون هو كل العلوم ضروريها وكسبيها, لأن العاقل يكون عاقلا كاملا مع عدم جميع العلوم النظرية، ولا يجوز أن

يكون هو كل العلوم الضرورية، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون من فقد العلم بالمدركات لعدم إدراكه لها غير عاقل ولا مكلف. ويستحيل أيضا أن يكون هو علم العالم بوجود نفسه وما يجده فيها من الألم واللذة والصحة وأمثال ذلك هذا يوجب كون الأطفال والبهائم والمجانين عقلاء لعلمهم بوجود أنفسهم وما يوجد فيها من هذه الأمور, وذلك باطل, فيجب أن يكون هو بعض العلوم الضرورية التي يختص بها العقلاء, نحو: العلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن المعلوم لا يخرج عن أن يكون موجودا أو غير موجود لا ينفك عن أن يكون عن أول أولا عن أول, وإن الاثنين أكثر من الواحد، والعم بموجب العادات التي تختص بها العقلاء دون غيرهم من الأحياء, والعلم بموجب الأخبار المتواترة, وما جرى مجرى ذلك مما يختص العقلاء بالعلم به دون غيرهم فمن حصل له هذه العلوم كان عاقلا مكلفا. فصل ولا يصح على التحقيق أن يكون عقل أكمل من عقل وأوفر وأرجح من عقل لما بيناه من ماهية العقل. وإنما يقال إن أحد العاقلين أكمل عقلا

وأوفر وأرجح من الآخر على معنى أنه أكثر استعمالا لعقله, وأشد تيقظا وبحثا واستنباطا وتجربة، وهذه جملة من الأخبار عن ماهية العقل وحقيقته مقنعة إن شاء الله.

باب القول في حد الحد

باب القول في حد الحد إن قال قائل: ما حد الحدود؟ قيل له:"هو القول الجامع المانع المفسر لاسم المحدود وصفته على وجه يحصره على معناه, فلا يدخل فيه ما ليس منه, ويمنع أن يخرج منه ما هو منه" فهذا هو الحد الفلسفي الكلمي الفقهي الذي يضرب للفصل بين المحدود وبين ما ليس منه. وإطلاق اسم الحد مشترك بين الحد المنطقي الكلمي الفقهي وبين الحد الهندسي الصناعي كحد الدار والبستان- وهي العلامات الموضوعة -[4]- للفصل بين الملكين, والحد الشرعي الموضوع للعقوبة والردع كحد القاتل والسارق والزاني، فأصله مأخوذ من المنع من تسمية البواب حدادا لمنعه الداخل والخارج, ومن إحداد المعتدة الذي هو امتناعها عن الزينة وما يجب

على المعتدة اجتنابه. فصل وقد قال السابقون إلى الكلام فيه: إن الزيادة في الحد نقصان من المحدود، وإن النقصان منه زيادة فيه. فصل فأما الزيادة فيه عندنا فعلى ضربين: منها نقصان ومنها غير نقصان. فأما التي هي نقصان, فنحو قول الفقيه:"حد الواجب إنه صلاة في فعله ثواب وفي تركه ذم وعقاب". وذلك يوجب خروج كل ما ليس بصرة عن كونه واجبا, فعادت بالنقصان. وأما التي ليست بنقصان فهي اللازمة لكل من له الحد, نحو قول القائل: حد الواجب: إنه عرض في فعله ثواب وفي تركه ذم وعقاب". لأن كل واجب فإنه غرض من الأعراض. وأما النقصان منه فإنه أبدا زيادة فيه, نحو قول القائل:" حد الواجب إنه ما كان في فعله ثواب" بحذف القول" وفي تركه عقاب". لأن

ذلك يدخل النفل في الواجب, لأنه مما عليه ثواب, ولهذا بسط وأمثال, وفيما أو مأنا إليه كفاية في هذا الباب.

باب القول في معنى الدليل وحقيقته

باب القول في معنى الدليل وحقيقته فإن قال قائل" فما معنى الدليل وفائدة وصفه بذلك؟ قيل له: معناه " إنه كل أمر صح أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم ما لا يعلم باضطرار" وسواء كان موجودا أو معدوما أو قديما أو حادثا, أو مما قصد فاعله إن كان مفعولا إلى الاستدلال به على ما هو دليل عليه, أو لم يقصد ذلك, لأننا قد نستدل بعدم ظهور الآيات على مدعي

الرسالة على العلم بكذبه، ونستدل بعدم أدلة العقل والسمع على إثبات الحكم الشرعي على براءة الذمة منه وبقائه على حكم العقل, وبعدم الأدلة على أنه ليس لما عقلناه من الأجناس من الصفات أكثر مما علمناه لها, على أنه لا صفة لها أكثر من ذلك, في أمثال هذا مما يطول تتبعه, فثبت بذلك إنه ليس من حق المستدل به أن يكون موجودا، وإذا لم يكن ذلك من حقه -[15]- لم يكن من حقه أن يكون حادثا وأن يكون له محدثا, وأن يكون قاصدا بإحداثه إلى الاستدلال به, لأن هذا أجمع مبني على وجوب وجوده. فإذا بطل هذا الأصل بطل توابعه, وفسد ما يقوله القدرية في هذا الباب من وجوب حدوث كلام الله تعالى، لكونه دليلا على أحكام دينه. والدليل على أن ما وصفناه هو معنى وصفه بأنه دليل إطباق أهل اللغة على تسمية كل أمر صح أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما هو دليل عليه من غير قصر التسمية على بعض ذلك دون بعض, هذا من علامات الأسماء الحقيقة نعني جريانها واطرادها في كل ما وجد فيه معنى الاسم. وتسمية الرجل دليلا إنما جرت عليه مجازًا

الأدلة على ضربين: عقلي ووضعي

واتساعاً, وعلى معنى أنه دال للركب بقوله ومشيه وإشارته فسمي باسم فعله وما كان منه, وعلى سبيل قولهم رجل عدل إذا تكرر ذلك منه، والعدل في الحقيقة فعله, وهو عادل ليس بعدل، وقولهم دال مشتق من دل يدل لا من فعل الدلالة، ولذلك قولهم عادل وجائز مأخوذ من جار وعدل لا من فعل العدل والجور. فصل من القول فيه اعلموا - وفقكم الله- أن الأدلة على ضربين: فضرب منها عقلي والضرب الثاني وضعي. فأما ما يدل بقضية العقل ووجه هو في العقل حاصل عليه فأما ما يدل بقضية العقل ووجه هو في العقل حاصل عليه. فنحو دلالة

يجب لا محالة اطراد الدليل

حدوث الفعل على فاعله وكونه قادرا عليه. ودلالة كونه محكما على كونه قاصدا عالما وأمثال ذلك, وذلك واجب لازم لا ينقلب ولا يتغير, ولا يحتاج في كونه دليلا إلى مواطأة وتوقيف. فأما ما يدل بطريق المواضعة علا دلالته, فنحو دلالات الألفاظ والرموز والإشارات والكتابة والعقود وأمثال ذلك مما يدل بعد مواضعة أهله على دلالة, ولولا مواضعتهم لما دل, ولا يتم التواضع على دلالة شيء دون أن يمكن مما يدرك، ويكون إلى العلم به طريق مراد, نحو الألفاظ والإشارات وغيرها من الأكوان وأفعال الجوارح -[16]- فأما الضمائر وأفعال القلوب التي لا طريق إلى العلم بحصولها, فلا تتم المواطأة على دلالتها. فصل آخر من القول فيه ويجب لا محالة اطراد الدليل وجريانه كيف تصرفت حالة في قضيته عقلا أو تواطؤا, لأنه إن لم يجر فسد وانتقض, ولو صح وجوده أو وجود مثله غير دال مع ثبوت العقل أو التواضع عليه لفسدت قضية نصبه, وانتقض

طريق المواضعة على دلالته والمقيد من ذلك يجري بشرطه وتقييده, والمطلق منه يجري ويطرد بإطلاقه. ولهذا الفصل شرح نذكره في باب منع القياس في الأسماء إن شاء الله. فصل آخر من القول فيه ومن حق الدليل المتعلق بمدلوله, والعلم المتعلق بمعلومه، والخبر الصدق المتعلق بمخبره أن يكون جميعه تابعا لحصول المدلول والمخبر عنه والمعلوم, ولا يجعل شيء من ذلك على وسببا لحصول المدلول على ما هو عليه, لأنه لو لم يحصل على ما هو عليه لم يصح كون الدليل دليلا عليه, ولا صح تعلق العلم بكونه كذلك, ولا كان الخبر عن كونه كذلك صدقا, فكيف يجعل علة حصوله على ما هو به كون الدليل عليه, وكون العلم والخبر متعلقين به.

القول في الفصل بين الدليل والدال والمدلول له والمدلول عليه والمستدل عليه والمستدل له والاستدلال والعبارة عنه وذكر احتمال بعض هذه الأسماء لمعان مختلفة

القول في الفصل بين الدليل والدال والمدلول له والمدلول عليه والمستدل عليه والمستدل له والاستدلال والعبارة عنه وذكر احتمال بعض هذه الأسماء لمعان مختلفة اعلموا- رحمكم الله- أن الدليل والدلالة والمستدل به أمرا واحدا, وهو البيان والحجة والسلطان والبرهان, كل هذه الأسماء مترادفة على الدلالة نفسها. فأما الدال فهو المبين لغيره بنصبه الدليل, وهو الله تعالى الناصب لأدلة العقل والسمع, وكل من نصب لغيره دليلا على شيء فهو دال له بما نصبه. وقد يوصف المخبر عن الدلالة والمنبه عليها بأنه دال مجازا واتساعا وتشبيها له بحال ناصب الدليل. وأما المدلول بالدلالة فهو المنصوب له الدلالة سواء استدل بها أو لم يستدل، وقد يقع مدلول على المجاز إلى ذكر الدلالة عند السؤال عنها مجازا وتشبيها بحال من نصبت له الدلالة. -[17]- وأما المستدل: فإنه اسم مشترك بين الباحث الناظر المفكر الطالب

لعلم حقيقة الأمر المنظور فيه وبين السائل عن الدلالة على المذهب والمطالب بها. والباحث الناظر لا يتعلق نظره بغيره, والمساءلة والمطالبة مفاعلة لا تصح إلا من بين اثنين. وقد يغلط المستدل تارة وقد يصيب، وكلاهما استدلال منه. وأما المستدل - بفتح الدال- فهو المطالب بالدلالة والمسؤول عنها. وأما المستدل له. فقد يحتمل أن يكون هو الحكم المطلوب علمه بالنظر في الدليل, ويحتمل أن يكون هو الرجل المطالب بالدلالة السائل إذا أجيب إليها. فأما المستدل عليه فلا يجوز أن يكون إلا الحكم المطلوب علمه بالنظر في الدليل, كتحريم شرب الخمر وعلة التفاضل في البر, وأمثال ذلك. فأما الاستدلال فقد يقع على النظر في الدليل والتأمل المطلوب به العلم بحقيقة المنظور فيه. وقد يقع أيضا على المساءلة عن الدليل والمطالبة به. فالأول لا يتعلق باثنين، والثاني مساءلة ومفاعله لا تصح إلا بين اثنين. وأما العبارة عن الاستدلال فهي هذه الأصوات المسموعة وإنما تكون عبارة عن الاستدلال إذا وجدت من حي قاصد عالم بما يعبر عنه, ولذلك لا تكون عبارة عن ذلك إذا وجدت من نائم ومغلوب وطفل ملقن لا قصد له ولا رؤية. فيجب تنزيل هذه الأقسام على ما وصفناه, ويجب تنزيل المعلل

والمعتل والمعلول له والعلة والاعتلال والمعتل به والمعتل له والمعلل له والتعليل على نحو ما رتبناه في الدليل والدال وما بعدهما من الأقسام.

باب القول في حقيقة النظر ومعناه

باب القول في حقيقة النظر ومعناه إن قال قائل, ما حقيقة النظر؟ قيل له. إن مطلق اسم النظر يحتمل أن يراد به رؤية البصر والانتظار والتوقع والرحمة والتعطف والاعتبار والتأمل. فأما النظر المطلوب به معرفة الحق والباطل, والفصل بينهما، ومعرفة الصالح, ما لا تكليف على العبد في النظر فيه فهو " فكرة القلب ونظره وتأمله المطلوب به علم هذه الأمور أو غلبة الظن لبعضها" وقد يصيب فيه الناظر ويخطئ, وكلاهما نظر منه. وقد -[18]- وقد لا يصل إليه إذا قصر وغلط وخلط فيه, أو نظر في شبهة ليست بدليل.

القول في أن النظر الذي وصفناه لا يولد العلم

والقول في أن النظر الذي وصفناه لا يولد العلم وإن كان صحيحا ولا الجهل ولا الشك إذا كان فاسدا واعلموا- رحمكم الله- أننا قد بينا في أصول الديانات واضح الأدلة على إبطال التولد في أفعال الله تعالى وأفعال خلقه وفساد ما تدين به القدرية في ذلك, وإذا ثبت هذا استحال أن يكون النظر مولدا للعلم, ووجب أن يكون العلم الحاصل بعده مبتدأ بقدرة تخصه وتتناوله غير القدرة على النظر الذي تتضمنه. ولا شبهة لهم في إيجاب كونه مولدا للعلم، لأن وجوب حصول العلم لا محالة بعد إتمامه واستكماله، وأنه لو لم يولد العلم لجاز أن يوجد ولا يولده مع البقاء وسلامة الحال, ولصح أن يقع بعده الجهل والشك بدلا من العلم. وهذا باطل لأنه قد يجب وجود الشيء أو بعده من جهة تضمنه له, لا لكونه مولدا له. يدل على ذلك وجوب وجود الكون عند وجود الجوهر لتضمنه لوجوده لا لكونه مولدا له, ووجوب وجود العلم المراد عند القصد إليه والإثبات له بعينه لا لكونه القصد مولدا للعلم, ونحو وجوب وجود العلم المدرك عند إدراكه، وإن لم يكن الإدراك مولدا له, ولكنه طريق إليه في أمثال هذا مما يطول تتبعه. ومما يدل على فساد هذه الشبهة أنه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب

فصل: النظر الفاسد يتضمن لا الجهل والشك

أن يكون تذكر النظر مولدا للعلم بما سبق النظر فيه من حيث اتفقنا على أنه لابد من حصول العلم عند تذكر النظر دون الجهل وغيره من الأجناس، ولما اتفقنا على فساد ذلك سقط ما استدلوا به. وإنما لم يمكنهم أن يقولوا إن تذكر النظر مولد للعلم, لاتفاقنا على أن تذكره هو العلم به بعد الذهاب عنه, وقد يكون العلم به والذكر له ضرورة من فعل الله تعالى, فلو ولد العلم لكان المتولد عنه من فعله عز وجل, وذلك باطل عندهم. وهذا واضح في أن ما أوجبوا به توليد النظر للعلم باطل لا أصل له. فصل -[19]- فإن قال قائل: أفتقولون إن النظر الفاسد يتضمن الجهل والشك كما يتضمن الصحيح منه العلم؟ قيل له: لا, وإنما يفعل الجاهل والشاك والجهل والشك مبتدئا به, لا عن شيء تضمنه هو طريق له. ولو كان الفاسد من النظر, أو النظر في الشبهة طريقا للجهل لم يقع بعده الشك والظن، ولو كان طريقا للشك والظن لم يقع بعده الجهل, ولأنه قد ينظر العالم في الشبهة كما ينظر فيها الجاهل فلا يقع له الجهل, ولا يخرج عن العلم, وقد يقصد إلى إفساد النظر فيقع منه فاسدا كما يقع ممن لا يقصد ذلك فلا يتولد له جهل ولا شك, ولا يخرج به عن كونه عالما بحال المنظور فيه, فثبت أن صحيح النظر في الدلالة طريق للعلم وليست فاسدة, والنظر في الشبهة طريق للجهل والشك والظن وغلبة الظن.

باب القول في الدلالة على صحة النظر

باب القول في الدلالة على صحة النظر إن قال قائل: ما الذي تعنون بصحة النظر؟ قيل له: نريد بذلك أنه متضمن للعلم بحال المنظور فيه وطريق إليه. فإن قال: وما الدليل على كونه طريقا إليه؟ قيل له: يدل على ذلك حصول العلم لنا بحال المنظور فيه عند صحيح النظر فلو لم يكن طريقا إليه لم يحصل بحصوله. ويدل على صحته- أيضا- أنه لا يخلو أن يكون صحيحا أو فاسدا فأن كان صحيحا فهو ما يقول, وإن كان فاسدا لم يخل العلم بفساده من أن يكون ضرورة أو استدلالا, فإن كان ضرورة وجب على كل مثبت له ودائن بصحته أن يكون مضطرا إلى بطلانه وفساده. وهذا بهت من راكبه, وإن كان فساده معلوما بنظر, فقد صح أن من النظر ما هو طريق للعلم ببعض

الأمور، وهذا اعتراف بما يقول, وكل أمر لا يمكن نفيه إلا بإثباته فإثباته واجب لا محالة. فإن قالوا: فأنتم تعلمون صحة النظر ضرورة أم بديل؟ فإن كل بضرورة وجب أن يعلمه كل من نفى صحته، وذلك باطل. وإن كان بنظر فبماذا علمتم صحة النظر الثاني -[20]- يقال لهم, إنها يعلم صحة النظر بوجهين: أحدهما: حدوث العلم لنا بحال المنظور فيه عند صحيح النظر, وذلك أمر يبين لسائلنا عند مساءلتنا عن دليل عين كل مسألة لنريه كيف يجب حصول العلم بها فكل نظر حصل عنده علم علم أنه صحيح وطريق إليه وكل ما ليست هذه سبيله فليس بصحيح. والوجه الآخر: أننا نعلم صحة النظر بضرب من النظر داخل في جملة النظر، وهو النظر الذي به علمنا فساد قول من قال لا أعلم شيئا إلا بدرك الحواس أو بالضرورة المبتدأة في النفس أو بالتقليد, ولا وجه سوى ذلك إلا النظر، وهذا ليس بنقص لما أصلناه, ومثله نقض لمذهبهم إذا استدلوا على فساد النظر بضرب من النظر.

فصل في وجوب النظر

فصل في وجوب النظر فإن قال قائل: فما الدليل على وجوب النظر مع كونه صحيحا، إذا ليس كل حق وصحيح واجبا؟ قيل له: الذي يدل على وجوبه السمع دون قضية العقل, وقد ثبت إيجاب الله تعالى علينا معرفته وشكره ووصفه بصفاته وباعتقاد الحق واجتناب الباطل فيما اختلف فيه أهل الصلاة, وقد ثبت أن ذلك أجمع لا يعلم ضرورة لاختلاف العقلاء فيه, ونفي كثير منهم له, فوجب أن يكون طريق

العلم به الاستدلال. فإذا وجب العلم بهذه الجملة وهو لا يقع، ويتم وجوده إلا عن نظر فقد لزمنا ووجب علينا فعل كل مالا يتم لنا العلم بذلك إلا بفعله, لأن كل واجب لا يتم وقوعه إلا بفعل غيره فهو وكل ما لا يتم إلا به واجب, على ما بيناه في أحكام الأوامر والتكليف, فثبت وجوب النظر لوجوب مالا يتم إلا به.

باب ذكر جملة ما يحتاج إليه النظر الذي هو طريق إلى العلم بالمنظور فيه

باب ذكر جملة ما يحتاج إليه النظر الذي هو طريق إلى العلم بالمنظور فيه اعلموا أن النظر لا يكون طريقا للعلم حتى يكون صحيحا، ولا يكون كذلك حتى يكون واقعا على وجهين يحتاج إليهما: أحدهما يرجع إلى النظر نفسه, والآخر يرجع إلى صفة فاعلة. والذي يرجع إليه: أن يكون نظرا في دليل ليس بشبهة -[21]- وأن يكون نظرا في حكم وأمر غير معلوم للناظر بضرورة أو دليل, لأن ما حصل معلوما من أحد الوجهين لم يصح طلب العلم به وإن ساغ أن ينظر في طرق الأدلة عليه, وهل هي أدلة عليه أم لا؟ وليس ذلك من طلب العلم بالمدلول عليه في شيء. وأما ما يرجع إلى فاعل النظر فأمران: أحدهما: أن يكون كامل العقل, وقد بينا ما هو العقل وكماله من

قبل, وليس من كمال عقله علمه بوجوب واجب في العقل وحسن حسن وقبح قبيح فيه مما يدعي القدرية والمجوس والبراهمة إنه معلوم وجوبه وحسنه وقبحه بضرورات العقل بما سنبينه وندل عليه من بعد. والأمر الأخر: أن يكون عالما بحصول الدليل وبالوجه الذي لحصوله عليه صار دليلا ومتعلقا بمدلولة غير ظان ولا متوهم لذلك, فمتى لم يعلم هذين الأمرين لم يصل بنظره إلى العلم.

القول في الوجوه التي من قبلها يخطئ الناظر في نظره

القول في الوجوه التي من قبلها يخطئ الناظر في نظره اعلموا أن الخطأ يدخل عليه من وجهين: أحدهما: أن ينظر في شبهة ليست بدليل فلا يصل إلى العلم. والآخر: أن ينظر نظرا فاسدا وفساد النظر يكون بوجوه: منها: أن لا يستوفيه و (لا) يستكمله، وإن كان نظرا في دليل. ومنها: أن يعدل عن الترتيب الصحيح في نظره فيقدم ما من حقه أن يؤخره، ويؤخر منه ما من حقه أن يقدمه. ومنها: أن يجهل بعض صفات الدليل التي لا يتم كونه دليلا على الحكم إلا بحصوله عليها وحصول علم المستدل بها. ومنها: أن يضم إلى صفة الدليل وصفا يفسده, نحو أن يقول إنما يدل خبر النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم الخمر, لأنه خبر عن تحريم الخمر, لأن ذلك يوجب أن لا يدل خبره على تحرين الميتة والدم على تحريمها, لأنه ليس بخبر عن تحريم خمر, ولو لم يدل خبره عن تحريمها على أنهما حرامان لم يدل- أيضا- خبره عن تحريم الخمر على كونه حراما, ولبطلت دلالة جميع أخباره عن سائر الأحكام، فهذه الزيادة وأمثالها في أدلة العقل -[22]- والسمع مفسدة للاستدلال. وجهل الناظر ببعض صفات الدليل التي يحتاج إلى علمها نقصان منه ومفسد للنظر فيه, وصورة ذلك أن يسمع المكلف خبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تحريم الخمر, ولا يعلم مع ذلك أنه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا

فصل فيما يجب كون الناظر عليه من الصفات حتى يصل بنظره إلى العلم

يعلم لجهله بصفة كونه دليلا, وكذلك لو شاهد ما يظهر على يده من إحياء الميت وفلق البحر, ولم يعلم أنه من أفعال الله تعالى مقصودا به إلى تصديقه لم يعلم كونه دلالة على نبوته في أمثال ذلك. هذه جملة ما يدخل به الخطأ والتخليط على الناظر. فصل فيما يجب كون الناظر عليه من الصفات حتى يصل بنظره إلى العلم اعلموا أن قدر ما يلزمه من الصفات أن يكون كامل العقل مفارقا للمنتقصين حتى يصح منه النظر, وليس من كمال عقله علمه بوجوب واجب في العقل أو حسن حسن وقبح قبيح فيه, مما يدعي القدرية والمجوس والبراهمة أنه معلوم وجوبه وحسنه وقبحه بضرورات العقول, لما سنبينه وندل عليه من بعد. وأن يكون مع كمال عقله عالما بحصول الدليل, وحصوله على الوجه والوصف الذي بحصوله عليه تعلق بمدلوله غير جاهل بذلك ولا متوهم له, هذا قدر ما يجب كونه عليه من الصفات.

باب القول في أحوال الأمور المنظور فيها

باب القول في أحوال الأمور المنظور فيها والمستدل على الأحكام بها اعلموا- وفقكم الله- أن جميع ما يستدل به على الأحكام على ضربين: فضرب منها، أدلة يوصل صحيح النظر فيها إلى العلم بحقيقة المنظور فيه. وما هذه حاله موصوف بأنه دليل على قول جميع مثبتي النظر وباتفاق المتكلمين والفقهاء، وقد دخل في ذلك جميع أدلة العقول المتوصل بها إلى العلم بحقائق الأشياء وأحكامها وسائر القضايا العقلية. ودخل فيه جميع أدلة السمع الموجبة للقطع وللعلم من نصوص الكتاب والسنة/ ص 23

ومفهومهما ولحنهما، وإجماع الأمة، والمتواتر من الأخبار، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم الواقعة موقع البيان، وكل طريق من طرق السمع يوصل النظر فيه إلى العلم بحكم الشرع، دون غلبة الظن. والضرب الثاني، أمر يوصل النظر فيه إلى الظن وغالب الظن ويوصف هذا الضرب بأنه أمارة على الحكم، ويخص بهذه التسمية للفرق بينه وبين ما يؤدي النظر فيه إلى العلم والقطع، وهذا تواضع من الفقهاء والمتكلمين،

وليس من موجب اللغة، لأن أهلها لا يفرقون بين الأمارة والدلالة والسمة والعلامة. ومرادنا بقولنا في هذا الضرب الذي يقع عند النظر في غالب الظن أنه طريق للظن او موصل أو مؤدي إليه أنه مما يقع الظن عنده مبتدءاً، لا أنه طريق إليه كالنظر في الدليل القاطع الذي هو طريق إلى العلم بمدلوله، وإنما نتجوز بقولنا "يوصل ويؤدي وأنه طريق للظن ". وهذا الضرب الذي يؤدي النظر فيه إلى الظن على ضربين: فمنه، ما لا أصل له معين، نحو النظر والاجتهاد في جزاء الصيد وقيمة المثل وأرش الجنايات وقيم المتلفات ونفقات الزوجات والاجتهاد في عدالة الأئمة والقضاة والشهود، وأمثال ذلك مما لا أصل له معين يرد إليه ويقاس عليه، كقياس النبيذ على الخمر، والأرز في تحريم التفاضل على البر بعلة جامعة بينهما ومحققوا النافين للقياس مقرون بصحة هذه الأمارات ووجوب الحكم بما يؤدي النظر والاجتهاد فيها إليه.

فصل فالكل من أهل العلم قد اتفقوا على أن هذه الأمارات عقلية من حيث كان الرجوع فيها إلى العادات المعقولة وإلى القيم المعروفة وإلى مماثلة الصور وقدر الحاجات في الأقوات، وما يعرف به من الأحوال عدالة الأئمة والقضاة والولاة والشهود ظاهراً، فكل هذا عقلي والحكم المعلق عليه شرعي من إيجاب النفقة وقيمة الأرش وجزاء الصيد والحكم بالشهادة وما جرى مجرى ذلك. فصل والضرب الآخر، نظر فيما ل أصل معين فمنه ما/ ص 24 يوصف أنه قياس، وهو الاستدلال على ثبوت الحكم في الفرع بعلة الأصل بعد ثبوته وقيام الدليل على تعليله، إما بنص على علته يوجب العلم بها، أو استثارة لها تقتضي غلبة الظن لكونها علة ثم وجوب الحكم بأنها علة الأصل بعد غلبة الظن لذلك. والقياس عندنا في الحقيقة هو نفس "حمل الفرع على حكم الأصل بالوجه الجامع بينهما ". فالقياس نتيجة الاستدلال على العلة والعلم

بها، وسنذكر في باب أحكام العلل تفصيل طرق الأدلة والأمارات على صحة العلة من التقسيم والمقابلة والطرد والجريان عند من رأى ذلك دليلاً، إلى غير ذلك. ومن ذلك- أيضاً- الاستدلال بأصل معين من لغة أو حكم ثابت في الشرع دال على المراد، نحو قوله تعالى: {إلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وإنه زمن الحيض أو الطهر، وهل العفو إلى الزوج أو الولي، وذلك من باب الاجتهاد الذي يسوغ فيه الخلاف، وليس من باب حمل الفرع على الأصل بالعلة. فصل فأما من زعم أن الاستدلال على الحكم وموضع الحكم ليس بقياس، وأنه استدلال، فإنه لكونه استدلالاً جاز إثبات الدود والكفارات به، ولا يجوز إثباتها بقياس، فإنه باطل إذا سئلوا عن تفسيره، لأنهم إنما يذكرون فيه قياساً محضاً ظاهراً، لأنهم قد قالوا: هو نحو الاستدلال على وجوب الكفارة على الأكل عامداً في نهار رمضان لا بجنس الأكل، لكن

لاختصاصه بأنه مفسد لصوم عين رمضان على وجه يستحق به مأثم مخصوص مع انتفاء الشبهة عنه في خروج اليوم أو كون الصوم وقت الوطء مستحقاً، فأشبه الأكل عامداً الوطء لمشاركته له في هتك حرمة اليوم. وانتفاء الشبهة وحصول مأثم عظيم. وهذا نفس القياس ورد للأكل على الوطء بمعان جامعة بينهما، وبمثابة رد الأرز/ ص 25 على البر والنبيذ على الخمر بالمعنى، لأن التحريم فيهما لم يجب للجنس، وإنما وجب لمعنى يشتركان فيه، وقد بينا من قبل أن القياس "إنما هو حمل الفرع على الأصل بوجه ما". وقد حملوا الأكل عامداً على الوطء في إيجاب الكفارة بوجه، فوجب أن يكون ذلك قياساً، وسنبين فيما بعد أن المطلوب بطرق الاجتهاد الظن لثبوت الحكم وغالب الظن. فإذا جاز إثبات الحدود والكفارات بمثل هذا الاستدلال، وهو موجب لغالب الظن دون العلم لجواز الخلاف والاجتهاد فيه صح أيضاً. وجاز إثباتها بطريق القياس على العلة، لأنه أقوى وأثبت من هذه الطريقة، ولا وجه

لفصلهم في ذلك بين استدلال وقياس يوجبان غالب الظن دون العلم، فبطل ما قالوه. وأما قولهم، إنما نعمل القياس في موضع الحد والكفارة ولا نعلمه في إثباتهما فإنه قول باطل، لأن موضعهما إذا لم يكن معلوماً بطريق يوجب العلم به، وصح أن يجعل بالقياس موضعاً لهما جاز- أيضاً- أن يثبتا بقياس لا يوجب العلم، ونحن نستقصي الكلام في هذا الفصل في فصول القول في القياس وأحكام العلل إن شاء الله. فصل وجميع أحكام الأمارات والعلل الشرعية شرعية ثابتة بالسمع دون قضية العقل، لأن العقل لا يوجب حكماً من أحكام العبادات والعقود على ما ندل عليه من بعد إن شاء الله.

باب ذكر تفصيل ما يعلم بالعقل دون السمع، وما لا يعلم

باب ذكر تفصيل ما يعلم بالعقل دون السمع، وما لا يعلم ألا بالسمع دون العقل، وما يصح أن يعلم بهما جميعاً اعلموا- رحمكم الله- أن جميع أحكام الدين المعلومة لا تنفك من ثلاثة أضرب: فضرب منها، لا يصح أن يعلم إلا بالعقل دون السمع. وضرب آخر، لا يصح أن يعلم عقلاً، بل لا يصح العلم به إلا من جهة السمع. والضرب الثالث منها، يصح أن يعلم عقلاً وسمعاً. فأما ما لا يصح أن يعلم إلا بالعقل دون السمع فنحو حدوث العالم وإثبات محدثه ووحدانيته، وما هو عليه من صفاته ونبوة رسله، وكل ما يتصل بهذه الجملة مما لا يتم العلم بالتوحيد والنبوة إلا به/ ص 26 والدليل على ذلك أن السمع إنما هو كلام الله وقول من يعلم أنه رسول له وإجماع من خبر أنه لا يخطئ في قوله، ولن يصح أن يعرف أن القول قول لله، ولمن هو رسول له، وصدق من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن صوابه وصدقه إلا بعد معرفة الله تعالى، لأن العلم بأن القول قول له والرسول رسول له فرع للعلم به سبحانه، لأنه علم بكلامه وإرساله وصفة من صفاته، ومحال أن يعرف هذه الصفة لله من لا يعرف الله، كما أنه محال أن يعرف أن الكلام والرسول كلام ورسول لزيد من لا يعرف زيداً، فوجب أن يكون العلم بالله وبنبوة رسله معلوماً عقلاً قبل العلم بصحة السمع.

ولا يجوز أن يقول قائل، إني أعرف الله تعالى ونبوة رسله بسمع غير

قول الله وقول رسوله، لأن صدق أولئك المخبرين لا يعلم ضرورة، لأنهم غير مضطرين إلى ما يخبرون عنه من ذلك. ولن يضطر الله إلى صدق المخبرين في أخبارهم دون أن يكونوا إلى العلم بما أخبروا عنه مضطرين، لما نبينه من بعد في باب القول في أقسام الأخبار. ولا يجوز- أيضاً- أن يكون صدقهم في الإخبار عن التوحيد والنبوة معلوماً بدليل العقل، لأن ذلك يوجب أن يكون ذلك الدليل والدليل الذي يه يعلم ثبوت التوحيد والنبوة دون خبر المخبر عنهما، وإنما يكون خبره عنهما تنبيهاً عليهما، وهي الدلالة دون قوله، فثبت أن العلم بهذه الجملة وما لا يتم ويحصل إلا أن به مدرك بقضية العقل من حيث لا مجال للسمع به، على أن المخبر عن ذلك لا يخلو أن يكون عالماً بصحة ما أخبر عنه بنظرٍ أو بخبر، فإن كان يعلمه بالنظر صح ما قلناه، وإن كان عالماً بذلك بخبرٍ مخبرٍ آخر، ثم

كذلك الثاني وجب إثبات أخبار ومخبرين لا نهاية لهم وذلك محال. فصل وأما ما يعلم بالسمع من حيث لا مسرح للعقل فيه, فنحو العلم بكون فعل المكلف حسنًا وقبيحًا وحلالًا وحرامًا وطاعة وعصيانًا وقربة وواجبًا وندبًا, وعقدًا ماضيًا نافذًا وتمليكًا صحيحًا وكونه/ ص 7 أداء وقضاء ومجزئًا وغير مجزئ, وتحريم كل محرم من فعله على مراتبه, ونستدل على ذلك من بعد إن شاء الله تعالى. فصل وأما ما يصح أن يعلم بالعقل تارة وبالسمع أخرى, فهو كل حكم وقضية عقل لا يخل الجهل بها بالعلم بالتوحيد والنبوة, نحو العلم بجواز رؤية الله تعالى بالأبصار وجواز الغفران للمذنبين, والعلم بصحة التعبد بالعمل بخبر الواحد وجواز الغفران للمذنبين, والعلم بصحة التعبد بالعمل بخبر الواحد والقياس في الأحكام, وأمثال ذلك مما إذا جهله المكلف صح مع جهله به أن يعرف الله تعالى ونبوة رسله صلى الله عليهم وسلم. وهذه جملة كافية في هذا الباب وبالله التوفيق.

باب القول في حقيقة الفعل, وحده

باب القول في حقيقة الفعل, وحده وأقسام أفعال الخلق المكلف منهم ومن ليس بمكلف والذي يجب تقديمه في هذا الباب أن يعلموا أن وصف الفعل بأنه فعل ينصرف إلى معنيين, أحدهما حقيقة, والآخر مجاز. والحقيقة منه: "هو الحادث من محدثه المخترع لذاته ذاتًا وعينًا", وكونه كذلك لا يتعلق إلا بالله تعالى المخترع لسائر الحوادث والأعيان, ومعنى أنه فعل أنه الحادث الموجود الذات بقدرة فاعله, لأنه لا يكون فعلًا قبل وجوده, ولا في حال بقائه, وإنما يكون فعلًا في حال حدوثه بقدرة مبدعه تعالى.

وقد يوصف تصرف العبد بأنه فعل له مجازًا واتساعًا على معنى أنه كسب له, وتفسير القول أنه كسب له إنه ما وقع مقدورًا له بقدرة محدثة, وليس قدرة على إحداثه وإنشائه. وقد بينا هذه الجملة في كسب المخلوق في أصول الديانات بما يغنى متأمله, وكون التصرف كسبًا هو الداخل تحت التكليف دون كونه موجودًا حادثًا الذي ليس بداخل تحت قدرة العبد.

فأما القدرية فإنها تحد الفعل بأنه "الموجود المتعلق بمن كان قادرًا عليه", يعنون بذلك أنه كان مقدورًا لفاعله قبل حال وجوده/ ص 28 وأن الله تعالى

وغيره من الفاعلين لا يقدر على الفعل في حال حدوثه من حيث امتنع كون

فصل في ذكر أقسام اكتساب الخلق

الموجود مقدورًا, وقد منعوا لذلك الأمر بالموجود والنهي عنه والإباحة له والتحريم, ونحن نبين فساد هذا القول من بعد في أحكام الأوامر. فصل في ذكر أقسام اكتساب الخلق اعلموا أنها في الأصل على ضربين: فضرب منها كسب لعاقل مكلف, والضرب الثاني كسب لغير عاقل, فالعاقل منهم الملائكة والجن والبالغون من الإنس غير المنتقصين, والذي ليس بعاقل منهم البهائم والأطفال والمنتقصون من البله والمجانين, وأفعال هؤلاء باتفاق غير داخله تحت التكليف لخروجهم عن العقل والتمييز وصحة تلقي التعبد والعلم به وقصد ما يكلفونه بعينه, ولسنا نعني بزوال التكليف عنهم فيها إلا ترك المطالبة لهم بالاجتناب لها أو الإقدام عليها, وحصول وعد ووعيد وثواب وعقاب ومدح وذم عليها, ولا نعني به سقوط أحكام شرعية تجب فيها على ولي الطفل والمجنون, وصاحب البهيمة وقائدها من ضمان جناية, وغرم متلف, وقيمة أرش ووجوب زكاة في مال, غير أن لزوم ذلك لوليهما ليس بأمر وخطاب لهما, وإنما هو تكليف لغيرهما. فصل ولو حصل لبعض من لم يبلغ الحلم عقل البالغين لصح تكليفه التوحيد مما دونه, وغير محال في العقل حصول بعضهم كذلك, غير أنه معلوم بالسمع أنه لا يحصل لأحد منهم بدلالة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "وعن الطفل حتى يبلغ".

ففي رفع القلم عنه دليل على عدم تمييزه لما يعرفه العقلاء, وسقوط فرائض الدين عنه من الصيام والجهاد وغير ذلك دليل على ما قلناه, وهذا مما سبق الإجماع عليه قبل خلاف من يحكي ذلك عنهم من أهل العراق وغيرهم. فأما تعلقهم في ذلك بوجوب ضربهم على الصلاة لعشر, ولزوم غرم الجنايات في أموالهم, والزكوات على قول بعضهم, وإجزاء صلواتهم إذا

فعلت بشروطها عند دخول وقت الصلاة وقبل بلوغهم وسقوط الفرض بها عنهم/ ص 29, وأن ذلك دليل على أنهم مكلفون ومخاطبون, فإنه تعلق باطل. فأما ضربهم عليها لعشر, فمن تكليف الأب والولي لينشئا الطفل عليها ويألف إيقاعها, وأما لزوم الغرم والزكاة فمما يلزم الولي دون الطفل. وأما قول من زعم أن صلواته قبل بلوغه إذا فعلت في الوقت بشروطها أجزأت عن الصلاة الواجبة عليه عند البلوغ فإنه لا حجة فيه, لأنه لا يمتنع أن يسقط عنه الفرض إذا بلغ بسبب فعل مثله قبل بلوغه وإن لم يكن ما فعله واجبًا, إذا دل السمع على أنه قائم مقامه, كما يقول بعض الفقهاء إن الصلاة المفعولة في أول الوقت نفل ليس بفرض وإن سقط بها الفرض عند وجوبه وتضيقه, فبطل ما قالوه, وثبت أن الطفل غير مكلف على وجه.

باب القول في معنى التكليف

باب القول في معنى التكليف وقصد الفقهاء بوصف المكلف بأنه مكلف اعلموا أن الأصل في التكليف أنه إلزام ما على العبد فيه كلف ومشقة, إما في فعله أو تركه, من قولهم: كلفتك عظيمًا, وتكلف زيد أمرًا شاقًا, وأمثال ذلك. والفقهاء يستعملون ذلك على ثلاثة معان. فوجه منها, ما قلناه وهو "المطالبة بالفعل أو الاجتناب له"، وذلك لازم في الفرائض العامة نحو التوحيد والنبوة والصلوات, وما جرى مجرى ذلك, فكل عاقل بالغ مطالب بذلك مكلف له, لا يسقط عنه فعل ذلك بفعل غيره لمثله, وقد يسقط عنهم بعض ما كلفوا إيقاعه إذا فعل غيرهم مثله, نحو غسل الميت والصلاة عليه والجهاد, وما جرى مجرى ذلك من اختلاف فرائضهم في أمور لا يعم فرضها.

والوجه الثاني, أن يقولوا: "إن العبد مكلف ومخاطب" على تأويل أن عليه فيما سها ونام عنه ولم يقع منه في حال السكر والغلبة فرض يلزمه, وعلى تأويل أن طلاقه نافذ واقع وحده واجب, وضمان جنايته لازم وأمثال ذلك, وإنما يخاطب بذلك قبل زوال عقله وتعمده, فيقال له: إذا نسيت صلاة أو نمت عنها في وقت لو كنت ذاكرًا فيه ويقظانًا لزمتك/ ص 30 فقد وجب عليك قضاؤها وفعل مثلها, كما يقال للحائض إذا طهرت ليس عليك قضاء الصلاة التي لم تخاطبي بها بسبب عرض فأزال تكليفها عنك. والوجه الثالث, أن يقولوا: إن الطفل مخاطب ومكلف, وكذلك العبد والمريض, يعنون بذلك أنهم إذا فعلوا ما لا يجب عليهم فعله ناب مناب ما يجب عليهم ووقع موقعه, فلذلك قالوا: إن المريض الذي يجهده الصيام والقيام إلى الصلاة - ولا يجب ذلك عليه - مخاطب بهما إذا فعلهما, يعنون بذلك أنه واقع موقع ما يجب عليه, ويقولون: إن العبد مخاطب بالجمعة إذا حضرها وفعلها, يعنون بذلك أنها نائبة مناب ما يجب عليه وإن لم تكن نم فرضه, وكذلك من يكلف الحج باستطاعة بدنه وإن لم يجد زادًا ولا راحلة مكلف بالحج بمعنى أنه نائب عن فرضه إذا وجد ذلك, وإن لم يكن ما فعله من تكليفه على قول من جعل الاستطاعة الزاد والراحلة, وكذلك قولهم: إن الطفل قد كلف الصلاة إذا فعلها بشروطها قبل البلوغ وفي الوقت, يعنون بذلك أنها نائبة مناب ما يجب عليه, وإن لم تكن من فرضه, فيجب تنزيل مقاصدهم على واجبها ومعرفة أغراضهم بذلك, لأننا قد نستعمل هذا أحيانًا

فصل تفصيل أفعال المكلفين وما يدخل منها تحت التكليف

على هذه الوجوه فصل تفصيل أفعال المكلفين وما يدخل منها تحت التكليف اعلموا - وفقكم الله - أن أفعال العقلاء على ضربين: فضرب منها لا يصح دخوله تحت التكليف, وهو ما يقع منهم في الحال السهو والغفلة والنوم والغلبة بالسكر, وكل ما يقطع عن ثبوت العقل والتمييز.

تكليف الغافل والساهي

وقال شذوذ من الفقهاء: إن على الغافل تكليفًا في هذه الأحوال, وربما حصل الخلاف منهم - عند التحصيل - في عبارة دون معنى, وهو أن يقولوا إنه يلزم الغافل عند إفاقته وتذكرة وغرم وطلاق وحد, وهذا ما لا خلاف فيه. والذي يدل على امتناع تكليف الساهي فعل ما هو ساه عنه. أن المكلف الفعل, إنما يكلف إيقاعه أو اجتنابه على وجه قصد التقرب وإرادة الله تعالى بالفعل أو الاجتناب, وقد علم أن القصد إلى التقرب بفعل بعينه أو اجتنابه متضمن للعلم به حتى يصح القصد إليه دون غيره, وموقع الشيء مع السهو عنه وعدم القصد لا يصح أن يكون مع سهوه عالمًا به

تكليف النائم والمغلوب والسكران

وقاصدًا إليه بعينه, فضلًا عن قصد التقرب به وفعله لله دون غيره, فثبت بذلك أنه غير داخل تحت التكليف. ويدل على ذلك - أيضًا - أنه لو قيل للساهي: أقصد للتقرب بفعل ما أنت ساه عن فعله أن التقرب بالاجتناب له لوجب أن يقصد إلى إيقاع ما يعلم أنه ساه عنه أو اجتنابه, وعلمه بأنه ساه عنه ينقض كونه ساهيًا عنه, ولعاد عالمًا به إذا علم أنه ساه عن الفعل الذي يجتنبه أو يوقعه, وخرج عن كونه ساهيًا عنه, فاستحال لذلك تكليف الساهي التقرب بما هو ساه عنه أو اجتنابه. وأما ما يدل على إحالة تكليف النائم والمغلوب والسكران فهو نفس ما دل على امتناع تكليف البهيمة والطفل المجنون لاشتراك جميعهم في زوال العقل والتمييز, بل قد علم أن الطفل والمجنون أقرب إلى العلم والقصد إلى كثير من الأشياء من المغلوب بالنوم والمرض والسكر, ومن حيث كان للطفل والمجنون قصود وعلوم بأشياء كثيرة, وقصدًا إلى التجوز والاجتلاب لأشياء كثيرة لا يعلمها السكران والمغلوب بالنوم والبرشام, ولأن النائم قد ينبه فيتنبه عاقلًا مميزًا, والمريض والسكران أسوأ حالًا من المجنون في زوال عقله وتعذر عوده إليه بأمر يكون من العباد, فثبت بذلك امتناع تكليف من هذه الحالة, كما يمتنع تكليف المجنون والطفل, وهما أمثل حالًا منهما. فصل فإن قالوا, كيف تحيلون دخول فعل النائم والمغلوب والسكران والساهي تحت التكليف مع إجماع الأمة من الفقهاء وغيرهم على لزوم أفعال

لهم بسبب الأفعال الواقعة منهم في حال السهو والنوم والغلبة بالسكر وغيره, نحو تكليف فعل الصلوات الفوائت في حال نومه وسكره, ولزوم طلاق السكران بسبب سكره, ووجوب حده, وقيمة ما أتلفه في حال سكره, إلى غير ذلك من الأحكام. يقال له, فقد بان بما قدمناه زوال عقل النائم والسكران وأنهما أسوأ حالًا من الطفل والمجنون فامتنع تكليف الكل لذلك, وإنما يجب على النائم والسكران قبل زوال عقولهما أو عند إفاقتهما وعودهما إلى صحة العقل قضاء ما لم يفعلاه من الصلوات في حال النوم والسكر, وذلك خطاب لهما في حال عقلهما بفرض مبتدأ, ولكنه مع ذلك سبب خطابهما في حال العقل بفرض مبتدأ وغرم واجب, ولو لم يجعل الفوات وما وقع منه من الطلاق, وفعل فيه من السكر سببًا لوجوب القضاء, ونفوذ الطلاق, ووجوب الحد, ثم يسقط ذلك عنه إذا عقل لكان ذلك صحيحًا جائزًا بإجماع. وكما يكون فعل البهيمة وقاتل الخطأ وحكم الحاكم وفتيا المفتي أسبابًا لوجوب أفعال على غير الفاعل لها, لا لأن فعل البهيمة وقتل الخطأ داخلان تحت تكليف العاقلة وصاحب البهيمة, وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون لزوم هذه الأمور في حال الإفاقة خطابًا وتكليفًا لمن لا عقل له. فأما من توهم أن حد السكران إنما وجب عليه بسبب أدخله على عقله وهو السكر, فإنه باطل, لأن السكر من فعل الله تعالى فيه, وليس من كسب

العبد ومقدوراته مباشرًا ولا متولدًا. فأما استحالة ابتدائه بفعل السكر في نفسه فباطل باتفاق, وأما امتناع كونه مولدًا لفعل السكر بسبب كان منه, فإنه ظاهر من قبل, إنه لم يكن منه إلا الشرب, وشربه للماء وسائر المائعات من جنس شربه الخمر العتيق, فلو ولد أحد الشربين السكر لولده الآخر, لأن الشيء إذا ولد عند أصحاب التولد شيئًا ولد مثله, ولو ساغ القول بأن الشرب يولد السكر لساغ أن يقال إن الأكل والشرب يولدان الشبع والري أن الوجبة تولد الموت, وكل هذا باطل, وأصل القول بالتولد عند أهل الحق باطل في فعل الله تعالى وفعل خلقه, فسقط

ما ظنوه, ولا يسوغ - أيضًا - لأحد أن يقول إن السكر إنما وجب وتولد عن ذات الشراب, لأنه جسم من الأجسام, والأجسام لا تولد شيئًا, ولأنه لو تولد السكر عن ذات الشراب لكان فعلًا لله تعالى, لأنه فعل الجسم الذي هو الشراب, فإذا لم يحد السكران بسبب كان منه, وهذا يبين في إبطال قول من زعم أن حد السكران إنما وجب عليه لأجل سبب كان منه وأمر أدخله على نفسه. ولو قيل, إنه إنما حد لشربه ما قد أجرى الله تعالى العادة بفعل السكر عند تناوله لكان ذلك أولى, إلا أن يكون محدودًا على شيء فعله مع العقل لا مع زواله, لأنه شرب وهو عاقل مميز. فصل فإن قالوا, كيف يسوغ لكم منع تكليف السكران مع قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ونهيه لهم عن الصلاة في حال السكر, ولا فرق بين أن ينهاهم عن الصلاة مع السكر, وبين أن يأمرهم بها وبغيرها مع السكر, وهذا يبطل ما أصلتم؟ يقال لهم, إذا بان بما قدمناه أن حال المغلوب بالسكر أسوأ من حال النائم والطفل والمجنون, لأنه يبلغ إلى حال لا يفرق فيها بين ذوات

المحارم وغيرهن, ولا يكون له قصد ولا تمييز على وجه ثابت بذلك أنه غير مكلف لفعل ولا لاجتناب, ووجب حمل الآية على تأويل يوافق موجب هذه الحجة, ولها تأويلات: أحدها, إن السكر سكران: أحدهما زوال العقل, وهذا هو الذي يمتنع معه التكليف وتوجيه الخطاب إلى العبد. ولام, استحسان ما كان يستقبحه الشارب قبل شربه ولا يراه قبيحًا إذا شرب من الطرب والصياح والتصفيق والانخلاع وكثرة الانبساط مع بقاء عقله وصحة تمييزه وعلمه بأنه مكلف وكونه مفرقًا بين الضرب والنفع والخير والشر/ ص 34 وليس هذا من زوال العقل في شيء, وإنما حظر على الشارب أن يقرب الصلاة وهو سكران على معنى حظر شرب يصيره إلى هذه الحال, ولم ينه عن نفس الصلاة, فكنى عن ذكر النهي عن الشرب بذكر الصلاة التي وجب المنع من الشرب لأجل استيفاء حقوقها, وإلا فمن هذه حالة في التمييز مأمور بفعل الصلاة باتفاق, وإنما نهي عن الشرب المؤدي إلى هذه الحال عند حضور أوقات الصلوات, لأجل ما يحدث في الشارب من ثقل اللسان والحرص على استدامة الشرب والتثاقل بالصلاة, وإقامة ما يجب لها من الركوع والسجود والخنوع والخشوع, ومحظور عليه شرب قليل ما يؤدي إلى ذلك وكثيره, إذا كان شرب القليل داعيًا إلى شرب الكثير, وما يؤدي إلى استثقال الفرض وحصول السكر. فإن قيل: إن قوله تعالى: {حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يدل على أنهم لا يعقلون في حال ما نهوا عن الصلاة؟

يقال لهم, ليس الأمر كذلك وإنما أراد حتى تعلموا علمًا يكون معه التمكن من استكمال الفرض بحدوده وزوال استثقاله, وقد يحصل العلم بما يقولون مع الاستثقال ومع عدمه, وذلك حصول له على وجه دون وجه. وقد قيل - أيضًا - في تأويلها إنه أراد بقوله {وَأَنتُمْ سُكَارَى} من النوم والاستثقال حتى تستيقظوا استيقاظًا يزول معه ثقل النوم, ويكمل معه التمييز والنشاط والتمكن من القيام بحقوق الصلاة. وقيل - أيضًا - إنما أراد النهي لمن قدمنا ذكره ممن لم يسكر ولم يزل عقله عن الحضور مع النبي صلى الله عليه وسلم في المساجد الجماعة تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتنزيهًا للمساجد, وإن كان الشارب لم يزل عقله بقدر ما شربه.

فصل وقد زعم قوم أن الشرب الثاني الذي معه زوال العقل مما يحظره العقل, وأن الشرب الأول الذي يكون معه طيب النفس والانبساط مع بقاء العقل محظور بالسمع, وهذا باطل وخطأ من وجهين: أحدهما: إن العقل لا يحظر شيئًا أصلًا لما نبينه من بعد. والآخر: إن كان سكرًا على الحقيقة دون السكر الأول فهما جميعًا من فعل الله تعالى غير كسب للعبد, فكيف يتعلق عليه إباحة أو حظر, والله الموفق للصواب.

باب القول في صحة دخول فعل المكره تحت التكليف والاختلاف فيه

باب القول في صحة دخول فعل المكره تحت التكليف والاختلاف فيه/ ص 35 اعلموا أن المكره لا يكون مكرها إلا على كسبه وما هو قادر عليه, نحو المكره على الطلاق والبيع وكلمة الكفر, وكل ذلك إذا وقع كسب له, وواقع مع علمه به وقصده إليه بعينه فيصح لذلك تكليفه, كتكليف ما لا إكراه عليه فيه.

وقد زعمت القدرية أنه لا يصح دخوله تحت التكليف, لأنه لا يصح منه غير ما أكره عليه. وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه قد يصح خلاف ذلك لأنه عندهم قادر على ما أكره وعلى ضده وتركه, فلو شاء فعل ضده, والانصراف عنه, ولتحمل الضرر وكف عنه, فسقط ما قالوه. والوجه الآخر: أنه ليس كل من لا يصح منه الانصراف عن الفعل يمتنع تكليفه, لأن القادر عندنا على الفعل من الخلق لا يصح منه الانصراف عن الفعل في حال قدرته عليه لوجوب وجودها مع الفعل, وإن كان ذلك يصح منه بمعنى صحة بقائه على الحال التي كان عليها قبل وجود قدرته على الفعل, وأنه كان يصح كونه قادرًا على ضده بدلًا منه, فإنه تكليف صحيح. ولأن أكثر أهل الحق يجيزون تكليف من لا يصح منه الفعل ولا تركه من الأحياء العقلاء, وإن لم يرد بذلك شرع, فبطل ما قالوه. وزعم كثير من الفقهاء أن المعنى المزيل لدخول فعل المكره تحت

التكليف أنه واقع من فاعله بغير إرادة وقصد, فصار بمنزلة فعل النائم والمغلوب اللذين لا قصد لهما, وهذا - أيضًا - باطل باتفاق المتكلمين, لأن مطلق زوجته, وقاتل غيره عند الإكراه عالم بما يفعله وقاصد إليه دون غيره. فإن قيل: فما الفرق بينه وبين المختار الذي لا إكراه عليه؟ قيل له: الفرق بينهما أن المختار مطلق الدواعي والإرادات والمكره مقصور الدواعي والإرادة على فعل ما أكره عليه, لا يختار غيره. فإن قيل: ولم صارت هذه حاله؟ قيل: لما يخافه من عظيم الضرر, وهو يدفع أعظم الضررين بأدونهما, ودواعيه مقصورة عليه لأجل ذلك. فإن قيل: فهل بين الإلجاء والإكراه فرق؟ قيل له: لا فرق بينهما من جهة اللغة. وقد زعم قوم أن الإلجاء هو: "ما خيف معه القتل"، والإكراه: "ما يكون معه الخوف فيما دون النفس". وقال أيضًا بعض القدرية: الإلجاء ما لا يكون معه إلا داع واحد

إلى فعل/ ص 36 واحد والإكراه ما يصح أن يكون معه دواع إلى الفعل وإلى خلافه وضده. وأهل اللغة لا يفصلون بين الإلجاء والإكراه والقهر والجبر والاضطهاد والحمل, كل ذلك عندهم بمعنى واحد, فلا وجه للافتيات عليهم في الأسماء. فأما المعنى فما ينكر أحد أن يكون منه ما هو خوف تلف النفس وتخويف بذلك, ومنه ما يكون خوفًا على ما دون النفس, ومنه ما يكون معه داع واحد, ومنه ما يكون معه دواع مختلفة ومتفاوتة ومترجحة, ولا طائل في هذا الخلاف. فصل ويدل على جواز دخول فعل المكره تحت التكليف تكليف الله تعالى ترك قتل البريء مع الإلجاء, وأمره لنا بالكف عن ذلك, وكذلك فقد كان يجوز أن يكلفنا ترك كل فعل يكره على إيقاعه, فبطل ما قالوه.

فصل فإن قيل: فهل للإكراه الذي يزول معه فرض ترك الفعل حد؟ قيل له: حده " ما أباح الشرع إيقاع الفعل عنده خوفًا من حصول كل ضرر يخوَّف به الإنسان من تلف النفس وما دونه إلا أن يكون يسيرًا يحتمل مثله"، وذلك موقوف على الاجتهاد وعلى ما يرد به السمع من ذلك, وقد كان يجوز ورود التعبد بترك كل فعل يخوف المكلف بضرر عليه, قل الضرر أم كثر, وأن يلزم إيقاعه, وإن خوفنا بالقتل وعلمنا نزول القتل بفاعله يقينًا, كل ذلك مجوز في العقل, فسبيله إيقافه على السمع. وقد زعمت القدرية أنه إنما يصح أن يباح ويطلق من القبائح عند الإكراه ما كان يصح إطلاقه وإباحته من غير الإكراه, فأما ما لا يصح

الابتداء بإباحته فإن الإكراه لا يجوز أن يبيحه. وهذا باطل, لأن جميع القبائح إنما تكون قبيحة بالسمع, ولو لم يقبحها السمع لم تقبح, وقد كان يجوز إباحة جميعها على معنى أنه لا ينهى العاقل عن شيء منها, ولا يتوعد بعقاب على فعله, فأما جواز الأمر بها فصحيح - أيضًا - إلا الكفر بالله تعالى, فإنه محال لعلل قد ذكرناها في أصول الديانات, ولعلنا أن نذكر منها طرفًا من بعد. وإنما الكفر الذي يستحيل الأمر به هو اعتقاد الجهل بالله والإشراك به, دون إطلاق القول بذلك الذي أطلقه الشرع لمن يحسن المعاريض ولمن لا يحسنها, ولعلنا أن نذكر منها طرفًا من بعد.

فصل: الإكراه لا يصح إلا على أفعال الجوارح

فصل وقد اختلف الناس في صحة الإكراه على الزنى, فأجاز ذلك قوم, وأنكره آخرون, وقالوا لأنه لا يفعل/ ص 37 إلا مع الشهوة والإنعاظ وقوة الدواعي, وهذا باطل, لأن الإنسان يجد من نفسه صحة الترك لفعل ما يشتهيه وفعل القصد إلى الانصراف عنه مع فرط الشهوة له والحاجة إليه, فإذا أكره على فعل ما لولا الإكراه لتركه مع الشهوة وشدة الحاجة العاجلة وجب صحة الإكراه عليه. فصل واعلموا أن الإكراه لا يصح إلا على أفعال الجوارح المشاهدة, والمعلوم وقوعها إذا وقعت, والانصراف عنها إذا تركت, فأما الإكراه على ما غاب ويظن من أفعال القلوب (لا) يجوز أن يكره العبد على علم بشيء أو جهل به أو حب له أو بغض أو اعتقاد وعزم, فذلك محال لا سبيل إليه, وقد

قال الله تعالى في المكره على إظهار كلمة الكفر {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} يعني من اعتقد الكفر, وإنما فرق تعالى بين القولين "ثالث ثلاثة" وبين اعتقاد ذلك من حيث أثر الإكراه, وصح في أحدهما وامتنع في الآخر, وهذه جملة في ذلك كافية.

باب القول في ذكر الأمر المقتضي من المكلف بالأمر والنهي

باب القول في ذكر الأمر المقتضي من المكلف بالأمر والنهي اعلموا أن المقتضي من المكلف بالأمر والنهي أحد أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: الإقدام على الكسب أو الاجتناب والترك له فقط, ولا واسطة بين هذين يتناوله الأمر والنهي. والجمهور من المتكلمين متفقون على أن تحت الأمر باجتناب الفعل والنهي عن الدخول فيه أمرًا بترك له وفعل ضد ينفيه, وبذلك تقع المطالبة,

وزعم نوابت القدرية أنه قد يكون تحت الأمر باجتناب الفعل أمر بفعل ترك ضد له يدخل المكلف فيه فيكون مطيعًا ويكون تحت الأمر باجتناب الفعل أن لا يفعل المكلف الفعل فقط, ويعرى منه من غير أن يفعل له تركًا وضدًا نافيًا. وهذا باطل, لأن المطالبة باجتناب الفعل لا بد أن تكون مطالبة بأمر يتعلق بالعبد, ويكون به وعدم الفعل, وأن لا يكون من المكلف, وبقاؤه على عدمه ليس بمقدور للعبد, ولا أمر يكون به ويفعله, لأن عدم المعدوم باتفاق لا يتعلق بفاعل ومعدم/ ص 38, وقد أوضحنا ذلك بغير طريق ووجه, قد بيناه في كتب أصول الديانات, وبطل ما قالوه. ولأنه لو كان من طولب بفعل وأوجب عليه إذا لم يفعله مع استحقاقه وتعينه وتضيق وقته فلم يفعل تركًا له لوجب أن يكون معاقبًا ومذمومًا لا على شيء وأن يكون غير عاص ولا فاعل للقبيح, وهذا خروج عن الإجماع وقد بينا بطلان ركوبهم لهذا في الكلام في استحقاق الذم, وامتناع خلو العبد من الفعل والترك, فبطل ما قالوه. فإن قالوا: أفليس المباح داخلًا تحت التكليف؟ وليس هو مطلوبًا بالإباحة ولا بتركه؟

قيل لهم: هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن المباح ليس بداخل تحت التكليف لما نبينه من بعد. والوجه الآخر: أن الإباحة إطلاق وإذن, والله تعالى لا يأذن إلا في شيء, ولا يطلق الأشياء فسقط ما ظنوه. فإن قالوا: كيف يسوغ لكم القول بأن الأمر لا بد أن يتعلق بفعل للمكلف أو اجتناب له هو فعل ضده, وقد يؤمر والمفتي والحاكم بفعل يكون من الغير ويتعلق به لا بالمكلف؟ يقال لهم: هذا باطل, لأن التعليم والحكم والفتيا فعل المعلم والحاكم والمفتي, وإنما أمر بالإقدام على ذلك ليقع من الغير تعلم والتزام حكم وفتيا لا يجبان عليه إلا عند فعل الحاكم والمفتي للقول الذي هو الحكم والفتيا, فبطل ما توهموه. فإن قيل: ولم أنكرتم أن يكون المأمور بالفعل والمنهي عنه مأمورًا بأن يخلق ويبدع الأعيان ومنهيًا عن الخلق والاختراع؟ قيل له: من أجل إجماع الأمة على أنه لا خالق إلا الله, ولأجل قوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} وقد عبدت الملائكة من دونه, ولقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}

والقائل بأن غير الله يخلق خارج عن إجماع الأمة, ومخالف لنصوص كتاب الله تعالى, وقد تقصينا إفساد قول القدرية هذا في كتب أصول الديانات بما يغني الناظر فيه/ ص 9.

باب القول في بيان الصفات التي يكون المأمور به عليها ليصح الأمر به والنهي عنه

باب القول في بيان الصفات التي يكون المأمور به عليها ليصح الأمر به والنهي عنه اعلموا أن الصفات التي يكون المأمور به عليها ليصح الأمر به والنهي عنه هي: أن يكون مما يصح أن يحدث. أو أن يكون مما يصح اكتسابه. والثالث: أن يكون معلومًا متميزًا للمأمور مما ليس منه, أو أن يكون في حكم المعلوم للمأمور, بأن يكون المأمور على صفة من يصح أن يعلمه لو نظر واستدل. والرابع: أن يكون مما يصح كونه مرادًا للمأمور على وجه إذا أريد صار قربة مأمورًا به إذا لم تكن إرادة في نفسه للعمل لله أو مبتدأ بالتكليف وكان مما لا يحصل طاعة وقربة إلا بإرادة الله تعالى به, ويكون جهة في كونه طاعة وعبادة.

هذا قدر ما يلزم المأمور به من الصفات حتى يصح الأمر به والنهي عنه, دون جميع ما يدعيه القدرية من أنه: أولًا: يجب أن يكون له صفة زائدة على حدوثه وحسنه تقتضي الأمر به أو صفة زائدة على حدوثه وصفة قبحه تقتضي النهي عنه. ثانيًا: وأن يكون شاقًا على المكلف وثقيلًا فعله. ثالثًا: وأن لا يكون حادثًا. رابعًا: أن لا يكون وقته حاضرًا. خامسًا: ولا أن يكون منقضيًا ماضيًا. سادسًا: وأن تكون القدرة عليه موجودة. سابعًا: وأن يكون المكلف عليه قادرًا. ثامنًا: وأن يشترط فيه أن لا يكون المأمور عليه مكرهًا وإليه ملجأ. تاسعًا: وأن يكون مردًا للآمر به المكلف لفعله. عاشرًا: ومما يقصد به إثابة المأمور وتعريضه لنفع وثواب يصل إليه. أحد عشر: وأن لا يكون القادر عليه ممنوعًا من فعله بوجود ضد لمقدوره, أو عدم آلة في إيقاعه. كل هذه الشروط عندنا في صفة المأمور باطلة, فمنها شيء قد تقدم

كسر قولهم فيه, نحو صحة دخول فعل المكره تحت التكليف, ومنها ما نبين فساده من بعد ومنها أشياء قد تقصينا نقضها في كتب أصول الديانات تتعلق بالكلام في أحكام الاستطاعة وإعادة الأعراض وبقائها. ويخرجنا الشروع فيه عن غرض الكتاب, وربما لا يكاد يبلغ الفقيه إليها, ونحن نقتصر على ذكر ما لأجله اشترطوا هذه الشرائط الزائدة على ما قلناه, ونقيم الدليل على وجوب قدر ما شرطناه نحن لنقرب الكلام في ذلك. فأما اشتراطهم له صفة زائدة على حدوثه وحسنه تقتضي الأمر به, ولأجل قولهم إن المباح حادث حسن غير أنه لا صفة له تزيد على حسنه تقتضي فيه الأمر به من كونه لطفًا في فعل حسن في العقل أو اجتناب لقبيح فيه, وكذلك المنهي عنه إنما ينهى عندهم عنه لكونه على صفة في القبح تقتضي النهي عنه زائدة على حدوثه, بأن يكون قبيحًا في نفسه أو داعيًا إلى فعل قبيح في العقل وترك واجب فيه. وأما اشتراطهم كونه ثقيلًا شاقًا على المكلف فلأجل قولهم: إنه لا يصح التكليف إلا مع الكلفة والمشقة في تحمل الفعل والانصراف, ومتى لم يكن كذلك لم يصح تكليفه. وأما قولهم: وأن لا يكون حادثًا فلأن الحادث موجود, ومحال عندهم القدرة على موجود, وذلك باطل على قولنا.

وأما اشتراطهم ألا يكون وقته حاضرًا, فلأن ما حضر عندهم وقته ولم يفعل استحال فعله في ذلك الوقت مع عدمه فيه, لأن ذلك يوجب كونه معدومًا موجودًا وذلك محال, واستحال - أيضًا - فعله فيما بعد ذلك لكونه مختصًا بالوقت, وذلك باطل عندنا. وأما قولهم, وأن لا يكون وقته ماضيًا, فلأنه إذا مضى وقته استحال وجوده لاختصاصه - أيضًا - بالوقت إذا كان مما لا يصح بقاؤه. وأما اشتراطهم أن لا يكون الفعل ماضيًا منقضيًا فلقولهم - أيضًا - إنه يستحيل إعادته وتجدد حدوثه بعد تفصيه إذا كان من أفعال العباد باقيًا أو غير باق, ومما يختص بالوقت وذلك محال عندنا. وأما اشتراطهم وجود القدرة عليه فلقولهم إن تكليف ما لا قدرة للمكلف عليه من الله تعالى ومنا قبيح, وهذا أيضًا باطل على أصولنا. وأما اشتراطهم ألا يكون المأمور به مع كونه مقدورًا ممنوعًا منه فلقولهم: إنه القدرة على الفعل قد يجامعها المنع منه وفقد الآلة فيه, وهذا فاسد عندنا. وأما اشتراطهم رفع الإكراه عليه فلما قدمناه عنهم من استحالة

تكليف المكره على الفعل, وقد بينا فساد ذلك. وأما اشتراطهم كونه مرادًا للآمر به فلقولهم: إنه إنما يكون القول أمرًا به لكونه مرادًا للآمر, وهذا القول باطل لما نبينه من بعد. وأما اشتراطهم أن يكون فيه نفع وثواب يصل إليه فاعله, فلأجل/ ص 41 قولهم بوجوب الثواب على الله تعالى, ووجوب فعل الأصلح لعباده وقصد بالتكليف نفع كل مكلف وإن علم أنه يهلك ويعطب, وهذا الأصل - أيضًا - باطل, وإن كان نافعًا بالتكليف لمن المعلوم من حالة القبول وحسن الطاعة. هذه المذاهب هي التي دعتهم إلى إلزام المأمور به هذه الشروط, وهي باطلة كلها. ونحن الآن نذكر الدلالة على قدر ما شرطناه في صفة الفعل. فأما الدلالة على وجوب كونه مما يصح حدوثه فهو لعلمنا بأن ما يستحيل حدوثه من القديم والباقي, واجتماع الضدين, وقلب الأجناس يمتنع دخوله تحت التكليف, لاستحالة حدوثه.

وأما ما يدل على وجوب اشتراط كونه مع حدوثه مما يصح اكتسابه فهو لأنه ليس كل ما حدث يصح أن يقدر عليه العبد ويكون له مكتسبًا أو تاركًا, لأن الأجسام والألوان والقدر والحواس محدثة, وليس مما يصح الأمر به والنهي عنه لاستحالة دخوله تحت قدرة العبد, وإنما قلنا: "وأن يكون مما يصح اكتساب المكلف له"، فلأنه ليس كل شيء يصح أن يكتسب يجوز اكتساب كل مكلف له, لأن كسب زيد لا يصح اكتساب عمرو له, وإن كان مثله ومن جنسه وجنس مقدورات المكلفين لما قام من الدليل على استحالة مقدور لقادرين محدثين وإيجاب ذلك لكونه موجودًا بهما معًا, وذلك محال. وأما الدلالة على وجوب كون الفعل المأمور به معلومًا للمكلف ومتميزًا له في جنسه وصفته ووقته, وأن الله تعالى هو الآمر به, أو أن يكون في حكم المعلوم المأمور به فهو لأنه إنما أمر أن يوقع الفعل طاعة لله تعالى وقربه إليه, وأن يجتنبه إن كان محرمًا على هذا الوجه, ويقصد الإقدام عليه أو الترك له بعينه, ومحال وقوع هذا القصد والتقرب بالفعل أو تركه إلا من عالم به ومميز له من غيره, ومما أمر الله تعالى به وتعبد بفعله فوجب لذلك كونه معلومًا متميزًا للمكلف لكي يصح قصده إليه أو إلى اجتنابه, أو أن يكون في حكم المعلوم المتميز له, ومعنى ذلك أن تكون الأدلة عليه منصوبة ويمكن النظر, ويكون المكلف على صفة من يصح منه الاستدلال بها وإن كان

مع ذلك كافرًا أو جاهلًا بالله وبرسوله, وأنه تعالى مكلف له فعل ذلك, وهذا الشرط مخصوص فيما يجب أن يكون معلومًا للمكلف إذا فعله متقربًا به فأما ما عداه فلا يجب ذلك فيه, على ما سنبينه من بعد. وأما وجه اشتراط كون المأمور به مما يصح كونه مرادًا بإرادة مؤثرة في كونه عبادة وقربة نحو كون السجود عبادة له تعالى, وما يفعل من الضرب جزاء وقصاصًا واحدًا ومستحقًا, وكون الصلاة واجبة وندبًا, وأمثال ذلك فهو لأن من العبادات ما لا يصح كونه طاعة وقربه دون القصد به إلى التقرب وفعله له تعالى, نحو ما قدمناه, وهو أكثر العبادات. والذي يصح كونه طاعة وقربة من غير حاجة إلى إرادة له تعالى به النظر والاستدلال الواقع من العبد في مهلة تكليفه, وكذلك سبيل العلم الأول الواقع لحكم النظر في هذا الباب, ونفس الإخلاص بالعمل والإرادة له به, فإنهما لا يحتاجان إلى إرادة هي إخلاص له, لأنه لا يصح أن يريد وجه الله تعالى وطاعته بالنظر في وجوده وتوحيده من ليس بعارف به, ولو أراده بذلك لكان عالمًا به, ولا يستغني عن النظر في دليل عليه, وكذلك الإرادة له بالعمل, ولو لم يخلص كونهما طاعة وقربة إليه إلا بإرادة له بذلك لاحتاج إلى إرادة للإرادة أبدًا إلى غيرها به, وذلك محال, هذا قدر ما يلزم في صفة فعل المكلف من الشروط.

وإنما يَشترط وجوبَ حدوث المأمور به وكونه مما يصح أن يكون كسبًا للمكلف ومعلومًا له أو في حكم المعلوم مَنْ يُحيل من أهل الحق من جهة العقل تكليفَ العاجز, ومن لا يصح منه فعل ما كلف وتركه, فأما من أجاز ذلك منهم - وإن لم يرد به سمع ولا تعبد في شرع - فإنه لا يوجب في صحة التكليف منه تعالى هذه الشروط على ما قد بيناه في أحكام الاستطاعة والتكليف من الكلام في الأصول, ولو اختصرت هذه الشروط, فقيل يجب أن يكون من شرط المأمور به أن يكون مما يصح اكتساب المكلف له لكان ذلك كافيًا, وكان في ضمنه صحة حدوثه وصحة كونه معلومًا ومرادًا على وجه تؤثر الإرادة في كونه طاعة لأجل أنه لا يصح أن يكتسب العبد إلا حادثًا, وإلا ما يصح مع حدوثه كونه كسبًا, وإلا ما يصح كونه كسبًا له, وإلا ما يصح كونه مقصودًا ومعلومًا له, غير أنا قد بينا ذلك على أوجز ما يكون من الشرح.

باب ذكر جملة أحكام الأفعال الداخلة تحت التكليف وما ليس بداخل تحته

باب ذكر جملة أحكام الأفعال الداخلة تحت التكليف وما ليس بداخل تحته اعلموا - أحسن الله توفيقكم - أن أحكام جميع الأفعال/ ص 43 لا تخرج عن حكمين عقلي وشرعي لا ثالث لهما: فأما الأحكام العقلية الثابتة لها فهي التي تكون عليها في ذواتها من الأحكام والصفات إما لأنفسنا وما هي عليه من أجناسها التي خلقها الله عز وجل عليها, أو لمعان تتعلق بها ضربًا من التعلق. فالأول: نحو كون الفعل حركة وسكونًا وإرادة وعلمًا ونظرًا وأمثال ذلك. والثاني: نحو كون الفعل مقدورًا ومعلومًا ومدركًا ومرادًا ومذكورًا, وأمثال هذا مما يوصف به لتعلق العلم والإرادة والقدرة والذكر بها, وكذلك وصفها بأنها أعراض وحوادث وموجودة - وغير باقية, ونحو هذا إنما هي أحكام عقلية, ولا يجوز أن يثبت لها حكم عقلي لمعان توجد بها وتختص بذواتها لكونها أعراضًا يستحيل حملها لأمثال لها من الأعراض, وذلك نحو استحالة وصفها بأنها متحركة وساكنة وحية وعالمة مريدة, وأمثال ذلك, وكل

الأحكام التي قدمنا ذكرها أحكام عقلية غير شرعية. ومعنى إضافتها إلى العقل أنها مما يعلم كون الفعل عليها بقضية العقل المنفرد عن السمع وقبل مجيء السمع, وكل حكم للفعل علم من هذا الطريق مما ذكرنا وأضربنا عن ذكره فإنه حكم عقلي ليس بشرعي, ولا نعني بذلك أنه لا يصح أن يرد الشرع بالإخبار عن كونها كذلك وتأكيد أدلة العقل على أحكامها, وإنما نعني أنها مما يعلم بها عقلًا, وإن لم يرد السمع, وقد دخل في هذه الجملة سائر أفعال العباد المكلف منهم وغير المكلف, وأفعال سائر الحيوان - أيضًا - لأنها كلها لا تنفك من الأحكام التي ذكرناها. والضرب الآخر من أحكامها أحكام شرعية, وهي التي تختص بها أفعال المكلفين من العباد دون غيرها, وذلك نحو كون الكسب حسنًا وقبيحًا ومباحًا ومحظورًا وطاعة وعصيانًا وواجبًا وندبًا وعبادة لله وقربة وحلالًا وحرامًا ومكروهًا ومستحبًا, وأداء وقضاء ومجزئًا صحيحًا وفاسدًا وعقدًا ماضيًا نافذًا صحيحًا أو باطلًا وفاسدًا فكل هذه/ ص 44 الأحكام الثابتة للأفعال شرعية, لا سبيل إلى إثبات شيء منها والعلم به من ناحية قضية العقل, وهذا هو معنى إضافتها إلى الشرع, لا معنى لها سوى ذلك, غير أنه لا يمكن أن يعرف أحكامها الشرعية إلا كامل العقل ومستدل بعقله على صحة السمع, وصدق مورده, وتلقي التوقيف على هذه الأحكام من جهته, ولولا ورود السمع بها لما علم بالعقل شيء منها لما نبينه وندل عليه من بعد.

فإن قال قائل, فإذا صح عندكم ورود السمع بالأخبار عن هذه الأحكام العقلية وكونه طريقًا إلى العلم بها أو إلى تأكيد العلم بها كما يصح أن يعلم عقلًا, فلم قلتم هي عقلية دون أن تقولوا هي أحكام شرعية أو تقولوا هي عقلية شرعية لحصول العلم بها من الطريقتين؟ يقال له, أما من قال لا تعلم أحكامها هذه بالسمع, وإنما يجب أن تعلم عقلًا, وإنما يرد السمع بتأكيد أدلة العقل فقد يسقط عنه هذا الإلزام, لأنه يجعل معنى هذه الإضافة إلى ما يعلم الحكم به, وإن لم يكن بسمع, وإذا لم يقل ذلك, قلنا: إنما وجه إضافتها إلى العقل دون السمع أمران: أحدهما: إنها أحكام معلومة بالعقل قبل ورود السمع, ولو لم يرد سمع أصلًا لكانت إضافتها لذلك إلى العقل أولى. والوجه الآخر: إنها تعلم بالعقل لو لم يرد السمع, ولا يصح أن تعلم بالسمع لو لم تثبت بالعقل, فصارت إضافتها لأجل ذلك إلى العقل أولى. فأما قول المطالب فهلا قلتم إنها شرعية عقلية, فإن أراد به أنها لا تعلم إلا باقتران العقل والسمع أو بكل واحد منهما وإن لم يحصل الآخر, فذلك باطل, لأنها تعلم وإن لم يقترنا وتعلم بمجرد العقل لو فرض عدم السمع, ولا يصح أن تعلم بالسمع لو فرض عدم العقل.

فإن أراد بذلك أنها تعلم عقلًا ويصح أن تعلم سمعًا أو يؤكد السمع الأدلة العقلية عليها كان ذلك صحيحًا, ولا معتبر بالعبارات والإطلاقات.

باب البيان عن الأمر المطلوب علمه بالنظر في أدلة الفقه وأصوله

باب البيان عن الأمر المطلوب علمه بالنظر في أدلة الفقه وأصوله اعلموا أن المطلوب بالنظر في أصول الفقه وأدلته إنما هو حكم فعل المكلف الشرعي/ ص 45 دون العقلي, نحو كونه حسنًا وقبيحًا ومباحًا ومحظورًا وطاعة وعصيانًا وواجبًا وندبًا وطلقًا حلالًا, وصحة العقد والتمليك, أو فساد ذلك, وكل هذه أحكام للفعل, وليس هي ذات الفعل الذي يوجد عاريًا من هذه الأحكام عند زوال التكليف, وتعلم ذاته وسائر أحكامه وأوصافه العقلية وإن لم يرد السمع فيه بحكم من الأحكام. وزعم قوم أن حكم الفعل المطلوب بالسمع وما انتزع واستخرج منه, إنما هو ذات الفعل ونفسه, وهذا جهل من قائله, لأن وجود الفعل وذاته وجميع ما هو عليه من الصفات الراجعة إليه معلوم قبل السمع, على ما بيناه من قبل, فبطل قولهم.

وقد اعتلوا لذلك بضرب من الجهل - أيضًا - فقالوا: يدل على ذلك أنه لو توهم عدم الفعل, لعدمت سائر أحكامه هذه, فوجب أن تكون أحكامه هي هو, وهذا باطل, لأنه قول يوجب أن تكون جميع صفات الأجسام وأحكامها وأقوالها وأفعالها هي هي, لأنه لو تصور عدم الجسم لعدمت أقواله وأكوانه ونواهيه وأوامره وجميع متصرفاته فيجب لذلك أن تكون أفعاله وتصرفه وسائر صفاته هي هو, ولما لم يجب ذلك باتفاق فسد ما ظنوه. على أن يقال لهم: فهلا استدللتم على أن أحكام الفعل ليس هي ذات الفعل بالاتفاق, على أنه لا يجب انتفاء الفعل بانتفاء أحكامه الشرعية من نحو كونه حلالًا وحرامًا وما جرى مجرى ذلك, ولا جواب لهم عنه. واستدلوا - أيضًا - على أن حكم الفعل هو الفعل بأن حكمه هو كونه حلالًا وحرامًا, قالوا والكل يقولون هذا الفعل حلال وهذا حرام, فيجعلون نفس الفعل هو الحلال والحرام, فوجب أن يكون حكم الفعل هو الفعل. وهذا باطل, لأنه لا معتبر بالإطلاقات التي منها حقيقة ومنها مجاز وإنما يصفون الفعل بأنه حلال وحرام على معنى أنه محلل ومحرم ومحظور ومندوب إليه وموجب, والتحليل والتحريم والندب والإيجاب هو حكم الله تعالى وإخباره عن الشيء بأنه قد جعله كذلك, وهو غير الفعل وعلى أنه لو سلم أن الحلال والحرام هو الفعل لوجب أن يكون هذا الحكم ثابتًا له لمعنى يتعلق به, وهو حكم الله تعالى, فالمطلوب لا محالة حكم في الفعل وصفة حاصلة له بالسمع دون ذاته, وما هو عليه مما هو معلوم بمجرد العقل فبطل ما قالوه.

باب في أقسام الفعل الداخل تحت التكليف

باب في أقسام الفعل الداخل تحت التكليف ونقول إن جميع أفعال المكلف الداخلة تحت التكليف - دون ما يقع منه في حال الغلبة وزوال التكليف - لا يخلو من قسمين لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما: أحدهما: للمكلف أن يفعله والآخر ليس أن يفعله, ولا يجوز أن يقال أن بينها ما لا يقال له فعله ولا ليس له فعله, وذلك معلوم بضرورة العقل, كما يعلم بأول فيه أن المعلوم لا يخرج عن عدم أو وجود, وأن الموجود لا يخرج عن قدم أو حدث, والذي له فعله منها حسن كله, وهو ينقسم إلى مباح وندب وواجب, وسنبين حدود ذلك من بعد, والذي ليس له فعله هو القبيح المحرم الإقدام عليه, وكل مكلف له فعل شيء مما وصفنا فلا يجوز أن يكون له بحق الملك والاختراع وإنشاء الأعيان الذي لله تعالى التصرف فيها بحق الربوبية واستحقاق العبادة, وإنما يكون للمكلف الفعل على وجه ما حده له مالك الأعيان وأذن له فيه, ومتى قيل أن للمكلف وغيره من الخلق شيئًا من الذوات نحو الأمة والعبد والريع, فإنما معنى ذلك أن

له التصرف فيه والانتفاع بقدر ما أذن له المالك تعالى وحده, وتعدي ذلك ظلم منه ومحظور عليه.

باب القول في الحسن والقبيح من فعل المكلف وطريق العلم بذلك

باب القول في الحسن والقبيح من فعل المكلف وطريق العلم بذلك والقول حسن أحسن من حسن وقبيح أقبح من قبيح قد قلنا من قبل أن كل/ ص 47 ما للمكلف فعله فإنه حسن, وكل ما ليس له فعله فإنه قبيح, واعلموا أنه ليس تحت وصف فعل المكلف بأنه حسن أو قبيح صفة هو في نفسه عليها يستحقها لذاته وجنسه, أو لمعنى يقوم به, أو لوجه هو في العقل عليه على ما يقوله القدرية, وأن الحسن في نفسه نحو العلم والعدل والإنصاف وشكر النعمة, وما يجري مجرى ذلك, والقبيح في نفسه نحو الظلم والجهل وكفران النعمة, وأمثال ذلك, وما يدعو في المعلوم إلى فعل الحسن ولا يعلم كونه داعيًا إلى ذلك إلا بالسمع, نحو الصلاة

والحج والصيام, وغير ذلك من الواجبات والقرب التي لا يعلم وجودها عقلًا والداعي إلى فعل القبيح كالزنا واللواط وشرب الخمر وترك الصلاة والفرائض السمعية, هذا جملة الحسن والقبيح العقليين والشرعيين عندهم. ولا أصل لهذا عند أهل الحق, بل العقل لا يحسن شيئًا في نفسه لما هو عليه من الصفة والوجه, ولا شيئًا يدعو إلى ما هذه سبيله, ولا يقبح شيئًا في نفسه وما هو عليه, ولا شيئًا يدعو إلى فعله, كل هذا باطل لا أصل له, وإنما يجب وصف فعل المكلف بأنه حسن وقبيح إنه مما حكم الله بحسنه أو قبحه.

فصل: معنى حسن أحسن من حسن, وقبيح أقبح من قبيح

ومعنى حكمه بذلك ليس هو إخباره تعالى عن صفة هو في العقل عليها, وإنما معناه أمره لنا بمدح فاعل الحسن وتعظيمه وحسن الثناء عليه والعدول عن ذمة وانتقاصه, لا معنى لوصفه بأنه حسن أكثر من ذلك. وكذلك معنى وصف الفعل/ ص 48 بأنه قبيح إنه مما أمرنا الله تعالى بذم فاعله وانتقاصه وسوء الثناء عليه به, وقد يدلنا على حكمه فيهما بذلك بخبره عن أنه قد حكم به, ويدل عليه بأمره بالحسن ونهيه عن القبيح المحرم, لإجماع الأمة على ذلك بحسنٍ ما وحكمه بما أمر بفعله وحكمه بقبح ما حرمه بالأمر والنهي في الدلالة على هذين الحكمين بمثابة الخبر عن الحكم بذلك. فصل فأما معنى قولنا حسن أحسن من حسن, وقبيح أقبح من قبيح, فإنما هو أن الذي أمرنا به من تعظيم فاعل ما قيل أنه أحسن والمدح له والثناء عليه أكثر مما أمرنا به في فاعل ما هو دونه في الحسن, ومعنى قولنا هذا أنقص رتبة في الحسن أن ما يلزمنا من المدح والتعظيم عليه أقل, وكذلك معنى قولنا في أقبح القبيحين أنه أقبح أن المأمور به من الذم والانتقاص والإهانة في أقبح القبيحين أكثر ذمًا مما أمرنا به في الأدون, لا معنى لقبيح أقبح من قبيح أكثر من هذا.

فصل: لا مجال للعقل في تقبيح شيء من الأفعال أو تحسينه

فصل فأما ما يدل على أنه لا مجال للعقل في تقبيح شيء من الأفعال أو تحسينه, فقد بيناه وكشفناه في كتب أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. ومن أقرب ما يدل على ذلك أنه لو كان طريق العلم بحسن شيء من ذلك أو قبحه العقل لم يخل أن يكون معلومًا بضرورة العقل أو دليله, ومحال أن يكون معلومًا بضرورته مع جحدنا وجحد أكثر العقلاء للعلم بقبح شيء من جهة العقل, وقول سائرهم بأنا لا نعلمه إلا بدليل السمع, لأن ما علم بضرورة العقل, فالعقلاء فيه مشتركون, ولا يجوز أن يجمع على جحده منهم قوم بهم ثبتت الحجة وينقطع العذر, ويعلم صدقهم ضرورة فيما يخبرون عنه. فبطل بذلك أن يكون معلومًا بضرورة العقل, وقد اتفقنا وإياهم على أنه غير معلوم بأدلة العقل, لأنه لو كان ذلك كذلك لصح أن يجهل حسن العدل والإنصاف وشكر المنعم وقبح الظلم والعدوان وكفران الإنعام كثير من العقلاء إذا قصروا في النظر أو عدلوا عنه جملة وهذا باطل عندهم, فثبت بذلك أنه لا سبيل لهم إلى علم شيء من ذلك من جهة العقل. وقولهم بعد هذا: أنتم تعلمون قبح هذه الأمور وحسنها عقلًا وضرورة وتظنون أنكم تعلمون ذلك دليلًا وسمعًا, لأن العلم بأن العلم ضرورة أو كسب طريقه النظر لا الضرورة بمثابة قولنا لهم بل أنتم تعلمون ذلك كسبًا ونظرًا ودليلًا, وإنما تظنون أنكم تعلمون ذلك عقلًا واضطرارًا, لأنه قد غلط قوم واعتقدوا أن كثيرًا من علوم الاكتساب علوم ضرورية, كما اعتقد قوم أن بعض العلوم الضرورية علوم كسبية, وهذا اعتقدوه وإن وصفوا العلوم

الضرورية أنها علوم كسبية, وهذا ما لا فصل فيه. فإن قالوا: إنما ينفصل قولنا من قولكم باتفاقنا على أن كل عاقل يعلم حسن ما قلناه وقبحه, ولو كان ذلك معلومًا بنظر لاختلف العقلاء فيه, وهذا علامة كون العلم بالشيء معلومًا ضرورة, وهو أن لا يختلف العقلاء في العلم به. يقال لهم: متى سلم لكم أن جميع العقلاء ممن علم صحة السمع وأقر به, ومن جهله وأنكره من الملحدة وغيرهم, يعلم حسن حسن وقبح قبيح من الأفعال, وهؤلاء جميعًا أعني من جهل السمع غير عالمين عندنا بقبح فعل ولا بحسنه وإن اعتقدوا ذلك من غير جهة العلم, وإذا لم يسلم ذلك بطل ما قالوه. فإن قالوا: أردنا اعتقاد جميع العقلاء كذلك, لا العلم به. قيل لهم: ولم قلتم إنه إذا أجمع جميع العقلاء على اعتقاد شيء وبعضهم عالم به, وبعضهم غير عالم به وجب أن يدل ذلك على أن العلم بذلك الشيء ضرورة, وإنما يعلمه منهم من استطرق إليه بطريقة دون من اعتقده ظنًا وتقليدًا, فلا يجدون إلى تصحيح دعواهم هذه طريقًا. ويقال لهم: نحن لا نعلم أن جميع العقلاء يعتقدون حسن ما ادعيتم وقبحه, فلا وجه لدعواكم هذه. ويقال لهم: فقد اعتقد جميع أهل الملل, وكل من خالف الدهرية إثبات الصانع وحدوث العالم, واعتقد جميع مثبتي النبوات من أهل كل ملة صحة بعثة الرسل وصدقهم, وببعضهم يثبت التواتر, فيجب أن يستدلوا

بذلك على أنهم مضطرون إلى العلم بما اعتقدوه من ذلك وأنه لا مقلد فيهم. فإن مروا على ذلك تركوا دينهم, وإن أبوه, وقالوا: هؤلاء قد استدلوا على علم ما اعتقدوه مع كثرة عددهم, أو أكثرهم مستدل ومنهم المقلد والظان في اعتقاده. قيل لهم: مثل ذلك في جميع العقلاء المعتقدين لحسن ما ذكروه وقبحه ولا فرق, وإلا فما الفصل بين إجماع أمم عظيمة وأهل أقاليم على اعتقاد شيء وبين إجماع جميع الناس في هذا الباب؟ فإن قالوا: لو كان طريق العلم بحسن هذه الأمور وقبحها السمع دون العقل لوجب أن لا يعلم ذلك منكروا السمع والجاهلون بصحته. قيل لهم: كذلك هو, وإنما يعتقدون ذلك ظنًا وتقليدًا لأهل الشرائع, وعلى حسب اعتقاد جميع العامة عندكم للتوحيد والنبوة, وإن لم يكونوا لذلك عالمين, لأن من لم يعتقد الشيء من بابه وبدليله لم يصل أبدًا إلى علمه, ولا طريق إلى العلم بحسن الحسن وقبح القبيح إلا السمع.

فإن قالوا: لو لم تعلم هذه الأمور بالعقل لم يعلم به شيء أصلًا. يقال لهم: ولو تعلم هذه الأمور بالسمع لم يعلم شيء أصلًا, ولو لم يعلم بالعقل قبح شرب الخمر ووجوب الصلاة والصيام لم يعلم به شيء أصلًا, ولو لم يعلم بعض الأشياء بضرورة العقل لم يعلم بها شيء أصلًا. ولو لم يعلم بدليله كثير من الأشياء لم يعلم به شيء أصلًا, فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتم ولا مخرج لكم من ذلك, ولسنا نعني - وفقكم الله - بقولنا إنه لا يعلم بضرورته ولا بدليله حسن الفعل ولا قبحه, إنه لا يعلم به/ ص 51 حسن نظم الكلام وقبحه, وحسن رمي المؤمن للكافر والكافر للمؤمن ودقته وإصابته, ولا نريد أنه لا يعلم بالحواس حبس الحلق والأصوات وقبح ذلك الذي تنفر عنه النفوس, وإنما نريد أنه لا يعلم وجوب الذم والمدح والثواب والعقاب على الأفعال, وكذلك فما نريد بذلك أن العاقل الحساس لا ينفر من ضربه وإيلامه وتجريده للحر والبرد, ولا يميل إلى التذاذه وإطعامه وإسقائه ودفع الضرر والحر والبرد والآلام عنه, وأنه لا يألم بضرب السيف والكي بالنار, ولا يميل إلى أكل طيب الطعام وشرب لذيذ الشراب, هذا جهل من

راكبه, ولكن ليس يقول مسلم أن العلم على حسن الشيء ميل الطبع إليه وعاجل النفع به, والعلم على قبحه نفور الطبع عنه, ولا أن ذلك هو معنى وصف الحسن والقبيح بأنه حسن وقبيح, لأن الطباع تميل إلى ترك النظر والبحث والاسترسال إلى الراحة, وإمراج النفس في شهواتها ودفع الألم بالنظر وغيره عنها, وتميل إلى الزنا واللواط وشرب الخمر والتبسط في أملاك الغير, كل ذلك قبيح مع ميل الطبع إليه, وعاجل النفع به, وكذلك فهي تنفر عن النظر وكد القلب بدقيق الفكر في أدلة التوحيد, وعن الصيام في أيام القيظ والصلاة, وعن الحج والسعي وسائر العبادات. وليس ذلك بدليل على قبحها, فالمسلم لا ينبسط لتحقيق معنى الحسن والقبيح بهذا. وكثير من القدرية وإخوانهم من المجوس والبراهمة وأهل الدهر يرجعون في معنى الحسن والقبيح إلى هذا, وهو خلاف دين المسلمين, وهذه جملة في معنى الحسن والقبيح وطريق العلم بهما كافية إن شاء الله.

باب أقسام ذكر الحسن والقبيح من الأفعال

باب أقسام ذكر الحسن والقبيح من الأفعال/ ص 52 وما للفاعل فعله منها وما ليس له فعله قد قلنا من قبل, إن جميع أفعال المكلف إما أن يكون له فعلها أولًا يكون له ذلك, وهي كلها بعد ذلك تنقسم على ثلاثة أقسام لا رابع لها: فضرب مأمور به, وضرب منهي عنه, وضرب منها مباح مأذون فيه, والمأمور به منها على ضربين: واجب وندب. فالواجب: هو الموصوف بأنه واجب أن يفعل. والمندوب إليه: يوصف بأنه الأولى أن يفعل والأفضل, ونحو ذلك. والمنهي عنه - أيضًا - على ضربين: فضرب منه محرم محظور, وهو الموصوف بأنه يجب تركه واجتنابه ومنهم من يقول هو الذي يجب أن لا يفعل

من غير ذكر ترك واجتناب له, بناء على تجويز خلق المكلف من الفعل والترك, وذلك باطل بما قدمناه. والضرب الآخر من المنهي عنه منهي عنه على سبيل الندب والفضل, لا على وجه التحريم والحظر لتركه, ويوصف هذا الضرب بأنه الأولى والأفضل ألا يفعل, والأفضل الأولى فعل تركه والاجتناب له. فأما المباح فقسم مخالف لهما, وهو المأذون فيه الذي لا يوصف بأنه يجب أن يفعل, والأولى والأفضل أن يفعل, أو يجب أن لا يفعل, والأفضل أن لا يفعل, إذ كان فعله وتركه سيان, وليس في فعل المكلف شيء خارج عن هذه الأقسام.

باب القول في حد المباح من الأفعال, وهل هو داخل تحت التكليف أم لا؟

باب القول في حد المباح من الأفعال, وهل هو داخل تحت التكليف أم لا؟ فإن قال قائل: ما حد المباح ومعنى وصفه بذلك؟ قيل له: حده إنه "ما ورد الإذن من الله تعالى فيه وتركه غير مقرون بأمر بذم فاعله أو مدحه, ولا بذم تاركه ولا بمدحه" ولا يحتاج في ذلك إلى القول: "غير مقترن بوعد على فعله بثواب أو على تركه بعقاب" لأن الله تعالى لو أوجب علينا فعلًا/ ص 53 أو حرمه علينا من غير وعد بثواب عليه أو عقاب على تركه لكان واجبًا أو محرمًا بإيجابه وتحريمه وإن لم يكن فيه ثواب ولا عقاب, فإذا قلنا هو المأذون من قبل الله تعالى في فعله, على هذا الوجه فصلنا بينه وبين فعل الله, لأنه ليس بمأذون له فيه, وبين الواجب والندب من أفعالنا وبين أفعال الأطفال والبهائم والمجانين, لأنها غير مأذون لهم فيها. ويصح أن يحد المباح بأنه: "ما أعلم فاعله من جهة السمع أنه لا نفع

له في فعله ولا ضرر عليه في تركه من حيث هو ترك له". وهذا - أيضًا - حد يفصله من فعل القديم, وفعل كل من ليس بمكلف, لأنه تعالى غير معلم بحكم ذلك من فعله من جهة سمع, ولا من ذكرنا حاله ممن ليس لمكلف من المنتقصين. فإن قيل: ما معنى قولكم: ما أعلم فاعله ذلك من حكمه من جهة السمع؟ قيل له: لأن العاقل يعلم أنه لا ضرر عليه في ترك الفعل ولا نفع له فيه من جهة العقل, ولا يوصف فعله بأنه مباح. فإن قيل: فما معنى قولكم: حده ما أعلم فاعله أنه لا ضرر عليه في تركه من حيث هو ترك له. قيل له: لأجل أنه لو ترك تارك المباح بفعل المعصية الحرام لكان معاقبًا على ذلك ومستضرًا به, لا من حيث كان تاركًا للمباح ولكن من حيث كان في نفسه محظورًا. وقد حد كثير من الناس المباح بأنه "ما كان فعله وتركه سيان" وهذا باطل, لأنه يوجب كون فعل القديم تعالى مباحًا, لأن فعله وتركه سيان في أنه لا نفع له ولا ضرر عليه في فعله ولا تركه إن كانوا أرادوا بتساويهما هذا الوجه, وإن أرادوا تساويهما في المصلحة, فذلك - أيضًا - باطل, لأنه قد تستوي كثير من أفعال القديم وتروكها وأضدادها في المصلحة, فيجب كون

فعله مباحًا, وذلك باطل باتفاق, ويبطل ذلك بعلمنا بأن أفعال المكلفين قبل السمع قد تستوي وتروكها في عروها من نفع وضرر ولا تكون مباحة, وكذلك أفعال البهائم والمنتقصين.

باب القول في حد الندب

باب القول في حد الندب فأما حد الندب فإنه "المأمور به الذي لا يلحق الذم والمأثم بتركه من حيث هو ترك له على وجه ما، وما لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى فعل بدل له". وكل ندب فهذه حاله. وهذا أولى من قول من قال: "هو المأمور به الذي ليس بمنهي عن تركه" لأن المندوب منهي عن تركه على وجه ما الآمر آمر به، علي ما نبينه من بعد. ولو حُد بأنه " ما كان فعله خيراً من تركه من غير ذم ومأثم يلحق بتركه" لم يكن بعيداً والأول أولى، لأنه قد يكون الفعل الواقع من الفاعل

قبل ورود السمع خيرا له من تركه من غير مأثم ولا ذم يلحقه بتركه، وإن لم يكن ندباً فوجب أنه لا بد من ذكر الأمر به. فأما من حده من القدرية بأنه " ما إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه". أو " بأن لا يفعله" وإن لم يفعل له تركاً". فإنه حد باطل، لأنه يوجب أن يكون التفضل والإحسان من فعله تعالى ندباً لأنه يستحق المدح والتعظيم بفعله ولا يستحق الذم بأن لا يفعله. فلما بطل وصف فعله بالندب بطل هذا الحد. فإن قالوا. فما أنكرتم من كون التفضل من فعله تعالى / ص 55 لمعنى الندب، وإن لم يوصف بذلك اتباعاً للسمع؟ يقال لهم، إن جازت هذه الدعوى جاز أن يقال: إن من أفعاله ما هو بمعنى المباح وإن لم يوصف بذلك وبمعنى الفرض الواجب اللازم وإن لم يوصف بذلك، وهم يصرحون بوجوب بعض الأفعال عليه من الثواب على الطاعة والتمكين مما أمر به، ونحو هذا، وإنما يمتنعون وسائر الأمة عن وصف شيء من أفعاله بأنه مباح. فإن قالوا. إن المباح ما تعلق بإباحة مبيح وإذن آذن، والله تعالى لا مبيح عليه ولا آذن. قيل لهم، وكذلك الندب والواجب هما ما تعلقا بإيجاب موجب وأمر نادب مرشد. والله تعالى لا آمر عليه ولا مكلف. فلم يجز وصف شيء من أفعاله ببعض هذه الصفات والحكم لها ببعض هذه الأحكام.

باب القول في حد الواجب ومعناه

باب القول في حد الواجب ومعناه أما حد الواجب فإنه " ما وجب اللوم والذم بتركه من حيث هو ترك له". أو بأن لا يفعل على وجه ما " وهذا القدر كاف في حده، من غير حاجة إلى القول: بأنه " ما يجب مدح فاعله وإثباته [؟ وإثابته] ولحوق الذم بتركه" لأن الندب مشارك للواجب في استحقاق المدح والثواب بفعله وليس بواجب ولكنه مفارق له في سقوط الإثم والذم بتركه فوجب انفصاله من الندب والمباح والحرام، بلحوق الذم بتركه على وجه ما. وإن حد بأنه " ما يستحق الذم بتركه وترك البدل منه" جاز ذلك. وما قدمناه أولى، لأنه منتظم لهذا المعنى. وقولنا، ما يستحق الذم بتركه علي وجه ما ليفصل بينه وبين المباح والندب وكل ما ليس بواجب، لأن ذلك أجمع مما لا يستحق الذم بتركه على وجه ما. والواجب المضيق المستحق والمعين. يستحق الذم بتركه لا محالة، والواجب الموسع وقته والساقط إلى بدل يستحق الذم بتركهما على وجه ما إذا جمع بين تركه وترك البدل منه إن كان ذا بدل / ص 6 وإذا ترك مع تضييق وقته إن كان موسعاً أو مع غلبة الظن لفواته إن كان متعلقاً بالذمة غير

فصل في أن الواجب هو الفرض

مؤقت بوقت يتضيق فيه. وهذا معنى قولنا على وجه ما. وقد أنكر قوم أن يكون العزم على فعل الصلاة في آخر الوقت بدلاً من فعلها وذلك صحيح، وإنما هو بدل من تقديم فعلها، ولو كان بدلاً منها لسقطت بفعل العزم على أدائها. فصار قولنا " ما استحق الذم بتركه على وجه ما" أولى. فصل في أن الواجب هو الفرض قولنا واجب وفرض ولازم وحتم واحد. أما ما يقوله أهل العراق من أن في الواجب ما ليس بفرض، وإن كان كل فرض واجباً فإنه قول لا وجه له.

ولو أنهم قالوا: إن من الفرض ما ليس بواجب لكان ذلك أولى وأقرب، لأن الفرض هو التقدير مأخوذ ذلك من فرض القوس ومن فرائض الصدقة، وفرائض المواريث الذي هو تقدير الواجب منها. وقد يقدر النفل من الفعل، وتمتيع المطلقة، وغير ذلك فلا يكون واجباً لتقديره ويوصف بأنه فرض. والواجب اللازم الذي لا محيد عنه مأخوذ ذلك من وجوب الحائط إذا سقط، وليس كل فرض واجبا فصار قلب ما قالوه أولى. وأعلموا - وفقكم الله- أنه ربما حصل الخلاف في ذلك خلافاً في عبارة، وربما حصل في معني. فالخلاف في العبارة أن يقولوا نريد بقولنا: الوتر واجب وليس بفرض، أنه سنة مؤكدة. وأن الثواب عليها والمدح لفاعلها أكثر منه ما قصر عن رتبته، وهذا صحيح غير منازع فيه، لأنه لا خلاف في أن / ص 7 من المسنون ما بعضه آكد من بعض وأجزل ثواباً. وأما الخلاف في المعني فهو ما حصله متأخروهم من أن معني الواجب الذي ليس بفرض أنه ما علم وجوبه من وجه وطريق غير مقطوع به علي الله تعالي، ولا يكفر من أنكره ورده. والواجب الفرض كالصلوات الخمس، وكل ما علم وجوبه بطريق يقطع به على الله تعالي ويكفر من جحده ورده. ويخرج بجحده عن طريقة التأويل، وهذا خطأ من قولهم، لأجل أن قول القائل القائل إن وجوب الشيء معلوم بطريق لا يقطع به على الله خطأ، وذلك لأن ما علم وجوبه فلن يجوز أن يكون طريق العلم بوجوبه إلا ما يقطع به على الله

تعالى، وكل طريق للعلم بحكم من الأحكام واجباً كان أو ندباً أو مباحاً، فإنه لا يكون إلا معلوماً مقطوعاً به على الله تعالي. فقولهم "هو ما علم وجوبه" يقتضي العلم بوجوبه والقطع به علي الله تعالي. وقولهم. " من طريق لا يقطع به علي الله تعالي" نقض لقولهم: "إن وجوبه معلوم" فبان ظهور الغلط في هذا الكلام وكل طريق ليقطع بموجبه علي الله تعالي، فهو طريق للظن لوجوبه لا للعلم بذلك من حاله. فإن قالوا. لم نرد هذا، وإنما أردنا أن من الواجبات ما يعلم وجوبه ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وسلم كالحج والصلوات الخمس، ومنه ما يعلم وجوبه بدليل لا يكفر من رده وتأوله وجهل موجبه لموضع خفائه والتباسه كوجوب العمل بخبر الواحد والقياس في الأحكام، والحكم بصحة الإجماع ووجوب/ ص 58 الوتر ونحوه، فهذا واجب وليس بفرض، لأن الدليل علي وجوبه مشتبه، والأول غير ملتبس ولا مختلف فيه. يقال لهم، أما فصلكم بين ما علم وجوبه ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما علم وجوبه بدليل، وبين ما علم بجلي من الأدلة متفق عليه، وبين ما علم بطريق ملتبس فأمر لا خلاف فيه بين أهل العلم, وأما قولكم. إن ما علم وجوبه بطريق ملتبس ومختلف فيه واجب ليس بفرض فإنه غلط، لأن الواجب إذا كان واجباً في نفس يلحق المأثم بتركه سواء كان الطريق إلي وجوبه جلياً أو خفياً ملتبساً أو واضحاً مختلفاً فيه أو متفقاً عليه، فلا معتبر بطريق العلم إلي وجوبه وإن اختلفت في مراتبها ونصيتها. وإنما المعتبر بكون الشيء مفروضاً في نفسه، ولا يجب أن يكون

ما علم وجوبه من دين النبي صلى الله عليه وسلم بدليل يمكن التأويل في مثله والغلط في اعتقاد موجبه، وما علم بالخفي من الأدلة وبالجلي منها مخالف في كونه واجباً فرضا لما علم وجوبه من دينه صلى الله عليه وسلم ضرورة وباتفاق من الأمة، بل هما واجبان مفروضان وإن اختلفت الطرق إلي العلم بوجوبها. وفعلهم هذا يوجب أن لا يكون الفرض من دين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما علم وجوبه ضرورة، وباتفاق من الأمة، وطريق غير سائغ فيه التأويل. وهذا يوجب أن [لا] يكون فرض العامي الرجوع إلي قول المفتي، لأن ذلك مختلف فيه، ولا يكون فرض العالم العمل بالقياس وخبر الواحد والإجماع والعموم، لأن ذلك مختلف فيه وغير معلوم صحته بضرورة ولا اتفاق. وأن لا يكون ترك استباحة الدار وقتل الذراري والأطفال فرضاً في الدين لأنه مختلف فيه، والخوارج متأولة في دفعه وغير عالمة بتحريمه ضرورة. ويجب - أيضاً- أن لا يكون اعتقاد التوحيد والنبوة فرضاً، لأنه ليس بمعلوم ضرورة والدليل /ص 59 عليها أخفي وأشد التباسا، ولما بطل هذا أجمع بطل ما قالوه. ولو سلمت دعواهم هذه لساغ لغيرهم أن يقول إن الواجب الذي ليس

بفرض ما علم ضرورة وبطريق غير مختلف فيه. والواجب الفرض ما علم بطريق تحتمل التأويل، ولا يكفر من رده فلا يجدون في ذلك فصلاً. وقد حكي عن قوم أنهم قالوا: الفرض من الواجبات: " ما نطق القرآن بوجوبه دون ما تقرر وجوبه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم عن وحي ليس بقرآن، وما وقع باجتهاده صلى الله عليه وسلم. وهذا باطل، لأن القرآن قد نطق بالندب في الأفعال- كما نطق بالواجب الفرض- في قوله تعالي {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} {وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} {ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ} في أمثال هذا. ونطقت السنة بالواجب الفرض من فرض النية في الصلاة، وتقدير دية الأصابع، ووجوب الدية علي العاقلة. ووجوب كثير من قصاص الجنايات، إلي ما يكثر تتبعه من الفرائض الثابتة بالسنة، فبطل ما قالوه، وثبت أن الواجب هو الفرض.

باب القول في معني وصف الفعل بأنه مكروه

باب القول في معنى وصف الفعل بأنه مكروه اعلموا أن معني وصف الفعل بأنه مكروه ينصرف إلي وجهين لا ثالث لهما: أحدهما، أنه منهي عن فعله نهي فضل وتنزيه، ومأمور علي وجه الندب بأن يفعل غيره الذي هو أولي وأفضل منه، وذلك نحو كراهتنا لترك صلاة الصحي وقيام الليل والنوافل المأمور بفعلها، فيقال للمكلف نكره لك ترك

هذه الأمور، والمراد بذلك أن فعلها أفضل من تركها، لأن في فعلها ثواباً، ولا ثواب في تركها. والوجه الآخر. وصف المختلف في حكمه بأنه مكروه نحو وصف التوضي / ص 60 بالماء المستعمل بأنه مكروه لموضع الخلاف في جواز التوضي به، ونحو التوضي بسؤر الهر مع القدرة على غيره لأنه أفضل، ونحو أكل لحوم السباع وما يجوز أكله، واتفق علي أن العدول عنه وأكل غيره أولي في أمثال هذا، مما العدول عنه إلي غيره أحوط وأولي وأفضل، وإنما يجب أن يقال في مثل هذا إنه مكروه في حق من رأي أن ذلك لا يجوز ولا يقال أنه مكروه علي الإطلاق، وسيما مع القول بأن كل مجتهد مصيب في فروع الدين، وأن الحق في جميع الأقاويل، وليس من دأب الفقهاء أن يصفوا ما أمرنا به مما ليس غيره أفضل منه ولا ما قطع الدليل علي تحريمه بأنه مكروه، فلذلك لا يجوز أن يقال في شيء من الفرائض والنوافل ولا في المباح المطلق أنه مكروه، ولا يصفون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر بأن مكروه لما كان مقطوعاً علي تحريمه. وقد يقال في الفعل إنه مكروه إذا اختلف في تحليله وتحريمه اختلافاً حاصلاً مع عدم النص القاطع علي أحد الأمرين، بل واقع فيه من جهة الاجتهاد وغلبة الظن. فيقال في مثل هذا إنه مكروه فعله عند من أداه الاجتهاد إلي تحريمه وكان القول بذلك من فرضه، وتجويزه لغيره القول بتحليله إذا كان ذلك من جهد رأيه فيكون ذلك مكروها في حق العالم

وفرضه. وغير مكروه في حق غيره إذا اختلف اجتهادهما. لا وجه لقولهم مكروه سوى ما ذكرناه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الأمر المشتبه: ((حلال بين وحرام بين، وأمور بين ذلك متشابهات لا يعلمها إلا قليل)). وقال عليه السلام لوابصة: ((يا وابصة استفت نفسك وإن أفتاك المفتون)) أي خذ بالحزم والحذر وتجنب ما حاك في صدرك وارجع إلى الاجتهاد والنظر، واعدل عن التقليد، وهذا لا يكون إلا خطاباً للعالم، ولم يرد عليه السلام بقوله ((متشابهات)) أنه لا دليل عليها ولكنه أراد غموض الدليل وخفاءه، فلذلك/ ص 61 قال: ((لا يعلمها إلا قليل)) ولو لم يكن عليها دليل لم يعلمها قليل ولا كثير، وكره للمرء الإقدام على ما حاك في صدره وخاف الزلل فيه وظن إصابة دليل قاطع عليه فلم يجب عليه الكف عن ذلك أحياناً.

فأما وصف الفعل الواقع بأنه مكروه لله وقوعه واكتساب العبد له، فذلك باطل. لأنه تعالى الخالق لجميع أفعال العباد والمريد لإيجادها، وقد يوصف بأنه كاره للقبائح منها على معنى أنه كاره لكونها ديناً مشروعاً وكاره لوقوعها من الأنبياء والملائكة عليهم السلام، وممن علم أنها لا تقع منه، فأما من علم وقوعها منه على غير ذلك فباطل.

باب ذكر معاني عبارات الفقهاء والمتكلمين في وصف الفعل بأنه صحيح وفاسد ونحو ذلك

باب ذكر معاني عبارات الفقهاء والمتكلمين في وصف الفعل بأنه صحيح وفاسد ونحو ذلك والذي يريده المتكلمون بذلك إنه فعل واقع على وجه يوافق حكم الشرع من أمرٍ به أو إطلاق له، ولا يعنون بذلك أن قضاءه غير واجب وفعل مثله بعده من غير لازم. وكذلك فإنما يريدون بوصف الفعل بأنه باطل وفاسد أنه قبيح ومفعول على مخالفة حكم الشرع، ولا يعنون بذلك أن قضاءه واجب وفعل مثله بعده لازم. فأما كثير من الفقهاء فإنه يعني بقوله صلاة باطلة وفاسدة أن مثلها واجب بعد فعلها وقضاؤها لازم. وقولهم عبادة صحيحة إنما يعنون به براءة الذمة بفعلها وسقوط القضاء لها. فلذلك قالوا: الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة ماضية وإن كانت معصية، والصلاة المقطوعة/ ص 62 بطفي الحريق وإخراج الغريق وطلوع الماء على المتيمم باطلة وإن كانت طاعة لله يعنون بذلك وجوب قضائها وفعل مثلها بعدها، ونحن نتقصى القول في ذلك من بعد.

فأما قولهم عقد باطل وحكم باطل وشهادة باطلة وصحيحة وعقد صحيح. فإنما يعنون به نفوذه ووقوع التمليك به، ويريدون بقولهم فيه باطل أنه مما لا يقع به التمليك، وأن الشهادة والحكم والفتيا إذا قالوا باطلة إنه مما لا يلزم العمل والأخذ بها، ولا يجب الحكم بالشهادة، وكذلك قولهم: إقرار باطل وإنكار باطل في أمثال هذا مما لعلنا أن نشرحه من بعد. هذه جملة المقدمات التي لا يتم معرفة أصول الفقه وأحكام أفعال المكلفين إلا بها كافية إن شاء الله.

باب في أنه لا يجب نصرة أصول الفقه على أصل فقيه من الفقهاء وموافقة مذهب من المذاهب

باب في أنه لا يجب نصرة أصول الفقه على أصل فقيه من الفقهاء وموافقة مذهب من المذاهب واعلموا - وفقكم الله- أنه إنما يجب أن يقال بالمذهب، لأن الدليل قد دل عليه، لا لأجل أن صاحبه قال به وذهب إليه. فيجب لذلك بناء المذاهب على الأدلة، لا الأدلة عليها. ويبين ذلك -أيضاً- أنه قد يعرف صحة القول والحكم فيه بدليله وحجته من لا يفتقر في العلم بذلك إلى كون ما دان به وعرفه مذهباً لأحد، وإن جاز أن يوافق قوله الذي صار إليه بعض المذاهب، فبان أن العلم بالحكم لا يفتقر إلى بنائه على مذهب، وإنما يفتقر إلى العلم بطريق الحكم وبالله التوفيق.

باب ذكر من يجب عليه العلم بأصول الفقه

باب ذكر من يجب عليه العلم بأصول الفقه/ ص 63 اعملوا - رحمكم الله- أن فرض علم ذلك على الكفاية دون الأعيان. والدليل على ذلك أن معرفة أحكام أفعال المكلفين المتوصل إلى علمها بأصول الفقه، وأدلة أحكام الفقه إنما هو فرض على الكفاية دون الأعيان، وإنما على العامي التقليد في ذلك والرجوع إلى قول العلماء، ولا معتبر بخلاف من يخالف في ذلك ممن حكم أنه من فرائض الأعيان. وسنقول في إبطال ذلك عند انتهائنا إلى الكلام في التقليد قولاً بيناً إن شاء الله، إذا ثبت هذا وكان العلم بأصول الفقه وأدلته إنما يجب لوجوب العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية التي تختص بها العلماء وجب أن تكون واجبة على العلماء دون العامة، كما أن العلم بما له يجب من فروض العلماء دون العامة، فإذا قام به البعض منهم سقط -أيضاً- عن باقي العلماء فرض العلم بذلك

إلا فيما يخصه وينزل به فلا يسوغ له فيه التقليد مع كمال آلته على ما سنذكره في فصول القول في التقليد، وما يجوز فيه وما لا يجوز إن شاء الله تعالى. فصل وإن كان في أصول الفقه ما يؤدي الجهل به إلى الجهل بالتوحيد والنبوة وما يتصل ببابهما، أو إلى الجهل ببعض الأصول التي يأثم مخطئ الحق فيها من فرائض الأعيان، التي العامة والخاصة فيها سواء وجب معرفة ذلك الأصل لأجل أن تضييع علمه يؤدي إلى الجهل بما قد فرض علمه، وما نعرف في أصول الفقه ما هذه سبيله. وكذلك وإن كان فيه ما يؤدي الجهل به إلى تضييع علم حكم من الأحكام الشرعية التي تستوي فيها فروض الأعيان. وإن لم يكن العلم بثبوته من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة من فعل الله

سبحانه/ ص 64 بل من كسب العبد وجب -أيضاً- على الأعيان معرفة ذلك الأصل، وذلك نحو الأصل الذي به يعلم تحريم النكاح في العدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، والجمع بين الأختين، ونكاح المطلقة ثلاثاً من غير أن تنكح زوجاً غيره، ووجوب التقابض في الصرف في المجلس، وأمثال ذلك مما العلم بتحريمه عند كثير من فرائض الأعيان وجب على سائر المكلفين معرفة الأصل الموجب لتحريم ذلك، وهذا ما لا يجب إلا بعد قيام دليل قاطع أو إجماع على وجوب علم هذه الأحكام على سائر المكلفين، لأن الجهل به حينئذ يكون مؤدياً إلى الجهل بتحريم ما قد فرض العلم بتحريمه على الجميع. فأما إذا لم يقم على ذلك دليل وكان باتفاق فرض علم ذلك، لأن ما للعلماء دون العامة وجب أن تكون معرفة الأصل الدال عليه من فرض العلماء، وكان فرض العامي في ذلك الرجوع فيه إلى من يعلم أنه من علماء الأمة وعدولها الذين يجوز لهم الاجتهاد والفتوى في الدين والأخذ بما يفتيه به في ذلك. فأما الفتيا والحكم فمن قال من أهل العراق إنهما يجوزان بالتقليد فإنه يوجب فرض علم دليل الحكم والفتيا علي الكفاية، ومن منع من ذلك وهو

الصحيح، وقول الجمهور- فإنه يوجب فرض علم دليل الحكم الذي به يفتي الفقيه ويحكم الحاكم فرضا علي عين كل عالم ومفتي، ونحن نكشف القول بصحة ذلك في فصول القول في التقليد، ومنع تقليد العالم للعالم إن شاء الله تعالى.

باب القول في حصر أصول الفقه وترتيبها وتقديم الأول فالأول منها

باب القول في حصر أصول الفقه وترتيبها وتقديم الأول فالأول منها اعملوا أن أصول الفقه محصورة. فأولها، الخطاب الوارد في الكتاب والسنة/ علي مراتبه التي نذكرها من بعد. وثانيها، الكلام في حكم أفعال الرسول عليه السلام الواقعة موقع البيان لمجمل ما في الكتاب والسنة، أو ابتداء إثبات حكم بها، لأنها إذا وقعت موقع البيان صارت بمنزلة الخطاب، وربما كان البيان بها لمن علمها وشاهدها أبلغ منه بالقول علي ما نذكره من بعد. وثالثها، القول في الأخبار وطرقها وأقسامها. ورابعها، بعض الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي أخبار الآحاد الواردة بشروط قبولها في الأحكام. وخامسها، الإجماع.

وسادسها: القياس، ونعني بذلك حمل المعاني المودعة في الأصول التي إذا ثبت تعلق الحكم بها وجب القياس على المعاني المودعة فيها. وسابعها: صفة المفتي والمستفتي والقول في التقليد، ومن الناس من يجعل القول في صفة المفتي والمستفتي والتقليد بابا واحدا. ومنهم من يجعل ذلك ثلاثة أبواب. وثامنها: الحظر والإباحة وسيما على قولنا بأنهما حكمان شرعيان. ومن قال إنما يعلم حكم الحظر والإباحة من جهة العقل لا يجعل الكلام في هذا الباب من أصول الفقه، والأولى أن يكون من أصوله لما نذكره من بعد. ولهذه الأصول لواحق تتصل بها، وليست منها على ما نبينه من بعد. وقد دخل في الخطاب الأمر والنهي والخصوص والعموم إذا دل الدليل على كونه عاما وإلا وجب الوقف فيه على ما سنشرحه من بعد. ودخل فيه الناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والمطلق والمقيد ولحن الخطاب ومفهومه وفحواه، ودخل فيه دليل الخطاب على قول مثبتيه، ومراتب البيان، وسنفرد لكل شيء من ذلك بابا إن شاء الله. والواجب عندنا في الترتيب تقديم الخطاب الوارد في الكتاب والسنة على جميع هذه الأبواب لأمور:

أحدها: أن جميع الأحكام الشرعية مودعة في الكتاب والسنة / ص 66 نطقا أو مفهوما أو معنى مودع فيهما وإن كانت السنة مبينة للمراد بما أشكل معناه من الكتاب، ويجب مع ذلك تقديم الكتاب على السنة لكونه كلام الله عز وجل المرسل لصاحب السنة، ولأن القرآن آية لنبوته وما هو عليه من الجزالة والبلاغة المتجاوزة لسائر البلاغات وكونه مختصا بالإعجاز وعدم النظير، ولكونه آية للرسول عليه السلام وشاهدا لنبوته ولتضمنه الأمر بإتباع السنة والوعيد على مخالفة صاحبها وما في الكتاب والسنة المقطوع عليها إما بضرورة أو دليل سواء في وجوب الرجوع إليهما واستنباط معرفة الأحكام منهما، وإن كان للكتاب فضيلة النظم والإعجاز. ويلي ذلك في الرتبة أفعال الرسول عليه السلام الواقعة موقع البيان، لأنها بمثابة أقواله الواردة لبيان الأحكام ويلي ذلك بعض الأخبار المروية عن الرسول عليه السلام. فإن قيل: ولم لم تجعلوا الخبر المتواتر عنه طريقا إلى معرفة الأحكام؟

قيل له: لأجل أن ما علم من سنة الرسول عليه السلام إما باضطرار أو بطريق الاستدلال فهي التي يعرف بها الأحكام دون أخبار المخبرين عنها. وإنما الخبر عنها طريق لثبوتها إذا كان بصفة ما ذكرنا، وليس يتعلق الحكم بأخبار المخبرين بها. فأما خبر الواحد فإنما نظن أن النبي صلي الله عليه وسلم قد قال ما رواه الراوي، ولا نقطع به، والحكم متعلق بنفس الخبر عن الرسول عليه السلام، وقول الرواة دون قول الرسول عليه السلام، وكيف يتعلق الحكم في مثل هذا بقوله ونحن لا نعلم أنه قال ما روي عنه، فبان أن الحكم المعلوم من سنته متعلق بنفس قوله وسنته، والحكم بما لم يثبت منها مما رواه الثقات، ونظن أنه قاله متعلق برواية الرواة، فافترق الأمران وصار خبر الواحد أصلا يخالف السنة المعلومة. ويلي ذلك الكلام في الإجماع، لأن حجيته تثبت بعد الرسول عليه السلام وبعد استقرار أحكام الكتاب /ص 67 والسنة، ولأجل أن ثبوت حجته منتزع منهما ومردود إليهما. فإن قيل: كيف يصح لكم هذا الترتيب؟، وأنتم تتركون ظواهر الكتاب والسنة بإجماع الأمة، ولا تتركون الإجماع بهما.

يقال له: نحن لا نترك ظاهر الكتاب والسنة بقول الأمة المجمعة (عليه). وإنما نتركهما بمثلهما من كتاب وسنة كهما. وإنما نتبين بإجماع الأمة على تركهما أنهما منسوخان بمثلهما، أو أن المراد بهما غير ظاهرهما مما وقفت عليه الأمة أو من تقوم بهم الحجة منهم، لعلمنا بأن الأمة لا يجوز أن ترفع حكمهما باجتهاد وقياس منها، وإنما تتبع الأدل منهما، ولا تخالفهما على ما سنبين القول فيه إن شاء الله. ويلي ذلك القياس وإعماله في مواضعه، وذكر من هو من فرضه، وما يتصل من الفصول ببابه، وإنما وجب تأخيره عما قدمناه من الأدلة لأجل أنه إنما يثبت كونه أصلا ودليلا بالكتاب والسنة والإجماع على ما نبينه، ولأن استعماله في مخالفة ما قدمناه من الأدلة باطل محظور، وإنما يصح إذا لم ينف ما ثبت بهما حكمه. ويلي ذلك صفة المفتي والمستفتي، وإنما وجب تقديم القيام [القياس] على هذا الأصل، لأجل أن المفتي إنما يصير مفتيا يجوز الأخذ بقوله إذا عرف القياس وما به يثبت وما يجب من أحكامه في مواضع استعماله، ثم يفتي بعد ذلك. فيجب أن يكون العلم بالقياس حاصلا له حتى يكون لعلمه به مفتيا. وإنما صار القول في صفة المفتي والمستفتي من أصول الفقه لأجل أن فتواه للعامي دليل على وجوب الأخذ به في حال وجوازه في حال. فصارت فتواه للعامي بمثابة النصوص والإجماعات وسائر الأدلة للعالم، ولأنه لا يكون قوله دليلا للعامي يجب الأخذ به أو يسوغ ذلك له إلا بعد حصوله على صفة من تجوز فتواه وإلا حرم عليه الأخذ بقوله.

وإنما ذكرنا صفة المستفتي مع المفتي، لأجل أن المفتي إنما يفتي عاميا له صفة يسوغ له التقليد للعالم، ولو لم يكن كذلك ما جاز له الأخذ بقول غيره /ص 68 فوجب ذكر صفتهما وحالهما، وإذا ذكرنا صفة المفتي والمستفتي فقد ذكرنا أيضا صفة الحاكم والمحكوم عليه، وإن كان لا يصير حاكما لكونه عالما بالأحكام وبمن يجوز تقليده، وإنما يصير كذلك بأن يكون إماما قد عقد له أهل الحل والعقد، أو متقلدا للحكم من قبل إمام ومن يستخلفه الإمام. فإن قيل: فما وجه جعل الحظر والإباحة من أصول الفقه؟. قيل له: لأجل حاجة العالم متى فقد أدلة الشرع _على مراتبها_ على إثبات حكم الفعل أن يقر أمره على حكم العقل فيه، فإن لم يعرف حكم العقل فيه لم يدر على ماذا يقره. ولو قيل: إن المفتي يكفيه إذا لم يجد دليلا ينقل الشيء عن حكم العقل أن يقول: هذا مما لا حكم له في الشرع، فلا أحكم فيه بحكم شرعي، وإن اختلف في حكمه من جهة العقل لم يكن ذلك بعيدا. هذه جملة في ذكر هذه الأبواب وترتيبها مقنعة إن شاء الله.

باب الكلام في أحكام الخطاب

باب الكلام في أحكام الخطاب اعلموا أن الكلام: "معنى قائم في النفس يعبر عنه بهذه الأصوات المقطعة والحروف المنظومة". وربما دل عليه بالإشارة والرمز والعقد والخط، وكل قسم منه من أمر ونهي وخبر واستخبار فإنه لنفسه ومتعلق بمتعلقه لذاته لا يجوز خروجه عن ذلك ولا وجود مثله إن كان محدثا، وليس بأمر ولا نهي على ما قد بيناه في غير هذا الكتاب، فهو في تعلقه بمنزلة العلوم

وجميع ما له تعلق من صفات القلوب، وقد قال تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا} أي لا تدل على الكلام إلا بذلك. وقال تعالى دالا على ما قلناه: {ويَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}. وقال تعالى: {وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فأخبر أن ما يستتر به في النفوس قول، وأن الجهر به عبارة عنه ودلالة عليه. وقال في قصة المنافقين: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} فأكذبهم الله بإنفاق [؟ بالنفاق] في قولهم /في أنفسهم إنه ليس برسول الله لا في عبارتهم المسموعة التي هي قولهم نشهد إنك لرسول الله، لأن هذا ليس بكذب منهم. والعرب تقول: في نفسي قول أخرج به إليك، وكلام ما بحت به إلى أحد، وحديث أبثك إياه بعد وقت، في أمثال هذا مما يطول تتبعه، فدل ذلك أجمع على أن الكلام معنى قائم في النفس يعبر عنه ويدل عليه بهذه الأصوات. وقال الشاعر: لا تعجبنك من أثير خطة ... حتى يكون مع الكلام أصيلا إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الكلام دليلا

فأخبر أن الكلام من الفؤاد وأن اللسان دليل عليه. وقد تقصينا الكلام في هذا الباب على أهل القدر والاعتزال في نفي خلق القرآن بما يوضح الحق لمتأمله إن شاء الله تعالى.

باب الكلام في أصل التخاطب بالغة العربية وكل لغة وهل حصل عن توقيف أو مواضعة؟

باب الكلام في أصل التخاطب باللغة العربية وكل لغة وهل حصل عن توقيف أو مواضعة؟ وقد اختلف الناس في هذا الباب. فذهب قوم إلى أن جميع أسماء الأشياء في كل لغة والمفهوم منها أخذ وعرف من جهة توقيف الله عز وجل لآدم عليه السلام والتعليم له، إما بتولي خطابه أو الوحي إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه. وقال آخرون: بل ذلك أجمع إنما عرف واستقر من جهة مواطأة أهل

اللغات على ذلك وتواضعهم عليه. وقال آخرون: يمكن أن يكون ذلك إنما عرف واستقر بالتوقيف والوحي من الله عز وجل، ويمكن أن يكون إنما عرف وأدرك بمواضعة أهل اللغات وتواطئهم على وضع الأسماء وأقسام الخطاب، وأنه يجوز أيضا أن يكون بعضها مأخوذا عن وحي وتوقيف وبعضها مستقرا بطريق المواطأة والمواضعة، وبعضها مستعملا بقياس على ما تكلم به أهل اللغة. وأنه يجوز أن يتفق لأهل كل لغة أو لأهل بعضها أن يتواطؤا على وضع /ص 70 اسم لشيء، وقد وقف الله سبحانه عليه بعض من أعلمه ذلك قبل أن يتواضع أهل تلك اللغة على الاسم، فتكون المواضعة عليه موافقة للتوقيف على معناه، وأنه يمكن أن يتواضع أهل كل لغة على أن يسموا الأشياء بغير الأسماء التي وضعها الله سبحانه لها ووقف عليها من أعلمه بذلك إن حرم ذلك عليهم وحظره أو لم يحرمه، فإن لم يحظره ووقع منهم لم يكن عصيانا، وإن حرمه عليهم كانوا بذلك عصاه إلا أمة أخبر الله عن عصمتها ورفع الخطأ عنها فيكون للشيء عند ذلك اسمان، أحدهما موقف عليه والآخر متواضع عليه، والقول الأخير المشتمل على جملة ما ذكرناه، فهو الذي نختاره، وبه

نقول. فأما ما يدل على فساد قول من قال إنه لا يصح أن يكون جميع الأقسام وأقسام الخطاب التي يتكلم بها أهل لغة العرب وكل لغة موقفا على جميعها، وأنه لا بد لمن وقف على البعض منها من أن يكون قد سبق نطقه بلسان قد عرفه وعرف معناه والتواضع عليه قبل خطاب الله له وتوقيفه على معناه، إما بمخاطبة أو بالوحي على لسان مخاطب، لأجل أنه إن لم يتقدم له خطاب وتكلم بلغة قبل توقيفه على ما توقف عليه لم يكن له سبيل إلى معرفة معنى ما يخاطب به وتوقف عليه، ومن هذه حاله لا يصح إفهامه وخطابه. فإنه قول باطل، لأن الله سبحانه إذا أراد إعلام من يخاطب معنى كلامه ومعاني هذه الأسماء باللغات المختلفة وإن لم يكن المخاطب قد نطق قبل ذلك بلغة ولا عرفها فإنه تعالى يسمعه خطابه فيضطر إلى وجود الكلام الذي يسمعه ويعلم ضرورة أنه المتكلم به، فإن اضطر مع ذلك إلى أن المتكلم به هو الله تعالى القديم الصانع للعالم كان مضطرا إلى وجود الكلام وأن المتكلم به هو الله محدث العالم عز وجل، وإن لم يضطر إلى العلم بأن المتكلم به هو أنه الخالق للعالم صح أن يدل على أن المتكلم به هو الله رب العالمين بما يقرنه بالخطاب من عظيم الآيات التي يعلم المخاطب من العقلاء عند

ظهورها أنه لا يقدر عليها إلا الله سبحانه، فيكون عالما بوجود الخطاب عند سماعه ضرورة وأنه لمتكلم به ضرورة، وأن المتكلم به هو القديم المخالف لجميع أجناس العالم بدليل يقترن بذلك، فإذا أعلمه سبحانه هذه الجملة عند خطابه خلق أصواتا وصيغة مبنية بنية الألفاظ العربية /ص 71 وغيرها من اللغات وأسمعها ذلك المخاطب، وقال له بكلامه القديم الذي يضطره إلى معرفة معناه. اعلم أن هذه الصيغة قد جعلتها لكذا وكذا، وهذه الأخرى المخالفة لها اسم _أيضا_ لذلك الشيء، وأن الصيغة الأخرى اسم لغير ذلك الشيء، فيعلم ضرورة بما يخلقه الله سبحانه في قلبه من العلم ما وضع الله تعالى له تلك الصيغ والأصوات من المعنى وهو سبحانه المتفرد بالقدرة على خلق العلم ضرورة في غيره بمراده بما قد جعل الصيغ والأصوات المختلفة اسما لها. وإذا كان ذلك كذلك بان أنه قد يصح أن يعلم مراد الله سبحانه بخطابه وما جعل ما يخلقه من الأصوات والصيغ أسماء ومفيدة لما هي مفيدة له وإن لم يتقدم له خطاب وكلام بلغة من اللغات. ويدل على صحة ذلك _أيضا_ علمنا بأنه قد اضطر الخرس والناطقين إلى المراد بالرموز والإشارات وإفادتها لكل ما يضعه أهل الرموز والإشارة وإن لم يتقدم لهم رموز وإشارات قبل ذلك، فكذلك يصح اضطراره تعالى إلى مراده بكلامه وإلى المراد بما جعل ما يوجده من الأصوات عبارة عنه وإفادة له، فبطل ما قالوه، وثبت بذلك صحة التوقيف من الله سبحانه

على أسماء جميع الأشياء بكل لغة وإن لم يتقدم لأهلها نطق بلغة غير التي وقفهم عليها، وهذا واضح لا إشكال فيه. وأما ما يدل على فساد قول من قال: إنه لا يصح تواضع أهل اللغة على معاني ما يبتدئون به من الكلام دون أن يكونوا قد وقفوا على لغة سبق تكلمهم ونطقهم بها، وإلا لم يتم لهم مواطأة ومواضعة فهو: إنهم إذا كانوا أحياء ناطقين، وكان الكلام والنطق منهم صحيحا، ولهم متأتيا وإقدارهم عليه جائزا ممكنا، وبمثابة إقدارهم على الحركات والاختيارات والإشارات وسائر التصرفات، فكان منهم النطق صحيحا جائزا كسائر مقدوراتهم، فإذا كانوا مع ذلك يدركون المعلومات ويعرفون البعض منها ضرورة وحسا، والبعض منها نظرا وبحثا، ويعرفون لما يعلمونه أمثالا، وربما غاب عنهم الحاضر واحتاجوا أتم حاجة إلى طلبه تارة والإخبار عنه أخرى، والتحذير منه مرة وكانت الإشارة إليه متعذرة عند غيبته وجب لذلك صحة نطقهم بالأصوات وتواضعهم على جعلها تسميات لما حضرهم وغاب عنهم مما بهم حاجة إلى تعريفه والإخبار عنه، ولم يكن ذلك ممتنعا منهم/ ص 72 وجري ذلك مجرى الخلق الكثير والجم الغفير على أكل الطعام عند الجوع والحاجة إليه، وشرب الماء واتقاء الحر والبرد، وفعل كل ما ينتفعون به ويدفعون به ضررا. وكما يصح ويجوز من أهل الإسلام وغيرهم قاطبة من أهل الملل الاجتماع على فعل كالصلوات والصيام والحج إلى المشاهد المأمور بالقصد إليها، وحضور الجمع والأعياد، وإقامة المناسك لما يعتقدونه فيه من الانتفاع ودفع الضرر، وكذلك سبيل صحة اتفاق أهل كل لغة على وضع أسماء وتخاطب لإفادة ما عرفوه ضرورة ودليلا وتعذر الإشارة إليه عند غيبته، وإذا

كان ذلك كذلك بكل [؟ بطل] ما ظنوه من تعذر ذلك وامتناعه. فإن قال قائل: وكيف يعرف غير المبتدئ بالنطق مراد الناطق بالأصوات؟ يقال له: يعرف ذلك ضرورة عند قوله رجل وإنسان وتكريره لذلك وإتباعه له بالإشارة إليه والإقبال عليه وإيمائه نحوه، فلا يزال يردد ذلك ويكرره حتى يحصل للسامع صورة مراده بتلك الأصوات ضرورة، ثم توافق السامعين لكلامه على قصده في جعل ذلك اسما لما سماه فيتم لذلك المواطأة والمواضعة بينهم والعلم بالمراد بها، ثم يوقفون من خرج عن تلك المواضعة على معناها، وهذا واضح لا إشكال فيه. ويدل على ذلك _أيضا_ أنه لا يجوز أن تكون أحوال الناطقين العقلاء الأصحاء أدون من حال الخرس في تأتي المواضعة منهم على معاني رموزهم وإشاراتهم، وإن لم يتقدم لهم إشارات أخر وقفوا على معناها، فإذا علم تأتي المواضعة من الخرس على معاني إشاراتهم التي يبتدئون المواضعة عليها كان تأتي ذلك للناطقين على معاني الألفاظ أيسر وأقرب وأخف، ولأن الله سبحانه إذا أراد توقيفهم للمواضعة على ذلك جمع عليه هممهم ووفر دواعيهم وسهل سبيل ذلك لهم وخلق لهم من الألطاف والأسباب التي تحوشهم إلى فعل ذلك ما لا يقدر عليه إلا هو تعالى، فيسهل عليهم عند ذلك الوعر وييسر الصعب فثبت ما قلناه./ ص 73 فأما ما يدل على جواز تواضعهم على أسماء قد وقف الله عليها غيرهم من ملائكته أو غيرهم من أهل اللغات [؟ فذلك] مما لا شبهة فيه، لأن إقدارهم على فعل ذلك وجمع هممهم ودواعيهم إليه [و] توقيفه لغيرهم على مثل ما

تواضعوا عليه غير ممتنع ولا متعذر عليه سبحانه، فوجب القضاء بصحة ذلك. وأما ما يدل على صحة وقوع ذلك منهم إن كان محللا أو محرما فلا شبهة فيه، لأنهم يصح أن يفعلوا الحلال والحرام ويجتمعوا عليه إما لداع واحد أو لدواع متفرقة، ولو منعت العادة من اتفاق مثل ذلك من العدد الكثير لم يمنع وقوعه من العدد اليسير، فهذا مما لا إشكال فيه فيكون للشيء اسمان. أحدهما موقف على معناه، والآخر متواضع عليه ويكون أحدهما متواضعا عليه عند أهل اللغة، والآخر واقعا من غيرهم على جهة القياس، ويكون ذلك اسما بالقياس على اللغة لا لأهلها. وقد اعتل المحيلون للتواضع من الخلق على معاني اللغات بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ} الآية، ولا متعلق لهم فيها من وجوه: أحدها: إنها ليست بخبر عن إحالة تواضع أهل اللغات على أسماء الأشياء التي علم آدم عليه السلام أسماءها وإنما هي خبر عن أنه علمها آدم ووقفه عليها، وذلك ما لا ننكره، وإنما ننكر قولهم بإحالة المواضعة عليها مع تعليمه آدم إياها ومع ترك تعليمه له لو ترك ذلك، فما الدليل على هذا إذا أوردوه إن كنتم قادرين؟ والوجه الآخر: إنه لم يخبر أنه تعالى وقف جميع الخلق على أسماء الأشياء، وإنما أخبر أنه وقف آدم على ذلك، فلعله مع توقيفه له قد اتفق لأهل كل لغة تواضعهم على مثل ما وقفه عليه أو على كثير منه فما الذي يدفع

ذلك؟ والوجه الآخر: إنه يمكن أن يكون إنما أراد سبحانه أنه علم آدم أسماء الأشياء كلها بلغة من اللغات مبتدأه له لم ينطق بها أحد وأن تكون الملائكة المخلوقة قبله قد كانت تواضعت على أسماء لتلك الأشياء وألفاظ وتخاطب يتفاهمون به غير الأسماء المبتدأة لآدم، فيكون لها أسماء وقف الله آدم عليها لا تعرفها الملائكة، وأسماء لها قد تواضعت عليها وعرفتها الملائكة قبل تلك الأسماء، ولا سبيل إلى دفع جواز ذلك /ص 74 والتأويل. ويمكن أن يكون الله سبحانه أراد أنه علم آدم اسم كل شيء خلقه إذ ذاك من الملائكة والسموات، وما خلقه في الجنة ولم يعلمه أسماء ما يحدثه من بعد، وقوله: "الأسماء" لا يدل بظاهره على العموم والاستغراق، وكذلك قوله "كلها". وكل تأكيد جري مجراه لا يدل على العموم لما نذكره من بعد، فبطل التعلق بالآية، على أنه إنما قال سبحانه إنه علم آدم الأسماء كلها ولم يخبر كيف علمه بأن وقفه أو بأن أنطقه وأقدره على النطق وجمع دواعيه على مواضعه الملائكة على دلالة ما ينطق به. وإذا أقدره على ذلك وخلق فيه العلم به وجمع همته عليه كان معلما له الأسماء وإن لم يعلمه ذلك توقيفا، فسقط ما قالوه. وقد قال الله سبحانه في كتابه {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وإن لم يذكره بأخص أسمائه بل سمى بعضه ودل على بعضه.

ومما يدل على كون الملائكة متخاطبين ومتواضعين على تخاطب بأسماء يعرفونها قبل خلق آدم عليه السلام قوله سبحانه: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وقوله تعالى لما خلقه وصوره وأحياه وعلمه الأسماء: {أَنْبِئُونِي بِأسماء هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}. فلو لم يكونوا عالمين بالخطاب وبأسماء الأشياء وما يذكره لهم كيف كانوا يفهمون ويجيبون ويقولون: "سبحانك"، وما ذكره عنهم مما يكثر ذكره وتتبعه، فكل هذا يدل دلالة ظاهرة على صحة ما قلناه وفساد تأويلهم، وهذه جملة في هذا الباب كافية إن شاء الله.

باب القول في معنى وصف الخطاب بأنه محكم ومتشابه

باب القول في معنى وصف الخطاب بأنه محكم ومتشابه اعلموا _ وفقكم الله_ أن وصف الخطاب بأنه محكم يرجع إلى معنيين: أحدهما: إنه مفيد لمعناه وكاشف له كشفا يزيل الإشكال ووجوه

الاحتمال /ص 75 وهذا المعنى موجود في كلام الله عز وجل وكثير من كلام الخلق

فيجب وصف جميعه بأنه محكم على هذا التأويل. والوجه الآخر: أن يكون معنى وصف الخطاب بأنه محكم أنه محكم النظم والترتيب على وجه يفيد من غير تناقض واختلاف يدخل فيه. فكل كلام هذه سبيله فإنه يوصف بأنه محكم وإن احتمل وجوها والتبس معناه. وما فسد نظمه وتثبج واختل عن وجهه وسننه وصف بالفساد لا بالتشابه. فأما معنى وصف الخطاب بأنه متشابه فهو محتمل لمعان مختلفة يقع

على جميعها ويتناولها على وجه الحقيقة, أو يتناول بعضها حقيقة وبعضها مجازًا, ولا ينبئ ظاهره عما قصد به, وإنما أخذ له هذا الاسم من اشتباه معناه على السامع وفقد علمه بالمراد به, ومنه قوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وهو محتمل لزمن الحيض وزمن الطهر. وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}. وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} في أمثال هذا مما يسوغ التنازع والاجتهاد في طلب معناه, وكذلك كل الأسماء المشتركة. فأما المتشابه فيما يتعلق بأصول الديانات فكثير. فأما ما يذكره بعض أهل التفسير وأصحاب المعاني في وصف الخطاب بأنه محكم ومتشابه, فإنه غير ثابت. وقد زعم بعض أهل التفسير أن المحكم من الكتاب ما اتصلت حروفه, وأن المتشابه ما انفصلت حروفه نحو قوله تعالى: الم وطسم, وأمثال ذلك, وهذا ما لا تعرفه أهل اللغة. وقال بعضهم, المحكم منه ما صح أن يعلم تأويله الراسخون في العلم, كما يصح أن يعلمه الله عز وجل, والمتشابه هو الذي ينفرد الله بعلمه دون سائر خلقه. وهذا- أيضًا- بعيد لا يعرفه أهل اللغة.

وقال آخرون: معنى المحكم منه هو الوعد والوعيد والحلال والحرام, وما أجمل وفصل من الشرائع والأحكام. والمتشابه هو القصص والأمثال والسير. وهذا باطل, لا يعرفه أهل العربية في إفادة معنى المتشابه والمحكم. فأما قوله تعالى {ومَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} فيمكن أن يكون المراد بالواو ههنا/ ص 76 واو العطف والنسق, ويحتمل أن تكون ص 76 استفتاح كلام واستئناف إخبار عما يقوله الراسخون في العلم من الإقرار بخفائه عليهم ورد علمه إلى منزله سبحانه. فإن كان واو استئناف كلام وجب الوقف على قوله تعالى: {ومَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ}. وإن كان واو عطف لم يجب الوقف. والأولى عندنا أن تكون واو عطف من حيث لم يجز أن يخاطب الله العرب وغيرها بما لا سبيل لها إلى علمه. فأما قول من زعم أن المتشابه ما انفصلت حروفه, نحو: كهيعص وأمثاله فباطل, لأن هذا معلوم معناه. وقد قال كثير من الناس: إن معنى هذه الحروف أنها أسماء السور التي هي أوائلها. وإن لم تكن في اللغة اسما لشيء, إذا جمعت على هذه الصورة. وأصح ما قيل في معناها أقاويل: أحدها: إن هذه الحروف إنما أنزلها الله عز وجل في أوائل السور كناية يذكرها عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج جميع التخاطب عنها,

وإن اختلفت نظومها, وإنما كرر ذكرها تأكيدًا لإعلام العرب أنه مخاطب لها بلغتها, والعرب تفعل مثل ذلك بقول القائل قرأت "البقرة", وأنشدت "ألا هبي" ولا تعني قراءة آية ولا إنشاد بيت فقط. وإنما تكني عن ذكر جميع السورة والقصيدة, وعلى هذا جاء قول الشاعر: يناشدني حا ميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم وإنما أراد مناشدته بالقرآن فكنى عنه بذكر حاميم. وقال آخر:

لما رأيت أمرها في حطي ... وأزمعت في لددي ولطي أخذت منها بقرون شمط يعني بحطي أبجد لأن هذه الحروف منها. وقال قوم: إنه تعالى إنما أنزل هذه الحروف أمام السور ليجمع دواعي العرب على استماعه لأنه مما لم تجر لهم عادة به فينصرفون بذلك عن قطعه واللغو فيه. وقال آخرون: قد تقدم العرب أمام كلامها حروفًا مقطعة/ فتقول: ص 77 ألا يا زيد أقبل, ألا إني ذاهب, ألا إني قائل. وهذه جملة تكشف عن أن معنى المحكم والمتشابه ما قلناه دون سائر هذه الأقاويل.

باب معنى وصف الكلام بأنه خطاب ومكالمة ومقاولة ومخاطبة

باب معنى وصف الكلام بأنه خطاب ومكالمة ومقاولة ومخاطبة اعلموا أن الكلام لا يوصف بأنه خطاب ومخاطبة ومكالمة ومقاولة وتكليم دون وجود مخاطب به يصح علمه بما يراد منه وتلقيه عن المتكلم به, لأن قولنا خطاب يقتضي مخاطبًا مواجهًا به ومخاطبة هو من باب المفاعلة, وبمثابة قولك مضاربة ومقاتلة, وذلك مما لا يصح إلا من اثنين كلاهما موجودان. وقولنا مكالمة ومقاولة مثل قولنا مخاطبة في اقتضاء وجود مكلم ومقاول له. وفي ضمن ذلك وجود قول من المخاطب لمخاطبه وقبول أو رد كلام يجري مجرى الجواب لمكلمه, ولذلك أحلنا أن يكون كلام الله عز وجل في أزله, وكلام الرسول عليه السلام في وقته مخاطبة على الحقيقة ومقاولة ومكالمة لمعدوم غير موجود. وأجزنا كونه أمرًا ونهيًا, وإخبارًا لمعدوم بشريطة إذا وجد وكان على صفة من يجب عليه تلقي ذلك. وعلى هذا لم يجز أن

فصل: كل متكلم من الخلق يحتاج في الدلالة على كلامه الذي في نفسه إلى عبارة عنه

يقال: إن الموصي مخاطب بما يودعه وصيته ومكلم به ومقاول لموصى إليه معدوم. وجاز أن يقال قد أمر من تفضي إليه الوصية بكذا, ونهاه عن كذا. وأطلق له كذا وحظر كذا. فبان بذلك أنه يكون أمرًا ونهيًا لمعدوم, ولا يجوز أن يكون خطابًا ومكالمة ومقاولة لمعدوم. فصل وكل متكلم من الخلق يحتاج في الدلالة على كلامه الذي في نفسه إلى عبارة عنه, أو ما يقوم مقامها من عقد وخط وإشارة ورمز. والله سبحانه غير محتاج إلى ذلك لكون كلامه مسموعًا لمن يخاطبه من خلقه بنفسه, وخلقه العلم في قلبه بمراده, وكلام الخلق الذي في أنفسهم في هذا الوقت غير مسموع, وهم غير قادرين على خلق العلم في قلوب سامعي العبارة عنه بمرادهم فافترقت الحال فيه/ ص 78 جل ذكره وفي خلقه في الحاجة إلى العبارات والدلالات على قوله. فصل آخر من أحكام العبارة عنه واعلموا- رحمكم الله- أن جميع الأصوات والحروف المعبر بها

عن الكلام في الأصل على ضربين: فضرب منها مستعمل مفيد, والآخر غير مستعمل ولا مفيد. فأما المستعمل منها: فهو ما يوضع على معناه ودلالته. وما ليس بمفيد منه ضربان: أحدهما: الحروف المقلوبة, نحو قولك "ديز" مكان قولك "زيد" و "لجر" مكان قولك "رجل" فهذه الأصوات مهملة غير مفيدة شيئًا. والضرب الآخر: الحروف المنظومة المتكلم بها على وجه لا يفيد ولا يفهم, نحو هجر المبرسمين وهذيان المجانين مما يخلطونه ويلوثونه لوثًا, لا يكشف عن معنى له محصل. ومن الناس من ينكر كون هذا الضرب والذي قبله كلامًا لكونه غير مفهوم ولا مفيد. ومنهم من يقول: هو كلام إلا أنه غير مفيد يعنون بذلك أنه عبارة غير مفيدة لشيء معتقد في النفس. والأقرب أن يكون هذا الضرب الأخير كلامًا, لأنه لو يُخلص كل شيء منه مما يفسده لكانت مفردات ألفاظه مفيدة, فإذا وصل بعضه ببعض صار مختلطًا غير مفهوم. ولذلك يقولون تكلم المبرسم والمجنون بكلام غير مفهوم. ويقولون كلام متناقض وفاسد باطل.

فصل: التناقض في الكلام يكون باللفظ وبالمعنى

فصل آخر منه اعلموا أن التناقض في الكلام يكون باللفظ وبالمعنى. والتناقض باللفظ (نحو) قولك: زيد حي لا حي وقائم لا قائم. والتناقض بالمعنى (نحو) قولك: زيد حي ميت, وقائم قاعد, وعالم جاهل, وإنما صار هذا تناقضًا بالمعنى للعلم بمضادة القيام للقعود والحياة للموت. فأما الضرب المفيد من العبارات, فهو ما قسمه مصنفو علم العربية ثلاثة أضرب: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى, فالاسم نحو قولك رجل وفرس, والفعل ما دل/ ص 79 على زمانين ماض ومستقبل, نحو قولك ضرب للماضي ويضرب للمستقبل, والحرف نحو قولك: قد ومن وفي وعلى وعند, ونحو ذلك. وهذه الأصوات لا تكون عبارات صحيحة وألفاظًا مفيدة حتى تكون على ما ذكره أهل العربية اسمين أسند أحدهما إلى الآخر, نحو قولك: زيد أبوك, وعمرو أخوك, والله ربنا, ومحمد نبينا, وأمثال ذلك. أو فعل أسند إلى اسم, نحو قولك: ضرب زيد وقام عمرو, وأمثال هذا. أو حرف أسند إلى فعل نحو قولك: قد قام, وقد خرج وضرب وانطلق, غير أنه لا يعرف بهذا القدر المخبر عنه بالقيام والانطلاق وإنما يعرف الفاعل لذلك بإضافة الفعل إليه إذا قلت قد ضرب زيد, وقد قام عمرو, وكذلك لو قلت: زيد من, لم يكن مفيدًا شيئًا, حتى إذا قلت: من مضر, أو من الأبطح صيرته مفيدًا, ولو وصلت الفعل بالفعل, والحرف بالحرف لم يكن مفيدًا, لأنك لو قلت ضرب ضرب, وخرج خرج وضرب يقوم, ويقوم ضرب لم يكن ذلك مفيدًا, وكذلك لو

قال: من في, وفي عند, وعلى عند, وأمثال ذلك لم يكن مفيدًا، فثبت بذلك أن هذه الأصوات لا تكون عبارات مفيدة دون أن تستعمل على حد ما بيناه.

باب أخر في ذكر أقسام المفيد من الخطاب

باب آخر في ذكر أقسام المفيد من الخطاب واعلموا- رحمكم الله- أن جميع المفيد من الخطاب ينقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها: فقسم منه: مستقل بنفسه في الكشف عن جميع متضمنه, لا احتمال في شيء من معانيه. والضرب الثاني: مستقل بنفسه في الكشف عن المراد به من وجه وغير مستقل من وجه. والضرب الثالث: غير مستقل في الكشف عن المقصود به من جميع الوجوه, وإن كان في أصل الوضع مستقلاً بنفسه في إفادة معناه. وإنما لا يفيد إذا تجوز به في غير بابه. وليس هذا بنقض لقولنا إنه من أقسام المفيد في أصل الوضع. فأما المستقل بنفسه من كل وجه فعلي ضربين: فضرب منه مستقل بنفسه في البيان عن المراد به بنصه وصريحه. والضرب الآخر/ مستقل بنفسه في البيان عن ذلك بلحنه ومفهومه. فأما المستقل بنفسه بنصه فنحو قوله تعالى {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} وقوله تعالى {ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله تعالى {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} وقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ} وأمثال ذلك من

النصوص الظاهرة التي لا إشكال ولا احتمال في المراد بها. ويوصف هذا الضرب بأنه نص, ومعنى وصفه بذلك ظهور معناه من غير احتمال, وكون المذكور فيه منطوقًا باسمه الموضوع له, وفي التصريح دون الإضمار له والكناية عنه. ومنه سميت منصة العروس منصة. والنص في السير هو ظهور السير ومنه قول امرئ القيس: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل يعني بنصته كشفته وأظهرته, ومنه أيضًا قول ذي الرمة: إذا استودعته صفصفًا أو صريمة ... تنحت ونصت جيدها للمناظر أي كشفته وأظهرته. وأما ما يستقل بنفسه من جهة مفهومه ولحنه وفحواه فهو

كقوله تعالى: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} وقوله تعالى: {ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} وكذلك ذكر النقير والقطمير. وقوله تعالى: {ومِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إن تَأمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ ومِنْهُم مَّنْ إن تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ}. وقول أهل اللغة: لا تقذ بعين زيد, والله ما رزأت من مال زيد ذرة, ولا أكلت له بره. وأمثال ذلك. وقد اتفق كل متكلم باللغة وعالم بتخاطب أهلها على أن السابق إلى فهم السامع لهذا الكلام من معناه ولحنه الذي لم يذكر في صريحة بأخص أسمائه أسرع من فهم كثير مما نص عليه منه فيه, فإن لم يكن أسرع منه فهما سيان. فأما من قال: إن تحريم الضرب والانتهار من قوله تعالى {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} وقول القائل لا تقذِ بعين زيد معلوم بطريق القياس، فإنه إن

أراد بذلك أن المفهوم منه غير منصوص عليه باسمه فذلك ما لا خلاف فيه, وإن أراد أنه مفهوم بضرب من القياس/ ص 81 على غيره والاستدلال على معناه فقد أبعد, لأن كل عالم بأحكام الخطاب لا يحتاج في معرفة ذلك إلى قياس واستنباط, ولو احتيج إلى ذلك لصح أن يقع فيه الغلط والصرف عنه. والتقصير فلا يدل سامعه على معناه وإن كان أفصح من سحبان وائل, وهذا تخليط ممن صار إليه, فبان أنه مفهوم بلحنه بغير قياس. وقد لحق بهذا الباب قوله عز وجل: {ولا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُم} وقوله تعالى {إنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا} ففهم منه النهي عن إتلاف أموالهم بجميع وجوه الإتلاف, وإنما ذكر الأكل لأنه أكثر مما [؟ ما] يتلف فيه الأموال وبه يقع الإتلاف غالبًا, فلذلك لم يقل ولا تلبسوها ولا تهبوها ولا تركبوها إلى غير ذلك. ولحق به-أيضًا- قوله تعالى {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ}

أي ضرب فانفلق, ولحق به قوله عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" ففهم منه أنه نهي عن القضاء مع الانقطاع عن استيفاء (النظر) للدعوى والبينة وما يجب تحصيله عند ذهاب تمييزه أو نقصانه بما يقطعه عن ذلك من غضب أو مرض وجوع وعطش وفرح غالب وهم فادح, وكل عارض يقطع عما يجب للحكم فيه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا الخيط والمخيط" فقد فهم منه رد البدرة والدرة والبعير والفرس, وكل ما زاد على قدر الخيط والمخيط وما نقص عنهما- أيضًا-. ولحق بذلك أيضًا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزِيرِ} إلى قوله تعالى: {ومَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ} وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ

الأَنْعَامِ} وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ} وأمثال ذلك من ذكر التحليل والتحريم المعلق في ظاهره بالأعيان, لأن المفهوم من تحريم كل شيء من هذه المذكورات تحريم ضرب ونوع من التصرف فيها في وضع اللسان وتفاهم أهل الخطاب من غير اختلاف ولا تنازع في المعلوم منه عند سماعه. فمحدث خلاف في هذا عليهم من نوابت القدرية غير معتد بقوله, ولا معدود في جملة من عرف خطابهم لأنه لا خلاف بينهم/ ص 82 في أن المفهوم من قول القائل: حرمت عليكم الطعام أنه حرم أكله, وحرمت عليك الشراب معنى شربه دون أكله, وحرمت عليك الثوب أي لبسه, وحرمت عليك الأمة والمرأة أي الاستمتاع بهما دون النظر إلى كل شيء من ذلك. أو مسه.

وكذلك قول القائل منهم: أطلقت لكم المزورة وحظرت عليكم اللحم والعسل, إنما يفهم من ذلك تحليل الأكل وتحريمه دون اللمس والنظر. فقول من قال هذا مجمل لا يفهم معناه, لأجل أن الأعيان غير مقدورة للعباد ولا يصح تحريمها ولا تحليلها قول بعيد خارج عن تعارف أهل اللغة, فوجب اطراحه. وقد زعم قوم أن هذا الضرب من الخطاب ونحوه هو من باب المحذوف منه, وبمثابة قوله تعالى: {واسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا والْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أهل القرية وأصحاب العير, فحذف لفهم معناه, وكذلك قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} محذوف منه أكل بهيمة الأنعام, وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنزِيرِ} المفهوم منه أكل ذلك فحذف للعلم به, وهذا- أيضًا- ليس ببعيد, لأنه قد علم أن المراد به ما ذكروا أنه حذف منه, وليس الغرض من ذلك وصفه بأنه مجازًا ومحذوف [؟ مجاز أو محذوف] , وإنما الغرض حصول العلم بالمقصود منه, وإفساد قول من زعم أن المراد به إذا لم يكن في نص الخطاب لم يكن مفهومًا, ووجب الوقف فيه, وكونه غير دلالة على شيء. وهذا القول خلاف على الأمة وكافة أهل اللغة ومحدثه عندهم ليس بمحل من يفهم الخطاب فضلاً عن المناظرة على معناه. ولحق- أيضًا- بهذا الباب قوله سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا

أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لأن مفهومه "فأفطر معه" فعدة من أيام أخر: وليس ببعيد أن يقال: فإن كنتم كذلك فالصيام واجب عليكم, وعليكم صيام آخر عند الصحة والاستيطان. ولهذا قال سبحانه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}. ولو أوجب عليهم الفرضين لم يكن يسيرًا. ومما يجب إلحاقه بهذا الباب قوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا} وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ} وقوله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}. وأمثال هذا. وقد زعم قوم أن معنى هذا يوصف بأنه معقول من معنى الخطاب. وهذا خلاف في عبارة. وقولنا مفهوم من معناه ولحنه وفحواه بمنزلة واحدة وإنما صار هذا مفهومًا من فحواه, لأنه خرج مخرج الذم والمدح والترغيب والترهيب, لكون الاسم جاريًا على من علق الحكم عليه ففهم من

قوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} إنه إنما أمرهم بقطعهما للسرقة, وكذلك قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} كأنه قال: لأنهم مشركون, وكذلك إذا قال: ذم الفاجر واعذله وامدح المطيع وعظمه, فكأنه قال ذم الفاجر لفجوره عظم الطائع وامدحه لطاعته, فعقل من ذلك تعليل هذه الأحكام بما اشتقت منه الأسماء من الأفعال, وتعليق المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب عليها. وليس من هذا الباب قوله عز وجل: {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة". وأن تعليق الحكم على أحد وصفي الشيء يدل على أن ما عداه بخلافه, لأن هذا ليس هو من مفهوم الخطاب ولا من فحواه ولحنه. وسنفرد للقول في ذلك بابًا من بعد إن شاء الله.

فصل فأما القسم الثاني من أقسام الخطاب الثلاثة, وهو الذي يستقل بنفسه من وجه ولا يستقل من وجه, نحو قوله سبحانه: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله / تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ}. وقوله عليه السلام "إلا بحقها". وهذا الضرب ونحوه من المحتمل من الخطاب. ومنه- أيضًا- الألفاظ المدعاة للعموم نحو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} وقوله تعالى: {وإنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وأمثال ذلك من ذكر الأعيان والزمان باسم الجمع المعرف وغير المعرف. وإنما صار هذا الضرب مستقلاً بنفسه من وجه وغير مستقل من

وجه, لأجل أن اليوم معلوم والحصاد معلوم وإيتاء الحق وأنه إخراجه معلوم وقدر الحق الواجب فيه غير معلوم. وكذلك القتال وأهل الكتاب والجزية معلوم وأهل الجزية وأنها أتاوة ومذلة لهم معلوم. وقدرها فقط من جملة هذا الخطاب غير معلوم. وكذلك قوله: "إلا بحقها" غير معلوم ما هو الحق وإن كان شيئًا يجب فعله مع الشهادتين. وكذلك قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} وصلوا في الأزمان على قول أصحاب الوقف ومبطلي العموم. بمجرد اللفظ, لأنه مستقل بنفسه في أن المشركين والقتل معلومان وأن المراد به الكل أو البعض غير معلوم, وكذلك ذكر الأزمان معلوم وعموم الفعل فيها أو تخصيصه ببعضها غير معلوم فصار مستقلاً من وجه وغير مستقل من وجه. ومحققوا القول بالعموم يزعمون أنه مستقل بنفسه من كل وجه, لأنه بمثابة النص على كل زمن وشخص بعينه بأخص أسمائه وصفاته, ونحن نفرد لذلك بابًا من بعد إن شاء الله. فصل فأما الضرب الثالث من أقسام الخطاب. وهو الذي لا يستقل بنفسه من

وجه من الوجوه فهو المجاز المستعمل في غير ما وضع له في اللغة. والذي ليس من باب المحذوف الذي قد عرف الحذف منه بعادة الاستعمال, والقصد بالكلام. وإنما هو المنقول عن بابه وما وضح له, وذلك نحو قوله تعالى: {جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} وقوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارَى} ص 85 على قول من قال أراد المساجد الجامعة ومواضع الصلوات تعظيمًا وتوقيرًا لها ولحاضريها, ويؤيد هذا التأويل قوله: {ولا جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} والعبور لا يكون في الصلوات لكن في مواضع الصلوات. ومنه قولهم: رأيت حمارًا أو ثورًا إذا أرادوا الرجل البليد المشبه بالثيران والحمير لبلادته لأن القصد بهذا اللفظ غير معلوم بصريحه ولا بلحنه. وإنما يعلم بشيء تضام الخطاب ويدل به على أنه معدول به إلى المجاز, ولا يفهم من اسم الشيء غيره الذي لم يوضع له الاسم إلا بدليل سواه. وقولنا: إن هذا غير مفهوم إنما نريد به أن المراد منه المتجوز به فيه غير معلوم منه, ولا نعني بذلك أنه في الأصل غير موضوع لإفادة معنى. وليس هذا بقول لأحد. هذه جملة أقسام المفيد من الكلام.

باب القول في معنى الحقيقة والمجاز

باب القول في معنى الحقيقة والمجاز اعلموا أن قولنا حقيقة ينصرف إلى معنيين, وقولنا مجاز لا يتوجه إلا إلى التجوز بالكلام في غير ما وضع له. وقد يراد بالحقيقة حقيقة وصف الشيء التي هي حده والمعنى الذي له استحق الوصف, نحو قولنا: حقيقة العالم أن له علمًا. وحقيقة الحي الفاعل أن له فعلاً وحياة. فيكون المقصد بذكر الحقيقة ههنا ما أكسب الوصف, ووجب لأجله. وقد يعنى بالحقيقة- أيضًا- صفة الشيء التي اختص بها, وما هو عليه في نفسه كما نقول حقيقة المحدث أنه الموجود عن عدم, وليس الوجود معنى منفصلاً عنه له يكون موجودًا. وقد كشفنا هذا الفصل في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. وقد تكون الحقيقة حقيقة الكلام, وذلك راجع في وصف الكلام إلى أنه قول استعمل فيما وضع في الأصل له. وحقيقة الكلام لها نقيض من المجاز, وهو استعماله في غير ما وضع له, وحقيقة الشيء التي هي حده وصفته التي هو عليها في ذاته لا نقيض لها ولا محاز منها. وأما الضرب الآخر فهو المجاز من الكلام ومعنى وصفه بأنه مجاز أنه مستعمل/ ص 86 في غير ما وضع له وأنه متجاوز به إلى غيره من قولك جزت النهر إذا تجاوزته, وذلك نحو قوله تعالى: {واسْأَلِ القَرْيَةَ} , وقوله

فصل: الحقيقة تتعدى والمجاز لا يتعدى

تعالى: {جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} وقوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} وقولهم في الرجل البليد أنه ثور وحمار, وفي الشديد أسد وضرغام, وأمثال هذا. وقيل: إن المجاز يكون بالزيادة في الكلام وبالحذف منه والنقصان. فأما المزيد فيه كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأن فيه زيادة الكاف أو المثل, لأنه لو قال: ليس كهو شيء أو ليس مثله شيء لاستقل الكلام. وأما النقصان فنحو قوله تعالى: {واسْأَلِ القَرْيَةَ} وتقديره "واسأل أهل القرية" فنقص الأهل وحذف. وإنما وصفت الزيادة بأنها مجاز, لأنها وردت غير مفيدة, وهي في الأصل موضوعة للإفادة. فصارت مستعملة في غير ما وضعت له. وكذلك النقصان لما حذف من موضعه صار بمثابة كلام عدل عما وضع لإفادته. ولحقيقة الكلام الذي وضع لإفادتها وجوه معقولة من إطلاقه بعد التواضع على إفادة ما وضع له, والمجاز الذي لم يوضع في الأصل له معقول بدليل يقارنه لا بإطلاقه, إذ ليس بموضوع له في الأصل. فصل والمجاز مستعمل في موضعه, والباب الذي استعمل فيه لا يتعدى به عنه, ولا يقاس عليه. والحقيقة متعدية إلى جميع ما وضعت لإفادته إما بإطلاقها أو بتقييدها, ولو لم يجر معها لا ينقض طريق المواضعة وبطلت

الدلالة, وهذا معنى قولهم إن المجاز مقصور على موضعه. والحقيقة تتعدى إلى كل ما وجدت فيه فائدته. ومرادنا بقولنا إن المجاز لا يتعدى مكانه أنه لا يتعدى بابه, لا أنه لا يستعمل إلا في الشيء الذي استعمله فيه أهل اللغة بعينه, لأنه يجوز أن يقال: سل الربع والطلل, مكان قولهم سل الديار, لأنه من بابه, ولا يجوز أن يقال سل الدابة والحمار قياسًا على هذا الباب./ ص 87

باب معرفة الفصل بين الحقيقة والمجاز

باب معرفة الفصل بين الحقيقة والمجاز وطريق العلم بذلك أربعة أمور: أحدها: أن الحقيقة من الكلام جار في جميع ما وضع لإفادته نحو القول ضارب وعالم وقادر الجاري على كل من له ضرب وعلم وقدرة, وكذلك القول إنسان وفرس المفيد الصورة تابع أبدًا لها إينما وجدت من غير تخصيص, وإلا بطلت دلالة الكلام وانتقضت المواضعة. والمجاز مقصور على موضعه لا يقاس عليه, كالذي قلناه من قبل, لا يقال: سل البساط ويعني صاحبه قياسًا على قولهم: سل الربع وقوله سل القرية والعير. والثاني: أن يكون ما جرى عليه الاسم حقيقة يستحق منه الاشتقاق, فإذا امتنع الاشتقاق منه علم أنه مجاز نحو تسمية الفعل والشأن أمرًا على وجه المجاز والأمر على الحقيقة بالشيء هو نقيض النهي عنه, وهو اقتضاء الفعل, ويشتق منه اسم أمر, ولا يشتق من القيام وقعود أمر, ولا من شيء من الأفعال, فوجب أن تكون تسمية الحال والشأن أمرًا جارية عليه مجازًا واتساعًا. ومنه قوله تعالى: {ومَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}. وقوله تعالى: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَمْرُنَا وفَارَ التَّنُّورُ} وقولهم:"ما أمر فلان وما حاله"

يعنون شأنه وطريقه. والثالث: أن يختلف جمع ما جرى الاسم على أحدهما مجازًا, والآخر حقيقة, فيعلم أنه مجاز في أحدهما لأن جمع الأمر الذي هو نقيض النهي أوامر, وجمع الأمر بمعنى الفعل والشأن أمور. فنقول: كيف أمر فلان؟ وكيف أموره؟ ولا نقول كيف أوامره. وإنما نقول ذلك في أقواله التي هي نقيض النهي. والرابع: أن يكون لما جرى عليه الاسم حقيقة تعلق بغيره أو ما يجري مجرى الغير له. نحو العلم والقدرة والأمر الذي لكل شيء منه تعلق بمعلوم ومقدور ومأمور به, وذلك اتفاق. فإذا سمي ما لا تعلق له بأنه علم وقدرة وأمر كان ذلك مجازًا. ومنه / ص 88 قولهم في الأمر العجيب الخارق للعادة هذا للعادة هذا قدرة الله, وهذا أمر الله, وقولهم: قد جاء علم الله من المطر والجراد, وإنما يعنون معلومه ومقدوره وفعله. وجميع ما ذكرناه من قوله تعالى: {جِداَرًا يُرِيدُ

أن يَنقَضَّ} وقوله تعالى: {واسْأَلِ القَرْيَةَ} وقوله تعالى {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} وقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِط} وقوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ} وهو يريد رسله وأولياءه. وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} وقوله تعالى: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}. وقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وقوله تعالى: {ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ}. وقد أهل اللغة في الرجل البليد: هذا تيس وحمار. وفي الشديد الأيد أسد وسبع. وفي الثقيل إنه جبل, وأمثاله أوضح دليل على أن في كتاب الله سبحانه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل اللغة مجازًا كثيرًا, اللهم إلا أن يقول قائل: إن الجدار يريد ويختار. وأن البليد تيس وحمار على الحقيقة, فلا يكون في عداد من يكلم.

فصل: كل مجاز فلابد فيه من حقيقة يرد ويرجع إليها الكلام

فصل وكل مجاز فلابد فيه من حقيقة يرد ويرجع إليها الكلام, وليس لكل حقيقة مجاز, لأن من الألفاظ والأسماء ما لم يتجوز بها غير ما وضعت له, وهي أكثر الخطاب. فصل وضربان من الأسماء لا يصح دخول المجاز فيهما. أحدهما: الأسماء العامة التي لا عموم فوقها, وذلك نحو القول: معلوم ومجهول ومظنون ومسهو عنه مشكوك فيه, ومذكور ومخبر عنه ومدلول عليه, وإنما امتنع دخول المجاز في ذلك, لأنه لا أمر إلا ويصح تعلق العلم به أو الخبر عنه والذكر له أو الدلالة عليه من موجود ومعدوم وقديم ومحدث. وليس من الأمور مالا يصح كونه معلومًا ومذكورًا ومخبرًا عنه ومدلولاً عليه على وجه حتى يكون إذا وصف بذلك جرى عليه الاسم/ ص 89 مجازًا اللهم إلا أن يكون المذكور والمعلوم لصاحب زيد ووكيله مذكورًا ومعلومًا لزيد فيكون ذلك مجازًا إذا نسبت إلى زيد من باب جعله معلومًا لمن ليس بعالم به لكن لمن يقوم مقامه. فأما أن يوصف أمر بأنه أمر معلوم أو مذكور أو مخبر عنه أو مدلول عليه, وهو مما لا يصح كونه كذلك فإنه محال.

والضرب الآخر من الأسماء أسماء الأعلام, نحو القول: زيد وعمرو, لأنه اسم موضوع للفرق بين الذوات والأشخاص, لا للفرق في الصفات وإفادة معنى في المسمى, حتى إذا جرى فيمن ليست له تلك الصفة صار مجازًا, نحو القول: ضارب وظالم إذا جرى على من لا ضرب له ولا ظلم, فلذلك صار قولهم الأسود بن يعفر والحرث بم ظالم مجازًا, لأنه لم يجر على أن في المسمى سوادًا وله ظلمًا. وقد يجوز التجوز بالاسم الموضوع للشيء على وجه العلم واللقب إذا استعملا فيمن لم يوضع له, نحو قولهم. هذا علم سيبوبه, وهذا علم بقراط وسقراط يغني بذلك كتبهم. وكذلك قولهم حفظت

المزني وحفظت سيبويه, وأنت تعني حفظت كتابيهما. وهذه جملة كافية في هذا الباب إن شاء الله.

باب القول في منع القياس في الأسماء

باب القول في منع القياس في الأسماء اختلف الناس في هذا الباب، فأجازه قوم من المتكلمين والفقهاء. ومنعه آخرون. وهو الصحيح الذي نقوله به. وأعلموا أن الأسماء على ضربين:

فضرب منها علم محض ولقب جامد، وضع للفرق بين الذوات والأشخاص، ولم يوضع لإفادة الفرق في الصفة، وذلك نحو تسمية الشخص زيداً وعمراً، وأمثال ذلك مما لا يفيد معنى وصفة في المسمى. وقد اتفق على أن ما هذه سبيله لا يصح القياس عليه، لأن كل من يرى القياس في الأسماء فإنما يقيس على معنى في المسمى وضع الاسم لإفادته، واللقب ليست هذه حاله. والضرب/ ص 90 الآخر مفيد للفرق في الصفة، نحو القول: قاتل وضارب وعالم وقادر وخل وخمر، وما أشبه ذلك مما وضع لإفادة معنى في الموصوف، وهذا- أيضاً- مما لا يصح القياس عليه لأمرين: أحدهما، اتفاق الكل على أن وضع اللغة وضع حكمي صحيح، وأن الغرض في وضع الأسماء الإفادة بها. وإذا كان ذلك كذلك وجب أنهم إذا وضعوا الاسم لإفادة الصفة إما مطلقة أو مقيدة، وليدلوا به على تلك الفائدة وجب اطراد ذلك الاسم واجراؤه على كل ما وجد فيه ذلك المعنى، وإلا فسدت الدلالة وانتقضت المواضعة، ووجب أن يكونوا متى وضعوا الاسم لإفادة الصفة في إطلاق أو تقييد أن يكون جارياً في جميع ما وجدت فيه. وأن يكون وضعهم الاسم لها، وتركهم التوقيف لنا على أنه مقصور على بعض ما هي في بمثابة قولهم ونصهم على أنهم وضعوا الاسم لكل من فيه تلك الصفة وقام العلم بصحة وضعهم.

أدلة المانعين للقياس

الثاني: وبما وصفناه من حالة مقام نصهم لنا على أنهم قد أجروا الاسم على كل من فيه تلك الصفة، ولم يكن للقياس مع توقيفهم لنا على ذلك وما يقوم مقام التوقيف وجه باتفاق، لنصهم لنا على أنهم قد سموا كل من له تلك الصفة مما قد وجد قبلهم وبعدهم وفي عصرهم بذلك الاسم. وهذا واضح في إحالة دخول القياس في الأسماء. فصل ومما يدل على منع القياس في الأسماء أن أهل اللغة إذا سموا شخصاً من الحيوان أدهم عند وجود السواد به، ووقفونا على أنهم سموه أدهم لوجود السواد به لم يخل حالهم من أربعة أمور: إما أن يكونوا قد وقفونا- مع ذلك- على أن القول أدهم جارٍ في لغتهم على كل ما وجد فيه السواد من حيوان وغيره/ ص 91 مما وجد قبلهم وكان في عصرهم ويوجد بعدهم .. أو أن يكونوا قد وقفونا على أنهم إنما قصروا الاسم على ذلك الشخص وحده لوجود السواد به. أو أن يكونوا قد وقفونا على أنه جارٍ على جنس ذلك النوع من الحيوان دون سائره. أو أن يكونوا إنما وقفونا على أنهم سموه أدهم لوجود السواد به، ولم يقفونا على أنه مقصور عليه أو على نوع من الحيوان، ولا على أنه جارٍ على نوع ذلك الحيوان، ولا على غيره. ولابد من هذه القسمة: فإن كانوا قد وقفونا على أن الاسم مقصور عليه وحده فلا شك أن من سمي غيره بذلك الاسم فقد خالف حكم لغتهم ووضعهم. وكذلك إن كانوا قد وقفونا على أنه اسم جارٍ على نوع ذلك الحيوان

فقط فمسمي غيره من الحيوان بذلك الاسم مخالف للغتهم. وإن كانوا قد وقفونا على أنهم يسمون بذلك الاسم كل ما وجد به السواد ماضياً وفي حال مواضعتهم ومستقبل أوقاتهم، فلاشك أن جريان الاسم على كل أسود توقيف، لا قياس. وإن كانوا سموا الشخص أدهم، وقالوا سميناه بذلك لوجود السواد به لم يخل حالهم من ثلاثة أمور: إما أن يكونوا قد وقفونا- مع ذلك- على أن القول أدهم جارٍ على كل ما وجد فيه السواد. أو أن يكونوا سموا ذلك الشخص أدهم، وقالوا سميناه بذلك لوجود السواد به، ولم يوقفونا على أنه مقصور عليه أو على نوعه دون غيره، أو على كل ما وجد به السواد وجب القطع على أن الاسم في لغتهم جارٍ على ذلك الشخص، وأنه لا يعلم أن ما عداه من نوعه وغير نوعه مسمى عندهم بذلك الاسم أم لا، وتجويز كل واحدٍ من الأمرين. فإن قال قائل، إذا عدم توقيفهم على إجرائه في كل ما وجد السواد به وجب اجراؤه عليه، لأن ذلك موجب لغتهم. قيل له، أتفصل "بين "من قال يجب قصره عليه وحده، أو عليه وعلى نوعه لأننا نجدهم يسمون/ ص 92 الشيء بالاسم لمعنى فيه ويقصرونه عليه أو عليه وعلى نوعه ويسمونه بالاسم لذلك المعنى ويجرونه مطلقاً على كل ما هو فيه، فليس مدعي إجرائه بمطلقه لعدم توقيفهم على إجرائه في موجب لغة

لهم أو موجب لغتهم أولى من مدعي قصره على موجب لغتهم، وهذا متكافئ لا يمكن الفصل فيه، فوجب منع القياس في الأسماء. فصل والأقرب في هذا الباب مع عدم توقيفهم على أن ما وضعوه لإفادة معنى مقصور عليه أو على نوعه أو جار عن كل ما وجد فيه ذلك المعنى، لأنهم لابد أن يضعوه على بعض هذه الوجوه ويوقفونا على ذلك بالقول أو ما يقوم مقامه، ويعلم ذلك من حالهم ليزيلوا به الإلباس ويعرفوا كيفية وقوع مواضعتهم، وإذا حصل التوقيف منهم على ما ذكرناه امتنع القياس. وعمدة المخالفين في هذا الباب أن الاسم إذا وضع لمعنى وجب إجراؤه يث وجد ذلك المعنى، وإلا بطلت فائدته، وهذا باطل. لأنه قد تكون فائدته مقصورة على شيء دون غيره على ما بيناه، وليس وضع القوم لغتهم على المعاني وضع الأحكام العقلية الموجبة عن عللها. وإنما المواضعة مواطأة وتابعة لقصدهم واختيارهم، وقد يختارون وضع الاسم لمعنى إذا وجد في شيء مخصوص على ما بيناه من قبل، فبطل ما قالوه. والغرض بالكلام في هذا الباب تسمية النبيذ خمراً لوجود الشدة فيه، والخليط جاراً، وواطئ البهيمة زانيا، ومستخرج الكفن من

القبر سارقاً، وأمثال هذا، فإذا جرى الاسم على ذلك من جهة القياس أدخل تحت العمومات والظواهر، كقوله تعالى {والسَّارِقُ والسَّارِقَة} وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي} وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه "وهذا بعيد لما قلناه. وقد وجدنا أهل اللغة يسمون بعض ما حدث فيه/ ص 93 الحموضة خلاً دون غيره، ويسمون بعض ما خرج من شيء فاسقا، وبعض ما يتجاوز الغرض المقصود جائزاً، ولا يجرون ذلك على كل ما وجد فيه ذلك المعنى، فبطل ما قالوه.

باب القول في إثبات الأسماء العرفية ومعنى وصفها بذلك

باب القول في إثبات الأسماء العرفية ومعنى وصفها بذلك أعلموا أن هذه الأسماء معروفة في اللغة ومستعملة على ما نذكره. معنى وصف الاسم بأنه عرفي أن المفهوم من إطلاقه بغلبة الاستعمال بعض ما وضع له، أو ما جرى عليه مجازاً لا حقيقة. والدليل على أن هذا معنى وصفه بأنه عرفي أنه لا يجوز أن يكون معنى ذلك أنه ابتداء وضع لما جرى عليه، لأن ذلك يوجب أن تكون جميع الأسماء عرفية. ولا يجوز أن يكون معنى وصفها بذلك أنها أسماء متجددة مبتدأة، لأن

ذلك سبيل سائر الأسماء اللغوية. ولا يصح أن يكون معنى وصفها بذلك أنها أسماء ابتدأها ووضعها غير أهل اللغة من العلماء بضروب المعلومات وأهل الصنايع والحرف والمهن، لأن ما يضعونه من ذلك بمثابة ما يحدثه أهل اللغة من الأسماء فكلها إذاً عرفي، وذلك باطل. ولا يمكن أن يكون وصف الاسم بأنه عرفي أنه منقول عما وضع له إلى غيره، لأن ذلك هو المجاز، وتسميته مجازاً أحق وأولى به فوجب أن يكون معناه ما قدمنا ذكره فقط. ولا خلاف في أن هذا الاسم قد ثبت في اللغة والاستعمال. وأن القول "دابة "كان موضوعاً في الأصل لكل ما دب ودرج، ثم غلب استعمال أهل اللغة لمطلقه في البهيمة/ ص 94 المخصوصة ذات القوائم الأربع. وكذلك قولهم متكلم هو في الأصل موضوع لكل ناطق بضرب من الكلام، وفي كل باب من الأبواب، وقد صار المفهوم من إطلاقه أنه المتكلم في أصول الديانات وأبواب النظر والجدل فيها. ومنها قولهم فقيه، لأنه في الأصل موضوع لكل من فقه شيئاً وعلمه.

وقد غلب استعماله في العالم بأحكام أفعال، المكلفين الشرعية دون العقلية، ودون غيره من العلوم، وكذلك القول معلم قد صار المفهوم من إطلاقه بغلبة العرف معلم أشياء مخصوصة لقوم مخصوصين. وقد الله سبحانه: {خَلَقَ الإنسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ} وقال تعالى: {وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} وقال تعالى: {فَمَا لِهَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي يعلمون. وكذلك فقد صار المفهوم عند أهل اللغة من إطلاق اسم الغائط والعذرة الحدث الذي يجري عليه الاسم مجازاً لا حقيقة، لأن الغائط في اللغة هو المكان المنخفض المطمئن الذي تقضي فيه الحاجة. والعذرة اسم للفناء الذي يستتر به وتقضي الحاجة من ورائه. وقد غلب استعماله في الحدث الذي يجري عليه الاسم مجازاً، وتتبع ذلك يطول. وفيما أومأنا إليه كفاية إن شاء الله. فصل فإن قيل، وما الداعي لأهل اللغة إلى تغليب استعمال ما وضعوه لأشياء في بعض ما يجري عليه. قيل لهم، هذا قد ورد على ما بيناه، ولا يلزمنا معرفة الداعي لهم إلى ذلك. ويمكن أن يكونوا إنما فعلوا ذلك لكثرة الأشخاص والأجناس وأنواع الحيوان وضيق الأسماء. فجعلوا مطلق بعض المشترك مستعملاً في بعض

فصل: المجازات التي غلب استعمال الاسم فيها

ما يجري عليه، ويمكن أن يكونوا قد خف عليهم وسهل القول دابة، واعتقدوا أنه أخف عندهم من القول فرس وجواد وطرف، فأكثروا استعمال الأخف. ويمكن- أيضاً- أن يكونوا إنما قالوا في وطء النساء مسيس، وفي الحدث أنه غائط وعذرة، لاستهجانهم استعمال اسم الوطء الأخص به واسم الحدث/ فقالوا مس المرأة كناية عن الفحش عندهم. وجاء من الغائط كناية ص 95 عما يستهجن ذكره بأخص أسمائه. وهذا ليس ببعيد. فصل ومن المجازات التي غلب استعمال الاسم فيها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ} وقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} وقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وقوله تعالى: {وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وأمثال ذلك مما قد بينا فيما سلف أن المفهوم منه ما هو مجاز فيه دون حقيقته. وأن المفهوم عند ذكر كل جنس ما غلب القصد إليه والاستعمال فيه دون غيره واستغناء ذلك بما يغني عن رده. وذكرنا أنه لا يجوز أن يكون المراد بالتحليل والتحريم أعيان ما وضعت له هذه الأسماء لأنها أجسام لا تدخل تحت قدر العباد، ولا يجوز دخولها تحت التكليف فصارت باتفاق مراداً بها المجاز وثبت أن المجاز المقصود بذكرها

ما علم بغلبة عرف الاستعمال. فإن قيل، فما تقولون لو ثبتت أسماء شرعية وإن كانت ألفاظًا لغوية، لكنها منقولة في الشرع إلى أحكام غير التي وضعت لها في حكم اللسان، ثم ورد الشرع بذكرها، هل يجب حملها على موجب اللغة أو موجب الشرع؟ قيل، كان يجب الوقف في ذلك، لأنه يجوز أن يراد بها ما هي له في اللغة. ويجوز أن يراد بها ما هي له في الشرع. ويجوز أن يراد بها الأمران إن كانا مثلين يمكن أن يقعا معًا في وقت واحد أو في وقتين. فإن كانا خلافين صح أن يريدهما جميعًا معًا. وإن كانا ضدين صح أن يريدهما على الترتيب، ويجب لتجويز ذلك أجمع الوقف إلى أن يدل دليل على المراد به على منا نبينه من بعد في حكم المحتمل من الألفاظ. ومن ذلك قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"

لأن المفهوم من ذلك بغلبة العرف مجاز هذا اللفظ الذي هو حكم الخطأ والنسيان/ لأنه معلوم بعرف الاستعمال أن المراد بقول القائل قبل ورود الشرع: رفعت عنك الخطأ والنسيان وما حدثت به نفسك رفع حكم ذلك دون رفع عينه، وكيف يخبر النبي صلى الله عليه وسلم برفع أمرٍ واقع موجود وهو يُجل عن ذلك. وقد علم - أيضًا - بغلبة الاستعمال أن الحكم المرفوع بهذا القول قبل ورود الشرع وحين وروده إنما هو رفع الحرج والمأثم والذم والعقاب دون رفع الغرم والضمان. فإن قصد الرسول عليه السلام رفع ذلك - أيضًا - فهو حكم شرعي مأخوذ بتوقيفه دون موجب اللغة، وذلك لا يستمر إلا مع القول بأن في الشرع ألفاظًا لغوية منقولة إلى معان شرعية، وذلك فاسد لما نبينه من بعد. فإن قال قائل: ما أنكرتم من وجوب حمل ذلك على رفع الغرم والضمان، وما يلزم بحكم الشرع دون حمله على رفع المأثم، لأجل زوال

الإثم على الخطأ من جهة العقل، فحمله على ما يستفاد من جهة الشرع أولى. قيل، هذا القول عندنا باطل، والعقل لا يمنع من جواز لحوق المأثم والعذاب على ما وقع على جهة النسيان، لما قد بيناه في أصول الديانات. وأحد ما يدل على ذلك من جهة السمع إخباره عن أوليائه، ومن أحسن الثناء عليهم أنهم رغبوا إليه في أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا رَبَّنَا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعْفُ عَنَّا}. فلو كان العقاب على الخطأ زائلًا من جهة العقل لم يكن للمسألة في ترك المؤاخذة عليه وجه إلا بالرغبة إليه تعالى في ترك الظلم والجور والحيف، والله يتعالى عن الثناء على قوم أجازوا عليه ذلك فثبت ما قلناه. فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكونوا إنما عنوا بالنسيان/ ص 97 ترك الطاعة وبالخطأ إصابة الذنب والخطية، لا ما وقع عن نسيان وعدم اعتماد؟. يقال لهم، هذا باطل من وجوه:

أحدها، إن اسم الخطأ والنسيان أخص بما وقع عن السهو وعدم القصد منه بالخطية واعتماد ترك الطاعة، لأن المفهوم من إطلاق القول نسي فلان وأخطأ عدم القصد إلى ما فعله ووقوعه مع السهو عنه والنسيان له لا إصابة الخطية واعتماد ترك الطاعة، فبطل ما قلته. والوجه الآخر: إنه لو كان الاسم مشتركًا بين اعتماد ترك الطاعة وفعل الخطية وبين ما قلناه لوجب حمله على ما ذكرناه، لأنه قد نقله عرف الاستعمال إلى ما وصفناه، لأجل ما قدمنا ذكره فزال ما قلته. والوجه الثالث: إن حمل الآية على ذلك مبطل للفائدة، لأنهم لو أرادوا بالنسيان اعتماد ترك الطاعة، وذلك خطيةً وعصيان لم يجز أن يقولوا: "أو أخطأنا" وهم يريدون إصابة الذنب، لأنه يصير ذلك في تقدير قولهم: ربنا لا تؤاخذنا إن أخطأنا أو أخطأنا، لأن هذا عي غير مستعمل ولا مفيد، فبطل ما قلته من كل وجه. فإن قيل: فقد قلتم بمثل هذا الوجه الأخير، لأن ما وقع مع النسيان خطأ غير مقصود، وما يقع خطأ غير مراد ولا مقصود، فكأنهم قالوا: لا تؤاخذنا إن أخطأنا أو أخطأنا، وهذا لا وجه له. يقال لهم: عن هذا جوابان: أحدهما: أن يكونوا عنوا بالخطأ ما وقع منهم على وجه الخطأ في التأويل مما غلطوا فيه، ولم يقصدوه، وأرادوا بالنسيان ما وقع على وجه السهو وذلك أمران مختلفان: والوجه الآخر: أن يكونوا أرادوا بقولهم أخطأنا إصابة الذنب الذي هو الخطية، وبالنسيان ما وقع على وجه السهو بغير قصدٍ واعتماد. فلا

يكون محمولًا على التكرار فزال ما قالوه. فصل فإن قيل: أفلستم قد قلتم قبل هذا أن العقل لا يوجب ذمًا ولا إيلامًا ومؤاخذة على شيء من الأفعال خطئها ومعتمدها وكيف تصرفت أحوالها./ص 98 فكيف تنكرون قول القدرية إن المأثم على ما وقع على وجه الخطأ والسهو زائل من جهة العقل. يقال لهم: نحن وإن قلنا ذلك فإننا نجوز أن يرد السمع بالوعيد ولحوق الذم والمأثم على ما وقع على وجه الخطأ والسهو وأن حكمه بذلك سبحانه عدل وصواب في حكمته، والقدرية تزعم أن الوعيد على ما وقع كذلك والذم عليه ظلم وخروج عن الحكمة. ولا يجوز أن يثني الله سبحانه على من رغب إليه في رفع ظلم العباد. وكأنهم قالوا: ربنا لا تحكم علينا من جهة الشرع بلحوق مأثم وذم ووعيد من جهة الشرع على ما وقع على هذا الوجه فإن لك أن تحكم بذلك وتشرعه، فصحت الرغبة في ذلك قول أهل الحق دونهم. وكذلك، فليس لهم أن يتأولوا قوله تعالى: {ولا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي ما يشق ويثقل علينا وإن كنا له مطيقين وعليه قادرين، لأجل أن ذلك خلاف الظاهر، لأنه مقتضٍ لنفي الطاقة له، وإنما يقال فيما ثقل فعله على القادر أنه لا يطيقه مجازًا واتساعًا. وقولهم إنما حملناه على المجاز كما

وصفتم لأجل أن تكليف ما لا يطاق ظلم وعدوان لا يجوز في حكمته، كذب من قولهم، بل ذلك عدلٌ من الله وصواب في حكمته وتدبيره. وقد بينا ذلك في الكلام في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. فهذه جملة تكشف عن أن المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" رفع المأثم والعقاب يعرف الاستعمال. فصل فإن قال قائل: فإذا كان هذا هو المعقول والمفهوم من الكلام وجب - أيضًا - أن يفهم منه رفع الغرم والضمان والكفارة وقيمة المتلف بالخطأ من الأفعال لأن الغرم والضمان والكفارة عقوبات وقد قلتم إن المفهوم منه زوال المأثم والعقاب. يقال لهم: ليس الأمر على ما ظننتم، ولكن تكليف هذه الأمور ابتلاء وامتحان، ومما ينال به الثواب. وقد تلزم الكفارة قاتل الخطأ ومصيب

النفس بغير قصد/ ص 99 إذا جعل له رمي الغرض فأصاب نفسًا، وليس ذلك بعقاب ولكنه تكليف وامتحان. وقد يجب على الإنسان الغرم والضمان في فعل بهيمته لا على وجه العقاب. وقد يجب الغرم والضمان في فعل الطفل في ماله وإن لم يكن من أهل التكليف والعقاب. وقد تجب الحدود من القتل والجلد والقطع على التائب المنيب امتحانًا لا عقابًا، لأن عقاب التائب ظلم عندهم. فبطل قولهم إنه إذا كان مفهوم الخبر سقوط الإثم والعقاب وجب - أيضًا - أن يفهم منه سقوط الغرم والضمان، لأنه ليس من العقاب في شيء. فأما قولهم: إنما وجب حمله على رفع الغرم والضمان دون رفع المأثم والعقاب، لأنه هو المستفاد رفعه من جهة الشرع من حيث علم رفع المأثم والعقاب عليه من جهة العقل قبل الشرع فقول باطل، لأن العقل لا يحيل ورود الشرع بالحكم بالمأثم والعقاب على ما وقع على غير وجه العمد، فبطل ما ظنوه. على أنه يجوز أن يقال: قد فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أنه رفع عنهم الغرم والضمان والكفارة على وجه العقاب

فصل: ما ألحق بالمجمل وليس منه

والانتقام منهم بذلك، لأن العقل بزعمهم يرد ذلك ويحيل ورود الشرع بالحكم به، وإن لم يرفع عنهم الغرم والضمان والكفارة على وجه التكليف والامتحان. وعلى أن لهم في فعل ما يلزمهم من ذلك قربةً وثوابًا، والعقل لا يرفع جواز الامتحان والابتلاء بهذه الأفعال وإن لم يكن عقابًا ولا جاريًا مجرى قوله في مكفر قتل الصيد عامدًا {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله تعالى {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وقاتله خطأ وجوب الجزاء بمنزلة العامد، أحدهما آثم منتقم منه، والآخر ممتحن غير مأثوم. فإذا كان ذلك كذلك حمل على رفع الغرم والضمان عقابًا وانتقامًا لا ابتلاءً وامتحانًا، وبطل ما قالوه، وخرج قوله صلى الله عليه وسلم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" عن باب المجعل الذي لا يفهم معناه ولا يستقل بنفسه. فصل ومما ألحق - أيضًا - بالمجمل وليس منه، بل معناه مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم/ "الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى" و "إنما الأعمال بالنيات".

وما ورد من نحو هذه الألفاظ، لأن معنى مثل هذا الكلام مفهوم عند أهل اللغة قبل النبوة، وتخاطبهم به معتاد والمفهوم منه أن الأعمال إنما تكون نافعة مجزئة بالنية، ولم يُعن به أنه إن وقع بغير نية كان معدومًا غير واقع ولا عمل على الحقيقة، هذا ما لا يجوز أن يعينه حكيم من أهل التخاطب فضلًا عن الرسول عليه السلام. وقد علم أن القائل منهم إذا قال إنما لك من عملك ما تنويه، وما تنويه فهو العمل، والعمل بالنية، وإنما العمل بالنية، إنما يراد به النفع والاحتساب بالعمل وقوله: "إنما الأعمال بالنيات". وإنما لامرئ ما نوى. جاء لتحقيق كون العمل نافعًا ومعتدًا أو محتسبًا به بالنية. وكذلك قوله تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والْمَسَاكِينِ والْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وقولهم: إنما العالم من عمل بعلمه، وإنما الشجاع من برز لقرنه ولقي الحرب بنفسه وأمثال هذا من الكلام ومنه قول الشاعر: أنا الرجل الحامي الذمار وإنما يدافع عن أمثالهم أنا أو مثلي فوجب أن يكون معنى هذا الكلام مفهومًا وأن يكون مجملًا. وليس يمتنعن مع ذلك أن يكون فيه وجه من وجوه الاحتمال، وهو أنه

إذا قال: إنما الأعمال بالنيات، فإنما يفهم منه أنها تكون نافعة محتسبة بالنية. وإذا قال: لا عمل إلا بينة، فكأنه صرح فقال لا عمل نافع إلا بنية. وقد يريد بقوله: لا عمل نافع على وجه من الوجوه إلا بنية فيرفع به النفع جملة. وقد يجوز أن يريد أنه لا عمل نافع مثل نفع العمل بنية، ولكنه دونه في النفع، فيكون نافيًا لنفع دون نفع، لا لجملة النفع أصلًا فيجري مجرى قوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". وهو يعني لا صلاة تامة كاملة لها من الثواب مثل ثواب الصلاة في المسجد، فتجوز دعوى الإجمال في الخبر من هذا الوجه. فإن قيل: فأنتم إذًا لا تعلمون بنفس هذا القول نفي النفع والثواب أصلًا وعلى كل وجه على العمل بغير نية. قيل له: أجل، لأنه قد كان يجوز أن يراد به نفي كمال النفع والثواب دون نفي قليله وكثيره، وإنما علمنا أن ما وقع بغير نيةٍ وغير مراد به الله سبحانه مما يجوز أن يراد الله سبحانه به، ويجوز أن لا يراد به دون نفس الإرادة له بالعمل والإخلاص، ودون النظر والاستدلال على معرفة الله

سبحانه فإنه غير مثاب صاحبه بتوقيف. ونصوص غير هذا القول المحتمل لما قلناه. فصل ومما ألحق - أيضًا - بالمجمل وليس منه في شيء قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يُبيت الصيام من الليل" و"لا نكاح إلا بولي".

و "لا صلاة إلا بطهور" وفاتحة الكتاب./ ص 101 "ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" "ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وأمثال هذا مما في اللفظ نفي عينه وهو موجود ثابت، لأن معنى هذا الكلام مفهوم في عرف اللغة والاستعمال قبل الشرع والرسالة، لأنهم إذا قالوا لا علم إلا

ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد، ولا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله، ولا عمل إلا ما أجدى ونفع عُلم بذلك أنهم يعنون لا علم ولا كلام نافع إلا ما أفاد، ولا حكم واجب لازم إلا لله، ولا عمل يجب الاشتغال به إلا ما أجدى ونفع، ولا طاعة لمن عصى الله تجب وتلزم. هذا مفهوم عند جميع أهل اللغة، ومن عرف كلامهم قبل ورود الشرع وبعده فوجب حمل الكلام عليه، وخرج بذلك عن حد الإجمال، ووجب أن يكون المعقول من قوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" أنه لا صيام مجزئ مجدٍ نافع إلا ما كان كذلك، ولا صلاة نافعة مجزئة، ولا وضوء نافع مجدٍ مجزئ إلا ما كان كذلك. وقد ثبت أن العمل كله من هذه الأجناس وغيرها لا يكون نافعًا مجديًا من جهة العقل، ولا يحصل عليه ثواب ونفع إلا من جهة الشرع وحكم السمع. فكأنه قال صريحًا عليه السلام: لا عمل مجدٍ للثواب والنفع إلا ما كانت هذه حاله، فوجب أن يعقل من هذا النفي نفي كون العمل شرعيًا مكتسبًا للثواب ومعتدًا به. فأما أن لا يفهم منه معنى، أو يفهم منه نفي ذات العمل الواقع المذكور، فإنه قول باطل، لأن معناه مفهوم بعرف الاستعمال، وفساد نفي وقوع العمل معلوم بنفي الكذب والخلف عن قول الرسول عليه السلام. ومع هذه فإنه قد يجوز أن يكون في هذا الخطاب إجمال واحتمال من غير هذا الوجه الذي ظنوه، وهو تردده بين نفي شيئين يصح القصد به إلى كل واحد منهما بدلًا من الآخر، وهو أن يكون أراد بقوله "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" شرعي مجدٍ مجزئ معتد به لصاحبه. ويجوز أن يكون أراد لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل كامل فاضل وإن كان شرعيًا مجزئًا ومعتدًا به، إلا أنه غير كامل وفاضل. وعلى هذا يجب حمل قوله

فصل: الفعل الشرعي قد لا يكون مجزئا كصلاة من ظن أنه متطهر

عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" لأنه احتمل نفي الإجزاء والاعتداد وأن تكون شرعية بوجه ما. واحتمل أن يكون قُصد به نفي الفصل والكمال فحمل على ذلك. ولولا أن الدليل أوجب حمله على أحد الوجهين لوجب الوقف في المراد به من نفي حكم الشرع. وكذلك، فولا أن الدليل قد قطع على أنه لا صلاة مجزئة بغير طهور ونية وقراءة فاتحة الكتاب لجاز أن يريد بقوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور" لا صلاة فاضلة وكاملة وإن كانت شرعية مجزئة. وقد أوضحنا من قبل وجه إحالة دعوى العموم في نفي الحكمين أعني الإجزاء والكمال لموضع ما في ذلك من التناقض/ص 102 والتضاد، لأن النفي لكونها مجزئة ومعتدًا بها ينفي كونها شرعية، والنفي لكونها كاملة فاضلة فوجب كونها شرعية معتدًا بها، وذلك متناقض محال أن يراد باللفظ عموم أمرين متناقضين أو أمور متناقضة، ولذلك لم يصح حمل القول: أي شيء يحسن زيد؟ على الاستفهام والتفخيم والتعظيم. وقوله تعالى: {وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} على الإباحة والندب والإيجاب، وإن صلح استعماله في كل شيء من ذلك على البدل لموضع تضاد محتملاته وتنافيها. فصل ويجب أن يجعل مكان قولنا غير مجزئة غير شرعية، لأن الشرعية قد لا تكون مجزئة إذا وجب إعادتها كالصلاة المفعولة بظن الطهارة. فإذا

ذكر فاعلها أنه كان غير متطهر وجبت إعادتها، وإن كانت حين فُعلت شرعية وطاعة وقربة مثابًا فاعلها، ولكنها مع ذلك غير مجزئة بمعنى أن مثلها واجب بعد فعلها بفرض ثان مبتدأ، على ما سنشرحه من بعد إن شاء الله. فصل وبين قوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يُبيت الصيام من الليل". وبين قوله: "لا صلاة إلا بأم الكتاب" و "إلا بطهور"، و "لا نكاح إلا بولي" فصل وفرق. وهو أن قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" نص على أنه لا صيام لمن لم يبيت النية، وليس في نصه أن له صيامًا إذا بيت النية له، ولكنه عند القائلين بدليل الخطاب ثابت بدليله دون نصه، وعند آخرين بمفهوم النص والاستعمال، وكأنه عندهم قال: وإن بيته فله صيام، وهو مقدر في الكلام، وإن كان محذوفًا، ويجب على القول بنفي دليل الخطاب أن يكون ثبوت الصيام لمن بيته معلومًا بدليل آخر غير قوله: "لا صيام".

فأما قوله "لا صلاة إلا بطهور" و "ولا نكاح إلا بولي". ففيه نصان، أحدهما: نفي النكاح والصلاة بغير ولي ولا طهور. والآخر إثباتها بولي وطهور، نحو: قوله: إلا بولي وإلا بطهور. فهو كلام فيه نفي وإثبات مستثنى من النفي، وهو عندهم بمنزلة قوله لا تضرب زيدًا إلا قائمًا ولا تكلمه إلا راكبًا، لأ فيه نهيًا عن ضربه غير قائم وأمرًا به إذا كان قائمًا. وهذه جملة مقنعة في هذه الفصول والأبواب إن شاء الله.

باب القول في أن جميع أسماء الأحكام والعبادات لغوية غير مغيرة ولا منقولة

باب القول في أن جميع أسماء الأحكام والعبادات لغوية غير مغيرة ولا منقولة اعلموا - رضي الله عنكم - أن الذي عليه أهل الحق وجميع سلف الأمة من الفقهاء وغيرهم أن الله سبحانه لم ينقل شيئًا من الأسماء اللغوية إلى معان وأحكام شرعية، ولا خاطب الأمة إلا باللسان العربي، ولا أجرى سائر الأسماء والتخاطب إلا على ما كان جاريًا عليه في وضع اللغة. والمخالفون في هذا الباب ثلاث فرق: فمنهم المعتزلة والخوارج وفرقة ثالثة من المتفقهة اغترت بشبه

الخوارج والمعتزلة فوافقتهم على بدعتهم من غير قصد إلى تأييد باطلهم وعلم بما يؤول/ص 103 إليه مخالفة هذا الأصل من تصحيح قولهم في أسماء الأفعال وتحقيق الكفر والإيمان وما يتصل بالقول في الوعد والوعيد، والأسماء والأحكام. فزعمت المعتزلة أن الأسماء على ثلاثة أقسام: لغوية ودينية وشرعية، وكذلك قالت الخوارج. فأما الأسماء الدينية فهي أسماء الإيمان والكفر والمؤمن والكافر والفاسق. وزعموا أن الله سبحانه جعل القول "إيمان" جاريًا على ضروب وأجناس من الأفعال لم يكن الاسم جاريًا في اللغة عليها، وكذلك

القول "كفر" وأن القول "مؤمن" وضع في الدين لم يستحق ثوابًا عظيمًا، والقول "كافر" وضع فيه لمن يستحق ضربًا من العقاب عظيمًا، وأن اسم الإيمان جارٍ في اللغة على الإقرار والتصديق فقط. واسم الكفر جارٍ على الجحد والإنكار، وهو التغطية، وأن اسم الفسق جارٍ على كل فعل معصية يستحق عليها العقاب والذم إذا انفردت وترك كل فرض يستحق بتركه الذم والعقاب. وكذلك زعمت الخوارج أن اسم الكفر في حكم الدين جارٍ على كل معصية، والقول "كافر" جارٍ على كل عاصٍ، حتى ركب كثير منهم القول بأن معاصي الأنبياء كفر. فهذه هي الأسماء الدينية عند الخوارج والمعتزلة. وقد كذب الفريقان على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ادعوه عليهما من ذلك. والدليل على كذبهم فيه اختلاف القدرية في الطاعات التي هي الإيمان. وقول أبي الهذيل منهم وهو شيخهم أنه اسم لفرائض الدين ونوافله. وأن الإيمان ثلاثة أقسام: فقسم منه يكفر تاركه وهو المعرفة والتصديق.

وقسم منه يفسق تاركه ولا يكفر، وهو الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من فرائض الدين التي ليست بتصديق. وقسم منه لا يكفر تاركه ولا يفسق وهو النوافل من الطاعات وسائر المعتزلة تكذبه في هذه الدعوى. وتقول: بل إنما جعل الشرع اسم الإيمان واقعًا على فرائض الدين دون نوافله مع ترك المحرمات فيه. فلو كانت الحجة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما نقل إليه هذا الاسم من الطاعات لوجب علمهم به ورفع اختلافهم فيه. وكذلك فقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى كل شيء من ذلك في حكم الدين إيمانًا إذا فعل مع غيره من سائر الطاعات. فأما إن انفرد عنها لم يُسم بذلك، وكذلك فإنه عليه السلام إنما حكم بأن جميع هذه الطاعات مسماة إيمانًا إن لم يقترن بها من الفسق والكبائر ما يُحبط ثوابها، وإن قارنها شيء من ذلك لم يحكم بتسميتها إيمانًا. وكل هذه مذاهب لهم مبتدعة ومحدثة ومنكر به على الرسول عليه السلام. قالوا: فأما الأسماء الشرعية فهي الأسماء اللغوية التي نقلت في الشرع إلى أحكام شرعية، نحو الصلاة والحج والزكاة والصيام، وأمثال ذلك. وأنه لما حدثت هذه الأحكام احتيج إلى وضع أسماء لها، فلو ابتدأت لها أسماء موضوعة ليست من ألفاظ العرب جاز وصح. وإن نقلت بعد الأسماء اللغوية إليها وسميت بها جاز ذلك وقام مقام إحداث

أسماء مجددة لها. وأما الأسماء اللغوية، وهي الجارية على ما كانت عليه في اللغة غير محدثة ولا منقولة/ ص 104 إلى غير ما وضعت له. وهي الأغلب الأكثر منها. فقصد الخوارج والمعتزلة المخالفة على سلف الأمة في أصول الديانات، لا تصحيح أسماء لهذه الأحكام. وليس هذا من قصد ضعفاء المتفقهة المطابقة لهم على هذه البدعة بسبيل. والذي يدل على فساد قول الجميع قول الله عز وجل: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا} وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} وقول تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} في نظائر هذه الآيات التي أخبر فيها بأن الخطاب للأمة لم يتوجه إلا باللسان العربي، سيما وهم يقولون بالعموم، وظواهر هذه الآيات يوجب كون الخطاب كله عربيًا مستعملًا فيما استعملته العرب، وإلا كان خطابًا بغير لغتهم، على أن الأمة مطبقة على إطلاق القول بأن الله سبحانه ما بعث نبيه وخاطب المكلفين على لسانه إلا باللسان العربي. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. ولأنه إذا نقل الأسماء اللغوية إلى أحكام وعبادات شرعية، ولم تكن

الأسماء مستعملة فيها في اللغة حقيقة ولا مجازًا كان ذلك خطابًا لهم بغير لغتهم وبمثابة إحداث أسماء يخاطبهم بها ليست بألفاظ عربية ولا مستعملة على ما استعملوه. وكذلك لو قال لهم اقتلوا المشركين وهو يريد المؤمنين، واقطعوا السارقين وهو يريد القاتلين، ونهيت عن قتل المصلين وهو يريد الضاربين لكان مخاطبًا لهم بغير لغتهم. وإن كانت هذه الأسماء لغة لهم غير أنه مُستعمل لها في غير ما استعملوه فيه حقيقة أو مجازًا وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. فصل ومما يدل على ذلك أنه لو كان الرسول عليه السلام قد نقل بعض الأسماء اللغوية إلى أحكام شرعية أو إلى أفعال توصف في حكم دينه بأنها كفر وإيمان وفسوق، وعلى شرائط محدودة بأن تكون مجتمعة وأن لا تضامها كبيرة تزيل ثوابها لوجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يوقف الأمة على نقله هذه الأسماء توقيفًا يوجب العلم ويقطع العذر، ويُنقل نقلًا تقوم به الحجة ويوجب العلم ضرورة أو دليلًا. ولما لم نكن إلى العلم بصدق دعواهم هذه على

الرسول عليه السلام مضطرين، ولا قامت حجة ودلالة على ثبوت خبر مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نطق به كتاب، ولا أجمعت عليه الأمة، ولا دلت عليه قضية العقل باتفاق، ولا ورد ورودًا متواترًا يعلم تعذر الكذب والاتفاق على مثل نقلته، ولا هو مما يعلم أن صحابيًا نقله عن الرسول عليه السلام بحضرة جماعة شاهدوه يمتنع عليهم الإمساك عن كذب يضاف إلى سماعهم وعلمهم، بل لا يقدر أحد أن يروي حرفًا في ذلك عن الرسول عليه السلام، وأنه قال قد نقلت بعض الأسماء اللغوية إلى أحكام حدثت شرعية وأفعال دينية وجب القطع على كذب هذه الدعوى، وهذا مما لا جواب لهم عنه، ولا طريق لهم إلى القدح فيه. وقد زعموا أن القرآن قد دل على ذلك وهو قوله تعالى: {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} / ص 105 وأنه أراد صلاتكم نحو بيت المقدس، وهذا باطل. لأنه إنما عنى سبحانه إنه لا يضيع تصديقهم بالصلاة نحو بيت المقدس.

وكذلك المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "نهيت عن قتل المصلين" لأنه عنى المصدقين بوجوب الصلاة باتفاق، فيوصف التصديق بالصلاة صلاة على طريق المجاز والاتساع، وذلك من موجب اللغة على طريقتهم في التجوز. وأما أن يكون نقل الاسم إلى ذلك وجعله حقيقة له بعد أن لم يكن كذلك، فإنه باطل. وقد تعلقوا في ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "الإيمان بضع وسبعون خصلة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". فإنه من قولهم تعلق باطل، لأن هذا الخبر من أخبار الآحاد عندهم، وفي أدون منازل أخبار الآحاد، وهو غير موجب للعلم. والكلام في هذا الباب كلام في أصل عظيم لا يحل الخلاف فيه والقول بغير الحق، فلا يجوز أن يعمل في تصحيحه بأخبار الآحاد. على أنه لو صح لوجب حمله على موافقة موجب الآيات. وما ذكرناه من الإجماع على أنه مخاطب للأمة باللغة العربية. ونقل أسمائهم إلى غير ما وضعت له خطاب بغير لغتهم، فيجب أن يكون أراد أن هذه الخصال والأفعال من دلائل

الإيمان وأماراته، وأفعال المؤمنين، فسمي الشيء باسم ما دل عليه مجازًا واتساعًا، فبطل التعلق بالخبر من كل وجه. وأما تعلقهم في ذلك بأنه لما حدثت في الشرع عبادات وأفعال ذوات جمل وهيأت وشروط، ولم يكن لها في اللغة أسماء احتيج إلى إحداث أسماء لها أو نقل أسماء لغوية إليها، فلما لم يحدث لها أسماء وجب أن تنقل الأسماء اللغوية إليها، لأن التكلم بها أخف على أهل اللسان من الأخذ لهم بالنطق بأسماء مجددة لم يستعملوها وألفاظ أعجمية، وذلك نحو القول صلاة وصيام وحج وأمثال ذلك من جمل الأفعال التي سميت في الشرع بهذه الأسماء كلها، كما يُحدث أهل الصنائع والحرف لما يحدثونه من الآلات أسماء يتواضعون عليها تمس الحاجة إليها. فإن يقال لهم: ومن أين لكم أنه قد حدثت في الشرع عبادة لم يكن لها في اللغة اسم، وهل الخلاف إلا في ذلك؟. فلا تجدون إلى ذلك سبيلًا. ثم يقال لهم: ومن الذي يُسلم لكم أن الله سبحانه والرسول عليه السلام قد جعلا اسم الصلاة جاريًا على جملة الأفعال التي منها ركوع وسجود وقيم وقعود، وما/ ص 106 أنكرتم أن يكون اسم الصلاة إنما يقع منها على الدعاء فقط والرغبة إلى الله سبحانه، لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء، ولكن أخذ علينا أن تكون دعاء على شروط ومعه نية وإحرام وركوع وسجود وقراءة وتشهد وجلوس. فالاسم في الشريعة لما كان صلاة في اللغة

وإن ضُمت إليه شروط شرعية. وكذلك الصيام إنما هو الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما قيل لنا امسكوا عن ذلك مع تبييت نية، ومن وقت إلى وقت. وكذلك الحج إنما هو القصد، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزيرقان المزعفرا يعني يقصدون عطاءه. وقال آخر: قالت سلمى تصبرتم فقلت لها لا والذي بيته بأسلم محجوج يعني مرور مقصود، والحج هو القصد. ولكنه في الشرع قصد إلى بيت مخصوص، وعلى أوصاف وشروط مخصوصة. وكذلك الزكاة إنما هي النماء، فسمي إخراج الواجب من الأموال زكاة

على معنى أنها إذا أخرجت بورك في المال ونما وزاد. وكذلك القول في سائر العبادات ذوات الجمل في أن الاسم إنما يتناول ما كان له اسم منه في اللغة. وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه، هذا على أنهم مختلفون فيما الصلاة من هذه الأفعال، وما يكون الفاعل له مصليًا وإن ترك ما عداه على ما قد ذكرناه فيغير هذا الكتاب. ويقال لهم: ما أنكرتم - أيضًا - أنه إنما سميت جميع هذه الأفعال صلاة لكونها متبعًا بها فعل الإمام ومقتف على أثره، لأن التالي للسابق يوصف بأنه مصلٍ على أنه تالٍ له. فيقال: السابق والمصلي والصلاة تكون بمعنى الدعاء، وذلك هو المشهور في اللغة، ومنه قوله الله تعالى: {وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} وقوله تعالى: {ومِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}. يريد دعوات الرسول. ومنه سُميت الصلاة على الميت صلاةً لأنها دعاء له، وإن لم يكن فيها ركوع ولا سجود ولا جلوس. ومن ذلك قول الأعشى يصف خمَّارًا.

لها حارس لا يبرح الدهر دنها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما يعني دعا لها بالبركة خيفة فنائها. ومنه قول الآخر: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم فهو دعاء لها بالبركة. ومنه قول الآخر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلًا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي يومًا فإن لجنب المرء مضجعًا/ ص 107 وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه من نقل اسم لغوي إليها وثبت بذلك ما قلناه. وهذه جملة مقنعة في هذا الباب إن شاء الله.

باب الكلام على من زعم أن في القرآن ما ليس من لغة العرب وكلامها

باب الكلام على من زعم أن في القرآن ما ليس من لغة العرب وكلامها فإن قال قائل: كيف يسوغ لكم أن تقولوا إن جميع الخطاب المنزل على الرسول عليه السلام بلغة العرب مع اختلاف الناس في هذا الباب. وقول كثير ممن يتعاطي الآداب والتبحر في معرفة الألفاظ والأوزان إن في القرآن ألفاظًا كثيرة ليست بعربية نحو قوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} والمشكاة كلمة هندية، ومنه - أيضًا - قوله تعالى:

{ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَق} والقول إستبرق زعموا (أنها) كلمة فارسية. قالوا: وقد استعملت العرب - أيضًا - بعض ألفاظ الروم والفرس فقالوا: "فسطاط" وهي كلمة رومية. وطرز وسندلي وهما كلمتان فارسيتان. قالوا: وقد قال بعض السلف إن الأب لا يعرف في كلام العرب وهو قوله تعالى {وفَاكِهَةً وأَبًا} وذكر الأعشى في بعض قصائده الفسحاة ويعني به صلة المجلس، وهي كلمة غير عربية ولا معروفة في اللسان.

واعلموا - وفقكم الله - أن هذا القول خلاف على جميع سلف الأمة، وهو قول شذوذ منهم، وقليل من كثير أحدثوا خلافًا بعد الإجماع غير معتدٍ به، وجميع ما قدمناه من آي القرآن التي أخبرنا الله فيها إنه أنزله بلسان عربي مبين أوضح دليل على فساد قولهم. وقد دل على ذلك - أيضًا - قوله تعالى: {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًا لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا}. ودل عليه - أيضًا - قوله تعالى بلسانهم. وقوله تعالى: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ومن أوضح ما يدل عليه قوله تعالى: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ} أي بلسانين عربي وأعجمي، فهلا كان بلسان واحد فيكون أبلغ في الآية، ولئلا يقولوا هذا/ ص 108 ويقولوا إن منزله ومورده عجز عن إيراده ونظمه على هذا الحد من البلاغة بلسان واحد، وأنه محتاج في ترتيبه والكشف عن معناه إلى الاستعانة بلسان العجم، ولو كان عالمًا بوجوه النظم وكثرة الاتساع والانبساط والقدرة على نظم اللسان العربي لما احتاج إلى خلطه والاستعانة في نظمه بلسان أعجمي، فيكون ذلك شبهة لهم في القدح في إعجاز القرآن، وأخبر تعالى أنه منزل بلسان واحد،

وأنه لا أعجمي فيه، ونفي الأعجمي نفي لأن يكون فيه شيء مما يخالف لغة العرب من سائر اللغات، ونص على السبب الذي لأجله جعله عربيًا فقط غير ممزوج ولا مختلط مشوب. ثم أكد هذا المعنى - أيضًا - وأوضحه بقوله تعالى: {ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} فأخبر أنه بغير لسان الفرس، ولو كان فيه أعجمي غير عربي لقالوا له مسرعين: وفيه أعجمي غير عربي، فلم لم تقل بلسان أعجمي؟ ولم صار بالنسبة له إلى لسان العرب أولى من نسبته إلى لسان العجم؟ ولقالوا له: ما قلنا أن جميعه أعجمي، وإنما قلنا إن فيه كلمات أعجمية يُعينك بها سلمان أو غيره، وهي فيه منها كذا وكذا، وكل هذا يوجب القدح في الإعجاز، ويقدح فيما نص الله سبحانه عليه بأنه عربي مبين. وقد حرسه الله سبحانه من ذلك، فبطل ما قالوه. ولولا ما ذكرناه من نفي هذه الشبهة، وقوله تعالى: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ} لأجزنا أن يكون

المراد بقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًا} وما أشبه ذلك أن معظمه وكثيره بلسان العرب، ولكن نص الله على نفيه عن ما ليس من لغة العرب منع من هذا التجويز. ويدل على ذلك أنه لو كان منه غير عربي لوجب بمستقر العادة موافقة قريش له على ذلك، ولوجب اعترافه به ولوجدوا مساغًا إلى الطعن في القرآن وإلى أن يقولوا: ليس فيما أثبت به من طوال السور وقصارها إلا وفيه ألفاظ أعجمية ليست من كلامنا ونحن لا ندعي القدرة على وزن كلامٍ ونظمه بعضه عربي وبعضه/ ص 109 أعجمي، وإنما نقدر على معارضته لو كان كله بلساننا، فيصير التعلق بهذا أعظم شبهة قادحة في الآية، فدل ذلك على فساد ما قالوه. ولأنه كان يجعل لهم بذلك طريقًا إلى شبهة أخرى، وهو أن يجحدوا كثيرًا من ألفاظهم العربية التي في القرآن، ويقولوا إنها ليست بعربية، فيدخلون بذلك شبهة إذا أقر لهم في الجملة بأن منه ما ليس بعربي، وعلى أنه لو ثبت أن في القرآن ألفاظًا قد تكلمت الهند وغيرها من العجم بها وبأمثالها لوجب أن تكون تلك الألفاظ عربية، وأن تكون العرب هي السابقة إلى التكلم بها وإن اتفق للعجم النطق بها، ويكون الدليل على أن العرب قد سبقت إليها إضافة الله سبحانه الكلام إليها دون العجم. ولابد أن يكون معنى هذا الإضافة إليهم أنهم هم المبتدئون السابقون إليها. ولو سبقت العجم إلى وضعها لوجب إضافتها إليها، وقد تستعمل العجم كثيرًا من ألفاظ العرب لضيق لغتها وتعذر الكلام عليهم، فيقولون "حراق" مكان "سراح" و "شروال" مكان قولهم "سراويل" وأمثال ذلك مما يعدون

لفظه ضربًا من التعبير ويقرون أنه لا اسم له في لغتهم. والعبرانيون يقولون في السماء "شما" وفي الإله "ألوها" وفي الحياة "حيا" وفي الرأس "رسيا"، فيعدون ذلك ضربًا من التعبير باتفاق تواضعهم على التكلم بألفاظ يسيرة معدودة من الألفاظ العربية لا يخرجها عن أن تكون عربية، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه. فصل وقد اعتمد القائلون بهذه البدعة في الدلالة على ما ادعوه بأن قالوا: وجدنا في كتاب الله عز وجل ألفاظًا غير معروفة في لسان العرب، ولا فيها أمارة تدل على أنها من لسانها بأن تدخل في باب الاشتقاق المعروف فتعلم مم اشتقاقها، ولا هي على وزن شيء من أبنية كلامهم، فيعلم بذلك أنها من جملة لغتهم، مثل قوله "إستبرق" وما جرى مجراه مما لا يعلم في اللغة أصله واشتقاقه، ولا هو على أبنية شيء من كلامهم. فيقال لهم:/ ما أنكرتم من أنه لا يجب نفي كون الكلمة من لغتهم لأجل عدم العلم بما اشتقت منه، ولا بأنها خارجة عن أن تكون على وزن شيء من كلامهم، بل يمكن أن تكون الكلمة أو الكلمات خارجة عن الكلمات التي هي على بعض أوزان كلامهم، وأن تكون العرب لم تضع جميع ألفاظه على أبنيةٍ وأوزانٍ متشاكلة ومتناسبة وعلى ما بني عليه العروض الذي أخذ به الخليل. وما يدقق فيه أهل العلم باللغة من وضع الأبنية

والأوزان وتعاطي الاشتقاق. ومن أهل اللغة من ينكر الاشتقاق جملة، بل ما أنكرتم أن يكون في الأسماء ما هو على وزن بعض الأفعال. ومنها ما ليس في لغتهم على وزن مبنى من مباني الأفعال. فلا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا. إن قالوا: بضرورة أو بتوقيف الصميم من العرب على ذلك، علم بقولهم الباطل. وإن قالوا بدليل. سئلوا عنه. ولا سبيل لهم إلى ذكر شيء من ذلك. ثم يقال لهم: لو سلم لكم أن الاسم في لغتهم لابد أن يكون على وزن بعض الأفعال وأن يكون قوله "إستبرق" على وزن استفعل واستعجل واستغفر واستحقر واستحجز في أمثال هذه الأسماء، ويسمى الأصل أفعال مستقبلة، لأنك تقول يزيد الشيء ويعمر الربع ويشكر زيد في غد، وسيزيد المال فيشكر الرجل، ويعمر الربع. وقالوا - أيضًا - رجل عدل، والعدل فعله. ومن هذا - أيضًا- قولهم "أوعك" لأنه اسم فعل من الإمراض. وقيل هو الدعك من الحمى، وقيل نفس الحمى. وقال يزيد بن

حجية عند منصرفه من عسكر علي رضي الله عنه إلى معاوية: وقالوا علي ليس يقتل مسلمًا فمن ذا الذي يستحيي الرقاب ويفتك وقالوا الهدى هذا فإن يكن الهدي فشلت يميني واعترى الجسم أوعك نقول اعتراه الحمى أو رعدتها، وقد سمي به الشخص، وإذا كان ذلك كذلك سقط، ما تعلقوا به. واستدلوا - أيضًا - بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان مبعوثًا إلى العرب والعجم وجميع الأمم وجب أن يكون في ألفاظه وألفاظ القرآن الذي أتى به ألفاظ بجميع اللغات على اختلافها لكونه مبعوثًا إلى جميع / أهلها. وهذا - أيضًا - باطل من وجوه: أقربها: أنه يجب أن يكون في القرآن جميع اللغات من التركية والزنجية والبربرية والخوارزمية والنبطية. وهذه جهالة ممن صار إليها، ومعلوم كذبه فيها، ويدل على ذلك ما تلوناه من أي القرآن وتقدم الإجماع على خلافه.

فإن قالوا: كيف تقوم الحجة بالقرآن على جميع أهل اللغات؟ قيل لهم: بأن يعلم العقلاء المكلفون منهم أن قريشًا أفصح العرب وأقدر من كل من تقدم وتأخر على نظم الكلام وسائر الأعاريض والأوزان، فإنه عليه السلام تحداهم بمثل القرآن في نظمه وحالهم حالهم في المناكرة والمنافرة والاختلاف والانحراف عنه وما خرجوا إليه من حربه ومسابقته فعجزوا عن معارضته أو معارضة سورة منه، فيعلمون عند ذلك أنه آية له، كما يعلم من ليس بساحر ولا طبيب أن ما ظهر على يد موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الميت أنه عظيمة. وقد بينا القول في ذلك في كتاب "تعريف عجز المعتزلة عن إثبات دلائل النبوة وصحتها على مذاهب المثبتة" بما يغني يسيره إن شاء الله. فأما تعلقهم بأن المشكاة هندية لا يعرف في اللغة العربية، فإنه قول باطل لأن أصلها الذي أخذت منه ويعود معناها إليه هو الانفراج من المشكاة والشكوى للأمر وللرجل الذي ينفرج بذكرها معيدها ومبدئها. والمتزوج بنشرها وبثها قالوا: ومنه سميت واحدة الأوراق التي يمخض فيها اللبن شكوة. فالمشكاة من الكوة والفرجة في الجسم الحاجز بين الشيء

وغيره. وهي من أبنية كلامهم وموافقة لقولهم مرقاة ومخلاة، وما جرى مجرى ذلك. وأما تعلقهم بقوله تعالى: {وفَاكِهَةً وأَبًا} فقد قال الجمهور من أهل اللغة إنه الحشيش. وقد يجوز أن يعرف هذا - من غريب كلامهم - الواحد والنفر، ولا يخرج ذلك عن كونه لغة لهم ومعلومًا معناه عندهم. وهذا جملة في هذا الباب مقنعة إن شاء الله.

باب القول في تفسير جملة من حروف المعاني

باب القول في تفسير جملة من حروف المعاني واعملوا - وفقكم الله - أن القول "حرف" يقع على طرف الجسم وشفيره/ ص 112 ولذلك يقولون حرف الطريف وحرف الإجانة والرغيف وحرف الوادي والجبل. ويقع على الحرف المكتوب من حروف المعجم. ويقع في اللغة على الناقلة، ويقع على الكلمة التامة. ولذلك يقولون ما فهمت هذا الحرف من كلامهم وما أخطأ فلان وما أصاب في حرف من كلامه يريدون في كلمه منه. فأما الحرف اللغوي الذي يتكلم أهل اللغة على معانيه وأحكامه فهو: "اللفظ المتصل بالأسماء والأفعال وكل جملة من القول والداخل عليها لتغيير معانيها وفوائدها"، نحو في ومن وإلى، وبعد وحتى وما نذكر جملة منه. فصل القول في معنى "من" ولمن ثلاثة مواضع فتجيء للخبر والجزاء والاستفهام.

نحو قولك في الخبر: أعجبني من رأيت، وجاءني من لقيت. ومجيؤها للشرط والجزاء، نحو قولك: من جاءني أكرمته، ومن عصاني عاقبته. وأما مجيئوها للاستفهام فنحو القول: من عندك؟ ومن كلمك؟ وهي موضوعة للعقلاء خاصة، ولا تصلح أن تقول: في جواب من عندك؟ الحمار والثور، ولا في الخبر رأيت من عرفت وتعني الثور، ولا في الجزاء. من دخل داري عاقبته وتعني الثور. فصل القول في معنى "أي" ولأي - أيضًا - ثلاثة مواضع: فتجيء للخبر والشرط والجزاء والاستفهام. فمجيؤها للخبر، نحو قولك: لا ضرب ولا كلم أيهم قام، وأيهم في الدار.

ومجيؤها للاستفهام، فنحو القول: أني الناس رأيت؟ وأيهم عرفت؟. وكونها شرطًا وجزاء نحو قولهم: أيهم تضرب أضرب، وأيهم تكلم أكلم. فصل القول في معنى من ولمن ثلاثة مواضع: أحدها: إفادة ابتداء الغاية، وهذا أصلها على ما ذكره القوم، وهي نقيضة "إلى"، لأن "إلى" تجيء لانتهاء الغاية و"من" لابتدائها. وقد تدخل في الكلام للتعبيض وتكون صلة في الكلام زائدة. فأما كونها لابتداء الغاية، فنحو قولهم: جئت من الحجاز إلى العراق وهذا الكتاب والرسول من زيد إلى عمرو، وتعني ابتداء مجيئه وصدوره من زيد، وأنهما انتهيا إلى عمرو وإلى العراق. وأما مجيؤها للتبعيض، فنحو قولك: أخذت من مال زيد ومن علمه، ونلت من طعامه.

وأما كونها صلةً زائدةً، فنحو قولك: ما جاءني من أحد، تريد ما جاءني أحد. فصل القول في معنى "ما" فأما "ما" فقد تدخل في الكلام للنفي والجحود، نحو القول: ما لزيدٍ عندي حق/ ص 113 وما أحسن زيدٌ. وما قام عمرو، ونحو ذلك. وتدخل في الكلام للتعجب، نحو القول: ما أحسن زيدًا، وما أجمل عمرًا، على وجه التعجب من زيد وعمرو وجمالهما. وقد تدخل في الكلام للاستفهام (نحو) ما أحسن من زيد؟ تعني أي شيء أحسن من زيد. وقد قال. وقد قال بعض أهل اللغة إنها خاصة لما لا

يعقل وقال آخرون: بل هي لما يعقل وما لا يعقل، وأنه قد يكون جوابها بذكر ما يعقل وما لا يعقل وصفات الغافلين إذا قيل: ما عندك؟ صلح أن تجيب بذلك أجمع. فصل القول في معنى "أم" ولها موضعان: أحدهما: الاستفهام، نحو القول سكت أم نطقت، وقمت أم قعدت وقد تكون في الاستفهام بمعنى أيهما إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فكأنك قلت أيهما عندك؟ قالوا: وقد تكون "أم" للاستفهام منقطعة من أول الكلام (نحو): إنها لإبل أم شاة، وهذا زيد أم أخوه. وقد تكون "أم" بمعنى "أو" إذا أريد بها الاستفهام، إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فهو كقولك: أزيد عندك أو عمرو؟

فصل القول في معنى "إلى" قد قلنا إنها موضوعة لانتهاء الغاية نحو القول: ركبتُ إلى زيد، وكتبت إلى عمرو وكل الطعام إلى آخره. وتكون في هذا الموضع بمعنى "حتى" التي هي للغاية، وإن أريد به دخول الغاية في الكلام فبدليل يوجب ذلك غير "إلى"، نحو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} والمراد به مع المرافق، بدليل غير الحرف. ولذلك لم يوجب قوله تعالى: {وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ} دخول الليل مع النهار. فصل في معنى الواو في الكلام فأما الواو فإنه موضوع للجمع والنسق والإشراك بين المذكورين، نحو

القول: ضربت زيدًا وعمرًا. وتكون بمعنى "أو" كقوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} أي أو ثلاث أو رباع. فأما من زعم من الفقهاء أنها موضوعة للترتيب والتعقيب بمنزلة "ثم" والفاء وبعد فقد خالف ما عليه أهل اللغة، ومن قال منهم أن الواو تفيد الترتيب فيما لا يمكن الجمع بين فعليهما فلا وجه له أيضًا، لأن أهل اللغة وضعوها للاشتراك والنسق لا للترتيب، ولم يفرقوا في ذلك بين ما يمكن الجمع بينه وبين ما لا يمكن ذلك فيه. ومن أقوى الأدلة على أنها لا توجب الترتيب ولا التعقيب أنها تدخل في أفعال الاشتراك التي لا يكون الفعل فيها إلا من اثنين معًا، نحو قولهم/ ص 114 اقتتل زيد وعمرو، واختصم واشترك. فلو كان يوجب الترتيب كما يوجبه "ثم" والفاء وبعد لكان قد حصل الفعل من أحد المختصمين قبل حصوله

من الآخر. وهذا باطل باتفاق أهل اللغة. فصل في معنى الفاء فأما الفاء فمعناه إذا كان للنسق والعطف إيجاب الترتيب بغير مهلة ولا فصل، فهي في ذلك مخالفة للواو وثم وبعد، لأن الواو وبعد لا تفيدان تعقيبًا وإن أفاد "ثم" الترتيب. وبعد وثم تفيده بمهلة، و"بعد" تحتمل المهلة وغير المهلة. فإذا قلت ضربت زيدًا فعمرًا فبكرًا أوجب الترتيب والتعقيب. قالوا ولذلك دخل الفاء في الشرط والجزاء لأنه أدخل لتعجيل الجزاء إذا قُلت لا تسء لي فأسوءك. وقد يكون جواب جملة من الكلام، نحو قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ}. وإذا دخلت مكة فاشتر عبدًا وثوبًا. وقد يكون جواب الأمر، نحو قوله تعالى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فيكون ههنا جواب قوله: كن، وليس هو في هذا الموضع للتعقيب.

فصل القول في معنى "ثم" و"ثم" موجبة للترتيب بمهلة وفصل. إذا قلت: اضرب زيدًا ثم عمرًا. وقد يكون بمعنى الواو نحو قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} يريد والله شهيد، لأنه مشاهد لذلك في حال وقوعه. فصل القول في معنى "بعد" و"بعد" إنما تفيد الترتيب ولا تفيد ترتيبًا على مهلة أو غير مهلة، بل

يصلح ما بعدها أن يكون بمهلة وغير مهلة. فصل في معنى "حتى" ولحتى ثلاثة مواضع: وأصلها في اللسان للغاية، هي حرفٌ جارٌ، تقول: " أكلت السمكة حتى رأسها، وضربت القوم حتى زيدٍ. معناه حتى أنهيت إلى زيد وإلى رأسها. وقد يكون بمعنى الواو إذا قلت: كلمت القوم حتى زيدًا كلمته، تريد وزيدًا كلمته. فصل القول في معنى "متى" و"متى" ظرف زمان وسؤال عنه، وجوابها يقع بالزمان إذا قلت: متى الحرب؟ ومتى قام زيد؟ قلت: غدًا، وقام زيد أمس.

فصل القول في معنى "أين" و"أين" سؤال عن المكان، وهي عندهم ظرف مكان وجوابها يقع به إذا قلت: أين زيد؟ قيل: في المسجد أو في الدار. فصل القول في معنى "حيث" و"حيث" - أيضًا- ظرف مكان. إذا قيل: حيث وجدت زيدًا فأكرمه.

فصل القول في معنى "إذ وإذا"/ ص 115 وهما ظرفان من الزمان، ف "إذ" لما مضى، و "إذا" لما يستقبل. تقول: قمت إذ قام زيد. وأقوم إذا قام عمرو. وقد ذكرنا في الكتاب الكبير والأوسط في الأصول تفسير

أضعاف هذه الحروف ووجوه معانيها والشواهد عليها، وما ورد في القرآن من أمثالها وكشفنا ذلك بما في بعضه إقناع، وإن كان في هذه الجملة التي رسمناها كفاية وإقناع.

باب القول في أنه يجوز أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان وأكثر من ذلك

باب القول في أنه يجوز أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان مختلفان وأكثر من ذلك اعلموا أن من الأسماء والألفاظ ما يفيد فيما يجري عليه فوائد مختلفة، كما أن منها ما يفيد فيما يجري عليه فوائد متفقة. فالذي يفيد منه فوائد متفقة، نحو القول: لون وكون وسواد، وما يجري مجرى ذلك، لأنه قول يفيد هيئة يتكون بها الجسم وما يصير به في الجهة والمكان وجميع ما يتناوله القول سواد متفق في الجنس، وكذلك كل اسم جرى على جنس واحد. وكالقول حياة وعلم وقدرة وإرادة وإدراك وأضداد هذه الصفات مما يفيد جميعه فائدة واحدة وإن كان أجناسًا مختلفة. والذي يفيد منه معاني مختلفة، فنحو القول: بيضة وجارية وعين،

وأمثال ذلك مما يفيد في كل شيء يجري عليه فائدة غير فائدة الآخر، وقد دخل في هذا الباب قول القائل: "افعل". وقولنا قرء وأقراء وطهور ونكاح ومس وملامسة، وأمثال ذلك مما يصح إجراؤه على معنيين مختلفين ومعاني مختلفة، نحو القول: أي شيء يُحسن زيدٌ، الذي ربما عُبر به عن الاستفهام. وربما أريد به العبارة عن التقليل لما يحسنه، وربما عني به التعبير عن التكبير والتعظيم. وهذا الضرب ونحوه لا خلاف في وقوعه على معاني مختلفة، لأن قولنا بيضة يقع على الخوذة وعلى بيضة النعام والدجاج. والقول "جارية" مشترك بين الأمة المملوكة وبين السفينة الجارية، وكذلك القول "قرؤ" يقع على زمن الحيض المعتاد، وعلى زمن الطهر، والأولى عندنا أن يكون القول قرءًا/ ص 6 يتناول زمن الحيض والطهر في حكم اللسان، ويفيد فيهما فائدة واحدة، وهي أنه زمن معتاد. ولم تخص أهل اللغة بهذه الفائدة زمن الظهر دون زمن الحيض. وإنما لا يصح الاعتداد بهما جميعًا لمنع الشرع من ذلك لاختلاف فائدة الاسم فيهما. فيجب إدخاله في القسم الأول، وقولنا نكاح يقع على العقد الوطء جميعًا، وإن كان مجازًا في العقد وحقيقة في الوطء. وكذلك القول مسيس ولمس لأنه يتناول اللمس والمس باليد وهو ظاهره، ويقع على الوطء لكونه كناية عنه. والقول "إفعل" يقع على الإباحة وعلى الأمر والتهديد والوعيد. ومنه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم "لا صلاة إلا بأم الكتاب" وإلا بطهور. لأنه يحتمل أن يريد به لا صلاة مجزئة شرعية، ويحتمل أن يريد لا صلاة كاملة فاضلة، على ما بيناه من قبل.

وجميع المختلف من معاني هذه الألفاظ الواردة في أحكام الشرع وغير أحكامه على ضربين: فضرب منه: مختلف متضاد لا يصح القصد إليه واجتماعه في عقد المتكلم. ومنه مختلف غير متضاد يصح القصد إليه والإرادة له. والمختلف المتضاد منه نحو القول: "إفعل" وأي شيء يُحسن زيدٌ؟، لأن القول "إفعل" يكون عبارة عن الإباحة، وعن الأمر، وعن الإيجاب، وعن الندب، وعن التهديد والزجر، ولا يصح قصد المتكلم به إلى معنيين منه لتضاد القصد إلى ذلك وإحالته. وكذلك القول في أي شيءٍ يُحسن زيدٌ؟ لا يصح أن يقصد به إلى معنيين مما يصلح له حتى يريد به المتكلم الاستفهام عما يحسنه والتقليل والتكثير له، هذا ونحوه متفق على أنه محال أن يراد بالكلمة الواحدة لتضاد الإرادة للضدين مع العلم بتضادهما، كما تتضاد الإرادة للشيء والكراهة له. فأما المختلف الذي ليس بمتضاد فإنه لا خلاف في صحة القصد بها في الوقت الواحد من غير تكرار لها إلى معنيين، وذلك نحو قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ} وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وقوله تعالى {فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. ولا خلف بين الأمة وأهل

اللغة في صحة قصد المتكلم بهذا ونحوه في الوقت الواحد إلى المعنيين/ أو المعاني المختلفة. وقد زعم ابن الجبائي من القدرية وفرقة ممن وافقه من أصحاب أبي حنيفة أن ذلك غير جائز. وأنه متى أريد بها معنيان مختلفان فلابد من تكرارهما والتكلم بها في وقتين يراد بها في أحدهما أحد المعنيين وفي الآخر المعنى الآخر. ولا حجة له في ذلك. ولا ما يجري مجرى الشبهة.

والذي يدل على صحة ما قلناه وفساد قوله علم كل عاقل مخاطبٍ من نفسه، بأنه يصح قصده بقوله: "لا تنكح ما نكح أبوك" إلى نهيه عن العقد وعن الوطء جميعًا من غير تكرار اللفظ، والقصد بالقول قد نهيتك عن مسيس النساء إلى النهي عن اللمس باليد وعن الوطء جميعًا، والقصد بقولنا للمرأة تربصي بنفسك ثلاثة قروء إلى الأمر بالتربص زمن الحيض المعتاد وزمن الطهر، وأن القصد إلى ذلك غير متضاد ولا مستحيل، فمن ادعى امتناع ذلك وقال ما يدفعه الوجود. ويقال: لمن قال ذلك لم أنكرت القصد بما يجري مجرى ذلك من القول إلى معنيين مختلفين: فإن قال: لأجل تعذر وجود القصد إلى ذلك. فقد بينا أن الذي نجده من صحته خلاف دعواه، فبطل اعتلاله بهذا. وقد اعتل - أيضًا - لصحة قوله بأنه لو جاز ذلك صح أن يراد بالقول "إفعل" الإباحة والزجر والإيجاب والندب، وهذا باطل من التعلق، لأنه إنما استحال ذلك لأجل تضاد كل أمرين من هذا. وعلمنا باستحالة القصد إليهما، وكذلك القول فيما يتضمنه القول: أي شيء يُحسن زيدٌ؟. واستدل - أيضًا - على ذلك بأنه لو جاز ما قلناه لجاز أن يريد بقوله: "اقتلوا المشركين" المشركين والمؤمنين، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} الناس والبهائم، وهذا جهل من الاعتلال، لأنه إنما يصح أن يراد باللفظ ما يصح أن يجري عليه من المعنى في حقيقة أو مجاز إذا لم يكن متضادًا. واسم الناس لا يجري على البهائم في حقيقة ولا مجاز، فسقط

فصل: هل يجب حمل الكلمة الواحدة التي يصح أن يراد بها معنى واحد ويصح أن يراد بها معنيان على أحدهما أو عليهما بظاهرها أم بدليل يقترن بها؟

ما قاله، ولو جرى على ذلك لصح أن يرادا. واعتل - أيضًا - لصحة قوله بأنه لو جاز ذلك لجاز أن يراد بالكلمة الواحدة التي لها حقيقة ومنه مجاز حقيقتها ومجازها. وهذا - أيضًا - صحيح غير مستحيل، ولذلك صلح حمل قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} على العقد والوطء وإن كان مجازًا في أحدهما، اللهم إلا أن يراد بذلك قصر اللفظ على حقيقته وتعديه إلى مجازه، فإن ذلك متضاد لا يصح القصد إليه./ ص 118 فصل فإن قيل: فهل يجب حمل الكلمة الواحدة التي يصح أن يراد بها معنى واحد ويصح أن يراد بها معنيان على أحدهما أو عليهما بظاهرها أم بدليل يقترن بها؟. قيل: بل بدليل يقترن بها لموضع احتمالها للقصد بها تارة إليهما وتارة إلى أحدهما، وكذلك سبيل كل محتمل من القول وليس بموضوع في الأصل لأحد مُحتمليه. فصل آخر فإن قيل: فهل يريد المتكلم بالكلمة الواحدة المعنيين إذا أرادهما بإرادة واحدة أم بإرادتين؟ قيل له: إن كان المتكلم بها هو الله سبحانه فإنما يريدها ويريد جميع

مراداته بإرادة واحدة. وهي قديمة من صفات ذاته، وإن كان المتكلم بها محدثًا، فإنما يريدهما جميعًا بإرادتين غير متضادتين، وإنما وجب ذلك فيه لصحة إرادته لأحدهما وكراهته للآخر. فلو كان يريدهما بإرادة واحدة لاستحال أن يريد أحدهما دون الآخر. وقد بينا هذه الجملة في الكلام في صفات الله سبحانه في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه إن شاء الله.

باب الكلام في ذكر طريق معرفة مراد الله تعالى

باب الكلام في ذكر طريق معرفة مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه السلام بالخطاب اعلموا - وفقكم الله - أن خطاب الله عز وجل للمكلفين يكون منه على وجهين: أحدهما: بغير واسطة، ولا بمؤدي خطابه كمن يُحمله الوحي من ملائكته إلى رسله من البشر، ونحو خطابه لموسى ومحمد صلوات الله عليهما وللأمة بغير واسطة ولا ترجمان. وقد بينا من قبل أن من خاطبه على هذا الوجه، فإنه يعلم وجود خطابه عند سماعه وأنه مخالف لأجناس صيغ كلام البشر ضرورة عند إدراكه به بسمعه، ويعلم أنه المتكلم به ضرورة، وأنه قد يصح أن يضطر من تولى خطابه بنفسه إلى العلم بأن مخاطبه هو الله رب العالمين، ويضطره إلى مراده بالخطاب لكونه سبحانه قادرًا على

اضطرار خلقه إلى العلم بسائر المعلومات، فإذا اضطر المخاطب إلى أنه الله رب العالمين أسقط عنه تكليف معرفته، وإن كلفه أمورًا أخر من ضروب طاعاته من التبليغ عنه، وغير ذلك من الأفعال والعبادات، وقد يصح أن لا يضطره إلى العلم بأن الخطاب خطاب وكلام له سبحانه، بل يدله على ذلك بما يقرنه به من الآيات على ما رتبناه من قبل. فأما علم سامع الكلام منه بمراده به، فالأولى عندنا فيه أنه لا يصح أن يقع للمكلم إلا ضرورة، لأنه ليس من جنس الكلام والأصوات التي قد تقدمت مواضعة على معانيها/ في بعض اللغات فيعلم سامعه بنفس سماعه له معناه، بتقدم العلم بالمواضعة، ولا يعلم وجهًا لكونه عليه يدل على أنه مثلًا أمر بفعلٍ مخصوص، على وجهٍ مخصوص، لشخصٍ مخصوص، في زمن مخصوص، دون غيره، فوجب عندنا القول بأن سامع الخطاب من ذاته إنما يعلم مراده بكلامه باضطراره له إلى ذلك. وقد قال الجمهور من شيخونا - رحمهم الله - إن سامع كلامه تعالى منه على هذا الوجه يعلم مراده به بنفس سماعه. والوجه الآخر الذي يكون عليه خطابه أن يخاطب المكلفين من البشر من النبيين وأممهم ومن الملائكة الذي يرسل إليهم بعضهم بما شاء سبحانه، وطريق علم جميع هؤلاء بما يؤديه المتحمل إليهم النظر والاستدلال إذا كانوا لمعرفته سبحانه مكلفين، وطريق علمهم بذلك الاستدلال بظهور ما يظهر على

فصل: تقسيم كلامه إلى نص ومحتمل

المؤدي عنه سبحانه من الآيات وباهر المعجزات، لأن الملك لا ينزل على الرسول بالوحي إلا ومعه آيات باهرة تدل على صدقه في ادعائه الرسالة على الله سبحانه، كما أنه لا يأتي البشر الرسول منهم إلا بآيات معجزات. وقد ذكرنا الكلام في أحكام المعجز وشروطه وأوصافه وما يختص به، وحال من يظهر عليه في غير كتاب من الكلام في أصول الديانات بما يغني عن الإطالة به. فصل ولن يؤدي الملك إلى الرسول من البشر إلا بلغة الرسول التي قد تقدم علمه ونطقه بها من طريق المواضعة على معانيها ودلالتها ثم يوقفه الملك على تفصيل ما يؤديه إليه بما هو عبارة عن كلامه القديم وما هو الوحي، وليس بقرآن، فوجب بهذه الجملة أن تكون طريق معرفة جميع البشر من النبيين وأممهم بكلام الله وبالعبارة عنه والوحي الذي ليس بقرآن ما ذكرناه من النظر والإستدلال، إذا كانوا غير مضطرين إلى معرفته ومعرفة كلامه ومراده به، بل مكلفون مأمورون بذلك. فصل وجميع ما يؤديه الملك إلى الرسل من الخطاب، ويؤديه الرسل إلى أهمهم على ضربين: نص غير محتمل ولا مشتبه المعني، وما بمعناه. وقد ذكرنا ذلك من قبل وما هذه حاله يعمله الرسول عن الملك، والأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر

الكلام وموضوع الخطاب من غير حاجة إلى نظر واستدلال. والضرب الآخر، هو المجمل والمحتمل لمعاني مختلفة. وما هذه حاله، فإنما يعلم المراد منه بدليل يقترن بالخطاب. ودليلة ينقسم قسمين: إما عقلي أو توقيف من المبلغ بلفظ وما يقوم مقامه. فما كان دليله عقلياً/ صح أن يحيل الملك الرسول والرسول لأمة في معرفة لمراد به على دليل العقل. وجاز- أيضاً- أم يذكرا معناه، والمراد به بالتوقيف عليه، وذلك تخفيف للمحنة ومغن عن لنظر في دليل العقل، إلا أن يقال للمكلف: قد ألزمناك أن تعرف ذلك بحجة العقل، وطريق دليله عليه، كم ألزمناك معرفة دليل التوقيف والسمع فيلزمه عند ذلك معرفة الدليلين. فأما ما يكون الدليل على أحد محتملاته اللفظ والتوقيف وما يقوم مقامه مما لا مجال للعقل في تعيينه وتمييزه. فإنما يعرفه الرسول عن الملك، والأمة عن الرسول بضروب الألفاظ والتأكيدات والإشارات والرموز والإمارات التي يضطر الرسول هند مشاهدتها من الملك والأمة عند مشاهدتها من الرسول إلى مرادهما، وليس لها نعت موصوف وحد محدود، وإنما يعلم ذلك المشاهد له على قدر مشاهدته على ما بيناه في صدر الكتاب. وذات الملك مشاهدة للرسول، كما أن ذات الرسول مشاهدة للأمة. والذات إذا شوهدت صح العلم بها وبأن الخطاب خطاب لها وبمرادها بالخطاب ضرورة.

وقد بينا أقسام الكلام المحتمل وغير المحتمل منه فيما سلف من أحكام الخطاب فلا حاجة بنا إلى إعادته، وإنما نحتاج إلى معرفة معنى اللفظة المحتملة بعينها إلى تأكيدات وأحوال وإشارات إذا لم يكن لذلك المعنى لفظ آخر في اللغة يخصه ويكون مقصوراً على معناه. فهذه جملة في ذكر طريق معرفة مراده بالخطاب مقنعة إن شاء الله.

باب ذكر طريق معرفة مراد الرسول عليه السلام بخطابه

باب ذكر طريق معرفة مراد الرسول عليه السلام بخطابه فأما طريق معرفة مراد الرسول عليه السلم بما يؤديه إلى الأمة من الخطاب عن الله سبحانه، فإنه -أيضاً- على ضربين: فضرب منه، نص غير محتمل، وما يقوم مقامه من لحن القول ومفهوم الخطاب وفحواه، وهذا مما يعلم المراد به بظاهر الخطاب وفحواه ووضع اللسان، ويدرك ذلك كل متكلم باللغة وعالم بمعنى المواضعة. والضرب الآخر وهو المحتمل والمجمل، وهو المتشابه من خطابه، وذلك مما لا يعلم معناه والمراد به إلا بدليل، وقد يكون الدليل عليه عقلياً فيحيلنا فيه على دليل العقل. وقد ينص عليه فيغنينا بتوقيفه عن النظر فيما سواه. وتوقيفه عليه يهن بأمرين: إما بغير محتمل من كلامه فيفسر المجمل منه بلفظ غير محتمل، نحو أن يقول المراد بقوله تعالى: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ} وبقوله (إلا بحقها). العشر منه، ودينار

في كل حول، وحقها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكذا وكذا. / ص 121 وهذا بيان لا إشكال فيه. أو أن يبين المراد بالمحتمل بألفاظ وأمارات وتأكيدات وإشارات يضطر سامع ذلك ومشاهده والعالم به من حاله إلى المراد بخطابه المحتمل، وإنما يحتاج إلى هذه التأكيدات والإشارات في كشف معنى هذا المحتمل، لأن منه ما لا لفظ له واسم مخصوص مبني له وحده ينبئ عن معناه، وذلك نحو ما يدل به على أن المراد بقوله "اقتلوا المشركين" جميع الجنس وسائر من يقع عليه الاسم منهم على الاستغراق، وذلك وأمثاله وما يجري مجراه مما لا لفظ له، فإذا أراد أن يدل على تعميمه لم يكن بد من أن يقرنه ويتبعه عليه، وبعضه بما يضطر العالم به إلى مراده بالخطاب، وهذه حال جبريل مع الرسول وغيره من النبيين عليهم السلام في تعريفه

فصل: تقسيم كلامه إلى نص ومحتمل

إياهم المراد بالمحتمل مما يؤديه إليهم، الذي لا اسم له ولا لفظ له مخصوص وضع لإفادته. فأما معرفة جبريل عليه السلام بمراد الله عز وجل بكلامه، فقد قلنا أنه يعرفه بأن يضطره إلى العلم به أو بنفس سماعه الخطاب. عند كثير من أهل الحق على ما بيناه من قبل. فصل وجميع المضطرين إلى معرفة مراد الرسول عليه السلام بالمحتمل من خطابه، وبما قسم من أحكام دينه إنما يضطرون إلى ذلك من وجهين: أحدهما، أن يكونوا أهل عصره الذين يأخذون عنه وينقلون الخطاب منه ويشاهدون ذاته وأمارته. والوجه الآخر: أن يكونوا قوماً قد نقل إليهم العلم بمراده بالمحتمل وما قدره من أحكام دينه. قوم هم أهل تواتر قد اضطروا إلى العلم بقصده وما وقف عليه، فيعلم القرن الثاني ذلك ضرورة بنقل سلفهم، وكذلك إذا نقل من فيه شرط الواتر من أهل عصر التابعين إلى تابعي التابعين، ثم كذلك قرناً بعد قرن، وأن يتصل إلى أن يرث الله للأرض ومن عليها، ونحن نذكر في باب القول في الأخبار صفات أهل التواتر الذين يجب بوضع العادة حصول علم الاضطرار بصدقهم فيما يخبرون به إن شاء الله.

فصل: قول المعتزلة أن كلام الله مخلوق في غيره

فصل ولن يصل المكلف إلى العلم بأن الله سبحانه متكلم الذات وآمر وناه للعباد مع اعتقاده أن كلامه ليس بموجود بداية وأنه مخلوق في غيره، ومثل كلام البشر ومن جنسه على ما يقوله المعتزلة القدرية، ولن يصل المكلف إلى العلم بصدق خبر الله عز وجل بما اخبر به في وعده ووعيده إلا بان يعتقد كون الصدق من صفات ذاته واستحالة الكذب عليه في خبره. فأما إن اعتقد ما يقوله القدرية من أنه سبحانه قادر على أن يكذب في خبره ولا يستحيل الكذب في صفته، وأن الظلم والجور لا يمتنع وقوعه منه، وكونه مقدورا له فإنه/ ص 122 لا يمكنه مع ذلك العلم بصدقه فلا يؤمن كذبه. تعالى عن قولهم علوا كبيراً. في جميع أخباره وجوره على جميع عباده. وقولهم بعد ذلك إنما يؤمن ذلك منه لعلمه بقبح الكذب والظلم وغنائه عنه قول يوجب عليهم أن لا يقع منه العدل والصدق مع علمه بحسنهما لغنائه عنهما، لأنه لا يفعل الحسن العالم بحسنه إلا لحاجة منه إليه، كما لا يفعل الكذب والظلم مع العلم بقبحهما إلا المحتاج إليهما وقد بينا الكلام في هذا الفصل ووجوب ذلك عليهم وإبطال كل ما يحاولون به الخروج عنه في الكلام

فصل: معرفة صدق الرسول بمعجزاته

في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه إن شاء الله. فصل وكذلك فإنه لا يصح أن يعلم صدق الرسول في دعواه النبوة وما يخبر به من البلاغ عن الله سبحانه من لم يعرف معجزاته وشروطها، وما يكون دلالة على صدقه لأجله، ومن جوز الكذب عليه فيما يؤديه عن ربه، ولا من جوز كتمانه لبعض ما أنزله عليه أو تحريفه وإفساده، لأن ذلك أجمع يرفع أمانه من كتمانه لاستثناءات وشروط في الخطاب، ومن زيادات منه فيه ما ليس منه، ومن كتمان فرائض كثيرة، وأن يكون جميع ما أداه أو أكثره ليس من عند الله عز وجل. فتجويز ذلك أجمع عليه يمنع من معرفة صدقه والجهل بكون ما ظهر عليه معجزاً دالاً على صدقه يمنع من معرفة نبوته. وليس إجازة التورية عليه والمعاريض إذا احتاج إليهما في غير البلاغ بقادح في العلم بصدقه ونبوته، وكذلك فليس في إجازة إصابة المعاصي عليه والسهو والنسيان فيما يخصه من الفرائض وغير ذلك بعد بلاغه وأدائه بقادح في العلم بنبوته وصدقه ولا منفر عن طاعته. وقد تقصينا الكلام في هذه الفصول وفي أحكام الرسل، وما يختص بهم، وما يجوز عليهم من

فصل: جواز الكتمان على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خوق بالقتل

المعاصي، وغيرها ويمتنع في صفاتهم، وما يلزم المكلف العلم بصدقهم في كتاب "الفرق بين معجزات الرسل وكرامات الأولياء" بما يغني الناظر فيه، إن شاء الله. فصل فإن قال قائل: فقد أدخلتم في هذه الجملة القول بأنه لا يجوز الكتمان عليهم لما حملوه، كما لا يجوز عليهم الكذب فيما يؤدونه فما تقولون إن خوف وخاف القتل في تبليغ ما أمر بإبلاغه، هل يجب عليه البلاغ مع خوف القتل وتحمله أم لا؟ يقال إنه ما يجب علي النبي، ولا على غيره من المكلفين شيء من جهة العقل لا بلاغ ولا غيره، وإنما يجب عليهم ذلك بالسمع فقط، فإن أمره الله بالبلاغ مع تخويف القتل ومع تحمله القتل وما دونه من المكاره والأذى وجب عليه فعل البلاغ مع الخوف واحتمال القتل/ فما دونه. وإن أمره بالبلاغ مع الأمن، ونهاه عنه مع الخوف لزمه ذلك علي حسب ما رتب له. وقد بينا القول في أنه لا يجب علي العاقل من نبي وغيره شيء من جهة قضية العقل بما يغني عن رده. وأما قول القدرية إنه يجب عليه الأداء إذا أمر وإن قتل أو خاف القتل، لأنه لا يكلفه إلا بلاغ ما هو مصلحة لأمته فيجب أن يبلغ، وإن قيل لأن ذلك

هو الأصلح له ولهم في تدبيره، فإنه باطل من وجهين: أحدهما، إن فعل الأصلح بهم لا يجب علي الله تعالى لا فيما يتعلق بمصالح الدنيا ولا الدين، وإنما ذلك إحسان وتفضل يجب شكره عليه إذا فعله. فأما أن يكون فرضاً واجباً عليه فإنه كذب من القدرية. والوجه الآخر: إنه ليس الواجب أن لا يؤمر المكلفون إلا بما فيه صلاحهم، لان الله سبحانه أن يشرع لهم ما فيه الصلاح وما فيه الهلاك، فلا وجه للاعتراض في حكمه وما يتعبد به عباده. وأما قول القدرية: إنه إن كان قد كلف أداء أشياء أخر في المستقبل غير الذي يخوف بالقتل في أدائه، فإنه يجب عليه أن يقدم على الصدع به، ويعلم أنه لا يقتل دون تبليغه جميع ما كلف بلاغه في المستقبل، وأن يزيل عن نفسه الخوف إن هجس فيها، وأن يعلم أنه لم يؤمر بأداء شيء بعد ذلك إلا وفيه مصلحة من أرسل إليه، وأن الله سبحانه لا يمكن من اقتطاعه عن بلاغ ما فيه مصلحة العباد من قتل له أو غير ذلك، فإنه قول باطل - أيضاً - من وجهين:

أحدهما: إنه لا يجب أن يأمره إلا ببلاغ ما فيه صلاح المكلفين، بل قد يكون منه ما هو صلاح لهم، ومنه ما فيه عطب وهلاك لهم، ومنهم المهتدي بالتكليف، ومنهم الضال به. والوجه الآخر: أنه قد يجوز أن يكون في حكمة الله تعالى منعه المكلف من فعل ما أمره بإيقاعه في المستقبل من نبي وغيره بالموت تارة، وبالعجز أخرى، بالعوارض التي تزيل الأمر به، وبالنسخ للأمر به قبل وقته، وكل ذلك حق وصواب في حكمته وتدبيره، على ما سنذكره ونبينه في فصول القول في النسخ إن شاء الله. فأما اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الغار حين أراد الهجرة فإنه كان منه صلى الله عليه وسلم بعد بلاغه بمكة السنين الطوال وصدعه بما أمر واحتمال ضروب المكاره والضيم منهم حتى لو مات قبل اختفائه في الغار لم يكن قد بقي عليه شيء من فرض الأداء والبلاغ المزيح لعللهم والمقيم للحجة البالغة عليهم.

التقريب والإرشاد (الصغير) للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفي سنة 403 هـ قدم له وحققه وعلق عليه الدكتور عبد الحميد بن علي أبو زيد الجزء الثاني مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم قال بدر الدين الزركشي في مقدمة البحر المحيط: " وكتاب التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هو أجل كتاب صنف في هذا العلم مطلقا" وقال أيضا: (حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلى عبد الجبار, فوسعا العبارات وفكا الإشارات, وبينا الإجمال, ورفعا الإشكال واقتفي الناس بآثارهم, وساروا على لأحب نارهم, فحرروا وقرروا وصوروا, فجزاهم الله خير الجزاء).

التقريب والإرشاد الصغير 2

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثانية 1418 هـ / 1998 م طبعة جديدة مُصححة ومُنقحة حقوق الطبع محفوظة (1993 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يُسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

باب القول في الأمر ما هو؟

الكلام في الأوامر باب القول في الأمر ما هو؟ / ص 124 اعلموا وفقكم الله- أنا قد بينا فيما سلف أن الأمر وجميع أقسام الكلام معنى في النفس, ولنفسه يكون كل شيء منه من خبر وأمر ونهي وغير ذلك متعلقا بمتعلقة, وأنه على ضربين: فضرب منه قديم غير مخلوق وهو كلام الله عز وجل والضرب الآخر: كلام الخلق. وحقيقة كل ضرب من ضروبه وفائدة وصفه بما يوصف به لا تختلف في شاهد ولا غائب. وحقيقة الأمر من أقسامه ومعنى وصفه بأنه أمر " أنه القول المقتضى به الفعل من المأمور على وجه الطاعة" وقولنا اقتضاء الفعل ومطالبة به, وأنه ما كان ممتثل موجبه, والمؤتمر له.

مطيعاً، بمعنى واحد, وبهذه الخاصية بان الأمر بالشيء من النهي عنه والخبر وضروب أقسام الكلام. وإن قيل: إن خاصية الأمر وحقيقته أنه" طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة" كان ذلك صحيحا. ولو قيل: خاصيته أنه" اقتضاء الطاعة والانقياد بالفعل" كان ذلك صوابا, للفرق بينه وبين طالب الفعل على وجه الرغبة والسؤال, وما ليس بطلب للطاعة والانقياد. وقولنا: على غير وجه المسألة نابت مناب ذلك: وليس من الجيد أن يقال إن بين الأمر والسؤال أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن المسألة فيه ليست بنهي عن ضده, لأن الأمر بالشيء على وجه الندب ليس بنهي عن ضده عند كثير ممن فصل بينهما بذلك, ولأنه لا يمتنع عندنا صحة وجود أمر الآمر بالشيء وبضده معا, فلا يكون الأمر به عند ذلك نهيا عن ضده. وهل ذلك عدل وحسن من الآمر وصواب أم لا؟ موقوف على دليل يوجب الفصل بينهما بما قلناه, والدليل على صحة تحديده بذلك انعكاس الحد واطراده

لأن كل قول اقتضى به الفعل فهو أمر به, وكل أمر به فهذه حالة. فصح ما قلناه في حده ومعناه. فصل: وقد يعبر عنه بالقول"افعل" الذي هو هذه الأصوات المصوغة المسموعة. وربما يدل عليه وخبر عنه بما صورته صورة العبارة عن الخبر وعن وجوبه, نحو قول القائل: قد أمرتك بكذا, وفرضته عليك وكتبته وألزمته وحتمته. وإن أخبر عن الندب من أوامره قال: قد ندبتك وأرشدتك ورغبتك في كذا, وأكثر أحكام الشرع ثابتة بما صورته صورة الخبر عن الأمر. فصل: والأمر ينقسم قسمين: واجب وندب، وصورة العبارة عن الإيجاب قول القائل:" أوجبت عليك" ونحوه, وصورة الخير عن الندب قوله: ندبتك إلى كذا أو أرشدتك أو رغبتك, أو نحوه من الألفاظ. فصل: -[125]- وقد قيل: أنه لا يصح الأمر, إلا لمن هو دون المأمور به في المرتبة ولذلك امتنع أمر الخلق لله تعالى، وأمر الولد لوالده, والعبد لسيده, والمرء لسلطانه, وإذا كان القول "افعل" قولا لمن هو فوق القائل كان رغبة وسؤالا, وقد بينا فيما سلف أن القول غير هذه الأصوات التي تكون تارة عبارة عن الأمر, وتارة عبارة عن السؤال, والرغبة. والأمر لا يصح أبدا أن يكون رغبة وسؤالا ولا مثله. وكذلك السؤال لا يجوز

أبدًا أن يكون أمرا, وإن صح تماثل العبارة عنهما. والأولى أنه يصح عندنا أمر الآمر لمن هو مثله وفوقه في الرتبة والنظر في هل تحب طاعة من هذه حالة فيما أمر به أملا؟ ليس من الكلام في صحة وقوعه لمن هو فوقه في شيء, وذلك موقوف على الدليل. فصل: فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون العقل أمرا بما يوجب فعله على المكلف وترغيبه فيه كما يجب ذلك في القول؟ قيل له: العقل عندنا لا يوجب شيئا ولا يحرمه ولا يحظره ولا يحسنه ولا يقبحه, كل ذلك محال لما بيناه. والسؤال مبني على هذا الأصل الفاسد فسقط قول من قال ذلك. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الإيماء والرموز والإشارة أمرا لأنها تدل على الأمر كدلالة الأصوات؟ يقال له: لا يجب ما قلته لأن ما سألت عنه دلالة على الأمر, وكذلك القول"افعل" بقرينته, وليس نفس ذلك هو الأمر, ونحن لم نقل إن الأمر ما دل على اقتضاء المأمور به, وإنما قلنا هو اقتضاء المأمور به, والأصوات والرموز والإشارات والعقود والخطوط دلالات على القول المقتضى به الفعل, فيسقط الاعتراض, على أنا قد قلنا إنه القول المقتضى به الفعل. ثم لو سلم أن الرمز والإشارة اقتضاء الفعل- على فساد ذلك وبعده- لم يقدح ذلك في حدنا، لأنه ليس نقول اقتضى به الفعل. وفي حدنا أنه قول هذه حاله, فبطل ما قالوه, والذي يبين ذلك أن الأصوات التي توصف بأنها هي

فصل: الفعل ليس بأمر على الحقيقة

القول" إفعل" والإشارات تقع من النائم والمغلوب, فلا يكون اقتضاء للفعل ولا دلالة على اقتضائه, وإنما تكون دلالة على ذلك إذا وقعت من عالم مميز قاصد فصح بذلك ما قلناه. فصل: والفعل ليس بأمر على الحقيقة, وإنما يوصف بذلك مجازا واتساعا, وجمعه أمور، لا أوامر وقد بينا هذا الفصل فيما سلف من أبواب الكتاب، وإن ما به يعلم أن تسمية الفعل أمرا إنما جرى عليه مجازا بما يغني متأملة إن شاء الله تعالى. ص 126

باب القول في الأمر لم كان أمرا؟

باب القول في الأمر لم كان أمرا؟ قد بينا فيما سلف أن الأمر معنى قائم بنفس المتكلم وأنه لنفسه يكون أمرا بما هو آمر به, ولمن هو آمر له بالفعل, ولمن هو الأمر به, وأنه بمثابة علم العالم وقدرة القادر في تعلقهما بالقادر والعالم وبالمعلوم والمقدور. والقدرية, تزعم أن أمر الله سبحانه وأمر غيره ليس بشيء هو أكثر من الأصوات التي هي القول,"إفعل". وزعم الجمهور منهم أنه ليس بأمر لنفسه وجنسه, وأنه قد يوجد نفسه ومثله ممن ليس بآمر به, وأنه إنما يصير أمرا عند كثير منهم بإرادات: إرادة لحدوثه, والأخرى إرادة لكونه أمرا لمن هو أمرا له والثالثة إرادة للفعل المأمور به.

وقال بعضهم بل إنما يحتاج إلى إرادة واحدة, وهي الإرادة للمأمور به فقط. وزعم البلخي منهم أن الأمر هو هذه الأصوات، وأنها لنفسها تكون أمرا بما لا هي أمر به, وأنه يصح أن توجد إلا وهي أمر به وأن ما هو بصيغته من الإباحة والتهديد ليس من جنسه. وقد بينا فساد جميع هذه الأقاويل في الكتاب الكبير والأوسط وغيرهما بما يغني الناظر فيه, وكل هذا إنما ورطهم فيه

إبطال الباقلاني لقول الجمهور ان (افعل) تكون أمرا لصيغتها

قولهم: ليس الأمر بشيء أكثر من هذه الأصوات, وليس الأمر على ما قالوه لما بيناه من قبل في باب الإخبار عن الكلام ما هو؟ وما حقيقته؟ بما يغني عن الإطالة برده ونستدل في فصول القول في النسخ على أن الأمر لم يكن أمرا لإرادة المأمور به. وقد زعم الجمهور من الفقهاء أن الأمر هو نفس الأصوات التي صيغتها القول"إفعل" وأنها إنما تصير أمرا لصيغتها وتجردها من القرائن الصارفة لها عن كونها أمرا. وهذا أيضا باطل من وجوه: أحدهما: إن هذه الأصوات توجد على صورتها من النائم والمغلوب ويسمع منه القول " إفعل" وإن لم يكن أمرا بشيء فبطل أن يكون لصيغتها مع وجودها وخروجها عن كونها أمرا. فإن قالوا: قد قلنا أنه أمر لصيغته المتجردة عن القرائن يقال لهم: فهذه الصيغة إذا وجدت من النائم والمغلوب فهي عارية من القرائن الصارفة لها عن كونها أمرا, فيجب لذلك أن تكون أمرا, ولا مخرج من ذلك. فإن قالوا: زوال عقل المتكلم بها أخرجها عن أن تكون أمرا. يقال لهم: لو كان ذلك كذلك لكان أمرا لقرينة هي وجود العقل لا لصيغته, وهذا ترك لقولهم بأنه بمجرد? الصيغة, وعلى أنه قد تقع هذه الصيغة

مع وجود العقل والعلم بها وبوقوعها من المتكلم المهدد بها, وإن لم تكن أمرا لوجود الفعل والعلم بها فسقط ما قالوه على أنه لا يخلو أن يكون أمرا لنفس الصيغة فقط أو لعدم القرائن المخرجة لها عن كونها أمرا أولهما جميعا ومحال أن يكون أمرا لصيغته وصورته لما بيناه. ومحال كونه أمرا لعدم معنى لو اقترن به لخرج عن أن يكون أمرا, لأن عدم المعنى لا يصح أن يكون على لحصول القول أمرا, كما لا يجوز أن يكون الآمر المتكلم أمرا متكلما لعدم معنى. وكذلك الآمر لا يصح كونه أمرا لعدم معنى، لأن علل الأحكام يجب أن تكون ذواتا موجودة على ما بيناه في الكلام في أصول الديانات, فاستحال لذلك أن يكون عدم القرائن التي يومئون إليها على لكونه القول أمرا ويستحيل أيضا أن يكون إنما صارب القول"إفعل" أمرا لصيغته وعدم القرينة, لأنا قد بينا أن كل واحد منهما لا تأثير له بانفراده في كونه أمرا، فلا تأثير لهما أيضا بالإجماع لما قد بيناه في الكلام في الأصول.

فصل: ومما يدل- أيضا- على أن نفس هذه الأصوات قد ترد في الكلام مرة للأمر بالفعل ومرة للنهي وتارة للزجر والترهيب, وتارة لإباحة, وتستعمل في ذلك أجمع غلى طريقة واحدة فلو ساغ لقائل أن يقول إنها لصيغتها تكون أمرا بالفعل ولتجردها من القرائن لجاز لغيره أن يقول إن هذه الصيغة موضوعة للإباحة والتهديد بمجردها، وإنما وضعت لإفادة ذلك والدلالة عليه إذا عربت من القرائن الصارفة لها إلى كونها أمرا. ولما لم يجد كل مدع لشيء من ذلك فصلا بينه وبين القائل بضد قوله سقط القولان جميعا, وثبت بذلك ما قلناه فصل: فإن قال منهم قائل: إنما يكون القول "افعل" مع عروه من القرائن مفيدا بطريق الاصطلاح والوضع لا بطريق التعليل لكونه كذلك فقد فسد ما قلتموه من أنه لم يكن للصيغة ولا لعدم القرينة تأثير في كونه أمرا لم يكن لهما تأثير بالإجماع, لأن هذا إنما يجب فيما طريقه التعليل بالمعاني, دون ما يفيد بالمواضعة والاصطلاح. يقال له: فأنت إنما تدعي إذا في هذا لغة واصطلاحا لا أصل لهما, فما الفصل بينك وبين من قال: إن مجرد القول "افعل" العاري من القرائن موضوع للإطلاق والإذن أو التهديد, دون الأمر فلا تجد في ذلك فصلاً.

فصل: واعلموا- رحمكم الله- أن الأصل -[128]- في طريق العلم بإبطال جميع هذه الدعاوي على أهل اللغة علمنا بأننا غير مضطرين إلى العلم بصدق الخبر عنهم في هذه الدعاوي وأنه لا دليل على صحة الخبر عنهم بذلك, فوجب القضاء ببطلان كل هذه الدعاوي والأخبار, والقول بأن هذه الصيغة مشتركة بين الدلالة على الأمر وغيره مما ذكرناه إذا وقعت من العاقل القاصد مقترنة بما يدل على قصده إلى بعض محتملاتها. فإن عريت من ذلك وجب الوقف فيها, كوجوبه في جميع الأسماء المشتركة في معاني مختلفة. فصل: وكل شيء دللنا به على أن الأمر معنى قائم في النفس وأنه أمر لنفسه, وأن معناه وحقيقته أنه اقتضاء الفعل, فإنه دليل- أيضا- على أن النهي معنى في النفس, وأنه نهي عما هو نهي عنه لنفسه, وأن معناه وحقيقته أنه "القول المقتضي به ترك الفعل" وقولنا أنه اقتضاء ترك الفعل واجتنابه والكف عنه بمعنى واحد. ولا بد أن يكون متعلق المطالبة بأن لا تفعل الفعل مطالبة بفعل ضد له يوصف بأنه كف عنه ترك واجتناب له, ولا يصح أن يكون مقتضى النهي عنه عدم الفعل وأن يكون فاعلا لشيء, لأن عدم الشيء المستدام عدمه لا يصح أن يكون مقدورا ومتعلقا بفاعل بجعله معدوما لما قد بيناه في الكلام في أصول

الديانات. فوجب أن يكون موجب الأمر والنهي تكليف فعل يكسبه العبد, إما إقداما على فعل أو على ترك له واجتناب وعلى ذلك يستحق الذم والمدح, ويكون الوعيد والوعد والثواب والعقاب, ولو كان من لم يفعل ما نهي عنه لم يصر طاعة ومن لم يفعل ما وجب عليه لم يقترف ذنبا ويجئ قبيحا, لكان مثابا ومعاقبا مذموما على غير شيء, وذلك خروج عن قول المسلمين, فثبت ما قلناه.

باب القول في الفرق بين الإباحة والأمر

باب القول في الفرق بين الإباحة والأمر اعلموا- رحمكم الله- أن الإباحة للفعل هي" الإطلاق له والإذن فيه وتخيير بين فعله وتركه الجاري مجراه دون المحرم من تروكه, وعلى هذا سلف الأمة والدهماء من المتكلمين والفقهاء. وزعم البلخي ومن تبعه أن المباح مأمور به, وأن الأمر به دون رتبة الواجب

والندب من الأوامر, كما أن رتبة الندب منها رتبة الإيجاب, وإن كانا أمرين. وربما وقع الخلاف معه في العبارة, ولا طائل في النزاع فيها. وربما وقع في معنى. فالخلاف في العبارة أن يقال: معنى أن المباح مأمور به أنه مأذون في فعله ومطلق ومحلل له ذلك ومدلول من جهة السمع على أن له فعله وله تركه, وأنه وتركه المباح سيان لا ثواب ولا عقاب عليهما. فإن أريد ذلك فهو اتفاق على المعنى وخلاف في العبارة فأما الخلاف في المعنى فهو أن يقول القائل بذلك?: ص 12 إن الإباحة للفعل اقتضاء له ومطالبة به على جهة الإيجاب أو الندب, وأنها نهي عن ترك المباح, وأن فعل المباح خير من تركه الجاري مجراه, وهذا باطل. والذي يدل على بطلانه علم كل عاقل رمن نفسه الفصل بين كونه إذنا مطلقا لعبده ومن تلزمه طاعته في الفعل, وبين أمره به واقتضائه له ونهيه غن تركه, كما يفصل بين أمره به ونهيه عنه وتوسعته وتضييقه, وإذا كان كذلك بطل ما قالوه. ومما يدل على ذلك أيضا أن مقتضى الإباحة تعليق المباح: بمسبب المأذون له في الفعل وبمعنى القول له إفعله إن شئت, ومن حق الآمر بالفعل أن يكون اقتضاء له ومطالبة به, ونهيا عن تركه على وجه ما هو أمر به على ما نبينه من بعد, فافترق لذلك حال الإباحة والأمر.

فصل: المباح مخير في فعله وتركه

فصل: فإن قيل: ما معنى قولكم أن المباح مخير في فعله وتركه الجاري مجراه. وأنه وتركه الذي هذه حاله سيان؟ قيل: معناه أن المباح قد يترك بالمعصية الحرام ويترك بالنفل من الأفعال, ويترك بمثله من المباح, ويترك بواجب موسع وقته, ولا يصح أن يكون له ترك مضيق مستحق, لأنه لم يصح إباحة ضد الفعل في وقت تضيقه واستحقاقه. فإذا ترك المباح بالنفل ترك بمأمور به هو خير من فعل المباح, وإن ترك بواجب موسع وقته ترك بفرض ليس بمباح, وإن ترك بمعصية حرام ترك تركا محرما محظورا, غير أنه لم يكن محرما من حيث كان تركا للمباح, لكن لتعلق النهي بذلك الترك لأنه قد يشركه في كونه تركا للمباح وما ليس بحرام من المباح المساوي له والنفل والواجب الموسع وقته, فلذلك كان مخيرا بينه وبين مثله وما جرى مجراه. وهو ترك الذي هذه حاله سيان. وليس لأحد أن يعتل في أن المباح مأمور به, فإن من تروكه المحظور الحرام, والحرام واجب تركه, لأننا قد بينا أنه لم يجب ترك الحرام لكونه تركا للمباح من حيث ثبت أن للمباح تركا, مثله لا يجب تركه, ولو كان المباح مأمورا به لأن من تروكه الحرام الواجب تركه لوجب لا محالة أن يكون المباح واجبا لازما فعله إذا ترك به المحظور الحرام, ولما اتفق على فساد ذلك بطلت هذه الشبهة, وثبت أن المباح ليس بواجب ولا مأمور به. فصل: فإن قال قائل: أفتقولون إن المباح داخل تحت التكليف؟

فصل: يجوز وصف المباح بالحسن والقبح

قيل له: إن أردت بذلك أنه ما قد أعلم المكلف من جهة السمع تحليله وإطلاقه والإذن له في فعله فذلك صحيح, وإن عنيت أن المكلف مأمور به على وجه الفرض أو النفل فذلك باطل بما قدمناه. فصل: فإن قيل: أفتقولون إن المباح من الأفعال حسن أو قبيح؟ قيل: لا يجوز وصفة بذلك, لأنه لا تكليف علينا في تعظيم فاعل المباح ومدحه به والثناء عليه -[13]- ولا بذمه وانتقاصه, وليس معنى حسن الفعل أو قبحه أكثر من تكليفنا تعظيم فاعله ومدحه أو إهانته وذمه, أو اعتقاد استحقاقه لذلك, وإن لم نؤمر به فيه, وإنما قلنا أو اعتقاد استحقاقه لذلك, وإن لم نؤمر به لأجل قيام الدليل على وقوع المعاصي من الأنبياء عليهم السلام, وإن لم يجب علينا إهانتهم بها وذمهم وسوء الثناء عليهم لموضع تفضل الله سبحانه بإزالة المستحق عليهم من ذلك, وأمرنا بالكف عنه لما أراده من إعظامنا إياهم وتوقيرنا لهم. فصل: فإن قال قائل: أفتقولون: إن الله سبحانه مريد لفعل المباح إذا وقع من فاعله؟ قيل له: أجل, ولكل حادث من أفعال الخلق على مرتبه وتصرف أحواله. وقد زعمت القدرية أن الله سبحانه غير مريد للمباح ولا كاره له, لأنه لا

صفة له تزيد على حدوثه تقتضي إرادته أو كراهيته, ولو كان كذلك لأمر به أو نهي عنه. فإن قال قائل: فيجب أن يكون آمرا بالمباح إذا كان قال لفاعله: افعله وهو مريد له منه إذا كان المعلوم وقوعه منه, لأن القول"افعل" إنما يصير أمرا لإرادة الفعل المذكور فيه. يقال له: لا يجب ما قلته, لأننا قد بينا فيما سلف أن الأمر أمر لنفسه لا لإرادة الفعل المذكور فيه فسقط ما قلته. ويدل على فساد هذا القول- أيضا- أنه قول يوجب على من زعم منهم أن الله سبحانه وقد أراد أهل الجنة إليها مع قوله تعالى {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} وأراد أكلهم وشربهم مع قوله تعالى: {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أن يكون الله تعالى آمرا وناهيا ومكلفا لأهل الجنة, وأن يكونوا في داغر محنة وتكليف. وقد اضطربت القدرية عند هذا الإلزام, فقال كل من حقق كلامه, وعلل كونه أمرا بالإرادة للمأمور به أنه سبحانه وتعالى غير مريد لدخولهم الجنة, ولا لأكلهم وشربهم وتصرفهم, لأنه لو أراد ذلك مع قوله لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} لوجب أن يكون آمرا لهم بذلك، وأن تكون كدار الإبتلاء والمحنة, وأن يكونوا مرهبين ومزجورين ومرغبين. وهذا يوجب إفساد النعيم, وكونهم في تنغيص وتكدير, وذلك باطل.

وقال ابن الجبائي منهم أنه أمر لهم بدخول الجنة, ومريد منهم دخولها مع قوله: {ادْخُلُوهَا} لأنهم لا يصلون إلى ثواب أعمالهم إلا بدخولها وترك إثابتهم ظلم لهم, وهو كاره لظلمهم ومريد لأجل ذلك منهم -[12]- الدخول والأكل والشرب ما يصلون به إلى ثواب أعمالهم, وكاره لترك الدخول الذي لا يصلون به إلى الثواب- وهذا يوجب أن يكون أمرا لهم بدخول الجنة على سبيل الفرض والوجوب لقوله: {ادْخُلُوهَا}. وإرادة الدخول منهم, وكراهيته لتركه, وكل مأمور به ومكروه تركه فإنه واجب مفروض, ولا بد في الإيجاب والنهي عن الترك من ترغيب وزجر وترهيب ووعد ووعيد فيجب أن تكون هذه حال أهل الجنة, وأن يكونوا في دار تنغيص كهذه الدار, وذلك خروج عن الإجماع. وهذا أحد الأدلة على أن القول "إفعل" لا يجب كونه أمر لإرادة الفعل المذكور فيه, ولا جواب لهم عنه. ويلزم القدرية أيضا- أن يكون الإنسان آمرا لنفسه بالفعل إذا خاطب نفسه. وقال: يا نفسي افعلي كذا وكذا, وأراد الفعل, لأنه قد وجد القول مع إرادة الفعل فإن قالوا: القائل لنفسه افعلي كذا وكذا قد تقدمت الإدارة له, والإرادة المتقدمة على المراد عزم عليه, فلم يؤثر في كون القول أمرا. يقال لهم: لم قلتم ذلك؟ وما أنكرتم من وجوب تأثيرها سواء وجدت قبل المراد أو معه, فلا يجدون في ذلك متعلقاً.

ويقال لهم: فيجب أن لا تؤثر إرادة الفعل في كون القول أمرا, لأنه إنما يريد الفعل حين يقول له"إفعل" وهي لذلك إرادة موجودة مع الأمر, وهي والأمر متقدمان على المراد, فيجب أن لا يؤثر أبدا في كون القول للغير إفعل أمرا, فإذا لم يجب هذا بطل ما رمتم الانفصال به, هذا على أن الإرادة إنما يجب أن تؤثر في كون القول أمرا, لا في كون المأمور به وإرادة القائل لنفسه إفعلي, ولغيره إفعل موجودة مع القول, فيجب لمقارنتها له أن تؤثر في كونها أمرا, فبطل بذلك ما قالوه.

باب القول في إحالة أمر الأمر لنفسه ونهيه لها

باب القول في إحالة أمر الأمر لنفسه ونهيه لها وقد اتفق على أنه لا يصح أمر الآمر لنفسه, والدليل على ذلك أنه لا تأثير لطلب العاقل الفعل من نفسه واقتضائه منها بالقول, لأن المكتسب من الخلق للفعل إنما يكتسبه لتوفر دواعيه إليه وعلمه بما له فيه من النفع, وما عليه في تركه من الضرر, فإذا قدر عليه وأراده وتوفرت دواعيه عليه فعله لا -[13]- حالة فما وجه أمره لنفسه به؟ ويدل على ذلك أن الأمر والنهي لا بد أن يقترن بهما ترغيب بتفضل أو بمستحق, وترهيب بفعل ضرر مستحق بالمخالفة. والإنسان لا يصح أن يضر نفسه, ويترك دفع الضرر عنها مع قدرته على ذلك وعلمه به وقصده إليه, لأجل نهي لنفسه عن ذلك وأمر لها بترك. فبان أنه لا معنى ولا وجه لجواز أمر الآمر لنفسه, وإنما يصح أمره لغيره. فصل: فإن قال قائل: أفيجوز أن يأمر الآمر كل غير له ممن يصح علمه بالخطاب وتلقيه عنه؟ قيل له: أما جواز وقوع أمر الآمر لكل غير له ممن يصح علمه بالخطاب وتلقيه عنده- وإن كان فوقه, وممن لا يجب عليه طاعته- فإنه جائز صحيح ولكنه مما يلزم امتثال موجبه, ولا معنى ولا وجه له. وإن أراد السائل عن هذا أن أمر العبد لربه عز وجل, والعبد لسيده, والولد لوالده صواب وحسن وحق يجب الانقياد لصاحبه, فذلك خطأ وجهل بإجماع الأمة, ومما لا وجه له.

باب ذكر أقسام الأمر ومراتبه وذكر الفائدة المختصة به

باب ذكر أقسام الأمر ومراتبه وذكر الفائدة المختصة به قد بينا فيما سلف أن الإباحة والأمر والنهي والسؤال والرغبة وغير ذلك من أقسام الكلام معان في النفس مختلفة الأجناس, وأنها لنفسها تتعلق بمتعلقاتها. ومن هو أمر وناه بها, ولمن هي أمر ونهي له من المكلفين, وبما هي أمر به ونهي عنه من اكتساب العباد, وكشفنا ذلك بما يغني عن رده, فإذا ثبت ذلك بطل قول من زعم أن شيئا مما ذكرنا من أقسام الكلام إنما يكون مفيدا لما هو مفيد له ومتعلق به بمواطأة ومواضعه على ذلك وإنما العبارات عن أقسام الكلام هي التي لا تكون مفيدة ودلالة على ما هي دلالة عليه إلا بالمواضعة والاتفاق, وهي التي تدخلها الحقيقة والمجاز وتصلح للتعبير بها عن أقسام الكلام المختلفة المتضادة وغير المتضادة, والتي تصلح أن تكون عبارة عن الخصوص الذي في النفس تارة وعن العموم أخرى. فهذا مما يجب ضبطه, ولا يسوغ لباغي تحصيل علم هذا الباب جهله. وأما القائلون بأن الأمر والنهي وغيرهما من أقسام الكلام ليس بشيء غير هذه الأصوات من المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من أهل الضلال والأهواء ومن لم يعتمد الدخول في بدعتهم من ناشئة الفقهاء الذين لا علم لهم بالكلام في

الأقوال في دلالة الأمر المجرد عن القرائن

هذا الباب, فإنهم يقولون: وإن كل قسم من أقسام الكلام إنما يصير متعلقا بمتعلقه ومفيدا لما تضمنه بالمواطأة والمواضعة على دلالته ومعناه. وهذا خطأ منهم عظيم. الأقوال في دلالة الأمر المجرد عن القرائن وقد اختلفوا -[131]- فيما وضع الأمر لإفادته في اللغة؟ فقال بعضهم: إنه وضع فيها لإطلاق المأمور به والإذن فيه فقط. وهذا قول كثير ممن زعم أن المباح مأموربه وقالوا: فإن اقترن به ما يدل على أنه ندب إليه من ترغيب فيه, وضمان ثواب على فعله, وصار ندبا, اوإن اقترن به ما يدل على وجوبه من ضمان ثواب على فعله وعقاب على تركه صار واجبا, وإن عري في القرينتين كان إباحة وإطلاقا. وقال آخرون- وهم جمهور المعتزلة- إنه إنما وضع للندب إلى الفعل ودلالة على حسنه, وأنه مراد للآمر به فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من ذم وعقاب كان واحبا. وتابعهم على ذلك كثير من الفقهاء, وحكاه كثير من

أصحاب الشافعي- رحمه الله- عنه وأنه استشهد على ذلك بقوله تعالى: {وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} وأمثاله مما ورد الأمر به على سبيل الندب. وقال الدهماء من الفقهاء وغيرهم إنه موضوع لإيجاب المأمور به وحتمه إلى أن يقوم دليل على أنه ندب. وقال شيخنا أبو الحسن رحمه الله وكثير ممن حصل علم هذا الباب من المتكلمين والفقهاء إنه محتمل للأمرين ومشترك بينهما, وإنما يجب حمله على أحدهما بقرينة ودليل, وأنه لا مدخل للإباحة فيه لما بيناه من قبل, من أن المباح غير مأمور به. وهذا هو الحق الذي به نقول.

باب ذكر الفصل بين حقيقة الإيجاب والندب

باب ذكر الفصل بين حقيقة الإيجاب والندب فإن قيل: فما حقيقة الندب والفرق بينه وبين الإيجاب؟ قيل: حقيقة الندب أنه " اقتضاء" الطاعة والانقياد بالفعل مع سقوط اللوم والمأثم بتركه" وبهذا ينفصل من الواجب. ولا يصح أن يحد الندب" بأنه ما كان فعله خيرا من تركه, من غير ممأثم يلحق بتركه" لأن هذا تحقيق الفعل المندوب إليه دون الندب إليه الذي يفعل تارة ويترك أخرى. فأما حد الإيجاب وحقيقته فإنه" اقتضاء الطاعة والانقياد بالفعل على وجه يحرم ترك موجبه ومتضمنه, أو تركه وترك البدل منه, أو تركه على وجه ما أو يلحق المأثم على ترك متضمنه على وجه ما." وإنما قلنا على وجه يحرم تركه أو تركه وترك البدل منه لأجل أنه قد يكون متضمنة الواجب فعله, وبهذا بان من الندب. وإنما قلنا على وجه ما لأجل أنه قد يكون متضمنة الواجب فعله مستحق العين, كرد الوديعة وصيام يوم بعينه, وصلاة تضيق وقتها, وأمثال ذلك. وقد

يكون موسعاً له ببدل, كالكفارات الثلاث المخير فيها ويكون واسعا وقته كالصلاة في أول الوقت ووسطه التي يسقط عند كثير من الناس تقديم فعلها إلى بدل هو العزم على أدائها فيما بعد إن بقي بشرط من يلزمه التكليف. وقولنا: أو يلحق المأثم -[134]- بترك متضمنه على وجه ما: لأجل أن تارك الفرض الموسع وقته بتركه عند كثير من الناس لا إلى بدل هو العزم أو غيره ولكنه يأثم بتركه على وجه ما, وهو الترك له عند تضييق وقته, والندب مفارق للإيجاب في جميع هذه الوجوه. وإنما اخترنا أن حد الإيجاب ما قلناه على القول حد الواجب, لأجل أن يكون الواجب هو الفعل اللازم. والإيجاب شيء غيره, وهو صفة الموب له, وقد يكون فعلا له, وقد لا يكون كذلك. والحدود لا يصح استعمال التجوز فيها وإن كنا قد أطلقنا الواجب مكان الإيجاب, وقاله كثير من الناس. فصل: ويجب متى ثبت ما بيناه أن حقيقة الأمر أنه اقتضاء الفعل على (غير) وجه المسألة أو اقتضاء الطاعة والانقياد به- أن يقال حقيقة الإيجاب والندب

في كونهما اقتضاء للفعل على هـ 9 ذا الوجه لا تختلف ولا تتزايد, وأنهما يتعلقان بالمأمور على وجه واحد, وإنما يختلفان بأن يكون أحدهما تحريما لترك المأمور به وحظرا له, والآخر غير تحريم لتركه وهو الندب فيختلفان لاختلاف الحكم في تركيهما, فأما في تعلقهما بما هما أمر به فبعيد, لأن تعلق الأمر بالمأمور به يجري مجرى تعلق العلم بالمعلوم, والإدراك بالمدرك, والإرادة بالمراد الواحد, على الوجه الواحد في أن ذلك أجمع تعلق متساو غير مختلف. وقد بينا هذه الجملة في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه إن شاء الله.

باب القول في أن الندب مأمور به

باب القول في أن الندب مأمور به فإن قال قائل: إنما يصح لكم قسمة الأمر إلى واجب وندب, ووجوب الوقف في المراد متى عري من قرينة الإيجاب والندب إذا ثبت لكم أن الندب مأمور به. وفي الناس من ينكر ذلك فدلوا على هذا الأصل. يقال له: الذي يدل على ذلك أمور: أحدها: إن الأمة متفقة على أن كل ندب من الأفعال من صلاة وصيام وغيرهما فإنه طاعة لله تعالى, وأنه مفارق بكونه طاعة للمباح والمحظور من الأفعال, فلابد أن يكون إنما صار طاعة لتعلق الأمر به, لأنه محال أن يكون إنما كان طاعة لجنسه ونفسه أو صفة من صفات نفسه لصحة وجوده ووجود مثله وما هو من جنسه غير طاعة, ومحال - أيضًا - أن يكون إنما صار طاعة لحدوثه ووجوده, ولا يجوز أن يكون طاعة لكونه مرادًا للمطاع لأنه قد يريد على المباح, وما وقع - أيضًا - من المحظورات, وإن لم يكن طاعة لما قام من الدليل على وجوب كونه تعالى مريدًا لجميع الحوادث من أفعاله وأفعال غيره/ ص 135 المكلف منهم وغير المكلف, ولا يجوز - أيضًا - أن يكون طاعة لحصول العلم به

والخبر عنه, لأنه قد يشركه في ذلك ما ليس بطاعة من المباح والمحظور ولا يجوز - أيضًا - أن يكون إنما صار طاعة لحصول الثواب وضمانه عليه ووعده تعالى به, لأنه قد ثبت أنه لو أمر بطاعة من الواجبات والنوافل ولم يضمن عليها ثوابًا لوجب أن يكون طاعة إذا وقعت موافقة للأمر, لأن ضمان الثواب منه تعالى على طاعته إنما هو تفضل منه وترغيب في الطاعة, وليس بواجب مستحق عليه, إذا كانت أقل نعمة له سبحانه على المكلفين يستحق بها طاعتهم على وجه العبادة والتعظيم, فثبت أنه ليس من حق الطاعة استحقاق الثواب عليها ولأنه قد يحبط المطيع ثواب طاعته بفعل الكفر والكبائر مما دون الكفر عند المخالفين فلا يخرج بإحباط ثوابها عن أن تكون طاعة, وكذلك فلا يجوز أن تكون المعصية معصية لوقوع العقاب عليها لأنها لو عفي عنها, أو أحبط المكلف عقابها بالتوبة أو ببعض الطاعات المؤقتة عليها لوجب أن تكون معصية وإن لم يكن عليها عقاب, فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يكون طاعة وعصيانًا لأجل الثواب والعقاب, ولا يجوز أن يكون طاعة لأجل خبر الله عز وجل عن كونها طاعة وعلمه بكونها كذلك ودلالته على ذلك من حالها, لأن العلم والخبر الصدق من حقهما أن يتبعا المعلوم والمخبر عنه, فلا يتناولانه إلا على ما هو به, فإذا حصل كذلك صح

تعلق العلم والخبر الصدق بكونه كذلك, ولهذا لم يجز أن يقال إن المحدث إنما صار محدثًا لعلم العالم بحدوثه, لأنه لو لم يكن محدثًا في نفسه لما صح تعلق العلم بحدوثه, ولا كان الخبر عن كونه كذلك صدقًا, ولا صح قيام دليل على كونه محدثًا, وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنه إنما كان طاعة لكونه مأمورًا به, إذ لا شيء يمكن ذكره في تعليل كونه طاعة سوى ما قلناه, وهذا هو الذي عليه أهل اللغة. وكذلك يقال فلان مطاع الأمر ومعصي أمره, ويقولون أمر فأطيع وأمر فعصي, وكذلك قال الله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وقال تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فقرن الطاعة بالأمر وقال الشاعر: ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا توان من المأمور في حال أمرك ولم يقل أحد منهم فلان مطاع الإرادة ومعصيها, ولا أراد فأطيع, فثبت بذلك أجمع أن الطاعة إنما كانت طاعة لكونها مأمورًا بها. وإذا ثبت ذلك وجب انقسام الأمر قسمين: واجب ونفل, ووجب الوقف فيه متى ورد عاريًا من دليل الإيجاب ودليل الندب, ولم يكن لأحد أن يقول إنه يجب حمله على الإيجاب لعروه من دليل النفل إلا/ ص 126 من حيث كان لغيره أن يقول بل يجب حمله على النفل لعروه من دليل الإيجاب, وهذا يوجب أن يكون واجبًا ندبًا, إذا عري من القرينتين, ولا لأحد - أيضًا - أن يقول: إن أهل اللغة وضعوا مجرده ومطلقه إما بلفظ إن كان له صيغة على ما يدعون, أو بكون أمرًا فقط للإيجاب,

وإنما يحمل على الندب بقرينة الأمر حيث كان لخصمه أن يقول بل مجرده, ومطلق كونه أمرًا موضوع في لغتهم لإفادة الندب دون الإيجاب, وإنما يجب حمله على الإيجاب بقرينة, وإذا تكافأت هذه الدعاوى وتقاومت صح ما قلناه من أنه ليس مطلق كونه أمرًا ومجرده موضوعًا لأحد الأمرين, بل هو مشترك فيهما ومتردد بينهما وواجب حمله على أحدهما بما يضامه من القرائن. ومما يدل على ذلك - أيضًا - ما قد بيناه من أن الندب مأمور به على الحقيقة فلا يجب حمله على إحدى حقيقته إلا بقرينه, كما أنه إذا كانت الطاعة تكون واجبة وتكون ندبًا, والواجب يكون موسعًا ويكون مضيقًا ومستحق العين وذا بدل يسقط إليه, وكان الموجود ينقسم إلى قديم ومحدث لم يجز أن يعلم كون الأمر واجبًا أو ندبًا من حيث كان أمرًا, كما لا يعلم كونه من أحد القسمين بكونه طاعة وقربة, وكما لا يجب حمل القول موجود على القديم في الحقيقة دون المحدث أو المحدث دون القديم, وكذلك سبيل القول في جميع ما جرى هذا المجرى, فوجب بذلك إيقاف كونه واجبًا أو ندبًا على الدليل. ومما يعتمد عليه في ذلك وفي منع صيغة الأمر والنهي ولفظ وضع للعموم وأمثال هذه الأصول إنه لو كان فائدة مجرد الأمر وموضوعه في اللغة الوجوب دون الندب, أو الندب دون الوجوب لم يخل من أن يكون طريق العلم بكونه مفيدًا لأحد الأمرين العقل أو السمع, وقد اتفق على أنه لا عمل للعقل بضرورته أو دليله في ذلك وأنه ليس مدعي قصة العقل لحمله على أحدهما أولى من مدعي

ضد قوله ونقيضه, فثبت أنه لو كان مفيدًا لذلك لوجب أن لا يفيده إلا بلغة وتواضع على معناه وتوقيف على ذلك, وقد علمنا أنه لا توقيف عنهم فيه, لأن مدعي وضع ذلك في لغتهم إنما يجب علمه به بمعاذرتهم وحضور مواضعتهم أو بالنقل الذي يحج مثله عنهم, إما بأن يكون خبرًا متواترًا يقتضي علم الاضطرار بمخبره لسامعه, أو مدلولًا عليه ببعض أدلة الأخبار من نطق كتاب بتصديق راويه, أو توقيف عن الرسول عليه السلام على صدقه بتلقي ذلك عنه أو بخبر عنه يحج مثله ويقطع بصدقه, وذلك غير موجود في روايتهم لهذه الأمور التي يدعونها في الأوامر والنواهي والأخبار والعموم عن أهل اللغة: أو يعلم صدق الخبر عنهم بذلك بإطباق الأمة وإجماعها على تصديق الراوي لذلك عنهم, وهذا - أيضًا - مفقود في خبرهم, أو أن يكون معلومًا عنهم بأن ينقله الآحاد بمحضر أهل اللغة أو فرقة منهم لا يجوز عليهم تصديق كاذب وإقرار لباطل يضاف إليهم, ويدعي عليهم به, هذه جملة ما يدل على ثبوت الخبر وقيام حجته. وإذا لم يكن مدعي وضع اللغة للعموم وللأمر والنهي أو لإفادة مجرد الأمر للإيجاب أو الندب أو فعل مرة أو التكرار أو الفور أو التراخي قادرًا على إثبات رواية عنهم في ذلك ثبت وجوب الوقف في ذلك أجمع. فإن قالوا: فهذا الدليل بعينه منقلب عليكم في القول بالوقف لأنكم تدعون أنه في اللغة موقوف وموضوع للوقف, فيجب أن تنقلوا ذلك عنهم نقلًا تقوم به الحجة. يقال لهم: لسنا نريد بالوقف وقولنا إنه مشترك أن أهل اللغة قالوا إنه موقوف فيجب أن ينقل ذلك عنهم, وإنما نعني بالوقف أن الأمر يكون واجبًا

ويكون ندبًا, وأن أهل اللغة لم يوقفونا على أنه موضوع لأحدهما, ولا يجب أن ينقل عنهم ما لم يضعوه باتفاق, وإنما يجب نقل ما وضعوه, فإذا ثبت أن الأمر يكون واجبًا ويكون ندبًا ولم يثبت عنهم توقيف على أنه موضوع لأحد الأمرين وجب الوقف فيه, وكذلك سبيل القول في العبارة عنه التي هي القول "افعل" إذا علم أنها عبارة عن الأمر وجب الوقف في أنها عبارة عن واجب أو ندب لأنها قد يعبر بها عنهما, وليس عنهم توقيف في أنها موضوعة للتعبير بها عن أحدهما دون الآخر, وإذا كان هذا هو معنى الوقف وجب بطلان المطالبة بنقل وضعهم للوقف. وقد يجاب عن هذا بأن يقال أن معنى الوقف منقول عنهم, لأنه ليس هو أكثر من استعمالهم اللفظ في الأمرين جميعًا وعدم التوقيف منهم على أنه موضوع في الأصل لأحدهما ومنقول إلى الآخر. كم إنما نقول جميعًا أن قول القائل: رأيت جماعة ونفرًا وفرقة موقوف في لغتهم ومتردد بين الثلاثة وبين ما زاد عليها, وإن كان ذلك غير منقول عنهم يعني الوقف, وليس هو أكثر من استعمال قولهم جماعة وفرقة في الثلاثة وفيما زاد عليها من الأعداد وعدم توقيفهم على أنه موضوع في الأصل لبعض الجماعات, ومنقول إلى غيرها, فقلنا نحن وهم - لأجل ذلك - أنه على الوقف, وهذا بعينه موجود في الأمر الذي في النفس وفي القول "افعل" الذي هو عبارة عنه, وإذا كان ذلك كذلك بطل القول الذي راموه. وقد يجاب عن هذا القلب - أيضًا - بأن يقال/ ص 138 قد ثبت إجراء اسم الأمر

في لغتهم على الواجب والندب, واللفظ المدعي للعموم على أما أريد به البعض وأريد به الكل, وإن لم يثبت عنهم رواية ثابتة أنه موضوع لأحدهما بمطلقه فيجب كونه مشتركًا بينهما نحو الاستعمال فيهما, وإبطال دعوة كونه مجازًا في أحدهما, ومع ذلك فلا ينكر أن يكونوا قد وضعوه في الأصل لأحدهما, غير أنه لا حجة في أيدينا عنهم بذلك فيجب الوقف فيه والقضاء على أنه مشترك بينهما, ولو ادعى مدع أن عدم توقيفهم على أنه موضوع بمجرده ومطلقه لأحدهما دون الآخر أوضح دلالة على أنه مشترك بينهما لم يكن مبعدًا, ولذلك وجب أن يقول إن القول "لون" مشترك بين السواد والبياض وسائر الألوان حقيقة, وأن القول موجود مشترك بين القديم والمحدث, والقول عين وبيضة وجارية مشترك - أيضًا - في أصل الوضع بين العين الناظرة والنابعة والذهب خلاف الفضة, وغير ذلك مما يقع عليه هذا الاسم وكذلك القول بيضة لما لم يكن عنهم توقيف ثابت بأنه موضوع في الأصل للخوذة دون بيضة الدجاج والنعام وغيرهما من الحيوان, وأن القول جارية موضوع في الأصل للسفينة الجارية دون الأمة المملوكة, هذا هو الظاهر من حالهم, إذ كانوا إنما وضعوا الأسماء والصفات لإفادة أغراضهم والمعاني التي أوقعوا عليها الأسماء. فيجب لذلك توقيفهم على أن ما لم يوضع في الأصل مشتركًا فإنما وضعوه

لواحد بعينه ونقلوه إلى غيره أو أنه موضوع بمطلقه لبعضه ومستعمل في غيره بقرينه, وإذا كان ذلك كذلك بان بما وصفناه وجوب القول بالوقف في مجرد الأمر وفي العبارة عنه التي هي القول افعل وفي لفظ الخبر عنه الذي هو القول: "قد أمرتك بالفعل" وهذا واضح لا إشكال فيه.

باب الكلام على من زعم أن موضوعه في اللغة للندب دون الإيجاب

باب الكلام على من زعم أن موضوعه في اللغة للندب دون الإيجاب زعم كثير من المتكلمين ودهماؤهم المعتزلة أنه على الندب وقاله قوم من الفقهاء. وقد ذكرنا من قبل أن من أصحاب الشافعي من قد حكاه مذهبًا له فيقال لمن قال منهم بذلك لم قلته؟ فإن قالوا: لأنه أقل ما يجب حمله عليه, ويصرفه إليه, ثم كونه أمرًا لأنه موضوع لاقتضاء الفعل, والدلالة على كونه مرادًا للأمر، وقد علم أن الواجب ما لحق الوعيد والذم, بتركه على وجه ما, وذلك لا يجب في المأمور به بنفس الأمر لأن الندب مأمور به, ولا يلحق المأثم بتركه على وجه ما, وكذلك فلا يجب حمل الأمر على الوجوب لكونه دالًا على إرادة المأمور به, لأن النفل مراد من فاعله, ولا يلحق المأثم بتركه على/ ص 129 وجه ولا تدل الإرادة له على وجوبه, وإنما يصير متعلق الأمر واجبًا إذا قارنه وعيد على تركه وتحريم الانصراف عنه, وليس لفظ الأمر بالفعل وعيد على تركه, ولا هو مقتض له من حيث كان أمرًا بالفعل, ولا من حيث دل على إرادته فوجب حمله على الندب ...

يقال لهم: ليس هذا الاستدلال منكم ينقل عن أهل اللغة أنهم وضعوا مجرد الأمر للندب إلى المأمور به, وإنما هو استدلال يجب أن ينظر فيه, واللغة مواضعة وتوقيف لا تثبت بالقياس والاستدلال, وفي كونه لغة وقع الخلاف ولا سبيل لكم إلى تصحيح ذلك. ثم يقال لهم: أنتم وإن أنكرتم أن يكون القديم تعالى أمرًا بالمباح مع حسنه لوجه أوجب ذلك عليه, وهو أنه لا غرض في إرادته لنفع إليه سبحانه, وليس من مصالح المكلفين وألطافهم فيأمرهم به فإنكم لا تنكرون أن يقول القائل منا لغيره افعل كذا وكذا فقد أبحتك الفعل ويريده منه مع القول افعل لغرض ينتفع به الأمر, ويرجع إلى مصلحته, وإذا كان ذلك كذلك فقد صح أن يأمر الآمر منا بالمباح ويريده لهذا الغرض وإن امتنع ذلك في الله عز وجل, وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن الأمر منا ومن أهل اللغة قد يكون على قولكم إباحة, وقد يكون ندبًا ويكون إيجابًا, ومتى ثبت ذلك وجاز حمله على الإباحة وإرادة المبيح له, كما جاز في كونه أمرًا وجب بنفس اعتلالكم أن يكون أقل أحواله حمله على الإباحة وإرادة المبيح له, وأما الندب إليه والإثابة على فعله فليس في لفظه, ولا في كونه مرادًا فيجب لذلك حمله على الإباحة دون ما قلتم. فإن قالوا: يجوز ذلك في الآمر منا لجواز إرادته المباح لغرض من منافعه

يجري إليه ولا يجوز ذلك من الله تعالى, لأنه لا ينتفع بالمباح ولا هو من مصالح المكلفين, ولا مما يثاب عليه, ولا وجه لإرادته له وأمره به. يقال لهم: ليس الكلام في موجب الأمر ومضمونه في حكم الشرع وصفة القديم, وما يجوز عليه ويستحيل في صفته, وإنما الكلام في مقتضاه في وضع اللسان, فأنتم بهذا الفصل قد سلمتم أنه ليس مقتضى الأمر في ذلك أن يحمله على الندب أو الإيجاب, وإنما يجب ذلك في أوامر الشرع بما قلتم من الاستدلال بزعمكم, فهذا تسليم منكم, لما قلناه في حكم اللغة. ويقال لهم: إذا كان من قولكم أن المباح من أفعالنا حسن, وجاز وصح أن يفعل الفاعل الحسن لحسنه صح وجاز من الله ومن غيره أن يأمر بالمباح الحسن لحسنه لا لنفع يعود إليه, أو إلى المكلف, وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قلتم. ويقال لهم - أيضًا: يجب على اعتلالكم هذا حمل لفظ العموم الذي تدعونه / ص 140 موضوعًا للاستغراق على أقل الجمع لأنه يستقل بحمله عليه, فإن لم يجب هذا مع استقلاله بحمله عليه لم يجب حمل الأمر على الندب وإن كان مستقلًا بحمله عليه.

ويقال لهم - أيضًا - إذا لم يجب حمل مطلق الأمر على الوجوب, لأنه ليس في لفظه تحريم تركه والوعيد عليه لم يجب - أيضًا - حمله على الندب, لأنه ليس في لفظه ومعنى كونه أمرًا تحليل تركه وجوازه, فإن وجب حمله على الندب - وإن كانت هذه حالة - فما أنكرتم من وجوب حمله على الإباحة والوجوب, وإن لم يكن إطلاق تركه أو تحريم تركه مسموعًا من لفظه ومنطوقًا به؟ ولا جوب عن ذلك. وإن قال منهم قائل: إذا أطلق الأمر فقد دلنا على حسن المأمور به وكونه مرادًا, وعلمنا بعروه مما يقتضيه تحريم ترك الفعل أنه ليس بحرام تركه, لأنه لو حرم لكان مفسدة قبيحًا, ولوجب أن يدلنا على ذلك من حال تركه بشيء يزيد على أمره به وإرادته له. يقال لهم: انفصلوا ممن قال لكم وإذا أمر بالفعل فقد دلنا على حسنه, وعلى أنه مراد, وعلى أن تركه مكروه قبيح, لأنه لو علم أنه ليس بمكروه قبيح لدلنا على ذلك من حاله وأطلقه لنا, ونحن لا نعلم إطلاق ترك الفعل لكونه مرادًا حسنًا مأمورًا به, لأن هذه حال الواجب وإن لم يحل ويحسن تركه, وإذا كان ذلك كذلك كان تجريده للأمر, إذا لم يدل على إباحة ترك المأمور به دليلًا على تحريم تركه فوجب حمله على الوجوب, ولا جواب عن ذلك. فإن قالوا: ترك العبادة الشرعية معلوم إباحته بالعقل وإذا ورد الأمر به دل على حسنه وكونه مرادًا ولم يحتج إلى التوقيف على إباحة تركه لأنه معلوم بالعقل قبل السمع, وإنما يحتاج تحريم تركه إلى سمع لأنه متجدد ومخالف لحكم العقل.

يقال لهم: ليس الأمر في هذا على ما قلتم, لأننا قد بينا فيما سلف أن الإباحة سمعية غير عقلية, وأنها حكم متجدد مستفاد بالشرع, ويكفيهم في هذا أن يقولوا بدل قولهم أن تركه مباح في العقل أن يقولوا هو غير محظور ولا حرام في العقل, فهو عند ورود السمع باق على ما كان عليه. وجواب هذا إذا قالوه أن يقال لهم: إنما يعلم بالعقل أنه غير محرم تركه ما لم يرد الأمر بفعله, وأما إذا ورد الأمر به تغيرت حاله, ولم يعلم عند وروده أن تركه باق على ما كان عليه لجواز أن يكون الأمر الوارد به أمرًا على وجه يحرم معه تركه وأن يرد به على وجه يبقى حكم تركه على حكم العقل سيما وقد قال أكثر الناس أن مجرد الأمر به إذا ورد أفاد ونقل حكم تركه عن حكم العقل وجعله/ ص 41 محظورًا وجعل فاعله ملومًا, وقلتم أنتم تركه مع ورود مجرد الأمر به باق على حكم العقل, وقلنا نحن وهو الصحيح لا يعرف بورود مجرد الأمر به حال تركه وأنه باق على حكم العقل ولم ينقل عنه, وهذا الخلاف كله زائل قبل ورود الأمر, فليس هذا مما يصح استصحاب الحال فيه مع ورود الأمر المجوز لتغير حكم تركه وحصول الخلاف فيه عند وروده وإذا كان ذلك كذلك بطل ما انفصلوا عنه. واستدلوا - أيضًا - على أن الأمر على الندب بأن تأكيد اللفظ لفق معناه وطبقه, وقد يقول القائل افعل فقد ندبتك إلى الفعل وأرشدتك, فوجب أن يكون مراد الآمر ما أفاده تأكيده له.

يقال لهم: قد أبعدتم في هذا لأن قوله ندبتك وأرشدتك ليس بتأكيد لقوله "افعل" أو قد أمرتك, ولكنه بيان وتفسير للوجه الذي أمره عليه وكان أمره محتملًا قبل التفسير لغير ما بينه وفسره فلم زعمتم أنه تأكيد؟ ويقال لهم: انفصلوا من القائلين بالوجوب إذا اعتلوا لذلك بنفس علتكم هذه, وقالوا تأكيد اللفظ طبقه ولفق معناه, وقد يقول القائل "افعل" فقد ألزمتك وأوجبت عليك وحتمت وفرضت وكتبت فيجب أن يكون معنى الأمر إفادة الوجوب, كما أن إتباعه وتأكيده مفيد للوجوب, ولا فصل في ذلك إلا بما قلناه من أنه بيان وليس بتأكيد. فصل: واستدلوا - أيضًا - على ذلك بأن للوجوب ألفاظًا تخصه نحو القول: أوجبت وحتمت وألزمت وفرضت فإذا لم يرد الأمر بهذا اللفظ وجب حمله على الندب. يقال لهم: انفصلوا ممن قال: بل موضوعه إفادة الوجوب لأن للندب ألفاظًا تختص به, نحو القول قد ندبتك وأرشدتك ورغبتك, فإذا لم يرد الأمر بهذا اللفظ, أو معه هذا اللفظ ونحوه وجب حمله على الإيجاب دون الندب, ولا مخرج من ذلك. فصل: وقد زعم فريق من القائلين بأن موجب الأمر ومقتضاه الندب دون الإيجاب إنه إنما وجب ذلك فيه لدليل السمع دون قضية العقل واللغة, وهذا تسليم منهم, لما قلناه من حكم اللغة إلى أن ينظر فيما يتعلق به من جهة السمع.

وقد استدلوا على ذلك بقوله عليه السلام "ما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم, وإذا نهيتكم فانتهوا" قالوا: تعلق الأمر بمشيئتنا واستطاعتنا وألزمنا الانتهاء عما نهى فوجب حمل النهي على الوجوب دون الأمر. والتعلق بهذا - أيضًا - غير صحيح من وجوه:/ ص 142 أولها: إنه من أخبار الآحاد, ولا يعمل في مثل هذا الباب بأخبار الآحاد, لأنها غير معلوم صحتها. والوجه الآخر: إن قوله عليه السلام: "فأتوا منه ما استطعتم" ليس في ظاهره جعل الفعل إلى اختيارهم ومشيئتهم وتحليل تركه لهم, وإنما فيه إنني آمركم به إذا كنتم, وعلى أي وجه أمرهم به عند الاستطاعة ليس في ظاهره. وقد يأمرنا بالفعل الذي نستطيعه على سبيل الوجوب, كما يأمرنا به على وجه الندب, قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولم يرد بذلك ندبه إلى التقوى دون الإيجاب له, وإنما معنى الآية والخبر أن اتقوه ما دمتم سالمين غير عجزة, بل قادرين على الفعل أو تركه, ولم يرد إثبات استطاعة

ما يقتضيه مطلق الأمر عند الشافعي وكذلك مطلق النهي

البدن للمأمور به, وأن لا يؤمر إلا من وجدت قدرته على الفعل على ما يقوله القدرية وكذلك قوله: "إذا نهيتكم فانتهوا" ليس في ظاهره أكثر من أمرنا بأن ننتهي عما نهانا عنه, وهل قوله: انتهوا على الوجوب أو الندب فهو الذي فيه اختلفنا, وإذا كان كذلك سقط التعلق بالخبر. فإن قال قائل: فهل يجوز تأخير بيان الأمر وإن كان على الفور؟ قيل له: لا, وإنما يجوز تأخير بيانه والكشف عن أنه على الوجوب أو الندب, إذا كان واردًا على التراخي, فأما إذا كان على الفور فلا يجوز تأخير بيانه لما نذكره من بعد في أحكام تأخير البيان. فإن قال قائل: فهل يجوز أن يقال: إن الأمر الوارد على سبيل الندب يكون على الفور دون التراخي؟ قيل: أجل, لأنه قد يصح أن يندبنا إلى الفعل عقيب أمره, كما يصح أن يندبنا إليه على التراخي, ونحن نبين ذلك فيما بعد إن شاء الله. فصل: فأما ما يقتضيه كلام الشافعي رحمه الله في حكم مطلق الأمر في

الشرع إذا ورد فهو قوله بالوقف الذي يذهب إليه, وأكثر أصحابه تقول مذهبه حمله على الوجوب, وفريق منهم يقول حمله على الندب, وقد أورد - رحمه الله - في ذلك ألفاظًا مختلفة فكان إذا ذكر الأمر الوارد بعد الحظر يريد بذكر الأمر هنا الإباحة, وهو القول "افعل" الذي يعبرون عنه بالأمر, قال: أباح الله كذا بعد أن حظره وقال جل أصحابه: الأمر الوارد بعد الحظر عنده على الإباحة. وإذا ذكر أصول الشرائع والأمر بها قال: فرض الله عز وجل على نبيه وأمته كذا وكذا من صلاة وحج وصيام وأمثال ذلك, وإذا ذكر الأمر في الفروع التي تحل محل ما لا يجوز خلافه من الأصول قال: أوجب الله تعالى كذا وكذا, وقد يقول: ندب الله إلى كذا وكذا وأرشد إليه فهذه إطلاقاته. والأولى به عندنا أن يقول: فرض الله وأوجب في الأوامر التي دل الدليل على أنها على الوجوب لا بكونها أوامر فقط, ويقول: ندب وأرشد فيما دل الدليل على أنه على الندب, لا من حيث هو أمر, والذي نص عليه في كتاب "أحكام القرآن" أن قال: "إن الأمر من الله عز وجل يحتمل أن يكون ندبًا ويحتمل أن يكون واجبًا" وقال في هذا الكتاب: "إن نهي الله تعالى على الإيجاب والتحريم"

وفرق بين أمره تعالى ونهيه في هذا الكتاب, فقال في باب تزويج الولي للأيم: "إن الذي لأجله أوجبنا على الولي تزويج الأيم قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} لأنه نهاه عن العضل, لا قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وأن مثل ذلك لما لم يوجد في إنكاح العبيد لم يبن لي وجوب إنكاحهم" يعني أنه لما لم يقل في تزويج العبيد {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} ولا ما يقوم مقام ذلك, ولم يكن معنا في أمرهم إلا قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وكان هذا أمرًا بإنكاح العبيد, وهو محتمل للندب ومحتمل للإيجاب لم يتبين له بنفس الأمر بذلك أنه على الوجوب, وظهر له وجوب إنكاح الحرائر بقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} لأن النهي زعم على التحريم والوجوب, فهذا نص منه على احتمال مطلق الأمر للوجوب والندب وأنه لا يتبين له بذلك أنه على أحد الوجهين, وهذا هو القول بالوقف. فصل: وأما قوله: إن النهي على التحريم والإيجاب فقد قاله كثير من الناس وعليه جميع المعتزلة, غير أنه - رحمه الله - لم يقصد بذلك موافقة المعتزلة وأنه لا ينهي إلا عن قبيح قبل النهي عنه, وعما هو كاره له, ولا يأمر إلا بحسن قبل

الأمر به وبما هو مريد له وإنما قال بذلك لأنه عنده موجب اللغة ومقتضاها وأن من فعل ما نهي عنه فقد استحق اسم العصيان, وأمثال هذا, فثبت أن الأشبه بقوله ما نذهب إليه من صحة الوقف.

باب الكلام على من قال بوجوب حمل مجرد الأمر على الوجوب دون الندب

باب الكلام على من قال بوجوب حمل مجرد الأمر على الوجوب دون الندب وقد اختلف القائلون بذلك في جهة حمله على الوجوب. فقال كثير منهم: ذلك موجبه ومقتضاه في وضع اللغة. وقال آخرون: بل يجب ذلك في أوامر الشرع وغيرها بدليل العقل. وهذان القولان خطأ من القائل بهما. وقال آخرون منهم: إنما يجب حمل أوامر الشرع على الوجوب بدليل السمع دون قضية اللغة والعقل, لأن السمع جعل الأصل فيها الوجوب إلا ما قام دليله. واعلموا أن كل دليل استدللنا به على وجوب القول بالوقف, فإنه دليل على

بطلان قول من حمل مجرده على الوجوب أو الندب من جهة وضع اللسان ودليل العقل, وقد بينا ذلك فيما سلف, وكذلك كل دليل استدللنا به على بطلان قول من زعم أن موجب مجرده حمله على الندب في وضع اللغة فهو بعينه دليل على إبطال قول من زعم أن موجبه الوجوب بين عند التأمل, فلا حاجه بنا إلى رده. ومما يدل - أيضًا - على فساد قول الفريقين أنه لو كان مطلق الأمر موضوعًا في اللغة لأحدهما لكان إذا صرفه الدليل إلى غير ما هو موضوع له جعله مجازًا فيما نقله إليه لأننا قد بينا في أصول القول في الحقيقة والمجاز أن كل قول وضع مطلقه لإفادة معنى, ونقله الدليل إلى غيره فإنه مجاز فيما يحمل عليه بقرينته, وبينا أنه لا يجوز أن يكون للقول حقيقتان: إحداهما تستفاد بإطلاقه والأخرى بقرينته, وأن ذلك يؤدي إلى إسقاط المجاز جملة من الكلام. وبينا أن المجاز ثابت لا يمكن إبطاله, فإذا ثبت ذلك وجب أنه لو كان مطلق الأمر في اللغة موضوعًا للندب أن يصير في الإيجاب مجازًا إذا صرفه الدليل إليه, وكذلك لو كان موضوعه مفيدًا للوجوب لوجب أن يكون في الندب مجازًا إذا صرفه الدليل إليه, فلما ثبت أن الأمر على وجه الندب أمر على الحقيقة دون المجاز بما بيناه من قبل, واتفقوا - أيضًا - على أن الأمر الواجب على الحقيقة دون المجاز بطل أن يكون ظاهره ومجرده موضوعًا في اللغة لأحدهما, وليس يجوز لذي تحصيل أن يقول إن الندب مأمور به على الحقيقة والآمر أمر به على المجاز, لأن ذلك يؤدي إلى أن النفل مأمور به في المجاز, وأنه طاعة وقربة في المجاز دون الحقيقة, وقد بينا بطلان هذا آنفًا فسقط القول بذلك. ويدل على صحة ما قلناه - أيضًا - اتفاق الكل على حسن الاستفهام عن معنى الأمر, إذا ورد, وهل هو على الوجوب أو الندب, ولم [؟ ولو] لم يصح استعمال مجرده في كل واحد منهما لقبح الاستفهام عن أنه على الوجوب أو الندب لأنه لا

يحسن أن يستفهم هل أريد باللفظ ما لا يصلح إجراؤه عليه وتناول له, وكذلك مما لا يحسن إذا قال القائل: رأيت إنسانًا أن يقال له: هل رأيت من له هذه البنية أو حمارًا؟ ويحسن أن يقال له: ذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعه عليهما, وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدالة على المراد بالمحتمل من اللفظ, وإنما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم القرائن الكاشفة عن المراد فثبت وجوب تردد مجرد الأمر بين الواجب والندب. ذكر الكلام على شبه من قال إنه على الوجوب في وضع اللسان وقد استدلوا جميعًا على ذلك بأن المأمور في اللغة والشرع جميعًا يفهم من مطلق الأمر وجوب المأمور به, ولذلك حسن ذمه وعقابه ووصفه بالعصيان/ ص 145 إذا تخلف عن امتثال موجبه, ولن يجوز الذم والعقاب والوصف بالعصيان إلا بالتأخر عن واجب لازم, قالوا: ولذلك فهمت الأمة والملائكة وجوب الإيمان بالله تعالى والصلوات وجميع العبادات المفروضة بنفس الأمر بذلك, وفهمت الملائكة وجوب السجود لآدم بمجرد قوله {اسْجُدُوا لِآدَمَ}، وفهمت الرعية وجوب ما يأمر به سلطانها, وفهم العبد وجوب أمر سيده, والولد لزوم أمر والده, ووجب ذم كل مأمور ممن ذكرنا عند تركه امتثال ما أمر به, فثبت بذلك أن مفهوم الأمر في اللغة الوجوب.

يقال لهم: ما ذكرتموه نفس الدعوى وحكاية المذهب فقط, فدلوا عليه إن كنتم قادرين, فإننا غير مسلمين لشيء مما وصفتم, وما يفهم أهل اللغة والشرع وجوب أمر الآمر بمطلقه, ولا يستحق عندهم على أحد من المأمورين في اللغة والشرع ذمًا ولا عقابًا ولا وصفًا بالعصيان بترك مجرد الأمر, وإنما يستحق ذلك عليه, إذا علم أن أمره على الوجوب المضيق, فدلوا على هذه الدعوى, ولسنا ننكر أن يفهم المأمور وجوب الأمر بعادة وأسباب يخرج عليها الخطاب, وعهد بين الآمر والمأمور, وأسباب تقترن بالخطاب يعلمها المشاهد لها عند مشاهدته, وليس مما يمكن تحديدها بالذكر والوصف, وإنما يعلمها المشاهد لها على قدر مشاهدته. فأما اعتمادهم على وجوب تسمية مخالف موجب الأمر, عاصيًا, وأنه اسم ذم, ولا يستحق الذم إلا على ترك واجب, فإنه - أيضًا - دعوى باطلة, لأنهم لا يسمون مخالف الأمر عاصيًا حتى يعلموا أنه خالف أمرًا واجبًا لازمًا بما يقارنه من الأدلة, فأما بمخالفة مجردة فلا, وكذلك لم يصفوا تارك الندب بأنه عاص لما لم يكن الأمر به على الوجوب, فبطل ما قالوه. وشيء آخر وهو أن وصف العاصي بأنه عاص لا يفيد في وضع اللغة الذم, وإنما يفيد مخالفة الأمر والمشورة فقط, وأن [؟ وأما أن] عصيان الأمر والرأي يستحق عليه العقاب أم لا؟ موقوف على دليله, ولذلك قالوا أشرت عليك فعصيتني, فيطلقون اسم العصيان في اللغة على مخالفة المشورة والرأي, وإن لم يكن المشير موجبًا ولا ملزمًا, فبطل ما قالوه.

شبهة لهم أخرى: قالوا: ويدل على ذلك أنه لو لم يكن القول "افعل" وموضوع الأمر والخبر عن الأمر مفيدًا للوجوب لم يكن للوجوب لفظ يخصه وينبئ عنه, وذلك باطل/ ص 146 لأنه مما يهجس في نفوس أهل اللغة, ولهم حاجة إلى ذكره والإخبار عنه, فلم يكن بد من وضع لفظ له. يقال لهم: هذا استدلال على وضعهم للإيجاب لفظًا, واللغة لا تثبت بدليل ويمكن أن يكونوا قد فرطوا في وضع لفظ لذلك, فلا حجة فيما قلتم. ويقال لهم: ولو لم يكن موضوع الأمر وفائدته الندب لم يكن له في اللغة لفظ ينبئ عنه, وذلك تفريط منهم, فوجب حمله على الندب. فإن قالوا: له لفظ هو القول ندبتك وأرشدتك ورغبتك ونحوه. قيل: وللوجوب لفظ هو قوله فرضت عليك وأوجبت وحتمت وألزمت وكتبت, ونحو ذلك, فسقط ما عولتم عليه. فصل: وقد قلنا من قبل أن هذه الأقاويل إنما هي بصيغة الإخبار عن الأمر والندب والإيجاب وفصلنا ذلك, واعلموا - وفقكم الله - أنه قد وضع لفظ الخبر عن إيقاع الشيء في الشرع مقام لفظ يفيد إيقاعه, وإن لم يوجد في اللغة لفظ يفيد إيقاعه وليس بصيغة الخبر عن إيقاعه, وكل ما يقع به البيع والشراء والإجارة والحل والعقد والطلاق والعتاق, فإنما هو في الشرع بلفظ الخبر عن وقوعه غير خارج عن ذلك, يبين هذا أن قول البائع والمشتري قد بعتك وقد اشتريت إنما هو لفظ الخبر عن البيع والشراء وقول يمكن أن يدخله الصدق

والكذب, وكذلك القول قد أجرتك وقد استأجرت منك, والقول قد زوجتك, وقد قبلت منك, والقول سالم حر وهو عتيق وقد أعتقتك إنما هو بلفظ الخبر عن العتق, وكذلك أنت طالق وقد طلقتك لفظ الخبر وإن كان مفيدًا للإيقاع, وليس يجوز أن يكون لفظ الخبر قائمًا مقام لفظ لو وضع للإيقاع إلا بأن يصدر ممن يملك الإيقاع ويصح منه أو من يقوم مقام مالك ذلك من الوكلاء والأولياء. وكذلك ما لو قال قائل عبد زيد حر وعتيق وامرأة عمرو طالق لم يكن ذلك مفيدًا للإيقاع لصدوره عن غير مالك, وكذلك يجب أن لا يكون الخبر عن الأمر والإيجاب والندب مفيدًا لحصول الإيجاب والندب إلا أن يصدر عن من له الإيجاب والندب ويستحق أن يعبد بالطاعة وهو الله تعالى دون كل أحد من الخلق, وكل من يقول إنه واجب الطاعة منهم, فإنما يعني به وجوب الطاعة لله عز وجل وطاعة النبي عليه السلام والإمام والسيد والوالد إنما هي طاعة لله تعالى, ولولا أمره لنا بالتزام ذلك من أمثالنا لم يجب علينا طاعة أحد من جهة العقل, وإنما حظ كل واحد ممن ذكرنا إخباره عن إيجاب الله عز وجل ذلك علينا له, وكذلك سبيل أمره للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام, فوجب بهذه الجملة أن يكون إخبار الله عز وجل عن إيقاع هذه الأمور هو المؤثر في إيجاب الفعل وحظره وما يثبت من أحكامه الشرعية. شبهة لهم أخرى: واستدل بعضهم على ذلك بأن الأمر يوجب حصر المأمور على/ ص 147 ذلك الشيء وقصره عليه دون تركه, وذلك يوجب منعه من الدخول فيما يخرجه عنه, والمنع له من ذلك يوجب دخوله فيه.

يقال لهم: إن عنيتم بحصر المأمور على الفعل أن الآمر آمر للمأمور وحده, وبالفعل وحده دون غيرهما, فكذلك هو لأنه لا يعقل من الأمر لزيد الأمر لعمرو, ولا من الأمر بالفعل الأمر بغيره وخلافه, وإن عنيتم بذلك أنه يوجب حتمه وإلزامه له بالفعل فذلك باطل, لأن أعظم الخلاف فيه, وكأنكم قد عدلتم عن قولكم, هو على الوجوب إلى القول إن المأمور مقصور على الأمر له به, ولا فائدة في النزاع في العبارات. علة لهم أخرى: واعتلوا لذلك - أيضًا - من جهة قضية العقل بأن قالوا: الذي يدل على ذلك أنه لا يخلو مجرد الأمر من أن يكون مفيدًا للإيجاب له أو الامتناع والكف عنه أو التخيير بين فعله وتركه, قالوا: وقد اتفق على أنه لا يجوز أن يكون معقوله الكف عن الفعل والترك له, ولا على التخيير بين فعله وتركه, وقد دخل في التخيير بينه وبين تركه الإباحة له والندب إليه, لأن المباح والمندوب إليه مخير في فعلهما وتركهما فلم يبق بعد ذلك إلا إفادته للإيجاب. يقال للمعتل: بهذا قد أحللتم بما نقوله, وقد كان يجب أن تبدؤوا بذكره, لأننا نقول لم يوضع لإفادة الإيجاب ولا لإفادة الندب ولا للتخيير بين فعله وتركه, بل لم يوضع لإفادة شيء من ذلك بمجرده، بل الأمر مشترك بين الواجب والندب، والمأمور به واجبا كان أو ندبا غير مخير في فعله وتركه فوجب أنه لم يوضع بمجرده لشيء مما قلتم وإنما هو مشترك بين الواجب والندب, فبطل ما قلتم به.

علة (لهم) أخرى: واعتلوا لذلك - أيضًا - بأن قالوا: لما كان مفهوم النهي عن الشيء تحريم الإقدام عليه, وجب أن يكون الأمر بالشيء وجوب فعله والإقدام عليه, وهذا خطأ لأن الأمر والنهي عندنا في ذلك سيان ونستدل على ذلك من بعد, وإذا بطل هذا فسد ما بنوا عليه. فصل: ذكر الكلام على من يزعم منهم أنه إنما يجب حمل أوامر الله تعالى وأوامر رسوله عليه السلام على الوجوب من جهة السمع دون قضية اللغة وحجة العقل. وهذه الفرقة قد وافقت على أن ذلك ليس من موجب اللغة وقضية العقل, وإنما يجب سمعًا, ولا خلاف بين الأمة في أن السمع متى قرر حمل الأمر على أحد الوجهين وجب القول به, غير أنه لم يرد بذلك, ونحن نبين ما يعتلون به ونعترضه. وقد استدلوا على ذلك من جهة السمع بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} , وبقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ولا تعلق لهم في ذلك, لأن قوله: أطيعوا الله, أمر لهم بفعل الطاعة وهو محتمل للوجوب والندب, فمن أين يجب حمله على أحد الوجهين, وفي ذلك وقع النزاع, والمتعلق بهذا متعد, لأنه يستدل على وجوب حمل أوامر الشرع على

الوجوب ببعضها, ولو سلم ذلك في البعض لسلم في الكل. وأما قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} فليس في ظاهره أكثر من أنهم إن تولوا فعليه ما حمل, وهل الذي تولوا عن أمثاله واجب أو ندب ليس في الظاهر, وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} إنما هو خبر عن وجوب ما يجب علينا وعليه, وأننا محملون له, وهل نحن محملون له بنفس الأمر ومجرده, أو بشيء يقترن به موقوف على الدليل, وأن جعل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وعيدًا وإرهابًا وتهديدًا صار لمعنى قوله إنكم إن توليتم عن تصديقه والإيمان بنبوته فعليه ما حمل من بلاغكم وعليكم ما حملتم من تصديقه وكأن الآية وردت في الأمر بالإيمان بالله تعالى وبرسوله عليه السلام, ولا أحد يقول إن ذلك ليس على الوجوب, ولكنه لم يجب لموضع الأمر به, لكن لما قارنه من التوقيف على وجوبه, ويبين ذلك أن من ترك بعض أوامر الشرع من الواجب والندب مع الإيمان بالله تعالى والتصديق بها لا يوصف بأنه متول ومعرض عن الرسول عليه السلام بل لا يوصف بذلك إلا المكذب له والجاحد لنبوته, وإذا كان ذلك كذلك كان ذكر التولي على وجه التهديد والوعيد قرينة في جعل الطاعة في الإقرار بنبوته وما جاء به على الوجوب. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} فهو - أيضًا - أحد القرائن في أنه أراد الطاعة في الإيمان به, وبما جاء به الذي يكونون بفعله مهتدين وعن

الضلال خارجين. ويمكن - أيضًا - أن يكون قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ليس فيه دلالة على وجوب الطاعة التي يهتدى بها من حيث هي طاعة, لأن مطيعه في النوافل من العبادات مهتد بتصديقها, ومهتد إلى الثواب وطريق الجنة, وإن لم يكن ما فعله واجبًا, فبطل تعلقهم بالظاهر. واستدلوا - أيضًا - بقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقالوا قد اتفق على وجوب الرد إلى ذلك عند التنازع. يقال لهم: لا تعلق لكم - أيضًا - في هذا الظاهر, لأن قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} أمر بالرد, وهو محتمل للإيجاب والندب, وكيف يدل على وجوب حمل جميع الأوامر على الوجوب, وهو واحد منها, والخلاف فيه كهو في غيره, وإنما ثبت وجوب الرد إلى الله والرسول عند التنازع بالإجماع والتوقيف وأشياء تزيد على الأمر به فذلك ما قالوه وبطل التعلق بالظاهر. وأما قوله تعالى عقب ذلك {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فليس في ظاهره أننا لا نرد إليه إلا ما وجب في دينه, بل نرد إليه وإلى الرسول والعلماء ما اختلف في أنه ندب أم لا, كما نرد الاختلاف في الواجب. واستدلوا - أيضًا - على ذلك بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قالوا: فوجب بهذا الأمر والوعيد حمل أمره على الوجوب.

فيقال لهم: هذا تسليم منكم أن مجرد أمره لا يجب حمله على الوجوب من حيث هو أمر, وإنما يجب ذلك باقتران الوعيد به. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون المراد بهذا الأمر بالدخول في دينه والتصديق له لأنه قال تعالى: {أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وذلك تهديد على مخالفته في ترك دينه, ونحن لا ننكر أن يكون من أوامره ما يجب الوعيد على ترك امتثاله, فمن أين لنا أن جميع أوامره كذلك. ومما يدل على أنه إنما عني بذلك الواجب من أوامره دون جميعها إجماع الأمة على أن من خالف الندب من أوامره لا تصيبه فتنة, ولا عذاب أليم, ولا شيء من المأثم وإن كان مخالفة لأمره, فدل ذلك على ما قلناه. ثم يقال لهم: إن الوعيد إنما يجب على مخالفته وينبئ عن لزوم موافقته, ونفس الموافقة لأمره لا تنبئ عن أن أمره واجب أو ندب, فكأنه قال وافقوه على أوامره, وقد يوافقه على أوامره الواجب منها تارة وعلى الندب أخرى وليس تصح الموافقة إلا بأن يفعل الفعل على الوجه الذي أمرنا به, فإذا علمنا أن من أوامره الواجب, ومنها الندب لم يجز أن نقدم عند صدور مجرد أمره لنا على فعل موجبه على وجه الندب أو الإيجاب, لأننا لا نعلم على أي وجه أمرنا به, فإن كان أمرنا به على سبيل الإيجاب ففعلناه ندبًا لم نكن موافقين له ولا متبعين له, وكذلك إذا أمرنا به ندبًا ففعلناه على سبيل الوجوب كنا له بذلك مخالفين غير متبعين لأمره فيجب لا محالة التوقف في مجرد أمره على بيان الوجه الذي صدر عليه لتصح لنا موافقته, وبطل التعلق بالظاهر.

ويقال لهم: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} كناية عن الواحد لا عن الاثنين, وأنتم توجبون حمل أوامر الله سبحانه وأوامر رسوله عليه السلام على الإيجاب وهو خلاف الظاهر. فإن قالوا: لم تفرق الأمة بين أمريهما. يقال لهم: فليس في هذا تعلق بالظاهر, وإنما هو تعلق بالإجماع على أنه ليس الأمر على ما ادعوه, لأن كثيرًا من الناس يحمل أوامر الله سبحانه على الندب والقضاء بحسن المأمور به وإرادته فقط, ويزعم أن أوامر الرسول عله السلام على الوجوب لموضع الوعيد الذي تلوتموه على مخالفته, فزال ما ادعيتم. ويقال لهم أيضًا: قوله (فاتبعوه) أمر, وهو محتمل للواجب والندب, فكيف يستدل به على وجوب سائر الأوامر, وهو أحدها. ويقال لهم أيضًا: قد زعم قوم أن قوله سبحانه {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} تهديد لهم بركوب الضلال في مخالفته, وذلك لا يكون إلا بترك واجب من إتباعه, وليس يجب ذلك - أيضًا, في ترك كل واجب, لأنه لا يوصف بالضلال والخروج عن الهداية إلا كافر, ولا يوصف بذلك تارك صلاة ولا صيام من أهل الملة فبان بذلك أن هذا الأمر أمر بالإتباع له على جملة الدين وتصديقه فيه. وإن حمل قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} على وجه الترغيب في طاعته, والاهتداء بها إلى ثوابه وجنته لم ينبئ ذلك عن وجوب ما يهتدي به إلى الثواب, لأنه قد يكون واجبًا تارة وندبًا أخرى فسقط ما قالوه, على أن الإتباع له إنما هو امتثال

موجب أمره على وجه ما تناوله. فإن صدر على وجه الوجوب امتثل واجبًا, وإن عمل ذلك ندبًا لم يكن ذلك إتباعا له, وإن صدر منه ندبًا فعمل واجبًا كان مخالفة له, ولم يكن إتباعا له, فنفس المتابعة له إنما هي إيقاع موجب أمره على وجه ما ورد به, وذلك لا يتبين بنفس قوله: فاتبعوه, فبان بذلك أنه لا تعلق لهم في الظاهر من كل وجه. وعلى هذا النحو والترتيب الجواب عن تعلقهم بقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وأمثاله, لأنه قد يأتينا بالواجب والندب, ويجب الأخذ بكل شيء من ذلك على ما أتى به, وقد يأتي بالإباحة والحظر, فقوله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ} لا يكشف عن نوع ما يأتي به من أحكام الخطاب, وقد بينا أن قوله "فخذوه" وقوله "فانتهوا" أمر ونهي, وهو محتمل للواجب والندب, فبطل التعلق بالظاهر. ويقال لهم أيضًا: إن الاستدلال بهذه الظواهر استدلال منكم بعموماتها, ونحن لا نقول بالعموم لما نذكره من بعد, فبطل التعلق بها. وكذلك الجواب عن قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} , وأنه إنما ذمهم لتركهم ركوعًا أمروا بقوله: {ارْكَعُوا} وقوله تعالى {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فوجب حمل الأمر على الوجوب, وهذا - أيضًا - بعيد من التعلق, لأنه تعلق في حمل الأمر على الوجوب بصيغة القول "افعل" هي محتملة للأمر وغيره, ولو كانت أمرًا لاحتمل الواجب والندب, ولم يجب ذم من لم يركع

لقوله (فاركعوا) وإنما لزم ذلك بما دلهم به من كون هذا الأمر على الوجوب, فبطل ما قالوه. ويقال لهم: إن قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} مع قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} دليل على أنهم تركوا الركوع على وجه التكذيب للرسول عليه السلام في أنه شرع من قبل الله عز وجل, وذلك كفر بالله وجل وجحد للنبوة, فمن أين أن هذا سبيل جميع الأوامر. ويجب تأمل ما قلناه في تأويل هذه الآيات والاعتماد عليه في جواب تعلقهم بقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وقوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} الآية وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى قوله {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ويجب أن يقال في هذه الآية أن ذلك أمر بالتحاكم إليه, ووعيد على حصول الارتياب والشك في حكمه, وقد ورد التوقيف بوجوب تسليم المتحاكمين إليه للقضاء بما يقضى به عليهم, وتحريم الريب والحرج في صدق الرسول عليه السلام, فبطل التعلق بالآية.

فصل: ذكر ما يتعلقون به في ذلك من جهة السنن والاعتراض على تأويلهم

فصل: ذكر ما يتعلقون به في ذلك من جهة السنن والاعتراض على تأويلهم وقد استدلوا على ذلك من جهة السنة بآثار من رواية الآحاد لا يمكن إثبات مثل هذا الأصل وحمل أوامر الشرع عليه بها, إذ ليست مما يعلم صحتها بضرورة أو ببعض الأدلة التي يستدل بها على صحة الأخبار وإذا دفعوا عن التعلق بها وأنها غير حجة في ذلك كفينا أمر التأويل لها. فمما تعلقوا به ما روي عنه عليه السلام من قوله لبريرة لما أعتقت تحت مغيث وكان عبدًا: "لو راجعتيه" فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع" فقالت: لا حاجة لي فيه فعلقت أنه لو أمر بذلك كان واجبًا وعلقت

الأمة من ذلك ما علقته عنه. يقال لهم: ليس الأمر في هذا على ما توهمتم, لأنه ليس في ظاهر الخبر أكثر من استفهامها له عليه السلام عن أمره بذلك أو شفاعته فيه, وليس فيه أنه لو أمرها بذلك لعلقت وجوب الأمر, بل لعلها كانت ممن يعتقد أن موضوع أمره على الندب وإنما اعتقدت أن امتثال أمره طاعة لله تعالى وقربة مثاب فاعله, فسألته عن ذلك لتعلم أنه مما أمر به ومن جملة القرب فتفعله رغبة في ثوابه, فأما كونه واجبًا عندها من حيث كان أمرًا, فلا سبيل إلى ذلك, وإلى العلم بأنها كذلك اعتقدت. فإن قالوا: قد قرر الشرع باتفاق أن إجابة شفاعة الرسول عليه السلام ندب, فيجب لذلك أن لا يكون الفصل بين أمره وشفاعته إلا كون أمره على الوجوب. يقال لهم: إنما أجمعت الأمة على أن إجابة شفاعته فيما يتعلق بباب الدين والتقرب بفعله ندب, فأما ما لا يتعلق بذلك ويعود إلى غرض من أغراضه عليه السلام من اجتلاب نفع أو دفع ضرر وبلوغ إيثار وشهوة فإنه ليس بمنزلة الندب المشروع المفعول لوجه الله عز وجل لا لغرض أحد من الخلق وأمر يعود إلى نفعه ودفع ضرر عنه, وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فكل مؤمن يرغب في قبولها مع أنها ليس بمثابة الندب المأمور به لوجه الله عز وجل خالصًا فقط لا لشيء يعود إلى الخلق, وكذلك سبيل ما أمرنا به عليه السلام مما يخصه

ويرجع إلى أغراضه الدنياوية ليس على الوجوب ولا على الندب الحال محل ما يفعل مشروعًا لله تعالى, لا لأمر يرجع إلى أغراض الخلق, وإذا كان ذلك كذلك وجوزت بريرة أن تكون الشفاعة لمغيث لغرض له صلى الله عليه وسلم دنياوي, وأنه ليس من أوامر الشرع قالت له: بأمرك؟ فقال لها: إنما أنا شافع, أي ليس ذلك بشرع, ولعل شافعًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم مسألتها في ذلك من غير عرض متصل به سوى إجابته لمن سأله, فقالت له: فلا حاجة لي فيه, ولو كانت شفاعته له على طريق الأمر الشرعي لها بذلك وعلى وجه الإيجاب أو الندب لم يجز أن تقول: فلا حاجة لي فيه لأن المسلم لا يقول: لا حاجة لي في فعل الواجب أو الندب وطلب القربة والثواب وفعل الأحسن, ولا حاجة لي في العمل بشرعك وإن كان ندبًا, هذا ليس من كلام المؤمن فعلم أنها إنما استفهمته لكي تعلم أن ذلك مشروع أم لا؟ فإن كان مشروعًا إيجابًا أو ندبًا صح أن يفعله على أحد الوجهين بقربانه, وإن لم يكن كذلك لم يفعله فزال

ما قالوه, وظاهر قولها: فلا حاجة لي فيه يدل على أنها لم تكن تعتقد أن قبول شفاعته مشروع ومسنون ومثاب فاعله, فلذلك استفصلت بين الأمرين وبين الشفاعة. واستدلوا على ذلك - أيضًا - بقوله عليه السلام: "لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" وفي خبر آخر "عند كل صلاة" قالوا: يخبر أنه لو أمرهم لصار فرضًا بأمره لكونه شاقًا لأنه لو كان أمره به وبغيره على الندب لم يكن شاقًا من حيث كان لهم ترك الندب. يقال لهم: قد دللنا فيما سلف على أن الندب مأمور به, وأنه لا يعقل من ظاهر الأمر الوجوب دون الندب فعلم بذلك/ ص 153 أنه لا يحق أن يعقل من ظاهر أمر الرسول عليه السلام بالسواك أو غيره الوجوب دون الندب. ثم يقال لهم: فما أنكرتم أن يكون قد أوحى الله إليه عليه السلام أننا لو أمرناهم بالسواك لا نأمرهم به إلا فرضًا؛ فلذلك قال "لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" فأما أن يصير ذلك شاقًا وفرضًا له بمجرد أمره فلا سبيل إليه, وليس يمتنع أن يوحى إليه أننا لو أمرناك أن تأمرهم بالسواك عند كل صلاة ونشرعه لم نشرعه إلا واجبًا فهذا بين في فساد تأويلهم.

ويقال لهم: ما أنكرتم أن يكون تقدم أمره لهم بالسواك بإجماع الأمة وجعله لهم مسنونًا دلالة وقرينة على أنه لو أمرهم به أمرًا ثانيًا لم يأمرهم به إلا على سبيل الوجوب, لأنه قد تقدم أمره به على وجه الندب الذي ليس بشاق, فأعلمهم بتقدم ذلك الأمر أنه لو جدد لهم أمرًا لم يكن إلا شاقًا واجبًا لأنه لا جهة للأمر إلا كونه ندبًا أو واجبًا, فإذا علموا أنه قد أمرهم به ندبًا, عقلوا من قوله أنه لو أمرهم به ثانيًا لكان شاقًا, وأنه إنما كان يأمرهم به أمرًا واجبًا زائدًا على حكم الندب. واستدلوا - أيضًا - على ذلك بقوله عليه السلام لأبي سعيد (بن المعلى) لما دعاه وهو في الصلاة فلم يجبه أما سمعت الله تعالى يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}، وأن عيبه له وتوبيخه إياه على ترك إجابته دليل على أن مجرد أمره على الوجوب.

يقال لهم: ليس الأمر في ذلك على ما قلتم, لأن الشرع قد كان قرر ووقف الرسول عليه السلام توقيفًا علموا به مراده ضرورة في وجوب إجابته إذا دعاهم, وهو أن يقول يا زيد ويا فلان, فإنما علموا ذلك بتوقيفه لا بمجرد قوله: استجيبوا, لأن ذلك أمر منه بالإجابة, وقد تحتمل الإيجاب والندب ولكن بقرائن ولواحق واتباعات وأمارات علموا بها توقيفه ضرورة على وجوب إجابته عند الدعاء, فصار الأمر بهذا الضرب من الأفعال مخصوصًا بكونه واجبًا, فلذلك قال لأبي سعيد: أما سمعت الله عز وجل يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} أي ألست قد وقفتك والأمة على تأويل الأمر بإجابتي عند الدعاء, وأنه على الوجوب فلم يحله إلا على توقيفه على ذلك وليس الأمر بالأفعال والعبارات من دعائه إلى قصده والمصير إليه في شيء لأنه جنس يخالف غيره من الأفعال والسبب في إيجاب لزوم إجابته أنها تعظيم له عند المجيب وغيره ممن يعلم هذه الحال, وفي ترك الإجابة له غض منه عليه السلام وتعاون به, والله عز وجل قد حماه من ذلك وأمر بتعظيمه وتوقيره أمرًا واجبًا. ويدل على ذلك - أيضًا - أنه لامه وأنبه على أن لم يقطع الصلاة ويجيبه والمضي في الصلاة واجب, فأمره أن يترك المضي في واجب قد تلبس به, ولا يترك الواجب ويجب تركه إلا بما هو أوجب وألزم منه كإخراج الغريق وطفي الحريق وأمثال ذلك مما يجب قطع الصلاة له, وكل هذا يدل على أنه قد وقفهم على وجوب إجابته عند الدعاء وفي ضمن قوله يا زيد أقبل, أو أريد زيدًا,

فكأنه قال لهم أمرتكم بالمصير إلي, أو قلت أريد زيدًا فقد أوجبت مصيركم إلي, وليس في هذا ما يوجب إجراء جميع أوامره على الوجوب إلا ما قام دليله/ ص 154. واستدلوا - أيضًا - على ذلك بقوله عليه السلام حين سأله الأقرع بن حابس عن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فقال: ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد؟ فقال: بل للأبد, ولو قلت نعم لوجبت وذلك يوجب كون جميع أوامره على الوجوب. يقال لهم: لو سلم لكم ما تدعون لم يكن ذلك موجبًا لكون الأمر واجبًا بظاهره ووضعه في موجب اللسان, وإنما كان يصير واجبًا بالشرع, وقد بينا أنه لا خلاف في وجوب حمله على ما يقرره الشرع ويجعله الأصل فيه إلا ما استثني منه.

ثم يقال لهم: أنتم لا تفرقون بين قوله نعم لو قال ذلك وبين قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} لأنهما أمران بالحج, فإن وجب ولزم بقوله: نعم كان أولى أن يجب بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فما معنى قولكم: إن ذلك, كان يجب بقوله: نعم, وليس أمره على الوجوب دون أمر الله تعالى. ثم يقال لهم: إن الأقرع سأله عن تكرار أمر قد علم أنه واجب ووقف هو وغيره من الأمة على ذلك, لأنه قد علم أن قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} أمر بالحج بتوقيف له على ذلك وقرينة متصلة بالتلاوة أو بقوله عند بعضهم: ولله على الناس حج البيت, لأن ما عليهم زعم لا يكون إلا فرضًا أيضًا, لأن الندب والمباح ليس عليهم فعله, فلما علم أنه أمر واجب قال له: ألعامنا هذا أم للأبد؟ يعني أن هذا الواجب علينا يجب مرة أو يجب على التكرار, فقال: للأبد, وقال: لو قلت نعم لوجبت, معناه أنني لو قلت نعم لم أقل ذلك إلا وهو مفروض متكرر, فأما أن يجب ويلزم بقوله نعم, وأنتم مأمورون بالحج في كل عام فإنه بعيد, لأنه لو قال صريحًا: أنتم مأمورون بالحج في كل عام لم يعقل من ذلك الإيجاب دون الندب, بل إنما نفهم منه إخباره عن الأمر لهم بالحج وعلى أي وجه هم مأمورون بالحج موقوف على الدليل.

باب ذكر ما يتعلقون به في ذلك من جهة الإجماع

باب ذكر ما يتعلقون به في ذلك من جهة الإجماع وقد استدلوا على صحة ذلك من جهة الإجماع بأن الأمة في جميع الأعصار متفقة في الرجوع إلى إيجاب العبادات وتحريم المحظورات إلى ظواهر الأوامر والنواهي, وإلى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وفي تحريم الزنا إلى قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا} {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ} {وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} {لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} قالوا: فوجب بذلك اتفاقهم على أن ظواهر هذه الأوامر والنواهي على الوجوب. فيقال لهم: قد كنا معكم فيما هو أقرب من هذه الدعوى, لأننا كنا نتكلم على أن ما علم كونه أمرًا من الأقاويل لم يعلم كونه أمرًا واجبًا أو ندبًا, فصرتم الآن إلى أن ظاهر القول افعلوا ولا تفعلوا على الوجوب, ودعوى اتفاق الأمة على ذلك, وهذا بعد شديد, لأننا قد أوضحنا من قبل أن هذه/ ص 155 الظواهر والإطلاقات لا تفيد بمجردها كونها أمرًا دون غيره من أقسام محتملاتها بما قدمناه ذكره

فكيف تفيد الوجوب وهي لا تفيد كونها أمرًا وقد علم أن الأمة لا تجتمع على خطأ, وأنها لو أجمعت على حمل ظاهر القول "إفعل" "ولا تفعل" على الأمر دون غيره بمجرده, أو حملت الأمر الذي قد علم بقرينته أنه أمر على الوجوب دون الندب أو الندب دون الوجوب لكان ذلك إجماعًا منها على خطأ وذهابًا عن الحق, وذلك منتف عنها, فبطل ما قلتم. ويقال لهم أيضًا من الذي سلم لكم أن الأمة رجعت في إيجاب ما ذكرتم وتحريم ما وصفتم إلى هذه الظواهر؟ وما أنكرتم أن يكون محصِّلوها وأهل التحقيق منها إنما رجعوا في ذلك إلى قرائن وصلات واتباعات علمت بها كون هذه الأقاويل أمرًا, وعلمت بمثلها بعد علمها بأنها أوامر أنها على الوجوب, ولا بد في العلم بكون القول "افعل" أمرًا وفي كونه واجبًا من قرينتين يعلم بإحداهما كونه أمرًا وبالأخرى كونه واجبًا على ما بيناه, فبطل ما قلتم, ومع ذلك فلسنا ننكر أن يكون من الأمة من يتعلق في التحريم والإيجاب وكون القول "افعل" أمرًا بهذه الظواهر لظنه كونها مفيدة للأمر والوجوب, وذلك خطأ من معتقده, وهو منتف عن جميع الأمة. ويقال لهم: بأي طريق علمتم بأن الأمة إنما أجمعت على حمل هذه الظواهر على الأمر وحمل بعضها على الوجوب لمجردها دون قرائن وأسباب اتصلت بها أبضطرار علمتم ذلك أم بدليل؟

فإن قالوا بضرورة أمسك عنهم وإن قالوا بدليل سئلوا عنه فإن قالوا: الدليل على ذلك أنه ما ظهر بينهم شيء تعلقوا به في الإيجاب والتحريم وكون القول "افعل ولا تفعل" أمرًا ونهيًا غير هذه الظواهر. يقال لهم: هذا نفس دعواكم التي تكررونها وتعتمدون عليها وهي غير مقبولة, وفيها وقعت المخالفة, فلم قلتم: إنه ما ظهر بينهم سوى ذلك؟ فخصمكم يقول قد ظهر بينهم ما علموا به كونها أمرًا واجبًا. فإن قالوا: لو ظهر بينهم شيء تعلقوا به في ذلك سوى هذه الظواهر لنقل ولعلمناه. يقال لهم: ولم قلتم ذلك؟ وما الذي أوجب عليهم نقل تلك الأمور المقارنة للظواهر؟ أو لستم تزعمون أنهم تعلقوا بمجرد القول "افعلوا ولا تفعلوا" فما أنكرتم - أيضًا - أن يكون إنما تعلقوا بها لأجل صلاتها وقرائنها وإن لم يقولوا ذلك أو لم ينقل عنهم. ويقال لهم: ما أنكرتم من أنه يقال لا يجب نقل الأسباب والنصوص التي علموا بها كون هذه الألفاظ أمرًا وكون بعضها واجبًا, وأن يكون / ص 156 إفهامهم من بعدهم على أنهم مجمعون على أنها أوامر واجبة آكد وأحوط من ذكر الأسباب والألفاظ الدالة على ذلك, لأن كل سبب يذكرونه بعينه يمكن تأويله, واعتراض الشبه والتأويل فيه, واحتماله الحقيقة والمجاز, والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار, وغير ذلك من معاني الكلام وصلاته وإجماعهم لا يصح ذلك فيه

فرأوا أن توقيفهم على إجماعهم على ذلك آكد وأحوط من ذكر الأسباب الدالة على ما أجمعوا عليه, فلا تجدون لهذا مدفعًا. ويقال لهم ولكل من قال: إن الأمة لا تجمع في الصدر الأول إلا عن نص وتوقيف أليس لم يذكروا في أكثر ما أجمعوا عليه الأدلة الجامعة لهم على القول والمذهب من النصوص أو غيرها اقتصارًا على ذكر إطباقهم على ذلك واجتزائهم به للعلم بأنه أوثق وأحوط من ذكر كل خبر ونص معرض للتأويل ووجوه الاحتمالات. فإذا قالوا: أجل, ولا بد من ذلك, قيل لهم: فما أنكرتم - أيضًا - من صحة تركهم نقل الأخبار والأسباب والقرائن الدالة على أن هذه الألفاظ والظواهر أوامر ونواهي وأن بعضها على الوجوب اقتصارًا على إجماعهم على ذلك وعلمهم بأنه أحوط من ذكر الأسباب المعرضة لوجوه التأويلات ولا جواب عن ذلك. ويقال لهم أيضًا: هل أنتم في هذه الدعوى إلا بمثابة من قال: إن ظاهر القول افعلوا مفيد للإباحة والندب بدلالة اتفاق الأمة في الرجوع إلى إباحة الاصطياد بعد الإحلال, والانتشار بعد الصلاة, وفي الندب إلى مكاتبة العبيد, وفعل الخير, وتمتيع الزوجات, والإشهاد عند التبايع, وقبض الرهن إلى مجرد قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وبقوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى

الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقوله: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} في أمثال هذا مما ورد من القول افعلوا للإباحة والندب, وأن الأمة ما تعلقت في حمل هذه الظواهر على الإباحة والندب إلا على مطلقها ومجردها, فهل في ذلك من فصل؟ فإن مروا على ذلك خلطوا وصاروا إلى ضد مذهبهم, وإن قالوا: إنما رجعت الأمة في ذلك إلى دليل متصل بهذه الظواهر أوجب صرفها إلى الإباحة والندب. قيل لهم: وما ذلك الدليل؟ وكيف لم يظهر؟ ولما ظهر بينهم لم لم ينقل ويذكر كما طالبتم بذلك في قرائن الوجوب ولا شيء يقدرون على نقله في ذلك وأمر ظهر بينهم فيقال لهم عند ذلك, وكذلك قصتهم في حمل قوله {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} , وكل ما ذكرتموه من الظواهر, ولا مخرج لهم من هذا على أن أكثر الظواهر التي وردت للوجوب قد اتصل بها مقدمًا عليها ومتعقبًا لها من الوعيد والزجز, والتهديد والتحذير وذكر الفرض والكتابة والإلزام والتخويف من العذاب والنكال وما دل على أن القول صدر على وجه الأمر وعلى سبيل الوجوب فاقترن بقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} وذلك بمثابة قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية.

وذلك موضوع للفرض والإيجاب, وقوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وذلك لا يستعمل عند أكثر الناس إلا في المحافظة على ما لا يسع تركه هذا مع ما ورد من توقيف الرسول عليه السلام على وجوبها, وقوله صلى الله عليه وسلم "إن أول ما يسأل عنه العبد الصلاة" وصلاته عليه السلام في أول الوقت وآخره وقوله: "ما بين هذين وقت لأمتي" وقوله: صلى الله عليه وسلم "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" والله سبحانه يقول:

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فلم يفسح في تأخيرها عن وقتها فضلًا عن تركها, وما ورد من الإجماع على وجوب صلاة المريض المدنف كيف أمكنه ذلك, إيماء فما دونه, وكل هذا مقترن بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}. واقترن بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} , قال المفسرون: إنها نزلت في مانع الزكاة الواجبة, واقترن - أيضًا - به قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} يعني - والله أعلم - تطهرهم من الإثم, بمنعها, وذلك لا يستعمل إلا فيما لزم فرضه - واقترن بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} , وذلك لا يستعمل إلا في المفروض, لأن النفل ليس بمكتوب ولا محتوم, وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولزوم فرض قضائه على الحائض, والنفل لا قضاء له.

واقترن بقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ} وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الآية وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} وذكره لأهل الأعذار إلى قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وإلزامه ذلك على تصرف الأحوال مع التوقيف للظاهر المعلوم على وجوب الجهاد. واقترن بالأمر بالحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ولفظة "على" إنما تستعمل في الواجب, وقوله عليه السلام للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته" قالت: نعم, قال: "فدين الله أولى" والقضاء لا

يكون إلا عن واجب مفروض. واقترن بقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} / ص 158 قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} , وذلك بمثابة قوله: فرض ربك, وقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. واقترن بالنهي عن المحظورات من الوعيد والأمر بالنكال والعقاب والقصاص وذكر النار وسوء الانقلاب والمقت ما لا يحصى كثرة مما يطول افتضاضه ولا تخفي مواضعه في مواضع الوعيد على القتل والزنا والسرقة وقتل الأولاد وأكل أموال الأيتام, والحكم بغير ما أنزل الله عز وجل, إلى غير ذلك من الذنوب المقترن بذكرها الوعيد على مواقعتها, فبهذه القرائن والأسباب علمت الأمة أو الدهماء منها وجوب الأوامر الواجبات ولزوم موجب النهي عن المحظورات لا بمجرد القول "افعلوا ولا تفعلوا" ولا بمطلق الأمر والنهي المترددين بين الواجب والندب. ويقال لمن قال منهم إن ظاهر الأمر يقتضي الندب - إن تعلق بمثل ذلك - مثل الذي قيل لمن ادعى الوجوب من ظاهره, ونعارض الفريقين بقول من قال: إن ظاهره يفيد الإباحة والإذن.

ويقال لمن زعم أن ظاهر الأمر الإيجاب والندب ممن زعم أنه لا صيغة للأمر, ما أنكرت أن له صيغة وأن الصحابة لم تتعلق في جعل القول أمرًا إلا بصيغة, وكل هذا تخليط وخبط ممن صار إليه, وهذا كاف في إسقاط دعواهم الإجماع على ما ادعوه وفساد التعلق به.

باب ذكر الواجب من الأوامر وذكر من يجب طاعته دون من لا يجب له ذلك

باب ذكر الواجب من الأوامر وذكر من يجب طاعته دون من لا يجب له ذلك اعلموا - وفقكم الله - أننا قد بينا فيما سلف أن معنى الوجوب معقول في اللغة, وأنه الأمر الذي لا محيص عنه, ولا انفكاك منه, من قولهم وجب الحائط إذا سقط ووجب البغل إذا توفي, وقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} وأوضحنا ذلك بما يغني عن إعادته, وهذا المعنى وإن كان معقولًا في اللغة, فقد ثبت أنه لا أحد من الخلق من أهل اللغة وغيرهم تجب طاعته ويلزم امتثال أمره من حيث هو أمر به, وإن اعتقد الآمر منهم أن طاعته واجبة, لأن ذلك لا يجب لاعتقاده وجوبه, ولا لكونه أمرًا به ولا لصفة ووجه يحصل ما أمر به عليه في العقل يقتضي وجوبه أو حسنه فضلًا عن وجوبه, ولأنه قد ثبت أنه ليس لأحد من الخلق على أحد سبيل في إيجاب طاعته واستعباده له وتأمره عليه إلا من حيث كان ذلك للمأمور منهم على الآمر لتساويهم في الخلق

والجنس, وكون الكل ملكًا للغير, وهم في ذلك شرع سواء وإنما تجب طاعة الآمر منا إذا أوجب الله عز وجل طاعته من نبي وإمام ووالدين وأمر السيد لعبده, وأمر من أمرنا بأداء حقه ورد ظلماته, وطاعة هؤلاء كلهم إنما هي طاعة لله تعالى وواجبة من حيث أوجبنا لا لأمرهم بها, فأما أن يجب علينا طاعة أحد من الخلق لكونه آمرًا بها من غير أن يكون/ ص 159 أمره مستندًا إلى أمر الله تعالى بطاعته, فذلك باطل, لأننا قد بينا في صدر هذا الكتاب أن كون الشيء حسنًا وقبيحًا وواجبًا وندبًا وعصيانًا ومباحًا ومحظورًا لا يعلم عقلًا ولا يحصل كذلك لنفسه وجنسه, ووجهٍ هو في العقل عليه يوجب كونه كذلك, وإنما تكون له هذه الأحكام بحكم الله تعالى بكونه عليها, وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنه لا يجب فعل من الأفعال من حيث أوجبه أحد من الخلق أو لوجه هو في العقل عليه, وكذلك القول في جميع أحكامه الشرعية من ندب وإباحة وحظر. فإن قال قائل: ولم قلتم إنه لا يصير كذلك إلا بحكم الله تعالى وأمره ونهيه, وما أنكرتم أن يصير كذلك لوجه هو في العقل عليه اقتضى ذلك من حاله, أو بحكم بعض الخلق بحسنه وقبحه وأمره به ونهيه عنه, أو لاعتقاد من اعتقد من الخلق كونه حسنًا أو قبيحًا. يقال لهم: قد بينا فيما سلف من مقدمات هذا الكتاب أنه لا يجوز أن يكون الشيء على بعض هذه الأحكام لنفسه وجنسه أو وجه هو في العقل عليه, وأنه لا طريق للعلم بذلك من جهة ضرورة العقل أو دليله بما يغني عن رده. فأما قولهم: ما أنكرتم أن يكون الفعل إنما يحسن ويقبح ويجب ويحرم لاعتقادنا أو اعتقاد من اعتقد كونه كذلك من الخلق وأن يكون تعالى قد جعل

اعتقاد من اعتقد ذلك حكمًا منه بحسنه وقبحه, فإنه باطل من وجوه: أحدها: إن اعتقادات الناس في تقبيح الأشياء وتحسينها تختلف فمنهم من يعتقد حسن الشيء, ومنهم من يعتقد قبحه, ومنهم من يعتقد أنه ليس بحسن ولا قبيح, وأن البراهمة والهند والثنوية: يستحسنون أمورًا يستقبحها المسلمون ويستحسن المسلمون ما تستقبحه هذه الأمم, وليس لأحد أن يقول إن الله سبحانه قد جعل اعتقاد بعض هذه الفرق لحسن الشيء أو قبحه حكمًا منه بذلك أولى ممن قال إن اعتقاد غيرهم من الخلق لقبح ما استحسنه الفريق الآخر حكم منه بقبحه, وهذا يوجب أن يكون تعالى قد حكم بأنه حسن قبيح وواجب ساقط, وذلك باطل باتفاق. والوجه الآخر: إنه إذا كان قد نهى تعالى من طريق القول وأخبر عن حكمه بقبح الشيء ونهيه عنه لم يجز أن يكون قد حكم بحسنه لاعتقاد من اعتقد من الخلق كونه حسنًا, لأن هذا يوجب أن يكون قد حكم بحسنه وقبحه معاً,

وبوجوبه وسقوطه. وإذا كنا نعلم أن الله تعالى قد حكم بحسن ما اعتقد بعض الخلق قبحه والنفور عنه, وبقبح ما قد اعتقد بعضهم حسنه وأمر به, وبقبح ما اعتقد بعضهم فيه أنه ليس بحسن ولا قبيح بطل أن تكون طريق معرفة حكمه بحسن الحسن وقبح القبيح اعتقاد الخلق أو بعضهم بحسنه أو قبحه, أو لميلهم إليه وشهوتهم له أو نفورهم عنه, أو التذاذهم به وانتفاعهم بتناوله, أو بتألمهم به واستضرارهم بنيله, ولأن هذا يوجب أنه تعالى قد حكم بأنه حسن وقبيح وأنه ليس بحسن ولا قبيح لاعتقاد من اعتقد كونه كذلك قبل السمع وهو الصحيح, وإذا كان ذلك باطلًا بطل ما قالوه من كل وجه. وكذلك فلا يجوز أن يقبح الشيء أو يحسن أو يجب أن يسقط لأمر بعض العباد به أو نهيه عنه, لأنهم في ذلك شرع واحد, ولأنه ليس بأن يجب الفعل على العبد بأمر غيره من الخلق له به أولى من أن يجب على الأمر بذلك بأمر المأمور له به ويجب عليه ترك الأمر بما أمر به لأمر غيره بتركه, ولأن هذا يوجب أن يكون الشيء واجبًا ساقطًا إذا أمر به بعض الخلق وحظره وحرمه بعضهم ونهى عنه, وإذا بطل ذلك ثبت بهذه الجملة أن التحسين والتقبيح والإباحة والحظر والإيجاب والندب وكون الشيء طاعة وعصيانًا أحكام لا تثبت لأنفسها وأجناسها, ووجوه هي في العقل عليها ولا لأمر أحد من الخلق بها أو نهيه عنها أو حكمه فيها, ولاعتقاد أحد منهم بحسنها وقبحها أو الانتفاع أو الاستضرار

الأمر والنهي لا يدل على الحسن والقبح

بها أو الشهوة لها أو النفور عنها, ولا شيء وراء ذلك إلا ما قلناه من حكم الله تعالى فيها بالحسن والقبح وإيجابه مدح الفاعل لبعضها وتعظيمه وذم الفاعل لبعض آخر, واحتقاره وانتقاصه فوجب إيقافه على ما أوضحناه سالفًا, وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أنه لا أحد من الخلق يلزم امتثال أمره, من حيث كان أمرًا به أو الكف عن الفعل من حيث كان ناهيًا عنه أو الندب إليه من حيث رغب فيه وندب إليه, وإنما يجب من طاعة الخلق كالنبي والإمام والوالد والسيد والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وغير هؤلاء ما أوجبه الله تعالى وألزم فعله, فهذا مما يجب الوقوف عليه, وجملة هذا أن الطاعة إنما تجب في الحقيقة بالإقدام على الفعل أو الكف عنه للخالق الذي تجب عبادته والتعظيم له بالعبادة على وجه لا يستحقه الخلق, وهذا التعظيم له بالطاعة إنما هو اعتقاد المطيع أنه طائع بفعله لمن خلقه ورزقه, ومن هو قادر على إحيائه وإماتته وتجديد الإنعام وكشف الضر والبلوى, وذلك أجمع مما ينفرد الله تعالى به دون سائر خلقه. فصل آخر يجب علمه اعلموا أننا قد بينا فيما سلف أن الأمر لم يوضع في اللغة لإفادة حسن المأمور به أو قبحه, وكذلك النهي, وإنما وضع الأمر لاقتضاء الفعل والنهي لاقتضاء اجتنابه فقط, وهل ذلك حسن أو قبيح موقوف على الدليل/ ص 161 ونبين هذا ونوضحه بأننا نعلم من حال الآمر من أهل اللغة أنه قد يأمر بالظلم والعدوان والجور والفساد ويلزمه ويعاقب على تركه ويضطر إلى قصده إلزام ذلك, ثم لا يجب أن يفيد إيجابه له وأمره به حسن المأمور به, وكذلك فقد نعلم نهي السلطان الجائر عن العدل والإنصاف ورد الحقوق وإقامة الفروض ويضطر أحيانًا إلى قصده إلى إلزام الكف عن ذلك, ثم لا يفيد نهيه عنه قبح المنهي عنه, بل قد علمنا حسنه ووجوبه بأمر الله تعالى به, وقد يأمر الآمر منهم بالحسن

وينهى عما هو قبيح, لكنه لم يكن قبيحًا ولا حسنًا لأجل أمره ونهيه, فعلم بهذه الجملة أنه ليس من حق الأمر وشروطه وصفته أن يدل على حسن المأمور به, ولا من حكم النهي أن يفيد قبح المنهي عنه في أصل اللغة والوضع, وإنما أجمع المسلمون على أن ذلك حكم ما أمر الله به ونهى عنه لأجل ما قدمناه من أن ما أمر به فقد حكم بحسنه, وأن ما نهى عنه فقد حكم بقبحه, فوجب لأجل ذلك القول بأن كل ما أمر الله عز وجل به فإنه حسن وكل ما نهى عنه نهيًا محرمًا فإنه قبيح لا لأجل إفادة الأمر والنهي لذلك في أصل اللغة والوضع, والقدرية تزعم أنه لم يكن الشيء حسنًا وقبيحًا لموضع أمره ونهيه تعالى به وحكمه فيه بذلك, بل لوجه هما في العقل عليه ينبئ عنه الأمر والنهي, ولولا حصوله في العقل على ذلك الوجه لم يحسن الأمر به والنهي عنه, فإذا قد اتفقنا على أنه لم يوضع الأمر لإفادة حسن المأمور به, ولا النهي عنه لإفادة قبحه.

باب القول في تنزيل أوامر الله عز وجل وأوامر الخلق, وذكر جمل من مراتبها وأقسامها

باب القول في تنزيل أوامر الله عز وجل وأوامر الخلق, وذكر جمل من مراتبها وأقسامها قد بينا فيما سلف أن أمر كل آمر من قديم ومحدث معنى قائم بنفسه, وكذلك سائر أقسام الكلام بما يغني عن رده. ويجب أن تعلموا أن الأوامر كلها على قسمين: فضرب منها صفة لله تعالى من صفات ذاته ليس بفعل من أفعاله لما ثبت من نفي خلق كلامه, وإذا ثبت هذا استحال وصف أمر الله تعالى بأنه مما يجب على الله أو يجب عليه تركه, أو كونه مندوبًا إليه أو مباحًا أو محظورًا عليه, لأن الواجب والندب والمباح والمحظور لا يصح أن يكون إلا فعلًا من الأفعال باتفاق. وإذا لم يكن أمره تعالى فعلًا له أو لغيره استحال وصفه بشيء من ذلك, وكذلك فيستحيل وصفه بالحسن والقبح والإحكام والإتقان والعبث والفساد

والخطأ والصواب, لأن جميع هذه الصفات لا تجري باتفاق إلا على الفعل الذي يخطئ الفاعل له مرة, ويصيب أخرى, وعلى ما يحسن فعله تارة ويقبح أخرى ويحكم ويتقن مرة ويفسد ويقبح أخرى, وقد بينا سالفًا أن وصف الشيء بالحسن ينصرف إلى حسن الصور والأشكال وحلاوته في الأسماع, أو على معنى إيجاب مدح فاعله والحكم بتعظيمه, فإذا لم يجز وصف كلام الله بالحسن على معنى حسن المنظر والصوت والتأليف والنظام, ولا على معنى أنه فعل له قد حكم بوجوب مدحه على فعله استحال وصفه بالحسن والقبح والعبث والإحكام والخطأ والصواب, وإن وصفت العبارة عنه بحسن النظم وجزالة الرصف والبلاغة المتجاوزة لجميع بلاغات أهل اللسان, على ما بيناه في إعجاز القرآن. والضرب الثاني من الأوامر: هي أوامر الخلق, وهي على ضربين: فضرب منها فعل للآمر, والضرب الآخر ليس من فعله, لأن الدلالة قد دلت

على أن المتكلم لم يكن متكلمًا لأنه فعل الكلام. وإذا لم يكن أمر الآمر منا فعلًا له استحال وصفه بأنه حسن أو قبيح من الآمر أو حكمة أو عبث أو خطأ أو صواب, وإن جاز أن يوصف بأنه حسن وحكمة وصواب من خالقه تعالى ومنشئه, أو يوصف بذلك على معنى حسن العبارة عنه كما يمتنع وصف إرادة المريد منا إذا لم تكن من فعله, ووصف علمه الضروري بأنه حسن منه أو قبيح, وإن جاز وصفه بأنه حسن وحكمة وصواب من خالقه تعالى. والضرب الآخر من أوامر الخلق فعل من أفعالهم, وهذا الضرب يقع كسبًا لهم على وجهين: إما أن يقع من فاعل عاقل مميز, أو من غير عاقل ولا في حد المكلف, فإن وقع من غير عاقل مميز كالطفل والمجنون والمغلوب ومن لم تدخل أفعاله تحت التكليف لم يجز وصفه بأنه حسن أو قبيح أو واجب أو ندب أو عبث أو حكمه, لأن ذلك لا يجري إلا على فعل فاعل مكلف على ما بيناه في أحكام أفعال الخلق في صدر الكتاب. والوجه الآخر: أن يقع الأمر والنهي من عاقل مميز من الخلق, وذلك - أيضًا - يكون على وجهين: فإن قدر وقوعه منه قبل تعبده وتكليفه لم يوصف بشيء من هذه الصفات لأنها لا يلزم الفعل إلا عند تكليف فاعله, وأما من ليس بمكلف ففعله خارج عن ذلك.

ولو قدر وقوع أوامرنا ونواهينا مع التمييز وورود السمع ودخولها تحت التكليف لم يخل من أحد ثلاثة أمور: إما أن تكون واقعةً منا ونحن مأمورون بها أو منهيين عنها أو مباح لنا فعلها. فإن كنا مأمورين بها كانت لذلك طاعة وحكمةً، وحسنًا ولم يخل الأمر بها من إحدى منزلتين إما أن يكون صادرًا على سبيل الإيجاب أو على وجه الندب والإرشاد فالواجب منها كالأمر بالمعروف إذا تعين على المأمور، وبالعدل والإنصاف ورد الحقوق وما جرى مجرى ذلك. والثاني كأمرنا بالنوافل وفعل الخير وكل ما ندبنا إلى الأمر به والدعاء إليه. وكذلك كل ما نهينا عنه فالأمر به على ضربين: فضرب منه محرم علينا الأمر به كالأمر بالظلم والعدوان وسائر المحظورات? والضرب الآخر: نهي إرشاد وفضل، كنهينا عن ترك التفضل والإحسان وكتابة العبد وتمتيع المطلقةً، وكل ما هو ندب في نفسه. وقد ندبنا إلى الأمر به، وليس يمتنع أن يجب علينا الأمر لمن ندب إلى الفعل بأن يفعله ويكون في علمه ندبًا منه. ويكون أمرنا له بفعل الندب من فرائضنا. وقد قال قوم: أنه يجب علينا أن نأمر المكلفين بكل ما أمرهم الله به من مسنون ومفروض فيكون أمرنا بذلك واجبًا علينا على الكفاية ويكون المأمور بالفعل تارةً مندوبًا إليه وتارةً مفروضًا عليه، ويجب ترتيب أمرنا بذلك على ما ينزله الشرع./ ص 163 فإن فرض علينا الأمر لمن ندب إلى الفعل بأن يفعله كان أمرنا به فرضًا, وفعل المأمور به نفلًا عن فاعله. وإن ندبنا إليه كان أمرنا به ندبًا. وإن كان ما يقع من أوامرنا ونواهينا مباحا لنا إيقاعه لم يوصف ذلك الأمر بأنه طاعةً ولا عصيان ولا حسن ولا قبيح على القول بأن المباح ليس بحسن ولا قبيح. وذلك كأمرنا لمن يصح أمرنا له ويجوز بالمنافع الحاصلة لنا كالمباح

واجتلاب الملاذ المطلقة التي لا اتصال لها بباب الدين. وقد تكون الأوامر المباحة لنا مما يجب على عبيدنا امتثال موجبها إذا أمرناهم بذلك? ولم يكن فعل موجبها قاطعًا لهم عن إقامة فرض من فرائض الله عز وجل. فأما إذا كانت المنافع ودفع المضار مؤدية إلى التلف والضرر الذي قد نهينا عن التورط فيه وألزمنا التوصل إلى الامتناع منه? وكنا لا نتوصل إلى دفع ذلك وفعل ما نحتاج إليه إلا بأمر من يجوز أمرنا له بذلك لزمنا الأمر به. فإن كان المأمور ممن يجب طاعتنا عليه لزمه امتثال أمرنا كما لزمنا الأمر له بذلك. وإن كان مما لا يجب عليه ذلك لم يمتنع أن يلزمنا نحن الأمر بذلك والدعاء إليه والمسألة فيه أحيانًا، وإن لم يجب على المسئول والمأمور إجابتنا وامتثال أمرنا. وليس في أوامر الخلق ونواهيهم ما يخرج عن هذه الأقسام. وهذه جملة مقنعة في إبطال قول القدرية. إن طريق الاعتبار حسن الأمر والنهي وقبحها من الله تعالى ومن خلقه إنما هو بحسن المأمور به أو قبحه. والوجه الذي حصل في العقل عليه. وإنما يجب أن نتبع في ذلك حكم أمر الشرع وترتيبه دون اعتبار صفات الأفعال التي هي في العقل عليها? لأن هذا الذي يدعونه من أحكامها في العقل باطل، لا أصل له.

حكم ((افعل)) بعد الحظر

باب القول في حكم القول ((افعل)) إذا ورد بعد الحظر والمنع وحكم الأمر بعد ذلك اعلموا - رحمكم الله - أنه قد وقع في ترجمة هذا الباب غلط وإغفال من جميع من لم يحصل الكلام فيه من القائلين بأن من المباح ما هو غير مأمور به، أو يجوز من العالم بذلك، لأجل أنه إذا ثبت بما قدمناه أن الإباحة ليست من أقسام الأمر، ولا داخلة في بابه استحال قول من قال: إن الأمر الوارد بعد الحظر على الإباحة والإطلاق لوجهين: أحدهما: إن الإباحة ليست بأمر، فتسميته / ص (164) الإباحة أمرًا غلط بين. والوجه الآخر: اعتقادهم أن تقدم الحظر دلالة على أن ما يعقبه من الأمر إباحة، لأن تقدم الحظر ليس بدليل على ذلك لما نذكره من بعد. وكان الواجب عندنا في ترجمة هذا الباب أن يقال: ((باب القول في بيان حكم القول ((افعل الفعل)) بعد تقدم حظره. فهل يكون هذا القول أمرًا بالفعل أم لا؟ ثم إذا حصل بدليل أن القول ((افعل)) الوارد بعد الحظر أمر به خرج بذلك عن أن يكون إباحةً، ووجب أن ينظر هل هو على الندب أو الوجوب أم على الوقف حسب ما كان عليه لو لم يتقدم الحظر. ونقول وبالله التوفيق: إن الحظر إذا تقدم القول افعل والأمر به لم يخل من أحد أمرين: إما أن

يكون حظرًا مبتدأ، لا لعلة عرضت بعد إطلاق الفعل ومنعت من إيقاعه. أو أن يكون معللًا بعلة عرضت فيما كان مباحًا مطلقًا قبل وجودها. فإذا كان القول ((افعل)) واردًا بعد حظر مبتدأ غير حاصل لعلة يزول بزوالها وجب أن يكون القول ((افعل)) محمولًا على أصله. ومما يمكن أن يراد به كل واحد من محتملاته من إباحة وترغيب وإيجاب وتهديد وتحذير وتعجيز وغير ذلك مما قدمنا ذكره في هذا الكتاب وغيره. وقد زعم الجمهور ممن تكلم في هذا الباب من الشافعي وغيره من الفقهاء ومن المتكلمين أن تقدم الحظر قرينة يعلم بها أن القول ((افعل)) على الإباحة. وهذا توهم ممن قاله؛ لأنه إنما يكون ذلك دليلًا على ما قالوه لو استحال أن يرد أمر بالفعل أو بمثله بعد حظره. ولما أجمعوا على أنه يصح إباحته بعد حظره، ويقبح الندب إليه ويقبح الإيجاب له، علم بذلك أنه ليس تقدم الحظر قرينةً تنبئ عن أن القول ((افعل)) بعد الحظر إباحة، ولا قرينة في غير ذلك من وجوه

محتملات القول ((افعل)). وإن كان القول ((افعل)) ورد بعد حظر الفعل لعلةٍ عرضت ومنعت منه بعد تقدم إطلاقه وإباحته? فإن الأظهر عندنا قي ذلك وجوب حمل القول ((افعل)) على الإذن برفع الحظر له بالإباحة، وإن جاز مع ذلك وأمكن أن يكون القول ((افعل)) بعد الحظر مرادًا به الأمر بالفعل. وإن كان الأغلب الظاهر من الاستعمال الإطلاق ورفع المنع، وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا)) وأمثال ذلك مما قد علم أنه كان على الإباحة والإطلاق. وإنما حظر الانتشار في الأرض والاصطياد لما عرض من وجوب التشاغل بالفرض من الصلاة والإحرام المانع من الصيد. فإذا زال السبب وعلة المنع عاد الشيء إلى أصله فكأنه قال: هذا المباح قد صار محظورًا لعلة حدوث الإحرام ووجوب الصلاة. فإذا حللتم

فاصطادوا. ليعلمهم بذلك أن السبب المانع من ذلك الفعل هو ما تجدد مما إذا زال عاد الشيء إلى أصل ما كان عليه. هذا هو الغالب، ومع ذلك فلا يمتنع أن يريد بقوله تعالى: فانتشروا، واصطادوا. والأمر بذلك على سبيل الندب أو الإيجاب. ولكن يجب إذا كان ما قدمناه هو عرف الاستعمال أن لا يحمل القول افعلوا بعد الحظر على الأمر إلا بدليل. فصل: فأما إذا ورد أمر بالفعل بعد الحظر له معللًا كان الحظر ومبتدأ غير معلل، فإنه محال قول من قال: إنه على الإباحة، لأن الإباحة ليست من أقسام الأمر، وهو قد فرض أن الأمر الوارد بعد الحظر أمرًا وسماه بذلك. وهذا نقض وتخليط ظاهر. فإن قيل: أردنا بالأمر الوارد بعد الحظر القول ((افعل)) بعد تقدم الحظر. قلنا: هذا غلط في الإطلاق لما قدمناه. وقد بينا أنه لا يجب حمل القول ((افعل)) بعد الحظر على الإباحة. فصل: فإن قيل: فما حكم الأمر عندكم إذا ورد بعد الحظر؟ قيل له: حكمه عندنا وعند كل أحد، إذا علم كونه كذلك أنه أمر بالفعل. وخارج عن باب الإباحة والإذن. وقد أخطأ الجمهور من الناس في إطلاقهم القول بأنه أمر على الإباحة؛ ومتى صح بالذي وصفناه أن الأمر ليس بإباحة ثبت بذلك أنه يجب إذا ورد أمر بالفعل بعد حظر مبتدأ غير معلل أن يكون محمولًا على أصله ومقتضاه، إما في موجب اللغة أو الشرع فإما أن يكون موضوعه الوجوب أو الندب أو احتماله الأمرين. على ما نقوله فيجب حمله على

ما ثبت من حكمه قي الأصل هذا هو الواجب في هذا الباب. والذي يدل على ذلك أنه إذا كان عند أصحاب الوجوب أو الندب يفيد ذلك، لكونه أمرًا. وكأن تقدم الحظر لا يخرجه عن كونه/ أمرًا وجب لذلك، أن يكون ص (167) محمولًا على فائدته التي وضع لها، ولأن تقدم الحظر لم يخرجه عن ما لأجله أفاد ذلك، وهو كونه أمرًا، كما أن تقدم خبر الآمر أو استخباره أو بعض الأفعال وكل قسم من أقسام الكلام إذا لم يخرج الأمر عن كونه أمرًا لم تكن قرينته توجب حمله على غير موجبه، فكذلك تقدم الحظر لا يوجب إخراجه عن موجبه فوجب حمله على أصل موضوعه في إيجاب أو ندب أو احتمال ووقف على ما نذهب إليه. فأما اعتلال من قال بهذا بأن الأمر المبتدأ لا بعد حظر يجب حمله على موجبه. فأما إذا ورد بعد الحظر وجب أن يكون تقدم الحظر قرينةً تخرجه عن مقتضى أصله، فإنه دعوى منهم، وفيها وقعت المنازعة، فلا سبيل لهم إلى تصحيح ذلك، وقد بينا أنه قد يتعقب حظر الشيء إباحة له، ويتعقبه، - أيضًا - ندب وإيجاب، فلا وجه لجعل تقدم الحظر قرينة في حمله على بعض محتملاته. ويقال - أيضًا - لم اعتل بذلك ممن يرى أن العقول تحظر إدخال الآلام والمشاق على النفس بفعل الصلاة والصيام والحج وقطع المفاوز إلى مواضع المناسك يجب على اعتلالك أن يكون الأمر الوارد بجميع ما يحظره العقل

محمولًا على إباحة ذلك لوروده بعد الحظر. وحظر العقل له عندهم آكد من حظر السمع. فإن لم يكن آكد فهما سيان. فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وفارقوا الإجماع. وإن أبوه، وقالوا قد يجوز أن يكون القول ((افعل)) بعد حظر العقل للفعل إباحةً له. ويجوز أن يكون إيجابًا له وندبًا إليه? فلم يكن تقدم حظر العقل له قرينةً في حمل القول ((افعل)) على بعض محتملاته. قيل لهم: مثل ذلك في تقدم الحظر الشرعي ولا فصل في ذلك. وإن اعتل معتل منهم بأن قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا} وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بمنزلة تعليق الأمر بالغاية وبمثابة قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} ونحو ذلك، وتعليق الأمر بالغاية يفيد زوال الحكم فقط عند انقضائها، وكذلك تعليق حظر الاصطياد والانتشار في الأرض بفعل الإحرام والاشتغال بالصلاة يفيد زوال الحظر عند تقضي غاية الإحرام ومدة انقضاء الصلاة. يقال لهم: ليس ذلك من تعليق الأمر بالغاية بسبيل، وإنما صورة تعليقه بالحظر له أن يقول امتنعوا من الفعل ما بقي الحظر له. فإذا ارتفع فافعلوه. هذه صورة الغاية وتعليق الأمر بالحظر. وقوله

تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} هو من باب ما علق تحريمه بعلة وسبب يجب زواله بزواله. فقال قوم: إن عرف اللغة يقتضي زوال الحظر بزوال العلة فقط على ما بيناه من قبل وقال آخرون: بل يجب أن يعقل من ارتفاع العلة ارتفاعه، ولكن لا يعلم على أي وجه ارتفع. فصل: وإن اعتل معتل منهم في ذلك بأنه ما وجد أمر ورد بعد الحظر في الشرع إلا على الإباحة فوجب أن يكون ذلك معقوله في اللسان. قيل لهم: وجود ما ذكرتموه في الشرع وعدم غيره لا يدل على أن ذلك موضوع اللفظ في اللغة. ألا ترى أنه لو لم يوجد في الشرع أمر إلا على الوجوب أو الندب، ولا لفظ ظاهره للعموم إلا والمراد به الخصوص لم يجب أن يقضى بذلك على أن موضوع الأمر الوجوب، وموضوع لفظ العموم عند مثبتيه وفائدته الخصوص. فوجب بذلك أنه لا اعتبار في تعرف موضوع الألفاظ في اللسان بوجود ما علق على اللفظ في حكم الشرع. وهذه جملة في هذا الباب كافية.

باب القول في أن الأمر بالفعل أمر بما لا يتم إلا به إذا كان ذلك من فعل المكلف دون غيره

باب القول في أن الأمر بالفعل أمر بما لا يتم إلا به إذا كان ذلك من فعل المكلف دون غيره اعلموا - رحمكم الله - أن الشيء الذي لا يتم فعل المأمور إلا بحصوله على قسمين: أحدهما: من فعل المكلف المأمور، والآخر من فعل الله تعالى وليس من مقدورات العباد. فأما ما هو من فعل الله تعالى وكمال العقل والآلة في الفعل - نعني بالآلة محل الفعل والقدرة عليه، ونصب الدليل الذي يتوصل بالنظر فيه، ويتمكن بتأمله من فعل العلم بما كلفنا العلم به - وهذه الأمور على ضربين: فضرب منها لا يتم وقوع الفعل ولا وقوع تركه إلا بحصوله. وذلك نحو محل الفعل، ونحو تحرك اليد والرجل وغيرهما من الجوارح التي هي محل البطش والمشي، وكالعقل الذي لا يتم إيقاع الفعل أو اجتنابه على الوجه المأمور به إلا بحصوله، ونحو الدليل المنصوب المؤدي النظر فيه إلى العلم بما كلف المأمور، فهذا الضرب من شروط صحة الفعل لا يصح التكليف للفعل مع عدمه، لأنه لا يصح من المكلف مع عدمه إيقاع الفعل، ولا إيقاع تركه. ولا كونه معرضًا لنيل ثواب أو استحقاق عقاب. والمكلف عند أكثر أهل الحق إنما كلف لكي يفعل أو يترك أو يعرض بالتكليف لثواب أو عقاب. وذلك لا يصح ممن لا عقل له ولا تمييز معه. لأنه يتعذر النظر عليه، وفعل العلوم المكتسبة مع فقد العقل وفعل العلم تعين

المأمور به والقصد إليه والتقرب بفعله وإيقاعه على وجه العبادة لله تعالى دون غيره، وكذلك سبيل فقد الجارحة التي هي محل الفعل، وفقد الدليل الذي يوصل النظر فيه إلى العلم/ ص 168 لأنه لا يمكن الفعل ولا الترك مع عدم محلهما، ولا فعل العلم ولا الترك له مع عدم الدليل، لأنه لو أمكن ترك فعل العلم مع عدم الدليل وتعذر النظر فيه عند فقده لصح فعل العلم بما طريقة الاستدلال مع عدم الدليل، وذلك بين البطلان وقد تقصينا هذا الفصل في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. وأما من قال من أصحابنا بجواز تكليف العبد المحال، وما لا يصح فعله ولا تركه. وأن ذلك عدل من الله عز وجل وصواب في حكمته. فإنه لا يحيل تكليف ما هذه سبيله من جهة العقل، وإن لم يرد به سمع. ولو ورد لكان صحيحًا جائزًا. وهذا هو الذي نختاره ويذهب إليه شيخنا أبو الحسن رحمه الله. والكل من أهل الحق متفقون على أنه لا يصح تكليف الميت والعرض والجماد، ومن لا عقل له من الأحياء والخطاب له، لأنه لا يجوز مع عدم حياته وعقله أن يكون مخاطبًا وممن يصح فهمه للخطاب وتلقيه له، فلا يمكن أن يكون الكلام له خطابًا ولا تكليفًا. فأما العالم بكونه مخاطبًا ومكلفًا فصحيح تكليفه. صح الفعل منه أو تركه أو لم يصح.

فأما الضرب الآخر مما لا يتم المأمور به إلا بحصوله من فعل الله تعالى. فقد يصح فعل ترك المأمور به مع عدمه. وهو القدرة على الفعل، لأنه لا يتم إلا بها، ولكن قد يتم تركه وفعل ضده مع عدمها لوجود القدرة على ترك مقدورها، فهذا مما يجب ضبطه وترتيبه. والضرب الآخر من شروط الفعل الذي لا يتم وقوعه دون حصوله من فعل الله تعالى - أيضًا - وإن كان من مقدورات الخلق، وذلك نحو الطهارة التي لا تصح الصلاة إلا بها، والسعي إلى الجمعة، وقطع المسافة إلى البيت ومواضع الإحرام والمناسك وأمثال ذلك مما لا يتم الفعل إلا به. وما هذه سبيله فواجب أن يكون الأمر بالفعل أمرًا به، لأنه لا يتم دون حصوله له. فلذلك كان المأمور بفعل الصلاة مأمورا بفعل الطهارة، أو ما يقوم مقامها من التيمم والتوجه والنية والإحرام. وكل شرط من فعل العبد لا يتم التقرب بفعل الصلاة وكونها شرعية مع عدمه. ولذلك صار المأمور بالحج مأمورًا بقطع المسافة إلى الحرم، والمأمور بصلاة الجمعة مأمورًا بالسعي إليها. وكذلك القول في كل أمر لا يتم المأمور به دون حصوله. وليس من هذا الباب ما يقوله القدرية من فعل المكلف للألم في غيره والقطع له وتفرقة أجزائه، ونحو هذا مما يسمونه مسببًا متولدًا عن سبب من فعل العبد وأن الله عز وجل إذا أمرنا بفعل إيلام الغير وقتل القاتل وقطع/ ص (169)

السارق وجب أن يكون أمرًا لنا بفعل الأسباب للفَرْي وتفرقة الأجزاء والألم؛ لأن هذا الأصل باطل عندنا لما قام من الدليل على بطلان القول بالتولد واستحالته في فعل الله تعالى، وفعل خلقه وإذا بطل هذا الأصل فسد قولهم إن الأمر بالمسبب المتولد أمر بسببه؛ لأن جميع ما يوجد عند أفعالنا المباشرة من زوال الأجسام واعتماداتها وألم الحي منها وتفرقة أجزائها إلى غير ذلك فعل الله تعالى يحدثه عند اكتسابنا المباشرة في أنفسنا بجري العادة. وليس بشيء من مقدورات العباد على ما قد دللنا عليه في الكلام في أصول الدين. فبطل إلحاقهم ما ادعوه بهذا الباب. والذي يجب تحصيله في هذا الباب عندنا أن يقال: إن كل فعل للعبد لا يتم وقوعه إلا بعد ((تقدم فعل أخر من أفعاله)) فإن الإيجاب له والندب إليه والإباحة والتحريم له إيجاب وندب وإباحة وحظر لما هو مقدمة وشرط له وقد يجوز أن توجد شروط الفعل ومقدماته، وكل ما لا يصح إلا به من فعل المكلف وإن لم يوجد الفعل نفسه. فلذلك صح وجوب الطهارة على ما لا تجب عليه الصلاة إذا اخترم دون فعلها أو نسخت عنه قبل وقتها, أو قيل له: قد فرضتُ

ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب

عليك الطهارة وغسل الأعضاء، وأسقطت عنك الصلاة لو اخترمت. وصح أن يؤمر بقطع المسافة إلى البيت وعرفة من لا يجب عليه الوقوف والطواف إذا حصر بعدو أو مرض أو اخترم دون امتثاله أو نسخت عنه العبادة بعد فعل مقدماتها. لأن فرض كل شيء من ذلك غير منوط بإيجاب ما يصح فعله بعده. ويستحيل إيجاب الصلاة بطهارة على من قد سقط عنه فرض الطهارة، وإيجاب الوقوف والطواف بالبيت على من قد سقط عنه فرض قطع المسافة إليها واستحالة إباحة الخروج عن الدار لمن حظر عليه قطع المسافة إلى الموضع الذي يكون فعل الخروج منه خارجًا عنها? وأن يباح دخولها على من يحظر عليه المشي إليها. فهذا كله محال ومفارق لما قلناه في الفصل الذي قبله. فصل من هذا الباب واعلموا - رحمكم الله - أنه قد يجعل فعل غير المكلف من العباد شرطا في ص 170 إيجاب الفعل عليه. وذلك مما لا خلاف فيه. ومنه إيجاب فعل الجمعة بشرط/ حضور الإمام والجماعة. وإيجاب الجهاد إذا حضر معه من فيه غناء ومنعة. واعلموا أنه لا خلاف أن شرط الفعل إذا كان من فعل غير المكلف من الخلق. فإنه لا يجب على المكلف تحصيله وتطلبه لكي يجب عليه الفعل المشروط. ولهذا لم يجب على من خوطب بالجمعة والجهاد إحضار الإمام وجمع الناس وبناء قرية تتم لهم في مثلها الجمعة. ولم يلزم من لزمه فرض الجهاد بشرط حضور من يمنع ويدفع معه التوصل إلى إحضار من يلزمه عند حضوره فرض

الجهاد. وكذلك فلا يلزم من فرضت عليه الزكاة إذا ملك المال تطلب المال والتوصل إلى ملكه لكي تجب الزكاة عليه. وإنما تجب إذا اتفق حصول المال مع من يلزمه الفرض، وعلى صفة من تجب عليه ملزوم تنفيذه. وأما إذا لم يتفق ذلك لم يجب عليه التوصل إليه. وليس هذه حال من قيل له: صل بطهارة وستر العورة وطف بالبيت بعد قطع المسافة. وافعل العلم بصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد العلم بالله تعالى. لأنه مطالب بفعل ما لا يصح الفعل الثاني إلا بعد حصوله. وقد كان يجوز أن يفرض عليه اكتساب المال والسعي في تحصيله لتجب عليه الزكاة فيه، لأن الاكتساب والسعي من فعله، كما يجب على الإنسان الاكتساب لما ينفقه في قوته وقوت من يلزمه الإنفاق عليه. ولكن الله تعالى أسقط ذلك وخفف بزواله المحنة. فصل: واعلموا - رحمكم الله - أنه لا فصل بين سقوط وجوب الفعل بخروج المكلف عن صفة من يلزمه الفعل بسبب من فعل الله تعالى أو بسبب من فعل نفسه، لأنه لو أزمنه الله عز وجل، وأبطل جوارحه لزال عنه فرض التصرف والمشي والبطش ولو قطع يد نفسه وكسر رجله فصار بذلك زمنًا لزال الفرض عنه. وهذا مما لا خلاف فيه. وقد كان يصح في عدل الله وحكمته تكليف من هذه حاله إذا كان عاقلًا وممن يصح منه معرفة الخطاب وتلقيه على ما بيناه من قبل.

فصل من فصول هذا الباب

فصل من فصول هذا الباب فإن قال قائل: إذا كانت الصلاةً متى وجبت وجبت الطهارةً بالماء لوجوبها وجب على ذلك - أيضًا- متى فرضت الطهارةً لزوم تحصيل الماء وطلبه وشراؤه وإن تغالى ثمنه. يقال له: أما طلبه فيجب على ما يجب من طلب مثله بحكم الشرع. وأما شراؤه فقد يجب بثمنه/ ص (171) وفوق ثمنه إلا أن يتغالى ذلك إلى حد يسقطه الشرع. وقد سقط فرض التوصل إليه إذا كان في ذلك مشقةً عظيمةً. فيصح أن يجعل الشرع تغالي ثمنه المتلف للمال العظيم ولحوق المشقةً الشديدةً قي تحصيله بمثابة عدمه. وكما أسقط الشرع التوضيء بالمال والغسل عند المحصوب والمجدور وصاحب الجرح المخوف وخايف التلف باستعماله لعظم البرد، ولغير ذلك من الأعذار. ولهذا سقط فرض حضور الجمعة إذا طالت المسافة وسقط الحضور إليها. وسقط فرض الحج مع الخوف على النفس. وليس كل ما جعله الشرع عذرًا في إسقاط الفعل مما يحيل وجود الفعل جملةً، أو لخوف التلف بتحصيله. فلهذا لم يكن شراء الماء بأضعاف ثمنه بمنزلة عدمه جملةً؛ لأنه

هل يصير ما ليس بواجب واجبا إذا لم يمكن فعل الواجب إلا به

قد يمكن شراؤه بأضعاف قيمته وإن كان في ذلك إجحاف بالمال ومشقة?ً ولا يمكن الوصول إليه مع عدمه، وكذلك القول في عدم الرقبة وخروج ثمنها عن حد العادةً. وقى الزمانة والكسر وعدم الصحة المانعة من حضور الجمعة. وفي بعد موضعها بالمسافةً الطويلةً التى يشق النزول منها إلى الجمعةً مع صحة ذلك وإمكانه، وتحمل المشقة فيه. هذه أمور قد علم اختراقها قي الإحالة والتصحيح فيجب الرجوع في معرفة الأعذار ومقادير المشاق إلى تقدير الشرع لذلك وترتيبه. فما نص عليه منه وقطع العذر فيه صير إليه، مع التخفيف والمشقةً، ولم يجز لأحد تأويل في الامتناع منه. وما اختلف فيه كان طريق العلم بأنه عذر في سقوط الفرض الاجتهاد وساغ الخلاف فيه. وكان كل مجتهد في ذلك مصيبًا. وكان العامي مخيرًا في تقليد من شاء من العلماء ووجب من هذه الجملة أن تكون الأعذار والمشاق في تحصيل ما هو شرط في الفعل بمثابة عدمه جملة، وعدم ما يتوصل به إليه. فصل أخر من فصول هذا الباب فإن قال قائل: فما قولكم إذا لم يمكن فعل الواجب والوصول إليه إلا بفعل ما ليس بواجب. هل يصير ما ليس بواجب واجبًا لكي يتوصل به إلى فعل الواجب أم لا؟

يقال له: هذا كلام فاسد لا محصول له، لأنه إذا لم يمكن فعل الواجب إلا بفعل أخر لا بد منه ولا ينفك عنه، فهو وما لا ينفك منه? ولا يمكن حصوله دونه واجب، ولا يجوز أن يقال أن منه ما ليس بواجب، وذلك نحو ما يقوله الفقهاء من أنه إذا لم يصح ستر العورةً الواجب سترها إلا بستر بعض الركبةً وما ليس من العورةً وجب ستر ذلك مع ستر العورةً ليتوصل به إلى ستر العورة. وكذلك إذا لم يصح تمييز وقت الليل/ ص (172) من النهار على التحديد، ولم يصح صيام اليوم إلا بإمساك جزء من الليل قبل طلوع الفجر ولم يمكن استيفاء صيام اليوم إلا بالإمساك مع جزء من الليل وجب الإمساك في ذلك الجزء. ولا معنى لقول من قال في مثل هذا قد دخل في الواجب ما ليس بواجب ليتمكن به من فعل الواجب؛ لأن ما لا يصح التوصل إلى الواجب إلا بفعله فواجب كوجوبه، غير أنه لو تميز الليل من النهار بحد محدود يمكن المكلف معرفته، وتميزت العورةً من غيرها بمكان محصور وحد معلوم يمكن المكلف فصله من العشرة لسقط عنه فرض ستر ما ليس منها وصيام ما ليس من اليوم، ولكنه لما اشتبه ذلك، ولم يتميز للمكلف يجب ذلك أجمع لالتباسه ولكي يتوصل بأحد الواجبين إلى فعل الآخر، وقولنا التوصل بأحد الواجبين إلى فعل واجب أخر أوضح وأولى من القول ليتوصل بفعل ما ليس بواجب إلى فعل الواجب؛ لأن ما لا ينفك الواجب منه, ولا يتميز عنه، فإنه واجب كوجوبه لما أوضحناه فسقط ما قالوه في هذا الباب.

ما يزيد على ما يتوصل به إلى فعل الواجب، ولا يتميز منه

فصل آخر من فصوله يجب علمه واعلموا - رحمكم الله - أن تدر ما يزيد على ما يتوصل به إلى فعل الواجب، ولا يتميز منه، ولا يمكن معرفته بعينه، فإنه ليس بواجب. وإن كان مما يقع من المكلف مع فعل الواجب، وفعل ما لا ينقك الواجب منه، ومتى لم يتميز ذلك بطريق يفصله عن غيره، استحال لذلك أن يكلف المأمور فعل ذلك القدر الذي يتوصل به إلى فعل الواجب على التمييز والتفصل. لأنه لا يعرفه بعينه. ولا يمكن تمييزه له. ولهذا ما لم يؤمر الإنسان بمقادير الأفعال الواقعة في الركوع والسجود والأكوان التي تلقي بها جبهته وأعضائه الأرض التي إذا فعلها بعينها. وفعل ما يوصل إليها كان مؤديا لفرضه، لأن ذلك غير معلوم ولا متميز له. وإنما يؤمر بفعل ما يتوصل به إلى فعل واجب أخر على التفصل والتحديد إذا كان ما يتوصل به إلى فعل ذلك الواجب معلومًا ومتميزًا له. ولذلك أيضًا ما لم يؤمر المكلف بإمساك جزء من الليل متميز معلوم لكي يصل به إلى إتمام صيام النهار، لأن ذلك القدر من الليل غير معلوم ولا متميز له. والواجب أن يقال في مثل هذا أن المكلف يؤمر بفعل الواجب وبفعل ما يتوصل به إلى فعل ذلك الواجب قي الجملة من غير تفصيل. ولو كان له إلى علمه وتفصيله طريق لكان الأمر مقصورًا عليه من الزائد على قدره/ ص (173) غير أن تفصيل ذلك وتحديده متعذر غير ممكن فوجب تكليفه على الجملةً. فيجب ترتيب القول في هذا الباب على ما نزلناه.

اختلاط ما ليس بمحرم بمحرم يمكن تمييزه

باب آخر يتصل بالكلام في هذا الباب فإن قال قائل: ما تقولون إذا حرم الشيء المختلط بما ليس بحرام. أتقولون إنه يحرم هو وما اختلط به مما ليس بحرام؟ يقال له: هذا أيضا على ضربين: فإن اختلط الحرام بغيره اختلاطًا يمكن تمييزه منه ومعرفتها على التفصيل كان التحريم متعلقًا بالمحرم وحده، دون ما اختلط به، وإن اختلط بغيره اختلاطًا لا يمكن الفصل بينه وبين ما لو انفرد منه وتميز للمكلف كان حلالًا كانا جميعًا حرامين عند الاختلاط وعدم السبيل إلى التمييز. وأحدهما حلال لو كان متميزًا. إلا في مواضع استثناها السمع وأجمع عليها المسلمون نذكرها من بعد. وقد يكون اختلاط المحرم بغيره طريقًا لوجوب التحري في ذلك لا لوجوب تحريم الجميع. وربما صار اختلاط المحرم بالمحلل طريقًا إلى تحليله إذا أدى التحري إلى وجوب استعماله. ومن هذا الباب ما اختلفوا فيه من المرأةً المطلقةً التي أوقع الطلاق عليها بعينها إذا اختلطت بالزوجات. ثم أشكل الأمر على الزوج. ولم يتميز له المطلقةً من الزوجةً. فمنهم من يقول: إن الجميع بحرم عليه. وهو الأحوط، لأنه لا يأمن عند الاستمتاع لواحدةً منهم أن تكون هي المطلقة الحرام فيكون مقدمًا على حرام. فهذا الخوف والاختلاط قد صار طريقًا إلى جعل ما كان حلالًا حرامًا. ولا يقال في هذه الحال قد وجب عليه الكف عن الحلال ليصل بذلك إلى اجتناب الحرام؛ لأن هذا الاختلاط والالتباس على المطلق قد غير حكم الحلال وأزاله عن التحليل

وجعله حراماً لا محالة عند الذاهب إلى وجوب الكف عن الاستمتاع بجميعهن. ومتى لم يقل بذلك خلط وخبط، لأن وجوب الامتناع عن الاستمتاع بجميعهن عند الإشكال محرم للاستمتاع. فقوله: لأنه حلال يجب اجتنابه والكف عنه مناقضة ظاهرة وربما خفي هذا على كثير ممن يتكلم في هذا الباب. ومنهم من يقول بالتحري في مثل ذلك وتغليب ظنه. فمن أداه الظن والتحري إلى أنها هي المطلق حرمها على نفسه. وربما أداه التحري وترجي الظنون إلى تحريم من لو عرفها وميزها من المطلقة لكانت حلالاً طلقا. ولا أحد - أيضاً- ممن يوجب التحري في مثل ذلك يقول: إن من أداه التحري إلى أنها هي المطلقة فإنها حلال مع غلبة الظن لكونها مطلقة/ لأن التحري والظن لوقوع الطلاق عليها قد أثر في تغيير حكم تحليلها وأزاله إلى التحريم ولكن قد فصل السمع. وأجمع المسلمون على الفصل بين هذا الالتباس وبين اختلاط أم المرء وأخته وذوات محارمه بنساء بلدة لا يعرفها بعينها منهن فأبيح له التزويج والاستمتاع ببعض نساء أهل تلك البلدة، وإن جوزوا أن تكون الزوجة المعقود عليها أمه أو أخته. وفصلوا أيضاً بين أن تختلط الأم بنساء أهل

الأرض وأهل بلدة بأسرهم وبين أن تختلط بأعيان نساء محصورات وقالوا في مثل هذا اختلاطها بأهل بلد اختلاط يتعذر فيه التمييز ولا يمكن. واختلاطها بأشخاص محصورون يمكن التمييز فيه. وقال كثير من الناس له مع هذا الاختلاط بالعدد اليسير المحصور مندوحة في التزويج ممن عدا تلك الأشخاص التي يقطع على أن فيهن أمه ونحوها من ذوات محارمه. وليس له مندوحة عن نكاح نساء أهل بلدة بأسرهن ونساء أهل الأرض، وهذا شاق متعذر، والأول متأت ممكن، فيجب تنزيل ذلك بحسب ما رتبه الشرعة. فصل: ومما يقارب هذا ويشبهه، وإن لم يكن من بابه إيقاع المرء الطلاق على غير معينة من أزواجه. فقال بعضهم: يعين من شاء منهن، وذلك مردود إلى تمييزه، فيوقعه على من شاء منهن، وهو مخير في ذلك. لأنه ليس كالأول الذي أوقع الطلاق على معينة منهن ثم اختلطت، والتبس عليه أمرها. وكأن الالتباس العارض حرم ما لو تميز لكان محللاً، لأن المطلق لواحدة بغير عينها لم يوقع الطلاق على معينة، فهو لذلك مخير، ومفارق لحال معين الطلاق. فمن سبيله رد التعين إلى اختياره، لأنه لا يمكن غير ذلك. وقد قال قائلون: إن مثل هذا الطلاق لا يقع، لأن من حق وقوعه ولحرقه، أن يكون معيناً. فإذا وقع غير معين لم يكن له حكم، ولعل في الناس من يقول إنه

يحرم عليه جمعيهن. ومن هذا الباب اختلاط الآنية النجس بالطاهر. ففي الناس من يقول محرم استعمال جميع ذلك لأنه لا يأمن الإقدام على استعمال النجس. ومنهم من يوجب التحري وتغليب الظن الظاهر فيما يستعمله، كما يجب في طلب جهة القبلة. ومنهم من يقول: يستعمل جميع ذلك لأن فيه الطاهر لا محالة. وكل من يقول إنه يحرم استعمال جميع ذلك يقطع على أن الاختلاط قد غير حكم الحلال فجعله حراماً./ ومن زعم أنه حلال وأنه حرم لأجل إختلاطة بالحرام فقد خلط، وقال باطلاً لما بيناه من قبل. وكذلك القائل بالتحري يقول إذا أداه التحري استعمال النجس وتجنب القطار صار التطهر بالنجس هو الواجب عليه، واجتناب استعمال الطاهر هو الفرض اللازم. فالاختلاط والتحري الواجب عنده يؤثران في الحكم لا محالة.

ومنه -أيضاً- امتزاج التنجس بالطاهر فإنه إذا امتزج به حرم استعمال الكل، إذا كان قليلاً، فقد قال بعضهم: قد صار الكل بالامتزاج نجساً. ويقول البعض: لا بل لتعذر الوصول إلي تمييز الطاهر من النجس. ثم اختلف في حد ما يحتمل النجاسة، وفي علامة تنجيس الماء فقال بعضهم: هو أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وقال بعضهم: لا يستعمل لأن فيه نجاسة تتيقن استعمالها، واستعمال النجس حرام. واعتبر بعضهم المقدار بالقلتين لأجل السمع وهو ما روي من قوله عليه السلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً" وقال بعضهم بتقدير أكثر من القلتين، وإذا قدر بالقلتين قطع المقدر بذلك علي أن ما دونهما

نجس كله ومحرم استعماله. ولا بد أن يكون قوله "نجسا كله" محمولاً علي أن فيه ما هو نجس وفيه طاهر لم تحل أجزاؤه إلي النجاسة، ولم يصر من ذوات أجزاء النجاسة، ولكن لما لم يمكن التمييز وفصل الطاهر من النجس أثر ذلك - لا محالة- في تحريم الطاهر. ومحال قول من قال في مثل هذا- أيضاً- قد حرم استعمال ما ليس بحرام استعماله لامتزاجه بما حرم استعماله, وهذه فصول في هذا الباب مقنعة إن شاء الله.

باب القول في أن مطلق الأمر يقتضي فعل مرة أو التكرار

باب القول في أن مطلق الأمر يقتضي فعل مرة أو التكرار اختلف الناس في هذا الباب. فقال الأكثرون ومحصلوها علمه إن إطلاق الأمر بالفعل يقتضي فعل مرة واحدة وتبرأ به ذمة المكلف، وعليه الجمهور من أصحاب أئمة الفقهاء. وقال قائلون- وهم القليل- إنه يقتضي الدوام والتكرار إلا أن يفيد ما يقضي قصره وحصره علي فعل مرة واحدة، وهذان القولان هما الظاهران المشهوران. ومع القول بأنه لفعل مرة واحدة أو جملة من الأفعال المحدودة يصح القول بأنه علي التراخي. ويمتنع مع القول بأنه علي التكرار أو الوقف. لأنه إذ كان علي الوقف أو علي التكرار فقد استوفي الأوقات من تعقيب الأمر إلي حين زوال التكليف عن المأمور. وليس يمتنع عندنا أن يقال إنه يجب علي أصل القول بالوقف في الألفاظ

المحتملة أن يكون إطلاق الأمر محتملاً لفعل / ص 176 مرة واحدة ومحتملاً لعدد محصور يزيد علي المرة والمرتين، ومحتملاً لفعله علي التكرار في جميع الأوقات. فإن لم نقل بالوقف والاحتمال في ذلك فأقوي المذهبين الذين قدمنا ذكرهما القول بأنه مقتضي لفعل مرة واحدة إلا أن يدل الدليل علي وجوب التكرار. والذي يدل علي صحة دعوي وجوب الوقف في إطلاق الأمر اتفاق أهل اللغة علي حسن الاستفهام للأمر عما نريده بمجرد الأمر من فعل مرة أو عدد محصور أو الدوام. فلذلك صاغ لم قال لعبده اضرب زيداً أردت به فعل مرة أو مرات محصورة أو الدوام والتكرار. هذا ما لا خلاف في حسن استفهامه. ولو قال اضربه مرة واحدة أو عشراً أو عدداً محصوراً لقبح أن يقال أردت بذلك مرة والحجة أو الدوام. وكذلك لو قال اضربه دائماً متكرراً لقبح استفهامه هل أراد مرة أو مرات لورود اللفظ المنوط بما يدل علي المراد به مما

يقطع الاحتمال، ولما لم تكن هذه حال إطلاق الأمر المتعري مما يدل علي قصره علي مرة أو عدد محصور أو التكرار والدوام حسن فيه لتثبيت والاستفهام. ويوضح هذا الذي قلناه ويؤكده إقرار النبي صل الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم لسارقة بن مالك بن جعشم علي حسن الاستفهام عن وجوب الحج لما قال له سارقة: ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد؟ فقال: للأبد، ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تستطيعوا"، فلو كان المعقول من إطلاق الأمر بالشئ بغير شرط ولا صفة أو المقيد بالشرط والصفة في اللغة موضوعاً لتكرار الفعل أو قصره علي مرة واحدة لكان سارقة مع فضل علمه باللغة أقرب

إلى العلم بموضوعه وإلي اعتقاد قبح استفهامه. فهذا يكشف عن أن إطلاقه محتمل لما قلناه. والواجب عندنا في هذا إنه متى أطلق الأمر وهري مما يدل علي الدوام من عقيب الأمر إلي ما بعده، فإنه يصلح أن يريد به فعل مرة واحدة، ويصلح أن يريد به ما زاد عليها من الأقدار المحمودة. فإذا كان يريد بإطلاقه دوامه من عقيب الأمر وفيما بعده مع تحديده له من دلالة تدل علي لزومه من عقيب الأمر فذلك /ص 177 محال، لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة. وتجريده الأمر لا يدل علي لزوم فعله علي الدوام والتكرار، فوجب تنزيل ذلك علي ما قلناه. فإن قال قائل: ما أنكرتم أن تكون حقيقة إطلاق الأمر وموضوعه أنه للاستغراق والدوام، وأنه يصلح أن يراد به المرة الواحدة علي ما قلتم، إلا أنه يكون مجازاً إذا أريد به ذلك، فلذلك حسن الاستفهام، وإنما عرض المستفهم أن يعلم أنه مراد به حقيقة ما وضع له أو التجوز به. يقال: في هذا جوابان: أحدهما: إنه لا سبيل إلي ما ادعيتموه، لأنك إذا سلمت أن الإطلاق قع علي فعل مرة في الاستعمال كما يقع علي التكرار وادعيت أنه مجاز في أحد الأمرين احتجت إلي نقل وتوقيف علي ذلك، أو ما يقوم مقام التوقيف، وإلا فظاهر الاستعمال يعطي أن اللفظ حقيقة في جميع ما استعمل فيه، وإنما يعلم أنه مجاز في بعضه ومعدول به إليه بشيء غير الظاهر والاستعمال من القرائن الدالة على التجوز.

والجواب الثاني: إنه ليس مدعي هذا بأسعد من مدعي كون موضوعه لفعل مرة واحدة إلا أن يتجوز في إيجاب الدوام والتكرار. وفي تكافؤ كل هذه الدعاوي دليل علي سقوطها. فصل: فإن قال قائل: لو كان مطلق يقتضي فعل الدوام والتكرار لما كان لقوله افعله دائماً متكرراً معنى، لأن لأول يفيده. فإن قيل إنما اتبع أمره بذكر الدوام والتكرار علي وجه التأكيد لمعناه، وهذا الكلام بعنين لازم لمن قال إنه مقتض لفعل مرة واحدة، لأنه لو أفاد ذلك لم يكن لقوله افعله مرة واحدة ودفعة لا يزيد عليها وجه. فإن قيل: هذا يصدر علي طريق التأكيد. قيل له: مثله فيما قالوه، ولا جواب عن ذلك. فصل: فإن قال قائل: أفلستم تقولون إن الأمر علي التراخي لا علي الفور. فإذا قلتم إن مطلق الأمر محتمل لمرة واحدة والتكرار، فكيف قولون مع ذلك إنه علي التراخي، فكيف يكون ما يحتمل أن يراد به الدوام والتكرار علي التراخي، وهو إذا كان كذلك يجب بأول وقت، وفي كل وقت بعده إلي حين انقطاع العبادة. يقال: ليس بين هذين المذهبين تناقض، لأننا إنما نقول إ، الأمر علي التراخي إذا علمنا أنه إنما أراد به فعل مرة واحدة أو عدداً محصوراً، وإذا علمنا ذلك ولم يعين وقتاً من وقت جوزنا له تقديم فعله عقيب الأمر، وأن يؤخره عنه. وإذا علمنا أنه علي التكرار ألزمناه ذلك من عقيب الأمر وفيما بعده من الأوقات / ص 178 إلي حين انقطاع التكليف أو ما يدل علي أنه من أوقات الأعذار. ومتى قلنا إنه متى عدم البيان من الآمر بأنه أراده علي التكرار، وأنه لازم من عقيب

الأمر إلى ما بعده، فالأولي على أنه لا مدخل للتكرار في إطلاقه. وإنما يجب أن يكون لمرة واحدة أو مزار محصورة. فإن قال: فإذا جوزتم أن يراد بإطلاق الأمر بالفعل الدوام والتكرار امتنع عليكم القول بأنه على التراخي. يقال له: لا يمتنع ذلك لأننا إنما نجعله على التراخي إذا علمنا أنه لم يرد به التكرار فسقط ما قلتم. فصل: واعلموا أنه ليس في الأمة من يقول إن معقول مطلقه يقتضي فعل مرات محصورة من اثنين أو عشر أو غير ذلك، وإنما يجب أن يقال: إنه على الوقف والاحتمال على ما قلناه، وأن المعقول منه التكرار أو فعل مرة واحدة، وما عدا هذا باطل بإجماع. (أيضاً) فإنه يصح أن يقال إنه على الوقف إذا كان أمراً بإيقاع الفعل على التراخي وبعد مهلة فيحتمل أن يراد به في ذلك الوقت وما بعده على التكرار، ويحتمل قصره على فعل مرة في الوقت المحدود، وهذا واضح. واعلموا - رحمكم الله - إنه ليس المراد بقولنا إنه محتمل لفعل مرة وللتكرار أنه لا يعقل منه مرة واحدة وحسن تقديم فعلها. وإنما نعني بذلك أن ما زاد على المرة يمكن أن يراد ويمكن أن لا يراد. فأما فعل المرة وتعجيلها عقب الأمر فمتفق عليه. فهذا - أيضاً- مما يجب أم يعلم مرادنا فيه وأيضاً، فإنه يصح أن يقال إنه على الوقف إذا كان أمراً بإيقاع الفعل على التراخي وبعد مهلة محتمل أن يراد به في ذلك الوقت إذا كان أمراً بإيقاع الفعل على التراخي وما بعده على التكرار ويحمل قصره على فعل مرة واحدة في الوقت المحدود. وهذا واضح. فأما إذا لم نقل بالوقف والاحتمال فيه وجب القول بأن مفهومه فعل مرة، واحدة.

والدليل على ذلك الرجوع إلى أهل اللغة وعلمنا بأنهم لا يعقلون من مطلق الأمر تكرار المأمور به، وإنما يعقلون ذلك بلفظ زائد على الإطلاق. يبين ذلك أن القائل إذا قال. أضرب زيدا وأشتر ثوباً واسقني ماء لم يعقل من ذلك إلا فعل مرة واحدة فقط. وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنه ليس على تكرار. ويدل على ذلك - أيضاً- إنه إذا أراد التكرار زاد في اللفظ وقرنه بما ينبئ عنه. فقال: اضربه أبداً، واشتر لي عبداً شراء دائماً وافعله سرمداً، ونحو ذلك. وقد اتفق على أنه إذا قال مثل زاد في الفائدة على حكم الإطلاق، وعلى معني قوله أضرب، وكذلك لو قال: أضرب زيداً ضربتين أو عشراً لزاد في الفائدة على قوله أضرب زيداً. وإذا كان ذلك كذلك/ ص 179 ثبت أن معقول مطلقه فعل مرة واحدة، وما يدخل بفعل في استحقاق اسم ضارب. فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون دليلكم هذا موجباً لكون الأمر أمراً على الدوام لأجل أنه له قال افعله مرة واحدة لوجب أن يكون عندهم قد زاد على فائدة الإطلاق. ولو كان معقول الإطلاق فعل مرة واحدة لم يكن لقوله أضربه دفعة واحدة زيادة فائدة، وإذا لم يكن ذلك كذلك وجب التكرار. ويقال لهم: في هذا جوابان: أحدهما: إن ذلك يوجب أن يكون مطلق الأمر محتملاً لفعل مرة ومحتملاً للتكرار لجملة من الفعل. والجواب الآخر: إن فائدة قوله أضربه مرة واحدة تأكيد لمعني قوله أضربه والدليل على ذلك ما قدمناه من أن معقول إطلاق الأمر بشراء العبد والثواب إذا قال اشتر لي عبداً لم يعقل منه دوام ذلك، فصار إتباعه بذكر المرة تأكيد لمعنى مطلقه.

فصل: ويدل على هذا - أيضاً- ويوضحه اتفاقهم على تسمية من فعل ما أمر به أمراً مطلقاً مرة واحدة مطيعاً ممتثلاً بفعل المرة. وقولهم أطاع وأمتثل وفعل ما أمر به. وهذا ما لا خلاف بينهم في إطلاقه واستعماله وإيجاب اسم الطاعة والامتثال بأوائل، لفعل، فثبت بذلك أن معقول مطلقه فعل مرة واحدة. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون معني قولهم أطاع وامتثل وفعل ما أمر به إذا فعل المرة الواحدة إنه فعل بعض ما أمر به دون جميعه، وما هو من الفعل فرض وقته، لأنه لا يمكن التكرار في الزمن الواحد، فلذلك يسمي ممتثلاً. قيل لهم: هذا تأويل يجعل إطلاق قولهم امتثل أطاع وفعل ما أمر به مجازاً ولا سبيل إلى ذلك، لأن ظاهر قولهم قد فعل ما أمر به ينبئ عن فعل جميع ما كان أمر به وتناوله الأمر (فمن صرفه إلى بعض ما أمر به خالف مقتضي إطلاقهم)، ولا سبيل إلى ذلك 0 ويقال لهم أيضاً: إذا كان من فعل الفعل مرة واحدة، قيل له بعد فراغه منه وترك التشاغل بمثله قد امتثلت وأطعت وفعلت ما أمرت به، وهو عاص مفرط بترك استدامة الفعل والدخول في تركة في وقت هذا القول له وجب أن يكونوا قد قالوا في العاصي والمفرط أنه مطيع ممتثل، ولم وجب أن يقال: أنه ممتثل مطيع بفعل مرة واحدة أولي من أن يقال بل هو عاص مفرط/ بترك الاستدامة للفعل؟ وأن يوصف بالشقاق والعصيان، وهذا أولي لأنه في حال الترك لاستدامة الفعل عاص عندهم على الحقيقة، وإنما كان مطيعاً قبل ذلك هو بتسميته بما هو متلبس فيه ومستديم له من العصيان بترك التكرار أولي وأحر، وإذا اتفق على أن من هذه حاله موصوف بأنه مطيع وممتثل غير عاص ولا مخالف دل ذلك على فساد ما قالوه. ولو كان الأمر على ما ذكروه لوجب أن لا يستحق أحد اسم

ذكر شبه من قال إنه على التكرار والجواب عنها

مطيع فيما أمر به إلا عند موته وانقطاع تكليفه، لأنه إذا استدام الفعل السنة والاثنين كان مطيعاً في بعض ما أمر به على قولهم، فيجب أن لا يستحق إطلاق اسم مطيع إلا عند موته. وفي الاتفاق على فساد ذلك دليل على سقوط هذا القول. ذكر شبه من قال إنه على التكرار والجواب عنها قالوا: ويدل على ذلك أنه لو قيد الأمر بذكر وقته، فقال، افعله في وقت كذا لتقيد ولزم فعله فيه مرة واحدة. وإذا أطلق بغير توقيت لزم فعله في سائر الأوقات. يقال لهم: لا يجب ما قلتموه، لأنه لو قيد الأمر بذكر الوقت للزم إيقاعه فيه بعينه، ولحق الإثم والتفريط بتركه فيه، وإذا أطلقه بغير توقيت كانت جميع الأوقات وقتاً له. وصار على التراخي، ونحن نقول إنه لا توقيت في المطلق، لكن ذلك لا يوجب الدوام على ما ظننتم، فوجب أن يكون فعله على التراخي، واستدلوا - أيضاً- على وجوب التكرار بأن مطلق الأمر اقتضي إيقاع الفعل في جميع الأزمان، لأنه لا تحديد فيه، فصار بمثابة قوله افعله دائماً في سائر الأوقات وبمنزلة قوله: اقتلوا المشركين في تناوله لجميع الأعيان. يقال لهم: هذا باطل، لأجل أنه إذا قال: صل وأضرب فلم يذكر الزمان بلفظة توحيد ولا تسمية ولا جمع معرف ولا منكر، وإنما ذكر جنس الفعل فقط. وإنما اقتضي الدليل، إيقاعه في وقت ما غير معين، فدعوي عموم الأزمان فيه خطأ، لأنه لا ذكر جري للزمان في قوله أضرب وصل، وإنما يدعي العموم من لفظه.

ولفظه هو أن يقول: صل في الأزمان معرفاً أو أزمان منكراً. أو صل أبداً دائماً سرمداً وما بقيت ونحوه/ ص 181 حتى يجري ذلك مجري قوله اقتلوا المشركين، لأن الياء والنون علامة للجمع، وهو اسم جمع بني من لفظه واحدة، ولا ذكر له في القول صل فسقط ما قالوه. واستدلوا - أيضاً- على ذلك بأن قالوا: قد اتفق الكل من أهل اللغة وغيرهم على أن معقول مطلق النهي عن الفعل دوام الكف عن فعله في جميع الأوقات على تكرار الترك له والكف عنه، وكذلك يجب أن يكون معقول مطلق الأمر الدوام والتكرار في جميع الأحوال. قالوا ويؤكد هذا اتفاقهم على أن معقول الأمر أنه رافع لموجب النهي. فإذا كان النهي عنه يوجب الترك له والكف عنه في جميع الأوقات، وكان الأمر به يقتضي النهي عنه، ورافعاً له كان موجباً لضد موجبه، فإذا كان موجب النهي تركه في جميع الأوقات كان موجب الأمر نقيضه، وهو فعله في جميع الأوقات. فيقال لهم: هذا باطل من وجوه: أحدها: إننا إنما نتكلم في موجب اللغة. واللغة لا تقاس، وقد بينا ذلك من قبل ولا نتوصل إلى معني النطق بها. وفائدة اللفظ الموضوع فيها بالأدلة والاستخراج. وإنما يصار إلى ذلك بتوقيفهم، وإذا كان ذلك كذلك لم يجب لو سلمنا أن معقول مطلق النهي بالاستعمال دوام الكف عن المنهي عنه أن نقول

فيجب أن يكون معقول الأمر به دوام فعله والإقدام عليه، لأن ذلك قياس. واللغة لا تقاس. والوجه الآخر: إننا لسنا نعلم حصول هذا الاتفاق الذي ادعوه في النهي ووجوب استدامة الكف عن الفعل أبداً دائما، يجب أن نقول أن معقول ذلك الكف عنه مرة واحدة وقدر ما إذا وقع منه من الكف قيل قد أنتهي وامتثل، وفعل موجب النهي فهو إذا كالأمر سواء. ووجودنا في الشريعة أموراً قد وجب الكف عنها أبداً إنما صير إليه بغير مطلق النهي. وكذلك ما وجدناه من العبادات الواجب تكرارها. فإنما وجب ذلك فيها لدليل غير إطلاق الأمر فسقط بذلك ما قالوه. ويدل على هذا حسن الاستفهام في ذلك وقول المكلف عند النهي له عن الفعل أتركه أبداً أو وقتاً واحداً أو أوقات محصورة وكيف كنت وتصرفت في الحال، ونحو هذا. ولو كان معقول مطلق الدوام لقبح الاستفهام./ ويدل على ذلك - أيضاً- أنه لو قال له إنه عن الفعل مرة واحدة لتقدر بذلك. وكذلك لو قال انته عنه مرتين لتقدر يهما. ولو قال أنته عنه أبداً للزم الكف عنه دائماً. فصار النهي في هذا على الوقف على ما كنا خبرنا به في أول الباب في حكم الأمر على أحد الجوابين، أو وجب على الجواب الثاني أن يقال: إن معقول الكف مرة واحدة، ولا معني (لقول من قال) بعد هذا إن القول بذلك خروج عن الإجماع، لأنه دعوي لا أصل له. والجواب الآخر أن نقول: يجب الرجوع في ذلك إلى أهل اللغة. وقد قالوا عند أكثر الناس إن موضوع مطلق قول القائل لا تضرب زيداً ولا تدخل الدار، أي لا يكن منك هذا الفعل أبداً، فأي وقت فعلته فقد خالفت، وذلك شاهد لما قلناه لأنهم - أيضا- قد قالوا إن معقول قوله أضرب زيداً، وأدخل الدار، أي ليكن منك ما تسمي به مطيعاً ممتثلاً، وهو يستحق التسمية بذلك بفعل مرة

واحدة على ما بيناه من قبل، فوجب اقتضاء النهي لتكرار الكف والاجتناب وانقطاع الأمر بفعل مرة واحدة، ولأجل أنهم يقولون على هذا إنه متى فعل ما نهي عنه. قيل إنه عاص. ومتى ما أمر به دفعة واحدة. قيل إنه ممتثل مطيع، فصار ما ذكروه في النهي شاهداً لقولنا. ولا وجه لقول من فصل بين الأمر والنهي في هذا الباب بأن حمل الأمر على الدوام فيه مشقة وتكليف لما لا يطاق وانقطاع عن المصالح وترك العبادات وإهلاك الحرث والنسل. وليس في حمل النهي على تكرار مشقة وتكليف لما لا يطاق ولا ترك لغير المنهي عنه من العبادات وانقطاع عن المصالح فأفترق الأمران، لأن أول ما في هذا الجواب أنه إثبات لموجب اللغة ومقتضي اللسان بالقياس وأدلة العقول. وكأن قاتل هذا يقول: إنما قلت بحمل النهي على التكرار، لأنه ليس بتكليف لما لا يطاق. ولو أقل في ذلك الأمر لأنه مقتض لذلك. وهذا نظر واستخراج وما لا يثبت بمثله لغة فبطل الفصل بما قالوه، على أنه يجب عليهم حمل الأمر على ما في الوسع والإمكان وقدر ما لا يكون متقطعاً عن الفروض والمصالح بحق فصلهم هذا. فأما أن يجب الفعل مرة فقط. وفي الوسع والطوق أكثر منها فباطل، لا يوجبه/ ص 183 فصلهم. وفرق - أيضاً- بعضهم بين ذلك بأن قال: لما كان النهي مقتض قبح المنهي عنه ويدل عليه وجب الكف أبداً عن فعله. ولما كان الأمر يقتضي حسن المأمور به لم يجب على الدوام عليه. وهذا - أيضاً- باطل من وجوه: أحدها: إنه إثبات لحكم اللغة وفائدة التخاطب الدال بالمواضعة والمواطأة

بأدلة العقول، وليس برجوع إلى نقل وتوقيف، وذلك باطل. والوجه الآخر: إنه قد أخطأ القائل بأن مطلق النهي يقتضي قبح المنهي عنه، لأن النهي قد يكون ندباً وتنزيهاً وفضلاً ليس على الوجوب والتحريم، كما يكون الأمر ندباً لا إيجاباً. وقد دللنا على ذلك من قبل. وأخطأ - أيضاً- في قوله: إن النهي إذا دل على قبح المنهي عنه دل على قبح أمثاله في جميع الأوقات، لأن مثل القبيح المنهي عنه في وقت يكون حسناً مأمور به في وقت آخر، ومثل الحسن الواجب في وقت من العبادات يكون حراماً قبيحاً في وقت أخر وصاحب هذا الفرق توهم أن مثل القبيح لا يكون أبداً قبيحاً. ليس الأمر على ما ظنه. وقد أخطأ - أيضاً- في قوله إن الأمر إنما يدل على حسن المأمور به. وإذا دل على حسنه وجب فعله مرة واحدة. فإن الحسن لا يجب فعله مرة واحدة من حيث كان حسناً ولا على الدوام، ولأن من الحسن ما يجب الدوام على امتثاله. ومنه ما لا يجب إلا مرة واحدة كالحج الواجب. وقد يكون من الحسن ما لا يجب مرة واحدة. ولا على الدوام وهو النقل المندوب إليه، فبطل ما قالوه ووجب الاعتماد على ما قلناه من قبل في الفرق بين الأمر والنهي عند من قال إنهما مفترقان فيما ادعوه. واستدلوا على ذلك - أيضاً- بأنه لا خلاف في أنه يجب تكراره إذا قيد

بشرط وصفة، نحو أن يقول: صل إذا زالت الشمس، ونحو ذلك. وهذا - أيضاً- باطل لما ندل عليه من بعد، وأنه لا فرق بين المقيد من ذلك وبين المطلق في إنه يجب الوقف فيهما. أو فعل مرة واحدة. فأما استدلال من أستدل منهم على وجوب التكرار بأنه قد وجد الأوامر في الشرعة بالعبادات على التكرار، فإنه لا حجة فيه، لأن هذا لو ثبت على ما قاله لكان إنما وجب بدلالة غير مطلق الأمر، ثم إن هذا ليس على ما أدعاه، لأن في الشرعة واجبات وعبادات ليست على التكرار نحو الحج وما جري مجراه مما لا يجب فعله إلا مرة واحدة فبطل ما قالوه. وإن قالوا ما يجب به فعل مرة واحدة/ ص 184 من الحج وغيره لم يجب بمطلقه. وإنما وجب بدليل أقترن به. قيل لهم: وكذلك ما وجب تكراره لم يجب بمجرد الأمر، وإنما وجب بدليل أوجب ذلك في حكمه، ولا فصل في ذلك.

باب القول في حكم المأمور به والمنهي عنه

باب القول في حكم المأمور به والمنهي عنه المتعلقين بصفة أو شرط هل يتكرر بتكرر الصفة والشرط أم لا؟ وقد أختلف الناس - أيضاً- في هذا الباب. فقال كل من زعم أن مجرد الأمر والنهي يقتضي التكرار، أنهما إذا علقا بصفة أو شرط وجب تعلقهما بذلك على التكرار، وكان أكد في إيجابه كذلك عند تكرار الشرط والصفة. وأفترق القائلون بأن مجرد الأمر بالفعل العاري من الصفة والشرط لا يوجب التكرار فيه. فقال كثير منهم - أيضاً- إنه إذا علق بصفة أو شرط يوجب التكرار بتكررهما، كما لا يوجب ذلك بمجرده. وهذا هو الصحيح الذي نقول به.

وقال الفريق الآخر: إنه يوجب التكرار بتكرر الصفة والشرط، وإنه في ذلك مخالف لتكرر الأمر المجرد منهما. وكذلك حكم اختلافهم في النهي المقرون بصفة أو شرط على هذا النحو. فزعم قوم إنه لا يتكرر وجوب ترك المنهي عنه لتكرر شرط النهي عنه، وعليه كل من قال إنه لا يجب تكرار وجوب ترك المنهي عنه بمجرد النهي. وقال فريق منهم: يجب تكرر ترك وجوبه بتكرر الشرط. فصل: وكل دليل ذكرناه في أن مجرد الأمر لا يوجب التكرار فهو بعينه دليل على أن تعليقه بالصفة أو الشرط لا يوجب التكرار. وأن النهي- أيضاً- في هذا الباب مطلقه ومشروطه جارٍ مجراه وذلك بين عند التأمل، فلا حاجة بنا إلى الإطالة برده. ومما يدل على ذلك أيضاً- إنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المطلق العاري من الشرط لا يقتضي إلا فعل مرة واحدة وجب- أيضاً- إذا قيد بصفة أو شرط أن يقتضي ما يقتضيه مجرده. لأن إدخال الشرط في الكلام لا يؤثر في تكثير الفعل وتقليله. وإنما تأثيره في أنه لا يوجب ما يوجبه مطلق الأمر. دون أن يكون بذلك الشرط أو الوصف، لأن مطلق الأمر إنما يقتضي فعله كيف تصرفت الحال. فإذا قال: اضرب زيداً إن كان قائماً، أو إذا كان قائماً، أو إن قام لم يجز ضربه إلا بحصول الشرط، فوجب أن يكون هذا هو الفرق بين المطلق والمشروط.

ويبين هذا ويوضحه اتفاقهم على أنه لو قال القائل لوكيله طلقها، إذا دخلت/ ص 185 الدار أو إن دخلت الدار لم يكن موكلاً له بطلاقها كلما دخلت الدار ومتى دخلت، ولم يفهم منه إلا فعل مرة مع وجود أول الدخول. ولو قال له وكلتك بطلاقها كلما دخلت الدار، وأي وقت دخلت الدار، ومتى دخلت الدار لكان موكلاً له بتكرار الطلاق كلما دخلت. وكذلك لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، وإذا دخلت الدار لم يتكرر الطلاق بتكرار الدخول، ولو قال: كلما دخلت وأي وقتٍ دخلت تكرر. ومن أنكر العموم من الفقهاء والمتكلمين لا يوجب تكرر ذلك بتكرر الشرط ولا بقوله كلما دخلت، وأي وقت دخلت، لأن هذا اللفظ يصلح للبعض ويصلح للكل. وإنما يوجبون ذلك عليه من جهة حكم الشرع. فإذا قرر الشرع ذلك عند أهل الوقف وأصحاب الخصوص لم يقرر مالا يصلح له اللفظ ويحتمله. وإنما قرر بعض محتملاته، فيجب الوقوف على ذلك. ومما يبين أن حكم المطلق والمشروط في هذا وفي الأمر والنهي سيان أن المخبر إذا قال: زيد يضرب عمراً صادق في# خبره إذا ضربه دفعة واحدة ولم يكرر ضربه. وكذلك لو قال: زيد يضرب عمراً إذا قام، وجب أن يكون صادقاً

ومستوفياً لموجب الخبر، إذا وقع الضرب دفعة واحدة، وكذلك حكم الأمر والنهي، فثبت أن مطلقه ومقيده في ذلك سواء. فصل: وقد تعلق القائلون بموجب تكرار الفعل بتكرار الأمر به، إذا كان مشروطاً بأنه لو لم يجز ذلك لوجب أن يكون المفعول ثانياً وثالثاً بعد تقضي الشرط وترك الفعل مع حصول مفعولاً على سبيل القضاء لا على وجه الأداء. ولما بطل ذلك وجب أن يكون على وجه التكرار. وهذا ليس على ما ادعوه، لأن كل ما تقضي وقته بشرطه وترك مع حصولهما فإنما يفعل بعد ذلك على سبيل القضاء بأمر ثانٍ كان سببه تفريطاً لزم في مثلٍ له كان وجب، على ما نبينه من بعد، فبطل ما قالوه. واستدلوا- أيضاً- على ذلك بأنه إذا وجب تكرر الحكم بتكرر عليه وجب- أيضاً- تكرره بتكرر شرطه، لأن الشرط كالعلة. وهذا- أيضاً- باطل، لأن الشرط في هذا مفارق للعلة، لأنها إن كانت علة عقلية فهي موجبة لنفسها ومحال وجودها ووجود مثلها وليست بعلة، لأن ذلك نقض لها وقلب لجنسها. وإن كانت شرعية فهي مع التعبد بالقياس علامة على وجوب الحكم أين وجدت ومتى وجدت إلا على قول القائلين بتخصيص العلة من أهل العراق/ ص 186 فإن قال

قائل بقولهم فقد جوز أن يكون مثل العلة الشرعية غير علة، فتجويز مثل هذا في الشرط أقرب، لأن الشرط ليس بعلة ولا دلالة على وجوب المشروط متى وجد الشرط، لأن في هذا وقع النزاع، وكذلك من قال إن العلة المنصوص عليها يصح تخصيصها دون المستنبطة قد جوز أن يكون مثل العلى غير علة. وكذلك النص على الشرط لا يوجب أن يكون مثله شرطاً لإيجاب المشروط. وإذا كان ذلك كذلك فقد سقط ما استدلوا به على أصول هؤلاء، وسقوطه- أيضاً- بين على أصولنا من قبل أن مثل الشرط بإتفاق لا يكون شرطاً، ولهذا لم يكن دخول الدار ثانياً وثالثاً شرطاً موجباً لوقوع الطلاق، وإن كان الدخول الأول شرطاً لوقوعه، فكذلك قد يجوز أن يكون مثل الشرط لوجوب الفعل غير شرط له. لأن القائل إذا قال: إذا دخلت الدار فاشتر لي عبداً، وإذا دخلت السوق فاشتر لي ثوباً لم يجب أن يعقل منه وجوب تكرار الشراء كلما دخل. والعلة الشرعية وضعت علامة على الحكم مع التعبد بالقياس. فلو لم توجبه في موضع من المواضع لبطل كونها علاقة فافترق الأمران. فصل: واستدلوا- أيضاً- على وجوب تكرر الفعل بتكرر الشرط، بأنهم وجدوا هذا الحكم في الكتاب نحو قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} وقوله تعالى {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} قالوا فقد وجب تكرار الغسل والوضوء بتكرر القيام من النوم وتكرر الجنابة، فصح ما قلناه. يقال لهم: ليس وجوب تكرر ذلك لتكرر الشرط وموجب اللغة، وإنما وجب تكرر ذلك بالتوقيف والشرع. ولولا إيجاب الشرع لما اقتضاه تكرر الشرط من حيث كان شرطاً، فسقط ما قلتم على أن ما قالوه لا يجب بتكرر الشرط، لأنه لو قام من النوم ولم تجب عليه صلاة أو كان جنباً لم تجب عليه الصلاة لم يجب عليه الغسل ولا الوضوء، وإنما يجبان عليه متى كان جنباً أو قائماً من النوم

والصلاة واجبة عليه. وأما إن لم تجب عليه الصلاة لم يجب ذلك، فبطل ما قالوه. على أنه يقال لهم: فقد وجد في الشرع عبادة مشروطة بشرط لا يجب تكررها بتكرر شرطها وهي الحج، لأنه تعالى قال: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} وذلك بمثابة قوله متى استطاع إليه سبيلاً. وإذا استطاع إليه، ثم لم يجب تكرر وجوب الحج عند تكرر الاستطاعة/ ووجود ص 187 السبيل، فبطل ما قلتم. فإن قالوا: إنما سقط وجوب ذلك بدليل اقترن باللفظ. قيل لهم: وإنما وجب تكرر غسل الجنب ووضوء القائم للصلاة من النوم إذا وجبت عليهما الصلاة بدليل، لا بنفس الشرط، ولا فرق في ذلك. واستدلوا- أيضاً- على ذلك بأن النهي المعلق بصفة أو شرط يجب تكرر ما اقتضاه بتكرر رطه وصفته. فكذلك حكم الأمر، وهذا باطل، لأنهما عندنا سيان لا يجب التكرار فيهما. على أن أكثر الناس يوجب في النهي ضد ما قالوه لأنهم يزعمون أن مفهوم مطلق النهي بغير شرطٍ يوجب تكرار ترك المنهي عنه واجتنابه أبداً بضد ما يوجبه مطلق الأمر، لأن مطلق الأمر يوجبه مرة واحدة، ومطلق النهي يوجب الترك والاجتناب على التأبيد. وإذا قيد النهي بشرط إلى مدة لم يعقل منه إلا وجوب الترك والاجتناب دفعة واحدة عند أول ما يوجد من الشرط، لأن القائل إذا قال لعبده لا تدخل الدار، ولا تكلم زيداً مطلقاً كان ذلك على التأبيد، وإذا شرطه فقال: لا تدخل الدار إذا قام زيد، وإذا قدم عمرو، لم يعقل من ذلك إلا وجوب الكف دفعة واحدة مع أول الدخول. فهذا بضد ما قالوه.

فصل: في ذكر معنى الصفة والشرط المعلق بهما الأمر والنهي

ويشهد لذلك الشرع- أيضاً- لأن حالفاً لو قال: والله لا كلمت زيداً للزمه الحنث والكفارة متى كلم ولو قال: والله لا كلمته إن أكل طعاماً أو دخل الدار لم يلزمه من ذلك تكرار الحنث والكفارة كلما دخل وأكل. فوجب أن يكون معقول الفعل المشروط أكد في أنه لا يجب تكراره، فسقط ما قالوه. فصل: في ذكر معنى الصفة والشرط المعلق بهما الأمر والنهي فإن قيل: فما الصفة والشرط المعلق بهما الأمر والنهي؟ قيل: هما كل أمر علق وجوب إيقاع الفعل المأمور به أو الكف عن المنهي عنه والاجتناب له به، ولم يصح إيقاعه واجتنابه إلا بحصوله وسواء كان شرطاً بالمكان أو الزمان الذين ليسا من مقدورات العباد والصفات التي ليست بأفعالٍ لهم أيضاً، نحو الصحة والقدرة وكمال العقل، ونحو ذلك. أو كان الشرط من اكتساب العبد، نحو أن يقال له: صل إن كنت متطهراً. وصم إن كنت ناوياً، وكفر إن كنت حانثاً وحالفاً، بأن لا يفعل ما فعله في أمثال هذا مما يكون الشرط لوجوبه وللأمر بفعله أو النهي عنه شيئاً من كسب المكلف. وقد جعل الوقوف بعرفة شرطاً لصحة الحج، والمسجد شرطاً لصحة الاعتكاف عند القائل بذلك/ ص 188، وزوال الشمس وطلوع الفجر شرطين لما يجب عندهما من العبادات، وكذلك القدرة والصحة، وكمال العقل، وكل ذلك ليس من كسب العبد، فيجب أن يكون الشرط هو ما وصفناه من هذه الأنواع والأقسام. فصل: ومن حق الشرط أن يكون مستقبلاً غير ماضٍ ولا واقع في حال

الخطاب. إذا كان بلفظ يقتضي الاستقبال، نحو أن يقول: إذا قام زيد فكلمه أو فاضربه، ونحو ذلك، و "إذا "و "إن "يوجبان استقبال الفعل الذي هو الشرط. ولا معنى لقول القائل: إذا قام زيد فاضربه مع كون زيد قائماً وقت الخطاب. وإذا قال: اضرب زيداً إن كان قائماً أو راكباً صح أن يكون ما شرط بع الفعل واقعاً متقدماً، لأن معنى هذا اضربه إن وجدته قائماً أو راكباً. ومن سبيل الشرط أن يكون مما يصح حصوله ويجوز كونه، وتصح القدرة عليه إن كان من كسب العبد، على قول من لم يجز تكليف المحال من أهل الحق. فأما من أجاز ذلك فلا يوجب كونه بهذه الصفة من جهة العقل، وإن كان الشرع لم يرد بذلك، ولم يجعل الشيء من العبادات شرطاً مستحيلاً. ولهذا لم يحسن عندهم أن يقال للمكلف صل إذا تحرك زيد في حال سكونه. وصل إذا كنت فاعلاً للشيء غير فاعل له وجامعاً بين الضدين، وإذا كنت في مكانبن، ونحو ذلك من المحال الممتنع من فعل الله سبحانه وكسب العبد، والأولى في هذا أن الأمر إذا ورد مشروطاً بالمحال لم يكن المكلف مأموراً بشيء لاستحالة وقوع الشرط، لأنه إذا قال له: صل إذا كان زيد متحركاًً ساكناً وعالماً جاهلاً. وزيد لا يجوز أن يكون كذلك أبداً لم يلزمه نحو هذا الأمر بشيء، وإنما تكليف المحال أن يقال له كن متحركاً ساكناً وعالماً جاهلاً ومخترعاً للأجسام، وجامعاً بين الضدين، وإذا كنت في مكانين. وهذا هو الذي لم يرد في العبادات. وأما أن يقال: إن الأمر المشروط بالمحال أمر بفعل ما، فبعيد لا يصح القول به. فصل: ومن سبيل الشرط- أيضاً- أن يكون معلوماً متميزاً للمكلف، وأن يكون له إلى العلم به سبيل على قول من منع تكليف المحال. فأما من أجاز ذلك، فإنه

لا يوجبه/ ص 189 لأنه لا يجوز على القول الأول أن يقول له: صل إذا اخترعت جسماً في السماء، وإذا تشاجرت الملائكة، وإذا كان حمل المرأة ذكراً أو أنثى. وإن كان زيد مستنبطاً للإيمان أو الكفر، وأمثال هذا من الغيوب، التي لا سبيل إلى علمها. هذا هو الذي تقرر عليه حكم الشرع. فصل: ويجب أن يقال: إن الصفة التي من جملة الشروط هي ما يصح حصوله قائماً بالمكلف أو بغيره من الأحياء والموات وما ليس هذه سبيله، فليس بصفة على الحقيقة، من اختراع الأجسام، وما جرى مجرى ذلك غير أن الصفة التي هي شرط قد تكون صفة للمكلف، وتكون من كسبه ومن غير كسب. وقد تكون صفة لغيره، هذا هو الفرق بين معنى الصفة التي هي شرط، وبين الشرط الذي ليس بصفة. فصل في ذلك وقد اتفق على أن ما هو شرط وصفه لحكم عقلي، فإنه لا يوجد هو ومثله إلا وهو مشرط، وذلك نحو وجود الجسم الذي هو شرط لوجود صفاته، والحياة التي هي شرط لوجود العلم والقدرة وجميع صفات الحي. وإن كان الشرط للعبادة الشرعية لا يجب كونه وكون مثله شرطاً أبداً، وأن الشرط الشرعي ليس ذلك من حقه، فلذلك لا يجب كون استطاعة الحج شرطاً لوجوبه أبداً. وكذلك سائر ما جعل شرطاً للعبادات من الأمكنة والأزمنة وأوصاف المكلفين وغيرها. فليس العقلي في هذا الباب كالشرعي، فيجب علم ذلك.

باب القول في الأمر إذا تكرر هل يوجب تكرار المأمور به أم لا؟

باب القول في الأمر إذا تكرر هل يوجب تكرار المأمور به أم لا؟ اختلف الناس في هذا الباب فقال كثير منهم: إنه لا يجب ذلك فيه وحملوا تكرار الأمر بالفعل على وجه التأكيد للأمر. وقال آخرون: يجب تكرار المأمور به بتكرار الأمر به. قالوا: لأن كل واحد منهما لو انفرد لأوجب فعلاً فوجب أن يوجبا فعلين بالاجتماع. والذي يجب تحصيله في هذا الباب أن يقال: إن ثبت بطريق ما وعلم أن تكراره خارج على وجه التأكيد لم يلزم به إلا فعل مرة واحدة، وإن لم يقم على ذلك دليل وجب القضاء بتكرار المأمور به لتكرره، وهذا الاختلاف إنما هو في

تكرار الأمر/ ص 190 بالفعل الواحد أو الجنس من الفعل، نحو أن يقول اضرب زيداً ثم يقول ثانياً اضربه وصل، ثم يقول له ثانياً صل. ولم يختلفوا في أنه إذا تكرر بأفعال مختلفة فإنه يقتضي إيقاع تلك الأفعال كما لو أن يقال: أسلم وصل وصم ونحو ذلك. والأولى في هذا أن لا توصف بأنها أوامر متكررة. بل يقال متتابعة ومترادفة ومتعاقبة ونحو ذلك. والمخصوص باسم التكرار ما تعلق بجنس واحد. بل يجب أن يكون ما تعلق بالفعل الواحد من الجنس. فأما إذا تعلق بفعلين غيرين من الجنس لم يكن متكرراً. وإن كان جنس المأمور ب متكرراً. فصل: واعلموا- رحمكم الله- أنه ليس في العبادات المأمور بها ما أمر الله تعالى بعض المكلفين بتكراره بعينه، وفعله مرة بعد أخرى، لأجل أن ذلك لا يتميز للعبد، ولا يعلمه على ما بيناه في أصول الديانات. والقدرية متفقة على استحالة تكليف ذلك لقولهم باستحالة إعادة شيء من أفعال المكلفين الباقي منها عندهم وغير الباقي لشبهٍ لهم، ليس هذا موضع ذكرها. وقد تقصيناها في الكلام في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه عن الإطالة، وإنما يريد الفقهاء بوجوب تكرر فعل المأمور به لتكرر الأمر أو سقوط ذلك فعل مثل المأمور به ثانياً وثالثاً. وكل ما تكرر الأمر به. وليس فعل مثل الشيء باتفاق تكراراً لفعله. وإنما هو ابتداء لفعل مثل وغير له هو منفصل عنه، فيجب ضبط هذا.

ما يمنع تكرر وجوب امتثال الفعل بتكرر الأمر

فصل: والذي يمنع من تكرر وجوب امتثال الفعل بتكرر الأمر به أمور: أحدها: أن يكون امتناع تكرر مثله وتعذر تأتيه معلوما استحالته من جهة العقل. وقد يمنع من ذلك مانع بحكم الشرع. ويمنع منه - أيضا- أن يكون الأمر الأول عاما مستوعبا بلفظه أو بدليله. وقد يمنع من ذلك عهد بين الآمر والمأمور في وجوب حمل المتكرر من الأوامر على أمر واحد. ويمنع من ذلك عرف عادة. فأما ما يتعذر تكرار مثله لامتناعه في العقل فنحو امتناع تكرر قتل المقتول وكسر المكسور وأمثال ذلك، لأنه محال وجود قتل المقتول بعد قتله لامتناع قتل المقتول. وكذلك أكل ما أكل، وما جرى مجرى ذلك، لأنه ممتنع /تأتي مثل القتل الأول في الثاني. والأمور على ما هي عليه. وإذا قال له: اقتل زيدا اقتله، واكسر الإناء اكسره. وعلم أن القتل والكسر لا يتأتى في قضية العقل ومستقر العادة إلا دفعة واحدة حمل تكرار الأمر على طريق التأكيد وجعل أمرا واحدا. وأما ما يتعذر مثله من جهة حكم الشرع. فهو أن يقول له اعتق عبدك، ثم يقول له: اعتقه واعتقه، وطلق هذه المرأة ثلاثا وطلقها. وأمثال هذا مما قد منع الشرع من تكرار أمثاله. وجعله متعذرا، لأنه إذا أعتق مرة وطلق ثلاثا حصل العبد حرا والمرأة بائنة. وقد حكم الشرع بتعذر عتق الحر وطلاق من ليس بزوجة. وقد يمنع من تكرار مثل الفعل بتكرر الأمر كون الأمر الأول عاما مستغرقا لجميع ما يتناوله الاسم إذا علم كونه عموما، لأنه إذا كان ذلك كذلك لم يبق منه

متى يحمل التكرار على التأكيد

شيء يتناوله الأمر الثاني. فإذا تكرر تناول الأمر الثاني نفس ما تناوله الأول. وكذلك إذا ذكر في الثاني بعض ما اشتمل عليه العام الأول. نحو أن يقول اقتلوا المشركين، ويقول اقتلوا الوثنيين والمجوس وأمثال هذا. لأن الثاني منه متناول لبعض ما تناوله الأول. فيجب حمل أمثال هذا على التأكيد. وكذلك إذا عهد الآمر إلى المأمور، فقال إذا كررت أمرك بضرب زيد أو بالصلاة، فاعلم أنني أريد بالمتكرر منه فعلا واحدا، فلا تفعل أكثر منه وجب لذلك حمل المتكرر من الأوامر - مع العهد بهذا- على التأكيد وفعل مرة واحدة. وقد يعلم أن الأمر صادر على جهة التأكيد، لا على تكرار الفعل بعادة وشاهد حال. نحو قول المرء لعبده: اسقني ماء، واسقني واسقني، لأنه قد علم أنه إنما يريد منه شرب ما يزيل عطشه لا التكرار. ونحو هذا مما يعرف بمستقر العادة. وقد قال أهل اللغة: إن الشيء لا يعطف على نفسه، فيجب إذا أراد بالأوامر التأكيد أن لا ينسقها بالواو بل يقول: اسقني ماء اسقني اسقني. فصل: ويجب أن يكون لا فصل في وجوب تكرر الفعل بتكرر الأمر به إذا لم يكن على مذهب الإتباع والتأكيد بين أن يكون المتكرر من الأوامر واجبا أو ندبا، فإنه قد يندب إلى تكرار الأفعال كما /ص 192 يوجب تكرارها، ويكون المتكرر ندبا كله، كما يكون المتكرر من الواجب واجباً كله.

واعلموا أنه لا خلاف في أن تكرر الأمر بالفعل بعد فعل موجب الأمر الأول منه في حمله على التكرار، لأنه إذا قال: اضرب زيدا، فضربه. ثم قال اضربه. فلا شك أنه ليس بآمر له بالماضي من الفعل، وإنما يأمره بإيقاع مثله. وإنما الشبهة والاحتمال يقعان في ذلك قبل الامتثال من غير تغاير وقت الضرب، إذا قال: اضرب اضرب، لأنه يصح قبل إيقاع الفعل أن يكون المتكرر من الأمر به صادرا على وجه التأكيد والإتباع، وأن يكون خارجا عن وجه الأمر بالتكرار. وليس لأحد أن يقول: ولم لا يصح أن يأمر بالواقع من الفعل بعد وجوده، لأن جواز القول بذلك قول بإيجاب إعادة الفعل على المكلف بشريطه عدمه، أو بأن يفعله مع بقائه إن كان المطالب بذلك ممن يجوز بقاء بعض أفعال المكلف. وقد بينا في الكلام في أصول الدين استحالة تعلق قدرة كل قادر بالباقي الكائن بغير حدوث. وبينا أنه لا يصح أن يؤمر العبد بإعادة الفعل بعد عدمه، من حيث لم يتميز له ويعرفه بعينه، وإن جاز إعادة القدرة عليه. وأما من أحال إعادة شيء من أفعال العباد الباقي منها وغير الباقي، فلا يسوغ له هذه المطالبة. وجملة المعتمد في وجوب تكرر مثل الفعل لتكرار الأمر، إذا لم يكن على وجه التأكيد أن من حق كل أمر بالفعل إذا تجرد أن يكون معلقا بمأمور به فإذا لم يرد على التكرار وجب تكرار الفعل بحق كل واحد منهما. ويدل على هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إنَّ

مَعَ العُسْرِ يُسْرًا} إنه قال: "لن يغلب عسر يسرين" لأنه عقل بتكرر ذلك العسر المعرف بالألف واللام عسرا واحدا، وبتكرر اليسر منكرا يسرين، فقال لن يغلب عسر يسرين. وقد قيل: إن اليسرين الذين يكونان مع العسر، يسر الدنيا بالفرج وإزالة العسر بعده، ويسر الآخرة بالثواب على الصبر على العسر، والضنك العارض للعبد في الدنيا. ويدل على ذلك ويوضحه ما عليه الفقهاء من وجوب حمل الإقرارين والوصيتين والطلاقين، وكل ما يتأتى /ص 193 تغاير موجبه على موجبات متغايرة دون التكرار، ولذلك أوجبوا بقول القائل: له علي دينار ودينار ثلاثة دنانير. وكذلك إذا قال في وصيته يعطي زيدا دينارا. وكذلك لو قال: هي طالق هي طالق وجب عليه تكرار الطلاق، ولا وجه لحمل من حمل ذلك في الوصية والإقرار على التأكيد دون التكرار مع احتمال تغاير موجبه وكون كل واحد منهما متعلقا بمتعلق يستند به لو انفرد عن صاحبه. فإن قال قائل: فهلا وقفتم في تكرار الأمر، وجوزتم أن يكون المراد به التأكيد دون تكرار أمثال الفعل لكونه محتملا لذلك، كما وقفتم في لفظ الأمر والعموم، وسائر ما أخبرتم باحتماله.

قيل: لأجل أن كل لفظة من تلك الألفاظ لفظة واحدة معرضة ومحتملة للأمرين والأمر الثاني بالفعل قول غير الأمر الأول، منفصل عنه. ولكل واحد منهما موجب غير موجب الآخر. ومتعلق إذا انفرد. والاجتماع لا يخرجه عن ذلك، فافترق الأمران. فصل: وليس يبعد أن يقال: إن مثل هذا اللفظ يحتمل التأكيد للأمر بفعل واحد، ويحتمل تكرار المأمور به إذا جعل أوامره متغايرة، وإن كان الظاهر أنها أقوال وأوامر متغايرة، لو انفرد كل شيء منها لاقتضى فعلا مأمورا به. فصل: وقد بينا من قبل إنه لا خلاف في أنه إذا كان أحد الأمرين المعطوف أحدهما على الآخر أمرا بخلاف متضمن الأول. فإنه موجب لفعلين. نحو قوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وأمثال ذلك، لأنه أمر بجنسين مختلفين. وكذلك الأمران المعطوف أحدهما على الآخر إذا كانا أمرين بضدين، نحو أن يقول له اسكت وانطق، وقم واقعد، وأمثال ذلك غير أنه لا يرد هذا في الشرع، إلا على مذهب التخيير بينهما، إن كان وقتهما واحدا، ويقدر ذلك تقدير قوله: قم أو اقعد، وانطق أو اسكت. وإن تغاير وقتاهما حملا على فعلين ضدين في الجنس غير أنهما موجودان في وقتين. وذلك غير متضاد لتغاير الوقتين. وإنما يقع الالتباس،

والاحتمال في الأمرين المعطوف أحدهما على الآخر إذا كانا أمرين بنوع واحد من الفعل، وكانا واردين قبل وقوع الفعل. وقد بينا القول في ذلك بما فيه بلاغ وإقناع /.

باب البيان عن حكم الأمر الوارد بالتخيير بين أشياء وهل المأمور به واحد منها أو جميعها

باب البيان عن حكم الأمر الوارد بالتخيير بين أشياء وهل المأمور به واحد منها أو جميعها اعلموا - رحمكم الله- إنه لا خلاف نعرفه في جواز تكليف فعل أشياء على جهة التخيير، وإنما الخلاف الحادث هو أنها واجبة كلها أو الواجب منها واحد بغير عينه. وهل يكون وقتها واحدا أو يجوز تغاير أوقاتها. والواجب عندنا في هذا أن من حكم المخير فيه في حكم الشرع أن يكون حكمه في الشرع واحدا، وأن يكون وقته واحدا، وأن يكون معلوما متميزا للمخير فيه. وقد نبهنا على هذه الجملة بما يغني عن إعادته. وإنما وجب أن يكون حكم المخير فيه واحدا. لأنه إذا كان بعضه واجبا وبعضه ندبا وبعضه مباحا لم يكن مخيرا فيه، بل لكل شيء من ذلك حكمه. وكذلك إذا تغايرت أوقات الأفعال المأمور بها لم يكن المكلف مخيرا فيها في ظاهر التكليف إلا أن يدل على ذلك دليل وإلا فمن حق التخيير بين فعلين أن ينوب أحدهما مناب الآخر في وقته.

ولا بد على كل حال من أن يكون المخير فيه معلوما متميزا. فصل: والذي يدل على جواز تكليف الأفعال على وجه التخيير هو ما يدل على صحة الأمر بكل واحد منهما بعينه بغير تخيير من حيث (جاز إيقاعه) بعينه، وكذلك المخير بين المختلف والمتضاد من الأفعال يمكن إيقاع كل شيء منه بدلا من غيره. فوجب أن يكون التكليف لفعله على هذا الوجه صحيحا. فصل: واعلموا أنا قد بينا من قبل أنه ليس من حق الآمر وشرطه أن يكون مريدا للمأمور به. فإذا ثبت ذلك وجب أن نقول إن الله تعالى إذا خير المكلف بين أفعال هي أبدال كالكفارات وما جرى مجراها أن نقول إنه إن كان المعلوم من حال المكلف إنه لا يفعل شيئا منها ويجمع بين تروكها فهو غير مريد لشيء منها بل مريد لترك جميعها، وإن علم أنه يفعل واحدا منها وجب أن يكون مريدا لإيقاع ما علم أن المكلف فاعل له. وأن علم أن المكلف يجمع بين جميعها فهو مريد للجمع بينها. هذا هو الواجب في هذا الأصل على ما بيناه في التعديل والتجوير وفصول القول في التكليف في الكلام في أصول الدين.

وكشفنا - أيضا- الكلام في استحالة إرادة الله تعالى لما لا يقع، ووقوع ما لا يريده /ص 195 في سلطانه في الكلام في القدر بما يغني متأمله هناك. وهذا الخلاف لنا في هذا من أصول القدرية التي ليست من دين الفقهاء في شيء. وقد أجمع الكل من سلف الأمة وأئمة الفقهاء على أن الواجب من المخير فيه من الكفارات وغيرها واحد بغير عينه. وعلى أنه أي شيء منها فعل فهو الواجب وتبرأ بفعله الذمة إذا تلبس به المكلف وفعله على وجه البدل، لا على الجمع. وقد زعمت القدرية أنه إذا كان الأمر بالتخيير للمكلف بين أفعال هو المصلحة والتخفيف للمحنة وجب على الله تعالى تكليف ذلك على البدل لا على الجمع. وزعموا أنه متى علم أن مصلحة المكلف متعلقة بكل واحد من المخير فيه على حد سواء لم يجز في حكمه إلا تكليف ذلك على الجمع لا على البدل. وهذا الأصل عندنا باطل، لأن لله تعالى أن يكلف من ذلك ما شاء، وعدل منه تكليف التخيير إذا علم أنه مصلحة. وتخيير الجمع إذا علم ذلك، وتكليف ما يعلم أنه ليس من مصلحة المكلف على ما بيناه في التعديل والتجوير.

التخيير يصح بين فعل الضدين

وقد ورد التكليف بالتخيير بين أشياء في كثير من العبادات، لأن الله تعالى قد خير بين الكفارات الثلاث ولو تؤمل أكثر العبادات لوجد تكليف التخيير فيها إلا القليل، لأن الله تعالى قد كلف الكفارات على التخيير. وفي موضع آخر على الترتيب وفي الموضع الذي يجب فيه الترتيب تخيير من وجه لآخر، لأنه إذا ألزمته الرقبة، فكان في ملكه رقاب كثيرة كان مخيرا بين عتق أيها شاء، لأنه بمثابة واحدة، ولا خيار له في الانصراف عن عتق رقبة وهذه حاله، لكنه مع ذلك مخير في الرقاب. وربما قل تخييره، وربما اتسع، وربما تعذر التخيير في تكليفه، لأنه إذا ملك الكثير من الرقاب كثر تخييره. وإن قل كان بقدر ملكه. وإن كان مالكا لاثنتين كان مخيرا بينهما فقط. وإن ملك واحدة تعين عليه عتقها وزال التخيير، إلا أن يقيم غيرها مقامها. وكذلك التخيير في الوضوء بأي ماء طاهر شاء في ملكه. والحج بأي مال شاء من أمواله. وأمثال هذا كثير، وذكر بعضه كاف عما عداه. فصل: واعلموا أن التخيير يصح بين فعل الضدين، كما يصح بين المختلفين ويصح - أيضا- بين فعلين مثلين إذا كانا متميزين للمكلف. والأفعال كلها لا تخلو أن تكون مختلفة متضادة أو مختلفة /ص 196 غير

من المخير فيه ما لا يصلح الجمع بينهما

متضادة أو متماثلة غير مختلفة ولا متضادة. فأما الضدان الخلافان فإنهما نحو الكلام والسكوت والحركة والسكون، وأمثال ذلك. وأما المختلفان غير المتضادين فكالصيام والعتق والإطعام، وذلك مختلف غير متضاد ولا متماثل. وأما المشتبهان فعلى ضربين: إما أن يتميزا أو لا يتميزا. فإن تميزا صح التخيير بينهما، وإن لم يتميزا لم يصح ذلك، لأنه لا يصح وقوع أحدهما بدلا من الآخر لا لخروجهما عن إمكان المكلف لكن لتعذر التمييز لهما ومعرفة الفصل بينهما، وهذا هو الذي استقر عليه التكليف، لأن العبد لا يميز في وقتنا هذا بين مثلين من أفعاله وقتهما واحد والتعبد بهما على وجه واحد، لأنه لو قيل له اضرب زيدا وقد خيرناك في أن تفعل في الوقت الواحد ضربا له من ضربين، أو مثل ضرب كثير، لكان يجب أن يعرف أعيان المخير فيه وتفصيله، وذلك غير معلوم للعبد، ولكن لو قيل له اضربه بيمينك إن شئت أو بشمالك لتميز له لتمييزه بين الجارحتين. ولو قيل له: قد خيرناك بين ضرب أو ضربين يقع بيمينك لم يعرف تفصيل ما يقع بيمينه. وقد بينا من قبل أنه لا يصح التكليف والتخيير إلا بين ما يعرفه المتعبد ويميزه لكي يقصد إليه بعينه أو إلى تركه. وكذلك لو قيل له: صل لزوال الشمس أربع ركعات وأنت مخير بين أربع وبين مثلها في صفتها لم يتميز له علم ذلك. فصل آخر من فصوله وهو أن يعلم أن من المخير فيه ما يصح من المتعبد جل وعز أن يريد الجمع بينه، ومنه ما لا يصح ذلك فيه. فالمختلف الذي لا يضاد تصح الإرادة لاجتماعه، كالصيام والإطعام، ونحو ذلك. ومنه ما لا تصح الإرادة لجمعه، وهو المتضاد، لله تعالى ممن يعلم تضاد كل متضادين واستحالة اجتماعهما، ولا يصح منه مع العلم بذلك الإرادة للمحال. ولكن قد يصح من المخلوق أن يريد الجمع بين

الضدين إذا توهم كونهما غير ضدين لشبهة تدخل عليه. وذلك مستحيل في صفة الله تعالى. فصل آخر من فصول هذا الباب ومن المخير فيه ما لا يصح الجمع بينه بحال، وهو كل متضادين /ص 197 من الأجناس نحو القيام والقعود والكلام والسكوت، وأمثال ذلك، ومنه مختلف يصح الجمع بينه، كالكلام والقيام والعتق والإطعام والصيام، وكل ما يمكن اجتماعه من فعل المكلف. فصل: وكل ما صحت الإرادة لاجتماعه فإنه يصح إطلاق اجتماعه على وجه الإباحة له أو الندب إليه أو الإيجاب له. والمخير فيه الذي يصح اجتماعه على ضربين: فضرب من قد جوز السمع الجمع بينه وندب إليه. وإن كان الواجب منه واحدا وهو أعظمه ثوابا على ما نبينه فيما بعد. وضرب منه مخير فيه ومحرم الجمع بينه. وذلك نحو تخيير الأمة في عقد الإمامة لأي رجل شاءوا إذا استوت أحوالهم في كمال خصال الإمامة وحمل أعبائها. والقيام بواجباتها. ونحو تخيير ولي المرأة في عقد الزوجية لأي أكفائها شاء، وتحريم الجمع بين عقدين لإمامين ولزوجين. وتخيير المسافر بين الصيام والإفطار عند من رآه من باب التخيير دون الرخصة ونحو تخيير العالم بين التحليل والتحريم عند تقاوم الأشباه وتخيير الحاكم في الحكم بالشيء وضده إذا تقاوما وحظر الجمع بين ذلك، في أمثال هذا مما يطول تتبعه. وهذه جمل في كشف هذا الباب. وقد قلنا فيما سلف أن الذي عليه سلف الأمة وفقهاء

الأمصار القول بأن الواجب من الكفارات الثلاث، وكل مخير فيه على ذلك الوجه واحد بغير عينه دون جميعه. وقد زعم كثير من القدرية وقوم من نوابت الفقهاء، والمتبعين لهم على بدعتهم هذه أن الكفارات الثلاث، وكل مخير فيه واجب بأسره. ومحال بزعمهم قول من قال إن الواجب فيه واحد بغير عينه. واعلموا أنه ليس مراد الأمة والفقهاء بقولهم إن الواجب من الكفارات الثلاث واحد بغير عينه أن فيها واحدا بعينه عند الله تعالى هو الذي أوجبه دون غيره حتى لو فعل المكلف غير ذلك الواحد لم يجزئه. وكان بمثابة من فعل شيئا غير الكفارات الثلاث في أنه فعل غير الواجب ويكون معنى قولهم بغير عينه أنه معين معلوم عند الله تعالى تعلق الوجوب به دون غيره. وإن كان غير معلوم ولا متميز

لنا، هذا ليس بقول لأحد من الأمة لأن أقل ما فيه أن يكون معينا وإن جهلناه، وأن يكون غيره لا يجزئ إذا فعل لأنه غير واجب. وأن يكون قد كلفناه واجبا مخصوصا من غيره ولم /ص 198 يجعل لنا إلى تمييزه سبيلا، وذلك باطل باتفاق. وإنما يعنون بقولهم إن الواجب من ذلك واحد بغير عينه أن الواجب الذي اشتغلت به الذمة واحد من هذه الثلاثة قد خير في أيها شاء. فإذا لم يفعل ولم يختر إيقاع واحد منها كان الواجب باقيا في الذمة ومتعلقا بواحد وله فيه الخيار. وإن اختار واحدا منها ففعله صح أن يقال قد تعلق به الوجوب وبرئت به الذمة وإن اختار الجمع بين ذلك أجمع قيل إن الوجوب تعلق بأعظمها ثوابا وأشقها على النفس وأثقلها لكي يثاب على أشقها. وما عداه هو متطوع به. وإنما وجب ذلك لحصول الإجماع على أنه لا بد من أن يثاب على أعلاها وأعمها نفعا كما يثاب على أدناها. وإذا فعل الأعلى والأدنى، فقد اتفق على أنه مثاب على الجميع وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يكون أحقها بالوجوب أدناها، بل أعلاها وأكثرها ثوابا وجب بهذا الإجماع أن يكون الواجب منها أعلاها. وقال كثير من الناس: إن العتق هو الواجب منها إذا فعلت معا لأنه أعمها نفعا وأكثرها تأثيرا في المال. وهذا مما لا يجب القطع به، لأنه قد يكون ذلك كذلك إذا كانت الحال ما وصفوه في العتق وكانت أعم نفعا. وقد يكون الإطعام أحيانا أعم نفعا وأشد لفاقة الفقراء. وأعظم تأثيرا في إقامة النفوس والأرماق. ويكون قدر المكفر به عند القحط والجدب أكثر ثمنا وثلما للمال من قدر ثمن

كيف يعاقب من لم يفعل أي خصلة من خصال الكفارة

رقبة، ويكون تكلف جمعه وإخراجه إلى أهله أشق وألم. فعلم أنه لا معتبر بما ادعوه. فصل: فإن قال قائل: فما تقولون إذا لم يفعل شيئا من الكفارات، بم يعاقب على تركها جميعها أم على ترك التكفير بواحد منها؟ قيل له: لا بل على ترك الواحد منها فقط. وهذا أحد الأدلة على أن الواجب منها واحد بغير عينه، لأنها لو كانت كلها واجبة لوجب أن تكون واجبة كلها إذا فعلت وجمع بينها. وهذا خلاف الإجماع، وأن يستحق العقاب بترك جميعها إذا جمع بين تروكها. وهذا - أيضا- خلاف إجماع الأمة. فثبت أن الواجب منها إذا جمع بينها واحد غير معين. فإن قيل: فعلى أيها يستحق العقاب إذا ترك جميعها؟ قلنا: يجب استحقاقه على أدناها وأخفها وأقلها ثوابا إذا فعل. والدليل على ذلك أنه /ص 199 لو فل لبرئت به الذمة، وأدى به الواجب، وسلم فاعلها من المعصية واستحقاق العقاب، فثبت بذلك ما قلناه. وأن الواجب منها واحد بغير عينه. وأن المستحق من العقاب إنما هو على ترك أدناها إذا جمع بين تروكها. فصل: واعلموا - رحمكم الله- أن من حق الواجب المخير فيه أن يكون كله مستويا في الحكم. إما أن يكون مباحا كله أو ندبا كله أو واجبا كله. ومحال التخيير بين المباح والندب والواجب والنفل، وهذا متفق على فساده. وكذلك يجب أن يكون وقتهما واحدا. لأن ما تغاير وقته فلا تخيير فيه. وأن يكون متميزا للمكلف على ما قلناه من قبل وهذا ذكر الحجة على أن الواجب من ذلك واحد بغير عينه. فأحد ما يدل على ذلك ما ذكرناه من الإجماع على أنه إذا جمع بينها لم يكن

كلها واجبة. وإذا جمع بين تروكها لم يستحق العقاب على جميعها، بل على ترك الواحد منها، فلو كانت كلها واجبة لوجب استحقاق العقاب على ترك جميعها. وهذا باطل باتفاق. ولوجب أن يكون سائرها واجبة إذا جمع بينها. وهذا - أيضا- خروج عن الإجماع فصح ما قلناه. فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون الواجب جميعها قبل الفعل. فإذا فعل المكلف واحدا منها خرج الباقي عن الوجوب؟ قيل له: هذا باطل لأن الأشياء إذا جمع بينها في الوجوب لم يكن فعل البعض منها مسقطا لفعل باقيها. وإنما يسقط ذلك بخروج وقته أو النسخ له وبفعل الواحد من الكفارات الثلاث لم ينسخ الباقي منها ولا خرج وقته. ولا يخرج المكلف عن صفة من يلزمه فعل باقي ما وجب عليه، فيجب بقاء الواجبات عليه وإن فعل الواحد من الكفارات. وهذا خلاف الإجماع فسقط ما قالوه. ويبين هذا ويوضحه أنه إذا اجتمع على المكلف وجوب الصلاة والزكاة والصيام ففعل الواحد من ذلك لم يسقط عنه فعل الباقي لوجوب جميعه عليه لا على البدل والتخيير، وهذا واضح في إبطال ما قالوه. ومما يدل على ذلك أيضا اتفاق الأمة قبل حدوث المخالف في ذلك على أن الواجب من الكفارات واحد بغير عينه، فثبت ما قلناه. فإن قالوا: نحن لا نخالف الإجماع في هذا /ص 200 ونقول إنه إذا فعل جميعها فالواجب منها إما أعلاها أو غيره على الخلاف في ذلك. وكذلك لا نقول قبل أن يفعل أنها واجبة بأسرها على الجمع بينها. وإنما هي واجبة على التخيير، وعلى أن أدونها إذا فعل برئت الذمة به.

يقال لهم: هذا هو القول بأن الواجب منها واحد بغير عينه، لأن القائلين بذلك إنما يعنون بقولهم إن الواجب واحد بغير عينه نفس ما قلتم. فصار هذا خلافا في عبارة لا في معنى. ومن أقوى الأدلة على ذلك إجماع الأمة على أن الله عز وجل قد خير بين أمور حرم الجمع بينها، وجعل تعلق الأمر بكل واحد منها. بأن يفعل منفردا عن غيره كتعلق الأمر بالآخر على وجه سواء. نحو أن يأمره بالعقد على وليته من كل كفؤ لها بدلا من غيره وتحريمه الجمع بين عقدين على اثنتين ممن خير بين العقد على جميعهم. وكأمر أهل الحل والعقد من الأمة بالعقد لإمام عند الحاجة إليه وعدم إمام وذي عهد من إمام وتحريمه الجمع بين العقد لاثنتين. وكذلك القول في تخيير المفتي والحاكم في الحكم والفتيا بأي الحكمين المتقاومين عنده وتحريمه الجمع بين ذلك. فلو كان التخيير يقتضي إيجاب الجمع بين المخير فيه، وهو عندهم لا يجب في حال وجوده وفعله. وإنما يجب قبل كونه لوجب أن يكون قد أوجب على المكلف جميع ما ذكرنا من الجمع بين هذه الأمور المحرم الجمع بينها، لأنه مخير فيها ولتساويها عنده تعالى في معلومة في صفة الوجوب بدعواهم وامتناع تعلقه ببعض ما له صفة الوجوب دون بعض. ولو كان ذلك كذلك لوجب لا محالة الجمع بين هذه الأمور. ولما أطبقت الأمة على إبطال ذلك، وإخراج القائل به عن الملة علم أن الوجوب إنما يتعلق بالواحد منها منفردا عن غيره. وهذا هو الذي قلناه بعينه. فصل: فإن قالوا: ما أجمعت الأمة في هذا على ما ادعيتم، بل يجب على المكلف تزويج المرأة من جميع أكفائها. ويلزم الأمة نصب كل ما يصلح لإمامتها سقطت مكالمتهم، وظهرت مفارقتهم للدين وقيل لهم مع ذلك فيجب /ص 201، إذا فعل

البعض من ذلك أن يبقى وجوب الباقي عليه بحاله، لأنه لم تنقلب صفته، ولا خرج وقته، ولا نسخ بعد جوبه. فإن مروا - أيضا- على هذا ازدادوا خروجا عن الإجماع، وإن أبوه بطل قولهم. ويقال لهم - أيضا- أليس إنما يكون الشيء واجبا في الحقيقة عندكم قبل وقوعه. فإذا فعل وصف بالوجوب مجازا واتساعا؟ فإن قالوا: أجل. قيل لهم: وهذا التحريم للجمع بين الأفعال قبل وجودها أو إذا وجدت أو بعضها. فإن قالوا: في حال وجودها أو وجود بعضها أقروا بتحريم الموجود الذي لا يصح تكليف فعله ولا تركه، ولا القدرة عليه، وذلك باطل على أصولهم. وإن قالوا: إنما يحرم الجمع بينها في حال عدمها وقبل فعلها وفعل بعضها. قيل لهم: أليس قد وجب عندكم فعل جميعها قبل التلبس بها وبواحدة منها؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فقد أوجب على المكلف قبل وجودها إيقاع جميعها وحرم عليه مع ذلك الجمع بينها. وهذا بعينه هو تكليف ما لا يطاق، والتخليط الظاهر عند سائر الأمة في حكم ما استقر من العبادات، وما جاءت به الشرائع. وإذا تناقض هذا القول وفسد ثبت أن التخيير بين أمور متساوية الأحوال في المصلحة في العلوم إذا وجدت لا يقتضي إيجاب جميعها وإن تساوت عند الله

تعالى في صفة الوجوب، وهذا واضح في فساد ما دانوا به. ويدل على فساد قولهم - أيضا- إنه لو كان المخير فيه واجبا كله قبل وقوعه لوجب على المكلف أن ينوي فعل جميع الكفارات الثلاث على الجمع وعلى وجه ما وجبت عليه قبل الامتثال. وهي كلها عندهم واجبة عليه. فوجب أن ينويها على هذا الوجه، وذلك خلاف الإجماع فسقط ما قالوه. وقد شغب بعضهم فقال عند سؤالنا عن الجامع بين الكفارات الثلاث، أهي واجبة كلها أم /ص 202 الواحد منها؟ فقال: هذا سؤال لا معنى له، لأنه بفعلها قد خرجت عن الوجوب، وإنما تكون واجبة قبل الفعل. فيقال له: هذا لا ينجي، لأنها إذا كانت واجبة كلها قبل وجودها كانت إذا فعلت فقد فعل ما كان واجبا كله، ووجب الثواب على جميعها والعقاب على تروكها، فيكون الوجوب متعلقا بها على وجه واحد، ولا جواب عن ذلك. وقال بعضهم: لا أعرف الواجب منها إذا جمع بينها. يقال له: كيف لا تعرف وجوب جميعها. وأنت قد زعمت أن جميعها كان واجبا على حد سواء قبل وقوعها. وإيقاعها على وجه الجمع لا يخرجها عن تعلق الوجوب بسائرها وكونها في المصلحة على وجه واحد. وهذا ظاهر السقوط في قولهم. وقال بعضهم: إذا جمع بين سائرها كان الواجب منها عند الله واحدا واثنان منها نفلا. وهذا خبط منه، لأن الوجوب كان متعلقا بجميعها على حد سواء،

أدلة المعتزلة في أن المخير فيه واجب كله

فكيف يخرج اثنان منها عن الوجوب، وهو متعلق بهما كتعلقه بما قالوا إنه الواجب عند الله، كل هذا اختلاط ظاهر فصل: في ذكر شبههم في أن المخير فيه واجب كله. قالوا: يدل على هذا أمور منها: إنه لو كان الواجب منها واحدا بغير عينه لكان الواجب غير متميز من غيره مؤديا إلى الجهل بالواجب وذلك ممتنع في التكليف. وهذا باطل، لأن المخير فيه كالواجب من الرقبة إذا كان في ملكه رقاب كثيرة. وإنما يجب منها عتق واحدة غير معينة. وإذا وقع العتق عليها تعينت. ونحو وجوب قضاء الدين الذي في الذمة، وإخراج الزكاة من دراهم غير معينة. فهذا اتفاق، وليس فيه ما يؤدي إلى الجهل بالواجب. فبطل ما قالوه. واستدلوا على ذلك بأن قالوا: لو كان بعض المخير فيه هو الواجب بغير عينه، وكله متساو عند الله تعالى وفي تعلق مصلحة المكلف به لوجب أن يكون قد أوجب سبحانه بعض ما له صفة /ص 203 الوجوب، وأسقط وجوب مثله، وذلك ممتنع في حكمته. فيقال لهم: هذا باطل من وجهين: أحدهما: إنه لا صفة عند الله لما أوجبه وفي معلومة يقتضي وجوبه دون حظره وإباحته. وكذلك القول في كل فعل محكوم فيه ببعض الأحكام، على ما

بيناه في صدر الكتاب. والوجه الأخر: هو أنه لا يمتنع في حكمته أن يوجب بعض ماله صفة الوجوب, (ويسقط مثله) , وبعض مافيه مصلحة المكلف, ويسقط مثله, بل لا يمتنع أن لا يكلفه شيئا من مصالحه, لأنه لا يجب عليه سبحانه للعبد بشيء على وجه, فسقط ماقالوه. قالوا: ويدل على ذلك- أيضا- أنه لو كان الواجب من المخير فيه واحدا بغير عينة. كان غير متعين للمكلف, وإنما يتعين عندكم بالفعل به ونية الوجوب ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون معينا عند الله تعالى لكونه سبحانه عالما بما يفعله المكفر من الثلاث وما ينوي وجوبه منها. وإذا كان ذلك معلوما له فقد علم أن ذلك الواحد هو الواجب الذي يفعل ويعتقد وجوبه. فوجب تعلق الوجوب به وحده. وأن يكون هو المراد لله تعالى دون غيره. وأن يعلم أن غيره ليس بواجب. وأن لا تخيير بين ما يعلم وجوبه. وبين ما يعلم أنه ليس بواجب. وأن لا يجزئ المكلف غير ذلك المعلوم وهذا خلاف الإجماع, فبطل ما (زعموا وثبت ما قلناه). يقال لهم: هذا فاسد من وجوه: أحدهما: إن الوجوب وإن تعين بالفعل واعتقاد الوجوب والنية له. فهو قبل الفعل غير متعين ولا منوي وجوبه, ولا يجب إذا علم الله عز وجل أن المكلف يختار واحدا منه ويفعله أن يكون متغير الوجوب قبل وقوعه, لأنه قبل وقوعه غير

مفعول ولا منوي وجوبه, فلا يجب أن يكون متعينا لأجل علم الله تعالى بأنه هو الذي يفعل ويختار وإنما يتعين بالفعل, وقبل أن يفعل فليس بواقع. وإذا كان ذلك كذلك سقط ما تعلقوا به. يقال لهم: لو كان ما قلتموه واجبا لوجب تعين رقبة من جملة الرقاب التي في ملك المكفر إذا علم الله سبحانه أنه إنما يعتق -[204]- رقبة منها بعينها, وأنه يتعين وجوبها بإيقاع العتق عليها, وهذا خلاف الإجماع, لأنه لا أحد يقول: إن الواجب من هذه الرقاب ما علم الله سبحانه أن العتق يقع عليها دون غيرها حتى لو اعتق المكفر غيرها لم تجزئه, ولم تكن واجبة، فبطل ما قلتموه. ثم يقال لهم: لو كان علم الله تعالى بإيقاعه يوجب تعيينه ووجوبه دون غيره لم يستنكر أن يكون غيره الذي ليس بواجب لو فعل حالا محله ونائبا منا به. كما زعم بعض الفقهاء أن الصلاة في أول الوقت نقل, وأنها تنوب مناب الفرض. وكما كان المنهي عنه حالا محل المأمور به. وإذا كان كذلك. وكانت الأمة قد أجمعت على أن التكفير بكل واحد من الكفارات مجزئ وواقع موقع الوجوب, وجب أن لا يضر تعيين الواحدة بالوجوب عند الله عو وجل, وفي معلومة. فإن قالوا: فقد أجمعت الأمة على أن المكفر بكل واحدة منها لو فعلها هي الفرض الواجب. ولا يصح أن يقال إنها نفل أو معصية نائبة مناب الفرض.

تقسيم المعتزلة المخير فيه إلى ثلاثة أقسام

يقال لهم: فهذا الذي يدل على فساد قولكم بأن تقدم علم الله سبحانه باختيار المكلف لأحدهما يعين وجوبه عنده تعالى, وفي معلومة، فبطل ما قلتموه من كل وجه. والأولى الجواب بما قدمناه, لأنه إذا كانت الكفارة إنما يتعين وجوبها بعلم الله بالتلبس بها, فمحال أن يتلبس بغير ما في المعلوم أنه يتلبس به حتى يقال إنه لو وقع كذلك لناب مناب المعلوم المتلبس به, ولأنه إذا تعين بالتلبس به, فلا سيء منها يوقعه إلا وهو المعلوم التلبس به, ومعلوم أنه يتلبس به. فلا يتصور التلبس من ذلك بما ليس بمعلوم, فوجب الاعتماد على ما قلناه. فصل من فصول القول في ذلك واعلموا- رحمكم الله- أن المخير فيه المعتزلة على ثلاثة أقسام: فقسم منه مخير فيه. وقد أريد فعله منفردا من الآخر, وكره الجمع بينه وبين الآخر, كالتخيير في عقد الإمامة وعقد الزوجية, وما جرى مجرى ذلك من كل محرم الجمع بين اثنين منه. والقسم الثاني منه: مخير فيه. وقد أراد الله سبحانه -[205]- الجمع بين فعله كالكفارات الثلاث, فإذا جمع بينها في الفعل كان الواجب منها واحدا. وهذا الضرب عندهم وإن أراد الله سبحانه الجمع بينه فيما كره ترك اثنين منه. وإذا وقع مع الثلاث, كان كله مرادا. فلذلك قالوا: إن الواجب منه إذا وقع واحدا, واثنان منه ندب. ويجب على هذا القول أن يكون الواجب من ذلك ما تقدر

إرادته والكراهة لتركه, وما أريد ضمه إليه ولم يكره تركه هو النفل. وهذا القول منهم نقض ظاهر لقولهم: إن الكفارات الثلاث واجبة كلها قبل الفعل لتساوي حالها في تعلق مصلحة المكلف بكل واحدة على وجه واحد, لأنه قول يوجب كون جميعها واجبا إذا وقعت ومرادة. ومكروها ترك جميعها إلى رابع سواها ومكروها ترك واحد منها بفعل الآخر, لأنه واجب كوجوب تركه سواء قبحت على هذا الأصل كونه تعالى مويدا لجميعها إذا فعلت على وجه واحد, وكارها للجمع بين تروكها برابع سواها, أو بأن لا يفعل جملة بغير ترك لها إن كان في فعل العبد مالا ترك له, أو ما يجوز أن يخلو منه ومن تركه. ويجب أيضا كونه. كارها لترك كل شيء منها بفعل آخر لاستوائها في الوجوب. وذلك يقتضي وجوب الجمع بينها. ويبطل معنى التخيير على ما بيناه من قبل. والقسم الثالث: مخير في الجمع بينه. وقد أراد الواحد منها. ولم يرد الآخر ولم يكرهه, وذلك عندهم نحو التخيير بين ستر العورة وترك سترها. فإن كثيرا منهم يقول: إنه وإن خير في ذلك, فإنه قد أراد ستر العورة, ولم يكره ترك ذلك, ولم يرده, وهذا قول يوجب أن يكون سترها نفلا مرادا فعله, وإن لم يكره تركه. وقد بينا نحن فيما سلف أنه تعالى يريد من المكلف فعل ما يعلم انه يقع منه من الجمع بين ما يحل جمعه, أو الجمع بين ما ما يحرم جمعه, أو أن لا يفعل من ذلك شيئا إذا كان المعلوم أنه لا يفعل شيئا منه. فأغنى عن هذا التفصيل.

باب القول فيما يعلم به التخيير بين الأفعال

باب القول فيما يعلم به التخيير بين الأفعال فإن قيل: فبأي شيء يعلم التخيير بين الفعلين؟ قيل له: إذا علم أنهما متباينان غير ممتنعين ولا أحدهما. وأن وقت تكليفهما واحد. وعلم مع ذلك تساوي حالهما في الحكم بأن يكونا تدبين أو واجبين على بيناه من قبل وعلم أنه لم يؤمر بالجمع بينهما. فإن قيل -[206]- وما القول الذي به يعلم التخيير بين الأفعال؟ قيل له: قد يعلم ذلك بأن يقول عليه السلام: إن فعلت هذا أجزأك (وإن فعلت هذا أجزأك) وهذا ينوب مناب هذا, ويقوم مقامه. وهذا فرضك إن فعلته وهذا- أيضا- فرضك إن فعلته بدلا منه. وإن فعلت هذا فلا ضيق ولا حرج. وإن فعلت هذا فكذاك, وأمثال هذا من ألفاظ التخيير. وقد يقع من فعله عليه السلام ما يجرى مجرى البيان بقوله نحو القراءة بحرف. والقراؤة تارة بغيره. والمسح تارة ببعض الرأس وبكله أخرى عند مجيز ذلك. والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم مرة وتركه أخرى. وجمع الناس للتراويح تارة وتركه أخرى. وليس القصد من هذا تصحيح مسألة بعينها في باب التخيير, ولكن بيان ما علم أنه يفعل تارة ويفعل غيره أخرى, ويتركه ويفعله على وجه الإتباع لحكم الشرع. فإن هذا ربما كان أوضح في الكشف عن التخيير من القول وربما حل محله. وقد يعلم التخيير بين الفعلين بأن يرد التعبد بفعلهما في وقت واحد مع العلم بتضادهما في العقل أو الحكم. فإذا قيل للمكلف قم واقعد, وانطق واسكت عقيب أمرك في وقت واحد وعلم تضاد ذلك علم أنه على التخيير لا على الجمع,

لأن من حكم ما أمر به على الجمع أن يكون ممكنا جائزا, والجمع بين الضدين محال ممتنع. وليس هذا من التعبد في حكم الشرع. وأما ما يجري مجرى التضاد في حكم الشرع, لا في قضية العقل من حيث يحرم الجمع بينهما, فيجب جمل الأمر بهما على التخيير إذا تساوت الحال في نفس المكلف للفعل أو المجتهد المفتي, وهذا نحو الواجب بقوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقد ثبت بالإجماع والتوقيف تحريم الاعتداد بالجمع بين الحيض والطهر. وأنت الواجب الاعتداد بأحدهما على حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد. وكذلك حكم إلحاق الفرع بالأصل مع تقاوم الأشباه بأصلين متضادين في أن العالم المتقاوم ذلك في نفسه مخير في الرد إلى أيهما شاء. ومحرم عليه الرد إليهما. وكذلك حكم العامي في الفتاوى المتضادة في حادثة في أنه مخير في الأخذ بقول أي العلماء شاء -[207]- إذا اعتدلوا عنده في العدالة ومنزلة الاجتهاد فيجب تأمل هذا الباب وإجراؤه على ترتيب ما وصفناه.

باب القول في الفصل بين التخيير والترتيب في التكليف

باب القول في الفصل بين التخيير والترتيب في التكليف فإن قال قائل: فما الفصل بين الواجب على الترتيب من الكفارات وغيرها وبين الواجب على التخيير. قيل له: الفصل بينهما أن المخير بين أفعال له العدول عن كل واحد منها إلى الآخر بغير عذر هو عدم أحدهما أو تعذر الوصول إليه أو لحوق الكلفة والمشقة في فعله. والواجب على الترتيب لا يجوز في حكم الشرع والعدول عن بعضه إلى بعض الذي هو الثاني المرتب على الأول مع وجود الأول, وإمكان التوصل إليه, وعدم الأعذار, وهذا نحو قوله تعالى: {فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} وما يجري مجرى ذلك مما يجب بعضه عند عدم البعض, أو تعذره بالأعذار الجارية مجرى العدم. فصل: فإن قال قائل: فما قولكم في المكلف إذا جمع بين الكفارات المرتبة في الفعل, نحو الجمع بين المسح والغسل عند من رأى التخيير في ذلك. وبين العتق والإطعام والصيام, أتقولون إن ذلك مما الجمع بينه مأمور به أمر ندب, أوليس بمأمور به. يقال له: هذا على ضربين: فضرب منه مرتب قد حظر الشرع الجمع بينه, نحو الجمع بين نكاح الحرة والأمة مع وجود الطول.

ومنه: ما الجمع بينه مندوب إذا وقع ومثاب على بعضه ثواب الواجب, وعلى بعضه ثواب الندب, فيكون المخير فيه بغير ترتيب. وذلك نحو التكفير بالعتق والصيام والإطعام. فإن قيل: فإذا جمع بين ذلك, فهل أراد الله الجمع بينه محظورا كان الجمع أو مباحا أو مندوبا إليه؟ قيل له: أجل, لأنه قد دلت الدلالة بما قد بيناه في أصول الديانات أنه لا يجوز حدوث شيء من المكلف أو غيره مما حل أو حرم أو أبيح أو حظر أو جمع بينه أو فرق إلآ وهو مراد الله سبحانه. ولا معتبر عندنا بقول القدرية في هذا الباب.

باب القول هل يقتضي الأمر إجزاء المأمور به أولا؟

باب القول هل يقتضي الأمر إجزاء المأمور به أولا؟ اختلف الناس في هذا الباب فقال الكل من الفقهاء وعامة أهل العلم إنه يقتضي كون المأمور به? مجزئا إذا فعل على وجه ما تناوله الأمر. وقال بعض المتكلمين: إنه لا يدل على إجزائه. وقد كنا قلنا في مواضع من الأمالي وغيرها إن الأشبه أن لا يجزئ وفسرنا ذلك بأنه لا يدل على أن مثل الفعل الذي وقع لا يلزم بعده. وأنه لا يمتنع أن يلزم مثل الواجب فيما بعد وإن فعل بحسب مقتضاه الأمر. ولكنه مع ذلك لا بد أن يعرض فيه سبب يوجب قضاءه بعد فعله. ومتى عري من كل سبب يوجب القضاء كان ما وجب بعده فرضا مبتدأ لا يوصف بأنه قضاء بسبب فساد وأمر عرض فيما قبله. والذي يجب تحصيله وحصر الكلام عليه في هذا الباب أن يقال إن ما يفعل نحو الأمر به والإيجاب له على ضربين: فضرب منه واجب مجزئ يدل الأمر به مع وقوعه على الصفات والشرائط التي يتناوله الأمر عليها واستكمالها على إجزائه وصحته.

والضرب الآخر واجب فعله نحو الإيجاب له والأمر بهو قد دخله مع ذلك ضرب من الخلل إما لشيء من قبل المكلف اكتسبه أو لشيء دخل عليه من غير جهته, أو لأجل شيء كان منه قبل التلبس بالفعل المأمور به فأما الأمر الدال على أجزاء المأمور وصحته على تأويل إن فعل مثل متعلقة الممأمور به لا يجب فيما بعد على سبيل القضاء له, وهي الصلاة المفعولة في وقتها بطهارة ونية واستكمال شرائطها وحصول أسباب وجوبها بأمر مبتدأ به, لا لأجل ترك شيء وجب قبلها, ولا لأجل صلاة لزمت لأجل فواتها. ولا لفساد فرض من الصوات لزمت من أجلها, وليس بين الأمة خلاف في أن ما وجب على هذه السبيل فهو فرض مبتدأ صحيح ليس بقضاء لشيء. ولا مما يجب قضاؤه إذا فعل عاريا من جميع العوارض والأسباب. وإذا كان كذلك, وجب أن يدل الأمر بما هذه سبيله على إجزاء المأمور به, إذا وقع مع حصول أسباب وجوبه واستكمال شرائطه, وأن لا يجب قضاؤه, وأن لا يكون في نفسه قضاء لشيء فات أو فسد. وهذا واجب لا محيص منه. فإن قال قائل: فهل يستحيل -[209]- عندكم في حكمة الله وطريقة التكليف أن يأمر الله سبحانه بالفعل عند أسباب تحصل وشرائط يقع عليها, فيفعل عند أسبابه وعلى شرائطه. ثم يأمر بفعل آخر مثله بعده على صفته وشرائطه. قيل له: لا يستحيل ذلك في حكمته تعالى, ولكن لا يكون المفعول الثاني بالأمر بالثاني لترك الأول ولفواته ولا لخلل المأمور به الأول على الوجوه والشرائط التي ذكرناها ولا لفواته ولا لالخلل لحقه ودخل فيه يصير من أجله قضاء للأول, بل يكونان فرضين مبتدأين لا تعلق لأحدهما بالآخر, ولا يكون

الثاني مفعولا لترك فرض قبله وفساده ولسبب عرض فيه. وأما الواجب الذي لا يدل الأمر به على إجزائه إذا وقع فهو الذي وقع وقد دخل فيه ضرب من الفساد الذي يلحق الواجب, وهذا الفساد يكون بوجهين: أحدهما كسب للعبد, والآخر مدخول عليه بالفساد, لا من قبله. فالأول: نحو إفساده الحج بالوطء, وما يجري مجراه الذي يجب عليه المضي في فاسده وفعل مثله بعده وقضاءه. وليس لأحد أن يقول ما أنكرتم أن يكون المعنى في فاسد الحج غير واجب من حيث وجب قضاؤه, بهده, لأن وجوب قضائه بعده لا يبقى وجوبه. وإنما الذي يبقي وجوبه سقوط الذم والعقاب بتركه. وقد اتفق على أنه قد ورد الذم والعقاب بترك المضي في فاسد الحج, كما يستحق ذلك بإفساده وتركه إذا تضيق وجوبه, فثبت وجوب المضي في فاسده, ولا يجب أن يقال الذي يدل على وجوب المضي في فاسد الحج استحقاق الثواب عليه, لأنه لا يمتنع ثبوت واجب على سبيل القضاء والابتداء. وإن لم يجعل الله عليه ثوابا. وإن أوجب الذم والعقاب بتركه. ولأن النفل من القرب عليه ثواب وإن لم يكن واجبا. فوجب الاعتماد على ما بدأنا به. فصل: وأما الفاسد بسبب مدخول على العبد, فنحو الصلاة عند تضييق وقتها وفرضها, مع الظن بكون المصلي متطهرا, ونسيانه الحدث هذا- أيضا- مما قد اتفق على وجوبه, وأنه إذا ذكر بعد فعلها -[210]- أنه كان محدثا غير متطهر لزمه قضاؤها. وبسبب وجوب القضاء تركه التطهر على سبيل السهو عن ذلك, والسهو ليس من كسبه ومقدوراته. وإن أجري في الحكم مجرى ما يفسد به الحج وغيره

من فرائضه بفعل من كسب معتمد مقصود. والذي يدل على وجوب الصلاة على من هذه حالة في ظن التطهر, وإجماع الأمة على أنه عاص ومستحق للذم على ترك الصلاة, وإن كان محدثا مع ظنه الطهارة ولو لم تجب عليه. والحال هذه لم يكن عاصيا بتركها فصح ما قلناه. فصل: واعلموا- رحمكم الله- أنه ليس مرادنا بالقول إن من الأوامر مالا يدل على إجزاء المأمور به أن منها مالا يدل على أنه حسن طاعة مثاب فاعله ومتقرب به. وإنما مرادنا بذلك أنه لا يدل عله على سبيل الوجوب, والحال ما وصفناها على سقوط فرض مثله بعده. وكذلك إذا قلنا أن من النهي مالا يدل على فساد المنهي عنه. وليس مرادنا بذلك أنه لا يدل على قبحه إذا كان نهي تحريم, وعلى أنه معصية مستحق عليه الذم والعقاب. وإنما نعني بذلك أنه لا يدل بكونه منهيا عنه على أنه غير مجزئ في الشيء ولا واقعا موقع الصحيح نحو الصلاة في الدار المغصوبة, وما نذكره في أحكام النهي. ومراد الفقهاء بقولهم: إن الأمر يدل على إجزاء المأمور به, والنهي يدل على أنه غير مجزئ أن ما وقع مأمورا به سقط فرض مثله بعد فعله. وما وقع منهيا عنه لم يقع مجزئا ونائبا عن المأمور به. وهذا ليس بمستمر لما ذكرناه من قبل.

باب القول في أن الأمر يتناول الذكر والأنثى والحر والعبد والمؤمن والكافر

باب القول في أن الأمر يتناول الذكر والأنثى والحر والعبد والمؤمن والكافر واعلموا- رحمكم الله- أنه قد اختلف العلماء في كيفية القول في هذا الباب. فذهب المحققون من الذاهبين إلى إثبات صيغة العموم من الفقهاء والمتكلمين إلى وجوب استغراق اللفظ العام لجميع ما يتناوله الاسم إذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} و {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونحوه -[211]- لأن الاسم عندهم واقع على جميع هذه الأصناف. وهذا هو الصحيح إن ثبت القول بالعموم لشمول الاسم لجميعهم. فأما إن لم يثبت ذلك ووجب القول بالوقف فالوجه القول بأنه قول صالح لاستغراق جميعهم ولفريق منهم دون فريق, على ما نبينه في باب القول بالوقف. وقال بعض المثبتين للعموم أن العبد لا يدخل في الخطاب بالعبادات مع

كونه عبدا. واعتلوا لذلك بأنه مملوك ممنوع تصرفه. وليس يصح أن يستحق عليه تصريف خالقه في العبادة له لأجل ملك مالكه لتصرفه عليه, فوجب خروجه من الخطاب. وهذا باطل، لأن ملك سيده لتصرفه لا يخرجه عن استكمال صفة المكلفين من كمال عقله وآلته ودخوله تحت الاسم وسيده لا يملك عليه من تصرفه إلا قدر ما يملكه خالقه تعالى الذي هو أملك به, وهو سبحانه لم يملكه تصرفه في أوقات صلاته. وتضييق فرائض الله عليه بل لا يملك عليه التصرف في هذه الأوقات, هذا اتفاق. وإذا كان ذلك سقط ما قالوه. فيجب أن لا يخرج العبد عن اللفظ الموضوع له وللحر إلا بدليل يوجب ذلك, وهو غير ما قالوه. وقد يكون من الأدلة على ذلك أن يكون العبد طفلا أو مجنونا أو عاجزا أو بصفة من لا يصلح تكليفه. وكل من هذه حالة من حر أو عبد مستثنى من الخطاب, وخارج عن التكليف. وقد يكون من الأدلة على ذلك أن يكون الخطاب ورادا بأمر لا يصح ويتأتي من العبد بحكم الشرع فيه, وذلك نحو الإمامة الكبرى وعقدها, وكل ولاية وأمر لا يصح من العبد في حكم الشرع, فهو لذلك مستثنى من الخطاب المراد به أهل هذه العقود والأحكام. وقد يكون من الأدلة على ذلك أن يكون خطابا يتعلق بتنفيذ أحكام الأملاك وما يتعلق بالمال, فلا يدخل العبد فيه. عند من رأي من أهل العلم أن العبد لا يملك بحال من الأحوال. ومن لم يقل ذلك وجب أن يدخله تحت الخطاب بحق الاسم.

فأما علل من قال إن الكافر لا يدخل تحت الخطاب العام فيه وفي غيره فسنذكرها ونعترضها من بعد إن شاء الله. واعلموا- رحمكم الله- تعالى -[212]- أن الخطاب لأهل كل دين وصفة ونعت يختصون به دون من سواهم يجوز ويصح أن يراد به من ليس له ذلك النعت والوصف إذا صار من أهله, وانتقل عن صفته التي كان عليها, نحو أن يصير العبد حرا والمؤمن كافرا. والكافر مؤمنا. فكذلك القول في كل صفة صح خروج الموصوف عنها إلى صفة من يتناوله الخطاب. فأما الصفات التي لا يصح خروج الموصوف عنها فليست من هذا الباب في شيء. نحو كون الذكر ذكرا, والأنثى أنثى, والأب أبا والولد ولدا. وسائر أهل الأنساب, لأن هذه صفات لا يمكن الخروج عنها. وإذا نزل الخطاب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا أيها الذين آمنوا, ويا أيها المسلمون، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك, فظاهره يقتضي توجهه إلى من حصل إذ ذاك بهذه الصفات, وإن أريد به من يحدث من بعده ويكون عليها, فبدليل يقترن بالخطاب. وتوقيف يقال فيه إنه متناول للموجودين الحاصلين على هذه الصفات ومن سيكون ويحصل عليها إلى يوم القيامة, وبهذا التوقيف وأمثاله صار الخطاب بالإيمان والعبادات خطابا لأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم, وأهل كل عصر إلى حين انقطاع التكليف. فأما دخول الكافر في قوله: يا أيها الذين آمنوا، وأمثاله فمحال, لأنه ليس ممن يتناوله الاسم مع بقائه على الكفر, فإن صار مؤمنا صح دخوله تحت الخطاب.

باب القول في بيان دخول النساء في خطاب الرجال

باب القول في بيان دخول النساء في خطاب الرجال وقد قال كثير ممن قال بالعموم إنه ظلا يجوز دخول النساء تحت مجرد خطاب الذكور. قال- أيضا- ذلك من لم يقم بالعموم, وهذا هو الصحيح الذي به نقول وقد قاله الشافعي وغيره من العلماء وأهل اللغة, وأورده في قوله

تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}. قال: وإنما يتناول ذلك الرجال دون النساء. والحجة لهذا القول اتفاق أهل اللغة على أن للواحدة من النساء والاثنتين منهن, والجمع أسماء تخصهن دون الرجال نحو قوله: مؤمنة ومسلمة ومؤمنات ومسلمات -[213]- وفعلت وفعلتا وفعلن. وإذا كان ذلك كذلك كن مخصوصات باسم التأنيث, والرجال مخصوصون بأسماء التذكير, ولذلك قال سبحانه: {إنَّ المُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ- إلى قوله- والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذَّاكِرَاتِ} فلم يقتصر في الجمع بين النساء والرجال في الخطاب على لفظ التذكير, بل فرق بينهن وبين الرجال بالاسم الموضوع لكل فريق منهم. وأما من قال: إنهن يدخلن في خطاب الرجال, لأجل اتفاق أهل اللغة على أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلب التذكير, فإنه قول صحيح, غير أنه لا يوجب دخول النساء في خطاب الرجال إذا لم يذكرون معهم. لأن أهل اللغة لم يقوموا إن إطلاق اسم التذكير يجب أن يدخل فيه المؤنث نحو الظاهر من غير أن يتقدم علم باجتماعهما, وحمل ظاهر التذكير على المذكر هو الواجب إلا أن يقوم دليل على أنه قد أريد به المؤنث أيضا. فإن علم جمعهما في الذكر غلب التذكير, وإذا ذكرن مع الرجال وجب خروجهن من الخطاب بمثل ما يجب خروج بعض الرجال منه, نحو الجنون والعجز والطفولية, والأمور المزيلة للتكليف. وقد يكون الدليل المخرج لهن من الخطاب مع لحوق الاسم بهن أن يكون واردا بحكم لا

يصح من النساء في حكم الشرع, نحو ما يجب من ذكر الإمامة والقضاء وغير ذلك من الولايات والأمور التي حكم الشرع بأنهن ليس من أهلها, أو ورود توقيف بأنهن مستثنيات من الخطاب. فصل: ولا خلاف- أيضا- في أنه إذا قال سبحانه: يا أيها الرجال البالغون, والعاقلون وذوي الأبصار والألباب, وما جرى مجرى ذلك لم يدخل فيه الأطفال, لأن الاسم غير جار عليهم, وإن بلغوا بعد الطفولية, واستكملوا صفات التكليف صح دخولهم تحت الاسم على ما بيناه من قبل.

/ الكلام في أن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في كل خطاب باسم يتناوله وغيره من الأمة

باب/ الكلام في أن النبي صلى الله عليه وسلم داخل في كل خطاب باسم يتناوله وغيره من الأمة واعلموا- رحمكم الله- أن الواجب في هذا الباب لو ثبت القول بالعموم وجوب دخول النبي صلى الله عليه وسلم في كل خطاب يتناوله وغيره من الأمة, نحو قوله تعالى: يا عبادي, ويا أيها الناس, ويا أيها الذين آمنوا, ويا أولي الألباب, ويا أهل البصائر, ونحو ذلك, لأنه عليه السلام مستحق لجميع هذه الأسماء، وأحق بأكثرها من جميع أمته, فيجب بحكم الظاهر دخوله تحت الاسم. ولا وجه لاعتلال من أخرجه من حكم هذا الخطاب. لأجل أنه قد خص بفرائض وعبادات فرق فيها بينه وبين الأمة, لأن تخصصه بذلك بالأدلة التي أوجبت إفراده بها لا يمنع من دخوله معهم, أو صحة دخوله معهم على القول بالوقف في الأسماء العامة أو الصالحة للعموم على قول أهل الوقف. يبين هذا ويوضحه أنه قد فرق بين الحائض والطاهر والمقيم والمسافر والحر والعبد في كثير من أحكام العبادات, ثم لم يمنع ذلك من دخول الجميع تحت

الاسم العام الشامل لهم عند أصحاب العموم أو صلاح دخول سائرهم فيه عند أهل الوقف, وإنما يعلم إفراده بما أفرد به من الحكم بخطاب موضوع له دون غيره, نحو قوله سبحان {خَالِصَةً لَّكَ} وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} وقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} وقوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} وأمثال ذلك, أو بتوقيفه عليه السلام, على أنه مفرد بالحكم، أو على خروجه منه مع لحوق الاسم به, فيجب إذا كان ذلك كذلك دخوله مع الأمة في الخطاب العام فيه وفيهم, أو الصالح لاشتماله عليه وعليهم. فإن قيل: قد أوجبتم بهذا أن يكون موروثا بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وقوله تعالى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} وأمثال ذلك. قيل له: هذا واجب بحق الظاهر عند القائلين بالعموم. وإنما وجب العدول عنه -[215]- بتوقيفه على أنه وغيره من الأنبياء عليهم السلام لا يورثون. وقد أوضحنا صحة هذه في الكلام في فدك وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث في

الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم مقصور عليه

كتب الإمامة بما يغني الناظر فيه. وأما القائلون بالوقف, فإنهم يقولون يصلح توجه هذا الخطاب إليه وإلى غيره. وإنما خرج من صلاح توجيهه إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:" نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة" فصل: وكل خطاب ورد بذكره واسمه عليه السلام الخاص له, أو بالكناية عنه, فإن حكمه ومتضمنة مقصور عليه, بحق الظاهر, إلا أن يدل على مساواة غيره له من الأمة فيه دليل. وهذا نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} الآية. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ} وقوله سبحانه: يا أيها النبي إذا نكحت أو طلقت فانكح من العدد كذا أو طلق كذا ونحوه. وكل ما ورد من هذا الخطاب وأمثاله, فهو مقصور عليه بحق ظاهره, ولا وجه لإدخال غيره من أمته فيه إلا بدليل يوجب التسوية بينهما في الحكم, وبمثل هذا وجب قصر خطاب زيد على زيد دون عمرو. وخطاب المؤمن عليه دون الكافر, وخطاب العبد عليه دون الحر, وخطاب الذكر عليه دون الأنثى. بحق ظاهر الاسم. فصل: فأما اعتلال من اعتل لوجوب دخول أمته معه عليه السلام في الخطاب والأحكام الواردين على هذا الوجه بأن ما يثبت أنه شرع للنبي صلى الله عليه

وسلم وجب كونه شرعا للأمة فإنه باطل لأنه اعتلال بنفس المذهب. وقد ثبت أن الشرع في الأصل قد ورد بأمور وأحكام خص النبي صلى الله عليه وسلم بها دون أمته, وأحكام خصت الأمة بها دون النبي صلى الله عليه وسلم, فليس لأحد أن يقول: الأصل في هذا الباب دخوله معهم في الحكم إلا أن يستثنيه إلا أن يدخل غيره فيه بدليل. وفي تقاوم القولين دليل على سقوطهما, وحمل كل لفظ ورد على موجب ظاهرة ومقتضاه. وإنما دخلت الأمة في حكم قوله تعالى: {اأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ? فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} لأنه تعالى ابتدأ بذكره تعظيما له وتخصصا, وثني بذكره باسم الجمع فحمل عليه وعليهم, لأن حقيقة الجمع لا تتأتى فيه وحده عليه السلام. وأما قوله سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} فظاهره خطاب له. وإنما حمل على أن المراد به الأمة للعلم بأنه خارج على وجه الوعيد والتحذير لهم مع سبق العلم بأنه عليه السلام لا يشرك لقوله تعالى: {ولَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ} وأمثال ذلك. وأما قوله سبحانه: {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ}

مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} فقول ظاهره يوجب إفراده عليه السلام بجعل المرأة زوجة له بلفظ الهبة وقولها وهبت نفسي لك يا رسول الله, لأنه لا يمكن أن يكون أراد بقوله خالصة لك أنها زوجة لك دون غيرك. لأن هذا حكم كل زوجة لمؤمن في أنها ليست بزوجة لغيره, فثبت أن مثل هذا الخطاب لا يحتمل دخول غيره فيه, فلا وجه لحمل من حمل قوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ} من أهل العراق على أن المراد به أنها خالصة لك بغير مهر أو خالصة لك: أي أنها لا تحل لأحد من بعدك, لأنه لم يجر للصداق ذكر في الخطاب. وإنما جرى ذكر الهبة في قوله: وهبت نفسها للنبي, فوجب أنها تحل له وحده بلفظ الهبة. وكذلك فلا معنى لقولهم إن المراد بقوله خالصة لك أنها لا تحل لآحد بعدك, لأن هذه حال جميع أزواجه بلفظ الهبة كن أزواجا أو بلفظ النكاح. وهذه جملة كاشفة عن الواجب في هذا الباب.

باب القول في أن الكافر مخاطب بالعبادات أم لا؟

باب القول في أن الكافر مخاطب بالعبادات أم لا؟ واعلموا- رحمكم الله- أنه لا خلاف بين سلف الأمة وفقهائها والدهماء من خلفها في أن الكافر مخاطب مأمور بمعرفة الله جل وعز وتصديق رسله عليهم السلام والإيمان بهم. وقد قال قوم بعد هذا الإجماع أن العلم بالله تعالى وصدق رسله -[216]- يقع اضطرارا وابتداء في النفس. فالمكلف لذلك غير مأمور به. وزعم آخرون من أهل الأهواء أن العلم بذلك اكتساب, ولكنه غير مأمور به لشبه ليس هذا موضع ذكرها. وزعم الجاحظ أن العلم بذلك يقع اضطرارا في طباع نامية بعد النظر والاستدلال. وان من لم يقع له العلم بالتوحيد والنبوة بعد نظره فإنه معذور غير كافر ولا ملوم, وليس بذي طبع نام.

وزعم عبيد الله بن الحسن العنبري البصري أن كل من أداه اجتهاده إلى شيء من المذاهب في أصول الدين وفروعه فقد أصاب. واختلف في معنى قوله أصاب اختلافا سنذكره في باب الكلام في الاجتهاد من هذا الكتاب إن شاء الله. والصحيح من هذه الجملة أن الكافر مكلف لمعرفة الله تعالى وصدق رسله ومأمور بذلك وغير مضطر إليه ابتداء وإلهاما, ولا بعد نظر. وقد دللنا على هذه

نكليف الكافر بالعبادات وفروع الإسلام

الجملة في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه إن شاء الله. فصل: وقد اختلف الناس بعد هذه الجملة في تكليف الكافر العبادات, نحو الصلاة والزكاة والحج، وترك المحظورات. فقال الجمهور منهم: إنه مخاطب بالصلوات وجميع فرائض الدين وترك جميع المحظورات. ومخاطب بذلك كخطاب المؤمن, ولكنه مخاطب بفعل ذلك على شرط ما تصح مما سنذكره. وهذا هو الصحيح الذي نذهب إليه. وقال كثير من الفقهاء والمتكلمين: إن الكافر غير مخاطب بالعبادات, وإن كان مخاطبا بالمعرفة والإقرار. وقد قلنا من قبل إن الكافرين لا يجب أن يدخلوا مع المؤمنين, (لا) يصلح أن يدخلوا إلا في خطاب واسم موضوع لهم وللمؤمنين أو صالح لهم جميعا نحو

وقوله: يا أيها الناس, ويا عبادي, ويا أولي الأبصار والألباب, وأمثال ذلك. واعلموا- رحمكم الله- إننا لم نوجب خطاب الكافر بالعبادات بقضية العقل وإيجابه لخطابهم بذلك, لأنه قد كان يجوز فيه وضع هذه العبارات عنهم إذا كانوا كافرين وإلزامها المؤمنين, ويجوز- أيضا- اختلاف عبادات المؤمنين فيها، وقد ورد الشرع -[218]- فيهم بهذا الجائز فخولت بين فرض الحائض والطاهر والمقيم والمسافر والحر والعبد والذكر والأنثى مع تساويهم في فرض الإيمان والتصديق على جميعهم. ولا شك- أيضا- أنه قد كان جائزا إسقاط العبادات عن الكافرين وإلزامها للمؤمنين. وإنما يوجب تعبدهم بها من ناحية السمع والتوقيف فقط. فإن قال قائل: وما الدليل على ذلك من جهة السمع؟ قيل له: قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ، ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ} وأخبر سبحانه عنهم بحصول العذاب عليهم بترك الصلاة والإطعام, والخوض في لغو القول تحذيرا للمؤمنين من مواقعة مثل ما سلكهم في سقر. فإن قالوا: ما أنكرتم أن لا يكون في الآية دليل على ما قلتم, لأجل أنه لم يخبر هو سبحانه عن نزول العذاب بهم لترك الصلوات. وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا ذلك, وقولهم ليس بحجة ولا دليل. يقال لهم: هذا باطل، لأن الأمة متفقة، وجميع أهل التأويل على أن الله تعالى مصدق لهم في هذا القول, وأنه إنما أخبرنا به عنهم تحذيرا لسائر المكلفين من تروك الصلوات والإطعام. والخوض بالباطل, وترغيبا في فعل ذلك, ولو كانوا

كاذبين في قولهم هذا لوجب تكذيبهم فيه, وبيان خطئهم، ولم يكن في ذكره ترغيب في فعل الصلاة. لأنهم إن لم يكونوا معاقبين بترك هذه العبادات المذكورة كانوا مظلومين بالعقاب على ما ليس بذنب من أفعالهم, وكأنهم قالوا إنما سلكنا في سقر ما ليس يحرم. ومثل هذا لا يقع بع ترغيب للمؤمنين ولا ترهيب, بل هو حقيق بالرد والنكير على أن الله تعالى أخبر عنهم بالعقاب على نسق تروك جميع هذه العبادات إلى قوله تعالى: {وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} فيجب أن يكونوا غير معذبين على ذلك, لأن هذا قول لهم, لا لله تعالى. وذلك باطل باتفاق، فسقط ما قالوه. فإن قال: ما أنكرتم أن يكون العقاب إنما يستحق على التكذيب بيوم الدين فقط, فلما ضامه ترك الصلاة غلظ العقاب (عليهم. قيل لهم: لا يجوز تغليظ العقاب) بفعل مباح وترك صلاة لا تجب لأنه تغليظ لعقاب الذنب بما ليس بذنب, وكذلك لا يجوز العقاب على المباح من الأفعال -[219]- فصل: فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكونوا إنما عوقبوا على ترك الصلاة والإطعام, والخوض بالباطل لإخراجهم أنفسهم بالكفر الذي فعلوه عن صحة العلم بقبح ترك الصلاة والإطعام. يقال لهم: هذا باطل لأمرين: أحدهما: أنه خلاف الظاهر، لأن الخبر ورد عنهم بأن العذاب كان على ترك الصلاة والإطعام, لا على ترك العلم بقبح ذلك, لأن ترك العلم بقبح ترك الصلاة, ليس هو نفس ترك الصلاة. ولا وجه لترك الظاهر بغير حجة.

والوجه الآخر: إنه كان يجب أن يكون عقاب الكافر الذي يفعل القتل والخوض بالباطل, مثل عقاب الكافر الذي لم يفعل ذلك, لأنهما جميعا قد أخرجا أنفسهما بفعل الكفر عن صحة العلم بقبح القتل, وترك الصلاة، وقبح كل قبيح, وفي الاتفاق على تفاصيل عقاب من فعل هذه الأمور على عقاب من لم يفعلها ممن لم يقتل ولم يزن أقوى دليل على سقوط ما قالوه. ويقال لهم: ويجب- أيضا- على اعتلالكم هذا أن لا يستحق الكافر العقاب على ترك الصلاة, لأنها لا تصح منه مع كفره, ولا على ترك فعل العلم بقبحها لأنه مع الجهل بالله سبحانه وصدق رسله عليهم السلام قد أخرج نفسه عن صحة فعل العلم بقبح ترك الصلاة, لأن قبح ذلك لا يعلم إلا من جهة السمع باتفاق, دون قضية العقل. فإذا جهل خالقه سبحانه خرج عن صحة فعل العلم بقبح تركها. ومتى خرج عن ذلك خرج عن كونه مكلفا للعلم بقبحه, كما أنه لما خرج بكفره عن صحة فعل التقرب بالصلاة خرج عن صحة التكليف بفعلها, ولا جواب عن ذلك. (وكذلك فيجب على موضوع هذه العلة أن يكون من ترك النظر والاستدلال على التوحيد والنبوة معذورا في ترك المعرفة لذلك، لأنه بترك النظر قد أخرج نفسه عن صحة كونه عالما بما فرض عليه من معرفة التوحيد وصدق النبوة, وإذا أجمع المسلمون قاطبة على بطلان ذلك بطل ما اعتلوا به) وإذا قال منهم قائل: ما أنكرتم أن يكونوا إنما أرادوا بقولهم لم نك من المصلين أي لم نك من المؤمنين المصدقين بوجوب الصلاة, وإن يجري ذلك مجرى قوله عليه السلام: " نهيت عن قتل المصلين" ولم يرد بذلك النهي عن قتل من

فعل الركوع والسجود. وإنما أراد نهيت عن قتل المؤمنين المقربين بجملة الشرع الذي منه الصلاة. يقال لهم: هذا- أيضا- غير جائز المصير إليه, لأنه خلاف الظاهر, لأن جمع المصلين اسم لفاعلي الصلاة دون المصدقين بوجوبها, وكذلك لا يقال في المصدق بوجوب الشرع والصلاة إنه مصلي وإن ترك الصلاة، فعلم بهذا أن -[220]- تسمية العالم بوجوب الصلاة مصليا ومن أهل الصلاة إنما يجري عليه مجازا واتساعا، ولا وجه لترك الظاهر إلى المجاز بغير دليل, فسقط ما قالوه. ومما يدل على ذلك- أيضا- قوله تعالى: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إلاَّ مَن تَابَ} فأخبر سبحانه بتضاعف عقاب الجامع بين الشرك والقتل والزنا, ولو لم يكن الكافر مأمورا بترك القتل والزنا ومتقربا بالترك لهما إلى الله تعالى واجتنابهما لوجهه سبحانه لم يتضعف عذابه على عذاب مشرك لا قتل ولا زنا, ولما كان نص هذه الآية وإجماع الأمة بخلاف ذلك ثبت أنه عاص بالقتل والزنا مع المقام على كفره, ولن يعصي إلا بفعل ما نهي عنه وطولب بتركه واجتنابه. وقد علم أنه لا يصح التقرب منه بترك الزنا وتجنبه لوجه الله تعالى إلا بعد معرفته وتصديق رسله, فعلم أنه مأمور بتركه على هذا الوجه بشريطة تقديم فعل الإيمان والتصديق وكذلك هو مأمور بترك جميع المحظورات, وفعل العبادات بهذه الشريطة. وهذا واضح.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ} أنه يضاعف له العذاب على كل ذنب فعل مما ذكر في الآية. ولم يرد تضاعفه على الجمع بينهما. يقال له: هذا باطل من قبل أن ظاهر هذه الآية يقتضي تضاعف العذاب على الجمع بين الشرك والزنا والقتل وتعاظم العذاب الجامع بين ذلك. ولو أراد تضاعف العذاب على كل واحد من ذلك لأفرده بالذكر, وتضاعف العذاب عليه فكان يجب أن يقال: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر, ومن يفعل ذلك يضاعف له العذاب. وينسق عليه الزنا والقتل, ليعلم بذلك تضاعف العذاب على كل ذنب منها. وإذا جمعها في الذكر وقال: ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب. اقتضى الظاهر أن يضاعف العذاب على الجمع بينهما المعطوف عليه بقوله: ومن يفعل ذلك بعد ذكرها بهذا, فبطل ما قالوه على أن الظاهر يعطي إن كان الأمر على ما قالوه أن المنفرد بفعل كل واحد منها يضاعف له العذاب. والجامع بينها يضاعف- أيضا- له ذلك, وهو أحق به لعظم جرمه. وإذا كان ذلك كذلك ثبت ما قلناه. -[221]- فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون إنما يضاعف العذاب على الجامع بين هذه الذنوب من أهل الشرك, لإخراجه نفسه عن صحة العلم بقبح القتل والزنا, ولا لأجل مقامه على الشرك والإنكار. يقال لهم: لو كان ذلك كذلك لتضاعف العذاب بنفس الكفر، وإن لم يفعل المشرك قتلا ولا زنا لإخراجه نفسه بالشرك عن صحة العلم بقبح ذلك حتى لا يكون بين الجامع بين هذه الذنوب من أهل الشرك وبين المنفرد بالشرك فرق,

أدلة من قال بعدم تكليف الكفار بالفروع

وهذا باطل بما قدمناه. ومما يدل على ذلك إجماع الأمة على أن الكافر مأثوم ومعاقب ملوم على تكذيب الرسل عليهم السلام, وجحد نبوتهم وقتلهم وقتالهم ومعذب بذلك, كما أنه معذب على الكفر بالله عز وجل. وهذا مما لا اختلاف فيه. ولا يمكن أحدا أن يقول إنهم غير مأمورين بتصديق الرسل عليهم السلام ولا معذبين ولا عاصين بتكذيبهم وقتالهم وقتلهم وإن استجاز بعضهم أن يقول إنهم غير معذبين ولا عاصين بترك الصلاة والصيام وشرائع الإسلام. وإذا ثبت أنهم عصاة بتكذيب الرسل وقتلهم وقتالهم, وثبت باتفاق أنه لا يصح منهم العلم بصدق الرسل وصحة معجزاتهم وتحريم قتالهم إلا بعد معرفة الله سبحانه، وكونه منفردا بالقدرة على ما ظهر من آياتهم وجب أن يكونوا مأمورين بالعلم بصدقهم وصحة آياتهم بشريطة تقديم معرفة الله تعالى. وما هو مختص بالقدرة عليه. وكذلك هم مأمورون بالعبادات وترك المحظورات بهذه الشريطة. وهذا مما لا سبيل لهم إلى دفعه. وهذه النكتة مبطلة لشبههم التي يعتمدون عليها في إحالة تكليف الكافر للعبادات مع المقام على الكفر. فصل: ذكر ما تعلق به المخالفون في هذا الباب والجواب عنه. وقد اعتمدوا في إحالة تكليف الكافر العبادات بأنها لا تصح منه على وجه القربة إلى الله سبحانه مع المقام على كفره, فاستحال لذلك أمره بها, وهذا ساقط ومنتقض بالاتفاق على أن المحدث مأمور بفعل الصلاة, وقد اتفق على استحالة وقوع الصلاة منه على وجه القربة مع كونه محدثا، ولكنه لما صح منه

إزالة الحدث بالطهارة. وكان له إلى سبيل صح تكليفه فعلها بشريطة إزالة الحدث, وأمثال هذا الشرع كثير, كذلك الكافر مأمور بفعل العبادات بهذه الشريطة, وله إلى معرفة الله عز وجل وإزالة الكفر سبيل, فبطل ما قالوه -[222]- ويدل على فساد هذا الاعتلال أنه يوجب إسقاط فرض تصديق الرسل وقتالهم ورد شرائعهم, لأجل أنه لا يصح باتفاق منهم معرفة صدق الرسل وصحة آياتهم وتحريم تكذيبهم والرد عليهم مع الكفر والجهل بمرسلهم تبارك وتعالى. وهذا خروج عن الإجماع. وقد بينا أن الأمة متفقة على أنهم مأمورون بتصديقهم بشريطة تقديم المعرفة. وذلك صحيح متأت منهم, فسقط ما قالوه سقوطا ظاهرا. واستدلوا- أيضا-0 على سقوط العبادات عن الكافرين بأن قالوا: لو كانت واجبة عليهم في حال الكفر لوجب عليهم قضاؤها إذا أسلموا, كما يجب ذلك على تارك الصلاة من المسلمين المخاطبين بها إذا تركها, وأكدوا هذا الدليل بأن قالوا: إنما يجب قضاء الفرض لأنه لم يفعل فقط. ولذلك تساوت حال تارك الصلاة من المسلمين عامدا وساهيا, وكذلك يجب إذا ترك الكافر الصلوات وغيرها أن يلزمه قضاؤها. قالوا: على أن تارك الصلاة جاحدا لوجوبها بالكفر أسوأ حالا وأعظم من تاركها من المسلمين مع العلم بوجوبها. فإذا وجب قضاؤها على المسلمين عامدا أو ساهيا كان وجوب ذلك مع الكفر والجحد بالترك لها أولى. فيقال لهم: ما قلتموه غير لازم، لأننا نبين فيما بعد أن القضاء لكل عبادة وجبت بخروج وقتها على المسلم والكافر فرض مبتدأ ثان غير واجب بحق الأمر الأول. وإذا كان ذلك كذلك لم يجب القضاء على مسلم ولا كافر فيما فرطا فيه متى لم يرد أمر ثاني بوجوب قضاء ما مضى وقته. ومما يوضح ذلك ويبين أن القضاء لم يجب لأجل ترك المقضي, وإنما يجب بفرض ثان أن القضاء قد

يسقط مع تقدم وجوب المقضي, ويجب وإن لم يجب المقضي. فلهذا قالت الأمة: إن قضاء الصيام واجب على الحائض وأن يلزمها الصيام مع الحيض. وأن قضاء الجمعة غير واجب على من فاتته, أو اعتمد تركها مع الاتفاق على وجوبها عليه. فثبت بهذا أنه ليس القضاء لأجل ترك فعل المقضي. ولا تقدم وجوبه, وإنما يوجبه أمر ثان. وإن اعتل معتل منهم في سقوط العبادات عن -[223]- الكافر بأنها لو كانت واجبة عليه لوجب عليه الزكاة مع إسلامه. فلما اتفق على سقوطها دل ذلك على أنه غير مخاطب بها في حال كفره. وهذا باطل, لأننا قد دللنا بما سلف على أنه مخاطب بالزكاة وسائر العبادات وإخراجها, وأداؤها مع إسلام الكافر ممكن مثاب باتفاق الكل. ولو بقي عليه الوجوب للزمه للإخراج. ولكان ذلك صحيحا منه باتفاق. وإنما بم يلزمه ذلك لأن الله تعالى خفف محنته وأسقط ذلك عنه. ولو لم يسقطه لكان واجبا. فإن قالوا: الإجماع على سقوطه يدل على أنه كان غير مخاطب به. قيل لهم: هذا باطل وفي هذه الدعوى وقع النزاع, وليس بين الأمة خلاف في أنه يجوز ورود السمع بإسقاط ما كان وجب وتقدم فرضه. وهذا منه، فبطل ما قالوه. فإن قيل: فبأي دليل أسقطتم عنه ما علمتم تقدم وجوبه عليه؟ قيل لهم: بإجماع الأمة على سقوط ذلك عنه وكونه غير واجب عليه. فعلمنا بتلك الأدلة كونه مخاطبا بها. وبهذا الإجماع علمنا سقوطها عنه, ولا جواب عن ذلك, وعلى هذا الذي قلناه دل قول الله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم

مَّا قَدْ سَلَفَ} وعموم هذا عند مثبتي العموم يقتضي غفران جميع ما سلف وسقوط كل ما كان واجبا عليهم وكذلك قوله عليه السلام: " الإسلام يجب ما قبله" ومعناه أن يقطع وجوب ما كان وجب من الفرائض والعقاب والذم إلا ما قام دليله, لأن الجب إنما هو القطع, فثبت بذلك ما قلناه وسقط ما اعتلوا به. وأما الكافر إذا أسلم مع بقاء الوقت, فهو مخاطب بالصلاة لبقاء وقتها, وبمثابة الطفل إذا بلغ والحائض إذا طهرت. وليس ذلك بمشبه لوجوب الزكاة وتعلقها في ذمته وصحة إخراجه لها, لأن الإخراج لما وجب منها لا وقت له محصور, وإنما يجري ذلك مجرى الواجب من قضاء الدين, فافترق الأمران. واستدل بعضهم على ذلك ممن يقول إن المرتد يجب عليه قضاء العبادات من الصيام والصلاة وغير ذلك إذا رجع إلى الإسلام مما تركه أيام ردته بأنه لو كان الكافر الأصلي واجبا عليه هذه العبادات لجرى مجرى المرتد في وجوب القضاء عليه, ولما افترقا في هذا الباب علم أن المرتد مخاطب مع ردته بها. وأن الكافر الأصلي غير مخاطب بها. يقال لهم: أما هذا الاعتلال فساقط -[224]- على قول من لا يوجب على المرتد قضاء شيء من ذلك. ومن قال من هذا الفريق بوجوب الحج عليه إذا عاد إلى الإسلام لا يجعل هذا الحج قضاء، وإنما يجعله حجة الإسلام وفرضا مبتدأ, لأنه قد أبطل حجه وعمله بردته، واستؤنفت عليه الفرائض عند إسلامه فزالت المعارضة عنهم بالحج.

ثم يقال لهم: قد بينا فيما مضى أن القضاء فرض ثان على كل من وجب عليه من كافر أصلي ومرتد ومسلم سها أو فرط أو اعتمد, وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قلتموه. ولو أن الله عز وجل سوى بين الكافر الأصلي عند إسلامه وبين المرتد عند إسلامه ومفارقته ردته في وجوب القضاء لوجب عليهما وجوبا متساويا, ولا يجب عليه تعالى متى تفضل على الكافر الأصلي بإسقاط قضاء العبادات إسقاطها عن المرتد. ولا وجه لقول من قال من أصحاب الشافعي إن المرتد إنما وجب عليه قضاء العبادات التي تركها في حالة ردته, لأنه قد كان مسلما ملتزما لأحكام المسلمين فلزمته لذلك وإن ارتد لالتزامه ذلك, لأن هذا باطل ولا يلزم العبد الفرض لالتزامه له, وإنما يلزمه لإيجاب الله سبحانه ذلك عليه, ولو لم يلتزم العبد ما ألزمه الله لم يخرج بذلك عن أن يكون لازما له. ولو التزم ما لم يلزمه الله تعالى لم يلزمه ذلك. فلا وجه لقولهم إن المرتد التزم أحكام المسلمين. هذا على أن لم يلتزم العبادات في حال ردته وتركه لها,

وإنما التزم ذلك في حال إسلامه وخرج عن التزامه في حال ردته وتركه لها. فسقط ما قالوه. ثم يقال لهم: إنكم قد نقضتم بهذا القول اعتلالكم في أن الكافر غير مخاطب بالعبادات نقضا ظاهرا لأنكم إذا زعمتم أن المرتد قد لزمته العبادات مع ردتهم وهو في حال الردة مشرك بالله تعالى وغير عارف به. وإنما يخاطب بها بشرط مفارقة الردة والعود إلى الإيمان وجب- أيضا- أن يكون الكافر الأصلي مخاطبا بها بهذه الشريطة. فهذا نقض منكم ظاهر، وتسليم لما قلناه. -[225]-

باب القول في الأمر بالشيء نهي عن ضده أم لا؟

باب القول في الأمر بالشيء نهي عن ضده أم لا؟ اختلف الناس في هذا الباب: فقال جميع أهل الحق النافين لخلق القرآن: أن أمر الله سبحانه بالشيء على غير وجه التخيير بينه وبين ضده وهو نفس النهي عن ضده وغير ضده- أيضا- مما نهي المكلف عنه. وهو أمر بكل ما أمر الله عز وجل به على اختلافه وتغاير أوقاته وأمر لكل مكلف, وأنه شيء واحد ليس بمتبعض. ولا متغاير. وقد ذكرنا هذه الجملة, وما يتصل بها في الكلام في أصول الديانات. وقال- أيضا- جميع أهل الحق: أن الأمر بالشيء على وجه الإيجاب والمنع من التخيير هو نفس النهي عن ضده.

ومنهم من لم يشترط في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده كونه أمرا واجبا, لأحل قوله إن الأمر بالشيء على وجه الندب نهي عن ضده على سبيل ما هو أمر به. وهذا هو الذي نقوله ونذهب إليه. وقد دللنا من قبل على ذلك في باب أن الندب مأمور به بما يغني عن رده. ويجب على كل من قال إن الأمر بالشيء نهي عن ضده أن يشترط فيه أنه نهي عن ضده وضد البدل منه, الذي هو ترك لهما, إذا كان أمرا على غير وجه التخيير. وأنما يجب اشتراط ذلك لأجل أنه قد ثبت بما بينته آنفا. وما ذكرنا منه طرفا سالفا أن الأمر بالشيء على جهة التخيير بينه وبين البدل منه, ليس بنهي عن تركه الذي هو مخير بينه وبينه, نحو الكفارات الثلاث, لأنه مخير فيها. وكذلك حكم الصلاة الموسع وقتها, الذي المكلف عند كثير من الناس مخير بين تقديمها وبين فعل العزم على أدائها إن بقي بشريطة التكليف, والأمر بما هذه حالة من الواجبات نهي عن ترك المأمور به وترك البدل عنه ولو لم يكن في الواجبات ما يسقط إلى بدل يقوم مقامه لم يحتج إلى هذا الشرط. وهذه الزيادة في اللفظ, وليس يمكن أيقال في هذا أن ترك الصلاة في أول الوقت هو نفس الترك للعزم على أدائها فيما بعد. ولذلك ما صح أن يترك الصلاة في أول الوقت من يترك العزم على أدائها فيكون عاصيا مأثوما وأن يتركها من لا يترك هذا العزم. فلو مات قبل تضييق الوقت لم يكن مأزروا ولا مأثوما مع فعل العزم على أدائها. فصل: وقد اختلف القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده هل هو نهي عنه من جهة اللفظ أو من جهة المعنى؟

فقال جميع من قال إن للأمر صيغة وللنهي صيغة تخالفها -[226]- إنه نهي عنه من جهة المعنى دون اللفظ. وقال من أنكر صيغتها: إنه نهي عنه على الحقيقة. ولا وجه لقول من قال إنه نهي عنه في المعنى دون اللفظ, لأنه لا صيغه ولا لفظ للأمر والنهي. وقالت القدرية وكل قائل بخلق القرآن: إن أمر الله تعالى بالشيء غير نهيه عن ضده. وكذلك أمر الآمر منا ونهيه, وأنه ليس ينهي عنه في لفظ ولا معنى هذا جملة الخلاف في هذا الباب. فصل: وأما النهي عن الشيء فإنه لا بد أن يكون أمرا بالدخول في ضده إن كان ذا ضد واحد, أو بعض أضداده إن كانت له أضداد. ويكون أمرا بضده أو ببعض أضداده على سبيل ما هو نهي عنه إما على وجه الإيجاب أو الندب, ولا بد- أيضا- أن يكون الأمر بالشيء على غير وجه التخيير نهيا عن جميع أضداده وتروكه المخرجة عنه. ولا يجوز أن يقال: إن الأمر بالشيء نهي عن

جميع أضداده من غير أن يقال إذا كان أمرا به على غير وجه التخيير، لأجل أننا قد بينا فيما سلف أنه قد يخبر المأمور بين فعل الشيء وضده, كما يخير بين فعله وفعل خلافه. ولا يمكن أن يكون الأمر بالشيء على وجه التخيير بينه وبين ضده نهيا عن ضده, على ما بيناه سالفا. وليس لما يهذون به في هذا الباب من قولهم لو أمكن أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن جميع أضداده لصح وأمكن أن يكون النهي عنه أمرا بالدخول في جميع أضداده أو في ضدين منها, بل إنما يجب أن يكون النهي عنه أمرا بالدخول في ضده الواحد أو بعض أضداده وجه, فالعكس في هذا باطل غير واجب. والفصل بين الأمرين إنه إنما جاز أن يكون الأمر بالشيء على غير وجه التخيير نهيا عن جميع أضداده نحريما أو ندبا, لأجل حصول العلم بالإجماع لجواز خلو الفاعل للفعل في حال كونه متلبسا به من جميع أضداده وامتناع وجود فعله معها أو مع شيء منها, وذلك نحو الفاعل للكون في المكان التارك بفعله جميع الأكوان المضادة له في الجهات والأماكن المتغايرة. ولا يمكن إذا ترك الكون في المكان المعين دخوله في فعل الكون في مكانين والمصير إلى جهتين. هذا باطل ومعلوم فساده بأول في العقل. فلم يجب قياس الأمر على النهي في هذا الباب. وهذا الذي ذكرناه هو المفسد لقول من قال: إنه لو كان الأمر بالشيء نهيا -[227]- عن ضده لوجب أن يكون الأمر بمأمور به من ثلاث أضياء متضادة نهيا عن ضده. وأن يكون النهي عن الضد الثاني أمرا بالضد الثالث, لأنه إذا وجب أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن جميع أضداده لم يجز أن يكون الآمر به والمستدعي أمرا بشيء من أضداده مع الأمر به فبطل، ما قالوه.

أدلة من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده

وبهذا- أيضا- يبطل قول من قال لو كان ذلك كذلك لوجب إّا كان المأمور به واحدا من ثلاثة أضداد أن يكون الأمر به نهيا عن ضده الثاني. وأن يكون النهي عن الضد الثاني أمرا بالثالث, وأنه يجب أن يكون الثالث من الأضداد مأمورا به بالنهي عن ضده, ومنهيا عنه بالأمر بفعل ضده, لأن هذا بعد ممن ظنه لأننا قد بينا أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضد واحد من أضداده أو عن جملة منها. وإنما يجب أن يكون نهيا عن جميعها, فكيف يظن أنه نهي عن واحد منها دون الثالث له ضدان، أحدهما مأمور به والأمر به يوجب النهي عن الثالث, والآخر منهي عنه والنهي عنه يقتضي الأمر بالثالث. هذا كله فاسد، لأنه مبني على أن الأمر بالشيء نهي عن بعض أضداده. وليس الآمر على ما توهموه. فصل: والذي يدل على أن الأمر بالشيء من كلام الله سبحانه خاصة هو نفس النهي عن ضده وغير ضده ما أقمناه من الأدلة على أن كلام الله سبحانه شيء واحد ليس بأشياء متغايرة. فوجبت فيه هذه القضية. وما يدل على ذلك- أيضا- أنه إذا ثبت أن الآمر منا بالشيء يجب عند أمره به كونه ناهيا (عن ضده وتركه, ولو خرج عن كونه ناهيا) عن تركه لخرج عن كونه أمرا به, ولم يقم مع ذلك دليل يلجئ إلى جعل النهي عن ضد الشيء معنى غير الأمر به ومقترنا إليه, وجب لذلك أن يكون نفس الأمر بالشيء هو النهي عن ضده، كما أنه إذا وجب متى وجد الفعل للشيء أن يكون الفاعل له تاركا لضده. ومتى وجد كون الجسم في مكان وجب أن يكون مفرغا لغيره.

ومتى كان قريباً مما دنا منه كان بعيدا مما نأى عنه, وجب لذلك أن يكون القرب من الشيء هو نفس البعد عن غيره. وأن يكون الكون -[228]- في المكان هو الخروج عن غيره, وأن يكون الفعل للشيء هو بعينه ترك لضده. هذا مستمر لا شبهة فيه. ولو أمكن أن يقال أن النهي عن الشيء معنى يقارن الأمر بضده وهو غيره من غير حجة توجب ذلك والحال ما ذكرنا لجاز أن يقال إن فعل الشيء غير ترك ضده. وأنه معنى يقارن الترك ضده. وكذلك الخروج عن المكان ليس هو نفس الكون في غيره ولكنه معنى يقارنه. ولما بطل هذا بطل ما قالوه. وبهذه الطريقة يعلم أن هو هلة للحكم فهو وحده علته دون معنى يقارنه, لأننا إذا كنا قد علمنا أنه متى وجدت القدرة وجب كون القادر قادرا. ولو عدمت لخرج بعدمها عن هذا الحكم, ولم يقم مع ذلك دليل يلجئ إلى كونه قادرا لمعنى يقارن القدرة يجب وجوده عند وجودها وعدمه عند عدمها وجب أن يكون وحدها هي العلة في كون القادر قادرا, وهذه طريقة مستمرة، فصح ما قلناه. ويدل على ذلك- أيضا- إنه لو كان للأمر بالشيء معنى غير النهي عن ضده لم يخل من أحد ثلاثة أمور: أما أن يكون مثل الأمر به أو ضده أو خلافه وليس بضده. فإن كان مثله استغنى الأمر به عن نهي عن ضد هو مثله ومن جنسه أو خلافه, لأن مثله ساد مسده ونائب منابه.

شبه من قال إنه ليس نهيا عن ضده والرد عليهم

وإن كان ضده استحال أن يكون الآمر بالشيء ناهيا عن ضده في حال أمره به. لأنه لا يجتمع ذلك له إلا باجتماع ضدين. وهذا باطل، لأننا قد علمنا أن كل آمر بشيء فإنه ناه عن ضده لا محالة. فكيف يكون الأمر بالشيء ضد النهي عن ضده. وإن كان خلافه وليس بمثل لله ولا ضد صح وجود كل واحد منهما مع ضد الآخر أو وجود أحدهما مع ضد الآخر. لأن هذا حكم كل خلافين ليسا بمثلين ولا ضدين. وذلك يوجب صحة وجود الأمر بالشيء مع وجود ضد الأمر بضده. وضد الأمر بضده هو الأمر به. فيكون الأمر بالشيء أمرا بضده مع الأمر به, وذلك محال, لأنه يوجب أن يوجد الأمر بالشيء مع ضد الأمر به? وضد الأمر به هو النهي عنه, حتى يكون الآمر بالشيء ناهيا عنه. وهذا محال، فثبت أن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده. ويبين هذه الجملة أنه إذا كان السواد والحركة والحياة والقدرة خلافين ليسا بضدين ولا مثلين أمكن وجود السواد مع ضد الحركة وهو السكون. ووجود الحركة مع ضد السواد من الألوان. وأمكن وجود الحياة مع ضد القدرة، وهو العجز. وإن لم يجز وجود القدرة مع ضد الحياة من الموت. فبان بهذا أن هذه سبيل كل خلافين من الأجناس ليسا بضدين ولا مثلين. فصل ذكر شبه المخالفين في هذا الباب وقد اعتمدوا في ذلك على أنه لما كانت صيغة الأمر بالشيء خلاف صيغة النهي. وكان الأمر هو القول إفعل القيام. وصيغة النهي عن ضده أن لا يفعل

القعود استحال أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده. وهذا باطل من وجهتين: أحدهما: ما بيناه فيما سلف من أنه لا ضيغة لهما, فبطل ما قالوه. والوجه الآخر: إنه لوثبت لهما صيغة يصح أن يقال إن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ. لأن أهل اللغة قد وضعوا قولهم قد أمرتك بالشيء وأوجبته عليك لإفهام وجوبه, وإفهام النهي عن تركه معقول من قولهم أوجبت عليك القيام ما يعقل من قولهم وحظرت عليك القعود, وكل ضد للقيام. فإن قال ذلك على أثر قول أوجبت عليك القيام فمن جهة التأكيد. وذلك نحو قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ} لأنه لو جرده عن قوله: وذروا البيع، لفهم منه تحريم كل ما ضاد السعي إلى الصلاة من بيع وغيره. وإنما خص البيع بالذكر، لأنه معظم الشغل وأكثره. وإلا فهو وغيره في هذا بمعنى قوله:" وذروا ما يشغل عنه ويمنع منه" فبطل ما قالوه. وهذا جار مجرى مفهومات الخطاب التي لم تذكر بأخص أسمائها, نحو ما ذكرنا من قوله عز وجل {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} وقوله تعالى: {ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}. وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. ومفهوم هذا غير منطوق به.

ويقال لسائر المعتزلة ومن وافقهم على أن كلام الله سبحانه وكلام خلقه ليس بشيء أكثر من الأصوات والصيغ التي منها صيغة الأمر والنهي. وأن الآمر بالشيء على طريق الإيجاب ناه عن ضده لا محالة فهو يقارنه. خبرونا إذا قال القائل: قد أوجبت عليك القيام وحتمته أليس قد نهى عن ضده لا محالة؟ فلابد من الإقرار بذلك. فيقال لهم: فما هو النهي عن ضده, ولم نسمع من الأمر سوى الأمر به أهو معنى في النفس أم نفس الأمر به؟ فإن قالوا: هو نفس الأمر به وافقوا. وإن قالوا هو معنى في النفس تركوا مذهبهم في حقيقة الكلام. وإن قالوا: هو معنى غير هذه الأصوات، وليس بمعنى في النفس لم يجدوا إلى ذكر شيء سبيلا. وإن قالوا: هو الكراهة لضد المأمور به أبطلوا باتفاق، لأن النهي قول والكراهة ليست بقول باتفاق. وهذا ما لا جواب لهم عنه. وقد استدلوا على ذلك بأنه لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده لكان له متعلقان: أحدهما مأمور به والآخر منهي عنه, ولوجب أن يتعلق بشيئين على جهة العكس. وهذا زعم باطل, لأن كل ماله تعلق من الصفات لا يصح أن يتعلق إلا بمتعلق واحد على وجه واحد. وهذا- أيضا- باطل, لأننا قد بينا في الكلام في أصول الديانات بطلان هذا الذي بنوا عليه. وأن صفات القديم سبحانه خاصة تتعلق بكل ما يصح أن تتعلق به صفاتنا. وبينا ذلك- أيضا- بأنهم قد نقضوا هذا بقولهم: إن القدرة الواحدة تكون قدرة على الشيء وعلى

مثله وضده وخلافه. وأوضحنا أن نفس الإرادة للشيء كراهة لضده، وأنها تتعلق بشيئين وتكون متعلقة بأحدهما على العكس من تعلقها بالآخر, فبطل ما قالوه. واستدلوا- أيضا- على ذلك بأن قالوا: لو جاز أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده لوجب- أيضا- أن يكون العلم بالشيء جهلا بضده, والقدرة على الشيء عجزا عن ضده. وهذا باطل، لأنه -[231]- معارضة اللفظ باللفظ دون اعتبار معنى. وإنما قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده لعلمنا بأن كل آمر بشيء فهو ناه عن ضده. فلو كان العلم بالشيء جهلا بضده, والقدرة عليه عجزا عن ضده لاستحال أن يعلم الشيء من يعلم ضده, وأن يقدر عليه من يقدر على ضده. ولما بطل ذلك بطل ما قالوه. ويقال لهم: أو ليس كل آمر بالشيء ناهيا عن ضده, ولا يجب أن يكون كل عالم بالشيء جاهلا بضده وكل قادر عليه عاجزا عن ضده؟ فإذا قالوا: أجل قيل لهم: فقد بطل ما عولتم عليه.

باب القول في الأمر هل هو على الفور أو على التراخي؟

باب القول في الأمر هل هو على الفور أو على التراخي؟ أو يصح أن يقال فيه بالوقف, وإن كان على التراخي, هل لتراخيه غاية محدودة أم لا؟ وما يتصل بذلك اعلموا- رحمكم الله- أن أول ما يجب في هذا الباب أن يقال إن الأمر المختلف في وجوب تعجيل مضمونة أو تأخيره أو جواز الوقف في ذلك إنما هو الأمر الذي ليس على الدوام والتكرار, وإنما يكون أمرا بفعل واحد أو جملة من الأفعال, لأنه قد اتفق على أن ما يجب على الدوام والتكرار فإنه واجب في جميع الأوقات من عقيب الأمر إلى ما بعده. فصل: وقد ذكر عن بعض من يقول بالوقف في الألفاظ المحتملة أن القول بالوقف في الأمر المتعلق بالفعل الواحد أو جملة من الأفعال واجب, وأنه يحتمل الفور والتراخي، وأنه بمنزله سائر الألفاظ المحتملة. والوجه عندنا في ذلك القول بأنه على التراخي دون الفور والوقف.

والدليل على فساد القول بالوقف في ذلك أمور: أحدهما: إن المتوقف إنما يتوقف في ذلك لطلب الدليل على جواز تأخيره وزوال المأثم بذلك. وليس يتوقف لطلب الدليل على سلامة تقديم الفعل من المأثم والعقاب, والقول بأن تقديم إيقاعه حرام, لأن من قال بالفور والتراخي جميعا يقول إن تقديم فعله حسن جميل. والقائلون بوجوب تقديمه يقولون يأثم بالتأخير. والقائلون بالتراخي يقولون: إنه إذا قدمه فقد أدى الواجب وبرئت ذمته. والأحوط له في إحازة -[232]- الثواب تقديمه, لأنه لا يأمن الموت إن أخره. وإذا كان ذلك ثبت أن مقدم فعله فاعل للمأمور به بإجماع الأمة قبل القائل بهذا, فبطل ما قالوه.

ويبين هذا- أيضا- أنه لو وجب الوقف في ذلك لكان المقدم لفعله عقيب الأمر مع اعتقاد وجوبه وبراءة ذمته به مخطئا ملوما مأثوما, لأنه لا يعلم ذلك بل يجوز أن يكون المراد به به التأخير. وهذا- أيضا- خلاف الإجماع فلو احتمل الأمر في أصل الوضع الفور والتراخي لكان هذا الإجماع من الأمة, على أن تقديم فعله ليس بمحظور ولا حرام موجبا لحمله بدليل السمع, على أن سائر الأوقات وقت له من عقيب الأمر إلى ما بعده. ويقال لمن ركب أن تقديم فعله حرام لموضع الاحتمال فيه فأنت إذا قائل بأنه إنما يجب أن يفعل لا محالة في وقت يكون بعد عقيب الأمر. فإن قال: أجل خالف الإجماع الذي وصفناه. وقيل له - أيضا- أفيجوز أن يتعرى الأمر طول عمر المكلف من بيان وقته أم لا يجوز ذلك؟ فإن قال ذلك جائز. قيل له: فهو إذا حرام على المكلف فعله في سائر الأوقات، لأنه عار فيها من دليل وجوب فعله في كل وقت منها, كما أنه عار من ذلك في حال عقيب الأمر. وهذا يوجب التوقف عن فعله في كل حال. وأن يكون إيقاعه فيها حراما وبمثابة إيقاعه عقيب الأمر به, وذلك خلاف الإجماع وإسقاط للتكليف وجعل الأمر محرما- أبدا- لإيقاع الفعل. وذلك باطل. وإن قال: لا يجوز أن يؤخر بيانه في الحال التي تلي عقيب الأمر، وأنه واجب في الذمة إلى حين موت المكلف, أو واجب إيقاعه في وقت محدود معين. قيل له: فما معنى الوقف مع البيان لحال المأمور به وأنه في الذمة أو مؤقت بوقت محدود. والوقف لا يسوغ مع البيان مع أن هذا البيان يجب أن يكون مع الأمر وحين وروده ليتبين به حال عقيب الأمر. وأنه حال له أم لا, كما يجب عنده أن يبين في الحال التي تلي عقيب الأمر ليعلم حكمه من تعلقه/ في الذمة أو

توقيته، ولا مخرج من ذلك. وإن قال قائل: يجوز تأخير بيان ذلك أوقاتاً كثيرة. قيل له: يجوز ذلك الشهور والسنين الكثيرة، وإلا فما الفصل، وهذا يوجب صحة الوقف فيه أبداً، وتحريم الإقدام عليه في كل وقت، وذلك باطل. ومما يبين فساد هذا القول ودعواه على أهل اللغة في أصل الوضع علمنا باتفاق أهل اللغة على مدح المسارع إلى ما يؤمر به واعتقادهم فيه امتثال المأمور به. هذا معلوم من حالهم وحكم مواضعتهم قبل مجيء الشرع، وقولهم: فلان ممن يسارع إلى المرسوم وإلى امتثال للأمور به ولا يبطئ ولا يتأخر عما يؤمر به، ولأجل هذا قال كثير من الناس بوجوبه على الفور دون التراخي. وإن لم يقصد أهل اللغة عندنا إلى ما ادعوه، ولكنهم قصدوا إلى زيادة مدح من يسارع إلى امتثال الماس به ويبادر إليه. وإن كان له تأخيره. وعلى هذا دل قوله تعالى: {وسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وقوله سبحانه: {يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} في أمثال هذه الآي، فوجب بذلك بطلان القول بالوقف، وانه على التراخي من عقيب الأمر إلى ما بعده أو الفور. فإذا دللنا على فساد القول بالفور صح القول بالتراخي. ونحن تذكر من بعد إقامة الدليل على فساد القول بالفود بذكر حال الواجب

على التراخي وما يتضيق منه، وما لا يتضيق، وحال ماله وقع متسع ممتد. وهل يجب بأول الوقت أو في آخره. وهل له بدل إذا ترك دقت التسعة أم لا؟ وما يتصل بهذه الفصول والأبواب إن شاء الله. فصل: والذي يدل على أنه على التراخي أنه إذا قال: صل أو افعل إن كان للأمر صيغة أو علم أنه أمر بالفعل ولم يذكر وقتاً له. فكل الأوقات تصلح أن تكون وقتاً له من عقيب الأمر إلى ما بعده. ولم يكن في نفس الأمر توقيت للفعل بوقت معجل ولا مؤجل، ولا كان /ص 234 العقل يقتضي تعجيله دون تأخيره، أو لتأخيره دون تعجيله، وإنما يقتضي أن لا يقع إلا في وقت ما أو ما تقرر تقدير الوقت وجب لذلك أن تكون سائر الأوقات وقتاً له في دقت الأمر إلى ما بعدمه ولم يكن قول من قال هو على الفور والتعجيل بأولي من قول من قال هو على المهلة والتأخير. أو واجب قي الخامس أو العاشر من حال الأمر، مع أن ذلك أجمع مما لم يقتضه مجرد الأمر ولا قضية عقل ولا سمع. وفي تكافؤ هذه الدعاوي دليل على فسادها وصحة ما قلناه. ويكشف هذا ويوضحه إنه إذا قال: صل، أو اضرب رجلاً وكان الفعل لابد أن يقع عند المخالف في مكان، وكان كل شخص يصلح ويصبح إيقاع الضرب عندهم فيه، ولم يعين بقوله إضرب شخصاً من شخص، وجب أن يكون سائر الأشخاص محلاً للضرب، وأن يكون المأمور مخيراً في إيقاعه في أيهم شاء. وكذلك إذا قال له صل، ولم يعرفه توقيتاً له، وسائر الأوقات صالحة له وجب لا محالة أن يكون كلها وقتاً له. ولم يتعين وجوبه والاقتضاء له في بعضها

دون بعض إلا بدليل. فإن قالوا: إذا قال اضرب ولم يعين له شخصا من شخص، فكأنه قال: اضرب من شئت. قيل لهم: وكذلك إذا قال: صل، ولم يعين له وقتاً، فكأنه قال: صل أي وقت شئت، ولا مخلص من ذلك. وإن قالوا: الفعل يختص الزمان، فلا يصلح أن يكون سائر الأزمان وقتاً له، وتخيير المكلف لإيقاعه فيها. قيل لهم: هذا باطل، لأنه ليس في الحوادث ما يختص زماناً بعينه لما قد بيناه في أصول الديانات. فبطل ما قالوه. بل لو قيل إن الفعل الموقع في المكان يختص المكان، ومحال وجوده مبتدأ ومعاداً في غيره لكان أولى، وذلك هو الصواب لما بيناه في غير هذا الكتاب. وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يكون/ ص 235 الأشخاص كلها مكانا للفعل الواحد، وإن خير المكلف في فعلها في أيها شاء، فسقط ما قالوه. وإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون للعقل قد عين وقت الفعل، ووجوب تعجيله، والسمع أيضاً من حيث دلاً علي أن الأمر على الوجوب، والواجب لا يجوز تأخيره، لأن تجويز ذلك فيه يدخله في باب الندب. يقال لهم: ما قلتموه باطل من وجوه: أحدها: إنه ليس الأمر على ما ادعيتم، لأننا قد بينا قيما سلف إنه لا دليل

في عقل ولا سمع على أن مجرد الأمر على الوجوب فأغنى ذلك عن رده. والوجه الأخر أنه لو سلم لكم ذلك لم يوجب العقل تقديم فعل الواجب من حيث كان ووجباً. لأن الواجب قد يكون معجلاً ويكون متراخياً ومؤجلاً يكون مضيقاً وموسعاً بوقت ممتد. وقد ينص على توسعته على ما سنشرحه فيما بعد. وإذا ثبت ذلك لم يكن الوجوب موجباً للتعجيل. والوجه الآخر: إننا إنما نمنع أن يكون موجب اللغة والوضع يوجب تعجيل المأمور به ولم ننكر قيام دليل على ذلك من عقل أو سمع. وإن قام على ذلك دليل قلنا به، ولم يبطل ذلك ما قلناه من أن مجرد الأمر لا يوجب ذلك في اللغة فزال ما قالوه من كل وجه. وإن قال قائل منهم: ما أنكرتم أن يكون مجرد الأمر بالفعل مقتضباً للفور والتقديم بدليل أنه يقتضي فعلاً واحداً، والفعل الواحد لا يقع في وقتين وإنما يقع في وقت واحد. وقد اتفقت الأمة على أنه إذا قدمه برئت للذمة بفعله. وفعل المأمور به، فوجب أن يكون ما يقع بعده غير المأمور به. وأن يكون غير مجزئ، وأن لا يحل تأخيره. يقال لهم: ليس الأمر في هذا على ما قلتم، وإن مطلق الأمر يقتضي فعلاً معيناً. وإنما يقتضي إيقاع واحد من الجنس غير معين، فلا وجه لدعواكم تعيينه، وهو بمثابة أن يقال قد أمرتك بفعل ركعة واحدة أو ركعة في يومك هذا وأنت مخير في فعلها/ ص 226 في أي وقت شئت من ساعاته. وقد اتفق على صحة أمره على هذا الوجه، ثم لم يوجب ذلك أن يكون المأمور به معجلاً لأجل أنه فعل

واحد، لأنه وإن كان واحداً فهو واحد من الجنس غير معين، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. وإن قالوا: قد أجمعوا على أن المقدم منه واجب مأمور بهو فوجب أن لا يكون ما يقع في الثاني مأمور به. قيل: إجماعهم على أن الأول به ليس بدال على أنها بعده ليس بمأمور به. وخلاف من خالف في ذلك غير قادح فيما قلناه، لأنه مخطئ فيه، ولو كان ما قالوه واجباً لوجب أن تكون الكلمة والركعة واجبة بأول النهار وإن جعل له في ذلك الخيار لإجماعهم على أنه إذا قدمها في أول النهار كان مؤدياً للواجب، ولما فسد هذا باتفاق سقط ما قالوه. ومما يدل على ما قلناه أيضا اتفاقهم على أن الخبر عن إيقاع الفعل من المخبر أو غيره لا يتضمن. توقيت وقوعه وتعجيله، وإن تأخر كان الخير كذباً، وكذلك الحالف ليقومن وليضربن لا يتوقت عليه تعجيل للفعل إذا لم يوقته. وإذا فعله ولو بعد أعوام برئ من حكم اليمين. فكذلك الحاكم بإيقاع الفعل من حيث لا يمكن الفصل بين الخبر عن وقوعه والأمر بذلك. ويدل على ذلك - أيضاً - أن مدعي اقتضاء الأمر للفور في حكم اللغة يحتاج إلى توقيف منهم، ونقل له عنهم يحج مثله وقد بينا في غير فصل سلف تعذر نقل توقيف على هذه الدعوى وأمثالها، والجواب عن عكس للمطالبة بأن ننقل نحن عن أهل اللغة بأن الفعل على التراخي بما ينبه على الجواب. ويدل على ذلك - أيضا - أن لو كان مجرد الأمر يقتضي الفور والتعجيل لوجب أن يكون ما يقارنه من الدليل على أن لنا تأخيره، أو على توقيته بوقت معين مخرجاً له عن حكم مقتضاه، وأن يكون أمراً على وجه المجاز. وذلك باطل باتفاق. وقد بينا في فصول الخطاب في الحقيقة والمجاز أن كل قرينة

تصرف الخطاب عما وضع له إلى سواه فقد أخرجته / ص 237 عن الحقيقة إلى المجاز بما يغني عن رده، فبطل ما قالوه. فصل: ذكر ما يتعلق به المخالفون والجواب عنه وقد استدلوا على ذلك بأن لفظ الأمر اقتضى إيجاب الفعل وكونه واجباً مقتض لإيقاع موجبه، فوجب إيقاع الفعل مع الوجوب، ولم يجب تأخيره. قالوا: وكما أنه لما اقتضى وجوب اعتقاد وجوبه، وكان اعتقاد وجوبه الذي هو أحد موجبيه على الفور وجب - أيضا - لزوم الفعل على الفور. يقال لهم: أما قولكم إن لفظ الأمر اقتضى الوجوب مع حصوله فإنه قول باطل، لأنه لا لفظ للأمر لما قدمناه. ثم لو سلمنا ذلك لم يجب إيقاع الفعل في حال حصول لفظ الأمر وكونه واجباً، لأن ذلك يوجب إيقاع الفعل في حال سماع الأمر سماع لفظه وكونه موجباً، وذلك محال. وإنما يجب عندكم في الثاني، وليس يستقر عندكم لفظه وكونه واجباً إلا في الثاني، فبطل ما قلتم. وإذا وجب انفصال وقوع الفعل عن استقرار لفظ الأمر ووجوبه بحال جاز بحالين وأكثر، وفسد ما عولتم عليه. وأما قولكم: إن الأمر اقتضى تعجيل فعل الاعتقاد الذي هو أحد موجبيه. فإنه غلط من وجوه: أحدهما: إننا لم نقل إن الاعتقاد إنما وجب تقديم فعله، لأجل حصول الأمر به فقط. وإنما قلنا ذلك، لأن الدليل أوجبه. فإن وجد في تقديم الفعل وما

يقوم مقامه، وإلا بطل الجمع بينهما. وشيء آخر: وهو أنه لو كان الأمر المقتضي لفعل الاعتقاد وإيقاع الفعل موجباً لتقديم فعل الأمرين لإيجابه تقديم أحدهما لوجب لا محالة إيجاب تقديم الفعل المؤقت لما يقتضى تأخيره لإيجاب الأمر به تقديم اعتقاد وجوبه. قلما اتفق على أنه لو قال قد أوجبت عليك إيقاع الصلاة في رأس الشهر أو الحول لم ينجز له تقديم فعلها عقيب الأمر وإن لزم تقديم فعلى اعتقاد وجوبها، فسقط ما قلتموه. هذا على أنه إذا وجب عندهم إيقاع الفعل عقيب الأمر امتنع وجود العزم على أن سيفعل، لأن العزم عزم على المستقبل وتوطين للنفس على فعله. وذلك لا يصح في الواقع الموجود/ ص 238 فلا وجه لقولهم يجب تقديم الفعل، كما يجب تقديم العزم. فإن قالوا: فما الدليل الموجب لتقديم فعل الاعتقاد على الفور؟ قيل لهم: أمور: أحدها: الاتفاق على وجوب فعلى الاعتقاد على التكرار في جميع الأوقات التي يذكر فيها الأمر وأن الأمر يذلل ليس بأمر باعتقاد واحد من الجنس واقع في زمن واحد، وإنما هو أمر بالاعتقادات على الدوام. فإذا كان ذلك كذلك لزم إيقاعه على الفور وفيما بعده، وفي كل وقت ذكر الأمر بالفعل الذي يجب فعله على التكرار، ولما لم يجب الفعل المعتقد وجوهه على التكرار لم يلزم إيقاعه على الفور وما بعده. وهذا واضح في الفعل بين الأمرين. فإن قيل: ولم لم يجب الفعل على التكرار كما وجب الاعتقاد لوجوبه. قيل: لأن الله لم يوجب ذلك، ولو أوجبه للزم تكراره، وقد يمكن أن يقال إنه إنما لم يجب الفعل على التكرار لكونه مضراً وقاطعاً للحدث والنسل والمصالح، وليس كذلك فعل الاعتقاد لوجوبه كلمة ذكر الأمر، لأنه غير قاطع عن هذه الأمور.

ومما يقتضي الفرق بينهما أيضا أن الاعتقاد بما يتضمنه العلم بوجوب الفعل لا محالة والتصديق للمخبر عن وجوبه. وترك الإصرار على معصيته. وذلك أن الأمر لا يستقر وجوبه إلا مع العلم بأنه واجب، أو التمكن من العلم بذلك. فإذا أمر بإيقاع الفعل والتقرب به معجلاً أو مؤجلاً فلابد من إعلامه وإشعاره بذلك، ومتى علم وجوبه حصل معتقداً لذلك، لأن الاعتقاد لوجوبه ليس بمعنى أكثر من العلم بوجوبه. فصار إفهام الوجوب متضمنا لاعتقاد الوجوب. وهذا الاعتقاد علم من فعل الناظر المستدل على وجوب ما أمر به. وليس لا يصح له العلم بوجوب الفعل إلا بعد إيقاعه فضلاً عن تقديمه، لأنه لو علم وجوبه واعتقد ذلك لصح أن يتركه جملة ويعصي بتركه. فإذا علم وجوب ما وقت بوقت متأخر وجب اعتقاد الوجوب معجلة وتأخر الفعل، وحال كونه عالماً بوجوب الواجب عليه مع تأخر انتقاد وجوبه، لأن نفس الاعتقاد لوجوبه هو العلم بالوجوب، فافترق الأمران، ولأن الله سبحانه إذا أوجب على العبد فعلة فقد أخبره باستقرار وجوبه عليه، ولزمه عند ذلك/ اعتقاد كونه واجبا لكي يكون بذلك مصدقا لخبر الله عز وجل عن إيجابه عليه، وإلا وجب كونه مكذباً له أو شاكاً في خبره، وذلك محرم بإجماع المسلمين، وهو ل يحتاج في تصديق الخبر عن إيجاب الواجب إلى إيقاع فعل الواجب. ولابد متى علم وجوب الفعل عليه واعتقاد ذلك وتصديق المخبر عن وجوبه أن يكون عازماً على أداء ما اعتقد وجوبه، أو تاركاً لهذا العزم، وقد اتفق على تحريم ترك هذا العزم في كل وقت، لأنه لا يتركه مع ذكر العبادة إلا بالعزم على ترك الواجب، وذلك عصيان من المكلف بإجماع الأمة، وليس في تأخير الفعل عصيان، فافترق الأمران. فصل: واستدلوا على ذلك بأن قالوا الدليل عليه إنه لا يخلو الأمر المطلق بغير توقيت من أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون أمره بفعل الشيء على الدوام والتكرار،

أو أن يكون أمراً بالفعل على البدل، أو يكون أمراً بفعل غير معين يوقعه المكلف أي وقت شاء، أو أن يكون أمراً بفعل واحد لا على الجمع ولا على البدل. قالوا: وقد اتفق على أن ذلك لا يصبح أن يقال فيما يلزم على التكرار، وإنما يختلف في فعل واحد أو جملة يصح أن يقدم ويصبح أن يؤخر، فسقط هذا الوجه. وإن كان أمراً بفعل واحد على البدل غير معين شائع في جميع الأوقات، فذلك باطل، لأن ما هذه حاله إنما هو أمر بأفعال مخير فيها، كل شيء منها غير صاحبه يقع في أزمان متغايرة. والأمر إنما اقتضى لفظه تعلقه بفعل واحد دون أفعال كثيرة تقع على الضم أو على البدل والتخيير، فلا سبيل إلى حمل الأمر على غير موجبه ومقتضاه. أو أن يكون أمراً بفعل واحد معين، فإن كان كذلك وجب أن ينظر أي الأزمان زمانه الذي يجب أن يقع فيه. فإذا عرفنا أن ذلك الزمان وحده هو وقته، وأنه هو المراد بإيقاعه فيه وجب أن يكون إيقاعه فيه هو المصلحة وإيقاعه في غيره مفسدة غير مراد. قالوا: وقد اتفق الكل على أن الأمر المطلق بالفعل إذا فعل عقيب الأمر فقد أدي به الواجب وبرئت به الذمة وحصل مصلحة ومراداً. وإذا ثبت ذلك من حكم الوقت/ ص 240 الأول علم أن الوقت الثاني وما بعده ليس بوقت لهم لأن ما يقع في الوقت الأول من أفعال الصياد لا يصح تقديمه على وقته، ولا تأخيره عنه ولا إعادته بعد عدمه. وأن ما يقع ض غير وقته فهو غيره من جنسه. وإذا كان غيره وجب لزوم الفعل على الفور.

يقال لهم: أما دعواكم أنه لا يجوز أن يكون أمرا بفعل غير معين. فإن ذلك الفعل قد خير المكلف بين فعله وفعل مثله في غير وقته، فإنه نفس الخلاف، فلم قلتم ذلك؟. فإن قالوا: لأن أمره بالفعل ليس في ظاهره أنك مخير بينه وبين غيره. قيل لهم: وليس في ظاهره أنك مأمور بفعل واحد من الجنس معين بوقت مخصوص دون مثله، فلا يجب أن يقولوا بذلك. ويقال لهم: ما أنكرتم من أنه متى قيل له: صل أو ضرب أو صم، ولم يعين له وقتاً من وقت. فقد دل بذلك على لأنه أمر له بفعل من الجنس غير معين، ولم يلزم إيقاعه في وقت مخصوص. ولا أريد من الجنس جزءاً مخصوصاً. وإنما أريد أن يفعل جزءاً من الجنس يقع عليه اسم الفعل في أي وقت شاء إن علم أنه سيوقع المأمور به، كما أنه إذا قيل له: اضرب رجلا، وتصدق على فقير، ولم يخص رجلا من رجل، علم بذلك أنه قصد إلى إيجاب الفعل بغير تعيين في أحد بعينه. وإن كنا نعلم أن كل ضرب يفعل في شخص فإنه غير الضرب المفعول في غيره، أو ما من سبيله أن يفعل في غيره، وإن لم يرد بلفظ التخيير بأن يقال له: اضرب من شئت. وهذا بين في سقوط ما اعتمدوا عليه. وأما قولهم: إن الإجماع قد حصل على أن تقديم الفعل مصلحة وأداء للواجب، وتبرأ به الذمة، وأن ذلك دليل على أن ما يقع بعد ذلك ليس بواجب ولا مصلحة/ ص 241 فإنه قول ظاهر البطلان لأنه ليس في الإجماع على أن تقديمه مصلحة وأداء للواجب دليل على أن فعله متأخر ليس بواجب ولا مصلحة. وهذا هو الذي يحتاجون إليه، ولا إجماع فيه، فبطل ما قالوه. واعتمدوا - أيضا - في ذلك على أن قالوا يدل عليه أنه لو كان على

التراخي لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون له تأخير الفعل إلى غاية معلومة أو إلى غير غاية. فإن كان إلى غاية محدودة فذلك يوجب توقيته. وأن يكون كالصلاة الموسع وقتها بحد مضروب، وذلك خلاف القول بالتراخي. ولأنه لا وقت يشار إليه. فيقال إن إطلاق الأمر يقتضي توقيته به إلا ويمكن الزيادة عليه والنقصان منهم فبطل للقول بذلك. وإن كان له تأخيره أبداً إلى أن يموت بغير توقيت. ولا وقت إلا وله ترك الفعل فيه فهذا يوجب ضروباً من المحال. أحدها: أن يكون الفعل نفلاً، وكلامنا لي حكم أمر واجب، إما وجب بلفظه أو بدليله، وأما إخراج الواجب عن كونه واجباً باطل باتفاق، وليس للنفل صفة يختص بها إلا أن له فعله وله تركه. فإذا كان هذا صفة الواجب على التراخي وجب أن يكون نفلاً، وذلك باطل. والوجه الآخر: إن كثيراً ممن قال بالتراخي يجعل المكلف لموته قيل إيقاع فعله مأثوما حرجاً، وذلك باطل، لأنه تركه مع أنه له تركه، فلم يجب تأثيمه. والوجه الآخر: إنه يوجب أن يكون الله تعالى قد فرض فرضا معلوم العين مخصوصاً في زمن مجهول الآخر لا تعرف غايته، وذلك بمثابة تكليف المحال، وما لا يطاق، وإذا فسد ذلك بطل القول بالتراخي. وصح أنه على الفور. يقال لهم: جميع ما قلتموه باطل، غير صحيح إلا قولكم إنه إن مات المكلف قبل فعله مات غير مأثوم. وقولكم إنه لا يجوز أن يكون / ص 242 التراخي إلى غاية محددة. فإنه صحيح، لأنه

لا حد له ولا غاية يشار إليها، وإن مات قبل امتثاله، فهو عندنا غير مأثوم ويخطئ من قال إننا نتبين بموته إنه كان مفرطاً. وأما قولكم إنه لو كان له فعله في كل وقت وله تركه إلى أن يموت للحق بالنفل، وإنه باطل من قبل أن النفل الذي يحل تركه له لم يكن نفلاً، لأنه حلال تركه لأن المباح يحل تركه وليس بنفل. ولا كان - أيضا - نفلاً، لأنه فعله خير من تركه مع تحليل تركه، لأن الواجب الموسع، والساقط إلى بدل فعله خير من تركه وحلال تركه في وقت التوسعة وليس بندب لو فعل فيه، بل واجب، فلم زعمتم أن الندب إنما يكون ندباً لأجل ما وصفتم. وما أنكرتم أن يكون إنما صار ندباً لما قلتم ولأمر آخر زائد عليه. فإن قيل: وما ذلك الأمر؟. قيل: لا يلزمنا ذكره. ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الندب، إنما كان ندباً، لأن فعله قربة خير من تركه لا بشرط ولا على صفة، بل لجواز تركه على كل حاله وأن يكون كل قربة فعله خير من تركه مع جواز تركه بشرط مخصوص إن ترك على خلافه حرم الترك، فليس بندب، وهذه صفة الواجب على التراخي والواجب الموسع وقته والساقط إلى بدل. وذلك أنه لا يجوز ترك الواجب على التراخي إلا بأحد شرطين، إما أن يترك بفعل العزم على أن سيفعله في المستقبل، ولا يحل تركه وترك العزم على فعل مثله فيما بعد، أو بان يتركه بشريطة أن يفعل مثله فيما بعد، ولا يحل تركه إلا على أن يفعل في المستقبل مثله، وكذلك حكم الواجب الموسع والساقط إلى بدله إنما يسوغ تركه على صفة وبشرط يفارق بهما ترك

الندب. وإذا كان ذلك كذلك وضح الطرق بين الأمرين، وبطل ما قالوه في حد الندب. فإن قال قائل منهم: هذان الشرطان باطلان لا سبيل إلى إثباتهما، لأجل اتفاقنا جميعاً على أن الأمر اقتضى وجوب الفعل إما بنفسه أو بقرينته. وإن ما يقتضي وجوب فعل معين لا يوجب (فعل عزم على فعل مثله بدلاً منه، ولا يوجب) فعل مثله فيما بعد، ولا. شيئاً غيره من سائر الأجناس/ ص 234 وإنما يوجب فعله بعينه. وإذا كان هذا مقتضى الأمر بالفعل، وكان الكلام في مقتضاه سقط ما وصفتم، لأن ما قلتموه يوجب التخيير بين الفعل وبين مثله فيما بعد، وبينه وبين العزم على فعل مثله فيما بعده، وهو لا يقتضي التخيير بينه وبين مثله أو بين خلافه، ولا دل - أيضا - على ذلك دليل فيصار إليه. ولو دل عليه لم يكن ذلك من مقتضى الأمر. وإن كان من مقتضى الدليل، وليس الكلام قي مقتضى الدليل، وإنما هو في مقتضى الأمر فبطل ما قلتم. يقال لهم: ما قلتموه ساقط من وجهين: أحدهما: أن إطلاق الأمر بالفعل لا يقتضي إيقاع فعل معين من ذلك الجنس المذكور في زمن معين، وإنما يقتضي إيقاع واحد من الجنس بخير عينه وغير معين من الوقت، كما أن قول الآمر اضرب رجلاً لا يقتضي ضرباً معيناً في رجل معين. وإنما يقتضي فعل جزء من الجنس في أي الرجال شاء المكلف. وليس لأحد أن يدفع هذا بأن يقول: ليس للتخيير بين فعل أي أجزاء الضرب شاء، وفي أي الرجال شاء لفظ. والأمر إنما اقتضى ضرباً معيناً في رجل معين فلا وجه للتخيير، لأننا قد بينا فيما سلف إنه إذا لم يعين جزءاً من الفعل ولا وقت له، فقد خيره في أي جزء شاء، وأن يفعله في أي وقت شاء بغير وجه

فبطل ما قالوه. وأما قولهم: إن الدليل لم يدل على إثبات العزم بدلاً من الفعل، فليس الأمر كذلك، بل قد قام الدليل عليه، وإن كان الأمر به لا يقتضي إثبات بدل منه. وهو أنه إذا ثبت بما قدمناه إن الأمر بالفعل لا يقتضي تعجيله، ولا يوجب تأثيم المؤخر له. ولا يقتضي أن يكون أمراً بفعل جزء من الجنس في وقت معين، وجب أن يكون أمراً بفل واحد من الجنس بغير عينه. ومتى ثبت ذلك وجب تخيير المكلف بين الفعل في كل وقت وبين تركه وفعل مثله فيما بعد. وإذا كان له تركه في كل وقت لم يكن بدا من أن يكون/ ص 244 له تركه على خلاف ترك الفعل حتى يفارق تركه ترك الفعل ولا صفة ولا شرط يصح في ذلك إلا تركه بفعل العزم على أدائه قي المستقبل. ومن الناس من قال ليس هذا العزم بدلاً من الفعل، وإنما له تركه بشرط أن يفعله فيما بعد. ومنهم من قال: يجب هذا العزم لنفسه عند ترك الواجب على التراخي، والواجب الموسع وقته، وليس ببدل من الفعل. وهذا هو الأولى على ما نبينه من بعد. فبهذه الدلالة وجب مفارقة الواجب للندب. ويقال لهم - أيضاً-: إن وجب إذا كان لا وقت له إلا وللمأمور ترك الفعل فيه إلى ما بعده أن يكون الفعل ندباً لا واجباً. فما أنكرتم من أن يكون الأمر بضرب رجل منكر لا يكون أبداً إلا ندباً، لاتفاقنا على أنه لا رجل من الناس إلا وله ترك ضربه إلى ضرب غيره، فيجب أن يكون ضرب جميعهم نفلاً. فإن مروا

على ذلك تركوا قولهم. وإن أبوه ناقضوا اعتلالهم. وكل شيء يرمون به الانفصال من هذا الإلزام. فهو يعينه فصل لنا فيما ألزموه. وأما قولهم: إنه إذا كان الفعل واجبا على التراخي. ولم يكن لآخر مدته وقت معلوم صار الفعل المأمور به معيناً معلوما ومؤقتاً بوقت مجهول، فإنه قول باطل. لأننا لا نقول أولاً إن آخر أوقاته مجهول، بل هو معلوم في الجملة. وهو آخر وقت حياة المكلف، وإن لم يعرف ذلك الوقت بعينه، وذلك غير محال، لأن الشيء قد يعلم على الجملة تارة وعلى التفصيل أخرى، على ما بيناه في الكلام في أصول الديانات. ومعنى قولنا إن آخر أوقاته الوقت الذي يليه الموت إنه وقت لو أوقع الفعل فيه لبرئت ذمته، كما تبرأ بإيقاعه قيما قبله، ولا نعني بذلك إنه محدود للمكلف، لأنه غير عالم به، ولا متميز له، ومحال أن يحد له وقت غير متميز لا سبيل له إلى علمه. ولأننا وإن قلنا إن آخر أوقات حياة المكلف غير معلوم/ ص 245 ولا محدود، فإننا نقول إن جميع الأوقات التي تأتى على المكلف وقت للفعل، ولو أوقع فيه لبرئت به الذمة. وإنما كان يكون ذلك محالاً لو كان لا وقت للفعل إلا آخر الأوقات الذي يليه الموت، وهو غير معروف. فأما وجميع ما قبله من الأوقات وقت للفعل، وهو غير مجهول فما ظنوه ساقط. فأما من قال بالتراخي، فزعم أن المأمور إذا مات قبل فعله تبين تفريطه وكونه مأثوماً. فإنه خطأ منه ظاهر، لأنه تركه مع أن له تركه، وكيف يكون ماثوماً وهو لم يتعين عليه وجوبه. ولو كان ذلك واجبا لوجب أن يكون المكلف

مأثوما إذا مات قبل فعل الفرض الموسع وقته. وأن يقال: إنه لو مات عقيب الأمر أو في وسط الوقت تبين كونه مفرطاً مأثوماً، وإن كان له الترك. فإن مروا على ذلك فارقوا الإجماع. وإن أبوه واعتلوا في إزالة الإثم عنه بشيء كان هو الجواب لنا عما قالوه. والذي يمكن أن يقال قي ذلك إنه إنما يسقط الإثم عنه بترك الفرض الموسع وقته لأنه تركه إلى فعل العزم على أدائه أو على أن يفعل مثله فيما بعد. وهذا هو الذي أجبناهم به، فبطل ما قالوه. وإن قيل: فهل للواجب على التراخي في بعض الأحوال وقت معين وجوبه فيه. قيل له: أجل وهو الوقت الذي يغلب على ظن المكلف اختراع دون امتثاله، فإن لم يغلب علي ظنه ذلك لم يتعين عليه، ويكون هذا جارياً مجرى إباحة التعزير للإمام وتأديب الصبي وضرب المرأة عند النشوز ورمي الغرض في إطلاق ذلك أجمع ما لم يغلب على الظن التلف والضرر العظيم، وتحريمه أجمع إذا غلب على الظن إصابة النفس. وكذلك القول في شرب الأدوية، وحمل الثقيل، وما جرى مجرى ذلك مما يحرم عند غلبة الظن للضرر والتلف، ويحل عند فقد ذلك.

باب الكلام في أن الواجب الموسع وقته هل يجب بأول الوقت أو في آخره في جميعه

باب الكلام في أن الواجب الموسع وقته هل يجب بأول الوقت أو في آخره في جميعه./ ص 246 قد أجمعت الأمة على أن الفرض الموسع وقته بوقت لا يستغرقه إذا فعل في أول الوقت سقط عنه الفرض، ثم اختلف هؤلاء: فقال فريق منهم: إنه يجب في أول الوقت، وإنما ضرب آخره لكي يكون الفعل إذا فعل بعد آخره قضاء لا أداء وأنه إذا فعل قبل آخره كان أداء، ولم يكن قضاء. وقال الكل غير هؤلاء: إنه واجب في أول الوقت ووسطه وآخره. وإنه إنما ضرب آخر الوقت له لتكون الأوقات التي بين أوله وآخره بأسرها وقتاً له. وهذا هي الصحيح. واختلف القائلون بأنه واجب في جميع أجزاء الوقت، وأن له تقديمه، وله تأخيره، هل له تركه في أول الوقت إلى وسطه وآخره ببدل يقوم مقامه أم لا؟

فقال منهم قائلون: إنه ليس له تركه لهي أول الوقت، وما يليه إلى حين وقت التضييق إلا ببدل يقوم مقامه، وأنه لا شيء يصح أن يكون بدلاً له إلا فعل العزم على أدائه في للمستقبل إن بقي بصفة من يلزمه الفعل. وقد بينا نحن وجوب القول بهذا إذا جعلنا له بدلاً فيما سلف بما يغني عن رده. وقال آخرون: إنه مراعى إذا فعل في أول الوقت، يقال إنه فرض ولا نفل. فإن دخل آخر، الوقت على المكلف. وهو بصفة من يلزمه الفعل تبنين أن ما كان فعله في أول الوقت فرض واجب. وإن لم يبق إلى آخر الوقت، أو لم يبق بصفة من يلزمه الفعل كان ما واقع منه في أول الوقت نفلاً لا فرضا. وزعم قوم من أهل العراق إنه نفل إذا فعل في أول الوقت، وأنه نائب عن الفرض إذا بقي المكلف بصفة من يلزمه الفعل في آخر الوقت. وقد قلنا نحن من قبل إن جميع أجزاء الوقع وقت له. وأن له تأخيره إلى وقت التضييق إما ببدل هو العزم على أدائه، أو على أن يفعل مثله فيما بعد. فمحال على هذا القول أن يكون نفلاً إذا فعل في أول الوقت، أو مراعى لأنه لا يعلم أنه فرض أو نفلاً إلى دخول آخر الوقت.

فأما ما يدل على فساد قول من زعم أنه يجب بأول للوقت فأشياء: أحدها: إن هذه دعوى مجردة لا حجة لقائها، ويدل عليه أن جميع /ص 247 أجزاء الوقت كأوله. فالقائل بأنه يجب بأوله بمنزلة القائل لا، بل يجب قي وسطه وآخره الذي يلحق الإثم بالترك له فيه. فإن قيل: فأنتم إذا جعلتم آخر الوقت وقتاً له دون ما بعده حددتم ما لم يدل عليه دليل. يقال: لا بد من ذلك، وإلا صار واجباً على التراخي بغير توقيت، ولا نص على توقيته يمنع من ذلك. ويدل على فساد هذا القول - أيضاً - إجماع الأمة على أن المكلف لا يأثم بتأخيره عن أول الوقت. ولو كان واجبا فيه لكان مأثوماً بتأخيره كالواجب على الفور بالنص عليه إذا آخر، وذلك باطل، فسقط ما قالوه. فأما ما يدل على فساد قول من قال: إنه موقوف على آخر الوقت. فهو أن تعليق الوجوب بالشرط يفيد أنه إذا حصل الشرط حصل الوجوب. وإذا تيقنا أن الشرط معدوم لم يحصل علمنا بذلك، واستحال أن يقول إن إيجاب الصلاة قد حصل وثبت، وشرطه الذي علق وجهه بوجوده لم يوجد. وإذا كان ذلك كذلك بان أن تعليق وجوب الفعل على المكلف بشرط يوجد بعد وجوده محال مع القول باستقرار الوجوب قبل الشرط. ويقال لهم: إذا كان جميع أجزاء الوقت منصوصا على أن المكلف فعله فيها

لم يجز أن يكون وقوعه في بعضها واجبا مراعى، لأنه خلاف موجب النص، فبطل ما قالوه. فأما قول من زعم أنه نفل إذا فعل في أول الوقت، ونائب مناب الفرض إن أدرك آخره. فإنه قول باطل، لأجل أن النص قد ورد بان جميع أجزاء الوقت وقت له. فكيف يكون نفلاً في أوله، وهو جزء من الموسع أولى أن يكون نفلاً في آخره، وإن كان جزءا منه. فإن عادوا يقولون: الذي فرق بين فعله في آخره وبين إيقاعه في أوله ووسطه هو أنه لا يأثم بالترك في كل وقت قبل آخره، ويأثم به في أخر الوقت كان الجواب عن ذلك ما سلف من أنه لا يجب أن يكون الفعل نفلاً من حيث كان للمكلف تركه. ويقال لهم: لو كان ما قلتموه صحيحاً لوجب أن يكون لو نوى الصلاة في أول الوقت على ما هي به بزعمكم أن تكون مجزئه. وقد اتفق على أنه لونواها نفلاً لم تجزئه حتى ينويها فرضاً وظهراً، فبطل ما قلتموه.

باب القول في معنى فوات الفعل المؤقت والموسع. ومعنى الإعادة والقضاء

باب القول في معنى فوات الفعل المؤقت والموسع. ومعنى الإعادة والقضاء اعلموا - وفقكم الله - إن الفوات لا يستعمل باتفاق إلا في فعل وقت بوقت خرج وتم/ ص 248 بفعله المأمور مع إمكان وقوعه. فأما أن يستعمل فيما وجب الدليل كون جميع الأوقات وقتا له فإنه باطل، فلهذا لم يجز أن يقال: لما كان على التراخي والمتروك في وقت التوسعة فائت. والفوات مضي وقت العبادة المحدودة، والفائت الفعل المأمور به. وقد يتوقف الواجب على التراخي عند غلبة الظن بحصول الإخترام قبل أدائه. ويكون المؤخر له عن ذلك الوقت مأثوماً، ويكون فعله فيما بعد واقعاً على سبيل القضاء، لا على وجه الأداء، لأنه قد تعين وجوب فعله بغلبة الظن للاخترام، فيجب أن يكون ما يفعل بعد ذلك مع بقاء الظان المكلف مفعولاً على وجه القضاء. فصل: فأما الإعادة فإنه اسم لمثل بطل وفسد من العبادات على وجه البدل منه، إما بسبب من قبله أفسد به على نفسه ما شرع فيه، أو بسبب يطرأ عليه غير متعلق به وليس من كسبه. ولا يوصف هذا الفعل في غالب الاستعمال بأنه قضاء، لأن القضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته من المؤقت المحدود. والإعادة اسم لمثل ما فسد. لأن ما لم يفعل مع مضي وقته لا يكون معاداً. وإنما المعاد فعل مثل الفاسد على حد ما ذكرنا.

فأما الأدلة فهو كل فعل (فعل) في وقت له إما موسع أو مضيق على ما قدمنا القول فيه.

باب القول في أن قضاء الفائت فرض ثان

باب القول في أن قضاء الفائت فرض ثان اعلموا - وفقكم الله - أنه لا مدخل للقضاء إلا في محدود وقته ترك فعله فيه لعذر أو غير عذر، أو عرض في وقته ما منع من إيجابه كالحيض، وما جرى مجراه من علة أو نوم. وقد اختلف الناس في هذا الباب: فقال قائلون: إن قضاء الفائت يجب بنفس للأمر به، فإن لم يفعله في الأول وجب فعله به في الثاني، ثم كذلك أبداً، كلما خرج عنه وقت لم يفعل الفائت فيه. ولا بد له فيما بعده. قال محصلو علم هذا الباب: إنه لا يجب القضاء إلا بأمر ثان. وهذا هو الصحيح، وبه نقول.

والدليل على ذلك/ ص 249 أن الأمر المؤقت مخصوص بما هو أمر به وبإيقاعه في ذلك الوقت بعينه، وليس بأمر بإيقاعه في غيره، ولا بإيقاع مثله في غير وقته، ولا تخيير بينه وبين فعل مثله في غير وقته. وقصر الأمر بالفعل على وقت بعينه كقصره علي إيقاعه في شخص بعينه ومكان بعينه ومكلف بعينه. وقد يكون إيقاعه في ذلك الوقت هو مصلحة للمكلف عند من علق التكليف بالمصالح وإيقاعه فيما قبله أو بعده مفسدة. وإذا كان ذلك كذلك كان المفعول في غير ذلك الوقت غير المأمور به. وخارجاً عما تضمنه الأمر، كما أن الصيام في غير رمضان، والوقوف بغير عرفة، وإيقاع الفعل في غير الشخص المأمور بإيقاعه فيه غير المأمور به. فكذلك فعل عمرو غير فعل زيد الذي أمر زيد به. وما لم يتضمنه الأمر فلا يجب به، وإنما يجب بغيره، ولو ساغ أن يجب بالأمر بعض ما لم يتناوله ويدخل فيه لساغ أن يجب به كل غير له لم يتناوله. فصح بذلك أن القضاء هو غير المقضي، ولا يجب بالأمر الماضي، وإنما يجب أن يوجب بغيره. والفائت والمتروك على ضربين:

فمنه ما يجب قضاؤه، ومنه ما لا يجب ذلك فيه. فالذي يجب قضاؤه كثير، والذي لا يجب ذلك فيه كالعبادات الواجبة على الكافر، التي لا يجب عليه قضاؤها إذا أسلم، وإن وجب مثلها على المرتد إذا أسلم عند من يقول بذلك، وكالصلاة المتروكة في أول الوقت وسطه إذا عرض الحيض والغلبة، وما يمنع من إيقاعها في باقي الوقت، وأمثال ذلك من سقوط قضاء فرض الجمعة والأضحية ورمي الجمار، عند من لم يوجب قضاء هذه الفوائت بمضي أوقات من أهل المدينة والعراق. فأما اعتلال المخالف في ذلك بأن القربة نفس الفعل، ولا معتبر بالوقت، فإنه منتقض بالقربة في المكان، كالوقوف بغير عرفة، والصلاة إلى غير القبلة، وقبل دخول الوقت، والصيام في غير الشهر، إلى أمثال ذلك مما يطول تتبعه، فسقط ما قالوه. وأما اعتلالهم بأنه لما ثبت وجوب الفعل لم يجز إسقاطه بمضي الوقت، كما لم يجز سقوط الدين المؤجل عند انقضاء أجله. فإنه باطل، لأن التأخير والتعجيل في الديون لا يدخل لإسقاط المال. وإنما دخل لتأخير المطالبة به. فإذا انقضى الأجل/ ص 250 حلت وعادت المطالبة كما كانت، ولأنه لابد من إيصال الدين إلى مالكه، وانقضاء مدة التأجيل لا تمنع من إمكان ذلك. وتعليق العبادة بالوقت

كتعليقها بالمكان والشخص. وقد تكون المصلحة له فعلها في الوقت دون ما قبله وبعده. فاقترق الأمران من كل وجه.

باب القول في أن المريض والحائض والمسافر هل يلزمهم فرض صوم شهر رمضان وهل يكون ما يفعلونه من الصيام بعده إذا أفطروا قضاء أو فرضاً مبتدءاً؟ والذي تقوله في ذلك: إن المريض الذي يجهده الصيام والحائض لا يلزمهما قرض صيامه. وأن ما يفعلانه من الصيام بعد تقضيه فرض مبتدأ، وإن سمي ذلك قضاء اتساعاً ومجازاً. فأما المسافر فإنه مكلف لصيامه ومخير بين الصيام فيه وفي غيره، فإن صامه أدى فرضه وبرئت ذمته. وإن صام شهراً بعده قام ذلك مقامه. وسبيل فرضه سبيل فرض الكفارات المخير فيها. وإنما رخص له في التخيير لمشقة السفر، ولو خير في ذلك المقيم لكان ذلك جائزاً. ولذلك ما لو صام المسافر لأدى فرضه، ولا معتبر بخلاف من يذكر عنه غير هذا من أهل الظاهر، لأنه خلاف السابق من الإجماع وما تظاهرت به الأخبار من أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلا ينكر ذلك عليهم، ولا

يوجب على الصائم منهم القضاء. وإنما الخلاف في أيهما أفضل للمسافر الصيام أو الإفطار، فبطل هذا القول. وقد زعم الكرخي أن حال المريض والمسافر سيان في لزوم الصيام لهما. وهذا خطأ، لأن من أجهده الصيام غير مكلف له، بل مخفف عنه لموضع الضرر الشاق، وكون الدين حنيفياً سهلاً، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. وليس على المسافر في الصيام من الخوف عليه والإجهاد له والمشقة مضرة مثل الذي على المريض، فافترقت حالاهما. فإن قيل: لو كان المسافر مخيراً بين صيام رمضان وغيره لم يوصف صيامه بعد تقضيه بأنه قضاء، بل يجب أن يكون فرضاً مبتدأ كالكفارات المخير فيها التي لا يقال في كل شيء منها إنه قضاء لما ترك. قلنا: هذا باطل/ لأنه إنما سمي قضاء مجازاً، وعلى معنى أن المسافر ترك صياما لو فعله لكان مؤدياً لفرضه تشبيهاً بمن ترك صيام شهر رمضان عامداً

مع تعين فرضه عليه، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة ولم يوصف فعل إحدى الكفارات قضاء لما ترك فعله منها للاتفاق على منع ذلك. وهذه مناظرة ومشاحة في عبارة وتسمية. ولو قال قائل: لا اسمي صيامه قضاء. ولكن أقول صيام آخر كما قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يقل فقضاء أيام أخر لكان له ذلك. ويدل على فساد التعلق بهذا وصف صيام الطاهر بعد الحيض عن رمضان بأنه قضاء. وإن لم يلزمها صيامه مع الحيض المانع من صحة صومه. فلو كان القضاء لا يجري إلا على فعل بدل من فرض ترك مع تعين وجوبه واستقراره لامتنع وصف صيام الطاهر بعد الحيض وخروج الشهر بأنه قضاء، فبطل ما قالوه. فصل: وذكر عن الكرخى - أيضا - أنه قال: إن المسافر والمريض غير مخاطبين بصيام رمضان، بل فرضهما أيام أخر. وأنهما إذا فعلا الصيام ناب عن فرضهما، وأنهما في ذلك بمثابة معجل زكاة ماله في أنه أخرج غير واجب ينوب عن واجب إن بقي بصفة من يجب عليه الزكاة. وهذا باطل في المسافر، لأنه مخاطب بالصيام على ما بيناه، وهو صحيح في المريض، لأنه غير مكلف للصيام. فإذا صام ناب ذلك عن فرضه في أيام أخر كما تصح الزكاة قبل وقت وجوبها عند من رأى ذلك. وكما تجزاء صلاة الظهر عمن لم يبلغ ثم بلغ

والوقت باق إذا نواها ظهراً عند من قال ذلك في أمثال هذا. ويجب أن ينوي المريض -إذا صامه - صيام رمضان، ويتعذر عليه نية فرضه ووجوبه مع العلم بأنه غير واجب. ويلزم على هذا صحة قول من قال إن الفرض الموسع يجب بآخر الوقت، وإن فعل في أوله كان نفلاً، فإن نواه ظهراً أجزأه، وإن نواه نفلا لم يجزئه، ولا تصح منه نية وجوبه. وإن لم يقل بذلك وجب القول بأن المريض مخاطب بالصيام وإن أجهده. وإنما رخص له في إفطاره، وخير بين الصيام فيه وفي غيره، وأنه كالمسافر في سواء، ولذلك يكون مؤديا لفرضه إذا صامه. فصل: وأما الحائض فإنها غير/ ص 252 مكلفة للصيام مع الحيض. والدليل على ذلك استحالة التقرب بالصيام مع الحيض. وامتناع دخول إزالته تحت قدرتها. فليست في ذلك كالكافر والمحدث الذين يستحيل منهما التقرب بالصلاة مع الكفر والحدث لكون خروجهما عنهما مقدوراً لهما، فوجب بذلك أن تكون غير مخاطبة بالصيام مع الحيض المانع منه، كما أنها غير مخاطبة به مع الغلبة والجنون وكل ما يزول معه العقل. وكان الكرخي يوافق على أنها غير ملتزمة للصيام ومفارقة في ذلك للمسافر والمريض. وقد زعم قوم من أهل العراق أنها مخاطبة بالصيام مع الحيض لما زعموا أن وصف فعل المريض للصيام بأنه قضاء يدل على أنه بدل من فرض لزم وتعين. فقيل لهم: فصيام الحائض يوصف بأنه قضاء فيجب لزوم فرض رمضان لها

مع الحيض، فمروا على ذلك واعتلوا فيه بأنه قضاء. وقد دللنا نحن من قبل على فساد هذا القول بأنه محال وقوع التقريب بالصيام مع الحيض، وإزالته غير مقدور لها كسائر ما يدخل عليها مما يزيل التكليف، فبطل ما قالوه. وإن قالوا: لو لم يجب عليها صيام رمضان لم يجب عليها قضاؤه، كما لم يجب عليها قضاء الصلاة لكونها غير واجبة عليها. قيل: قد مر القول في أنه قضاء، وبينا أنه ليس كل واجب يجب قضاؤه. وإن قيل: لو كان فرض الصيام ساقطاً عنها كسقوط فرض الصلاة لما وجب عليها عند الطهر. قيل: وجوب الصيام عليها عند الطهر فرض مبتدأ، (ولو أوجب عليها الصلاة لصح، ولكان فرضا مبتدأ فثبت أن وجوب الصيام عليها عند الطهر فرض مبتدأ. ووجوب الشيء وإن سمي قضاء لا يدل على أن مثله كان لازما وسقوط مثل ما كان وجب. والتخفيف قي إزالة ابتداء فرض مثله لا يدل على أنه كان ساقطاً غير مفروض. وقد بينا هذا من قبل، فأغنى ذلك عن رده. فإن قالوا: لو لم تكن مخاطبة بالصيام لسقط عنها قضاؤه، مجرى الكافر الذي لا يجب عليه قضاء الصيام إذا أسلم لكونه غير مأمور به في حال كفره. قيل لهم: هذا باطل، لأن الكافر عندنا مخاطب بالصيام وسائر العبادات في حال كفره، وإن سقط عنه إذا أسلم قضاؤه تخفيفاً عنه، ولما الله أعلم به. ولكونه/ص 253 متمكنا من مفارقة الكفر. وكونه مكتسبا له. والحائض غير مأمور بالصيام

لكونها غير متمكنة من مفارقة الحيض. وكونها غير مكتسبة للطهر منه وإن وجب عليها مثله الموصوف بأنه قضاء. فبطل ما قالوه. وإن قالوا: إن لم تؤمر الحائض بصيام الشهر لم يلزمها نية القضاء فيما تصومه، كما لا يلزمها ذلك في كل فرض مبتدأ. ولما اتفق على وجوب هذه النية عليها تبين أنها مخاطبة بالصيام. يقال لهم: إن عنيتم بنية القضاء أنها تنوي إنه كان واجباً عليها الصيام مع الحيض المحيل للتقرب به مع حصوله، فذلك باطل. وإن عنيتم بنية القضاء أنها تنوى أن صيامها هذا إنما لزمها لأجل سبب عرض منع من إلزامها صيام شهر رمضان، ولو لم يعرض لكان ذلك فرضها كان ذلك صحيحاً، وليست هذه النية موجبة لكون رمضان واجباً عليها. فإن قيل: فيجب على البالغ أن ينوي الفرائض المبتدأ وجوبها عليه قضاء لما لم يفعله قبل البلوغ بمعنى أنه لم يلزمه ذلك لسبب عرض لولاه لكان من المكلفين لفعله. يقال لهم: إنما نمنع ذلك لمنع الأمان منه، ولأجل أن الطفل ليس من أهل التكليف أصلاً للصيام ولا لغيره. والحائض من أهل التكليف للزوم عبادات كثيرة لها. وإنما عرض لها أمر منع من صحة صيامها وصلاتها وخطابها بهما، فافترق الحال في ذلك، وسقط ما قالوه.

باب القول في أن خطاب الواحد أو الجماعة بالاسم الخاص لهم

باب القول في أن خطاب الواحد أو الجماعة بالاسم الخاص لهم وخطاب المواجهين مقصور عليهم إلا أن يدل دليل على دخول الغير فيه قد بينا فيما سلف أن الواجب مع القول بالعموم إدخال كل من لحقه الاسم في الحكم بحق الإطلاق، وأن الخطاب الخاص للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لغيره من الأشخاص يجب قصره عليه، إلا أن يدل على تناوله لمن عداه دليل بما يغني عن إعادته. وبينا أن الأمة مجمعة على أن الخطاب بسائر العبادات لأهل عصر الرسول عليه السلام لازم لمن بعدهم من أهل الأعصار. إذا كان ذلك كذلك علمنا أنهم

لم يجمعوا على ذلك إلا عن دليل وتوقيف جمعهم عليه. وأنهم إنما لم ينقلوه اكتفاء بحصول إجماعهم عليه، لأنه أكد من نقل الخبر لنفي الاحتمال عن الإجماع. وجواز دخوله في الخبر/ ص 254. ولا يجوز أن يكون الدال على دخل أهل الأعصار في الخطاب بالشرائع قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ}. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقوله تعالى: {واتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله تعالى: {يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ} إن هذه الأسماء لا تجري إلا على موجودين بصفات مخصوصة، ولا يجري شيء منها على المعلوم باتفاق. فظاهرها إذاً لا يتناول من لم يوجد، وكذلك قوله عز وجل: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة حتى يقولوا لا إله إلا الله" وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود". وقوله

تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله تعالى: {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} وقوله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} وأمثال هذا، لأنه خطاب مواجهة موجود لا مدخل للمعدوم فيه. فثبت أنه إنما يجب إدخال من لم يخلق ويوجد فيه بدليل وتوقيف غير هذا الخطاب. وكذلك فلا يمكن أن يكون ذلك إنما ثبت بالمروي من قوله عليه السلام: "أمري للواحد أمر للجماعة". وقوله عليه السلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجميع" لأن الجماعة والجميع لا يكونون إلا موجودين غير معدومين، فثبت ما قلناه. فصل: وكذلك فلا يجوز أن يكون خطابه تعالى للواحد من أهل عصر الرسول عليه السلام والجماعة المخصوصة خطاباً لجميعهم، لأن الاسم مقصور على من

هو له دون غيره إذا قال يا زيد قم، أو يا أيها الإخوان، أو يا أيها الرجال أو العرب، ونحو ذلك. فإن دل دليل على مساواة من ليس الاسم له لمن هو له في الحكم صير إليه. بحق الدليل، لا بالخطاب الخاص. ولأن القائل بتعليق التكليف بالمصالح ممن قال بهذا يوافق على صحة اختلاف المصالح في فرائض الأعيان، كما تختلف في الأماكن والزمان، فلم يجز إدخال من لا يلحقه الاسم في حكم من هو له. وقد يكون الدليل على ذلك توقيفاً على التساوي والمشاركة في الحكم. وقد يكون هو القياس إذا ورد التعبد به، وإذا هدد الأمرين في عين أو أعيان مخصوصة لمعنى تعلق الحكم به وأمرنا بالاعتبار والقياس وجب أتباع ذلك المعنى وإثبات الحكم في كل من هو فيه، وإلا بطل الأمر بالقياس/ ص 255 وفسد معناه. ولو نص لنا على أن الحكم متعلق بالعين بمعنى في العين والشيء والمذكور. ولم يتعبد بالقياس لم يجب إجراء الحكم في كل من هو فيه. وإنما كان يفيد النص على تعليله إنه إنما حرم أو حل لذلك المعنى. وقد يحل وحده لذلك المعنى لتعلق المصلحة بتحليله بحصوله فيه. وإن لم يتعلق بحصوله في غيره، ولما نذكره ونبينه فيما بعد في فصول القول في القياس ولأجل التوقيف أو التعبد بالقياس حكمت الصحابة رضي الله عنهم على كل زان بحكمه على

ما عز في وجوب الرجم، وفي كل جنين مستهل بحكم حمل بن مالك. وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق التي لم يفرض لها صداق، وفي أخذ الجزية من المجوس إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فتارة يرجعون في ذلك إلى النص على مساواة من لم يتناوله الاسم

لمن تناوله، وتارة إلى القياس على المعنى. وذلك ما لا بد منه. وإذا ثبت ذلك لم يجز أن يقال إن خطاب الواحد المخصوص والجماعة بها يخصها من الخطاب خطاب لجميع أهله العصر، نحو قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} لأن إرساله إليهم إنما يقتضي كونه مرسلاً إلى جميعهم فقط، ولا يقتضي إرساله إليهم بأحكام متساوية، ولأجل هذا صح كونه مرسلاً، إلى الحر والعبد، والذكر والأنثى، والحائض والطاهر، والمقيم والمسافر، وإن لم يوجب ذلك تساوي أحكامهم، وما أرسل به إليهم. فإن قالوا: الإرسال يتضمن كون الرسول مرسلاً إلى جميعهم بالحكم الذي كلف أداءه. قيل لهم: هذا معرف لجميعهم الحكم الواجب على جميعهم والحكم الواجب على بعضهم دون بعض. هذا موجب كونه مرسلاً إليهم. فأما أن يقتضي تساوي فرائض جميعهم فذلك باطل. ولذلك كان مرسلاً/ ص 256 إلى الحر والعبد وإن اختلف فرضاهما. فبطل التعلق بالظاهر. وكذلك قوله تعالى: {بَشِيرًا ونَذِيرًا} لأنه ينذر جميعهم بوجوب فرائض عامة على جميعهم وينذرهم بفرائض خاصة في بعضهم. والإنذار لا يقتضي تساوي الفرائض فيما اعلموه وانذروا به، ولا يجوز - أيضا - أن يكون الموجب لدخول الجميع في خطاب الواحد والنفر المخصوصين قوله تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ} لأن الإنذار لهم إعلام وتعريف، فهو يعرفهم ما يجب على جميعهم تارة، وما يختص بفرضية بعضهم أخرى، كما أنه منذر للحر والعبد باختلاف فرضيهما تارة، واستوائهما

في الفرض أخرى، فسقط التعلق بالظاهر. فصل: وقد يجوز أن يكون مما يثبت به دخول الجماعة في خطاب الواحد ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". "وخطابي للواحد خطابي للجماعة" إذا تلقت الصحابة رضي الله عنهم ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وأن يعلم أن هذا هو الموجب لتساويهم في الحكم إذا نقل إلينا نقلاً تقوم به الحجة. قاما إذا كان من أخبار الآحاد لم يعلم تساوي حكمهم به. وقد بينا من قبل أن ظاهر الخبرين لا يقتضي دخول من بعد أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم في خطابهم، لأن الجماعة يجب كونهم موجودين غير معدومين. فصل: ولا يصح التعلق في وجوب دخول جميع أهل عصر الرسول صلى الله عليه وسلم في خطاب الواحد والنفر منهم بأنه عليه السلام لما أراد تخصيص بعضهم بالحكم بين ذلك وقربه بما دل على تخصيصه به نحو تحليله لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف، وحظره ذلك على غيره، وتخصيصه بإجزاء

عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في خطاب الأمة بظاهر الخطاب

الجذع من المعز في الأضحية لأبي بردة، وقوله له: "لا تجزئ عنك ولا تجزئ" عن أحد بعدك" وقوله لمن تزوج على ما حفظه من القرآن هذا لك وليس لأحد بعدك". لأنه إنما قال ذلك عليه السلام رفعا لتجويزهم المساواة في الحكم لما وجدوا أحكاما قد استووا فيها. وليرفع بذلك اعتقاد من اعتقد أن خطابه للواحد يدخل فيه الجميع. ولم يجب أن يقول مع ذلك في كل حكم خص به بعضهم. لأنه لم يغير من شاهد الحال على تسرع قوم إلى اعتقاد مساواة الجميع في الحكم. وعبر على ذلك في/ ص 257 قصة المتزوج وقصة أبي بردة وعبد الرحمن. ولا يجوز جعل خطاب الواحد خطابا للكل. بمثل هذا المحتمل. فزال ما قالوه. فصل: وقد بينا فيما سلف أن النبي صلي الله عليه وسلم لا يجب دخوله في

خطاب الأمة بظاهر الخطاب الخاص لهم أو لبعضهم، وإنما يدخل فيما يعمه وإياهم من الأسماء إن ثبت القول بالعموم بها يغني عن رده. ولا يجوز لأحد التعلق في وجوب دخوله معهم في الخطاب برجوع الصحابة إلى العمل بأفعاله، لأنهم إنما يرجعون إليها بعد أن تبين لهم أنه بين ما شرع لهم بفعله. ولو لم يسنده إلى الأخبار بكونه بياناً، لذلك لم يجز الرجوع إليه على ما تبينه في أحكام أفعاله صلى الله عليه وسلم، وأنها على الوجوب أم لا. ولا يمكن - أيضا - التعلق في ذلك بأنه لما خص بالموهوبة وغيرها. أفرد بلفظ لا يدخل فيه غيره، نحو قوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} وأمثال ذلك. لأنه إنما يخص بمثل هذا اللفظ في الحكم إذا علم أنه قد تتسرع أمته أو قوم منها إلى اعتقاد مساواتهم له فيما خص به من ذلك. ولا يقال مثل ذلك في غيره مما خص به إذا علم أنه لا شبهة تدخل على أحد قفي اعتقاد مساواته له في الحكم الوارد باللفظ والاسم الخاص له، فزال التعلق بذلك. وكذلك فلا يسوع التعلق في وجوب مساواته لهم في الحكم. وأن الشرع قد قرر ذلك بأنه كان عليه السلام يبين ما يلزم غيره مما يذكر في حكم نفسه. فقال لأم سلمة في جواب من سألها أن تسأله عن القبلة للصائم. "ألا أخبرتيه أني

أقبل وأنا صائم".وقوله لها لما سألته عن الاغتسال: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي" لأنه يجهز أن يكون قد ابتدأ. فأخبر أن حكمه وحكمهم في القبلة للصائم والاغتسال حكم سواء. فلما قرر ذلك عندهم ساغ أن يقول: "ألا أخبرتيه أني أنا أفعل كذا" فزال أيضا التعلق بهذا ونحوه لموضع احتماله لما قلناه.

باب القول في الناس الأمر الصادر على جهة الوجوب إذا نسخ موجبه هل يبقى جواز فعله بالأمر به أم لا؟

باب القول في الناس الأمر الصادر على جهة الوجوب إذا نسخ موجبه هل يبقى جواز فعله بالأمر به أم لا؟ قد زعم قوم من الفقهاء أن الأمر الواجب إذا نسخ وجوبه بقي جواز فعله بحق الأمر/ لأن في ضمن الأمر به - زعموا - جواز فعله لزيادة الوجوب على الجواز. فإذا رفع الوجوب بقي الجواز بالأمر. والذي نختاره أن الأمر الواجب إنما يقتضي وجوب الفعل، ومعنى الوجوب ما قدمناه، من أنه الذي فيه مدح وثواب، وفي تركه وترك البدل منه استحقاق ذم وعقاب. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في ضمن الوجوب الجواز. لأن ما يجوز فعله ويجوز تركه إنما هو الندب والمباح، والندب عليه ثواب، وليس في تركه ذم ولا عقاب. والمباح هو الحلال المطلق، وهو الجائز فعله وتركه من غير ثواب في أحدهما. فمعنى الجواز مناقض لمعنى الوجوب. فكيف يكون أحدهما من مقتضى الآخر؟ فيجب إذا كان ذلك كذلك أن يكون نسخ الواجب رفعاً لجميع موجبه، وأن يعود الشيء بعد رفع وجوبه إلى ما كان عليه في العقل قبل وجوبه من جواز وقوعه بحكم العقل، نعني بذلك أنه لا ذم ولا مأثم ولا ثواب في إيقاعه

من جهة العقل. ولو قال لهم قائل: الواجب إذا رفع وجوبه بقي ندباً. لأن في ضمن إيجاب الشيء الندب إليه والفضل في فعله. وإذا رفع الوجوب بقي له موجبان الندب والجواز لم يجدوا من ذلك فصلا، والقول بهذا في الندب أولى لأن الأمر اقتضاء الفعل، والفعل قد يقتضي على وجه الندب كما يقتضي على وجه الوجوب. ومحال أن يوجب علينا الشيء من لا يندبنا إليه فيجب إذا نسج الوجوب أن يبقي ندباُ، ومقتضى بنفس الأمر المنسوخ. والقول بهذا أقرب من القول ببقاء إباحته وجوازه بعد نسخ وجوبه. ويجب أن يقال في هذا أن الأمر اقتضى الفعل والإطلاق. والجواز ليس باقتضاء للفعل على ما بيناه في أن المباح غير مأمور به، فصار موجبه زائداً على موجب الإباحة، فوجب بذلك صحة ما قلناه.

باب القول في أن الندب إلى صفة الفعل التي لا يصح كونه عليها إلا مع وجوده

باب القول في أن الندب إلى صفة الفعل التي لا يصح كونه عليها إلا مع وجوده هل تدل عله وجوبه أم لا؟ وقد زعم قوم أن الندب إلى صفة الفعل دال على وجوب نفس الفعل. واعتلوا/ ص 259 لذلك بأنه لا تصح صفته إلا مع وجوده ويحصل فعله، فوجب أن يدل الندب إلى صفته على وجوب ذاته. وذلك نحو أن يقول قد ندبتك إلى الجهر في قراءتك وإلى ترك العمل في صلواتك، وإلى المبالغة في الاستنشاق والسعي والهرولة بين الصفا والمروة. وأمثال ذلك. وقال قوم: هذا ليس بصحيح، بل يجب أن يدل الندب إلى صفة الفعل على أنه مأمور به وبإيقاعه على صفة ما أمر بصفته. قالوا: ويدل على ذلك أن إيجاب صفة الفعل أو إيجاب جزء منه يدل على إيجابه، وأنه بمثابة ما هو بعض وصفة له. ولذلك ما إذا وجب الركوع والسجود في الصلاة دل ذلك على وجوب نفس الصلاة. فإذا وجب الإحرام بها وجبت لا محالة، فصار الأمر بصفة الشيء يدل على أنه مأمور به على وجه ما الأمر أمر بصفته. والذي نختاره في هذا أن الندب إلى صفة الفعل لا يدل بمجرد على أن

الفعل واجب ولا على أنه ندب. والذي يدل على ذلك أننا قد نندب إلى صفة ما هو واجب في نفسه. ولذلك "ما" صح أن يكون من صفات الوضوء والصلاة، وغيرهما من الواجبات ما هو مسنون وما هو مفروض. وقد يندب إلى صفة ما هو ندب في نفسه. فلو قال: قد ندبتك إلى صلاة ركعتين وإلى إطالة القيام أو القراءة فيهما لكأننا وصفناهما مندوبين إليهما. فإذا ثبت ذلك لم يكن الندب إلى صفة الفعل بدال على أنه واجب في نفسه أو ندب، بل ذلك معلوم بغيره. فأما إيجاب صفة الفعل وإن سقط فرضه فصحيح أيضاً بأن يقال: قد ندبك إلى الصلاة والصيام، وجعلنا لك ثوبا على فعلهما ولك تركهما وإذا أردت فعلهما ندبا فقد أوجبنا عليك النية والإحرام وترك الأكل والجماع. وإن لم ترد ذلك لم يجب عليك شيء من صفاتهما، فوجب بما وصفناه. أن لا يدل الندب إلى المبالغة في الاستنشاق وصفة السعي بين الصفا والمروة، وغير ذلك من صفات الأفعال على وجوب نفس المندوب إلى صفته. فصل: ومتى علم من حال إيجاب الشيء أو إيجاب صفته أنه مقصود به إيجاب ما هو من جملته وصفته وجب القطع على وجوب نفس الفعل. فلهذا دل قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} /ص 260 على وجوب نفس الصلاة التي هما من جملتها. ودل قوله تعالى: {وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} على

وجوب صلاة الفجر، وأمثال ذلك من إيجاب الحلاق والإحرام في الحج على وجوب الوقوف، وكل شيء وجب لأجل غيره. وكان غيره هو المقصود بإيجابه، فإنه دليل على وجوب ذلك الغير.

باب القول في معنى أوجب الواجبين وآكد النفلين

باب القول في معنى أوجب الواجبين وآكد النفلين قد نبهنا - فيما يظن - على هذا الباب في معنى قولنا حسن أحسن من حسن وقبيح أقبح من قبيح. فإن ذلك يرجع إلى إجزال الثواب على أكد الواجبين، وكثرة عقاب أحد القبيحين. وعلى هذا المعنى يجب أن يقال: إن أحد الواجبين أوجب من الآخر، يراد به أن الثواب والمدح عليه أكثر. وكذلك القول في معنى أكد الندبين. وعلى هذا التأويل يكون الإيمان بالله أوجب من الصلاة والزكاة. وأن ركعتي الفجر وصلاة الوتر أكد من صلاة الضحى. وأن التصدق على الأمن الضرير الشديد الفاقة أفضل من التصدق على الصحيح القليل الفاقة. وكذلك فقد يشترك الشيئان في الوجوب ويكون أحدهما أحسن من الآخر ويشتركان في كونهما ندبين. ويكون أحدهما أحسن من الآخر، لأن المخفف لصلاته مؤد لما وجب عليه. وكذلك المطيل فيها قد أدى الواجب، واحدهما أحسن من الآخر، وكذلك المتنقل قاعداً وقائماً بركوع وسجود تامين متنقل، وأحد للنفلين أحسن من الآخر. فإن قال قائل: فما قولكم لو لم يجعل الله تعالى على شيء مما أوجبه وفرضه وندب إليه ثواباً وتعظيماً أكثر من الثواب والتعظيم على واجب آخر ونفل آخر. فهل كنتم تقولون إن من الواجبات ما هو أوجب أو أكد من غيره، وإن في النفل المتساوي المدح والثواب عليه ما هو أكد من غيره؟

قيل له: لا، لأنه ليس معنى أكد النفلين وأوجب الواجبة أكثر من / ص 261 أن ما علي أحدهما من التعظيم والثواب أكثر مما على الآخر. وإذا سقط هذا المعنى لم يجز إثبات واجب أوجب من واجب، ولا نفل أكد من نفل، سيما وقد بينا أن تعلق جميع الأوامر بالأفعال تعلق واحد غير مختلف ولا متزايد. فصل: وقد قيل: إن المؤكد من السنن كالوتر وركعتي الفجر موصوف بأنه مسنون، والضحى والتطوع بركعتين نفل، للفصل بين المؤكد من النوافل، وبين ما قصر عن رتبته. فصل: ولا يجوز أن يقال: إن أحد الواجبين أوجب وأحسن من الأخر على تأويل أنه يحتاج إلى فعل فرائض قبله لا يتم إلا بها. وأن هذا هو تأويل القول بأن الإيمان أوجب من الصلاة، لأن الصلاة وأكثر العبادات لا تصح إلا بعد فعل واجبات آخر من طهارة ونية وقطع مسافة وستر عورة، إلى أمثال ذلك. وبعضها مع الاشتراك في ذلك ذلك اوجب من بعض، فسقط هذا التأويل على أن هذا الاعتلال والتأويل يوجبان أن تكون الصلاة وما جرى مجراها من القرب أولى من الإيمان. لأنها تحتاج من المقدمات المفروضة حتى يصح التقرب بفعلها أكثر مما يحتاج إليه الإيمان بالله. لأن الإيمان به ومعرفته إنما تحتاج إلى تقديم النظر

فقط، وما عداه من للصلاة وغيرها يحتاج على فعل النظر، وإلى المعرفة والعلم بالنبوة، وما لا تصح الصلاة إلا به مما يكثر تعداده. وإذا لم يجب ذلك بإجماع سقط ما قالوه. وقد بينا فيما سلف أنه لا يصح تفاضل الأمرين الموجبين لفعل واحد أو لفعلين في تعلقهما بالمأمور به، وأنهما يتعلقان به على وجه واحد كتعلق القدرة والعلوم، ولأن تعلقهما إن تعلقا بفعل واحد أو اثنين إنما هو إيقاع الفعل، وإيقاع الأفعال لا يصح التزايد والاختلاف فيه. فلم يكن للقول واجب أوجب من واجب، وسنة أكد من فعلى نفل من المعنى إلا ما ذكرناه. فصل: فإن قيل: فأجيزوا صدقا أصدق من صدقه وكذبا أكذب من كذب، قياسا على صحة واجب /ص 262 أوجب من واجب. يقال لهم: هذا باطل، لأن صادقا وكاذبا مشتق من الصدق والكذب القائمين بالموصوف بهما. والصدق والكذب كلام، لا يصح أن يصدقا ويكذبا حتى تقوم المعاني بهما. فبطل ما قالوه. ولأن الصدق إنما هو الخبر عن الشيء على ما هو به. وكل خبر عنه على ما هو به فهو متناول له على حد تناول غيره له كذلك. وكذلك الكذب إنما هو خبر عنه على خلاف ما هو به. والاختلاف في هذا التعلق لا يصح، فافترق الأمران.

ولكن يجوز أن يكون صدق أوجب وأحسن من صدق أخر، وكذب أقبح من كذب غيره إذا تعاظم الثواب والمدح على أحد الصدقين، والعقاب والذم على أحد الكذبين، على ما أصلناه في هذا الباب. فإن قيل: أيجوز وجود صادق أصدق من صادق، وكاذب أكذب من كاذب. قيل له: إن أريد بذلك في مخبر واحد يتناولانه تناولًا واحدًا، فذاك محال على ما قلناه من قبل، وإن عني بأصدق الصادقين، وأكذب الكاذبين أن أحدهما أكثر صدقًا من الآخر، وأكثر كذبًا، فذاك جائز صحيح، على ما بيناه في الكلام في الأصول. وقد يقال: إن أحد الشخصين أصدق من الآخر على التجوز بإدخال حرف المبالغة في الكلام. وبمعنى إن أحدهما هو الصادق دون الآخر. وعلي هذا تناول قولهم زيد أحق بملكه من منازعه. والنبي - صلى الله عليه وسلم- أصدق من مسيلمة. يراد انفراد أحدهما بالصدق دون صاحبه.

باب القول في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اذا أوجب عليه أن يوجب على غيره شيئا أو يأخذ منه شيئا (دل ذلك على وجوب الفعل) على المأمور وتسليم المطلوب.

باب القول في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اذا أوجب عليه أن يوجب على غيره شيئًا أو يأخذ منه شيئًا (دل ذلك على وجوب الفعل) على المأمور وتسليم المطلوب. اعلموا - وفقكم الله - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا امر بأن يوجب على غيره فعلًا دل ذلك على أن الله تعالى قد أوجب على من أمره امتثال أمره من جهة المعنى لأجل ما ألزمناه من طاعته فيما أوجبه، ومحال أن يوجب عليه أن يوجب على غيره الفعل، ويجعل له الامتناع منه، فلذلك إذا أوجب عليه أخذ الزكاةً من الأغنياء ووضعها في الفقراء/ ص 263 دل ذلك على وجوب تسليم ما أوجب عليه أخذه، ولو لم يكن ذلك كذلك لكان يصح أن يكون النبي -عليه السلام- مأمورًا بالأخذ، ويكون لمن أمره بالتسليم المنع له، أو أن يكون مأمورًا بالامتناع من الدفع، والنبي -عليه السلام- مأمور بالأخذ. وهذا بعيد في التكليف، وليس وجه بعده أنه محيل لمعنى أحد الأمرين أو أمر المكلف بجمع الضدين، ولكن الشرع قد قرر منع ذلك، ووجوب تسليم ما يؤمر

النبي - صلى الله عليه وسلم- بأخذه ولو جعل للمكلف الامتناع مما يطالب النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسليمه لكان تكليفًا صحيحًا، ولكن فيه - باتفاق - تنفير من طاعته? وتصغير من شأنه إذا شرع الخلاف عليه، والامتناع مما يطالب بفعله فامتنع ذلك في حقه وحق أمته? حراسة لمكانه وتعظيمًا كأنه. وإلا فقد يصح مثل هذا التكليف في حكم غيره، وقد ردد الشرع به وجعل للزوج المطالبة لزوجته بالتمكين من الوطء والاستمتاع إذا قال قولًا لا يرى تحريمها عليه به، ولزمها هي الامتناع من ذلك إذا رأت أنه قول محرم لها. وأوجب على الشهود إقامة الشهادةً، وعلى المشهود له المطالبة بقبولها. وأوجب على الحاكم الامتناع من قبولها والحكم بها إذا لم يؤده الاجتهاد إلى وجوب سماعها والحكم بها، وكذلك فقد جعل لمن يرى أن له حقًا ومالًا على زيد أن يطالبه به، وأمر المطالب بالامتناع من الدفع إذا رأى أن ذلك لا يجب عليه، في أمثال هذا مما يكثر تتبعه. فثبت أن مثل هذا التكليف في النبي -عليه السلام- والأمةً غير محال لولا ما ذكرناه من التنفير عنه، وتقرير الشرع لوجوب دفع ما يلزم تسليمه. ولا يجوز التعلق في إحالة ذلك بأنه بمثابة الإيجاب للفعل في حال الإباحة لضده، لأنه تشبيه باطل، لأن إباحة ضد الشيء لمن أوجب عليه نقض لمعنى إيجابه عليه لا شبهة فيه. ومحال كون الشيء واجبًا غير واجب، وليس إيجاب المطالبة بالأخذ للشيء لشخص والأمر للمطالب بالامتناع تناقض للإيجاب عليهما / ص (26) 4 ولا على أحدهما، لأنها أمران بفعلين غيرين في حق مكلفين فافترقت الحال في ذلك.

وكذلك فلا يجوز أن يعتل لإحالة ذلك بأن يقال: إنه إذا أمر بأخذ الشيء من غيره، ولم يتم أخذ ما أمر بأخذه إلا بتسليم المأخوذ منه، وجب على المطالب بذلك التسليم? لأنه مما لا يتم فعل الواجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا به وما لا يتم فعل الواجب إلا به واجب كهو لأجل أنه لو قدر ورود الشرع بذلك لكان إنما يجب على النبي -صلى الله عليه وسلم- المطالبةً بالتسليم لا نفس التسليم. فإذا أمر المطالب بالامتناع من التسليم، ثم ما أمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعله من المطالبةً، وما أمر المطالب من الامتناع، لم يدخل ذلك في تكليف المحال.

باب القول في أن الزيادة على قدر ما يتناوله اسم الشيء المأمور به إذا فعل هل هو واجب أم ندب؟

باب القول في أن الزيادة على قدر ما يتناوله اسم الشيء المأمور به إذا فعل هل هو واجب أم ندب؟ اختلف الناس في هذا الباب. فقال قائلون: إنه إذا قيل اركعوا واسجدوا? واقرؤوا ما تيسر من القرآن? وأمثال هذا? فإن قدر الواجب منه أقل ما يجب به اسم ركوع وسجود وقراءة? وما زاد على ذلك من الإطالة والمداومة نفل. وقال آخرون: بل كل ذلك واجب. والأولى عندنا في ذلك أن يكون الواجب منه أول ما يلزم به الاسم. والدليل على ذلك أنه إذا فعله أدى الواجب وبرئت الذمة، فوجب أن يكون هو قدر ما وجب عليه ويدل على ذلك أن الأمر إنما يتضمن من الفعل قدر ما

يستحق به الاسم، وما زاد على ذلك محتاج إلى دليل لما بيناه من أن الأمر بالفعل لا يقتضي الدوام والتكرار، وكذلك لا يقتضي الإطالة والمداومة عليه، وإنما يجب الخروج من الواجب بأقل ما يتناوله الاسم. ويدل على ذلك - أيضًا - إن ما زاد على قدر ما يتناوله الاسم فإن للمكلف تركه لا إلى بدل ينوب منابه، ولا على أن يفعل مثله فيما بعد، وهو مثاب بفعله. وهذه صفةً الندب، والفرق بينه وبين الفرض، وهو أنه مثاب فاعله وله مع ذلك, تركه لا إلى بدل يقوم مقامه، ولا على أن يفعل مثله من بعد / ص 265 فوجب أن تكون الإطالة والمداومةً نفلًا غير فرض. ويبين هذا إنه لما كان صيام جميع الشهر وجميع أجزاء اليوم مستحقًا واجبًا وجب بترك البعض منه. فكذلك لو وجب إطالة القراءةً والركوع والسجود للزم الذم بترك ذلك. وهذا باطل. فأما من قال: إن ذلك واجب، فقد زعم إنه وإن كان واجبًا، فإنه مخير بين فعله وتركه. وقوله بالتخيير فيه، وأن له تركه بغير بدل، ولا على أن يفعل مثله فيما بعد هو الذي يوجب كونه نفلًا، على ما قلناه. ويقال لمن قال ذلك: لم قلت إن الزائد على قدر ما يتناوله الاسم واجب كوجوب الابتداء المستحق به الاسم؟ فإن قال: لأنه لما لم يخص قدرًا منه وجب من جميعه واجبًا. وكان بمثابة قول من قال لوكيله وغيره تصدق من مالي في أن له التصدق بأقل ما يستحق به اسم متصدق من الدانق والدرهم، وله التصدق بالألف وما زاد عليها. يقال له: الخلاف في هذا واحد، فما أنكرتم أن لا يكون للمأمور بذلك إلا التصدق بقدر ما يستحق به الاسم وأن للآمر منعه مما زاد على ذلك. وقد يمكن

أن يفرق بين الأمرين بأن العادةً في الآمر منا بالصدقة أنه إذا أراد التصدق بقدر منه معلوم محلول خصه بالذكر وقدّره وحدّه? وأنه متى عدل عن ذلك فقد أطلق للمأمور التصدق بما شاء من ماله. وليس مثل هذه العادةً في أوامر الشرع فافترق الأمران. فإن قالوا: إذا اتفقنا على أن ابتداء الفعل واجب وجب أن تكون الإطالة فيه ((والثبات عليه واجبًا كهو)) كان ذلك باطلًا من الاعتلال، لأنه إنما أوجب الابتداء لموضع المنع من تركه ولحوق الإثم فيه، وليس كذاك الثبات عليه، لأن له تركه بغير شيء يقوم مقامه، ولا على أن يفعل مثله من بعد، فافترق الأمران. وقالوا - أيضًا - قد اتفق على أنه لا يجوز أن يكون بعض الركوع والسجود المفروضين فرضًا وبعضه نفلًا، فوجب كونه فرضًا كله. وهذا باطل، لأن الركوع والسجود الواجبين لا يكون منه لعمري واجب ونفل، ولكن الواجب منهما أقل ما يتناوله الاسم، وما زاد على ذلك - وإن سمي مع قدر الواجب ركوعًا وسجودًا - فليس بواجب بل نفل. فلا وجه لدعوى الإجماع على أنه لا يجوز أن يكون من الركوع والسجود واجب ونفل، كما أنه لا وجه لدعوى من ادعى / ص 266 أنه لا يجوز أن يكون في صلاة الظهر فرض ونفل. وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلناه. ومع هذا فلا يمتنع أن يقرر الشرع ويوقف الرسول -عليه السلام- على وجوب أقدار زائدةً على ما يتناوله الاسم بقوله ولفعله، وما يكون من بياناته، وإنما ينكر الإيجاب لذلك بمجرد الإيجاب للفعل ونفس الأمر به، فلذاك قال أكثر الناس إنه لا يجب من الركوع والسجود أكثر من قدر الجزء الأول. ومن القراءةً أكثر

من {مُدْهَامَّتَانِ} فإن كان ذلك قدرًا يتناوله الاسم يستحق به فيجب ترتيب ذلك على ما نزلناه.

باب القول في أن الأمر بالفعل يتناول المكروه فعله أم لا؟

باب القول في أن الأمر بالفعل يتناول المكروه فعله أم لا؟ قد زعم بعض من تكلم في هذا الباب أن الأمر بالفعل يتناول ما يقع عليه الاسم وإن كان مكروهًا. واحتج بهذا الأصل على جواز طواف الحدث بقوله سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال: وجواز الطواف مراد واللفظ يتناوله فجاز فعله وصح، بان وقع على الصفة المكروهة من مقارنة الحدث. وهذا خطأ لأننا قد بينا فيما سلف أنه إذا رفع الفعل ونسخ وجوبه لم يبق جوازه، لأنه ليس في ضمن الوجوب. وإذا ثبت ذلك بما وصفناه كان دخول المكروه تحت الأمر أبعد، لأجل أن المكروه منهي عن فعله. والطواف المذكور في الآية مأمور به. والأمر بالشيء لا يقتضي الفعل المنهي عنه ولا نفس الفعل المأمور به بشرط الطهارة هو مقرونا بها. والذي يقع منه عاريًا منها غير الواقع لشريطتها ومقارنا لها. وإذا كان غيره أولى منه وكان منهيًا استحال أن يكدن الأمر مقتضيًا له، وأن يكون من موجبه، ومع ذلك فلا ينكر قيام دليل على وقوعه موقع الأمور به غير نفس الأمر، نحو ما دل على إجزاء الصلاة في الدار

المغصوبة مع النهي عنها، ووقوع طلاق البدعة موقع طلاق السنة المأمور به في أمثال هذا مما دل الدليل على وقوعه موقع المأمور به. ويدل على تغاير ما بين ما أمر به بشرط الطهارة وبين ما وقع خاليًا منها أن العاري منها قبيح محظور فعله، وما وقع عليها حسن مأمور به ومحال / ص 267 دخول القبيح الأمر بالفعل والاقتضاء له مع كونه ممنوعًا فصح ما قلناه. فإن قالوا: نفس الطواف مراد مأمور به، لأن الأمر يتناوله? والكراهةً والنهي إنما يتعلقان بفعل أخر، وهو ترك الطهارةً الذي كره تركه وأمر باجتنابه. فصار المراد عين المكروه? والمأمور بهه الحسن غير المنهي عنه القبيح? فسقط ما قلتم. قيل لهم: هذا باطل، لأجل أن النهي عن ترك الطهارة، إنما هو لأجل أنه أمر يرجع إلى وجوب الطواف، وقد حظر فعله مع الحدث وترك الطهارة، كما أنه إذا أمر بالصلاة بطهارةً أن يقال أن نفس الصلاة هي المرادة الأمور بها. فإذا فعلت مع الحدث وترك الطهارة كانت حسنة مرادةً مأمورًا بها. وكانت الكراهةً والنهي راجعين إلى ترك الطهارة وإزالة الحدث، وذلك فعل أخر غير جنس الصلاةً، وهذا باطل وتلاعب من قائله، فسقط ما قالوه. ويجب على هذا أن تكون نفس الصلاة للمسيح والنيران حسنة مرادة مأمورًا بها وإن وقعت كذلك، وأن تكون الكراهة والنهي إنما يتعلقان بنفس الإرادة لفعله للنار لأن الإرادة للنار بها غير نفس الصلاة المأمور بإيقاعها، وهذا خبط وتخليط وخروج عن إجماع الأمة ممن بلغه، فبطل التعلق بذلك.

باب الكلام في أنه يجوز بإيقاع الفعل على صفة النهي عن إيقاعه على غيرها أم لا؟

باب الكلام في أنه يجوز بإيقاع الفعل على صفة النهي عن إيقاعه على غيرها أم لا؟ اختلف الناس في هذا الباب. فقال الجمهور من الفقهاء: إن ذلك جائز صحيح. وقال بعض المتكلمين: إن ذلك غير جائز، وزعم أن الأمر بالفعل والإرادةً له لا يجوز أن يكونا مشروطين. وهذا نحو أمر الله سبحانه للعبد بفعل السجود طاعةً له تعالى وقربةً إليه وإرادته به. ونهيه عن فعله للشيطان، والتقرب به إليه. فقال المجيزون لذلك: إن الأمر بأن يفعل السجود طاعةً له وقربةً إليه تعالى أمر بفعله، وفعل إرادة تقارنه لله سبحانه بالعمل. والنهي عن فعله للشيطان نهي عن فعله مع إرادةً تقارنه للشيطان وطلبٍ إليه، وكأنه على هذا قال له: افعل هذا السجود وافعل معه إرادة لله بالعمل. ولا تفعل معه إرادةً للشيطان، فيكون النهي عنه غير السجود المأمور به، ويجب على هذا القول أن يكون النهي راجعًا إلى فعل الإرادةً للشيطان به لا نفس السجود للشيطان.

وهذا باطل، لأن الأمة مجمعةً على أن نفس السجود للشيطان منهي عن إيقاعه كما أن إرادة / ص 268 الشيطان به والتقرب به إليه منهي عنه. وإذا ثبت أنهما منهيان عنهما وجب أن يقال إن نفس السجود المراد به الشيطان وإرادته به منهي عنه. وأن يقال إن السجود المفعول مع إرادة الله تعالى به غير السجود الذي يراد به القربة إلى الشيطان. وإذا كانا متغايرين لم يكن المأمور به هو نفس النهي عنه وهذا قريب (فيجب أن يقال: إن نفس ما يقع من السجود مع إرادة الشيطان به غير الذي نهي عنه أن يقع مع إرادة الله سبحانه بالعمل، والمنهي عنه إذا على هذا غير السجود المأمور به، وهذا قريب. وأما من أحال كون الأمر والإرادة مشروطين ومتناولين للمراد المأمور به على وجه، والنهي والكراهة متناولين لنفس المأمور به على غير الوجه الذي تتناوله الإرادة والأمر به، فإنه يعتل في ذلك بأن الأمر بالفعل أمر بإحداثه، والنهي عن فعله على غير دلك الوجه إنما هو نهي عن إيقاعه وإحداثه. وهذا يوجب أن يكون إيقاعه مأمورًا به ومنهيًا عنه. ويراد تكررها على وجه واحد، وهو وجه الحدوث أو الاكتساب على قولنا. ولما فسد ذلك استحال أن يكون مأمورًا بإيقاعه على وجه منهيًا عن إيقاعه على وجه أخر. وليس يمكن أن يقال: إنه إذا أريد حدوثه لله عز وجل صار له حدوثًا على صفة مخصوصةً. وإذا أريد به وقوعه للشيطان صار له حدوثًا على صفة تخالف حدوثه للشيطان لأن جهة الحدوث جهةً واحدةً غير مختلفةً ولا متزايدةً. ويدل على أن السجود لله عز وجل يجب أن يكون غير السجود للشيطان أن أحد السجودين طاعةً حسن مأمور به والسجود للشيطان معصية قبيح

منهي عنه، ونفس السجود لا يكون تارةً طاعةً حسنًا وتارةً معصيةً قبيحًا. كما أن الإرادةً لهما تختلف حالهما فيجب أن يكونا غيرين. وليس لأحد أن يقول إنه لما كان حسن السجودين واحدًا وكانا مدركين على صفة واحدةً لم يجز اختلافهما في كون أحدهما طاعةً حسنًا والآخر قبيحًا، لأن تجانس الشيئين لا يوجب كونهما واحدًا. ولا أن تختلف أحكامهما في كون أحدهما قربةً والآخر معصيةً. وفي أن أحدهما فرض والآخر نفل? لأن هذه الأحكام /ص 269 لم تجب للأفعال لأنفسها وأجناس، بل لتعلق الأمر والنهي بها? على ما بيناه من قبل، فزالت هذه الشبهة، وبالله التوفيق.

باب الكلام في الأمر بالعمل هل يصح كونه مشروطا ببقاء المأمور وكونه حيا سليما قادرا وبقاء الأمر به أم لا؟

باب الكلام في الأمر بالعمل هل يصح كونه مشروطًا ببقاء المأمور وكونه حيا سليما قادرا وبقاء الأمر به أم لا؟ اعلموا - وفقكم الله - أنه لا خلاف بين فرق الأمة في جواز تكليف الآمر منا لغيره بالفعل في المستقبل بشريطه وجوده وكونه حيًا سليمًا قادرًا وبقاء أمره عليه بذلك. فأما أمر الله عز وجل لخلقه بهذه الشرائط فقد اختلف فيه. فمذهب القدرية ومن وافقهم إحالة الأمر منه بهذه الشروط لأن جازت في أمرنا. ومن قول أهل الحق تجويز ذلك في أمر الله عز وجل وأمرنا.

والذي يدل بدئا على تجويز ذلك في أوامرنا أننا إذا أمرنا غيرنا بإيقاع الفعل في المستقبل لم يخل من ثلاثة أحوال: أن نكون عالمين بأنه يكون موجودًا سليمًا حيًا وقت إيقاع الفعل بما تقدم الأمر به. أو عالمين بأنه لا يكون كذلك وقت الفعل. أو شاكين في ذلك، غير عالمين بأنه يكون على هذه الصفة، ولا أن لا يكون عليها، بل مجوزين لكل واحد من الأمرين: فإن كنا عالمين صح أمرنا لمن المعلوم ذلك من حاله وقطعنا عليه، ولن نقطع على ذلك ونعلمه إلا بخبر النبي وتوقيف عن الله سبحانه، ولكن لا بد مع ذك من أن يكون المأمور غير عالم ولا قاطع ببقائه وبناء صفاته التي معها يلزم التكليف، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن حينئذ للشرط معنى إذا اشترك في العلم بذاك الأمر والمأمور. وإذا انفرد الأمر بعلمه، وحرز المأمور ذلك صح تكليفه وامتحانه لتوطين النفس على فعل غيره مما يؤمر به، أو لتعجيل طاعته بالإجابة، والعزم على فعل ذلك إن بقي، وأجيز هذا من الوجوه. وإن كنا عالمين بأنه لا يبقى، أو لا يبقى بصفة المكلف صح وجاز تكليفه بهذه الشرائط، لأنه لابد إذا كف ذلك من عزمه على الطاعة والانقياد أو عزمه على الخلاف والعصيان، وهو مستحق على أحد العزمين مدحًا وثوابًا وبفعله مطيع وبالآخر ذمًا وبقطه عاصٍ مخالف، فصح لك لذلك امتحانه بهذا التكليف إن علم

بقاؤه، وإن علم فناؤه وخروجه عن صفة المكلف في المستقبل. فأما صحة تكلفينا من لا يعلم من حاله أحد الأمرين، بل يجيز كل واحد ص 270 منهما فيه فشيء لا اختلاف في صحته لتجويز / الأمر لوجود هذه الشروط وتجويزه أن لا يوجد، وتجويز المأمور-أيضًا- لذلك صحة الامتحان له? على ما بيناه من قبل ولا أحد من الأمة يقول إنه لا يحسن أمرنا للغير بالفعل في المستقبل إلا مع العلم ببقائه رجاء صفاته المصححة لوقوع الفعل منه، لأنه يوجب علم الأمر بذلك وأن يشركه في علمه المأمور، لأنه إن أوجب العقل لا بأمر الأمر منا غيره إلا مع العلم ببقائه? وإلا كان أمره خطأ وسفها أوجب على المأمور - أيضًا- مثل ذلك، لآله من أهل العقول لكان يجب أن يكون كل مأمور بفعل في المستقبل عالمًا قاطعًا على بقائه? لهذا باطل باتفاق? وأقل الواجب فيه أن يكون المأمور مغررًا بفعل المعاصي، ومسوفًا لنفسه بالتوبة، وذلك مفسدةً على أصولهم. هذا على أن ما يدعونه من كون علم المكلف ذلك مفسدة له وإغراء بالمعاصي باطل، لا حجةً عليه لأنه قد يكون كذلك، وقد يكون استصلاحًا وموفرًا لهمته ودواعيه على الاستكثار من الطاعةً. وتلافي الفارط فيما سلف من عمره مع أن الإجماع بخلافه? فصح ما قلناه.

ولأنه لا يخلو الأمر منا لغيره إذا لم يعلم أنه يبقى أولا يبقى من أن يكون ما تقدم منه للمأمور إذا مات قبل بلوغ الوقت الذي أمره بالفعل فيه من أن يكون أمرًا له بالفعل، (فإن مات قبل بلوغ الوقت الذي أمره بالفعل فيه) أو أن يكون غير أمر له بشيء، إذا حصل موته قبل الوقت? وهذا باطل بإجماع الأمة وأهل اللغة، على أن ما تقدم من الأمر لعبده أمر له بالفعل، وأنه إذا عزم على فعله عزم على فعل طاعة. وإن عزم على تركه عزم على عصيان الأمر. فلو لم يستقر عليه أمر لم يجز القول بشيء من ذلك، فثبت بهذا أتنه أمر له بشريطةً أن بقي، وكان على صفة من يلزمه التكليف. (لأنه إذا لم يجز كونه أمرًا له بشريطةً أن بقي). وهذا واضح لا إشكال فيه. وقد فصلت القدرية بين جواز أمرنا لغيرنا بهذه الشريطة وبين جواز أمر الله تعالى لغيره بها، بأن ذلك إنما جاز وحسن منا لتجويزنا وجوده بهذه الشرائط وتجوزينا أن لا يحصل، والله جل ذكره لا بد من كونه عالمًا بأنها حاصلةً وقت الفعل، أوبأنها غير حاصلةً، فلا وجه إذا كان ذلك كذلك لحسن اشتراطه ما يعلم أنه يوجد لا محالةً أو لا يوجد. وهذا باطل، لأننا قد بينا أن ذلك صحيح جائز منه تعالى / ص 271 ومنا إذا لم يعلم المكلف أنه يبقى أولا يبقى لصحة امتحانه مع تجويزه لذلك بفعل العزم على أدائه أو تركه. ولأنه لا يمتنع أن يكون عالمًا بأنه إذا أمر زيدًا أن يفعل فعلًا في المستقبل بشريطه بقائه، لأن علم أنه لا يبقى لطفًا له في فعل ماعدا ذلك المأمور له من الطاعات المعجلة اللازمة له قبل ذلك الوقت? ولطفًا لغيره من المكلفين في فعل

الحسن واجتناب القبيح، ومتى جاز كون هذا الأمر لطفًا وجب على أصولهم على الله سبحانه فعله، ولا يصح ذلك مع اشتراك الأمر والمأمور في العلم بأنه يكون أو لا يكون. فإن قيل: تجوزوا أن يكلفه الفعل بشرائطه إن كان فعله عرضًا وحادثًا. وإن كان حسنًا ومصلحه ولطفًا له في الطاعة إلى غير ذلك مما يعلم أنه لابد من حصول الفعل عليه؟ قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه إذا وجب اشتراك الأمر والمأمور في اسم بأن الفعل لا يكون إلا حادثًا وإلا عوضًا وإلا لطفًا ومصلحةً عندكم، وحسنًا في معلومةً قبل أمره به? لم يجوز المأمور للأمر ولا المأمور كون الفعل على خلاف هذه الصفات. وليس كونه عليها أمرًا يكون بالعبد وبقدرته ومن كسبه وتصرفه حتى يعزم على إيقاعه كذلك، أو على خلافه، ولا يصح خروجه عن هذه الصفات فيصح عزمه على إيقاعه عليها دون خلافها ونقيضها. وإذا كان ذلك كذلك افترقا الأمران، لأن المكلف يجوز بقاؤه فيفعل الفعل، ويعزم على أدائه، ويجوز منه عزمه على تركه وفعل ضده إن بقي. وهذا واضح في الفصل بين الشرطين. فصل: فإن قيل: تجوزوا ورود الأمر من بشرط بقاء الأمر وشرط ألا يرد النسخ له? وجوزوا -أيضًا- أن يقال: إفعل ما أردت منك فعله إن لم أكرهه، وجوزوا أمره بفعل المحال وجميع الأضداد، وأمره بالفعل مع عدم الآلة فيه والعلم به إن كان محكمًا? ولمن لا تصح إرادته له، وإن كان محتاجًا في كونه عبادة تخلصها إلى إرادةً بها تكون كذلك. يقال لهم: (إذا) تجويز أمره بالفعل بشريطه بقاء الأمر به، وأن لا يرد

النسخ له صحيح على ما نبينه. ويدل عليه في أحكام الناسخ والمنسوخ، وأما جواز أمره بما يستحيل فعله وتركه من جمع الضدين بفعل الباقي والقديم، وأمثال ذلك، / ص (272) فجوابه قد مضى على الوجهين فمن أهل الحق من يجوزه ومنهم من يحيله، ولكن لابد من كون المكلف عاقلًا وعلما بالخطاب، أو في حكم العالم به على ما بيناه. وأما اشتراطه فعل ما يريده بشريطه ألا يكرهه، فذلك محال، لأن ما يريده فمحال أن يكرهه، لأنه مريد له من الأزل في الأزل. وظنهم أنه إذا أمرنا بشيء في المستقبل فقد أراده لا محالة، فإذا قال بشريطةً أن لا أنهاك عنه فكأنه قال إفعل ما أريده بشريطه أن لم أكرهه، فإنه باطل، لأن أمره بالشيء لا يقتضي إرادته له إن بقي إلى وقت أداء الفعل أو نسخه. وقد يريد ضد ما أمر به. وقد بينا هذا فيما سلف فأغنى عن رده. وأما جواز التكليف للفعل مع عدم الآلة في الفعل، فإنه لا معنى له عندنا؛ لأن المكلف لا يفعل إلا مباشرًا غير متولد، والآلة إنما يحتاج إليها في المتولد من الفعل. وعندهم قد يصح على قول أصحاب التولد الأمر بالفعل مع عدم الآلة فيه، وعدم سببه بعد وجوده كالأمر بفعل العلم بعد تقضي النظر الموجب له، وما صابه الغرض مع عدم القوس وبعد وجود الرمي، وكذلك القول في كل فعل لا

يحتاج إلى الآلة في حال وقوعه مع تقديم سببه. وأما جواز التكليف لأحكام الفعل مع عدم الفعل به فجائز على القول بصحة تكليف الحال الذي لا يصح فعله ولا تركه، وعلى القول بإحالة ذلك لا يصح، لأنه حينئذ لا يمكن فعله ولا تركه. وأما تجويز التكليف لإيقاع الفعل على وجه لا يحصل عليه إلا بإرادةً مع المنع من الإرادةً، وممن يستحيل كونه مريدًا فصحيح -أيضًا- مع تجويز تكليف الحال، ومحال مع منع ذلك? فيجب ترتيب الأدلة عما يسألون عنه من هذا الباب. فصل: وقد استدل بعض من قال: إن الأمر من الله تعالى يصح بشرط بقاء المأمور? وبقاء صفاته التي يصح التكليف عليها - لأنه أمر - في الحقيقة - لمن يعلم أنه يكون ميتًا ومعدومًا وقت الفعل بهذا الشرط بأن الأمةً متفقةً على ذم من ص 273 منع غيره من فعل الصلاةً وإمساكه وقت تضيقها عليه / واستحقاقها. فلولا أنه مانع له من أمر يفعله بشريطةً زوال منعه إياه لما استحق المانع له الذم على منعه، ولكان بالمدح على ذلك أحق وأولى، لأنه بمنعه إياه قد أسقط عنه الفرض والأمر. ولما لم يكن ممدوحًا، وكان مذمومًا بمنعه دل ذلك على انه منعه من فعل وجب عليه وأمر به بشرط إطلاقه وزوال منعه. وهذا عندنا بصحيح؛ لأنه إنما قبح منع المانع وإمساكه لمن ذكروه لمنع السمع من ذلك وحظره عليه، لأنه قد حظر علينا منعنا لغيرنا من فعل ما يريده إذا لم يكن عليه ولا علينا ضرر وإن لم يكن ما يمنعه منه واجبًا. ولهذا صار منعنا لغيرنا من فعل المباح وإذا قصده قبيحًا مستوجبًا عليه الذم. وإن لم يكن المباح الذي نمنعه منه واجبًا، وكذلك منعنا له من الندب قبيح لأن لم يكن واجبًا ولا مأمورًا به على قول منكر كونه مأمورًا به، فبطل ما قالوه.

وقد يجوز أن يجيبوا عن ذلك بأن يقولوا إنما منعنا له وقت الصلاةً، لأجل أن منعنا له صار سببًا لوجوب فرض آخر عليه يوصف بأنه قضاء لما منع منه، لأنه في تقدير من وجب عليه الفعل? وذلك بمثابة وجوب القضاء على الحائض وإن لم يجب عليها الصيام، لما عرض لها من الحيض، على ما بيناه من قبل. وقد يمكن أن يجاب عن هذا بأن يقال: ليس بأن يستحق المانع الذم لكون منعه بسبب الفرض هو القضاء بأولى من استحقاقه المدح، لأجل إزالة ما يمنع فرضًا? لولا منعه لكان لازمًا، فقد أسقط عنه مثل الذي أوجب عليه. وربما أجابوا عن ذلك بأن يقولوا لم يقبح المنع من فعل الصلاة لأجل وجوبها مع المنع لكون التمنع لطفًا في فساد المانع والممنوع، وكونه داعيًا إلى فعل القبيح وترك الحسن. لأنه لو لم يكن كذلك لم يحظر فعله. وقد يجيبون عن ذلك بأنه لم يقبح المنع لكونه منعًا مما وجب فعله، لكن لكونه مخرجا للممنوع عن صفة من يصح تكليف الصلاة. وتكليف الصلاة تفضل وإحسان ونفع وتعريض لثواب عظيم. وبما قدمناه. ومما يعتمدون عليه في ذلك إجماع الأمة قبل وجود المخالف في ذلك، على أن الله سبحانه قد أمر على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - في وقته لأهل عصره، ومن يأتي بعده من المكلفين بشرائع الدين وبترك القتل والزنا / ص (274) وشرب الخمر وجميع المحرمات في المستقبل. ولا يجوز أن يكونوا مأمورين بفعل القرب واجتناب المحظورات إلا بشريطه بقائهم وسلامتهم، فصح بذلك ما قلناه.

باب القول أنه يصح على المكلف وغيره من الخلق (أن لا يعلم) بأنه مأمور بالفعل أم لا؟

باب القول أنه يصح على المكلف وغيره من الخلق (أن لا يعلم) بأنه مأمور بالفعل أم لا؟ اعلموا - وفقكم الله - أنه لا خلاف بين سلف الأمة - قبل محدث الخلاف عليهم من القدرية - في وجوب كون المكلف عالمًا بأنه مأمور بفعل العبادات واجتناب الذنوب والمحظورات? غير أنه عالم بأنه مأمور بذلك بشريطه بقاءه إلى حين وجوب الفعل، وكونه على صفة من يلزمه التكليف على ما بينا. ولذلك يقول المسلمين قاطبةً إن الله سبحانه أمرنا بفعل العبادات في غدٍ وما بعده، وبترك المحرمات? ولا بد أن يكون أمره تعالى بذلك مشروطًا ببقائهم وكونهم على صفة المكلفين، لاعتقاد الجميع لزوال التكليف وسقوطه مع الموت وما يجرى مجراه، فثبت أنه مكلف بشرط ما وصفنا? وقد كشفنا صحة ذلك ووجوب الامتحان به ووجه جوازه بما يغني عن رده، فوجب علم المكلف وقطعه على كونه مأمورًا بالأفعال في المستقبل بشرط ما وضحناه، وبهذه الشريطه يعتقد المتلبس بالصلاة والحج وسائر العبادات ذوات الجمل والأبعاض أنه مأمور بذلك وناوٍ به أداء ما لزمه ووجب عليه، لا على القطع على بقائه، وعلى أنه شرع في غير واجب عليه. فصل: وقد قالت القدريةً قي هذا الباب خلاف قول جميع الأمة سلفها وخلفها. فزعمت أنه لا يجوز أن يكون أحد من العقلاء المكلفين عالمًا به مأمورًا

بشيء، وأنه قد وجب عليه، أو على غيره من الأمة بشيء في المستقبل وقبل إيقاع الفعل وإنه إنما يعلم المكلف أنه مأمور بما فعله وواجب ذلك عليه بعد إيقاعه والفراغ منه أو بمضي وقته. قالوا: لأننا لو علمنا أننا إذا (أمرنا) غيرنا من العقلاء. وغيرنا من العقلاء مأمورين بفعل شيء في المستقبل لعلمنا قطعًا أننا نبقى أحياء عقلاء قادرين إلى ذلك الوقت لعلمنا بأن الله سبحانه لا يأمرنا بشيء في المستقبل ثم يمنعنا منه بموت وإزالة ما يصح معه التكليف، أو ينهى عنه لنا عن فعله بعد الأمر، وإنما ينفرد الله تعالى بالعمل بأنه مأمور بالفعل في المستقبل إذا علم بأنه يبقيه / ص (275) بصفة المكلف إلى حين وقته، فأما الخلق فلا يعلمون ذلك لتجويزهم إخترام المكلف قبل الوقت. ومتى اخترم أو عرض له عارض يزيل التكليف علم أن ما قيل له افعله قبل موته لم يكن أمرًا على وجه. وهذا خلاف دين جميع المسلمين. والذي يدل على فساد قولهم ما قدمنا ذكره من اجما ع الأمة على خلاف قولهم. ومما يدل على ذلك - أيضًا- أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يصح لأحد من المكلفين أن ينوي ما يدخل فيه من صلاةً وحج وصيام فرضه الله واجبًا عليه، لأنه لا يعلم بعد إحرامه بالصلاة والحج أنه يبقى إلى حين الفراغ منهما، بل يجوز اخترامه قبل ذلك فيجب أن لا يصح منه أن ينوي أن شيئًا من ذلك واجبًا عليه ومؤدى به فريضةً تلزمه. وكذلك فليس على وجه الأرض مكلف يعلم أنه قد نهى عن القتل والربا والسرق وشرب الخمر في مستقبل أيامه، أو يصح منه

أن ينوي ترك ذلك في المستقبل قربةً إلى الله تعالى؛ لأنه لا يعلم أنه ناهٍ له عن ذلك إلا بعد دخول الوقت وخروجه وهو بصفة المكلف. فإن امتنعوا من ذلك قالوا بالحق وتركوا دينهم? وإن اقتحموه وهو قولهم ركبوا عظيمًا وما ليس بقول لمسلم. وقيل لهم: فكيف يصح للمصلي أن ينوي أنه يصلي ظهرًا أربعًا فريضةً عليه وقربةً، وهولا يعلم أن ذلك واجب عليه، ومتى لم يصح منه ذلك لم يصح له صلاةً من حيث احتاجت إلى نيةً الوجوب، وهي ممتنعةً عليه مع فقد علمه بأنه مأمور فضلًا عن أن يكون ما أمر به واجبًا عليه، وهذا ما لا محيص منه. ويدل على فساد هذا القول - أيضًا - أنه لو كان من لا يعلم أنه باقٍ إلى وقت الفعل والفراغ منه غير مأمور به ولا واجب عليه لم يلزمه الدخول فيما لا يعلم أنه واجب عليه، كما لا يلزمه فعل المباح الذي لا يعلم وجوبه عليه. وكان لا يلحقه الإثم، وإن ترك الفعل، لأنه إنما ترك ما لم يعلم أنه مأمور به، وإنما يتوجه اللوم والذم على من ترك ما يعلم أنه مفروض عليه، دون من لا يعلم ذلك. وفي اتفاق الأمة على وجوب ذم تارك هذه الفروض واستحقاقه للعقاب عليها أوضح دليل أنه ترك ما تقدم علمه بأنه واجب عليه ولازم له / ص (276) فإن قالوا: إنما وجب على المكلف عند حضور وقت الصلاةً الدخول فيها وأن ينويها فرضًا خوفًا من أن يكون ممن يبقى ويتوجه الأمر عليه، لا لأنه متيقن عالم بوجوب الصلاةً عليه. قالوا: وحال المكلف في ذلك حال مشاهدة السبع من بعد في وجوب الهرب منه مع تجويز هلاك الأسد واخترامه قبل وصوله إليه، غير أنه يلزمه العدو والهرب خوف افتراسه. قالوا: وكذلك المبتدئ بالصلاة إنما يبتدئ بفعل الإحرام لينوي أداء الواجب خوفًا من وجوب ذلك عليه، لا أنه عالم بأنه واجب عليه. وكيف يعلم ذلك وهو يجوز اخترامه قبل وقت الفعل. وهذا الاعتلال والتشبيه -أيضًا- خارج عن الإجماع، لأنه قول يوجب أن ينوي

المصلي أنه يؤدي ما لا يدري أنه فرض أو لا يأمن أن يكون واجبًا مفروضًا أو غير واجب ولا مفروض. وقد اتفق على أن من يرى ذلك لم تجزئه صلاته حتى ينوي أنه يؤدي فرضًا واجبًا، فبطل هذا القول والتمثيل وبعد. فكيف وجب على من حضره الوقت الدخول في الصلاة ونيتها ظهرًا واجبًا خوفًا من وجوب ذك عليه ولم يسع له تركها غير ملوم ولا مذموم لكونها محرزًا لسقوطها وزوال فرضها عنه، ورجاءه لذلك. فلا يجدون لذلك مدفعًا، وكيف تجزئه نية لفعل مشكوك فيه، والله سبحانه يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولا إخلاص يصح لمن لا يعلم أنه مأمور به، أو غير مأمور، ولا مخرج لهم من ذلك. ويدل على فساد قولهم - أيضًا- أنه لو كان فرضه مجزئًا بنية أنه يصلي واجبًا? وهولا يعلم أنه واجب وإن علم الله ذلك من حاله إذا علم بقاءه لوجب إذا نوى أن يصلي ما لا يدري أنه واجب عليه أم لا أن تجزئة صلاته، لأنه قد نوى الشيء على حقيقته عندهم، والنية إذا وقعت كذلك وقعت مطابقةً لما كلفه على قولهم الفظيع، ولما لم تجز هذه النيةً دون أن ينوي أن يؤدي فرضًا واجبًا صلاةً كذا دل ذلك على أنه مكلف مأمور، فسقط ما قالوه. فصل: وإن قالوا: فما تقولون أنتم فيمن حضره الوقت ولزمته الصلاةً، كيف يلزمه ذلك / ص 277 وكيف ينويه واجبًا وهو لا يعلم أنه واجب عليه؟ يقال لهم: قد بينا فيما سلف كيف يجب ذلك عليه، وهو أن يجب عليه لشرط بقائه? ويجب على المصلي أن ينوي الصلاةً الواجبةً لله تعالى وقربةً إليه إن بقي

بشريطة حصول حياته وما يحتاج إليه في إيقاعه. ولا يمكن على قول أحد من الأمة أن ينوي أنه سيصلي لا محالةً أربع ركعات وإن اخترم، ولا يعتقد أنه غير مأمور وأنه سيخترم قبل الوقت. فإذا بطل الوجهان ولم يبق بعد ذلك إلا أن ينوي فعل صلاة ظهرًا أربعا بشريطه إن بقي، وبقي بصفة المكلف، وهذا لا بد منه. فأما أن ينوي أنه سيبقى ويصلي الركعات إلى أخرها، فذلك محال منه مع تجويز اخترامه قبل الوقت، فلم يبق غير أن ينوي فعل ذلك واجبًا حتما إن بقى، وصح ما قلناه. فصل: وقد اعتمدوا في إحالة حصل الأمر في المستقبل بشرط، أو بشرط يحصل بعد وجود الأمر بأن ذلك يوجب أن يكون وقوع ذلك الأمر وثبوته مشروطًا بشيء يوجد ويكون بعده. وهذا باطل، لأن من حق ما هو شرط لوجود الشيء أن يكون مقترنًا بوجوده. فيقال لهم: ما قلتموه باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: إن هذه الشروط ليست بشروط لوجود ذات الأمر ولكونه كلامًا كائنًا، لأن المشروط وجوده بشيء لا يجوز - لعمري- وجود شرط وجوده بعده. وإنما هذه الشروط شروط لكلن الأمر لازمًا فوجب تنفيذ موجبه. وليس ذلك من شرط كونه موجودًا بسبيل على هذا قال جمهور الناس: إن الأمر أمر للمعدوم ولمن لم يبلغه بشرط بلوغه له- وليس ذلك بشرط لوجود ذات الأمر، وكونه واقعًا. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. والوجه الآخر: إن أمر الله عز وجل لمن يعلم أنه باق ٍإلى وقت وقوع المأمور به بشرطه بلزوم الأمر ووجوب تنفيذه، وذلك يكون بعد الأمر. وإنما صح ذلك، لأنه ليس بشرطٍ للوجود وكونه ذلك، لكونه على بعض الصفات/ ص 278 والإحكام

الزائدة على كونه موجودًا. وعلى هذا كان تقدم الأمر بفعل الصلاة إذا زالت الشمس لمن في المعلوم أنه باقٍ صحيح وإن كان الزوال موجودًا بعد الأمر. وكذلك المحدث مأمور في حال حدثه بإقامة الصلاة بشريطه تقدم الطهارة. وكذلك الكافر مأمور بفعل القرب والعبادات واجتناب المحرمات قربةً لوجه الله عز وجل بشرط تقديم الطهارة والإيمان. وهما يوجدان بعد تقدم الأمر، ولم يكن لأحد أن يقول: إن وجوده مشروط بشروط توجد وتكون بعده. فإذا كان كذلك صح ما قلناه. والوجه الآخر: إننا قد بينا في الباب الذي قبل هذا صحة تكليفنا الفعل في المستقبل وامتحاننا للمكلف بذلك، وإن كنا قد شرطنا له شروطًا توجد بعد الأمر. فلذلك يصح مثله من الله سبحانه. وأن لم يكن ذلك منه تعالى ولا منا شرطًا لوجود ذات الأمر. ولو استحال ذلك في أوامر الله سبحانه لاستحال في أوامرنا لوجوب الأمور به في المستقبل. وهو مع قدمه أمر به على الحقيقة. وقد بينا صحة ذلك في تكليفنا الغير: فكذلك في تكليف الله عز وجل. فبطل ما قالوه من كل وجه.

باب القول في أن الأمر بالفعل يصح أن يكون أمرا به في حال وقوعه أم لا؟

باب القول في أن الأمر بالفعل يصح أن يكون أمرًا به في حال وقوعه أم لا؟ فإذا تقدمه فهل يصح أم أن يتقدمه بأكثر من وقت واحد أم لا؟ اعلموا - وفقكم الله - أن الأمر بالفعل على ضربين: فأمر يتقدم الفعل بوقت وأوقات، ويوصف هذا الآمر بأنه أمر بدارٍ وإعلام لوجود المأمور به في المستقبل، وهو مع تقدمه أمر به على الحقيقة. والضرب الآخر: يتناول الفعل في حال وجوده، ويوصف هذا الضرب بأنه آمر إيجاب بإلزام، وهذا هو الحق الذي نقل به. وقد اختلف الناس في ذلك: قال السلف من الأئمة وسائر الفقهاء: إن الواقع الوجود مأمور به، الأمر متعلق به في حال وقوعه، ولمصادفته من حين وجوده يكون طاعةً حسنًا.

رأي المعتزلة في استحالة مقارنة الأمر للفعل

وزعمت القدرية بأسرها أنه محال مقارنة الأمر لوجود الأمر به، وأنه لا بد من تقديمه، لما نذكره عنهم فيما بعد. واختلف القائلون بوجوب تقديمه على المأمور به /ص (279) هل يجوز أن يتقدم على وقت الفعل بأكثر من وقت واحد أم لا؟ فقال أكثر القدرية: إنه يصح تقدمه عليه بأوقات كثيرة. وقال فريق منهم: لا يصح تقدمه على المأمور بأكثر من وقت واحد لما نصفه عنهم. واختلف المجيزون لتقدمه على الفعل بأوقات: فقال بعضهم: لا يجوز إلا بشرط أن يكون المأمور حين ابتدأ الأمر له إلى وقت تضيق قرضه حيًا قادرًا عاقلًا مكلفًا كامل الآلات مستكملًا لجميع شرائط التكليف. وقال فريق منهم: بل يجوز أن يكون في سائر تلك الأوقات غير مستكمل لشرائط التكليف سوى كونه عاقلًا يصح تلقيه للخطاب- وإن وجب كونه كذلك وقت تضيق الوجوب. وزعم فريق منهم أنه يجوز تقديم الأمر بأوقات وإن لم يكن في ذلك مصلحة للمبلغ ولا لغيره من المكلفين. وقد يجوز اتفاق المصلحة في تقديمه إلا أنها غير

معتبرة، ولا واجب حصولها بتقدمه. وزعم فريق منهم أنه لا يجوز تقديم الأمر للفعل بأوقات كثيرة إلا بأن يكون قي تقديمه مصلحة. واختلف هؤلاء في تلك المعلمة ما هي؟ فقال كثير منهم: يجوز أن تكون المصلحة فيه عمل المؤدي له إلى المأمور، وحاصلة لمشقة البلاغ. وقال كثير منهم: لا يجوز الاقتصار على تقديم الأمر على وقت الفعل أوقاتًا لأجل هذه المصلحة فقط? بل لابد من أن يكون في ذلك صلاحًا زائدًا على كونه لطفًا للمكلف أو المؤدي أو بما يقع به الاعتبار له ولهم؟ فصل: فأما ما يدل على صحة اقتران الأمر بالفعل في حال حدوثه فهو أنه مقدور عندنا في تلك الحال، فكما يصح تناول القدرةً له، فكذلك يصح تناول الأمر له. وقد بينا هذا في الكلام في أصول الديانات. وعمدة القدريةً في إحالة ذلك أن الفعل غير مقدور في حال وجوده ومحال أمر العبد بما ليس بمقدور له. وهذه دعوى باطلةً. فإن قالوا: لو كان مقدورًا في حال حدوثه لكان مقدورًا في حال بقائه لوجوده في الحالين. قيل: هذا باطل، لأنه كان في إحدى الحالين بالحدوث وفي الأخرى بغير

حدوث، كما أنه مفعول ومتعلق بفاعل في حال حدوثه، وإن كان موجودًا، وغير مفعول ولا متعلق بفاعل في حال بقائه، لأنه موجود بعد حدوثه/ ص 280 فافترق الأمران، وكما يصح عندنا وعندهم تعلق الإرادة بالفعل في حال حدوثه، وإن كان موجودًا فيها? ومحال تعلقها به في حال بقائه ومضيه وتعلقها بالقديم وأن تجري مجرى الخبر في تعلقه، فبطل ما قالوه. وإن قالوا: لو تعلق به الأمر في حال حدوثه مع كونه موجودًا فيما يجري مجرى الخبر الذي يصح تعلقه بالباقي فالقديم والمنقضي. قيل لهم: هذا باطل، لأننا ئد بينا فيما سلف أن الأمر لا يصح تعلقه إلا بمحدث، أو ما يصح حدوثه، ويدخل تحت التكليف? والخبر باتفاق لا يصح ذلك فيه، فبطل ما قالوه. فصل: وقد اعتمدوا في إحالة ذلك على أن مقارنة الأمر للفعل في حال وقوعه تحيل معناه، وتبطله، لأن فائدته كونه دلالة على المأمور به، وتميزه له ليقصد فمله تبريئًا وأن يكون حثًا وترغيبًا في الفعل، ومحال ترغيب المأمور وحثه على واقع موجود، وإنما يرغب فيه قبل إيقاعه ليوقعه على وجه ما أمر به، وكذلك فمحال أن يستدل بالأمر على واقع موجود، وإنما يكون دلالةً على تمييزه من غيره من مقدوراته ليقصده دون غيره، وذلك غير متأت في الواقع الموجود. فيقال لهم: الأمر أمران أو للأمر الواحد حالتان، يكون في أحدهما دلالةً على الفعل وترغيبًا وحثًا عليه، وهي حالة مقدمةً على المأمور به، وحالة تخرج عن ذلك

التفريق بين الأمر المتقدم والأمر المقارن عند الجمهور

إذا قارن المأمور به. هذا إذا كان الآمر واحدًا? فإن كانا أمرين فالمتقدم منهما حث وترغيب ودلالةً على الفعل، والمقارن للفعل خارج عن ذلك. وقد يخرج الشيء عن كونه دليلًا لتغير حال المدلول كما والخبر، غير أن الشيء يكون قبل كونه دلالةً على ذلك، ويخرج عن كونه دلالة على أنه سيكون إذا كان ووقع? فثبت أن من الأوامر ما ليس بدليل على المأمور به ولا ترغيبٍ فيه وحثٍ عليه، فبطل ما قالوه. فإن قالوا: وما فائدة تعلق الأمر به في حال وقوعه؟ قيل لهم: فائدته إنها حال يكون فيها مفعولًا ومقدورًا ويصح فعله ويصح تركه على البدل من وقوعه، وليصير لمصادفته لها حسنًا طاعةً في حال وقوعه وفوته، لأنه لو وقع في حالة غير مصادف للأمر لصار بمثابة وقوعه مع النسخ للأمر به في خروجه عن كونه حسنًا طاعةً، ولأنه إذا كان الأمر هو المؤثر في كونه قربة حسنًا وجبت مصادفته له كما / ص (281) يجب ذلك في الإرادة المؤثرة في كونه كذلك، لأن ما وجد قبل الشيء لا يؤثر في حكم له في حال وجوده، فثبت ما قلناه. فصل: وقد قال بعض أهل الحق: إن الأمر على الحقيقة. هو ما يقارن الفعل في حال وقوعه، وأن المتقدم منه إنذار وإعلام? والإنذار بإيجابه - زعموا - ليس بإيجاب له. وهذا عندنا غير صحيح، لأنه إنذار وإيجاب بشرط دخل وقته وبقائه على شرائط التكليف، وبقاء الأمر على ما بيناه من قبل، فبطل هذا الأمر.

فصل: فأما صحة تقديم الأمر للفعل فأمر لا خلاف ليه، وإنما نخالفهم في إيجابهم تقدم كل أمرٍ للمأمور به. وقد بينا أن ذلك لا يجب في جميعها، ولا بد أن يتقدم الأمر بالفعل على وجوده عندنا، إما بما لانهاية إله- نحو أمر الله تعالى أوامر غيره- بوقت أو بوقتين فصاعدًا. فأما إيجابنا لتقدم أمر الله عز وجل للفعل بما لا نهاية له فهو لما قام من الدليل على قدم كلام الله ونفي خلقه، وأنه شيء موجود? لذاك أمر بالفعل قبل وجوده بأن يفعل فيما بعد. فإن أوقع الفعل كان هو بعينه مقارنًا له في حال وقوعه، وأمر له -أيضًا- في تلك الحال. ولو صح بقاء الفعل لخرج عن كونه أمرًا به لاستحالة حدوث الباقي واكتسابه. ولكنه يخرج عن كونه أمرًا به في الثانى، لكونه منقضيًا غير حادث، ولا مما يصح حدوثه فيها? لوجود فنائه وعدمه في ثاني حال وجوده، وإن كان أمرًا به قبل وجوده، وفي حال وقوعه لنفسه، كما تخرج ذات القديم تعالى عندهم وذات قدرته عندنا عن كونهما متعلقين بالمقدور في حال بقائه وحال عدمه في الثاني لحال وجوده، وإن كان قادرًا عليه لذاته وذات قدرته. وقد بينا هذا في الكلام في أصول الديانات. وأشرنا إلى ذلك فيما قبل بما يغني عن رده. فصل: فأما ما أمر الحدث بالفعل المقارن له فهو غير أمره المتقدم له، وحادث معه، إذا كان قد جدد أمرًا به في حال وقوعه عند كثير من الناس وهذا (هو) الصحيح، لأن أمره المتقدم لا يصح بقاؤه إلى حين وجود الفعل، فيكون

لذاك أمرَا لأبه إذا وجد وأمرًا به قبل وقوعه- وقد قيل: إن أمر المحدث المتقدم الذي هو أمر بأن يفعل الفعل فيما بعد هو نفس الأمر به إذا وقع، لأنه أمر به أن يفعل فيما بعد والأول أولى /ص 282 بالصحة. لأننا نقول إن أمر المحدث المتقدم يفارق المأمور به، ومحال أن يكون متقدمًا وباقيًا إلى حين حدوث الفعل، فوجب أن يكون أمر المحدث المتقدم غير أمره المقارن له، إن كان جدد أمرًا به، وليس يبعد أن يجدد ذلك، ويعلم المأمور أن أمره المتقدم أمر بأن يفعل الفعل فيما بعدم ويوقعه إذا وقع لأن أكثر من يأمر بالفعل في المستقبل لا يجدد بالواقع في وقته أمرًا ثانيًا. فأما أمر الموصي إليه بالقيام بسبيل الوصية فإنه لا شك أمر ثان بفعله ذلك إذا مات وعدم. وأمر ثان فاعلًا له في حاله، لأنه من المحال أن يجدد الميت والمعلوم أمرًا بالواقع الذي كان أمرًا به قبل موته. فصل: فأما إيجابنا كون المتقدم من أوامر الخلق متقدمًا بوقتين فصاعدًا فهو لأجل أنه لابد ضمن سماع المكلف للأمر واستيفائه لإدراكه، ثم تأمله عقيب حال سماعه بلا فصل، واستدلاله بعد الفراغ من سماعه على ما هو مطلوب به ودلالة عليه، ولذلك لا يتم به في حال حدوثه، بل لابد من تأمل له عند الفراغ من سماعه? فيجب أن تكون حالة لاستماعه وحالة لتأمله والاستدلال به وحالة لإيقاع الفعل? فوجب لذلك إعدامه إذا كان متقدمًا، وكان محددًا بوقتين فصاعدًا. هذا ما لابد منه

فصل: فأما قول من قال من القدرية: إنه لا يصح أن يتقدم عليه إلا بقدر وقت واحد، فإنه باطل، لأن الأمر عندهم هذه الأصوات التي هي القول ((إفعل)) أو قد أمرتك أن تفعل. وهذه أصوات متغايرة توجد في أوقات متغايرة ومحال وجود حرفين منها في وقت واحد. هذا محال من الكلام. هذه حال الأمر إذا كان مواجهة للمأمور. وأما إذا كان أمر الله لخلقه ليحتاج عندهم إلى أوقات يحدث فيها بعدد حروفه، ثم حال يستمعه متلقنه عنه، ثم حال تفهمه وتأمله، ثم حال أو أحوال يؤديه فيها إلى المكلف. فبطل بذلك ما قالوه. فيجب لذلك تقدمه عليه بأوقات كثيرةً. فصل: فأما تعليل وجوب تقدمه - إذا كان دلالةً على الفعل، وترغيبًا فيه - بوقت (أو) أوقات لكون تقدمه مصلحةً للمكلف فساقط عندنا، لأن الله تعالى قد يستصلح بالتكليف، وقد لا يستصلح، وكذلك غيره على ما بيناه من قبل، فبطل اعتبار المصلحةً العامةً أو الخاصةً للمبلغ فقط في هذا الباب. ومن أوجب منهم تقدمه على الفعل بقدر وقت / واحد أو قدر عدد حروف ص (283) الآمر أو سماع المأمور وتدبره لمعناه. لأنه لا يوجب ذلك لكونه مصلحة في التكليف، ولكن لأنه لا يصح أن يكون أمرًا لمأمور إلا أن يتقدم بهذا القدر من الأوقات، وإلا كان إحالةً وتكليفًا للمحال.

وأما قول من قال منهم: إنه لا يجوز تقدمه بقدر هذه الأوقات، لأنه لا غرض في تقديمه بأوقات تزيد على هذا المقدار، فإنه قول باطل، لأنه قد يكون إحداثه قبل المأمور به بأوقات وسماعه له ترغيبًا وداعيًا له إلى إيقاعه، ولطفًا في استصلاحه، وتسهيلًا لدواعيه إلى الفعل توطينًا لنفسه على إيقاعه. وليفعل في كل وقت عزمًا على أن يؤديه في وقته فيكون مطيعًا بطاعات كثيرةً إلى حين وقوعه. فلا وجه لدعواهم أنه لا وجه ولا معنى لتقديمه أكثر من وقت واحد، فبطل ما قالوه. وأما قول من حكي عنه منهم: أنه لا بد على هذه المصلحة للمبلغ فقط أو للرعيةً فقط، أوله ولهم? فإنه لا وجه له، ولا دلالةً عليه بل يكفي في ذلك الاستصلاح. فصل: وأما قول من قال بأنه إذا تقدم على المأمور به بأوقات كثيرةً وجب كونه في جميعها حيًا سليمًا مستكملًا لشرائط التكليف? وإلا لم يحسن تقديم أمره، فإنه قول باطل، بل يجوز أن يكون في سائرها معدومًا غير موجود ولا حي ولا قادر. اللهم إلا أن يكون مواجها بالخطاب، فيجب كونه موجودًا حيًا عاقلًا فقط. والذي يدل على فساد قولهم أن المأمور إنما يحتاج إلى وجود نفسه وحياته وقدرته وآلته في حالة الفعل، لا في حال كونه مأمورًا به. يبين هذا أنه لو قدم وجوده وأقداره وإكمال آلته قبل وقت الفعل وأنفذ ذلك عند تضيق فرضه لم ينتفع بتقديمه، واستضر بإعدامه ذلك وقت التضييق. ولو قدم أموه بالفعل وأخر إيجاده وتمكينه وإزاحة علله إلى وقت الفعل لصح منه وتأتى، فبان أنه لا يضره

تأخير ذلك، ولا ينتفع بتقديمه بعد أن يكون وقت التضييق على صفة من لا يصح منه الفعل. وهذا تكلف منا للكلام في هذا الباب على أصل من يحيل التكليف مع عدم القدرةً على الفعل والمنع منه? لأننا نجوز عدم قدرته وتمكينه مع تضييق الفرض، وحضور الحاجة إليه. فكيف يمنع منه مع عدم الحاجة. ومما يدل على فساد قولهم -أيضًا- اتفاقهم على صحة تأخر الآلة في الفعل للذي لا يصح إيقاعه (إلا بها إلى حين إيقاعه). وكذلك يجب أن يكون سبيل القدرة عليه والعلم به / ص (284) والإرادةً له والمحل، وكل ما لا يتم وجوده دون وجوده. ويدل على ذلك ما نذكره من صحة الأمر للمعدوم بشريطه وجوده وحصوله على صفة المكلفين، وأمر الموجود بالفعل في المستقبل بشريطه بقائه، وكونه على صفة المكلفين. وقت التضييق، فكذلك يجوز تكليفه مع عدم الآلة والتمكين إلى حين وقت الحاجةً إلى الفعل، لأن عدم كل شيء من ذلك عند الحاجة إلى الفعل بصحةً وقوعه غير مخلٍ بذلك إذا عدم قبل الوقت.

باب الكلام في أن المعدوم مأمور على الحقيقة أم لا؟

باب الكلام في أن المعدوم مأمور على الحقيقة أم لا؟ اختلف الناس في هذا الباب. فقال أكثر أهل الحق ومن تابعهم من الفقهاء: إن أمر المعدوم جائز صحيح. فقال بعضهم: هو أمر إنذار وإعلام وليس بأمر إيجاب وإلزام. وقال بعضهم: هو أمر إيجاب وإلزام بشرط وجود المأمور وكونه بصفةً من يصح منه الفعل أو تركه. وقال بعضهم: هو أمر له على الحقيقة بشرط وجوده وكمال عقله فقط. وزعم بعض من أجاز ذلك إنه إنما يجوز أمر المعدوم إذا كان هناك مخاطب ببلاغه وحر موجود. وأما إن لم يكن متوجهًا إلى موجود يبلغ. فإن ذلك لا يجوز. والصحيح عندنا أنه يجوز أمره، وأنه مأمور على الحقيقة، وأن أمره أمر إيجاب بإلزام على الحقيقة بشريطه وجوده وكونه على صفة من يصح تكليفه. وأنه لا يجوز أن يكون أمره أمر إنذار بإعلام له بأنه مأمور، لأنه لا يصح إنذاره

الأدلة على صحة أمر المعدوم

وإعلامه فهو معدوم. وإنما يصح إعلام المواجه بالخطاب. ومن في حكم المواجه بأنه مأمور بالفعل في المستقبل. وقد يصح أن يكون إنذارًا وإعلامًا لغيره ممن أعلم كون المعدوم مأمورًا به يصح أن يؤمر بالأمر من غير حضور متحمل مؤدي له. والذي يدل على صحة أمر المعدوم وإن تعذر الفعل منه في حال عدمه واستحال ما ذكرناه من صحة أمر العاجز المفقود الآلة والجارحةً بشريطةً وجود ذلك. وقد أوضحنا هذا من قبل. ومحال تأتي الفعل ممن هذه سبيله وصفته كما يمتنع تأتي الفعل من المعدوم، فوجب صحة الأمر للجميع بشرط ما وصفناه. وليس لأحد أن يفصل بينها بأن العاجز الموجود المفقود الآلة عاقل مخاطب وعالم بالخطاب، أو في حكم العالم به / ص (285) وليس المعدوم كذلك. لأننا وإن قلنا إن المعدوم مأمور بشريطه. أي أنك إذا وجدت وكنت بصفات المكلفين لزمك تنفيذ موجبه. فإننا لا نقول إن الأمر خطاب (له، ولا) أنه يلزم بمعرفته والعلم بمتعلقة. والعاجز الموجود مخاطب، ويلزم لذلك على التضييق في حال عدمه. فلم يلزم ما قالوه. ويدل على هذا -أيضاً- ويوضحه اتفاق الكل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسائر العبادات ونهيه عن جميع المحظورات أمر لأهل عصره وسائر

من يأتي بعده بشرط بلوغ ذلك إليهم وكونهم على صفة المكلفين. وأن الله سبحانه ورسوله لم يحدثا (هـ) أمرًا لنا بالعبادات في هذا الوقت، فثبت بذلك ما قلناه. وكذلك أيضًا فقد ثبت أن أمر الآمر منا لعبده أن يفعل في غد بشريطه وجود تمكينه وتمام آلته أمر له تقبل وجود الفعل، ومع عدم القدرة والآلة فيكون أمرًا له بأن يفعل في المستقبل بشرط ما ذكرناه، وأنه لا يحدث أمرًا له بالفعل عند حضور وقته، وإنما يأمره به بذلك الأمر المتقدم. وإن أحدث له أمر به، فهو تأكيد لموجب الأمر الأول، على أن الأمر عندهم هو هذه الأصوات. ولو أحدث له أمرًا بالفعل عند حضور وقته غير الذي تقدم لوجب أن يكون مدركًا مسموعًا. وفي علمنا بفقد أمر له بصفة ما ذكروه دليل على أنه أمر له بالأمر الأول المتقدم، فصح ما قلناه. وليس لأحد أن يقول إن القول المتقدم من الله سبحانه الذي هو أمر بالفعل، ومن غيره ليس بأمر على الحقيقةً قبل حضور الوقت وكمال الآلة. كما أن الأمر بالزكاة مع عدم المال? وبالصيام قبل دخول الشهر، وبالصلاةً قبل دخول الزوال ليس بأمر بالفعل في الحقيقةً، لأن هذا القول خلاف دين الأمةً لأنها مطبقة على أن الله سبحانه أمر لنا بالحج والصلاةً والصيام، وترك المحارم والمحظورات في مستقبل الأوقات بشرط بقائنا، ومنكرون لقول من قال إنه غير أمر لنا ولا ناهٍ

لنا عن ذلك، فهو أمر بالزكاة مع عدم المال بشرط وجوده وكمال الحول والنصاب والأسباب التي عند كمالها تجب زكاة المال، فدعوى المدعي لوصفه بذلك مجازًا واتساعًا باطل، لا حجة عليه. ولذلك يقال فيمن فعل ما تقدم أمره به قد أطاع وفعل ما أُمر به، وكذلك يقال: قد كنت نهيتك عن هذا الفعل. وكنت أمرتك بكذا وتقدمت أن تفعل كذا، ولا تفعل كذا، وكل هذا مبطل ما ادعوه. فإن قالوا: أفتقولون أنه أمر بالمعدوم / على وجه الإيجاب عليه والإلزام؟ قيل: أجل، بشريطة أن إذا كنت ووجدت وجب عليك تنفيذ موجبه، كما نقول إننا مأمورون على الحقيقة بفعل الصلاة وترك المعاصي في غدٍ، بشريطة حصول الوقت وكوننا على صفة المكلفين. فصل: ومم يدل على ذلك - أيضًا - ويوضحه اتفاق الكل على صحة أمر الموصي في وصيته لمن يكون ويحدث من ولده ونسل نسله مما يذكره في سبيل وصيته. وإن كان المأمور بذلكن معدومًا بشرط أن يوجد فكان بصفة المكلفين، وليس في الأمة من يقول إن أمر الموصي ووصيته ونهيه أمرٌ ونهي على سبيل المجاز. وأن ما يفعله من يفضي إليه ولاية (الولاية) الوصية يفعل ما يفعله من شغلها بغير أمر الموصي. وأنه تصرف برأي الناظر دون موجب وصية الموصي. ولا فيهم - أيضًا - من يقول إن الموصى يُحدث وصية وأمرًا ونهيًا بعد موته لمن يفضي إليه النظر في وصيته. وإذا كان كذلك ثبت أن جميع ما يفعله الموصى إليه إنما يفعل بوصيته وأمره، وإن كان المأمور الموصى إليه معدومًا إلى أن كان ووجد، فصح ما قلناه.

فأما ما يدل على أنه لا يحتاج في أمر المعدوم إلى حضور متحمل ومؤدي يواجهه بالخطاب، فهو بالاتفاق - أيضًا - على أن كانت وصيته والموصى إليه فيها معدوم إذ كان في وصيته، وأمر ونهى فيها. وإن لم يكن هناك خاص متحمل، وإذا كان ذلك صح ما قلناه. ولأن الدلالة قد دلت على أن أمر الله ونهيه هو كلامه، وأنه أمر لنفسه، وأنه قديم من صفات ذاته غير محدث ولا مخلوق. وأنه لم يزل أمرًا به، ولا حاضر للخطاب مأمور بأدائه. فبطل ما قالوه. فأما من قال من أصحابنا: إن كلام الله إنما يكون أمرًا وخبرًا عند وجود المخاطر المخاطب لأجل إفهامه الخطاب، وأنه ليس بأمر ونهي لنفسه، فلا يمنع من القول بأنه لا يكون أمرًا للمعدوم إلا عند حضور متحمل مخاطب موجود. فأما تعلقهم في إحالة ذلك بأن الآمر المتكلم بالأمر وغيره، ولا أحد يواجهه ويسمع خطابه هاذي سفيه غير حكيم فإنه قول باطل، لأن هذا لو وجب لوجب فيمن يفعل الكلام ويصح منه تركه. فأما من يجب كونه متكلمًا في أزله، فذلك غير ثابت ولازم فيه. ولأن الكلام والأمر لو كان / ص 287 هذيانًا للمتكلم إذا تكلم به من غير سامع له ولا مواجه به لوجب إذا هذى الطفل والمجنون والمبرسم بما يواجهونا به ونسمعه ونحصله أن نكون غير هاذين ولا سفهاء لأجل سماعنا له وحضورنا إياه، ومواجهتنا له، فلما لم يجب ذلك باتفاق بطل تحديد الهذيان من الأمر وغيره من أقسام الكلام بما قالوه، على أنهم لا يجدون كلامًا لأحد منا

أدلة من قال يستحيل أمر المعدوم

يكون هذيانًا، لأنه كلام لم يسمع به أحد، لأنه لا أحد منا تكلم في سرٍ أو في جهر إلا والله سبحانه سامع كلامه، فيجب أن لا يكون لما قالوه أصلًا يرجع إليه ويقاس عليه، وليس القصد بالإكثار في هذه المسألة من القدرية إلا نصرة القول بحدث كلام الله وخلقه. وذلك باطل، مع أن الهذيان الذي ذكروه إنما هو الأصوات المسموعة المعبر بها عن الكلام الذي في النفس، وما في النفس لا يصح كونه هذيانًا مع توجهه إلى أمر صحيح. والقديم سبحانه لا يصح أن يعبر عن كلامه بما يدخل فيه ما ذكروه. فبطل ما قالوه. فصل: فأما اعتلال ما اعتل لإحالة ذلك من المخالفين في هذا الباب بأنه لو كان تعلق الأمر بالمعدوم على شرط ما قلناه لوجب أن يكون تعلقه بالموجود بهذا الشرط أولى، ولوجب أن يكون متعلقًا بالطفل قبل بلوغه وبالمجنون في حال حياته بشرط أنه إذا بلغ وأفاق وجب عليهما تنفيذه. فلما أجمعوا على إحالة تكليف الطفل والمجنون وإن كانت حالهما أمثل من حال المعدوم. وكانا أقرب إلى الفهم والتمكن من المأمور به امتنع - أيضًا - من المعدوم. فإنه يقال لهم: دعواكم الاتفاق على إحالة أمر الطفل والمجنون بشريطة

الإفاقة والبلوغ دعوى باطلة، لأن كل مجيز لتكليف المعدوم بشرط بقائه، ويقول هو مأمور في جميع أحواله إلى حين إيقاع الفعل قائلٌ بأن الصبي والمجنون مأمورون بشريطة البلوغ وزوال الجنون. وأما معنى قول الأمة أنهما غير مكلفين، وقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاث عن الطفل حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق" إنما يريد رفع المأثم عنهما فيما يقع منهما ورفع الإيجاب المضيق، الذي يأثم من لم يكن منه ما وجب عليه، ولا إيجاب مضيق على الطفل والمعتوه، ويمكن أن يكون أراد رفع القلم عنهما بالخطاب لهما والموجهة، لأنه لا يعلم ذلك، ولا تصح مواجهته وتضيق الفرض عليه والخطاب له، وهو ممن (لا) يعلم شيئًا من ذلك/ ص 288 فهذا (ما) أراد برفع القلم لا أنهم لا يكونون مأمورين على وجه من الوجوه، وإذا كان ذلك كذلك، بطل ما قالوه. واعتلوا - أيضًا - في إحالة أمر المعدوم بأنه لو صح ذلك لصح أمر الطفل

والمجنون، ولوجب صحة مدحهم على ما يفعلون وذمهم إذا لم يفعلوا، والوصف لهم بأنهم طائعون مثابون وعصاة معاقبون حتى يكونوا في ذلك كالمكلفين الموجودين، ولما كان ذلك باطل بإجماع الأمة لم يجز كون المعدوم ومن جرى مجراه مأمورًا. فيقال لهم: إن عنيتم بصحة ذمهم ومدحهم وإثابتهم وعقابهم ووجود تسميتهم عصاة وطائعين كونهم كذلك عند الوجود وزوال الطفولية والجنون، ووجود شرائط التكليف وتضيق الفرائض عليهم، فذلك واجب باتفاق، وصحيح على ما ألزمناهم. وإن عنيتم بذلك لزوم هذا الأمور لهم قبل البلوغ والوجود والإقامة، وحصول شرائط العبادة. فذلك باطل، لأنهم لم يلزموا في هذه الأحوال فرضًا مضيفًا حاضرًا وقته واجتناب شيء أقدموا على إصابته. ولا هم في هذه الأحوال مفرطون في أمر تضيق عليهم تفيذه، ولا راكنون لذنبٍ لزمهم اجتنابه، يستحقون بالإقدام والاجتناب مدحًا وذمًا وثوابًا وعقابًا. وإذا كان ذلك كذلك سقط - أيضًا - ما توهموه. وكل من لزمه حكم الأمر وموجبه بشرط بلوغه إليه فلم يبلغه لم يلزمه تنفيذ موجبه. ويجب على هذا أن يكون من لم تبلغه دعوة الإيمان لم يلزمه فعله، لأنه لا يجب عقلًا، وإنما يجب سمعًا ويجب على هذا الأصل أن يكون من بلغته الدعوة ولزمته الإيمان. و (من) لم يبلغه تفصيل فرائض الدين - ولم يكن له إلى علم ذلك سبيل بأن يكون في دار الكفر، وبحيث لا يجد من يبلغه - غير مخاطبٍ بها، ولا يمتنع من ذلك أن يكون فعل ما لم يبلغه وجوبه عليه إذا بلغه وتسميته نصًا، أو منع ذلك لا طائل فيه بعد أن يسلم أنه لم يكن وجب عليه ما لم يبلغ وجوبه إليه للكلام، ولا يمكن من العلم/ص 289. وهذه جمل في هذا الباب كافية.

باب الكلام في أنه هل يصح أن يكون التكليف بالأمر والنهي دائما مؤبدا إلى غير غاية أم لا؟

باب الكلام في أنه هل يصح أن يكون التكليف بالأمر والنهي دائمًا مؤبدًا إلى غير غاية أم لا؟ اعلموا - رحمكم الله - أنه لا خلاف بين سلف الأمة وأهل الحق من خلفها في أنه جائز في عدل الله سبحانه وحكمته إدامة التكليف على عباده وصحة قطع تكليفهم بالموت. وإن لمن يعدهم بعده بثوابٍ ولا عقاب. وقد زعمت القدرية أنه لا يجوز في عدله وحكمته إدامة التكليف على عباده، ولا أن لا يعد من أطاعه ممن قطع تكليفه وأماته لأجل أن الثواب واجب عليه عندهم على الأعمال. والذي يجب عليه منه كونه دائمًا غير منقطع. فلو أدام عليهم التكليف لبطل ثواب عملهم، ولو أثابهم في خلال ذلك لم يكن ثوابهم إلا منقطعًا، وأوجب بعضهم - أيضًا - عقاب أهل الإجرام المستحق عليها للعقاب في المعاد. وأحالوا في حكمته الرحمة لهم بالغفران من جهة العقل. وهذا المذهب خروج عن قول إجماع الأمة، وترك - أيضًا - منهم لأصولهم الفاسدة.

فأما وجه خروجهم عن دين المسلمين فلإجماعهم على أن أقل نعمة الله سبحانه على خلقه يستحق بها عليهم أن يعبدوه ويطيعون. وإذا ثبت ذلك لم يستحق عليه ثواب، ولو كان الثواب على العمل مستحقًا عليه لم يكن له عليهم من الإنعام ما يجب به طاعته، كما أنه لما استحق بعضًا على بعض أجرة عمله لم يستحق عليه الطاعة بالعبادة. فبان بذلك خروج هذا القول عن دين الأمة. وأما كونه نقضًا لمذهبهم فلأنهم يزعمون أن جميع ما أوجبه الله سبحانه وندب إليه، وسائر ما حرمه وتوعد عليه هو نفسه واجب كالمعرفة وشكر النعمة والاعتراف بالربوبية، أو داعٍ إلى فعل ذلك وقبيح لنفسه واجب تركه بقضية العقل، أو داعٍ إلى فعل قبيح هذه سبيله، وإذا كان العقل يوجب على العاقل المكلف فعل ما أمره الله به وترك ما نهاه عنه، فمن أين يجب استحقاق ثواب على ترك أو إقدام؟ والعاقل إنما فعل من ذلك ما وجب عليه، فهو لذلك بمثابة قاضي الدين منا والخارج عما يلزمه فعله في أنه غير مستحق لثواب على ذلك. وهذا واضح في إبطال قولهم. فأما دعواهم استحقاق الثواب الدائم على أعمال متقطعة فإنه باطل لو كان الثواب مستحقًا لما قد بيناه في غير هذا الموضع، فكيف وقد بينا أنه غير مستحق. وقد تقصينا الكلام في هذا الفصل في أصول الديانات في فصول القول/ ص 290 في التكليف والوعيد والإعادة والتعديل والتجوير بما يغني يسيره الناظر فيه إن شاء الله.

باب الكلام في أن فرض الإيمان واعتقاد وجوب الواجبات في المستقبل والعزم عليها دائم الوجوب أم لا؟

باب الكلام في أن فرض الإيمان واعتقاد وجوب الواجبات في المستقبل والعزم عليها دائم الوجوب أم لا؟ قد بينا فيما سلف وجوب تكرار العزم على فعل الواجب في المستقبل وإن لم يلزم المعزوم عليه ألا دفعة واحدة. وذكرنا الفصل بينهما، وهو أنه متى لم يعزم على ذلك مع ذكر العبادة، وجب كونه عازمًا على الترك، ومصرًا على ذنب محرم، فوجب دوام العزم. ويجب - أيضًا - دوام اعتقاد الوجوب لأمرين: أحدهما: إن وجوب تكرار العزم مقرون بوجوب تكرار اعتقاد الوجوب، لأنه لو لم يتكرر وجوب الاعتقاد لم يتكرر العزم، لأنه إنما يعزم على فعل ما يعتقده واجبًا، فإذا خلا من هذا الاعتقاد لم يصح منه فعل العزم على أداء واجب لا يعتقد وجوبه، ولا يعلم ذلك من حاله. فأما الإيمان فلابد من وجوب تكرره مع السلامة وذكر التكليف، لأنه لا يخلو من العلم بالله والإقرار به وبتصديقه وتوحيده إلا بجحد ذلك وإنكاره. وكذلك القول في وجوب تكرر تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه واعتقاد نبوته مع السلامة وذكر التكليف. ولو لم يفعل المكلف ذلك والحال هذه لوجب كونه فاعلًا لضده، وذلك محرم واجب تركه. وأما النطق بكلمة التوحيد والرسالة فهل يجب تكرار ذلك أم لا تجب أصلًا؟ أم تجب مرة في العمر؟ موقوف على حجة السمع، وما يرد التعبد به من ذلك.

حكم تكرار كلمة التوحيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

لأن النطق بذلك ليس هو حقيقة الإيمان. إن التصديق والمعرفة بالتوحيد والنبوة من أفعال القلوب، والنطق بالأصوات دلالة عليه إذا وقع من عاقل قاصد. ولذلك كان الساكت والممنوع من النطق بالشهادتين مؤمنًا مخلصًا إذا اعتقد ذلك بقلبه. ولأجله كان الأخرس مخلصًا مؤمنًا وإن لم يكن متكلمًا ناطقًا بلسانه ولم يكن النائم والمغلوب بالآفات مؤمنًا وإن نطق بذلك من غير علمٍ وقصدٍ واعتقاد. ولو وجد النطق بذلك وعدم في الاعتقاد له، أو وجد الاعتقاد لضده لم يكن الناطق به مؤمنًا، ولذلك لم يكن المنافق مؤمنًا، وإن كان ناطقًا. وقد بينا الكلام في هذا الباب، وتقصيناه في أصول الديانات بما يغني متأمله إن شاء الله تعالى /ص 291 وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون حكم النطق بهما وحكم الناطق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم موقوفًا في وجوب تكراره على السمع أو الاقتصار على فعل مرة في العمر أو مرات مخصوصة. ووجوب ذلك عند الخوف من القتل والنسبة إلى الكفر، وغير ذلك من وجوه الضرب بترك الإظهار موقوفًا على ما يريده ويوجبه السمع. وقد ذكر عن بعض الفقهاء والمتكلمين أن النطق بذلك أجمع لا يجب تكرره، وإنما. يلزم مرة في العمر. فإن كان الإجماع والتوقيف ثابتًا بخلاف ذلك وجب اطراح القول به، وإن لم يرد سمع، وما يقوم مقامه دال على وجوب تكرره لم يجب ذلك. وإن ورد أمر مطلق في القرآن أو السنة بأن قول ذلك واجب على المكلفين لم يوجب ظاهره أكثر من فعل ما يدخل به في أوائل الاسم على ما بيناه من قبل، ومع ذلك فلا

ينكر قيام دليل على وجوب ما نريده على موجب إطلاقه من التكثير والتكرار. فأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يوجبها في الصلاة في التشهد والجلوس فهو موجبٌ لتكررها في الصلاة. فأما وجوب تكررها خارجًا عنها فبعيد. ووجوب تكررها في الصلاة مسألة اجتهاد، وموقوف القول فيه على مقتضي الحجة. فإن قيل: إذا كان مطلق الأمر بالفعل لا يقتضي إلا فعل مرة واحدة وجب أن يقول إن كل متوضئ ومصلي وصائم ومزكي ومتجنب لمحرم لم يتكرر ذلك عليه. نحو قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} وقوله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله تعالى: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله

تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى} وقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} إلا مرة واحدة في العمر ونافي ذلك معقول. يعني مطلق هذه الظواهر. قيل: كذلك نقول، وإنما حملت على التكرار لحجة ودليل. وهي وإن لم يقتض إطلاقها ذلك. فإنها مما يجوز أن يراد بها التكرار بدليل، ولو لم يصح إفضاؤها إلى ذلك لم يقم دليل على أنه مراد بها، لأن الدليل لا يقوم على أنه مراد باللفظ إلا بما يصح استعماله فيه، ولهذا جاز أن يقال: إن من قال لامرأته طلقي نفسك، وأراد طلاقها في القلب جاز ذلك، ولزمه الطلاق. فأما قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فإنما عقل منه ثلاث تطليقات لقوله: "لعدتهن" والعدة ثلاث حيض. وإذا ندت ثلاث وجب أن يعقل من الطلاق للعدة ما يحكم به من تقدير العدة، ولو أطلقه لوجب مرة بحق الإطلاق واحتمل أكثر منها بدليل. وكذلك لو قال لعبدٍ تزوج وأراد وأكثر من واحدة جاز وصح تزويجه باثنتين في/ص 292 أمثال ذلك. وهذه جملة في هذا الفصل مقنعة إن شاء الله.

باب القول في ترتيب أوامر الشرع وما يجب منها على الكل وما يجب على فريق دون فريق، وما يجب على الكفاية دون الأعيان

باب القول في ترتيب أوامر الشرع وما يجب منها على الكل وما يجب على فريق دون فريق، وما يجب على الكفاية دون الأعيان قد بينا فيما سلف أن فرض الإيمان وتصديق الرسل عليهم السلام من فرائض الأعيان ولازم لكل واحد من العقلاء في عينه، لا يسقط عن البعض لقيام البعض به. وكذلك القول في كل ما جرى مجراه من فرض الصلاة والحج والصيام. والضرب الثاني تختلف فيه فرائض المكلفين كفرض الحر والعبد والمقيم والمسافر والطاهر والحائض، وأمثال هؤلاء ممن اختلفت فرائضهم. والضرب الآخر يلزم فريق من الأمة دون فريق كفروض الأئمة وخلفائهم من إقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وتسليم الغنائم، وحماية البيضة. وكل ما يتعلق فرضة بالأئمة، مما لا يجوز تولي غيرهم وغير خلفائهم له. ومنه - أيضًا - فرض الحكام والمفتين في الدين، لأنه من فرائض العلماء والحكام دون العامة. ومن الفروض ما هو فرض على الكفاية دون الأعيان. ومعنى وصفه بأنه فرض على الكفاية أنه لازم لكل واحد من الأمة في عينه بشريطة إن لم يقم به غيره، فإن فعله الغير سقط عن سائر الباقين. وذلك كفرض الجهاد والصلاة

على الميت ومواراته، ورد السلام، وعقد الإمامة عند الحاجة إلى العقد، والفتيا في النازلة، لأنه إذا أفتى بعض العلماء سقط عن الباقين، في أمثال هذا مما أمر به كل واحد من الأمة بشرط أن لم يقم به الغير. فصل: واعلموا - رحمكم الله - أن من حق ظاهر الأمر لمأمور مخصوص أو لحملة منهم، أو العام المتناول لسائرهم أن يكون أمرًا للمأمور بالفعل من غير أن يكون مشروطًا سقوطه بقيام الغير به، لأن قيام غير المأمور بمثل ما أمر به ليس بفعل له، وإنما هو فعل لغيره. والظاهر - باتفاق - هو أن الواجب على المكلف لا يسقط بفعل غيره لمثله، وإنما يجب اشتراط (سقوطه لقيام الغير به بحجة ودلالة). وإذا كان ذلك كذلك فلا فرق بين أن يقال: يا زيد صل، أو يا نفر صلوا. ويقول: يا أيها الناس أو المؤمنون اتقوا ربكم، فعلموا في أن ذلك أمر يقتضي إيقاع الفعل من المأمور، وأنه لا يسقط عنه بفعل غيره لمثل ما أمر به. فإن دل دليل على أن فعل الغير قد جعل قائمًا مقام ما أمر به ورخص له، وخففت محنته بإسقاط ما وجب عليه لفعل غيره لمثله صير إليه، وإلا فمن حق الآمر اقتضاء الفعل /ص 293 من المأمور به فعل غيره مثله أو لم يفعل. وكذلك، فإذا قال: يا عبادي ويا أيها الناس افعلوا كذا لزم كل واحد منهم

الفعل من غير اشتراط اجتماعهم عليه، والاشتراك فيه، وأنه لا يلزم كل واحد منهم إلا بأن يفعل الآخر مثله. وإنما يجب اشتراط اجتماعهم في أدائه وتعلق فرضه بدليل يوجب ذلك غير مطلق الأمر باللفظ العام عند مثبتيه، أو المتوجه إلى شخص بعينه، أو نفر مخصوصين بأعيانهم. والدليل على ذلك أنه لو كان مقتضي مطلق الأمر للمكلف يقتضي أن لا يجب إلا باجتماعهم عليه، ويقتضي سقوط فرضه إذا فعل الغير مثله، أوجب ذلك في جميع إطلاقات الأوامر، وأن لا يوجب فرضًا على أحد إلا باجتماع الكل، وأن يسقط كل فرض يوجبه على مكلف عند فعل غيره لمثله. وهذا مالا يعرف خلاف فساده، فصح ما قلناه، ووجب من هذه الجملة أن لا يحصل الفرض على الكفاية، ولا يشرط في لزومه الاجتماع له إلا بدليل. فصل: فإن قيل: فإذا كان معنى أن الفرض على الكفاية أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين، فلم قلتم إنه لازم لكل واحد من الأمة في عينه بشريطة إن لم يقم به غيره؟ وما أنكرتم أن يكون فرضًا على من قام به فقط؟ يقال لهم: لو كان ذلك كذلك لكان إذا فعله غير ذلك الفاعل لم يفعل الواجب، لأنه إنما وجب على ذلك الفاعل بعينه، وهذا خلاف الإجماع، فدل ذلك على أن كل واحد منهم مخاطب في نفسه بفعله بشرط إن لم يقم الغير به. ولأنه إذا قال يا أيها المؤمنون جاهدوا وصلوا على الميت فذلك بحق العموم ولفظ الجمع خطاب للجماعة وسائر من يقع عليه الاسم، فكيف يقال إنه فرض واحدٍ منهم، والظاهر

وجه إشقاط الفرض إذا قام به الغير

خلاف ذلك. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون شرط فرضه بأن لا يقوم الغير به دليل على أنه ليس بواجب على الجميع؟ قيل: بل هذا هو الدليل على أنه خطاب للجميع بهذه الشريطة. ولا يعرف أيضًا خلاف في أن ما ذكرناه من فروض الكفاية ليست بواجبة على كل واحد بعينه وإن فعل الغير مثله، لأن ذلك يجعله من فرائض الأعيان، وذلك باطل. ولا نعرف - أيضًا - خلاف بينهم أنهم ليسوا بمأمورين بالجهاد، وفرض إقامة الإمام، والصلاة على الميت على أنه أمر لكل واحد منهم بعينه، قام به الغير أم لم يقم به. فلم يبق وراء ذلك إلا ما قلناه من أن كل واحد منهم مأمور بالفعل بشريطة أن لم يقم به الغير. فصل: فإن قيل: فما وجه هذا التكليف وإسقاط الفرض لقيام الغير به، وجعل وجوبه مشروطًا/ص 294 إن لم تقم به الغير من الأمة. قيل: لا يلزمنا تعليل ذلك ومعرفة علته، لأن الله سبحانه يتعبد من ذلك بما شاء، ومع هذا فيمكن أن يكون هذا التكليف صادرًا على وجه الرخصة

وتخفيف المحنة. ومن حيث أنهم لو كلفوا جميعًا الصلاة على الميت وحضور مواضع الجهاد ومجلس الإمام المعقود له لشق ذلك عليهم وأدى إلى فساد الحرث والنسل، وتعطيل كثير من العبادات، وبمثابة التعبد بالقصر عند السفر وإباحة الإفطار، وإسقاط فرض القيام في الصلاة عن المريض، وأمثال ذلك من الرخص.

باب الكلام في فصول النهي وأحكامه

باب الكلام في فصول النهي وأحكامه اعلموا - رحمكم الله - إن أكثر ما ذكرناه في أحكام الأمر يدل إذا تأمل على أحكام نقيضه من النهي. فيجب التنبه عليه من أبواب الأمر. وأول ما يقال منه إن النهي: "هو القول المقتضى به ترك الفعل" والقول تركه واجتنابه والانصراف عنه بمعنى واحد. ومن زعم أنه قد يخل المكلف من الفعل، فإنه يقول: "هو (القول) المطالبة بأن لا يفعل الفعل" على ما بيناه من قبل. والأول هو الصحيح. وما بينا به أن الأمر معنى في النفس يعبر عنه بهذه الأصوات، وأنه أمر لنفسه، وأنه لا يوجد ولا مثله إلا وهو أمر يدل على ذلك من حكم النهي. وكذلك ما بيناه بم أنه لا يجب أن يُعتبر في أن الأمر ضرورة ممن هو فوق المأمور يدل على أنه لا يجب أن يُعتبر في وجوب كون النهي نهيًا ضرورة عمن هو فوق المنهي عنه. وما دللنا به على أنه لا يصح أمر الآمر لنفسه يقتضي أن لا يصح نهيه لنفسه.

وما بينا به أنه لم يكن للآمر أمرًا لإرادة للمأمور به دليل على أنه لا يجب كون النهي نهيًا لكراهة المنهي عنه. وما أوضحنا به أن الأمر ينقسم إلى واجب وندب، فوجب أن النهي - أيضًا - ينقسم إلى واجب وندب، وأنه إذا كان ندبًا كان تركه غير معصية ولا نسخ، على ما بيناه من قبل. وما دللنا به على أن كلام الله سبحانه الذي هو أمره فهو نهيه، وأن أمره إذا لم يصح له لم يوصف بالحسن والقبيح من حيث كان قديمًا ليس بفعل، فدل على استحالة وصف نهيه بالحسن والقبح. وقد ثبت أن أمره تعالى هو نهيه وهو خبره، وأنه أمر بكل ما أمر به، ونهي عن كل ما نهى عنه. وما دللنا به على أن الأمر لا يقتضي تكرار الفعل مطلقًا كان أو مشروطًا هو الدليل على أن النهي لا يقتضي تكرار ترك الفعل واجتنابه، وذكرنا الخلاف/ ص 295 في ذلك. وكذلك فكل ما دللنا به على أن الأمر ليس على الفور يوجب أن يدل على أن النهي كذلك وقد ذكرنا في الفصل بينهما وجوهًا أخر. وما بينا به أن فعل مثل المأمور بعد تقضي وقته لا يجب بنفس الأمر به

يقتضي أن لا يجب ترك الفعل في غير الوقت الذي أمر بالترك له فيه إلا بنهي ثاني. وما دللنا به على أن الأمر إذا تكرر على غير وجه التأكيد يقتضي تكرار المأمور به يوجب تكرار الترك للفعل بتكرار النهي عنه على وجه التأكيد. وما بينا به أن الأمر لا يجوز إلا بما يصح ويتأتى فعله أو تركه، يوجب - أيضًا - أن النهي لا يصح إلا عما يصح فعله أو تركه. وما دللنا به على وجوب كون المأمور به معلومًا متميزًا يدل على وجوب كون المنهي عنه معلومًا. وما بينا به أن الأمر بالشيء بعد تقدم حظره محتمل للوجوب والندب دال على أن المنهي عنه بعد تقدم الأمر محتمل الوجوب والندب، وأنه على أصله، وكما لو لم يتقدم أمر به. وما دللنا به على أن الأمر يقارن وجود المأمور به يدل - أيضًا - على أن النهي يقارن وجود المنهي عنه. وقد بينا أن الأمر بالفعل المؤقت بوقت لا يستغرقه، ولا يجب أن يفعل في جميعه، بل المأمور مخير في فعله في أي أجزاء الوقت شاء، ويجب أن يكون النهي بخلافه، لأنه إذا وقت بزمان ترك الفعل وجب الكف في جميعه، وهذا

مطرد خاصة على قول من زعم أن مطلق النهي على التكرار وأنه يفارق الأمر في هذا الباب، وإذ لم نقل بذلك جاز أن نقول إنه إذا نهي عن الفعل في وقت لا يستغرقه لم يجب الكف فيه إلا دفعة واحدة، والنهي عن الشيء أمر بالدخول في ضده لا محالة إذا كان له ضد واحد. فإن كانت له أضداد فهو أمر بالدخول في بعض أضداده. وقد بينا فيما سلف الفرق بين أن يكون الأمر بالشيء نهيًا عن جميع أضداده، وبين أن يكون النهي عنه أمرًا بالدخول في جميع أضداده.

باب القول في النهي عن شيئين أو أشياء على وجه (التخيير وبلفظه وهل يصح ذلك أم لا؟)

باب القول في النهي عن شيئين أو أشياء على وجه (التخيير وبلفظه وهل يصح ذلك أم لا؟) اختلف الناس في هذا الباب. فقال فريق منهم: لا يجوز النهي عن شيئين أو أشياء على وجه التخيير ولم يُفصلوا ذلك، وزعموا أن هذا موجب اللغة والدليل. وأن القائل لا تصحب فاسقًا أو خليعًا، ولا تطع زيدًا أو عمرًا، فهم من ذلك النهي عن صحبتهما جميعًا. قالوا: وعلى هذا ورد قوله تعالى: {ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} يريد ولا كفورًا. ولابد أن يقدر في الثاني من المذكور حرف ولا كفورا/ص 296

قالوا: فأما إيجاب الدليل لذلك فإنه ظاهر، لأن النهي عنهما قد اقتضى قبحهما ودل على ذلك من حالهما، والنهي عن القبيح واجب، ومحال تخيير المكلف بين فعل متخير وإطلاق فعل أحدهما. وقال فريق آخر ممن تكلم في هذا الباب: يجوز ألنهي عن شيئين على جهة التخيير. وأطلقوا - أيضًا - ذلك من غير تفصل. والواجب عندنا في هذا الباب تفصيل ذلك وتنزيل فعل المكلف، وبيان ما يجوز النهي عنه والأمر به على وجه التخيير، وما لا يجوز ذلك فيه. اعلموا أن سائر أفعال المكلف لا تخلو من ثلاثة أقسام: إما أن تكون متماثلة، أو مختلفة غير متماثلة ولا متضادة، أو مختلفة متضادة. وكذلك القول في كل موجودين كيف تصرفت حالهما. فالمماثل من فعل المكلف وغيره كالكونين في المكان الواحد والصوتين المتفقين والإرادتين لمراد واحد، وما جرى مجرى ذلك. وهذا مما لا يصح الأمر للمكلف باثنين منه أو أكثر أو النهي له عن ذلك على جهة التخبير، وأن يقال له أفعل هذا بدلًا من هذا، أو اترك هذا إن شئت. وافعل هذا أو افعل هذا واترك ذاك، لأنه مما لا يتميز للمكلف ولا يعرفه على التفصيل وحاله هذه اللهم إلا أن يضطر إلى العلم بتفصيل ذلك. ولهذا لا يصح أن يقال له: صل ركعتين فرضًا للصبح، وأنت مخير بين أربعة منها، أو بين ما يصح أن تقدر عليه من ذلك. فافعل أيها شئت، لأنه مما لا يتميز فلا يصح لذلك أمره بالجمع بين اثنين منه لا يتميز ذلك له ولاستحالة اجتماع مثله في محل واحد في زمن واحد لما قد بيناه في الكلام في أصول الديانات، والنهي عن الجمع بينهما لهذه العلة. وأما المختلف من أفعاله فنحو الكون في المكان، والكلام والإرادة والعلم

والسكون والعزم، وأمثال هذا مما يطول ذكره. وقد بينا فيما سلف صحة الأمر بفعل ذلك على الجمع وعلى التخيير بما يغني عن إعادته. فكذلك يصح النهي عنهما على الجمع بين تركيهما، ويصح النهي عنهما على التخيير، ويكون معنى ذلك أن لا تفعل أحدهما وافعل الآخر، واترك أيهما شئت واجتنب الإقدام عليهما أو الترك لهما. وربما اتفق كون النهي عنهما على هذا الوجه على المصلحة دون الكف عنهما جميعًا. وأما المتضاد من فعله فنحو النطق والسكوت والحركة عن المكان والسكون فيه، والإرادة للشيء والكراهة له. وأمثال ذلك. وقد بينا فيما سلف أن الأمر بما هذه حاله على جهة التخيير/ص 297 لا يمكن أن يكون أمرًا بالجمع بين الضدين، لاستحالة ذلك وامتناعه. وإنما يكون أمرًا بفعل أيهما شاء المكلف بغير عينه. وكذلك - أيضًا - يصح النهي عنهما جميعًا بلفظ التخيير إذا كان لهما ضد ثالث. يُخرج إليه عنهما جميعًا، ولا يصح النهي عنهما على المطالبة بالخلو منهما بالخروج عنهما جميعًا مع استحالة خلوه منهما، كما يستحيل الأمر بالإقدام عليهما مع استحالة اجتماعهما. وقد يصح - أيضًا - عن ضدين أو أضداد بلفظ التجزء على وجه التخيير بين ترك أي ذلك شاء المكلف. وأن يتفق في المعلوم عن الكف عن بعض ذلك بغير عينه هو المصلحة دون الجمع بين الكل عنهما، هذا هو الحق الذي نذهب إليه، ومنع ذلك وإحالته باطل من دين القدرية لا حجة لهم عليه.

وأما دعواهم ودعوى من وافقهم بأن ذلك موجب اللغة، فإنها دعوى باطلة، لأن مثل هذا اللفظ مشترك بين كونه نهيًا عنهما جميعًا وبين كونه نهيًا عن أحدهما بغير عينه. وإنما حملنا قوله تعالى: {ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} على النهي عن طاعتهما للعلم بتقدم النهي والتحريم لإتباع الآثم والكفور لا بموجب الإطلاق. ولهذا صح أن يقول القائل: تصدق بدرهم أو دينار ويكون مخيرًا للمأمور بصدقة أيهما شاء. وصح - أيضًا - أن يقول تارة لا تصدق بدرهم للمأمور بصدقة أيهما شاء. وصح - أيضًا - أن يقول تارة لا تصدق بدرهم أو دينار، وهو يريد أن يصدق بأحدهما من غير تعيين. فجاز - أيضًا - على هذا أن يقول القائل: لا تطع زيدًا أو عمرًا، وهو يريد النهي عن طاعة كل واحد منها. وجاز أن يقول ذلك وهو يريد أن أطع أيهما شئت، واعص من شئت منهما على وجه التخيير. ولو فسر كلامه بذلك لصح، فوجب أن يصلح اللفظ للأمرين جميعًا. فأما دعواهم أنه إذا نهي عنهما على وجه التخيير لم يخير في وجوب الكف عن كل واحد منهما إلا وهما في معلومه قبيحان مكروهان، ولون كان فيهما ما ليس كذلك لم يصح نهيه على وجه التخيير، ولا على غير ذلك. لأن النهي عن الحسن قبيح، وأنه قول باطل، لأننا قد بينا فيما سلف أنه لا قبيح في العقل، وفي معلوم الله تعالى قبل حكمه بوجوب الذم والانتقاض في فاعل القبيح بما يغني عن إعادته. وأما تعلقهم في ذلك بأنه إذا نهي عنهما وجب أن يكون الكف عنهما مصلحة، ومحال منه إطلاق فعل أحدهما مع كونه مفسدة، فإنه تعلق باطل من وجهين: أحدهما/: ص 298 إنه إذا لم يكن النهي عنهما على وجه التخيير وبلفظه نهيًا عنهما

جميعًا، وإنما يكون نهيًا عن أحدهما بطلت دعواهم إنه لابد من كونه ناهيًا عنهما بهذا اللفظ. وإنما يجب أن يكون الجمع بين الكف عنهما هو المفسدة، والمصلحة في أن لا يفعل أحدهما ويفعل الآخر إن شاء، أو يجب فعله أو يندب إليه. فمن أين أن الكف عنهما هو المصلحة.؟ والوجه الآخر: إننا لا نعتبر في التكليف كونه مصلحة على ما بيناه من قبل، فيجوز على أصول أهل الحق إطلاق فعل ما نهي عنهما بلفظ التخيير أو إيجابه أو الندب إليه وحظر مثله من المفسدة والمنع منه. وقد تقصينا هذا من قبل، فبطل ما ظنوه. ولا يجوز التعلق في ذلك بأن النهي عن شيئين على التخيير نهي عنهما، كما أن الأمر بهما على التخيير أمر بهما. لأنا قد بينا من قبل أن الأمر بهما على التخيير أمر بأحدهما بغير عينه. فكذلك النهي عنهما على هذا الوجه. فصل: وقد بينا من قبل أنه محال نهيه تعالى عن فعل الضدين بلفظ التخيير، أو غيره من العبارات إذا كانا لا ضد لهما ثالث يخرج المكلف عنهما بفعل والدخول فيه، لأنهما إذا كانت هذه حالهما استحال عروه منهما. نحو أن يقال له لا تنطق ولا تسكت، ولا تخرج عن المكان ولا تقم فيه، وأمثال ذلك مما يستحيل انفكاكه منه وخروجه عنه. ولا يجوز عندهم أن يقال: إنه يعلم سبحانه أن مصلحة المكلف في الخروج

عن الضدين والانفكاك منهما مع علمه باستحالة ذلك. كما لا يجوز أن يقال إنه يعلم المصلحة أو المفسدة في الجمع بينهما، أو في الإقدام عليهما مع العلم باستحالة ذلك. وأما نحن فإنما يجوز أن يعلم الله سبحانه أن فعل جميع المتضادات التي لا ينفك المكلف من سائرها مفسدة له، وأن جميع تصرفه المتماثل منه والمختلف والمتضاد مفسدة له، وداع إلى مخالفة أمره وإن صح خلقه وإكمال عقله وضرب التكليف عليه، وإن كان يعلم أن جميع ما يقع منه مفسدة. وقد بينا هذا في أصول الديانات، فلا اعتبار عندنا بهذا الباب. ومن أجاز من أصحابنا في حكم الله تعالى وعدله تكليف ما يستحيل وقوعه لا يحيل في صفته/ ص 299 تكليف الغافل الإقدام على اكتساب الضدين معًا وتكليفه - أيضًا - الخروج عنهما، وإن استحال ذلك منه. فصل: وقد أحال أكثر المعتزلة خلو المكلف من فعل الضدين الذين لا واسطة بينهما، وخلوه من جميع ماله وسائط من الأضداد. وزعم ابن الجبائي أن للقادر منا حالتين (حالة) يصح أن يخلو فيها من الأفعال المتضادة التي هو قادر عليها، وغير ممنوع منها، وحالة لا يصح خلوه فيها من فعل بعض الأضداد التي في قدرته. قال: فالحال التي يصح فيها خلوه من المتضادات حال استلقائه على الأرض واستناده. والحال التي لا يصح

ذلك فيها هي التي يكون فيها قائمًا أو ماشيًا ومنقلبًا ومنصرفًا. وقد دللنا في الكلام في الأصول على استحالة خلو القادر على الفعل وضده الذين يصح وقوعهما منه على البدل منهما بطرق منها: إن الدليل قد دل على أن الاستطاعة مع الفعل محال خلو القادر منا من غير مقدوره. وبأن ذلك لو صح في المحدث لكان في القديم أولى. ولصح منه تعالى أن يخلي الجواهر من سائر المتضادات من الأكوان وغيرها مع احتمالها، وذلك يؤدي إلى قدمها، بغير هذا من الطرق، فبطل ما قالوه. فصل: وقد زعم بعض أصحابه أنه إذا صح خلو القادر على الفعل وضده منهما في بعض الأحوال صح وجاز أن يعلم الله سبحانه أن جميع ما يقدر عليه من المتضاد مفسدة، وداعي إلى القبيح، ووجب في حكمته تعالى نهيه له عن فعل شيء منها والتزامه الخروج عن سائرها. لأنها إن أمره بفعل بعضها أو أباحه ذلك وجب أن يكون أمرًا أو مبيحًا للقبيح. وذلك ينقص حكمته. قال: فأما إذا كانت حاله حال لا يجوز فيها أن يخلو من سائر مقدوراته المتضادة لم يصح أن يكون المعلوم من حال مقدوراته إن جميعها مفسدة وقبح من فعله. لأنه لو اتفق مثل هذا في المعلوم لوجب أن لا يصح انفكاك المكلف من فعل القبيح. ولوجب أن يذم بفعل بعضه إذا وقع منه، ولا يذم لوجوب كونه غير منفك منه. قال: ولما كان كل فاعل للقبيح مستحق عليه الذم علم أنه لا يمكن أن يكون/ص 300 منه مالا يصح خلو المكلف منه.

فأما نحن فإننا نقول: إن الأضداد أو بعضها إنما تقبح بحكم الله سبحانه بقبحها، لا لكونها في معلومه على صفة تقتضي قبحه فلا نحتاج إلى هذا التفصيل. ونقول - أيضًا - إنه لو اتفق أن يكون جميع مقدورات المكلف المتضادة مفسدة قبيحًا لجاز في حكم الله سبحانه أن يطلق له فعل الواحد منها، ويكون بذلك حكمًا فيصح لذلك النهي عن فعل جميعها أو إطلاقه لجميعها، ولا اعتراض عليه في شيء من ذلك. فصل: فإن قال قائل: فإذا كان المكلف لا ينفك من بعض مقدوراته ومن الفعل وتركه. فما تقولون فيمن دخل زرع غيره، ومن جلس على صدر غيره، ومواضع أنفاسه، وفيمن أولج في فرجٍ حرام، وكان لبثه على ذلك واستدامته له فعل حرام، لأنه مؤدي إلى التلف، وقيامه عن صدره ومواضع أنفاسه مضرة ومؤلم ومخوف عليه، لأنه لا يقوم عنه إلا باعتماد وعلاج لعله أن يكون متلفًا أو مُمرضًا. وكذلك إن استدام أكوان آلته في الفرج كان زانيًا أثمًا وراكبًا لمحرم. وإن فعل الإخراج كان بذلك ملتذًا وفاعلًا لحركات وأكوان محرمة. وإن أقام على زرع غيره أفسده، وإن خرج عنه أفسد ما يمشي عليه وأهلكه. فمقامه محرم وخروجه محرم. فيجب على هذا أن لا ينفك من هذه صفته عن فعل حرامٍ. وأن يكون من لزمه ووجب عليه فعل الحرام. وأن يكون بذلك مقدورًا بفعل العصيان إذ كان لا ينفك منه، ولا يجد السبيل إلى الخروج عنه. يقال له: إن من هذه حالة فلا شك أنه لا ينفك من فعلٍ مضر بغيره في جلوسه ونهوضه على وجه مخصوص، وإن كان فيه ألمًا وضررًا بالغير. وكذلك حال المأمور بمفارقة الإيلاج بالإخراج. وإن كان ملتذًا بذلك، فإنه واجب عليه، وحرام عليه استدامة المقام له على ذلك. (ولكنه مأمور بفعل ذلك والخروج منه بشريطة قصد التخلص منه وترك الإضرار واستدامة/ص 301 المعصية بالمقام على

ذلك) وفعل مثله في المستقبل، وترك الإلتذاذ بفعل أكوان العضو في الفرج. فهو مأمور بالخروج عن ذلك أجمع بنية الخلاص من المعصية لا بنية الإلتذاذ والاستمتاع بالإخراج، ونية الإضرار بمن يخرج عن زرعه، ويقوم عن صدره. وأن يفعل من ذلك أرفق ما يمكنه وأيسره، ومحرم عليه أن يعتمد قدرًا زائدًا على أسهل الأمور. وإذا كان ذلك كذلك استحال القول بأن مفارقة هذه إجماع لا خلاف فيه إلا ممن لا يعتبر بقوله بعد سبق الإجماع على خلافه. فالمعتزلة تقول: لم يأمر الله تعالى بالمفارقة لذلك إلا لعلمه بأن مصلحته فيه تتعلق به، ولولا ذلك لم يوجب عليه. ونحن نقول: يجوز أن يكون ذلك كذلك، ويجوز أن تكون مفارقة الحال هي المفسدة، وأن تكون كالمقام عليه وأزيد أو أنقص منها في الفساد، وهم متفقون على أنه لا يجوز أن يتفق في المعلوم كون المقام على هذه الأحوال مفسدة والمفارقة لها مفسدة، لأن ذلك يوجب أن يكون لا يصح انفكاك المكلف من قبيح ومعصية، وإن تعذر بفعل بعضه إذا وقع منه، وأن يكون منهيًا عنه. وهذا الأصل عندنا باطل، أعنى أنه يكون غير منفك من قبيح، لأن القبيح من ذلك ما منع منه وحظر عليه، وما وجب عليه منه ففعله ليس بقبيح منه، وإن كان إضرارًا بالغير. ولا قبيح منه من حيث كان لطفًا له في فعل قبيح آخر، لأنه لا أصل لما يقولونه في هذا الباب. ولو علم الله سبحانه أن ذلك لطف له في فعل قبيح آخر قد نهاه عنه بالسمع على ما نقوله لم يكن فعله إذا أمر به قبيحًا وإن كان لطفًا داعيًا له إلى فعل قبيح قد نهي عنه. وإنما تكون موافقة ذلك المنهي

عنه قبيح. فأما فعل ما هو لطف فيه مع وقوعه مصادفًا للأمر فإنه ليس بقبيح ولا مستحق عليه ذم ولا عقاب، ولا إطلاق ذلك له قبيح من الله تعالى ولا الأمر به، وإن علم أنه داعٍ إلى فعل منهي عنه/ ص 302 وقد بينا هذا فيما سلف بما يغني عنه إعادته فبطل ما قالوه. فإن قيل: إذا كان جنس الخروج من الزرع، والنهوض عن الصدر، وإخراج العضو من الفرج من جنس واحد، فكيف يكون قبيحًا إذا فعل بنية الإضرار والزيادة في الألم، وللفساد فيه ونية الإلتذاذ والاستماع، وحسنا إذا فعل بنية الخلاص من العصيان. قيل: لأنه ليس بحرام وحلال لجنسه، وما هو عليه من الصفة في ذاته، وإنما يكون محرمًا بالأمر والنهي. فإذا أمر بأن يفعله على وجه ولا يفعله على غيره صح ذلك فيه. وهذا كما قد اتفق على أن جنس الجلوس في دار زيد مع إذنه فيه وحظره له جنس واحد، وهو حسن حلال مع إذنه فيه، ومحرم مع منعه منه. وكذلك أكل طعامه بإذنه وغير إذنه، في أمثال هذا مما يطول تتبعه، فزال ما قالوه. فصل: فإن قال قائل: أفتقولون: إن أخراج العضو، والخروج من الزرع طاعة لله، كما تقولون أنه مأمور به؟. قيل له: أجل، لابد من ذلك من حيث كان مفروضًا مأمورًا به، وكانت الطاعة إنما تصير طاعة بالأمر، على ما بيناه من قبل. وهذا - أيضًا - يدل على إبطال قول من زعم أن المأمور لا يؤمر إلا بفعل ما عليه فيه مشقة وألمًا، لأنه قد يؤمر بمفارقة الوطء بفعل له فيه لذة، فبطل ما

قالوه. وكذلك حال المكره على فعل ما له فيه لذة مأمور بفعله إذا خاف التلف وفعله مع الأمر به، نحو أن يكره على أكل طعام وشرب شراب للغير مغصوبين وإلا قتل، وأمثال ذلك. فصل: فإن قيل: فإذا قلتم إن مفارقة هذه الأحوال طاعة من حيث كان مأمورًا به لزمكم أن يكون المضي في فاسد الحج طاعة لله وحسنًا غير قبيح إذا كان مأمورًا بفعله والمضي فيه. قيل لهم: كذلك نقول، ومن قال إنه قبيح، وليس بطاعة فقد أبعد وأخطأ، وإنما القبيح ما أفسد به حجته، ولذا وجب عليه قضاؤه، وفعل مثل ما أفسده. فأما ما يفعله بعد الوطء فواجب عليه وحسن منه. فإن قيل: كيف يكون طاعة وواجبًا قضاؤه وفعل مثله؟ قيل لهم: هذه حال كثير من الطاعات، نحو فعل مثل ما/ ص 303 فعل من الصلاة بالتيمم عند طلوع الماء على قول من رأى ذلك، وفعل مثل الصلاة التي فعلت بظن الطهارة إذا ذكر الحدث. في أمثال هذا مما قدمناه من قبل. فصل: فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون المضي في فاسد الحج محرمًا، كما أن

فعل الإحرام مقارنًا للوطء محظورًا محرمًا، لأنه وقع على وجهٍ منهي عنه. يقال: الفصل بينهما ما ذكرته، لأنه قد نهي عن أن يوقع الإحرام مقارنًا للوطء. كما نهي عن فعل الصلاة مع الحدث، ولم ينه على المضي في فاسد الحج مع تقدم إفساده له، وإنما نهي عن الإفساد له، وهو مأمور بفعل باقيه بعد الإفساد، فاقترن الأمران. فأما صحة الاعتداد بإحرامه ودخوله به في الحج وصحته أو إفساده وكونه غير داخل به في الحج إيقافه على حكم الشرع وما يدل عليه من ذلك. ونحن نبين من بعد أن النهي عن الشيء لا يدل بمجرده على أنه لا يقع موقع الصحيح المأمور به، فإن حكم بفساد الإحرام المقارن للوطء وكونه غير مدخول به في الحج فبدليل يوجب ذلك لا بنفس النهي عنه. فصل: فإن قال قائل: كيف يكون الخروج من الزرع طاعة واجبًا وإن كان مفسدًا له، مع قول بعضهم إن على الخارج ضمان قيمة ما أفسده بدخوله فيه وخروجه منه، فكيف يضمن قيمة ما تلف عن فعل مأمور به؟. يقال له: ضمان المتلف عند خروجه عبادة شرعية، وقد يؤمر بالفعل ويباح له. ويضمن قيمة ما تلف عنده كضمان رامي الغرض إذا أصاب نفسًا، وكما

يجب في جناية الطفل ضمان ما أتلفه في ماله، وإن لم يكن ذلك عصيانًا محرمًا في أمثال هذا، فبطل ما توهموه. فصل: وقد حكي أن أبا شمر قال: فيمن دخل زرع غيره وكان عاصيًا مفسدًا له بالدخول فيه ومفسدًا له بالخروج عنه فإنه حرام عليه الوقوف في مكانه وحرام عليه الخروج عنه أو يتقدم أو يتأخر أو يتصرف صرفًا من التصرف. قال: لأن جميع تصرفه ضرر بالغير وإفساد قبيح، وهو مع ذلك لا يمكنه الانفكاك في هذه الحال من فعل القبيح. قال: فإن تاب وندم من ذلك لم يمكنه مع ذلك أن لا يكون عاصيًا فيه، وأنه مع ذلك معلوم مذموم على مقامه في زرع غيره، ملوم على خروجه عنه وتصرفه ومشيه فيه، ولا يمكنه أن لا يكوني عاصيًا/ ص 304 ملومًا وإنما يورد عليه اللوم والذم والعقاب على القبيح الذي لا يمكنه الخروج عنه، لأنه هو الذي ورط نفسه في هذه الحال بدخوله في زرع غيره ظلمًا وتعديًا وهذا قول باطل باتفاق الأمة عليه، لأنه ليس في الأمة من قال قبله: إن للمكلف حالًا لا يتأتى منه فيها ترك المعصية، ولا يصح ولو كان لا يمكنه ذلك لوجب على أصله وأصول القدرية أن يكون معذورًا بفعله إذا لم يمكنه الخروج عنه. فأما اعتلاله لصحة ذلك بأنه هو الذي أدخل نفسه في هذه الحال بدخوله زرع غيره ظلمًا، فإنه باطل، لأجل أنه إذا صار بسبب من الأسباب إلى حال من لا يصح منه الفعل ولا تركه فامتنع تكليفه لذلك. ولهذا ما أوجب - لو أزمنه

الله سبحانه وأعدم رجليه - سقوط فرض القيام عنه، ولو أنه هو القاطع رجليه والمزمن لنفسه لوجب - أيضًا سقوط فرض القيام عنه من وكونه معذورًا بأن لا يقوم. وكذلك حال من ألقي في زرع أو دخله ظالمًا مختارًا إذا كان في الحالتين لا يمكنه التصرف والخروج إلا بفساد الزرع وفعل القبيح على قوله. وقد بينا هذا الفصل من قبل بما يغني عن رده. فصل: فإن قال قائل: كل أحد من الأمة يجب أن يقول بقول أبي شمر، لأجل اتفاقهم على أن رجلًا لو كان كائنًا في مكان قد أحاط به أحياء مطروحين لا منفذ له بينهم ولا طريق، وهو يعلم أن خروجه من مكانه ومشيه على أولئك الأحياء مضر بهم أو ببعضهم ومؤدي إلى تلفهم أو تلف بعضهم. وأن مقامه في مكانه يؤدي إلى تلفه وعطبه جوعًا وعطشًا، أو إلى زمانةٍ ومرض مخوف لوجب أن يكون كون هذا الكائن في المكان من الأضرار بنفسه قبيح. ومن هذه حاله لا يمكنه الانفكاك منه والخروج عنه. وهو مع ذلك مذموم إن أقام ومذموم إن خرج. وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن مذهب أبي شمر قول للكل. يقال له: ليس الأمر في هذا ما ظننته من كون حي بين أحياء على بُعد ذلك إن وقع هذا واتفق ولم يكن فيمن حوله من الأحياء من يمكنه الحركة والإفراج/ ص 305 له عن الطريق صح أن يقال: إن عليه الخروج من موضعه إذا خاف الزمانة والتلف ونزول العاهات، وأن يعطب جوعًا وعطشًا. لأنه يكون حينئذ ملجأ إلى الخروج خوف العطب والتلف، فيصير خروجه لذلك بمثابة فعل مُلجئه إلى الخروج بإتلافه بالمقام، والملجأ إلى الفعل معذور في غير موضع من الشرع، وإنما لا

يعذر بالخروج، ولا يحسن منه إن لم يخف بالمقام تلفًا ولا ضررًا، أو أمكن خوف ذلك بعض من حوله الإفراج له عن الطريق، فإن أمكنه ذلك اعتمد وطء من يمكنه منهم أن يفرج له عن الطريق، لأنه في حكم المانع له من الخلاص من التلف والعطب دون من لا يمكنه ذلك منهم. وإذا كان ذلك كذلك صح ورود التعبد بخروج من هذه حاله عن المكان. وقد يجوز - أيضًا - أن يتعبد بلزوم مكانه وإن أدى ذلك إلى تلفه من حيث كان في تصرفه وإحياء نفسه إتلاف لنفس غيره، فيصير لذلك حاله حال من يخاف على نفسه التلف جوعًا وعطشًا، وهو قادر على أكل لحم حي بحضرته، وأن يسد جوعته ويبقي إيلامه بذلك والإضرار به في أنه يجب صدره على التلف، وأن لا يأكل لحم غيره لتبقية نفسه، وكذلك لو أكره. واعلم أنه إن لم يقتل غيره ظلمًا قُتل، في أنه لا يجب عليه الإبدار على قتل غيره لتبقية نفسه. فبان الجواب عما عارضونا به، وثبت بهذه الجملة جواز النهي عن الضدين على جهة التخيير، وعلى النهي عنهما على الجمع على القول بجواز تكليف المحال الممتنع كونه، وإحالته على المذهب الآخر.

فصل: وقد حكي عن بعض أهل الإثبات أنه قال: إن متوسط زرع غيره، والجالس على موضع نفسه قد كُلف الخروج من غير إفساد له، والقيام عنه من غير إيلامٍ له، وإن لم يكن ذلك في وسعه وإمكانه، ويجب للقائل بهذا إن صحت الحكاية عنه أن يكون ممن يجيز تكليف المحال في حكمة الله عز وجل، وأن يقول إن الشرع قد ورد به، لأنه إذا كان محال وقوع ذلك غير مؤلم ولا مفسد فقد كلف إيقاعه كذلك. وقد كلف المحال وصح جواز هذا التكليف ووجوده/ ص 306. فصل: واعلموا - وفقكم الله - أن حقيقة القول في هذا الباب أن فساد الزرع عند المشي فيه والخروج عنه وألم من نهض عن صدره ومواضع نفسه ليس بظلم على الحقيقة لا من الله سبحانه ولا من العبد، ولا قبيح منه تعالى ولا من العبد، ولا عصيان منه، لأن ما يحدث من تقصف الزرع وفساده عند المشي فيه، ومن ألم الحي عند القيام من صدره والاعتماد عليه، ليس من فعل العبد. وإنما ذلك من فعله عز وجل عند حركات العبد وتصرفه بفعل يفعله تعالى عند ذلك بجري العادة. كما يفعل الموت عند قطع الرأس، وصلابة الدبس وبياضه عند تقريبه إلى النار وشوطه. وكما يفعل ورم جسم الحي وحمرته عند ضربه. وقد دللنا على ذلك في الكلام في أصول الديانات بما يغني عن إعادته. وإذا كان ذلك كذلك وكان الدليل قد دل على أن الله سبحانه وتعالى عادل حكيم في جميع ما يفعله استحال كون الألم والفساد قبيحًا من فعله وظلمًا.

ومحال - أيضًا - كونه قبيحًا وظلمًا من العبد، لأنه ليس من فعل العبد ومقدوراته فيكون حسنًا أو قبيحًا منه. وإذا كان ذلك كذلك لم يجز أن يقال: إن الله سبحانه قد كلف العبد الخروج عن زرع المظلوم والقيام عن صدره من غير أن يكون ذلك مفسدًا ولا مؤلمًا، وإنما يقبح من العبد تصرفه في نفسه، وما يكسبه في محل قدرته إذا كان مصادفًا للنهي عنه بجريان العادة بفعله الألم والفساد عند وجوده، على ما قد شرح في غير هذا الموضع. فإن قال قائل من القدرية: ما أنكرتم أن يكون العبد مطيعًا غير عاصٍ بخروجه من الزرع، وقيامه عن صدر الغير المباشر المفعول في نفسه، لأجل أنه مأمور بذلك، ومحال كونه عاصيًا بفعل ما يؤمر به، وإنما هو عاصٍ بنفس فساد الزرع، وحدوث الألم المتولد عن فعليه المباشرين، فيكون ما هو طائع فيه غير المتولد الذي هو عاصٍ بهما. يقال له: هذا نهاية الحال وأكد لما يذهب إليه أصحابنا في جواز تكليف ما لا يطاق لأجل أنه إذا أوجب عليه فعل السبب المولد وحرم تسببه فقد ألزم تكليف المحال، وإن لم يكن ذلك/ ص 307 في طوقه ووسعه. وهذا باطل على أصولهم. ويقال لهم - أيضًا - وكيف يقبح ويحرم المسبب بعد وجود سببه المولد له من الطاعة المأمور بها عصيان قبيح، وإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يتولد من كل طاعة عصيانًا؟ ولم لا يجوز أن يتولد من العصيان الحرام طاعة حسن؟ وكيف

يتصور تولد العصيان من فعل واجب يعلم الله سبحانه أنه لابد من وجود المتولد عنه، وإنه لا يمكن بعد وجود سببه الخروج منه. هذا نهاية الإحالة، فوجب الاعتماد على ما قلناه دون ما ذهبوا إليه.

باب الكلام في أن النهي عن الشيء يدل على فساده أم لا؟

باب الكلام في أن النهي عن الشيء يدل على فساده أم لا؟ اختلف الناس في هذا الباب: فقال الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة منهم الكرخي وعيسى بن أبان وجميع أهل الظاهر، وقوم من المتكلمين: إن النهي عن الشيء يدل على فساده، كما أن الأمر به يدل على صحته وإجزائه.

ثم اختلف هؤلاء: فقال بعضهم: إن النهي عن الشيء يدل على فساده من جهة وضع اللسان، وأن هذا هو فائدة كونه نهيًا عن أهل اللغة. وقال بعضهم: بل إنما يدل على فساد ذلك من جهة الشرع دون اللغة. واعتلوا لذلك بأمور سنذكرها ونعرضها من بعد. وقال قوم من الفقهاء من أهل جميع المذاهب غير أهل الظاهر والجمهور من المتكلمين: إن النهي عن الشيء لا يدل على فساده ولا على صحته وإجزائه لا في وضع اللغة، ولا من جهة الشرع. وهو الذي نختاره وبه نقول، على تفسير ما سنشرحه من بعد. وقد اتفق كل من قال: إن النهي عن الشيء لا يدل على فساده على أن إيقاعه (غير) دالٍ على صحته وإجزائه، وإنما يجب إيقاف أمره على ما يدل

الشرع عليه من براءة الذمة به، أو وجوب فعل مثله. وإنما ذكرنا هذا لسماعنا كثيرًا ممن خالف في هذا الباب يحي أنه عندنا يدل على صحة المأمور وإجزائه، وهذا خطأ عظيم. الأدلة على فساد قول من قال إنه يقتضي الفساد لغة ومما يدل على أنه ليس معنى النهي عن الشيء وفائدة وصفه بذلك إيجابه فساد المنهي عنه وكونه غير مجزئ إنه لو كان ذلك كذلك لوجب لا محالة أن يكون/ ص 308 معنى وصف الأمر بالشيء وفائدة وصفه بذلك إنه مقتضٍ لصحة المأمور به، ودال على إجزائه وسقوط قضائه، ولما لم يكن ذلك كذلك لما بيناه من فصول القول في الأوامر. وكان مثل المأمور به واجبًا بعد فعله (ظهر) سقوط ما قالوه. ومما يدل على ذلك - أيضًا - ويوضحه أنه لو كان موجب النهي وفائدة وصفه بذلك أنه دال على فساد المنهي عنه لوجب أن يكون ما دل من الأدلة على صحة المنهي عنه وإجزائه ووقوعه موقع المأمور به قد أخرج النهي عن كونه نهيًا وعما يقتضيه مجرد إطلاقه. ولو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، والتوضي بالماء المغصوب والذبح بسكين مغصوبة والضرب بسوط مغصوب وطلاق البدعة، وكل منهي عنه يجرى فعله في الشرع، ونائب مناب الصحيح المأمور به نهيًا عن ذلك على المجاز والاتساع. إذ كان ما دل على إجزاء تعلقه قد أخرجه عن مقتضى موجبه وإطلاقه. وكنا قد بينا فيما سلف في فصول القول في الحقيقة والمجاز أن كل دليل صرف الكلام عما يقتضيه مطلقه وموضوعه فقد جعله مجازًا وإلا سقط جميع المجاز من الكلام،

فلما لم يكن ذلك كذلك، وكان النهي عن جميع هذه الأشياء المحرمة نهيًا محرمًا على الحقيقة بطل ما قالوه. وقد ظن بعض أغبياء من خالف في هذا الباب أنه لا يجوز أن يقال إن النهي عن جميع هذه الأمور المحرمة نهي على جهة المجاز. وأن هذه الأفعال منهي عنها على سبيل المجاز، وهذا خلاف الإجماع، لأن مسلمًا لا يقول إن طلاق البدعة والصلاة في الدار المغصوبة منهي عنهما على سبيل المجاز. ولو كان ذلك كذلك لكانت هذه الأمور محرمة ومعصية على طريق المجاز. وهذا خبط ممن صار إليه، فبطل ما توهموه. فصل: ومما يدل - أيضًا - على فساد دعواهم دلالة النهي على / ص 309 فساد المنهي عنه من جهة اللغة أن إجزاء الفعل وبراءة الذمة به أن كونه غير مجزئ يجب قضاؤه حكم شرعي وثابت بالسمع، فكيف يكون ذلك مفهومًا من تواضع أهل اللسان، فسقط ما قالوه. وكذلك قد بينا في فصول القول في الأوامر إن الأمر لم يوضع في اللغة لإفادة حسن المأمور به أو قبحه ولا النهي أيضًا لذلك، لأنهم قد يأمرون بالحسن والقبيح، وينهون عن الحسن والقبيح والعدل والظلم. فبان أن هذا أجمع ليس من فائدة الأمر والنهي ومفهومة في اللغة وأنه مستفاد بدليل السمع [أدلة من قال إنه يقتضي الفساد شرعًا والرد عليهم] فأما من زعم منهم أن النهي يدل على فساد المنهي عنه من جهة المعنى،

وقضية الشرع دون اللغة فيقال لهم: لم قلتم ذلك، وأي معنى في النهي أو في المنهي عنه أو في الشرع ينفي كون المنهي عنه صحيحًا ومجزئًا ماضيًا؟. فإن قالوا: الذي ينفي كونه كذلك كون المنهي عنه مكروهًا أو كونه معصية قبيحًا. قيل لهم: لم قلتم إن وقوعه كذلك منافٍ لإجزائه ووقوعه موقع المأمور به، وفيه وقع الخلاف، فلا يجدون متعلقًا. ويقال لهم: فيجب لذلك أن لا تجزئ الصلاة في الدار المغصوبة والتوضيء بماء مغصوب وطلاق البدعة وكل منهي عنه، وأن لا يقع شيء منه موقع الصحيح لكونه مكروهًا وقبيحًا وعصيانًا حرامًا، ولما لم يكن ذلك كذلك عند أكثرهم، ولم يتأت كون الشيء واقعًا على هذه الصفات كونه مجزئًا بطل ما قالوه. شبهة لهم أخرى: وإن هم قالوا: لما كان النهي عن الشيء ينفي الإباحة له والأمر به، وكان لا دليل في الشرع يدل على إجزاء الشيء وصحته إلا الإباحة له والأمر به، وذلك مناف للمنهي عنه وجب دلالة النهي على فساد المنهي عنه. فيقال لهم: لم قلتم إنه لا دليل في الشرع يقضي على إجزاء الشيء وصحته إلا الإباحة له والأمر به، وهل الخلاف إلا في ذلك. وبضرورة علمتم صحة هذه الدعوى أم بدليل؟ فلا تجدون إلى ذكر شيء سبيلًا. فإن قالوا: فبأي شيء يمكن أن يدل على ذلك من حاله سوى الأمر به والإباحة له. قيل لهم: لا يجب علينا ذكر ذلك، بل يجب أن تدلوا أنتم على أنه لا شيء يدل على ذلك من حاله إلا الأمر/ ص 310 أو الإباحة.

ثم يقال لهم: قد يدل على إجزائه وقوعه موقع الصحيح وإن كان معصية قبيحًا حرامًا. وإن قالوا - أيضًا - قد نهيناك عن الصلاة في الدار المغصوبة والتوضئ بماء مغصوب وحرمنا ذلك، فإن فعلته مضى وأجزاء، ولم تجب عليك إعادته، وناب عن فرضك، وكذلك فقد يعلم هذا بإجماع الأمة على أنه واقع موقع الصحيح. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما ادعوه. ثم يقال لهم: ألي قد علمنا إجزاء الصلاة في الدار المغصوبة وكثير مما نهي عنه وحرم فعله؟ فإذا قالوا: أجل. قيل لهم: أفيجوز أن يكون طريق العلم بإجزائه وصحته الأمر به مع النهي عنه أو الإباحة له مع كونه حرامًا. فإن قالوا: أجل. أمسك عنهم وظهر تخليطهم. وإن قالوا: لا، بل إنما نعلم ذلك بطريق غير الإباحة له والأمر به، أبطلوا ما ادعوه بطلانًا بنيًا. وإن قال منهم قائل: إنما وجبت دلالة النهي على فساد المنهي عنه وكونه غير واقع موقع الصحيح أنه إذا ورد في عقدٍ وتمليك كانت فائدته منع التمليك به، وإذا وقع محرمًا مملكًا به بطلت فائدة النهي. قيل له: لم قلت إن هذا فائدته؟ وما أنكرت أن يكون معناه الدلالة لنا على قبح المنهي وكونه معصية حرامًا، وسيما إذا كان مما لا تدل العقول على قبحه وتحريمه فيعلم بالنهي عنه كونه مفسدة قبيحًا، وإن حصل التمليك به، وليس يعتبر التمليك به وكون المتوصل إلى تملكه بالنهي عنه على ملك المكلف حرامًا.

وإنما الحرام توصله إلى تملكه بطريق حرام وفعلٍ منهي عنه. ثم يقال لهم: فقد وقع كثير من المنهي عنه موقع الصحيح وتصحيح المجزئ، ولم تبطل بذلك فائدة النهي عنه، فعلم أنه ليس فائدته كون المنهي عنه غير مجزئ. وذلك ظاهر في بطلان ما قاله. شبهة لهم أخرى في ذلك: واستدلوا - أيضًا - على صحة ما قالوه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" ومن أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد". قالوا: وإذا ثبت أنه رد وجب كونه باطلًا غير مجزئ. فيقال لهم: لم قلتم إن معنى قوله: فهو رد أنه غير مجزئ ولا واقع موقع الصحيح/ وما أنكرتم أن يكون معنى أنه رد أنه غير طاعة، ولا مقبول من فاعله، ولا مثاب به وممدوح عليه، لأن الرد ضد القبول. وقول الأمة اللهم اقبل أعملنا، أو لا تردها علينا، ليس معناه اجعلها مجزئة، وأسقط عنا قضاءها، فلا توجب علينا أمثالها، وإنما معنى ذلك أن يقبلها وأن يثيبنا عليها، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. ويقال لهم: إن معنى الرد لما يؤمر به أنه غير مجزئ، لوجب أن يكون كل منهي عنه وقع موقع الصحيح والإجزاء فليس بمنهي عنه ولا هو رد لكونه مجزئًا. ولما لم يكن ذلك كذلك، وثبت أن ما يجزئ من النهي عنه وما لا يجزئ رد كله، وغير مقبول ولا مثاب صاحبه بطل حملهم معنى الرد على ما قالوه.

فصل: وقد اعتمدوا - أيضًا - في الدلالة على صحة قولهم باتفاق سلف الأمة على الاستدلال بالنهي الوارد في القرآن على فساد المنهي عنه، وكونه غير حالٍ محل الصحيح، وظهور ذلك عنهم يغني عن الإكثار بذكره. فمن ذلك استدلالهم على فساد عقد الربا بالنهي عنه في قوله تعالى: {وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وما ورد من النهي عنه في السنة قوله صلى الله عليه وسلمك "الذهب بالذهب مثلًا بمثل والبر بالبر ... " وأمثال ذلك. ومنه احتجاج ابن عمر في تحريم نكاح المشركات وفساده بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} واستدلالهم على بيع ما لم يقبض بالنهي عنه، وعن بيع الغرر. وأن الكل عقلوا فساد نكاح ذوات المحارم من الأمهات والبنات والأخوات بظاهر قوله تعالى: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} في أمثال هذا مما يطول تتبعه. ورجعوا في فساد جميعه إلى مجرد النهي عنه ومطلقه، لا إلى شيء سواه. فدل إجماعهم على ذلك على أن ظاهر النهي ومطلقه دال على فساد المنهي عنه.

فيقال لهم: لم قلتم - أولًا - إن جميع الأمة إنما تعلقت في فساد كثير من المنهي عنه بظاهر النهي عنه،؟ وما دليلكم على ذلك؟ ونحن نقول: إن هذا الاستدلال ممن استدل به خطأ. وإن الخطأ منتفٍ عن جميع الأمة في كل عصر من الأعصار، وإن كنا مع ذلك لا ننكر أن يكون في عصر الصحابة وكل عصر بعده من قد استدل على فساد الشيء بالنهي عنه لشبهة تدخل عليه. فأما أن يقع لجميع الأمة إجماع على ذلك فإنه محال. فلا يجدون إلى تصحيح هذه الدعوى سبيلًا. ثم يقال لهم: تحتاجون أن ترووا روايةً ظاهرة تقوم الحجة بمثلها عند سائر الأمة أنهم استدلوا/ على فساد بعض ما نهي عنه لمجرد النهي عنه، وأنى لكم بذلك، وإن ظهر عن ابن عمر أو غيره استدلال على فساد شيء بالنهي عنه فذلك مذهب وقول له، وليس ظهوره عنه دليل على أنه مذهب الكل ودين لهم. وقد بينا هذه الجملة ثم نقض استدلالهم على أن الأمر على الوجوب بحمل الصحابة له على ذلك بما يغني عن الإكثار به. فإن قالوا: لو كانوا إنما يستدلون على فساد تلك الأشياء المنهي عنها بشيء يقارن النهي أوجب ظهوره عنهم ونقله. فلما لم يظهر شيء تعلقوا به يقارن النهي وجب أن يكونوا إنما رجعوا إلى النفس النهي، فقدم جواب هذا فيما سلف. وقلنا لا يجب نقل ذلك عنهم إذا كان معروفًا بينهم وأن اعتمادهم على الإجماع حكم، القول والمراد به والإخبار بذلك أقوى من ذكر الأسباب والأدلة الجامعة لهم على ذلك، لأنها معرضة للمنازعة والتأويل، وإجماعهم قاطع لذلك.

فصل: ذكر الحجة على أن من الأفعال المنهي عنها ما قد يقع موقع المجزئ الصحيح.

فصل: ذكر الحجة على أن من الأفعال المنهي عنها ما قد يقع موقع المجزئ الصحيح. إن قال قائل: قد بينتم أكثر أدلتكم وإفساد علل مخالفيكم في هذا الباب على أنه قد وجد في الشرع أفعال محرمة منهي عنها، وهي مع ذلك صحيحة مجزئة يقع التمليك وإباحة التصرف بها كوقوعه بالصحيح المأمور به. فلم قلتم ذلك؟ وأي شيء فيه من هذا، مع علمكم بأن من أهل الظاهر وغيرهم من يزعم أنه لا شيء من الأفعال المحرمة المنهي عنها تقع موقع الصحيح المجزئ. فيقال لهم: الذي يدل على فساد قول هذه الفرقة إجماع الأمة على أن من تضيق عليه وقت الصلاة حتى يكون فعلها بعد خروجه قضاء لا أداء عاصٍ بكل فعل يوقعه غير الصلاة ومخرج له منها. ومع هذا فلو أنه ترك الصلاة في ذلك الوقت في حال كون الإمام على المنبر بالعقد على مبيع أو عقد نكاح على امرأة أو شراء أمةٍ لكان بيعه ونكاحه وشراؤه صحيحًا جائزًا ماضيًا. يقع به التمليك وإباحة التصرف والاستمتاع بالزوجة والأمة. فإن قروا على أن هذا البيع والنكاح فاسد لا يقع به التمليك، فقد أطبقوا على أنه لو وطئ امرأته في حال تضيق فرض الصلاة ووجوب ترك الوطء بها لكان منهيًا عن ذلك نهي تحريم من حيث كان تركًا لفرض مضيق/ ص 313 ولكان وطؤه مع ذلك محللًا لها للزوج الأول. س وكذلك لو وطأها في أيام شهر رمضان عامدًا ذاكرًا للصيام لكان بالوطء عاصيًا أثمًا ولكان ما فعله محللًا للزوج الأول، وكذلك سبيل الوطء في الحيض في أنه وطء محرم، وهو مع ذلك محلل وحال محل الوطء المباح المأذون فيه عند أكثرهم. فإن لم يحلل الوطء في الحيض وفي رمضان بالوطء المتروك به الصلاة المضيق فرضها محلل لا شك فيه. وكذلك فلو أزال النجاسة بماء للغير مغصوب

لكان بذلك عاصيًا. ومع ذلك فإن النجاسة زائلة والصلاة بالإزالة جائزة، كما لو أزالها بماء نفسه ومأذون له في استعماله، ولعلنا أن نذكر من أمثال هذا فيما بعد ما يؤكد فساد قول هذه الفرقة. فبان بذلك ثبوت منهي عنه وإن كان محرمًا واقعًا موقع الصحيح. ويجب على من قال منهم إن عقد البيع والنكاح إذا كان الإمام على المنبر باطل لكونه منهيًا عنه وإن وطئ المرأة في الحيض وأيام رمضان لا يُحلها للزوج الأول لكونه منهيًا عنه أن يقول إن صلاة المصلي مع مشاهدته لغرق طفلٍ وإضرام نارٍ يهلك به، وصلواته في مواضع يخاف فيها قتل نفسه وأخذ ماله مع القدرة على الصلاة في غيره صلاة باطلة، لأنها منهي عنها في جميع هذه الأحوال، ولا نعرف أحدًا يقول ذلك. فثبت وجود منهي عنه قائم مقام الصحيح. فبطل ما قالوه.

باب الكلام في الفصل بين ما يفسد من المنهي عنه وبين ما لا يفسد

باب الكلام في الفصل بين ما يفسد من المنهي عنه وبين ما لا يفسد وقد اختلف القائلون بأن مجرد النهي عن الشيء لا يدل على فساده في الحد الفاصل بين ما يفسد من المنهي عنه وبين مالا يفسد، وإنما ألجأهم إلى صرف حد للفصل بينهما لاتفاقهم على أن من المنهي عنه ما يفسد ومنه مالا يفسد. والذي يجب أن يعتمد عليه في ذلك أن تغير حال المنهي عنه. فإن كان وقوعه مصادفًا للنهي مخلًا لجميع شروطه الشرعية أو ببعضها التي جعلت شرطًا في صحة الفعل وأجزائه إن كان عبادة، أو في صحته ونفوذه إن كان عقدًا أو تمليكًا وجب القضاء بفساده وإن لم تؤثر مصادفته للنهي عنه في شيء من شروطه الشرعية كان ماضيًا نافذًا صحيحًا. ومن هذه الشروط ما يتعلق بالفاعل المأمور به بأن يكون قد وجب عليه في آداء العبادة شرطًا أو شرطًا يكون/ ص 314 وقوع الفعل مع النهي عنه مانعًا من حصولها، نحو ما يقوله بعض الفقهاء والمتكلمين في النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة. وقولهم: إن وقوعها في دارٍ هذه حالها مانع من صحة التقرب ومؤدي بها فرضًا، لأنه قد أخذ على المكلف اعتقاد أداء الواجب بها. والنهي عنها يمنع من اعتقاد كونها قربة مع العلم بأنها معصية. وسنقول في هذا من بعد قولًا يدل على فساد قولهم في حم الصلاة خاصة. وإن كان المنهي عنه عقدًا له

شروط تتعلق بالعاقد بأن يكون مالكًا للبيع غير غاصب ولا محجور عليه، ولا مستحق عليه ما في يده، ملكه بدينٍ أو جناية أو غير ذلك. أو أن يكون وليًا يملك العقد على وليته وأمته ومولاته. وربما كان الشرط متعلقًا بالمعقود عليه، مثل أن يكون خمرًا أو خنزيرًا أو ما لا يصلح تملكه والانتفاع به أو لا يتمكن من قبضه والوصول إليه من نحو العقد من آبقٍ وطائر وأمثال ذلك، ونحو أن تكون المنكوحة أمًا أو أختًا أو بعض ذوات المحارم أو مشركة غير كتباية أو معتدة. فإذا عقد على من هذه سبيله كان عقدًا منهيًا عنه. وكان النهي عنه قد تضمن فقد شرطه الشرعي أو بعض شروطه. وربما كان ذلك الشرط متعلقًا بالمتباع منه، نحو أن يكون ممن لا تجوز مبايعته بأن يكون طفلًا أو مجنونًا أو محجورًا عليه أو عبدًا غير مأذون له في البيع. وربما كان الشرط متعلقًا بالثمن، نحو كونه مجهولًا، ومما يتعذر قبضه وتسليمه. هذه جملة الشروط التي يكون الإخلال بها وبعضها مفسدًا للعقد، فيجب أن يتأمل حامل المنهي، فإن كانت مصادفته للمنهي عنه تخل بشروطه الشرعية أو بعضها فسد لكون الفعل غير مستكمل شروط صحته وجوازه. وإن لم تخل مصادفته للمنهي عنه بشروطه ولا بشيء منها كان قاضيًا محتجًا. هذا هو الذي يجب الاعتماد عليه في الفصل بين ما يفسد ومالا يفسد، ولأجله قلنا: إن الصلاة في الدار المغصوبة قاضية صحيحة، وإن كانت معصية منهيًا عنها، لأن

كونها معصية لا يخل بشيء من شروطها الشرعية. ط وسنتكلم على من قال من القدرية/ ص 315 وغيرهم أنها تقع مخلًا فيها بنية التقرب والوجوب لكونها منهيًا عنها، ولأجله - أيضًا - قلنا: إن عقد البيع والنكاح وقت النداء والخطبة ماضٍ صحيح، وإن كان عصيانًا قبيحًا وتركا للواجب، لأنه غير مخل بشروط البيع الشرعية، ولا بشيء منها، لأنه بيع مالك يجوز بيعه لمشتهٍ تصح مبايعته بثمن معلوم وحصول الافتراق بالأبدان والأقوال إلى غير ذلك من الشروط، وكونه معصية قبيحًا لم يُخل بشيء من شروط البيع من حيث صحته، فيجب تنزيل الأمر في ذلك على ما أومأنا إليه في هذا الباب. فصل: وقد زعم كثير ممن تكلم في هذا الباب أن الفرق بين ما يفسد من المنهي عنه، وبين ما لا يفسد أن الذي يفسد من ذلك كل فعل محرم يتوصل به إلى استباحة محرم قد جعل الشرع أصله على التحريم، وممن قال هذا الشافعي رحمه الله وكثير من أتباعه. قال: وما ليس هذه سبيله من المنهي عنه فإنه لا يفسد، وهذا من قول الشافعي يدل على أنه كان لا يعتقد أن ظاهر النهي عن الشيء يدل على فساده، لأنه لو كان ظاهره وموضوعه يدل على ذلك ويوجبه لم يفرق الحال عنده ولم يحتج في دلالته على ذلك إلى أمرٍ يقارن كونه نهيًا. فإن قال قائل: فخبرونا عما فصل به بين ما يفسد من النهي عنه وما لا يفسد هل هو صحيح عندكم أم لا؟

قيل له: لا، بل يجب أن يعتبر المحرم الذي يتوصل به إلى استباحة محرم هل يؤثر في شروطه الاستباحة له أم لا؟ فإن أثر في شروطه أو بعضها بطل وفسد لكونه مخلًا بذلك، وإن لم يخل بالشروط مع كونه محرمًا به إلى استباحة محرم صح ونفذ. ولهذا صح البيع والنكاح الواقعان وقت الخطبة، وتضيق فرض الصلاة وإن كانا تركا للصلاة المفروضة وكانا قبيحين ومعصيتين، فهذان فعلان محرمان يتوصل بهما إلى استباحة مالٍ وفرجٍ أصلهما على التحريم والحظر في حكم الشرع وإن كان ماضيين. وكذلك سبيل نكاح الشغار في أنه محرم في الشرع وإن كان عند قوم من الفقهاء إنه صحيح وإن توصل به إلى استباحة فرج/ ص 316 محرم ممنوع لأنهم زعموا إنما يؤثر في الصداق. فيكون صداقًا وعوضًا لا تملك الانتفاع به المعقود عليها. قالوا: ولو أن تركه الصداق جُملةً لم يمنع عدم ذكره وتسميته من صحة العقد. وكذلك إذا ذُكر شيء لا يصح تملكه والانتفاع به، نحو جعل البضع مهرًا على البضع، وجعل المهر خمرًا أو خنزيرًا، وأمثال ذلك، لأن فساد المنهي - زعموا - ليس بأكثر من عدم ذكره. وليس القصد هذه المسألة. وإنما ضربنا بذلك مثلًا، فوجب أن يكون الاعتماد في الفرق بينهما على ما قلناه وفصلنا به.

فصل: وقد فصل بعض المتكلمين في هذا الباب بين ما يفسد من المنهي عنه، وما لا يفسد. فإن قالوا: الذي يفسد من ذلك ما كان النهي عنه (ليس) يخص الفعل ويرجع إليه، وأما ما عدا ذلك فإنه لا يفسد، وهذا - أيضًا - باطل، لأنه ليس بصحيح، لأنه متى حصل الإخلال بشروط الفعل الشرعي أو بعضها فسد على ما بيناه سواء كان الشيء يرجع إلى الفعل ويخصه أو إلى شيء سواه.

باب القول في الصلاة في الدار المغصوبة، وهل هي محرمة أم لا؟

باب القول في الصلاة في الدار المغصوبة، وهل هي محرمة أم لا؟ والذي عندنا في ذلك أن أجزاءها إجماع من سلف الأمة. ثم حدث بعد ذلك قول لا يعتد به سنذكره من بعد. وأول فصول القول في هذه المسألة القول في أنها من مسائل الاجتهاد التي يسوغ الخلاف فيها، ويقال: إن كل مجتهد فيها مصيب أو مخطئ الحق فيها معذور والإثم عنه موضوع، وأن التقليد فيها سائغ أم لا؟. فبعض الناس يقول: إنها مسألة اجتهاد، وأهل التحصيل لعلم هذا الباب ممن قال تجزئ. أو قال لا تجزئ منكرون كونها مسألة اجتهاد، وبهذا نقول. والدليل على ذلك أن كل من قالك إنها مجزئة صحيحة يقول إنها مسألة إجماع من السلف وأن مخالفة الإجماع خطأ مقطوع به على الله سبحانه لا يجوز القول به والقائلون بأنها لا تجزئ يقولون إنها ليست مسألة اجتهاد

لقولهم بأن الواجب على المكلف المتعبد بالصلاة أن ينويها فرضًا ومتقربًا بها إلى الله تعالى ومؤدي بفعلها ما لزمه ووجب عليه. قالوا: والعلم بأنها معصية علم متفق عليه بين أهل الشرع لا خلاف فيه. وذلك يمنع من وجود الاعتقاد لكونها واجبة/ ص 317 وقربة مؤدى بها الفريضة وينافي اعتقاد ذلك، فلا شبهة إذًا في أنها غير مجزئة ولا صحيحة، فالقائل بصحتها قائل بباطل مقطوع على فساده، وتميز له القائل بخلاف موجب النصوص وقضايا العقول، فوجب لذلك أن لا تكون من مسائل الاجتهاد على قول الفريقين. فإن قال قائل: فحجتكم أنتم على أنها ليست مسألة اجتهاد دعواكم الاجتماع على إجزائها فلم قلتم ذلك وأنها إجماع مع شهرة الخلاف في ذلك؟ يقال له: نحن لم ندع الإجماع حاصلًا في زمن الخلاف في ذلك. وإنما ادعينا إجماعًا متقدمًا. والخلاف بعد تقدمه واستقراره باطل لا يعتد به. فإن قيل: وما الدليل على ثبوت هذا الإجماع الذي تدعونه؟ قيل لهم: الدليل على ذلك أنه لا يحفظ عن أحدٍ من الصحابة ولا التابعين ومن بعدهم خلاف في ذلك إلى أن حدث المعروف بأبي شمر المرجاء واتبعه على ذلك الجبائي وابنه وقوم من شيعتيهما. وكان السلف من شيوخ المعتزلة مع باقي

الأئمة من السلف والخلف على القول بإجزائها. ولما ذكر الجبائي خلاف الأمة في هذه المسألة سأل نفسه فقال: لو قال قائل: إن القول بأنها صلاة مجزئة إجماع من الأمة. قيل كيف يكون ذلك إجماعًا وأبو شمر يخالف في ذلك؟ فلم يجد أحدًا أسند إليه هذا الخلاف إلا أبا شمر، ولا أمكنه أن يضيف ذلك إلى أحد ممن قبله من أهل السابقة أو الخمول. ولو وجد أحدًا سواه لتأنس بذكره، فبان بذلك أنه إجماع قبل خلق أبي شمر، فالإجماع حجة لا يعتد بخلافٍ بعده لو اتفق لعظماء من بعدهم أو القادة، فكيف لأبي شمر ونوابت الناشئة من القدرية ومن تبعهم من أهل الظاهر. فإن قال قائل: فأنتم - أيضًا - لا تقدرون على رواية عن سائر الأمة بإجزائها. قيل له: الذي يرجع إليه في تثبيت ذلك أقوى من روايةٍ الإجماع، وهو - أيضًا - وكل أحد يعلم بأن سلف الأمة وخلفها كانوا يعلمون قطعًا أن المصلي قد يصلي في الدار المغصوبة كما يصلي في غير المغصوبة، وأنه لا يكاد أن يسلم جميع المكلفين للصلاة في شرق الأرض وغربها من ذلك حتى لا يصلي أحد

منهم إلا في ملكه أو مأذون له في الصلاة فيه. ولو كان فيهم قائلًا بأنها لا تجزئ لم يجز في مستقر العادة أن لا يظهر خلافه. وقد يشتهر عنه. ولا أن لا يقول لمن يراه/ ص 318 يصلي في دار مغصوبة لن يبلغه ذلك عنه صلاتك هذه باطلة غير مجزئة، ولا أن لا يتجاوزوا هذه المسألة مع كثرة وقوعها والبلوى بها فلما لم يظهر بينهم تشاجر في ذلك، ولا خلاف عن أحد، سيما والقائلون بأنها لا تجزئ يزعمون أن القائل بإجزائها قد صار إلى أن المعصية فريضة واجبة. ومثل هذا مما يجب رده وإنكاره ولا يجوز الإمساك عنه في مستقر العادة. ثبت بهذه الجملة أن القول بإجزائها إجماع من السلف. وخلاف الإجماع باطل مقطوع بفساده، فرج لذلك أن يكون الخلاف في هذه المسألة من مسائل الاجتهاد، ووجب بما ذكرته كون الصلاة في الدار المغصوبة محرمة لموضع الإجماع على ذلك. فصل: فإن قال قائل: قد قلتم فيما سلف أن النهي عن الفعل إذا أخل ببعض شروطه الشرعية التي لا يصح الفرض إلا به وجب فساده. وهذا موجود في الصلاة في الغصب لأجل اتفاق الأمة على أنه قد أخذ على المكلف أن ينوي الصلاة فرضًا واجبًا، ويقصد التقرب بفعلها. وقد علم أنها معصية ومحال وجود النية لأداء الفريضة بها مع العلم بأنها معصية. فصار كونها غصبًا يخل بهذا الشرط الذي لا تتم إلا به، ووجب القضاء بفسادها. يقال إن (من) صحح صلاة المصلي مع مشاهدته نفسًا تحترق أو

تغرق. وهو متمكن من خلاصها من ذلك، ومن صحح صلاة المصلي في مكان فعلت على ظنه تلفه وهلاكه فيه ظلمًا، وهو قادر على الصلاة في غيره يجب أن تكون الصلاة في هذه الأحوال فاسدة، لأنها صلاة محرمة ومنهي عنها، وإلا انتقض ذلك. ويقال لهم: يجب على اعتلالكم أن تكون صلاة المديون والمودع، وكل من عليه حق يجب عليه الخروج منه ويمكنه ذلك فاسدة، لأنها صلاة قد ترك بها قضاء الدين ورد الوديعة، واختيار ترك الواجب عصيان. فإن مروا على هذا فحسن ركوعهم، ولا نعرفه قولًا لأحد منهم. وإن مروا على قياس قولهم في ذلك فارقوا الإجماع، لأنه ليس بقول لأحد من السلف/ص 319 والذي يجب الاعتماد عليه في إبطال استدلالهم على تعذر فعل نية التقرب ووجوب الصلاة في الدار المغصوبة أن يقال لهم: إنه قد وجب على المصلي ولزمه أن ينوي القربة والوجوب، وأ، هـ إذا فعل صلاة في دار مغصوبة يعلم أن الكون معصية لم تصح منه نية الوجوب، وكان الذي يفعله غير المأمور به. ولكن لم قلتم أن كونه معصية، وظاهر النهي يدل على أنه غير مجزئ، ولا واقع موقع الصحيح؟ فإن قالوا: لأنه غير الذي أمر به، فيجب بقاء المأمور به في ذمته حتى يفعله على وجه ما أمر به. يقال لهم: ليس في نفس هذا وقع الخلاف. فلم قلتم إن وقوع الشيء غير مأمور به وظاهر النهي عنه يقتضي بقاء الفرض في ذمته وكونه غير مجزئ.

وما أنكرتم أنه غير المأمور، ومما لم يصح فيه نية الوجوب. وهو مع ذلك ثابت في إسقاط الفرض مناب المأمور به لو وقع، فلا يجدون في ذلك متعلقًا. فإن قالوا: يحتاج كونه واقعًا موقع الصحيح إلى دليل. قيل: أجل، وما نُحله محل الصحيح إلا بدليل، وليس من هذا اختلفنا، وإنما خالفناكم في قولكم نفس كونه معصية، غير المأمور به فظاهر النهي عنه يقتضي كونه غير مجزيء. وليس الأمر كذلك، فلا يقتضي - أيضًا - كونه كذلك كونه صحيحًا مجزئًا، بل يحتاج في كونه كذلك إلى دليل، ويحتاج - أيضًا - في كونه غير مجزئ إلى دليل. فدلوا على ما ادعيتم. ثم يقال لهم: يدل على إجزائها مع كونها معصية غير المأمور به إجماع السلف الذي وصفناه على كونها صحيحة مجزئة وإن كانت عالمة بأنها معصية قبيحة غير المأمور به. فلو كان من حق ما ينوب مناب الفرض أن يكون طاعة مأمورًا به لم يجمعوا على إجزاء المعصية مع كونها واقعة موقع الصحيح. فإن قالوا: فقد أجمعت الأمة - أيضًا - على أن غير المأمور به لا يقع موقعه. يقال لهم: هذه غفلة. متى أجمعت الأمة على ذلك، وقد بينا أنها قد أجمعت قبل حدوث أبي شمر على إجزاء هذه الصلاة مع العلم بأنها معصية، غير المأمور به/ ص 320 وإذا كان ذلك كذلك سقط ما اعتلوا به.

فإن قالوا: فيجب أن يكون (في) نية التقرب بالصلاة شرطاً في صحتها. قيل لهم: ليس ذلك كذلك، بل نية التقرب بها مجمع على كونها شرطاً في ملك الإنسان، وفي المساجد وما جرى مجراها، لأن الأمة متفقة على أن نية التقرب شرط في صحة الصلاة في هذه المواضع، وما أجمعوا على أنها شرط في صحة الصلاة في الدار المغصوبة، فنحن لذلك نجعلها شرطاً من حيث أجمعوا على أنها شرط، ولا نقول به في الموضع المختلف فيه وجواب آخر: وهو أن ما أدعوه من إجماع الأمة على أن من شرط صحة الصلاة وإجزائها أن يفعل بنية الوجوب والتقرب بفعلها ليس على ما قالوه، لأن كثيراً من الأمة يقول إن المأخوذ على المصلي فعل نية الصلاة صبحاً أو ظهراً وإن لم ينوها واجبة ولم يخطر الوجوب بباله. فإذا نواها عندهم أجزأت وصحت وإن لم ينوها واجبة. فإذا كان ذلك كذلك بطلت دعواهم هذه، وإن قالوا إذا نواها ظهراً أو عصراً كان في ضمن ذلك نية الوجوب، لأنه يجب أن ينويها ظهراً واجبة. يقال له: ليس الأمر على ما قلته، وإنما عليه أن ينويها ظهراً فقط.

فإن قالوا: فلابد على كل وجه من أن ينويها طاعة مأموراً بها. قيل لهم: ليس الأمر كذلك، لأننا قد أوضحنا حصول إجماع سلف الأمة على إجزاء هذه الصلاة، وإن لم يصح فيها على قولكم نية الوجوب والطاعة والتقرب مع العلم بأنها معصية حرام، وإذا كان ذلك كذلك كان الإجماع السابق على ما قلناه، فبطل لدعواكم هذه. فصل: فإن قيل: فأين تجب عليه نية الوجوب وتكون شرطاً لصحة الفرض؟ قيل: فيما يبتدئ به من الصلاة في ملكه، والمأذون له في الصلاة، العالم بأن كون بعض أركان الصلاة معصية يختل التقرب بجملتها، لأنه إنما تصح نية الوجوب في هذه الصلاة. وفيمن هذه حاله. وأما إذا صلى في الغصب من الأرض ومالا يصح له فريضة فيه، ووقعت ممن لا يعلم أنه/ ص 321 لا يصح التقرب ونية الوجوب بجملة فعل جزء حرام لم تكن نية الوجوب شرطاً لوقوعها فكانت معصية غير المأمور بها، وغير متأتٍ فيها نية الوجوب. وكانت مع ذلك واقعة موقع الفرض المأمور به ومسقطة له. وإذا كان ذلك سقط ما بنوا عليه. ومما يبين صحة هذا القول إنه لو شرع من لم يبلغ الحلم في صلاة الظهر وقد نواها ظهراً، ثم بلغ في الركعة الرابعة لكانت صلاته عند أكثر الأمة ماضية صحيحة، ولذلك لو صلى أول الوقت، وقد نواها ظهراً، ثم بلغ في وسطه وآخره لكانت عند كثير من الفقهاء ماضية مجزئة، وإن لم يصح ممن لم يبلغ نية الوجوب فيها والتقرب بفعلها للعلم بأنه غير مكلف ولا مفروض عليه شيء.

وإنما أجزأت عنه لأنه نواها ظهراً. فبان أنه (ليس) من شرط صحتها نية الوجوب، وإنما يكفي أن ينويها ظهراً أو عصراً وبطل ما أدعوه. وجواب آخر يبطل ما اعتمدوا عليه من ذلك. وهو اتفاق الكل على أن الأكوان في الدار المغصوبة ليست هي جميع أجزاء الصلاة وجملتها، وإنما هي ركن من أركان الصلاة. وفي الناس من يقول الصلاة هي التكبير والقراءة، والاسم لها دون القيام، ولا أقل من أن تكون الصلاة جملة الأركان. لأنه لو قام وركع وسجد بعد تكبير وتوجه وقراءة وتشهد، وكل ما هو من أركانها سوى الأكوان لم يجزئه. ولو فعل التكبير والقراءة والذكر الواجب في الصلاة ولم يفعل القيام والركوع والسجود لم يكن مصلياً. فوجب أن تكون الصلاة جملة أجناس أفعال مختلفة، منها الأكوان المتعلقة، نحو صاحب الدار، ومنها وجوب تكبير وقراءة وتشهد وأشياء من أفعال القلوب ليست بغصب لصاحب الدار، ولا منعٍ له من حق، ولا تعلق له في حظر شيء منها والمنع منه. وإذا كان ذلك كذلك صحت نية التقرب والوجوب بفعل جملة الصلاة، وإن كان منها جزء لا يصح التقرب به لو انفرد عن باقيها، وليست نية الوجوب مقصورة على الأكوان دون باقي الأفعال. ولو أفرد الأكوان والقيام والركوع والسجود والجلوس بنية الوجوب دون باقي أبعاض الصلاة لم يجز دون أن ينوي جملتها فريضة لله سبحانه. وإذ كان ذلك كذلك صح وجود نية وجوب جميعها. وإن / ص 322 كان فيها جزء لا يصح إفراده بنية الوجوب، والنية غير مقصورة عليه. وأكثر الناس لا يعلم أنه لا يصح التقرب بجملة فعل فيه جزء غير مأمور به، ولا يخطر هذا بباله، بل يتقرب بجملة الصلاة وينويها، فتصح لذلك منه نية الوجوب. هذا على أن العالم منا بأن الأكوان في الدار من جملة الصلاة معصية يجد في نفسه صحة فعل نية وجوب الصلاة،

وإن كان فيها جزء حرام لا يقصد بنية الفرض. وقولهم: إنه لا يتأتى من عالم أو عامي نية وجوب الصلاة مع علمه بوقوعها في الغصب باطل. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه من كل وجه صحة الصلاة في الدار المغصوبة. فصل: ويقال لمن اعتل بهذه العلة من المعتزلة، كيف يسوغ للمرء إدعاء إجماع الأمة على أن من شرط الصلاة المفروضة نية الوجوب، وإنها إن عريت منها فسدت ولم تجز. وأنتم خاصة تزعمون أنه لا يصح من أحدٍ تلبس بفعل تعبد به أن ينويه واجباً، لأنه لا يعلم أنه متعبد به لتجويزه أن يعجز ويخترم قبل امتثاله، وكيف يصح منه أن ينويه، وهو لا يعلم وجوبه عليه، ويجوز أن يكون الله سبحانه غير متعبد به، وإنما لا نأمن عندكم أن يكون واجباً. وهو لو نوى أنه يفعل صلاة لا نأمن أن تكون واجبة لم تجزئه حتى ينويها واجبة، ومحال على أصولكم صحة نية وجوبها قطعاً مع تجويز كونها غير واجبة واخترام المكلف قبل امتثالها. وإذا كان ذلك لم يصح على أصولكم خاصة أن يقال إن من شرط صحة الفرض أن ينويه فرضاً واجباً، وبطل ما أصلتم على أوضاعكم بطلانا بينا. وهذه الطرق هي التي يصح إبطال اعتلال القوم بها دون ما يظنه أكثر الفقهاء ممن لم يحصل علم هذا الباب. فإن منهم من توصل من عند نفس إلى القدح في هذه الدلالة بأن قال: إنما لم تبطل الصلاة في الدار المغصوبة، لأجل أن الصلاة منفصلة من الغصب، وهي جنس غيره، لأن الغصب- زعم- متناول لنفس الدار وذوات أبعاضها وأجزائها، والصلاة فعل المصلي وهي أعراض، ومقدورة له وموجودة بذاته فهي لذلك غير المغصوب عليه. فوجب أن لا تكون الصلاة من الغصب في شيء/ ص 323 وأن تقع مجزئة وإن فعلت في دار مغصوبة.

وهذا بعيد ممن توهمه من قبل أن الغصب إنما غصب ملك صاحب الدار وحقه فيها، وهو إنما يملك التصرف فيها وفعل الأكوان على أرضها وسقوفها وهوائها المسامت لها، ولا يملك نفس أجزائها. وكذلك قولنا إنه يملك العبد والأمة، ويملك بضع زوجته والمبيع بعقد البيع والنكاح إنما نعني به أنه يملك الانتفاع والتصرف في ذلك على حدٍ ورسمٍ له دون السرف والتجاوز في. فأما ذوات الأجسام فملك لله سبحانه دون سائر خلقه. والقدرية تزعم أن ذوات الأجسام الحادثة والباقية ليست بملك لله، ولا لأحدٍ من خلقه من حيث كانت موجودة وكأن الملك للشيء بمعنى القدرة عليه فالموجود يستحيل عندهم كونه مقدوراً لله سبحانه أو لأحدٍ من خلقه. ولما كان القديم مالكاً للعالم قبل خلقه وفي حال عدمه. لأنه مقدور في تلك الحال. فإذا حدثت وبقي خرج في الحالتين عن ملكه وملك كل أحدٍ وإن كنا قد بينا فساد هذا القول في غير موضع. وإنما ذكرنا ذلك لنعرف بصاحب الدار إنما يملك التصرف فيها وفعل الأكوان في جهاتها ووضع متاعه ورحله فيها. وإذا كان ذلك كذلك وكانت الصلاة في الدار المغصوبة من جملتها كون المصلي فيها وقيامه وركوعه وسجوده على صفحة قرارها وفي هوائها وجب أن تكون أكوانه غصباً لصاحبها، ومنعاً له من أن يكون بحيث هو، ومن ترك متاعه في مكان الغاصب المصلي فيها ولو لم يكن عاصياً بقعوده في تلك الأماكن وقيامه وركوعه وسجوده

وجلوسه. وإن كان مانعاً به لصاحبها من التصرف بحيث هو أوجب لو ترك الغاصب في ذلك المكان عدلاً وملأ الدار بالأعدال أن لا يكون غاصباً، وإن منعه بما وضعه فيها من الانتفاع بها والتصرف فيها. وهذا ما لا يقوله أحد، وثبت أن الغصب هو غصب منافع الدار، ومنع مالكها من الأكوان والتصرف فيها، فكل ما منع صاحب الدار من التصرف في مكان من أرضها أو ما سامت أرضها من هوائها فإنه غصب له ومنع من حقه. ويبين ذلك أن الإنسان لو مد سطحاً وقراراً لعلوٍ يسامت داراً لغيره وغرضه ليس تملك له، وجعل عماد ذلك السقف وأساطينه في ملك نفسه لوجب باتفاق كونه/ ص 324 ظالماً وغاصباً بذلك ومانعاً لصاحبها من التصرف في هوائها وحدها المسامت لساحتها. وكل هذا يوضح أن الغصب إنما هو غصب التصرف والمنافع التي يملكها رب الدار دون ذوات الأجسام، فبطل ما ظنه المتعلق بذلك. فصل: وقد قال بعضهم: إنما صحت الصلاة في الدار المغصوبة، لأنه لابد للمصلي من قرار يقف عليه ويركع ويسجد فجازت صلاته. وإن كان مستقراً فيها على ملك غيره. وهذا- أيضاً- بعد وغفلة من المتعلق به، لأنه وإن احتاج إلى قرار فقد أمر بأن يجعل قراره في ملكه أو مأذون له في الاستقرار عليه. فأما أن يجعل قراره في أملاك الغير فمحرم بإجماع، كما أنه يحتاج إلى طهارة وستر عورة.

وكذلك لا يحل له غصب ثوب غيره وما به يستر عورته، وسيما إذا كان له غنى ومندوحة عن ذلك فبطل ما قالوه. فصل: وقد حاول- أيضاً- بعض الفقهاء الجواب عما قالوه، والاستدلال على صحة الصلاة في الدار المغصوبة بأن قال: إن الصلاة في الدار المغصوبة طاعة لله عز وجل، وهي نعم منفصلة من الكون في الدار وغير له. قال: بدلالة أنه قد يفعل الكون في الدار وإن لم يكن مصلياً فيها، ويكون في الدار المغصوبة ويفعل الكون فيها من لا يكون مصلياً فيها بأن يصلي في غيرها. قال: فثبت أن الكون في الدار غير الصلاة فيها. وقد كان من حق هذا الكلام أن لا يتشاغل بذكره والنقض له الظهور فساده وخطأ قائله عند جميع محصلي علم هذا الباب من سائر المتكلمين. لأنه وإن جاز أن يكون فيها ولا يكون مصلياً بأن يكون مصلياً في غيرها، فغنه لا يجوز أن يكون مصلياً إلا بفعل الكون فيها. وإن جاز أن يفعل الكون فيها من لا يكون مصلياً له. وهذا بمثابة من قال إن القعود في الدار المغصوبة وعلى صفحتها ليس هو الكون فيها، لأنه قد يكون فيها من ليس بقاعد بأن يكون قائماً أو مضطجعاً أو ماشياً، وقد يكون فيها من يفعل قعوداً في غيرها، فيجب أن يكون الجلوس في الدار غير الكون فيها. وهذا بعد عظيم من متوهمه. وكذلك فلو قال قائل: الكون ليس بحركة، لأنه قد يكون الكائن غير متحرك بأن يكون ساكناً بسكون أيضاً، لأنه قد يكون/ ص 325 كائناً غير ساكن بأن يكون متحركاً، فيجب أن تكون الأكوان غير الحركة والسكون، وهو أيضاً بمصابة من قال: إن الكون ليس هو السواد والبياض والحمرة والألوان الخمسة، لأنه قد يكون المتلون غير أسود بأن يكون أبيض، وبمثابة من قال: إن الصلاة ليست بطاعة، ولا قربة لأنه قد يكون مطيعاً متقرباً من ليس بمصلٍ، وقد يصلي من

لا تكون صلاته قربة إلى الله سبحانه، فيجب أن تكون الطاعة والقربة بالصلاة غير الصلاة. وكل هذا بعد ممن توهمه، وذهاب عن التحصيل. ويقال لهم: إذا قلتم إن صلاة المصلي في الدار غير أكوانه فيها، فاذكروا لنا ما الأكوان فيها، وما هو القيام والركوع والسجود الذي هو غير الكون، فلا يمكن عاقل أن يذكر في ذلك شيئاً يكون شبهة في هذا الباب. فصل: ولو كان الكون في الدار القيام والركوع والسجود والجلوس فيها، ومخالف لجنس هذه الأفعال لكانت لابد أن تكون مثل الأكوان فيها أو ضدها أو خلافها. فلو كانت مثلها لاستغني بالقيام والجلوس فيها عن وجود كون له فيها، لأنهما من جنس الكون. ولو كانا خلافين ضدين لاستحال أن يكون الكائن في الدار مصلياً فيها، لأن ذلك يوجب اجتماع الأضداد، وذلك محال. ولو كانا خلافين لصح وجود الصلاة في الدار مع ضد الكون فيها، الذي هو كون في غيرها، وأن يوجد الكون فيها مع ضد القيام والجلوس فيها. وضد ذلك كون في غيرها. وذلك يوجب أن يوجد بالمصلي كونين في مكانين معاً. وهذا بعد ممن صار إليه، فثبت بذلك بطلان القول. وفي الذي اعتمدنا عليه في إبطال اعتلالهم كفاية وغنى عن هذه التلفيقات الباطلة، وبالله التوفيق. ويليه المجلد الثالث ويبدأ بالقول في العموم والخصوص.

التقريب والإرشاد (الصغير) للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ قدم له وحققه وعلق عليه الدكتور عبد الحميد بن علي أبو زيد الجزء الثالث مؤسسة الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم قال بدر الدين الزركشي في مقدمة البحر المحيط: " وكتاب التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر هو أجل كتاب صنف في هذا العلم طلقا" وقال أيضا: (حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب, وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكا الإشارات وبينا الإجمال, ورفعا الإشكال واقتفي الناس بآثارهم, وساروا على لأحب نارهم, فحرروا وقرروا وصوروا, فجزاهم الله خير الجزاء)

التقريب والإرشاد الصغير 3

بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الثانية 1418 هـ / 1998 م طبعة جديدة مُصححة ومُنقحة حقوق الطبع محفوظة (1993 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يُسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

باب القول في العموم والخصوص

باب القول في العموم والخصوص إن قال قائل: خبرونا ما العام وما الخاص وما حدهما؟ قيل له أما العام فهو " القول المشتمل على شيئين فصاعدا": والدليل على ذلك أن العموم في اللغة هو الشمول. ولذلك يقال عممت الجماعة بالبر, وعممت زيدا وعمرا بالعدل والمدح, وعممت البلدة والعشيرة. فكل قول اشتمل على شيئين فصاعدا فإنه عام فيما اشتمل عليه. ويجب إذا كان ذلك كذلك أن يكون العام ما اشتمل -[326]- عليه شيئين. وأوسعه وأعمه ما يتناول جميع الجنس على الاستيعاب والاستغراق, وأن يكون ما بينهما عام من وجه وخاص من وجه. فيكون عاما من حيث اشتمل على ما يتناوله من الأعيان

والأزمان، وخاصة من حيث لم يتناول مما يقع عليه الاسم أكثر من ذلك القدر. فأما الخاص: فمعنى وصفه بذلك أنه قول على شيء أو أشياء مما يتناوله الاسم في وضع اللغة, أو مما يصح وضعه له وإجراؤه عليه, أو بعض ما يكون الاسم متناولا له أو لغيره فلذلك كان قولهم اضرب زيدا خاضا في زيد دون غيره. قولهم اضرب الزيدين خاصا فيهما دون العمرين وغيرهما من الزيدين. وقولهم أذل المشركين خاصا لوقوعه عليهم دون المؤمنين. وقد يكون الخاص من الخطاب لتناوله بعض من يجري عليه الاسم, ويكون خاصا لتناوله ما يقع عليه الاسم دون غيره ممن يكون يصح وقوعه في أصل الوضع عليه. فقولهم اضرب الرجل واضرب زيدا خاص في بعض الزيدين وبعض الرجال, وكذلك الرجلين والثلاث والعشرة, وهو لذلك خصوص في بعض من يصح أن يجري الاسم في أصل الوضع عليه, وبعض من يصلح تناول الاسم له ولغيره بعد التواضع عليه. وقولهم اقتل المشركين وعظم المؤمنين خاص في المؤمنين والمشركين لتناوله لفريق دون فريق ممن له ولغيره اسم يعمهما: فهو قوله العلماء ذوو الألباب والناس وما جرى مجراه, أو لبعض ما كان يصح وضع الاسم له وجريانه عليه, ولا يمكن أن يذكر في حد كون الخطاب عامل وخاصا شيئا سوى ما ذكرناه من جميع صفات الكلام التي يشركه فيها مالا يوصف بأنه عام ولا خاص. فإن قال قائل: أفيجوز على هذا الأصل أن يقال إن العام خاص وأن الخاص عام, وأن المعموم مخصوص؟. ق يل له: لا يصح أن يقال ذلك إلا على الأصل الذي فسرناه من القول العام الشامل لأمور خاص فيها على تأويل أنه متناول لها وحدها دون ما عداها, فيكون

عاماً فيما تناوله واشتمل عليه -[327]- وخاصا من حيث لم يتناوله غيره مما يلحقه الاسم, أو مما كان يجوز في أصل الوضع إجراء الاسم عليه, أو ما يصلح أن يكون الاسم متناولا له ولغيره, فإن أريد بوصف القول قائم خاص, وأنه معموم مخصوص هذا المعنى, فذلك صحيح, فأما القول بذلك على ما يذهب إليه مثبتو العموم الذي هو استغراق الجنس, فإنه ليس بصحيح على التحقيق, ولا مستمر إلا على أصل أهل الخصوص, ولا على مذهب القائلين بالوقف, ولا على مذهب أصحاب العموم, وذلك أن أصحاب الخصوص يزعمون أن قولنا المشركون ومشركون ونحوه من الجموع المعرفة والمنكرة موضوعة للخصوص الذي هو أقل الجمع، وليس بمفيد للعموم والاستغراق, فكيف يصفونه بأنه عموم وأنه مخصوص، وهو ليس بعموم. وأما أصحاب الوقف فأنهم يقولون: إنه لفظ مشترك متردد بين العموم والخصوص وصالح لهما, فإذا استعمل في أحدهما بقرينته كان حقيقة فيه, وليس هو في الأصل موضوع لأحدهما، فكيف يقولون إنه عموم مخصوص؟. وأما القائلون بأنه موضوع في الأصل لاستغراق الجنس, فإذا أريد به البعض وقصر إليه به فصورته بحالها لم تتغير, ولا خرجت عن أن تكون موضوعة في الأصل للاستغراق, وإنما تستعمل في البعض بقرينته وقصد المتكلم بها إلى بعض ما وضعت له لا تص موضوعا لذلك البعض, وهو إذا استعملها فيه كان متجوزا باستعمالها في غير ما وضعت له, فيجب لذلك أن يكون المراد بقولهم إنه

الخاص الذي أريد به العام

عموم مخصوص أنه مستعمل في بعض ما وضع له واستعماله في ذلك لا يصيره موضوعا له, فيجب أن يكون متجوزا به, ويجب أن يكون قولنا إنه مخصوص أن المتكلم به قصد الخصوص الذي ليس بموضوع له, وذلك مجاز من الاستعمال, ولا يجوز أن يصير خصوصا بقصد المتكلم إلى ذلك, لأن ذلك فيه أن يكون هموما بحق الوضع موجب الاسم، وأن يكون خصوصا بقصد المتكلم به إلى بعض ما وضع له, فيكون عاما خاصا, وذلك باطل، فيجب أن لا يكون معنى هذا الإطلاق أنه لفظ وضع للاستغراق أو ثبت للعموم وقصد به بعض ما وضع له, على أنهم يقولون إن اللفظ إنما يكون عموما إذا عري من جميع قرائن التخصيص, فإذا ورد مقترنا ببعضها فليس هو اللفظ الموضوع للعموم, فكيف يكون عموما مخصوصا؟ وكذلك قولهم خاص أريد به العام إنما يعنون -[328]- أنه لفظ وضع للخصوص وأراد به المتكلم العموم، فهو لذلك مستعمل له في غير ما وضع له، والذي به يصير لفظ الخصوص عموما قصد المتكلم به إلى ذلك, وما به- أيضا- يصير اللفظ المشترك بين العموم والخصوص خاصا أو عاما إنما هو قصد المتكلم به إلى ذلك وإرادته له, ولذلك كل لفظ مشترك بين شيئين أو أشياء إنما يصير أن يقال إنه مصير لذلك إلا القصد والإرادة على ما بيناه دون صيغة القول, ودون حدوثه وكونه مدركا, ودون العلم به والقدرة عليه, وسائر ما هو عليه, وما المتكلم به عليه من الصفات، فثبت بذلك أنه إنما يصير عبارة عن العام أو الخاص بالإرادة والقصد, وبالله التوفيق.

باب القول في امتناع دخول العموم في المعاني والأفعال

باب القول في امتناع دخول العموم في المعاني والأفعال إن قال قائل: قد ثبت بما وصفتم كون القول المشتمل على المسميات عموما فهل يصح العموم في المعاني والأفعال التي ليست بقول؟. قيل له: لا, لأن أهل اللغة قصروا القول" عموم" على القول الذي وصفناه من حيث كانت متناولة لأشياء، ولم يصفوا شيئا غير القول بذلك. ومما يدل على استحالة كون الفعل والحكم عموما وإن جاز أيقال عمهم العطاء والعدل والإحسان والمنع والحرمان أن العطاء لكل معط منهم مختص به ومقصور عليه غير مشترك بينه وبين غيره, وكذلك البذل والمنع وكل فعل أوقع في مختص وفعل به وفعل بغيره مثله.

وكذلك إذا قيل حكم الله في قطع السارق وجلد الزاني حكم عام فإنما ذلك مجاز, لأن حكمه على كل واحد منهم بما حكم به عليه من حد وغيره غير حكمه على الآخر، والمراد بذكر الحكم في هذا الكلام الحد المحكوم به باتفاق. والموجب من حد كل واحد منهم باتفاق غير الموجب على غيره, وغير مشترك بينه وبين غيره، كذلك ما إذا استوفي الحد من واحد منهم لم يكن مستوفي من جميعهم, إذا عصى بترك حد البعض منهم لم يكن ذلك عصيانا في إقامة الحد على الباقين -[329]- وكذلك القول في العبادات الموجبة على كل واحد من المكلفين, وفي أنها غير العبادة الواجبة على غيره. وإنما يصح أن يقال أنه قد وجبت على كل متعبد, ولزم إقامة الحد على كل مجرم بحكم ولفظ عام يشتمل على جماعة من يتناوله الاسم أو فريق منهم, فيوصف بذلك لأنه بنفسه مشتمل على ما اشتمل عليه, فأما أن يكون الواجب على واحدهم هو نفس الواجب على غيره, فذلك محال. فصل: فإن قال قائل: لم أذهب في القول بدخول العموم في المعاني إلى ما قلتم، وإنما عنيت بذلك أن الأفعال إذا اشتركت في أحكام وصفات وصفت بأنه عموم. يقال له: ما تمنع اشتراك الأفعال والصفات المتغايرة في أحكام وحقائق تجمعها, ولذلك قلنا إن جميع الأفعال والصفات مشتركة في حقيقة الوجود. وغير ذلك من الأحكام، غير أن الوجود ليس بمعنى ثابت يكون جامعا لجميعها أو متناولا لها, وإنما وجود كل شيء منها هو ذاته, وذاته ليست بذات غيره, ولا كل شيء منها غيره, ولا ههنا أمر هو وجود قائم يكون جامعا لها أو مشتملا عليها, فبطل هذا الكلام الذي قالوه. وقد اتفق أهل اللغة على أن الأفعال المشتركة في حكم وصفة من الصفات لا

هل يوصف العموم بأنه مخصوص

توصف بأنها عموم, والحكم والوصف الذين هي مشتركة فيه ومستحقة له. وكذلك لا يقال: إن علوم الناس وقدرهم وحركاتهم وصورهم عموم في اشتراك جميعها في الحكم لها بأنها علوم وقدر وحركات, وإنما يقال القول علوم وقدر الذي هو اسم جمع مشتمل على ما أريد به عموم. وكذلك فلا يجوز أن يقال إن الوجود والحدوث والعرضية عموم لاشتراك أشياء في حقيقته. ويدل على هذا- أيضا- ويوضحه اتفاق الكل على أن السابق إلى فهم كل متكلم في اللغة العربية من قول القائل فلان يقول بالعموم، وفلان لا يقول بذلك إنه إنما يثبت قولا ذا صيغة وبنية مختلفا في وصفه وما وضع له, دون غيره من سائر الأفعال والمعاني, ولا يفهم من ذلك أنه يثبت أشياء مشتركة -[330]- في حكم وحقيقة وصفة. وكذلك إذا قيل قد اختلف الناس في العموم لم يعقل منه إلا الاختلاف في حكم اللفظ المدعي وضعه للاستغراق أو البعض أو كونه مشتركا فيهما, وإذا كان ذلك كذلك ثبت أنه لا مدخل للأفعال والأحكام والأمور المشروعة للمكلفين والواجبة على كل واحد منهم في العموم, وأنته مقصور على ضرب من الأقوال مشتمل على ما تحته وما قصد له. فصل آخر يتصل بذلك: فإن قال قائل: فهو يجوز على هذا الأصل القول بأن العموم مخصوص, وأنه خصوص عموم.

يقال له: لا يصح ذلك على قول أصحاب الخصوص, ولا على قول أهل الوقف, ولا على قول مثبتي العموم. فأما أصحاب الخصوص فإنه عندهم موضوع للخصوص. فإذا ورد للخصوص فإنما ورد لما وضع له حقيقة، فكيف يقال إنه عموم، هذا بين الامتناع على قولهم. وأما أصحاب الوقف. فإنهم يقولون إنه يصلح للبعض حقيقة، وللكل حقيقة, فإذا ورد لأحدهما كان له, فإن كان مستغرقا لم يكن مقصورا على البعض ومقصودا به إليه لم يكن مستغرقا, فمحال على هذا أن يكون العام مخصوصا. فأما أصحاب العموم فإنهم يقولون: إن قولنا المشركون والمؤمنون عموم, وإن فائدة وصفه بذلك أنه موضوع في اللغة لاستغراق آحاد من يقع عليه الاسم. فإذا ورد والمراد به البعض لم تتغير بنيته وصورته، ولم يخرج بذلك عن أن يكون لفظا منه بالعموم في أصل الوضع, ولم يصر خاصا بالقصد به إلى بعض من وضع له في الأصل. فيجب إذا كان ذلك كذلك أن يكون وصفه بأنه خاص وخصوص مجازا واتساعا, وعلى وجه التشبيه بالقول الذي وضع في الأصل لذلك القدر, والبعض الذي أريد به دون غيره, لا يصح غير هذا، لأنه لو صار القول خاصا على الحقيقة بالقصد به إلى بعض ما وضع له, وهو في الأصل مبني للعموم لوجب أن يكون عاما خاصا على الحقيقة, وأن يكون عاما بالوضع وحكم اللغة, وخاصا بقصد المتكلم به وإرادته للبعض. وهذا تناقض ظاهر?. ص 331 لأن قول يوجب أن يكون مستغرقا مستوعبا بحق اللغة والوضع، ومقصورا على البعض ما هو موضوع له بحق الإرادة لذلك, وهذا جهل عظيم, وإذا لم يجز ذلك ثبت أن معنى وصف القول العام على أصلهم بأنه خصوص إنما جرى عليه مجازا واتساعا, ولأنه لو كان لفظ العموم خصوصا بالقصد إلى تخصيصه لصار

لفظ الحقيقة مجازا بالقصد إلى التجوز به واستعماله في غير ما وضع له, فيصير إلى ما نقل إبليه وتجوز فيه بالقصد إلى ذلك، وهذا تخليط ممن صار إليه. فصل: فإن قيل: فما الذي يجب أن يحمل عليه قولهم عموم مخصوص وخصوص أريد به العموم؟. قلنا: الواجب أن يقال إن المراد إنه عام من وجهة اللفظ وأصل الوضع, وخاص في المراد إذا قصد به بعض ما وضع له. وكذلك إذا قالوا خاص أريد به العام فالمعنى فيه أنه خاص من جهة لفظه وحكم الوضع في اللسان وعام من جهة قصد المتكلم به, وليس يصير ما وضع للخصوص وقدر معلوم عاما بقصد المتكلم به إلى أكثر مما وضع له أو إلى جميع آحاد ما يجري عليه الاسم باتفاق، لأن قصود المتكلمين باللغة لا تقلب الألفاظ عما وضعت لإفادته, ولا يصح لهذا القول تأويل إلا ما ذكرناه أن للعموم والخصوص ألفاظ موضوعة لهما, وأن للعبارة عنهما ألفاظا يتواضع عليها. فأما العموم والخصوص على الحقيقة فكرم في النفس متعلق بمتعلقة لنفسه لا بالقصد إلى تعليقه, ولا بالتواضع على ذلك. فصل: وقد يقال: إن فلانا يخص العموم إذا علم أن القول الموضوع لاستغراق الجنس مراد به البعض, فيوصف علمه بذلك بأنه تخصيص للعموم. وقد يوصف بذلك- أيضا- إذا اعتقد كون اللفظ المبني للعموم مخصوصا وظن ذلك، وإن لم يكن الأمر على ما ظنه.

وقد يقال: فلان قد خص العموم إذا أخبر عن كونه مخصوصا وإن لم يكن الأمر على ما أخبر به, فيوصف علم العالم بكون العموم مخصوصا وظنه لذلك وخبره عنه بأنه تخصيص للعموم. ويقال أيضا فيمن أقام الدليل على أن لفظ العموم مخصوص -[322]- أنه قد خص العموم. والمخبر عن كون الخطاب مخصوصا والدال على ذلك والعالم بأنه مخصوص لا يصح أن يكون علمه بذلك وخبره وذكره الدليل على تخصيصه تخصيصا للعموم والواجب على الحقيقة أن يكون مخصص الخطاب هو المخاطب بالخطاب الخاص الموضوع لذلك دون الخطاب القائم وأن يكون الذي عم بالخطاب ما تحته من خطاب الغير بالخطاب القائم في أصل الوضع, كما أن الآمر من خاطب بالأمر, والمخبر والمستخبر من خاطب بما هو خر واستخبار، دون العالم بكون القول خاصا والمعتقد لذلك والدال عليه والمخبر عنه. وقد يوصف المخاطب بالعام إذا قصد به الخصوص بأنه مخصص للعام على تأويل أنه قاصد به إلى غير ما وضع له, وذلك مجاز واتساع وقد بينا في أن حقيقة الكلام فصل من القول جائز خروجهما عما هما عليه. فصل: فإن قيل: فخبرونا بماذا تصير هذه العبارات والأسماء المشتركة عند أهل الوقف بين الخصوص والعموم والموضوعة عند القائلين بالعموم والقائلين بالخصوص لما يقولونه منصرفة إلى بعض محتملاتها وفي غير ما وضعت له؟.

قيل: إنما تصير كذلك بإرادة المعبر وقصده لا لنفسها وجنسها وصيغتها ولا لحدوثها ولا للعلم بوقوعها ولا للإرادة لحدوثها, لأن جميع هذه الأمور تحصل للفظ وإن كان المراد به بعض محتملاته وغير ما وضع له, فعلم أن المؤثر في صرفها إلى بعض محتملاتها أو غير ما وضعت في الأصل له إنما هو إرادة المخاطب بها وقصده, وإنما الأدلة والأحوال الظاهرة تدل على قصد المتكلم بها فيعلم عند ذلك ما أريد بها, وتكون الأدلة دالة على الإرادة التي بها يقع التخصيص أو تصير الكلام لبعض محتملاته. وذلك نحو القول: إي شيء يحسن زيد؟ وقولهم سلام عليكم, المحتمل للتحية والهزل والاستجهال والاستفهام والتفخيم والتقليل فيصبر الكلام لبعض ذلك بالقصد إليه ويعلم القصد إليه إما بضرورة عند أمارات ظاهرة وبشاهد حال أو دليل. -[333]- فأما بعض نفس الكلام الذي في النفس فإنه لا يتغير حال كل ضرب منه, ولا يصير متعلقا بمتعلقة بالإدارة والقصد, كما لا يصير العلم والقدرة متعلقين بمتعلقاتها بالإرادة والقصد إلى ذلك. وهذه جمل في هذا الباب كافية إن شاء الله

باب ذكر الألفاظ المدعاة للعموم من ألفاظ الجموع وغيرها، واختلاف مثبتي العموم فيها

باب ذكر الألفاظ المدعاة للعموم من ألفاظ الجموع وغيرها، واختلاف مثبتي العموم فيها فمن هذه الألفاظ الجموح المنكرة والمعرفة, وذلك نحو القول رجال وناس وأشياء ومشركون ومؤمنون وقاتلون وسارقون, وهذه جموع منكرة, والمعرف منها نحو القول الرجال والناس والمؤمنون وأمثال ذلك. وإنما يكون المعرف من الجموع عموما عندهم إذا لم يرد العهد. وكذلك التثبية تكون منكرة ومعرفة, نقول رجلان في النكرة, والرجال في المعرفة وقد أنكر من الناس كون الاثنين جمعا, والذي نقوله أنهما أقل الجمع, ونستدل على ذلك من بعد. ومنه أيضا"من وما" إذا وردا للجزاء والاستفهام. ولفظ"أي" في

الاستفهام والشرط والجزاء. ولفظة " متى وأين" للذي هو ظرف مكان وظرف زمان. ومنها الألفاظ المدعاة للنفي على العموم، نحو قولهم ما جاءني من أحد, ولا في الدار ديار, وأمثال ذلك. ومن ذلك- أيضا- اسم الواحد المعرف من الجنس إذا لم يرد لمعهود, نحو قوله تعالى {إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وقوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ} و {الزَّانِيَةُ والزَّانِي} وأمثال ذلك, لأنه إذا لم يرد للعهد كان عندهم لاستغراق الجنس. فأما القول مشرك وسارق وزان وأمثال ذلك فإنه يرد لواحد غير معين ولا يصلح أن يراد به ما يزيد على الواحد فضلا عن الاستغراق. قال الله سبحانه في الجمع المنكر: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ}.

وقال في الواحد المنكر: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}. ومن ألفاظ العموم عندهم الألفاظ المؤكدة نحو?: كل وجميع وسائر وأجمعون وأكتعون وأمثال ذلك. هذه جملة الألفاظ المدعاة للعموم. وقد اختلف الناس في هذه الألفاظ التي هي ألفاظ الجمع على ثلاثة أقاويل. فقال قائلون: إنها موضوعة لأقل الجمع., فمنهم من قال أقله اثنان, ومنهم من قال ثلاثة على نبينه من بعد, وهذا قول أصحاب الخصوص من المتكلمين ومن قال بقولهم. وقال القائلون بالعموم: إنها موضوعة لاستغراقه واستيعابه, وخالف بعضهم في ألفاظ منها. وقال أهل الوقف: إنها لم توضع لإفادة أحد الأمرين، بل هي مشتركة تصلح للعموم أو الخصوص, وأنه لا يجب حملها على أحد الأمرين إلا بدليل, وليس الدليل على كونها عليه عروها من دليل التخصيص, ولا الدليل على تخصيصها عروها من دليل العموم, وبهذا نقول. فصل: وقد اختلف القائلون بالعموم في بعض هذه الألفاظ فقال الجمهور منهم: إنه لا فرق بين منكر الجمع ومعرفه في أنهما

يفيدان العموم والاستغراق, وهذا قول الجبائي وكثير من القائلين بالعموم, لأن أحد ما دل على أن قولنا المشركون عاما حسن الاستثناء لكل واحد ممن يقع عليه الاسم, وهذا مستمر في المنكر، إلا أنه إذا قال: اقتلوا مشركين واضربوا رجالا حسن الاستثناء لكل واحد ممن يقع عليه الاسم, فوجب عموم منكرة لمثل ما وجب عموم معرفه. وقال كثير منهم: بل إنما يفيد جمعا منهم غير معين ولا مقدر, فإذا عرف لا للعهد وجب كونه عاما مستغرقا فصل: واختلفوا - أيضا- في الجمع المعرف بالألف واللام. فقال الجمهور منهم: إن القول المشركون والسارقون موضوع لاستغراق الجنس متى ورد عاريا من قرائن التخصيص, ولم يكن للعهد والتعريف. وقال بعضهم?: 335 بل يجب حمله على أقل الجمع, ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.

فصل: واختلفوا- أيضا- في فائدة الاسم الواحد من الجنس المعرف باللام. فقال بعضهم: إنه إنما يعرف للعهد والتعبير فقط. وقال بعضهم: بل إنما ينبئ عن أن هذا الجنس مراد, وقد يصلح أن يراد به الواحد, ويصلح أن يراد به جمعا من الجنس, ويصلح أن يراد به جمع الجنس. فصل: وقال بعضهم من ينسب إلى القول بالعموم: أقول: إن هذه الألفاظ للعموم على معنى أنه يصلح أن يراد بها استغراق الجنس وإن لم يبن لإفادته" وعلى معنى أنه لا واحد من المشركين والمؤمنين إلا والقول مؤمن ومشرك يقع عليه, والقائل بهذا موافق لأهل الوقف. لأنهم جميعا يقولون بما فسروا به وصف القول بأنه عموم. فصل: وقد ذكرنا فيما سلف أن القول " من" للعقلاء و"ما" لما لم يعقل ومالا يعقل. كذلك أي وقلنا إن " من وأي" إذا كانا معرفة وقعا موقع"الذي" فإذا كانا نكرة صلحا للعموم والخصوص. وكشفنا ذلك بما يغني عن رده. وجملة ما نقوله في ذلك إنه لا لفظ بني للاستغراق من مؤكد وتأكيد في أعيان ولا أزمان، لا في أمر ولا خبر, ولا في نفي ولا إثبات.

باب ذكر شبه القائلين بالعموم والاعتراض عليها

باب ذكر شبه القائلين بالعموم والاعتراض عليها وقد استدلوا على ذلك بأشياء منها: أن قالوا إن العموم الذي هو الاستغراق لجميع الجنس مما قد علم وعقله أهل اللغة, وليس مما يلتبس عليهم, كما عرفوا مقادير الأعداد, وكما عقلوا الخبر والاستخبار وغيرهما من معاني الألفاظ, وإذا كانوا قد وضعوا لكل ما يحتاجون إليه من ذلك لفظا يدل عليه وينبئ عنه وكانت بهم أتم حاجة إلى الإخبار عن جميع الجنس الذي يتناوله الاسم وجب أن يكونوا قد وضعوا له لفظا ينبئ عنه, كما وضعوا المقادير للأعداد, وكما وضعوا اسم الواحد والاثنين, ومثل هذا- زعموا- لا يجوز منهم إغفاله وإهماله, فوجب أن يكون قد وضعوا لفظا ينبئ عنه -[336]- ولا لفظ أحق به من الألفاظ التي قدمنا ذكرها. فيقال لهم: ما قلتموه باطل من وجوه: أولها: إنه استدلال منكم على إثبات لغة, وذلك باطل, لأن اللغة إنما تثبت

بتوقيف منهم ونقل ثابت عنهم, كما أن سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وما يدعى من وضعه الحكم لا يثبت بنظر واستدلال, وإنما يثبت بالتوقيف والنقل, فإن وجدتم نقلا عنهم لذلك؛ فاذكروه, وإلا فلا تعلق فيما قلتم. وشيء آخر وهو أن أكثر ما في الذي قالوه أن وضع أهل اللغة لما وضعوه يقتضي أن يضعوا للعموم لفظا ولكن من أين أنهم قد فعلوا ذلك؟ ولعلهم لم يفعلوه, وإن اقتضت حالهم ووضع لغتهم أن يفعلوه. وقد يقع من الحكيم وذي الرأي والتدبير أفعال يقتضي وقوعها منه وقوع أمثالها وإن ترك مثل ما فعل. وإذا كان ذلك بطل ما قالوه. ومما يدل على فساد هذا الاعتلال علمنا بأنهم لم يضعوا أكثر المعاني التي عرفوها وعقلوا لها أسماء, ومن ذلك أنهم وضعوا للفعل الماضي والمستقبل ألفاظا تدل عليهما, نحو ضرب للماضي, ويضرب للمستقبل, ومنهم من قال هو مشترك بين فعل الحال والمستقبل, ولم يضعوا لفعل الحال لفظا ينبئ عنه, وإنما يدلون عليه باسم الفاعل أو المفعول به, فيقولون ضربت زيدا قائما, ورأيته راكبا. وقائم وراكب اسم الفاعل, أو ضربته في

حال قيامي أو قيامه, ورأيته في حال ركوبي أو ركوبه. فهذا مما لم يضعوا له لفظا مفردة. ومنه أيضا أنهم لم يضعوا لكل شيء ومن أجناس الروائح المختلفة أسماء تخصها, كما وضعوا ذلك لأجناس الألوان والطعوم المختلفة .. وإنما يقولون ريح المسك وريح الشجر والثمر, فيضيفون ريح كل شيء إليه ولم يضعوا له اسما مخصوصا. وكذلك فإنهم لم يضعوا لكل جنس من أجناس ما له تعلق من الصفات بمتعلق -[337]- مخصوص اسما يخصه وينبئ عنه مع علمهم باختلاف أحكام هذه الأجناس, نحو العلم المتعلق بمعلوم مخصوص بل قالوا في جميع ذلك إنه علم وإرادة وكون, ثم قالوا كون في مكان كذا, وعلم بكذا, ولم يضعوا لكل جنس منه اسما مخصوصا مع علمهم باختلاف أحكام هذه العلوم ووجودهم ذلك في أنفسهم حسب وجودهم اختلاف ما يشاهدونه ويدركونه من أجناس الألوان والطعوم, وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه من كل وجه. فصل: واستدلوا- أيضا- على ذلك بأن قالوا صحة دخول الاستثناء في لاهذه الألفاظ وإخراج بعض من يشمله الاسم دليل على أنها موضوعة للاستغراق, ولا خلاف في صحة قول القائل: من دخل داري أكرمته إلا المجرم, ومن عصاني عاقبته إلا التائب النادم, وأيهم ضربني ضربته إلا زيدا. واقتلوا المشركين إلا المعاهد, وأمثال هذا. وإنما حظ الاستثناء ومعناه

أن يخرج من الخطاب ما لولاه لوجب دخوله فيه. ولذلك لا يحسن أن يقال: أكرم الناس إلا الثور لأنه مما لا يدخل تحت الاسم. فدل ذلك على أن المستثنى منه موضوع للعموم والاستغراق. فيقال: لم قلتم إن فائدة الاستثناء ما ادعيتم، وفيه أعظم الخلاف؟ فإن قالوا: لا نعرف له معنى غير ذلك قيل لهم: لم قلتم هذا ولا تجدون فيه متعلقا؟ ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون فائدة الاستثناء أن يخرج من الخطاب من يصلح دخوله فيه, والقصد به إليه دون من يجب دخوله فيه. ونحن وإن قلنا إنه ليس بموضوع للاستغراق فإننا لا ننكر صلاحه له وجواز القصد به إلى كل واحد من الجنس وممن يتناوله الاسم. فإذا جاء الاستثناء قطع بخروج المستثنى من الخطاب ما لولاه لجاز كونه مرادا به -[338]- فهذه فائدة الاستثناء لا ما ادعيته. واعلموا أن الاستثناء على ضربين: فمنه ما يخرج من الخطاب ما لولاه لوجب دخوله فيه, وذلك نحو الاستثناء من كل جملة يجب دخول أبعاضها في الاسم الشامل لها, نحو قولك: رأيت زيدا إلا يده, ورأيت الدار إلا بابها, وأمثال ذلك من أسماء الجمل, فإنه عند أكثر الناس الاستثناء من أسماء الجمل العددية من الاستثناء من الألف والمائة والعشرة, فيجب تنزيل ذلك, وإنما لم يحسن

أن يقال: اضرب القوم إلا الثور، وأكرم المؤمنين إلا الكافرين. ومن دخل داري أكرمته إلا الحمار, وأمثال هذا لأجل أنه استثناء لما لا يصلح دخوله تحت الاسم وتناوله له, وإذا كان ذلك كذلك بطل ما تعلقوا به. يقال لهم: لو كان ما قلتموه واجبا لوجب إذا حسن أن يقال: اقتلوا المشركين إلا نفرا وإلا فرقة منهم, أن يكون قوله نفر وفرقة متناول لجميع المشركين, وكل من دخل تحت الاسم منهم, لأجل أنه لا نفر ولا فرقة منهم إلا ويصلح توجه الاستثناء إليه باتفاق, فيجب أن يكون قوله إلا نفرا وفرقة متناولا لجميع الجنس, وهذا يوجب أن لا يقتل أحد منهم, وأن يكون قد نهي عن قتل جميعهم, وأمر بقتلهم فإن مروا على هذا خلطوا وأمسك عنهم. وأن أبوه وقالوا قوله إلا نفرا وإلا فرقة وإن كان يصلح لتناول كل فرقة ونفر منهم فإنه ليس بموضوع لاستغراق جميع فرقهم وأعدادهم. قيل لهم: وكذلك إنما حسن استثناء كل واحد من آحاد من يتناوله اسم الجمع من الناس وغيرهم لصلاح تناول الاسم له, لأنه يجب دخوله فيه, ولا جواب لهم عن ذلك. هذا على أن ممن أنكر العموم من قد جعل نفس هذا الذي قالوه دليلا على بطلان القول بالعموم قال: لأنه لو كان قوله اقتلوا المشركين موجبا لاستغراق الجنس لكان قوله إلا زيدا موجبا, لإخراجه منهم. وهذا يوجب دخوله في الحكم, بحق العموم وخروجه منه بحق الاستثناء, وأن يكون داخلا في الخطاب وخارجا منه, وذلك باطل. وفي الذي قدمناه كفاية في نقض ما قالوه.

ويقال لمن تعلق بهذا ? ممن ينكر منهم أن يكون جميع اسم الجنس واسم الواحد المعرف منه ولفظ الجمع المنكر مستغرقا للجنس يجب عليك أن تقول إن جميع هذه الألفاظ والأسماء مستغرقة للجنس, لأنه يحسن فيها استثناء كل واحد من آحاد ما يقع عليه الاسم, فإن مر على ذلك ترك قوله, وإن أباه نقض استدلاله, ولا مخرج لهم من ذلك. فصل: شبهة لهم أخرى والجواب عنها. قالوا: ويدل على ذلك- أيضا- أن للعموم تأكيد يخصه كما أن للخصوص تأكيد يختص به. وقد اتفق على أن تأكيدهما يختلفان في أصل الوضع لا بالإرادة والقصد إلى اختلافهما, فكذلك يجب أن يكون المؤكدين اللذين أحدهما عام والآخر خاص مختلفين في أصل الوضع, لا بالقصد إلى ذلك والإدارة له. وقد ثبت أن من حق التأكيد أن يكون لفق المؤكد وطبق معناه وإلا لم يكن تأكيدا, ولذلك لم يجز أن يقول القائل: اضرب زيدا أجمعين وكلهم وسائرهم ولا أن يقول: اضرب القوم والناس نفسه, وإنما يجب أن يقال: اضرب الرجال أجمعين والناس كلهم وسائرهم واضرب زيدا نفسه. وإذا كان ذلك كذلك ثبت أن للعموم لفظا وللخصوص لفظا يخالفه في أصل الوضع. فيقال: قد بينا فيما سلف أن للعموم الذي هو الجمع الزائد على الاثنين لفظا يخصه, وأن للواحد لفظا يخصه, ولكل قدر من أعداد الجموع من

نحو الثلاثة والعشرة والمائة لفظ يخصه, وأن لفظ الجمع مخالف للفظ الواحد في أصل الوضع لا بقصد المتكلم منا, وإن كانت إنما تدل في الأصل بقصد المتواضعين على دلالتها على ما بيناه فيما سلف. وكذلك فإن تأكيد الجمع. مخالف لتأكيد الواحد في أصل الوضع, وأنه محال أن يقال اضرب مخالف لتأكيد الواحد في أصل الوضع, وأنه محال أن يقال اضرب القوم نفسه, وأكرم زيدا أجمعين, ولكن من أين أن القول القوم والناس والمشركون- وإن كان اسما يعم ما يشتمل عليه ويراد به- فإنه موضوع لاستغراق جميع من يقع عليه الاسم, بل ما أنكرتم أن يكون اسم" جميع أقل ما يجب دخوله تحت أقل الجمع على اختلاف الناس, وأنه يصلح أن يتناول ما زاد على ذلك من الأعداد إلى استغراق -[340]- جميع الجنس, وكذلك تأكيده بالقول كلهم وأجمعين وسائرهم إنما هو تأكيد يفيد الجمع الذي يقصده المتكلم بالاسم, وليس بلفظ موضوع للاستغراق, كما أن ما هو تأكيد له ليس بموضوع لذلك, فوجب أن يكون التأكيد والمؤكد من أسماء الجموع موضوعا لإفادة جمع دخل تحت الاسم, وهو مخالف لاسم الواحد وتأكيده مما في هذا مما يدل على أن التأكيد والمؤكد موضوع لاستغراق الجنس. فإن قالوا لأن القول أجمعين وكلهم وسائرهم مفيد لاستغراق من يقع عليه الاسم. فيجب أن يكون المؤكد مثله. يقال: هذه غفلة منكم أننا لو سلمنا أن ما ذكرتموه من ألفاظ التأكيد موضوع للاستغراق لكنا قائلين بالعموم, ولكن ليس الأمر على ما ادعيتم, لأن القول كلهم وجميعهم وسائرهم محتمل للبعض وللكل. ومعرض لهما جميعا, كما أن هذه حال ما هو تأكيد له, ولهذا يحسن أن يقول القائل أكرم العلماء والأشراف كلهم أجمعين الكبير والصغير وسائرهم

وشابهم وشيخهم والداني والقاصي والفقير والغني, ولا نزال نتبع تأكيدا بتأكيد إلى أن يقع العلم الضروري للمخاطب بقصده بالاسم إلى استغراق الجنس, ولو كان لفظ المؤكد أو التأكيد له يفيد ذلك ويقتضيه في أصل الوضع لاستغنى بذكره عن التأكيدات والاتباعات بإدخال التأكيد على هذه الألفاظ لنكشف بها المراد أوضح دليل على أنه ليس بموضوع لذلك ولا مفيد له فسقط ما قالوه. وقولهم إنه يجب كون التأكيد لفق المؤكد وطبقة وبمعناه قول باطل, لأن لفظة "كل" تأكيد عند جميعهم، وقد يؤكد بها لفظ الواحد الذي يثنى ويجمع ولم يبن للجمع فضلا عن العموم فيقولون كل رجل ضربني ضربته. قال الله سبحانه: {وكُلَّ إنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} والقول نفس وإنسان ورجل ليس بمفيد للجمع. وتأكيده به مخالف له. وقد جعل أكثر منكري العموم دخول? التأكيد على ألفاظ الجموع وغيرها دليلا على أن المؤكد لا يفيد الاستغراق بمطلقه, فلذلك احتاج إلى تأكيد بعد تأكيد. شبهة أخرى لهم والجواب عنها: واستدلوا على ذلك- أيضا- بأن قالوا لا يخلو اللفظ المدعى للعموم من

أن يكون موضوعاً والاستغراق أو للخصوص أو مشتركاً بينهما ومحتملاً لهما. قالوا وقد بطل القول بالخصوص من قولنا وقول أهل الوقف، وبطل- أيضا- أن يكون محتملاً ومشتركاً بينهما، لأنه لو كان ذلك كذلك لكان لا يخلو أن يكون على أحد محتمليه إذا أريد به دليل أم لا؟. فإن لم يكن عليه دليل لم يصح أن يعلمه عموماً ولا خصوصاً وهذا باطل. ولو كان عليه دليل فلا يخلو دليل المراد به أن يكون لفظاً يدل على الاستغراق وضروب من التأكيدات أو معنى ليس بلفظ. فإن كان لفظا ينبئ عن الاستغراق وجب القول بأن للعموم لفظاً ينبئ عنه، ويدل عليه، وهذا ما أردنا، وإن كان ما تبين به كونه عاماً من الألفاظ محتملة، كاحتمال المفسر الملول على معناه احتاج - أيضا- إلى قرينة وبيان. وكذلك القول في بيان بيانه إلى غير غاية، وهذا محال. وإن كانت الدلالة على أن المراد باللفظ العموم معنى ليس بلفظ، فهذا باطل، لأن الدالة على المراد باللفظ يجب أن تكون تابعة له، وفي حكم الفرع له. ومحال أن يكون الأصل الذي هو اللفظ لا يدل، وتوابعه المتصلة به أو المنفصلة عنه تدل على ما لا يدل عليه اللفظ الذي هو الأصل. قالوا: فوجب أن تكون هذه الألفاظ دالة على العموم والاستغراق بأنفسها. يقال لهم: ما قلتموه غير واجب، والذي به يعلم أن المراد بهذه الألفاظ العموم هو علم ضرورة يقع للسامع لها عند أحوال وأمارات

وتوابع للكلام، وتكون ألفاظاً، وليس لذلك حد محدود، ولا هو شيء محصور، وإنما هي أحوال يعلمها المشاهد والسامع لا يمكن نعتها وحصرها. وهي بمنزلة الأسباب التي يعلم عندها خجل الخجل ووجل الوجل وشجاعة الشجاع وجبن الجبان، وأمثال ذلك. وقد يقع العلم بمراد المتكلم وقصده إلي الاستغراق عند تتابع ألفاظ وتأكيدات، نحو أن يقول/ اضرب الجناة وأكرم المؤمنين كلهم أجمعين أكتعين أبصعين جميعهم وسائرهم وصغيرهم وكبيرهم وشيخهم وشابهم وذكرهم وأنثاهم، وكيف كانوا، وعلى أي وجه كانوا، ولا يغادر منهم أحداً بوجه ولا سبب، ولا يزال يؤكد الكلام ويتبع التأكيد بتأكيد إلى أن يحصل للسامع العلم ضرورة بمراده، كما يحصل لنا العلم ضرورة عند مشاهدة الأحوال وسماع المقدم والمؤخر من الكلام إلى أن قصد المتكلم بقوله سلام عليكم الهزل والاستهزاء دون التحية وأن المراد بقوله أي شيء يحسن زيد؟ التعظيم لعلمه أو التقليل أو الاستفهام. وقد اتفق على أنه لا حد ولا نعت محصوراً لما يحصل عنده العلم بذلك وبالمراد بكل محتمل من الكلام. وقد تقع هذه الضرورة عند يسير الألفاظ تارة وعند كثيرها أخرى، وبحسب ما يفعل الله سبحانه العلم بقصد المتكلم عنده. ولسنا نقول على هذا أن الدال على عموم اللفظ لفظ آخر، لأن ذلك تسليم القول بوضع لفظ دال بنفسه على العموم. وقد يقع العلم بمراد المتكلم ضرورة عند أحوال وأسباب تظهر في وجهه وحركاته وإشارته ورمزه وإيمانه ليست من الكلام والأصوات في شيء،

كالذي يعلم عند ضرورة بر البار وعقوق العاق والتحية والاستجهال. وقد يقع العلم ضرورة بقصد المتكلم يعرف عادة مستقرة، نحو حصول العلم الضروري بمراد المتكلم إذا قال وهو على الطعام اسقني ماء، وأنه يريد ماء القراح البارد الزلال دون الحار، ودون ماء الآبار والبحار وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه من وجوب ثبوت لفظ ينبئ عن المراد، أو إفراد طريق العلم بالعموم، وقد يعلم عموم قوله تعالى: (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقوله تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) بدليل العقل، وليس هو لفظ ولا معنى مستخرج من لفظ. وأما قولهم وإن كان ما به يعلم المراد معنى ليس بلفظ فإنه تابع للفظ، ومحال أن لا يعلم القصد باللفظ الذي هو الأمر والأصل ويعلم بتوابعه، فإنه قول باطل من وجهين: أحدهما: إن هذه الأسباب والأحوال ليست عند أكثر الناس من توابع الألفاظ/ ولا توصف بذلك، بل هي أصول في أنفسها، وعندها يقع العلم بالمراد ضرورة. وكيف تكون من توابع اللفظ واللفظ لا يعلم به ولا عند سماعه القصد، وهذه الأحوال يعلم عندها ضرورة قصد المتكلم إلى ما يقصده، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.

فإن قالوا يعني بوصفها بأنها من توابع الكلام أنها أسباب توجد بعد الكلام وعقيبه. قيل لهم: ليس كل شيء وجد بعد شيء كان من فروعه وتوابعه، وهذا كلام في عبارة لا طائل فيه. وقد بينا أن ما لا يحصل العلم عنده ضرورة لا يجوز أن يكون أصلاً لما يعلم المراد عنده ضرورة، فزال ما قالوه. ولو سلم لهم وصفها بأنها توابع للكلام لم يجب ما قالوه من أنه لا يجوز أن يعلم بها ما لا يعلم بالكلام، لأننا نعلم من أنفسنا ضرورة قصد القاصد إلى بعض محتملات كلامه برمزه وإشارته وإيمانه، ولا يعلم كذلك بنفس قوله. فقد علم بتوابع الكلام مالا يعلم به، فبطل ما قالوه. يقال لهم أيضاً: أليس التأكيدات من الألفاظ؟ نحو"كل" وأمثاله يعلم به مالا يعلم بنفس الكلام، وإن كان من توابعه. ولو قال القائل: خذ كل واضرب كل لم يكن كلاما صحيحا مفيداً، ولو قال اضرب رجلا لم يوجب ذلك أكثر من ضرب رجل بغير عينه، ولو قال: اضرب كل رجل وكل مذنب لدل عندكم على وجوب ضرب كل من يقع عليه الاسم على العموم، وإن كان القول كل تابعا وتأكيداً. وإذا كان ذلك كذلك أسقط ما قالوه. فصل: فإن قالوا: فمن أين عرفت الأمة عموم الألفاظ العامة في الكتاب والسنة؟ قيل لهم: بتوقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك وتأكيداته والأسباب التي

اضطروا عندها إلى مراده، لأنه مشاهد لهم وممن يصبح للعلم بقصده ضرورة، كما أن ذاته معلومة لهم ضرورة، ويعلم ذلك التابعون بنقل الصحابة إليهم وإخبارهم لهم أنهم علموا قصده ضرورة، ثم كذلك قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا وما بعده من أعصار ما بقي التكليف. فإن قالوا: ومن أين علم الرسول عليه الصلاة والسلام عموم تلك الألفاظ حتى/ وقف الأمة على عمومها بعد علمه به. قيل لهم: بتوقيف جبريل عليه السلام له على ذلك وتأكيداته له وأحواله وإشاراته الظاهرة للرسول عليه الصلاة والسلام. فحال الرسول في العلم بمراد جبريل عليه السلام المعلوم ذاته له ضرورة حال الرسول عليه الصلاة والسلام مع الأمة في صحة اضطرارهم إلى مراده عند مشاهدة ذاته وأحواله وإشاراته. فإن قالوا: ومن أين علم جبريل عليه السلام مراد الله سبحانه وتعالى وقصده إلى العموم بما سمعه من كلامه أو نقله من اللوح المحفوظ إلى الرسول؟ قيل: قد يعلم ذلك بأن يبتدئ العلم تعالى ويخلقه في قلبه ضرورة بقصده إلى العموم وإلى كل معنى يريده بالخطاب المخالف لأجناس كلام الخلق بعد اضطراره إلى العلم بداية وإسقاطه عنه فرض معرفته، لأن علم الاضطرار بمراده ومراد كل متكلم وبكل معلوم ضرورة من فعله تعالى، وهو التفرد بخلقه والقدرة عليه، دون سائر خلقا قاما ما ينقله الملك من اللوح المحفوظ فإنما يعلم المراد به بأن يجده مكتوبا بلغة الرسول وقومه

الذي تنزل الوحي عليه (بها) ويجد معنى المحتمل منه مكتوباً بلغة الملائكة التي لا احتمال ولا اشتراك فيها، ولا يمتنع أن تكون لهم لغة هي عبارة عن أحد معاني اللفظ العربي، لا احتمال ولا اشتراك فيها، فيعلم معني المحتمل الذي يجده مكتوباً بلغة له أخرى لا احتمال فيها، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه، وصح ما قلناه. فصل: شبهة لهم أخرى والجواب عنها: قالوا: لا يخلو أن يكون الله سبحانه وتعالى قادراً على أن يعلمنا عموم قوله: (فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ)، (واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وأمثال ذلك من جهة القول ودلالة نفس الكلام عليه، أولا يكون على ذلك قادراً، فإن كان قادراً عليه وجبت دلالته على العموم، وإن لم يكن عليه قادراً وجب عجزه، وذلك خروج عن الدين. فيقال لهم: الله سبحانه وتعالى على كل شيء يصح إحداثه قدير، وما تعلقتم به باطل، لأنه لا دلالة لما وضع في الأصل محتملا مشتركا على بعض محتملاته وكيف يمكن أن يقال إنه يقدر أن يدل بما ليس بدليل، ويعلمنا الشيء بما ليس/ بطريق للعلم به. وما أنتم في هذا إلا بمثابة من قال إنه لابد أن يكون قادراً على أن يعلمنا أن المواد بالقول لون وعين بعض محتملاتها، وأن القصد به السواد دون البياض بنفس بنيته وصبغته، وإلا وجب عجزه، ولابد أن يكون قادرا على إعلامنا المائة باسم العشرة، والمؤمنين باسم الكافرين، والإنعام باسم الناس. وإلا وجب عجزه، وإذا لم يجب هذا باتفاق، لأن العجز لا يصح إلا عما يصح كونه

مقدوراً، ومحال دلالة الكلام على ما لم يوضع لإفادته، سقط ما قالوه فصل: علة لهم أخرى. قالوا: ومما يعتمد عليه قي ذلك علمنا باتفاق للصحابة على القول بالعموم، وأنهم وأهل اللغة يحملون كل خطاب ورد بلفظ العموم في الكتاب والسنة على عمومه، ولا يرجعون في حمله على العموم إلا إلى مجرده وظاهره. ومتى خصوم لجؤوا إلى القرائن المخصصة له، وهذا - زعموا- ظاهر من صنيعهم في جميع الآي والأخبار التي وضعت للعموم، وعلى ذلك عملوا في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) وقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا) وقوله تعالى: (ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)، وقوله تعالى: (وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) في ترك قليله وكثيره، وكل ما يقع عليه الاسم منه. وقوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) وقوله تعالى: (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنتُمْ حُرُمٌ)، وقد عملوا في يقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تنكح

المرأة على عمتها ولا خالتها" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من ألقى سلاحه فهو آمن" وقوله عليه السلام: "لا يرث القاتل ولا المملوك"، وقوله

عليه الصلاة والسلام: "لا يقتل والد يولده"، وعموم نهيه عن بيع الحاضر للبادئ وعن بيع ما ليس عند البايع. وبيع الثمار قبل بدو صلاحها،

إلى أمثال ذلك من عملهم بعموم الأي والسنن في الأخبار والأوامر والنواهي. قالوا: ويدل على أن هذا دين الصحابة ومذهب العرب إطباقهم على القول به، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) الآية، قال ابن أم مكتوم وكان ضريراً ما قال، فأنزل الله سبحانه وتعالى (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) فعقل الضرير وغيره من عموم قوله المؤمنين. ولما نزل قوه تعالى: (إنَّكُمْ ومَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وارِدُونَ) قال ابن الزبعري عند ذلك "أنا أخصم لكم محمداً" فجاءه فقال له: "أليس قد عبدت الملائكة وعبد المسيح؟ فيجب أن يكونوا من حصب جهنم" فأنزل الله عند ذلك قوله:

(إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) تخصيصا لقوله: (إنَّكُمْ ومَا تَعْبُدُونَ) فلم ينكر النبي عليه السلام، ولا أحد من الصحابة عليهما التعلق بالعموم. وكذلك قالوا لا نزل قوله تعالى: (ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ) فقالوا عند ذلك "أينا لم يظلم نفسه"؟ فبين لهم أن الظلم الذي أراده هو الكفر والنفاق والأدغال للرسول والمؤمنين. قالوا: وقد احتج عصر على أبي بكر رضي الله عنهما عند عمله على قتال أهل الردة بقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الناس كافة حتى يقولها لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، فتعلق بعموم قوله. الناس إذا قالوا ذلك، فلم يرد عليه أبو

بكر ولا غيره التعلق بالعموم، ولكن قال له. أفليس قد قال "إلا بحقها" ومن حقها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وقالوا وكذلك فلم ينكر أبو بكر ولا غيره تعلق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها عند مطالبتها بفدك بعموم قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) وقوله: "أيرث أباك ولا أرث الله فلم يرد التعلق بالعموم، ولكن أخبرها أنه مخصوص فيمن عدا الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة" في أمثال هذا مما تعلقوا فيه بالعموم يطول تتبعه فوجب لذلك القضاء على أن القول بالعموم إجماع من الصحابة رضوان الله عليهم. وأوضح دلالة على بناء هذه الألفاظ للعموم والاستغراق.

فيقال لهم: ما تعلقتم به من هذا باطل من وجوه: أحدها: إن الدولة قد دلت على إبطال القول بالعموم. وقد كسرنا كل علة لكم في ذلك. والصحابة لا يجوز أن تجمع على الاستدلال بما ليس بدليل. والوجه الآخر: إن جميع ما ذكر وبين القصص في الآي النازلة والأخبار من قول ابن أم مكتوم وابن الزبعرى من أخبار الآحاد التي لا يعلم صحتها بضرورة ولا ببعض الأدلة على صحة الأخبار، ولا حجة في التعلق في إثبات العموم بمثلها. والوجه الآخر: إنه لم يرد عن أحد منهم أنه قال نصاً إنني أتعلق بمجرد اللفظ وصيغته، فيمكن أن يكون تعلق بما قارنه مما دل على عمومه. فإن قالوا: لو كان هناك أمر دل على العموم لنقلوه/ وذكروه فلما لم يظهر عنهم شيء غير التعلق بظاهر الآي والأخبار دع ذلك على أنهم رجعوا إلى ظاهر الخطاب. قيل لهم: هذا إثبات منكم لإجماع لهم بنظر واستدلال. والإجماع لا يثبت عنهم إلا بنقل وتوقيف معلوم تقوم به الحجة دون نظير واستدلال، وقد بينا في فصول القول في الأوامر إنه لا يجب على الصحابة الإخبار

بما به علمت أن الأمر علي الوجوب، وأنه علي العموم، وأن توقيفهم من بعدهم على أنهم علموا ذلك ضرورة من دين الرسول عليه الصلاة والسلام أقوى من ذكر الأسباب الجامعة لهم على ذلك والدالة عليه بما يغني عن إعادته. وبعد فلو صحت هذه الروايات عنهم لم يستنكر أن يكون المتعلق منهم بظاهر الآي إنما تعلق بها لسبقه إلى اعتقاد القول بالعموم. وما ينكر أن يكون فيهم معتقد لذلك لظنه أنه موجب اللغة، وذلك غلط منه ومن مقره عليه. وليس يصح إقرار جميع الأمة على القول بذلك وثبوته، لأنها لا تصوب مخطئاً. ولا يمتنع اختلافهم في ذلك وإن كانوا هن أهل اللغة إذا لم يكونوا هم الواضعون لها. ولا يستنكر- أيضا- أن يكون المتعلق بذلك منهم إنما تعلق بها لتجويزه أن يكون المراد به العموم، لأنه صالح لذلك ومعرض له، وكان المتعلق بذلك منهم يقول يصلح للعموم والخصوص فإذا لم أجد ما يخصه حملته على العموم لصلاحه له. وهذا استدلال منه على وجوب حمل الخطاب على العموم متى لم يجد دليل التخصيص، وذلك غلط من الاستدلال، لأنه يوجب حمله على الخصوص، لأنه لا دليل على عمومه، وهذا متقاوم. وليس التعلق بهذا وأمثاله لغة، وإنما هو نظر واحتجاج، ولا يثبت بذلك للأمة إجماع. فزال ما تعلقوا به.

فصل: وقد اعتمد جميعهم - من قال عنهم إن اسم الجمع المعرف والمنكر، واسم الواحد المعرف من الجنس لم يوضع للعموم والاستغراق - على أن الألفاظ المفردة الموضوعة للعموم هي من وما وأي الواردة للاستفهام والشرط والجزاء هي الألفاظ المبنية للعموم والاستغراق. قالوا: والدليل على ذلك وجودنا إياهم قد استفهموا بمن وما وأيما وعدلوا إليها في الاستفهام والجزاء / وكذلك صنعوا في ما وأي، وعدلوا إليها في الجزاء والاستفهام عند ذكر كل عاقل باسمه الموضوع له وبحرف الاستفهام الموضوع له، ولم يقولوا أعندك، وهل عندك عموم، ولا قالوا إن دخل الدار زيد ضربته، وإن دخل عمرو وسعد وخالد ضربته، بل اقتصروا على قولهم من دخل الدار ضربته. وهذا عدول منهم ظاهر عن حروف الاستفهام والجزاء إلى من وأي وما، وعدول عن تعداد كل عاقل باسمه الموضوع له. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكونوا إنما عدلوا إلى من وأمثالها بدلاً من ذكر حروف الاستفهام والجزاء لكون من وما وأي مستغرقة لكل عاقل وكونها عندهم في أصل الوضع نائبة مناب ذكر كل عاقل بحرف الشرط والجزاء وحروف الاستفهام، ولولا ذلك ما عدلوا إلى هذه الألفاظ. فيقال لهم: لم قلتم ذلك، وما دليلكم عليه، ومن وقفكم على أن هذا العدول لعلة ما ذكرتموه: فلا يجدون في ذلك متعلقاً، واللغة لا تثبت بنظر واستدلال. وهذا الاستدلال من المعتل به على إثبات لغة، وذلك باطل.

ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن لا يكونوا عدلوا عن حروف الشرط والجزاء والاستفهام وأسماء المجازين والمستفهم عنهم لأجل ما وصفتم، لكن لأجل أن من وما وأي تصلح أن يستفهم بكل لفظ منها عن كل أحد ممن يعقل من، ومن يعقل ولا يعقل بما وأي، ويصلح أن تتناول كل من يصح جزاؤه، وهذا غرضء"ظاهر صحيح، ولو صح ما ادعيتموه عليهم، لأنهم له قالوا بحرف الاستفهام أزيد عندك؟ وهل خالد عندك؟ لم يصلح أن يستفهموا بذكر زيد وعمرو عن غيره من العقلاء، وكذلك لكل عاقل، أو كل فرقة منهم إذا خصوه أو خصوهم بالذكر لا يصلح أن يستفهم بذكرهم عن غيرهم. وإذا قالوا من عندك؟ وما عندك؟ وأي شيء عندك؟ صلح الاستفهام بذلك عن كل ما يعقل وما لا يعقل، وعن كل أحد من آحادهم وفرقة من فرقهم، وصلح الاستفهام به عن جميع الجنس، ولا يجب إصلاح الاستفهام به عن جميع الجنس وعن بعضه كونه موضوعاً للعموم والاستغراق على العين والاشتمال، كما لا يجب إذا صلح للاستفهام به عن البعض أن يكون موضوعاً للبعض، وهذا بين في سقوط ما ادعوه/ من غرض أهل اللغة في العدول إلى هذه الألفاظ وصحة ما ذكرناه. ولهذا الغرض - أيضاً- عدلوا إليها في الشرط والجزاء، لأنهم لو قالوا إذا دخل الدار زيد ضربته وإن دخلها عمرو أكرمته لم يصلح أن يكون جزاء لخالد. وإنما يكون جزاء وشرطاً لمن ذكر اسمه فقط. وكذلك لو قال: إن دخل العشرة والفرقة الدار ضربتهم لم يصلح أن يكون ذك جزاء لما فوقهم ولا لجميع الجنس، بل يكون الجزاء مقصوراً عليهم. وإذا قال من دخل الدار أكرمته أو ضربته، ومن تكلم كلمته صلح ذلك للواحد وللفرقة ولجميع الجنس. فهذا هو الغرض في العدول إلى هذه الكلمات.

فإن قالوا: إذا سلمتم صلاحها لكل عاقل فقد لزم وضعها لسائرهم على الاستغراق. قيل لهم: هذا باطل بما قدمناه وقد اتفق على أنه لا يجب أن يكون ما صلح من اللفظ لشيء وأن يجري عليه أن يكون موضوعاً له دون غيره. ولذلك لم يجب كون الاسم المشترك موضوعاً لبعض محتملاته وإن صلح تناوله لكل شيء مما تحته، فبطل ما قالوه. شبهة لهم أخرى في وجوب بناء هذه الألفاظ للعموم. قالوا: ويدل على ذلك - أيضاً- علمنا بأنهم عدلوا في الاستفهام والجزاء إلى لفظة من غير ذكر الجمع فقالوا من عندك؟ في الاستفهام، ومن دخل الدار ضربته في الجزاء ولم يقولوا: إن دخل الرجال أو الناس أو العقلاء ضربتهم. قالوا: فلولا أن لمن من الحظ في أصل موضوعها ووجوب العدول إليها ما ليس لاسم الجمع لم يعدلوا إليها. قالوا وقد علم أن من الناس من يزعم أن منكر اسم الجمع ومعرفه عام مستغرق إلا أن يقوم دليل علي تخصيصه. ومنهم من يقول ذلك في معرفه دون منكره.

ومنهم من يقول يصلح للاستغراق، وإن لم يكن مسموعا لذلك. وإذا كان ذلك كذلك وقد رأيناهم عدلوا في الجزاء والاستفهام إلى لفظة من وأي علم أنهم لم يعدلوا إليه، لأن لمن وأي من الحظ في العموم والاستغراق أوفر مما لاسم الجمع، فإذا جاز باتفاق استغراق اسم الجمع لجميع الجنس فيجب أن تكون زيادة حظ أي من وجوب استغراقه لجميع الجنس، ولو كان من صالحاً للاستغراق وغير موضوع له لكان بمنزلة اسم الجمع الصالح لذلك، ولم يكن للعدول إليه وجه/ لأنه في رتبته وبمثابته، فوجب لأجل ذلك استغراق لفظ من وأي في الجزاء والاستفهام. فيقال لهم: هذا - أيضاً - من جنس استدلالكم، وتخيلكم الأولى الذي لا أصل له، وإثبات لغة بقياس واستخراج، وذلك باطل وما نشك في أن هذه الأغراض التي تضعونها لهم بهذه الأدلة مما لم يخطر ببالهم، فما الحجة على ما تدعون؟ ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكونوا إنما عدلوا إلى من وأي عن ذكر اسم الجمع لغير ما ظننتم، بل، لأنهم إذا ذكروا لفظ الجمع لم يصلح أن يريدوا به واحداً فقط، بل لا يصلح أن ينصرف بظاهره الأول إلا إلى الجمع، لأن القائل منهم إذا قال: هل عندك الناس أو الرجال أو العقلاء؟. لم يجزأن يكون مستفهماً عن واحد فقط بل يكون مستفهماً عن الجميع، وكذلك إذا قال إن دخل النساء الدار فهن طوالق، وإن دخل العبيد فهم أحرار. وإن دخلت الجماعة والفرقة فهم عصاة وجب صرف ظاهر الكلام إلى الاستفهام عن الجمع والجزاء لهم وتعليقه بهم دون الواحد منهم، ولم يجب نحو هذا الظاهر إذا دخلت الواحدة من النساء أن تطلق، ولا أن يعتق العبد الواحد بدخوله،

لأن العتاق والطلاق مشروط بدخول الجماعة ودخول الواحد ليس بدخول للجماعة، وإن لزم الطلاق والعلق في الواحد. فمن جهة حكم الشرع ومن ناحية قياس وخبر، أو تغليظ حكم الطلاق والعتاق، لا من جهة للفظ، وإذا قال من عندك؟ صلح أن يستفهم به عن الواحد وما هو أكثر منه، وعن الجنس بأسره، ولم يكن موضوعا ومبنيا للاستغراق. وإن صلح أن يقصد به إليه، ولذلك إذا قال من دخل الدار أكرمته أو فهو حر أو طالق صالح أن يريد الواحد وصلح أن يريد الاثنين وما فوقهما. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه، وثبت أن الفائدة في العدول إلى هذه الألفاظ إنما هو لما قلناه لا لنجعل لن من الحظ والمزنة في للعموم والشمول أوفر مما يحظى الجمع في ذلك. واعلموا وفقكم الله إنه ليس لمن زعم أن اسم الجمع المعرف منه أو المعرف والمنكر مبني للعموم والاستغراق أن يستدل بهذه الدلالة، لأنها مبنية على أن لمن من الحظ في العموم ما ليس لاسم الجمع.

فإذا قالوا: إن اسم الجمع بمثابة من يطلب الدلالة، وكانوا إنما يعدلون من لفظ إلى مثله وما يقوم مقامه فيجب تأمل حال المستدل بذلك وموافقته على الواجب فيه/. وجميع ما أبطلنا به قولهم بعموم هذه الألفاظ وأسماء الجموع والواحد المعرف من الجنس دليل على فساد دعواهم أن "ما" النافية الداخلة على الاسم المفرد، وليس "لا" العاطف على "ما" و"ليس" موضوع للعموم. وإن القائل إذا قال: ما جاءني أحد، وما جاءني من أحد وما عندي أحد، وما كلمت ولا رأيت أحداً، وليس عندي إنسان ولا حيوان، وما في الدار ديار، وأمثال ذلك وجب عموم النفي بهذه الكلمات، لأن هذه دعوى منهم لا حجة عليها، ولأن أهل اللغة يستحسنون الاستفهام عند ورود هذه الكلمات فيقولون للقائل ما رأيت أحداً من سائر طبقات الناس ومن أصدقائك وغيرهم من العقلاء وغيرهم؟. وما عندك أحد ولا ديار من سائر الناس من أهلك وغيرهم؟، ولو كانت مبنية للعموم لقبح الاستفهام. ويدل على أنها غير مبنية للعموم حاجة المتكلم إلى تأكيدات متتابعة لها. فيقول ما جاءني واحد من سائر الناس ومن كل قبيل، ولا في الدار ديار من جميع الناس وعلى جميع الوجوه، ولا في الدار أحد من صغير ولا كبير ولا ناطق ولا صامت، ولا عين تطرف، إلى أمثال ذلك فدل هذا على صلاح جميع هذه الألفاظ للبعض تارة وللكل أخرى.

وقول من قال أقول بالعموم في هذه الألفاظ النافية دون الألفاظ المثبتة وأسماء الجموع قول ضعيف، وهو بمثابة قول من قال بذلك فيما كان إثباتاً دون نفي ولا فصل في ذلك. وكذلك القول في بطلان دعواهم عموم أين ومتى في الأماكن والأزمان، لأن القائل يقل أين رأيت زيداً أكرمته، ومتى قام بكر ضربته حسن أن يستفهم عن ذلك. فيقال له أردت أنك تضربه في الحل والحرم والسهل والجبل وفي الماء وعلى اليبس، وكذلك تضربه أو تكلمه في جميع الأوقات وحين يصلى لربه ويكون تالياً لكتابه وكيف تصرفت حاله. وكذلك أيضا يحسن تأكيد هذه الألفاظ أجمع، فيقول القائل أين رأيت زيداً أكرمته في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو طريق أو مشهد أو حل أو حرم. وكذلك يقول متى لقيت بكراً كلمته أو أهنته في ليل أو نهار أو صباح أو مساء، وفي سائر الأوقات وكيف تصرفت به الحالات، ذلك من التأكيدات والاتباعات، ولولا صلاح ذلك للكل تارة وللبعض أخرى لم يكن لهذه التأكيدات والإطالة بها معنى ولا يحسن/ الاستفهام عن المراد بها وجهاً فبطل بذلك ما يعولون عليه من هذا الباب.

باب ذكر جملة مذاهب القائلين بالقول بالوقف والدلالة على صحة القول به

باب ذكر جملة مذاهب القائلين بالقول بالوقف والدلالة على صحة القول به اعلموا -وفقكم الله- أن الذي تذهب إليه وجوب القول بالوقف في الأوامر والنواهي والأخبار جميعاً، لأن ما دل على إبطال القول بالعموم في الأخبار يقتضي ذلك في الأوامر. وقد فرق بعض أهل الوقف في ذلك، فزعم أن الوقف واجب في الأخبار دون الأوامر.

واعتلوا لذلك بأننا غير متعبدين بمعرفة مراده في الأخبار، ونحن متعبدون بمعرفة مراده بالأوامر ووجوب تنفيذ موجبها. فإذا قال اقتلوا المشركين. واقطعوا السراق لم يكن تنفيذ الحكم في بعضهم نحو الاسم أولى من البعض الآخر، ولا إخراج من يخرج منه ممن يلحقه الاسم أولى من إخراج من أخرج منه. وهذا باطل، لأن هذه للعلة موجودة في للخبر كهي في الأمر من ناحية لحقوق الاسم بكل أحد ممن دخلت تحته، فيجب التسوية بينهما. ولأننا نعلم يقيناً أن المراد بلفظ الجمع أقل ما يلزمه إذا لم يكن متجوزاً به ومراداً به الواحد، ونقف فيما زاد على ذلك فلا ندخله في الخطاب إلا بدليل ولا نخرجه أيضاً منه إلا بدليل، وكذلك الفعل في الأخبار. ولأننا قد تعبدنا أيضا بمعرفة مراده في كثير من الأخبار نحو المراد بقوله تعالى: {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله تعالى: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس إخراج بعض من يجري عليه اسم شيء أولى من بعض، فبان بذلك سقوط ما فرقوا به. فصل: ولا يجوز أن يقال أن الوقف فيما يخرجه مخرج العموم واجب، وإن كان قد أطلقه شيخنا أبو الحسن رحمه الله والصالحى من المعتزلة

وغيرهما، إلا أن يراد بذله أن مخرجه العموم عند معتقدي ذلك فيه، لأن الدليل قد قام على أنه مشترك بين العموم والخصوص وبمثابة سائر الألفاظ والأسماء المشتركة التي لا يجوز أن يقال أن مخرجها مخرج بعض محتملاتها، ولو ساغ أن يقال أن مخرج الخطاب العموم لصلاحه له لجاز أن يقال إن مخرجه الخصوص لصلاحه له، وذلك باطل فيجب تجنب هذه اللفظة. فصل: وقد زعم أهل الوقف أن الخبر إذا ورد بوعيد العصاة من أهل الملة ومن لم يبلغ عصيانه الكفر وجب الوقف فيه وتجويز القصد به إلى العموم أو الخصوص لقوله عز وجل: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ / ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. وقوله تعالى: {وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}. وهذا القول أيضا باطل، لأنه قول يوجب أنه لولا ورود قوله: (ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) لوجب استغراقه للعصاة من أهل القبلة والظلمة والفجار وأكلة أموال الأيتام، وذلك فاسد، لأنه محتمل في أصل الوضع للكل وللبعض فيما يحتاج الوقف فيه إلى ذلك فيرد ما ذكروه. فصل: وقال فريق آخر من أهل الوقف واجب الوقف ثم وعيد أهل القبلة لجواز أن يستثني الله تعالى في وعيدهم ويشرط فيه شرطاً غير ظاهر، ثم لا يفعل ما توعد به ويكون صادقاً. وهذا قول من زعم أن الوعيد خبر عن وقوع المتوعد به. وهذا خطأ، لأن الوعيد إرهاب وتهديد، وليس بخبر عن وقوع المتوعد به، إلا أن يقصد إلى إيقاع المتوعد به، على ما قد بيناه في الكلام في الوعيد.

وهذا أيضاً باطل من وجه آخر، وهو أن نفس إطلاق الوعيد، وإن كان خبرا لا يقتضي العموم والاستغراق، ولا يحتاج إلى استثناء وشرط فيه إن لم يضمره صار خبره كذباً، وإنما يجب ذلك لو ثبت عمومه. فصل: وقد زعم قوم من أهل الوقف أنه إنما يجب الوقف في الوعيد دون الوعد لاستحسان الغفران بعد الوعيد، وأن أهل اللغة لا يعدون ذلك كذباً، وإنه يجب إمضاء الوعد على عمومه لقبح الخلف فيه واضطر استثناء فيه. وهذا - أيضاً - باطل، لأنه قول يوجب إمضاء الوعد على عمومه، لأجل التعارف وقبح الخلف والاستثناء فيه، وحسن ذلك في الوعيد، وليس الفرق بينهما لشيء يرجع إلى صيغتهما، وليس القول بالعموم في الوعد واجباً من ناحية صورته ولا الوقف في الوعيد واجب من ناحية احتمال لفظه، لكن لاستحسان التجاوز والغفران، وهذا باطل، لأنهما محتملان للبعض والكل في أصل الوضع، فبطل هذا الاعتبار. فصل: وزعم قوم ينسبون إلي القول بالوقف، وهم أولى بالنسبة إلي أصحاب العموم أن الأخبار إذا وردت ومخرجها عام وسمعها السامع، وكان الخبر الذي سمعه وعدا أو وعيداً ولم يسمع القرائن، ولا الأخبار المجمع عليها الواردة لتخصيص الجنس، فالواجب عليه أن يعلم علماً قطعاً أن الخبر عام في جميع أهل تلك الصفة، ومن شمله الاسم، وأن يجوز مع ذلك أن يكون الأمر عند الله عز وجل/ بخلاف ما علمه، وأن يكون له فيه استثناء قد أنزله وإن لم يعلمه. وذلك - زعموا نحو ما يجب على الإنسان من العلم

بأن يظهر الإسلام والنسل مؤمن تقي، وإن جوز كونه كافراً منافقاً عند الله عز وجل. وكما يجب عليه أن يعلم علماً يقيناً أن المولود على فراش الرجل ولده، وإن جوز كونه غير ولد له عند الله، وهذا جهل منهم عظيم، لأن العلم لا يكون علما حتى يتناول المعلوم على ما هو به، وإذا تعلق الاعتقاد بالمعتقد على خلاف ما هو في نفسه عليه كان جهلاً وإن ظنه المعتكف علماً، وإنما أخذ على المكلف فيما ذكروه غلبة الظن لذلك والحكم على من ظاهره ما ذكروه يحكم الإسلام في المناكحة والموارثة، والدفن له في مقابر المسلمين، والصلاة عليه وحقن دمه. وغير ذلك من الأحكام، وهو مثل المأخوذ علينا في قوله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ} يعنى إذا أظهرن لكم الإيمان، وظننتم كونهن كذلك، فما ركبوه من هذا جهل بين وغلط فاحش، مع أن قولهم يجب أن يسبق إلى اعتقاد العموم قطعاً إذا لم يعلم ما نص اللفظ إقرار بأنه عموم لا يجوز تخصيصه إلا بدليل، فهذا قول أصحاب العموم، وليس من الوقف في شيء. فصل: وقد زعم بعض القائلين بالوقف إنه إذا ورد وعد ووعيد في أهل صفة من الصفات، نحو أن يقول لأنعمن المؤمنين، ويقول مع ذلك لأعاقبن المؤمنين أن أحدهما مستثنى من الآخر، وأنه في فريقين منهم، وأننا لا ندري من المراد بالثواب منهم ومن المراد بالعقاب، وأن الوعد والوعيد لا يصح أن يجتمعا في رجل واحد، ولا في أهل صفة واحدة وفرقة واحدة. وهذا باطل لأنه يجوز ما قالوه من أنه أراد بالوعد فريقاً منهم، وبالوعيد غيرهم ويجوز عندنا أن يجمع للشخص الواحد والفرقة الواحدة وعد ووعيد، فيتوعد المؤمن

الطائع على معاصيه، ووعده بالثواب والجنة على إيمانه وطاعاته، ويفعل ذلك به أو بهم في وقتين متغايرين على ما بيناه في الكلام في الوعيد. وهذه جملة من اختلاف من ينسب إلى القول بالوقف. فصل: ذكر الأدلة على وجوب القول بالوقف. أحد ما يدل على ذلك أنه لو كان للعموم صيغة تثبت له لم يخل العلم بذلك من أن يكون طريقه/ العقل أو اللغة والنقل. وقد اتفق على أنه لا مجال للعقل في ذلك، فيجب ثبوت ذلك- لو صح وثبت- لغة ونقلاً. وهذا باطل، لأن العلم بوضع ما يضعونه من الألفاظ لا يحصل إلا من طريقين: إما بالدخول معهم في المواضعة، وتلفي ذلك عنهم بغير واسطة، وهذا متعذر على كل من بعد عصرهم ومن لم يلقهم ويأخذ عنهم. أو بالنقل، والنقل عنهم ضربان: تواتر يوجب العلم ويقطع العذر. وآحاد لا يوجب العلم بضرورة ولا دليل، فإن كان خبراً من جملة أخبار الآحاد التي لا سبيل إلى العلم بثبوتها لم يجز أن تثبت بها لغة وصيغة من جهة للقطع والعلم، وإن لم يؤمن كون الرواية عنهم لذلك غلطاً وتأولاُ وظناً وكذباً متعمدا. فلا حجة فيما هذه سبيله فيما طريقه العلم.

وليس لأحد أن يقول هو من أخبار الآحاد المدلول على صحتها، لأننا قد قلنا إن جملة ما يدل على صدق المخبر أن ينص الله تعالى أو رسوله على صدقه، أو إجماع الأمة على ذلك، أو يوجب بصفة العقل صدق خبره أو بنقله الناقل له بحضرة قوم يدعى حضورهم الخطاب بما يقوم مقام دعواه. فلا يردون خبره على ما سنشرحه في كتاب الأخبار إن شاء الله تعالى، وليس في نقل صيغة العموم شيء من ذلك، فوجب اطراح الخبر عنهم به، وإن كان الخبر عنهم به متواتراً يوجب العلم وجب أن يعلم ذلك ضرورة من تواضعهم، وفي رجوعنا إلى أنفسنا ووجودنا لها غير عالمة بذلك، بل عالمة بخلافه دليل على سقوط هذه الدعوى وبطلانها، وثبت أنه لا سبيل إلى العلم بما يدعونه من العموم. وقد قلنا عند ذكر هذه الدلالة في إبطال لفظ وضع الأمر أو لكون الأمر على الوجوب أنه لا يجوز أن يقبل في إثبات لغة أخبار الآحاد كما قبل ذلك في مسائل الأحكام. وإنما عملنا بها في الأحكام لوضع التعبد به، وإجماع الصحابة عليه، وليس مثل ذلك في إثبات لغة بخبر واحد، وأنه ليس لهم قلب هذه الدلالة في القول بالوقف، وأنه لم يثبت به عنهم رواية وأن معنى القول بالوقف: أن اللفظ الذي يدعون وضعه للعموم لم تضعه أهل اللغة للعموم ولا للخصوص على ما ادعاه القائلون بذلك، وأنه لا يجب أن ينقل عنهم ما لم يضعوه. وإنما يجب نقل ما وضعوه واستغناء القول في ذلك بما يغني عن رده.

وقلنا أيضاً إن كانوا قد وضعوه لأحد الأمرين ولم ينقل ذلك عنهم/ فلا تقوم به الحجة علينا وجب القول بالوقف فيه لعدم علمنا بما وضعوه له، فبطل جميع ما يحاولون القدح به في هذه الدلالة. فصل: دليل آخر. ومما يدل - أيضا - على وجوب القول بالوقف اتفاق أهل اللغة والمعاني على حسن الاستفهام على مراد القائلين بقوله اصرم النخل، واضرب العبيد، ورأيت الناس، وأمثال ذلك وهل أراد بهذا الكلام البعض. ولذلك حسن الاستفهام عن قوله من عصاني عاقبته، ومن أطاعني أثبته، وأين رأيت زيداً أكرمته، ومتى كلمني كلمته. فلولا أن جميع هذه الألفاظ صالحة بإطلاقها للبعض تارة وللكل أخرى لم يحسن الاستفهام عن المراد بها عند إطلاقها إذ كان عندهم موضوعاً للعموم، ولم يصلح وروده أبداً للخصوص، وقد اتفق على أنه لا يحسن الاستفهام عن شيء لا يصلح تناول اللفظ له، ولا يجري عليه، ولذلك قبح أن يقال لمن قال رأيت الناس، هل رأيت الحمير أم الناس؟ وحسن أن يقال: أرأيت الكل أم البعض منهم. وإذا كان ذلك كذلك وجب صلاح استعمال مطلق اللفظ في عموم تارة وفي الخصوص أخرى، لأنه لو ورد مقرونا بما ينبئ عن البعض أو بما ينبئ عن الكل لقبح الاستفهام مع القرائن الدالة على المراد - وإنما يحسن الاستفهام عن معنى الإطلاق المتجرد عن القرائن لاحتماله الخصوص والعموم، كما يحسن عن معنى

إطلاق المشترك من الأسماء التي لم توضع لبعض محتملاته، ولو قال: رأيت لوناً سوادا وعيناً ناظرة أو مدركة أو نابعة لقبح أن يستفهم، فيقال له: أي لون وأي عين رأيت. وكل هذا يقضي على أن الاستفهام إنما يحسن مع إطلاق المحتمل من الألفاظ العاري، مما يدل على اللفظ إلى بعض محتملاته، وهذه قضية الاستفهام عن المراد بسائر الألفاظ المدعاة للعموم، فثبت ما قلناه. فلو قال قائل: ما أنكرتم من قبح ما ادعيتم حسنه من الاستفهام لم يكن لكلامه وجهاً، وكان بمثابة من أنكر الاستفهام في لسانهم عن معاني هذه الألفاظ أظهر في استفهامهم عن معنى كل لفظ محتمل، ولا وجه لمكالمة من بلغ إلى هذا الحد. ولو قال منهم قائل/ إنما يحسن الاستفهام عن معاني هذه الألفاظ إذا لم يكن المتكلم بها حكيماً، ولا ممن تجب طاعتهم فتحا الحكيم فلا يحسن استفهامه عن المراد بها. قيل له: لم قلت هذا؟ وما الفصل بين الحكيم والسفيه في هذا الباب، ومن تجب طاعته، ومن لا تجب لأجل أن اللفظ إذا صدر من حكيم واجب الطاعة مخالف لصيغة ما يصدر من سفيه لا تجب طاعته أم لأن أهل اللغة قالوا: قد وضعنا مجرد هذه الألفاظ للعموم إذا صدرت من حكيم واجب الطاعة ومشترك بين الخصوص والعموم إذا صدر عن سفيه. وهذا بعد من المتعلق به. وإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون الاستفهام عن المراد به حسن على ما

قلتم، غير أنه إنما حسن لصحة التجوز باستعمال مطلق اللفظ في الخصوص وإن كان حقيقة للعموم. وقد يحسن الاستفهام للمتكلم هل أراد بكلامه حقيقته أم مجازه إذا كان له حقيقة ومنه مجاز. يقال له: هذا تسليم منكم لجواز استعمال مجرد اللفظ في البعض كاستعماله في الكل. ودعوى منكم لكونه مجازاً في البعض، وظاهر استعمال اللفظ في الشيء وجريان الإسلام عليه يقتضي كونه حقيقة فيه. وإنما يصار إلى أنه مجاز بتوقيف منهم وحجة ودليل. ولو ساغت هذه الدعوى لساغ أن يدعي أن كل لفظ جارٍ على شيء فإنه مجاز فيه، وإن لم يقم على ذلك دليل. وهذا باطل باتفاق. ولو احتيج في جعل الاسم حقيقة فيما رأيناهم يجرونه لاحتجنا من ذلك إلى مالا غاية له وما ليس في الوسع والإمكان. ويدل على أن ظاهر الاستعمال يدل على أنه حقيقة فيما جرى عليه توقيفهم لنا على أنهم إنما يضعون الكلام لإفادة ما تحته وما يجري عليه، وأنهم لهذا القصد تكلموا ووضعوا الألفاظ. فهذا التوقيف منهم يقتضي كون ظاهر الاستعمال مفيداً لما جرى عليه اللفظ. وإنما يعلم أنه معدول به ومستعمل فيما لم يوضع لإفادته بتوقيف ودليل. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون مجرد هذه الألفاظ جار في العموم والخصوص على الحقيقة دون المجاز وإلا فهم هذه الدعوى بمثابة من قال حقيقته البعض. وإنما يستعمل في الكل مجازاً واتساعاً. وقد قال بذلك

أصحاب الخصوص وأيدوا دعواهم بأن استعماله/ في البعض هو الأغلب الأكثر في الكتاب والسنة وكلام أهل اللغة، واستعماله في الكل هو القليل النزر. وما وضع لشيء لا يرد له قليلاً نادراً، وإنما يرد كذلك فيما لم يوضع له، وهؤلاء أسعد بدعواهم من أصحاب العموم. ثم يقال لهم: أنتم في شغل من إقامة الدليل على أن هذه الألفاظ مستعملة في البعض على سبيل المجاز، ولو سلم ذلك لكم لسلم القول بالعموم. وقد أفسدنا من قبل كل عمدة لكم في وجوب القول بالعموم، فبطل ما قالوه. فصل: دليل آخر ومما يدل على ذلك وجودنا أهل اللغة يستعملون مطلق جميع ما ادعوه من الألفاظ تارة في الكل وتارة في البعض، كما يستعملون القول "عين ولون "في جميع ما يشترك في الاسم فوجب القول بكونها مشتركة محتملة. فإن قالوا: إنما يستعمل مطلقها في البعض مجازاً فقد أجبنا عن ذلك بما فيه بلاغ وإقناع. وأقل ما يجب في ذلك أن يقال، بل هي لأقل الجمع حقيقة، ومجاز فيما زاد عليه، وما هذه الدعوى إلا بمثابة من قال إن مطلق اسم اللون مستعمل في السواد وجارٍ على ما عداه مجازاً واتساعاً. ويقال لهم: لما كان استعماله في البعض هو الأكثر الأغلب وجب كونه حقيقة فيه وأن يكون مجازاً في الكل، لأنه هو الأقل.

فإن قالوا: ما وجدناه قط مستعملاً في البعض إلا بقرينة قيل: بل لا نجده مستعملاً في البعض إلا مطلقاً "ولا وجدناه قط مستعملاً إلا مطلقاً "ولا وجدناه قط مستعملاً في الكل إلا بقرينة وما وجدناه مستعملاً في الكل إلا في خبرين أو ثلاثة وهو قوله: {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقوله تعالى: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. وبدليل العقل وجب القضاء على عمومه، وما جرى مجراه، وهذا مما لا حلية فيه. فأما قول من زعم من الفقهاء أن المتصل به قرائن الخصوص ليس هو كاللفظ العاري من ذلك. وأنهما لفظان وصيغتان مختلفتان فإنه قول بعيد، وكلام من لا يعرف حقيقة المثلين لأنهما يدركان ويكتبان على وجه واحد. واتصال القرائن باللفظ لا يقلب جنسه ولا يغير صورته، على أنه يقال لهم إن كانت الصيغة المتجردة/ مخالفة للمتصلة على ما يدعون. فالمتجردة هي 359 الموضوعة للبعض والمقترنة على المستعملة في الأكل. ولا جواب عن ذلك. وكل شيء أبطلنا به قول مثبتي العموم، فهو بعينة دليل على إبطال مدعي القول

بالخصوص، لأن دعاويهم في ذلك متقاومة، ولا حاجة إلى تكرار ذلك. وإنما تجب البينة عليه من الكلام على مدعي العموم فإنه ظاهر. وهذه جملة في الدلالة على ما قلناه كافية إن شاء الله.

باب القول في جواز تخصيص العام- لو ثبت- بضروب من الأدلة

باب القول في جواز تخصيص العام- لو ثبت- بضروب من الأدلة أعلموا أن كل دليل صرف هذه الألفاظ المدعاة للعموم إلى البعض فإنه عندنا دليل على صرفه إلى أحد محتمليه، ولا يوصف عندنا بأنه تخصيص للعام، ولكنه بيان مشترك ومحتمل من الألفاظ. فأما القائلون بأنه مبني للعموم فإنهم يقولون هو تخصيص العام، وقد بينا مرادهم بهذا الكلام، وإن تخصيص لما لولا الدليل المخصص له لكان عاماً. فأما أن يكون عاماً مع قيام الدليل على تخصصه فإنه مناقضة ومحال. ولا يعرف منهم من لا يجوز تخصيص لفظ العموم بدليل، وإن اختلفوا في كيفية الأدلة على ذلك. ومن قال منهم: لا يجوز تخصيص اللفظ العام في الزمان الوارد بوجوب العبادة فيها فقد غلط وأخطأ، لأن اللفظ إذا ثبت عمومه في الأزمان إما بصيغته أو ببعض أدلة التكرار وجب القطع على عمومه، ووجب وصف الدليل المزيل للعبادة في بعضه بأنه نسخ وتبديل للحكم بعد ثبوته واستقراره، وليس هذا من تخصيص المبين لما لم يرد باللفظ، ولم يتبين الحكم فيه بسبيل، على ما سنبينه في كتاب ذكر الفرق بين النسخ والتخصيص إن شاء الله. والذي يدل على صحة تخصيص اللفظ- لو ثبت عمومه- قيام أدلة

العقل والسمع المنفصلة على تخصيص قوله: {واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {خَالق كُلِّ شَيْءٍ} / وقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، وقوله: {يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}، وأمثاله. وتخصيص أدلة السمع لقوله: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}، {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وقوله: {ووَرِثَهُ أَبَوَاه} وقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الرقة ربع العشر "وقوله: "فيما سقت السماء العشر ". وكل عموم ورد في عبارة، فهذا حكمه فوجب القول

بصحة التخصيص، ويدل على ذلك- أيضاً- حسن الاستثناء من ألفاظ العموم، وليس فيه أكثر من إخراج بعض من حصل تحت الاسم، وهذا هو معنى تخصيص أدلة العقل والسمع المنفصلة، فوجب تساويهما، وصح بذلك ما قلناه لو ثبت القول بالعموم.

باب القول في لفظ العموم إذا خص عند مثبتيه هل يصير مجازا أم لا والخلاف في ذلك

باب القول في لفظ العموم إذا خص عند مثبتيه هل يصير مجازاً أم لا والخلاف في ذلك اختلف مثبتو العموم في هذا الباب فقال كثير منهم إذا خص بأي دليل كان من حجة عقل أو شرع أو قرينة لفظ من استثناء متصل به أو كلام منفصل ليس باستثناء صار مجازاً. وبه قال كثير من المتكلمين منهم الجبائي وابنه، وقاله كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وإليه ذهب عيسى بن أبان.

وقال الكرخي ومن قال بقوله من المتأخرين إنه إذا خص بكلام متصل من استثناء وما جرى مجراه كان مع الاستثناء واللفظ المتصل به حقيقة لما بقي مما عدا المستثنى، وتغيرت بذلك دلالته وصار مع صلته لغير ما كان موضوعاً له بمجرده. وإنه إن خص بدليل منفصل من حجة عقل أو دليل سمع صار مجازاً. وقال كثير من الفقهاء على اختلاف مذاهبهم إنه إذا خص بأي دليل كان، سواء كان لغوياً متصلاً أو قياساً معنوياً فإنه يصير مع دليله وقرينته حقيقة فيما بقي لأن الدليل أثر فيه وغير قضية مجرده. ويجب أن يشترط هؤلاء في أنه حقيقة فيما بقي أن يكون الباقي أقل الجمع. فأما إن بقي منه الواحد والاثنان فإنه يصير مجازاً لا محالة، لأنه اسم جمع، والواحد والاثنان ليسا بجمع. وغرض هذا الاختلاف إنه يجوز التعلق بما دخله الخصوص وعدا المخصوص أم لا؟ والذي نختاره إنه يصير مجازاً إذا خص بالأدلة المنفصلة/ 361 دون الاستثناء المتصل به وما جرى مجراه من الألفاظ. وقد كنا نصرنا القول بأنه يصير مجازاً إذا خص بأي دليل كان. وأنه يصح التعلق به فيما بقي بعد تخصصه بالأدلة المنفصلة وإن كان مجازاً.

وأما الدليل على أنه يصير مجازاً إذا خص بالقياس ودليل العقل وغيرهما من الأدلة المنفصلة، فهو أنه يصير بذلك الدليل معدولاً به عن موضوعه ومستعملاً في غير ما وضع له، ولفظه وصيغته بحالة لم يتصل به لفظ ولا نقص منه حرف، وهذه صفة المجاز وحقيقته، على ما بيناه من قبل، ولو أمكن أن يكون ما صرفته الأدلة المنفصلة عن موضوعه ومقتضى إطلاقه حقيقة فيما صرف إليه بالقرينة لصار كل مجاز حقيقة فيما اقتضته القرينة، ولسقط المجاز من الكلام جملة، ولصار القول في الإنسان البليد والرجل الشديد إنه ثور وحمار وأسد حقيقة مع القرائن الدالة على أن القصد غير ما وضع له في الأصل، وقد بينا هذا الفصل من قبل. ولما بطل ذلك وثبت المجاز من الكلام بطل ما قالوه. فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون الفصل بين الأمرين أن لفظ العموم يتناول ما أخرجه الدليل وما بقي تحت ويقع عليهما، فإذا أخرج الدليل بعضه كان الباقي مما دخل تحت اللفظ ووقع عليه الاسم فيجب أن يكون حقيقة فيما بقي. والقول أسد وحمار لا يقع على الإنسان بحال. فإذا عدل به إليه كان مجازاً فيه، فافترق الأمران. يقال لهم: ما قلتموه باطل من وجهين: أحدهما: إن إطلاق اللفظ لم يوضع لقدر ما بقي، وإنما وضع عند مثبتي

العموم لاستغراق الجنس, فإذا صرفه الدليل الذي لا يغير لفظه وصيغته إلى البعض خرج عن مفهوم مطلقه ومقتضاه, فوجب كونه مجازًا من حيث فهم منه مع القرينة خلاف ما يفهم من إطلاقه. والوجه الآخر إنه لو كان ما قلتموه صحيحًا لوجب إذا أخرج الدليل وانفصل كل ما تحت العموم إلا واحد منه أن يكون أيضًا حقيقة في الواحد, لأن الواحد الباقي مما كان داخلاً تحت اللفظ ومراد به وواقع عليكم أن هذه حال ما زاد عليه من أبعاض العام, ولما اتفق على فساد ذلك, لأجل أن اللفظ لم يوضع للواحد وإن تناوله في جملة الجنس, وإنما وضع للاستغراق وجب أيضًا أن يصير مجازًا, وإن بقي تحته الثلاثة والألف, وكل ما قصر عن الاستغراق, وأنه لم يوضع مجرده لذلك القدر, كما لم يوضع للواحد. فسقط ما قالوه/. فصل: وليس لأحد أن يقول فقولوا لأجل هذا إنه حقيقة مجاز, فيكون حقيقة فيما بقي, لأنه مما دخل تحت اللفظ, ومجاز من حيث لم يكن مستغرقًا. قلنا: لأنه يكفي غي كونه مجازًا خروجه بالقرينة عما يقتضيه الإطلاق, ولا يكون حقيقة فيما بقي, لأنه لم يوضع له وحده. فلذلك لم يجز أن يقال إن لفظ العموم إذا خص حتى بقي يبقى منه واحد, فإنه حقيقة لبقاء شيء ما تحته. ومجاز من حيث خرج منه بعضه, فبطل ما قالوه.

فصل: فأما إذا خص باستثناء متصل به, نحو أن يقول اقتلوا المشركين إلا زيدًا وإلا أهل الكتاب ونحوه, فإنه يكون مع الاستثناء حقيقة فيما بقي. والدليل على ذلك أن اتصال الاستثناء به يغيره ويؤثر في معنى لفظه, لأن كثيرًا من الكلام إذا اتصل بعضه ببعض كان له بالاتصال تأثيرًا ليس له بالانفراد. ولذلك احتاج الابتداء إلى خبر من كلام المبتدأ ليكون مفيدًا, والكناية إلى تقدم مذكور يكون كناية عنه, وأمثال ذلك. ولهذا وجب أن يكون قولنا زيد اسم الشخص الواحد, فإذا زيد عليه ياء ونونًا صار اسما للاثنين وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون هذا حكم اللفظ مع الاستثناء في أنه يصير باقترانه اسما لقدر ما بقي, ولو عري لكان عامًا. وكذلك القول عشرة إلا واحد, وألف سنة إلا خمسين عامًا, وأمثاله في أن إطلاق الاسم بغير استثناء يفيد الجملة التامة ويصير مع الاستثناء اسما لقدر ما بقي. ولمثل هذا بعينه كان القول رجل اسم واحد منكر. فإذا زيد عليه ألف ولام, وقيل الرجل صار معرفة أو للجنس عند أصحاب العموم فيتغير معناه بما وصل به. وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلناه من الفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة. فإن قالوا: فقولوا لأجل هذا إن قوله تعالى. فاقتلوا المشركين إذا اتصل به قول الرسول إلا زيد, أو قوله ولا تقتلوا زيدًا وفلانًا وفلانًا فإنه يكون حقيقة فيما عدا المستثنى. قيل: من الناس من يقول ذلك ويجعل استثناء الرسول المتصل بمنزلة

الاستثناء من كلامه تعالى فلا سؤال لكم عليهم والصحيح إن كلام غير المتكلم باستثناء, وما جرى مجراه جار مجرى سائر الأدلة المنفصلة, وإنما يؤثر في تغيير معنى كلامه ما يتصل به من قوله دون قول/ غيره. كما أن استثناء غير المتكلم من كلامه, وإن اتصل به لا يكون استثناء منه على الحقيقة, وإنما يكون استثناء صحيحًا إذا كان من كلام المتكلم بالعام, ولأجله لم يجز أن يصير قول القائل زيد مع قول غيره مقترنا به قام أو قائم ابتداء وخبرًا. وإنما يكون كذلك إذا كانا من كلام متكلم واحد, وكما أن إرادة المتكلم بالكلام عند كثير من الناس يؤثر في كونه أمرًا وخبرًا دون إرادة غيره. وكما نقول نحن في أن إرادة المعبر عن الكلام هي المؤثرة في جعل أصواته عبارة عن بعض ما يصح أن يكون عبارة عنه دون إرادة غيره. وإذا كان ذلك بطل مل قالوه. فصل: فإن قال قائل: فقولوا إن لفظ العموم إذا أخرج الاستثناء المتصل به جميع ما تحته إلا واحدًا منه, فإنه مع الاستثناء حقيقة فيما بقي وأن الاسم اسم للواحد الباقي. يقال له: لا يجب ما قلته, لأنهم قد وقفونا توقيفًا علمناه ضرورة أن اسم الجمع لا يجري على الواحد حقيقة, وأنه لا يقع في لغتهم إلا على آحاد مجموعة تحته, فلم يجب ما قلتم. والقول مشركون اسم جمع باتفاق, والجمع

يكون جميع الجنس على الاستغراق. فيكون أقل منه من الجمل والأقدار. وقال أصحاب العموم: إنه إذا أطلق بغير استثناء كان مفيدًا للجميع, هو جميع الجنس. وإذا استثنى منه ما يكون الباقي بعده جمعًا كان اسما ومفيدًا لقدر ما بقي, وكان ذلك القدر جمعًا حقيقيًا. وإذا كان الباقي بعد الاستثناء منه واحدًا فقط خرج عن أن كونه جمعًا, وكان تناول اللفظ مجازًا, فبان سقوط ما قالوه.

باب القول في أنه يصح الاستدلال به على قدر ما بقي؟ وإن كان مجازا إذا خص بالمنفصل من الأدلة

باب القول في أنه يصح الاستدلال به على قدر ما بقي؟ وإن كان مجازًا إذا خص بالمنفصل من الأدلة والذي يدل على ذلك أن الباقي مما كان يتناوله الاسم مع غيره, فإذا خرج الغير بدليل بقي هو تحت الاسم, وكان متناولاً له, فصح الاستدلال به عليه, ويبين ذلك أنه معلوم بإطلاق الاسم أن ما بقي تحته مراد, وما خرج منه مراد لولا القرينة. فمنعت القرائن من العلم بأن ما أخرجته مراد, وبقي الباقي معلومًا دخوله تحت اللفظ. فلم تبطل الدلالة فيه, ولم يكن للوقف فيه وجه. فإن قالوا: إذا صار مجازًا بالتخصيص, صار بمثابة سائر المجازات التي لا يصح أن يعلم بظاهر اللفظ منها المراد بها. قيل: هذا باطل, لأن ماعدا هذا الباب ليس ما تجوز فيه داخل تحت اللفظ, ونحو القول حمار في البليد ومرته في أهلها.

ولفظ العموم واقع ومتناول في الحقيقة لما بقي تحته مما يزيد على الواحد, 364 وما أخرجه الدليل لخروج ما خرج لا يمنع تناول اللفظ لما بقي/ فافترق الأمران. وشيء أخر يبطل ما قالوه: وهو أنه لا يمتنع الاستدلال بظاهر قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} وبذكر العذرة وإن كان متجوزًا بهما في الحدث, لأن معناهما مفهوم فقد صار الحقيقة, وكذلك إذا كان ما بقي تحت اللفظ من الجموع مفهومًا بعد الاستثناء صح التعلق به, فبطل ما قالوه. ومما يدل على صحة الاستدلال بالعام المخصوص, وإن كان مجازًا اتفاق الصحابة على الاستدلال بذلك وتسويغهم له, ولذلك سوغوا لفاطمة عليها السلام الاستدلال بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وإن كان مخصوصًا, قد خرج منه الكافر والعبد وقاتل العمد. وكذلك قوله {إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وإن كان مخصوصًا فيمن عدا الأختين بملك اليمين. وكذلك تعلقهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "الماء من الماء", وإن كان

مخصوصًا فيما ليس بمذي ولا ودي, وتتبع ما تعلقوا به من العمومات المخصوصات طويل جدًا. ولعله ليس في أحكام الشرع لفظ عام إلا وهو مخصوص. وقد تعلق به السلف والخلف. فسقط ما قالوه.

باب القول في ذكر الفصل بين النسخ والتخصيص ووصف الأصل الذي مع القول به يصح الفصل بينهما

باب القول في ذكر الفصل بين النسخ والتخصيص ووصف الأصل الذي مع القول به يصح الفصل بينهما اعلموا- أحسن الله توفيقكم-إنه لا يصح الفرق بين معنى النسخ والتخصيص إلا على ما نذهب إليه من أن التخصيص بيان ما أريد باللفظ مما لم يرد به ما دخل قط تحته من قصد المتكلم. وأن النسخ إنما هو رفع الحكم بعد ثبوته واستقرار فعل وقته وتنفيذ موجبه. وسنبين هذا الحد, وندل على صحته في كتاب الناسخ والمنسوخ إن شاء الله. فأما من قال من المتكلمين والفقهاء إن حقيقة النسخ ومعناه إنه: "بيان مدة انقطاع العبادة المتراخي عن وقت الخطاب". أو "الأمر الدال على أن مثل الحكم الشرعي الثابت بالمنسوخ غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتًا بالنص الأول مع تراخيه عنه". أو "إنه البيان عن سقوط حكم شرعي في المستقبل مثل الحكم الماضي الثابت بالشرع على وجه لولاه لكان الحكم ثابتًا من جهة الشرع" وما هذا

معناه من الألفاظ فإنه لا فصل على قولهم بين النسخ والتخصيص فيما لأجله كان التخصيص تخصيصًا ومجرى عليه هذا الاسم في الحقيقة أو مجاز. وذلك أننا قد اتفقا جميعًا على أن الأشخاص والأزمان لا يدخلان تحت قدر العباد ولا يتناولهما التكليف في خصوص ولا عموم, وإنما التكليف/علينا في قوله: اقتلوا المشركين. وقوله: صلوا أبدًا دائمًا إيقاع القتل في جميع في جميع من يجري عليه الاسم, وإيقاع الصلاة في جميع الأزمان. فإذا بين أنه أراد إيقاع في الفتل في بعضهم كان ذلك تخصيصًا ولم يكن نسخًا, لأنه لم يستقر وجوب القتل فيمن خص منهم, ولا يجوز أن يقال قد نسخ الحكم فيمن لم يقصد به ويدخل تحت اللفظ. وكذلك إذا قال صلوا أبدًا دائمًا ثم نسخ بعد ذلك أو بعد دلالة التكرار وإن لم يكن لفظًا فإنما بين عند من خالفنا في حد النسخ وحقيقته إنه لم يرد إيقاع في الأزمان المستقبله, وإن كانت داخلة تحت الإطلاق, وإن صح عندهم عما لم يرد إيقاع الصلاة فيه من الأزمان فيجب لا محالة أن لا يقال نسخ العبادة في ذلك الزمان, لأنه لم يرد إيقاعها فيه, وإنما بين أنه مما لم يرد, كما لا يجوز أن يقال نسخ وجوب قتل ذي العهد والأمان والطفل والنساء والشيخ الفاني, لأنهم ممن لم يرد إيقاع القتل فيهم بالخطاب, وهذا مما لا يلتبس على من له أدنى تحصيل تساويهما وتعذر الفصل بينهما. فوجب على قولهم أن يكون النسخ تخصيصًا على الحقيقة, وليس بتبديل للحكم. فإن جازت تسميته نسخًا وحاله ما ذكرناه وجبت تسمية كل تخصيص لعموم من الأحكام وغيرها نسخًا وإن كان بيان ما لم يرد بالخطاب, ولا مخرج لهم من ذلك أبدًا. فإن قال قائل: فكيف يصح على أصولكم أنتم القول بالنسخ مع إنكاركم القول بالعموم.

يقال له: إن قلنا بالعموم تسليمًا ونظرًا. قلنا إن النسخ إنما يكون نسخًا بأن ترفع العبادة في الأوقات المستقبلة بعد وجوبها فيها وثبوتها واستقرارها, ويكون نسخًا لها قبل دخول وقتها, وبمنزلة نسخ الفرض الواحد وإسقاطه قبل دخول وقته, وذلك صحيح حكمه, وصواب عندنا. وإن لم يقال بالعموم قلنا: يصح النسخ بأن يدل الدليل على وجوب تكرر العبادة في سائر الأوقات بشيء غير مطلق اللفظ. فإذا ورد بعد ذلك ما يزيل الحكم في بعضها كان تبديلاً للحكم ونسخًا للفعل قبل وقته, وجمهور ما دخله النسخ من أحكام الشرع ما ثبت تكراره بدليل دون لفظه, فعلى القول بهذا يصح معنى النسخ, والفرق بينه وبين التخصيص. فإن قال قائل منهم: ما أنكرتم أن يكون الفصل بين النسخ والتخصيص ما ذكرتم, لأن التخصيص بيان لم يرد باللفظ مما يقع عليه ويتناوله./ 366 والنسخ إنما له مدخل فيما دل الدليل على تكراره, لا فيما تناوله اللفظ فافترقا لهذا الوجه. يقال لهم: أنتم تجيزون نسخ ما أوجب اللفظ العام دوامه, كما تجيزون

نسخ ما دل الدليل على تكراره, فوجب أنه لا فصل بينهما. وقول من قال منكم إنما أجيز مسخ مثل هذا إذا أشعر معه بما يؤذن بجواز النسخ, نحو قوله إلى أن أنسخ, وإلا أن أنسخ عنكم لا ينجيه, لأن أكثر ما في هذا الإشعار تجويز النسخ, وهو قائم في العقل, وإن لم يقل ذلك, ثم إذا نسخ أوقع عندكم ما أوجبه اللفظ الأول, بل بين ما لم يرد به, فليس إذا نسخ ولا تبديل. ثم لو لم يقولوا إن من الشريعة نسخ لما أوجب اللفظ دوامه لم يكونوا- أيضًا- قائلين بالنسخ, لأن الدلالة عندكم إذا دلت على التكرار, ثم ورد نسخ العبادة في مستقبل الأزمان, فإنما بين أنها لم ترد في تلك الأزمان, وأن تلك الدلالة التي كان ظاهرها يتصور به التكرار المراد بها ذلك القدر دون ما بعده, فهو إذا بيان ما أريد مما لم يرد, وذلك ليس من النسخ والتبديل في شيء, وإنما هو بمثابة بيان لم يرد باللفظ العام في الأعيان من حيث لا فصل بينهما. فصل: فإن قالوا: إنما بفصل بين التخصيص والنسخ من حيث جاز التخصيص بخبر الواحد والقياس, وامتنع إعمالهما في النسخ بهما. يقال لهما: قد بينا أنه لا يمكن على أصلكم الفرق بينهما- فيجب أن يعلم القياس وخبر الواحد في النسخ, لأنك لا ترفع وتزيل بالناسخ حكمًا ثبت واستقر, وإنما تبين بهما ما لم يرد مما أريد, كما تصنع ذلك في تخصيص الفعل في الأعيان فيجب أن تسوي بينهما من حيث لا فصل. فأما نحن قلنا أن نفصل بينهما, فنقول التخصيص بيان لم يرد بالخطاب ولم يستقر حكمه ولم يتيقن ثبوته والنسخ رفع ما قد علم وثبت

واستقر ويرد حكمه, فلا يجوز أن نزيله إلا بمتيقن مثله. وليس هذه حال خبر الواحد والقياس. فبطل ما قلته. ثم إن ما سألتنا عنه خارج عن جواب ما ألزمناك من تساوي معنى النسخ والتخصيص على أصلك وتعذر الفرق بينهما, وإنما هو ابتداء سؤال آخر أحد أجوبته ما ذكرناه. وشيء آخر, وهو أن نقول كان لا يستحيل في العقل التعبد برفع الحكم بخبر الواحد والقياس إذا وجد الشرط/367 ما يلزم العمل بهما وإن رفعا وبدلا بيانًا معلومًا. كما لم يستحل أعمالهما في ابتداء إيجاب وحظر لما لا يوجبه ويحظره العقل, وما يتيقن أن العقل مزيل لحظره وإيجابه فيزول بهما عن الحكم المعلوم. ولكن قد ادعى أكثر الناس إنه إنما امتنع ذلك من ناحية الإجماع على منعه وإن كان بمعنى ابتداء إثبات الحكم بهما. وقد قال كثير من أهل العلم: إنه لا إجماع في ذلك, وأن النسخ قد وجد بخبر الواحد وشاع في الصحابة. وإن تحليل المتعة, وأكل لحوم الحمر الاهلية إنما نسخ بخبر علي عليه السلام, وما رواه

عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في عام الفتح. وكذلك فإنما نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وزيارة القبور, والإنتباذ في الظروف بأخبار الآحاد وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا فزوروها" ونحوه. وروى الناس أن أهل قباء تحولوا عن الصلاة إلى بيت المقدس إلى الكعبة بخبر واحد أخبرهم بذلك.

ويجب على الجواب الأول أن يقال إنه كان مع هذه الأخبار أخبار أخر وأحوال أوجبت العلم بصدق ما رواه هؤلاء الآحاد. ويجب على الجواب الثاني أن يقال إنما لم ينسخوا أمثال هذه الأحكام الثابتة بأخبار آحاد, لأنه كان فيها وفي روايتها وطرقها ومعها ما يمنع من النسخ منها. ولعلنا أن نستقصي القول في ذلك في فصول القول في النسخ إن شاء الله. وليس الكلام في هذا الباب من جواب ما أخذناهم به من التسوية بين معنى النسخ والتخصيص في شيء.

باب القول في أقل ما يمكن دخول التخصص فيه وفي إحالة تخصص المجمل من الخطاب

باب القول في أقل ما يمكن دخول التخصص فيه وفي إحالة تخصص المجمل من الخطاب اعلموا إنه إنما وصف لفظ العموم عند مثبتيه بأنه مخصوص من حيث أخرج من الخطاب ما لولاه لوجب دخوله فيه, فكل دليل أخرج منه ما هذه سبيله فهو تخصيص له. وإذا كان كذلك وجب إحالة دخول التخصص في اسم الواحد, لن من حق التخصص أن يخرج بعض ما تحت الاسم مع بقاء البعض تحته. والواحد لا بعض له, فلا يصح ذلك فيجب فيه, ويجب أن يكون أقل ما يدخله التخصص اسم اثنين فصاعدًا. ولم يصح أن يكون ما بين المراد بالمجمل تخصيصًا له, لأن الذي لم يرد به ليس الخطاب متناولاً له, ولا يجب دخوله تحته, وإنما هو مما كان يصح أن يراد به. فلذلك لم يصح أن يكون ما بين المراد بقوله: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ} مخصصًا لاسم الحق والجزية/ 368 لأن ما لم يرد بهما ليس مما وجب تناول الاسم له, ولذلك لم يكن سقوط صلاة سادسة عن قائل لا إله إلا الله مخصصًا لقوله: {إلاَّ بِالْحَقّ}. ولم يكن سقوط فرض إخراج ثوب عن الزرع

تخصيصًا لقوله: حقه. وكذلك فليس سقوط إخراج بعير وشاة. عن أهل الجزية تخصصًا لقوله: الجزية. وإنما يكون المخصص مخصصًا لما يجب دخوله تحت الاسم أو ما يجري عليه الاسم في وضع اللغة إذا انفرد ويصح مع ذلك دخوله تحت لفظ الجمع, وليس ذلك حال ما لم يرد بالمجمل. فإن قيل: أفلستم قد قلتم إن التخصص والاستثناء من لفظ الجمع إنما يخرج منه ما يصح أن يدخل تحته, لا ما يجب دخوله فيه. فقولوا ذلك فيما لم يرد بالمجمل, لأنه كان مما يصح أن يراد. يقال لهم: لو قلنا نحن ذلك في تخصص المجمل على هذا الأصل لصح, وإن لم يصح ذلك لمن قال إنما يخرج التخصيص من الخطاب ما يجب دخوله فيه, ثم إن الفصل بين تخصص أسماء الجموع وبين بيان المجمل إن كل ما لم يرد بالمجمل ليس هو ما يجري عليه الاسم في وضع اللسان, وإنما يصير حقًا بحكم الشرع, وليس كذلك حكم ما لم يرد باللفظ في قولك مشركون وناس, لأن مالم يرد من ذلك ليس مما يجري عليه الاسم في حكم الوضع فافترقا. ويجب على هذا الأصل أن لا يمتنع وصف ما بين المراد بالاسم المشترك ما لم يرد به تخصصًا له, لأنه مما يجري عليه الاسم في اللغة وإن لم يرد.

باب الكلام في إحالة تخصص ما ثبت الحكم فيه بلحن القول وفحواه

باب الكلام في إحالة تخصص ما ثبت الحكم فيه بلحن القول وفحواه وهذا نحو امتناع تخصص ما عقل من قوله تعالى: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}. {ومِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ}. وأمثال ذلك, وإنما امتنع تخصص المفهوم منه مما عذا المنصوص عليه من الأذى والذرتين ونصف الذرة مما تتناوله الاسم ودخل تحته, وإنا هو مفهوم منه وفي معنى المستنبط, وإن لم يكن كذلك, ولكنه مما يسبق إلى الفهم العلم به من غير ذكر له بتسمية ولا استنباط على ما بيناه من قبل. وقد بينا فيما سلف أن التخصص لا يكونه تخصصًا إلا للقول وإخراج لما يتناوله ويجب دخوله فيه, أو يصح دخوله تحته، ويجري الاسم عليه لانفراده, وليس هذه حل المفهوم بلحن الخطاب وفحواه, فامتنع لذلك تخصصه.

والوجه الآخر أن تخصص/ 369 ما هذه سبيله نقض للكلام وإحالة فيه على قول جميع أهل اللغة, لأنه لو قال: ولا تقل لهما أف وأضربهما وانهرهما لكان ذلك نقضًا ظاهرًا, وكذلك لو قال لا تظلمون مثقال ذرة, ولكن تظلمون أحد لكان ذلك نقضًا وخلفًا من القول. فإذا كان ذلك كذلك امتنع تخصص ما هذه حاله, ولكن يصح تخصص الأوقات في مثل هذا فيقول لا تقل له في يومك ووقتك هذا أف وأضربه وأنهره في غد, ولا تقل له أف إذا كان مؤمنًا بالله. فإذا لم يكن مؤمنًا تغيرت الحال. ومفهوم الخطاب وموجب مفهوم الخطاب. وهذت صحيح لاختلاف الأغراض والدواعي والمصالح فيه. فصل: ومما يلحق بهذا الباب- أيضًا- امتناع تخصص ما ثبت حكمه من ناحية فائدته بالنص على تعليله بقول "جار" مجرى النص على ذلك. وهذا نحو قولهم لا تصحب الفاسق والجاهل, وأصحب البر الطاهر, وقد علم أن هذا ترغيب وتحذير, وقائم مقام النص على ذلك التعليل, وبمثابة أن يقول لا تصحب الفاسق لفسقه واصحب البر لبره, فإذا قال ولا تصحب فلانًا البر واصحب زيدًا الفاسق نقض تعليل, وأبطل فائدته. ومن هذا- أيضًا- قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} , {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} فكأنه قال اقطعوه لكونه

سارقًا. وإنما يدخل التخصص في ذلك للعلم, فإنه أراد سارقًا وزانيًا على صفات مخصوصة, وكأنه قال لقطع سارق ربع دينار, والسارق من حرز لكونه سارقًا على هذه الصفة فلا يصح تخصصه مع حصول الصفة, لأنه نقص للتعليل. ومعنى الكلام. وكذلك لو قال قائل: فد نهيتك عن صحبة الفاسق العاصي بالزنا لكونه عاصيًا له لصح أن يقول: وقد أطلقت لك صحبة العاصي بغير ذلك, فيجب ترتبه على ما قلناه. ويجب على هذه إحالة تخصص دليل الخطاب عند مثبتيه, نحو قوله: "في سائمة الغنم زكاة" لأن دليله عندهم أن لا زكاة في المعلوفة. فلو دل دليل على أنه أراد (بعض) إسقاطها عن بعض المعلوفة دون بعض لم يكن ذلك تخصيصًا, لأنه لم يقل ولا زكاة فيما لا سوم فيه. وإنما بهم ذلك دليلاً. والتخصص إخراج ما تناوله الاسم، ويجب إذا كان دليل الخطاب عندهم من مفهومه امتناع دخول التخصص فيه, لأنه نقض للدليل.

باب القول في إحالة تخصص الفعل والحكم والقضاء والجواب الواقع من الرسول عليه الصلاة والسلام/

باب القول في إحالة تخصص الفعل والحكم والقضاء والجواب الواقع من الرسول عليه الصلاة والسلام/ قد بينا فيما سلف استحالة دخول العموم في المعاني وسائر الأفعال, وأنه إنما يدخل في ضرب من القول مخصوص من حيث بينا أن الفعل لا يعم ذاتين, ولا يوجد شيئين. وأنه محال أيضًا دعوى العموم في المعاني, نحو دعوى من قال إن قوله: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل". "ولا صلاة إلا بطهور". "ولا نكاح

إلا بولي". "ولا عمل إلا بنيه. " ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"

وأمثال ذلك, وأنه يجب حمل هذا النفي ونحوه على أنه نفي للإجزاء أو الكمال وعلى كل وجه, لأن المراد بالنفي غير مذكور باسمه, وإنما هو محذوف ومتجوز بنفي المذكور وقد يصح أن يريد نفي جميع أحكام الفعل, ويصح أن يريد الواحد منها فلا يسوغ دعوى العموم فيما لم يذكر ويسم, وإنما يسوغ دعوى ذلك فيه لو قال لا حكم للفعل بغير نية أو أحكام الفعل بغير نية باطلة, فأما أن يقول لا صلاة, والصلاة واقعة, وهو لا ينفي الموجود, فإنه قول باطل. وقد قلنا هذا فيما سلف, وكذلك سبيل امتناع دعوى العموم في قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" لأنهما واقعان, وإنما المراد يرفع حكم الخطأ والنسيان, وهو غير مذكور بلفظ واحد أو جمع, فقد يصح أن يريد رفع جميع أحكامه, ويصح أن يريد نفي البعض منها فيجب إيقافه على الدليل. وإذا كان ذلك كذلك استحال أيضًا دعوى العموم في الفعل الواقع منه

عليه السلام, لأنه فعل واحد, وليس بلفظ, والفعل الواحد بمنزلة النص على العين الواحدة التي يستحيل دخول التخصص فيها, ولو كان- أيضًا- جملة من الأفعال لم يصح أن يكون عمومًا, وإنما العموم القول الذي قدمنا ذكره من الأسماء, وليس لأحد أن يقول إنه إذا أوقع فعلاً جملته على عموم الوجوه التي يصح وقوعه عليها, لأن ذلك إحالة من القول, وذلك أن الفعل الواقع منه لا يصح أن يفعل إلا على وجه واحد, ويستحيل وقوعه منه على وجهين مختلفين حتى يوقعه أداء, ويوقعه فرضًا, ويوقعه نفلاً, ويوقعه محظورًا ومباحًا ومضيقًا مستحقًا وموسعًا, ويوقعه ذاكرًا وناسيًا. كل هذا الحال ممتنع, وإنما استحال لاستحالة كونه عالمًا ذاكرًا للفعل وناسيًا له لتضاد الذكر والنسيان, وكذلك قصده إلى الأداء ضد قصده إلى القضاء, والقصد إلى كون الفعل مباحًا ضد القصد/ إلى كونه قربة, والقصد إلى التقرب به على وجه الإيجاب والفرض ضد القصد إلى التقرب به نفلاً, وإذا تضادت هذه القصود تضادًا معلومًا بأول في العقل, وبأمر يجده المكلف في نفسه. وكانت حاله عليه الصلاة والسلام فيما يتضاد عليه وحال الأمة سواء استحال ذلك وقوع الفعل منه على وجهين مختلفين فضلاً عما زاد عليهما, فوجب بطلان دعوى العموم في نفس الفعل بان يكون عامًا أو في الوجوه التي يستحيل وقوعه عليها, وامتنع لذلك دعوى العموم في فعله, وامتنع لذلك دخول التخصص فيه, ويصح أن يقال إن فعله مخصص لعموم لفظ وارد في دخول التخصص فيه, ويصح أن يقال إن فعله مخصص لعموم لفظ وارد في الحكم إذا علم أنه واقع منه على سبيل البيان. فأما أن يكون الفعل مخصوصًا أو عامًا فذلك محال.

فصل: وقول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا يفيد في عادة استعمال أهل اللغة ذكر الفعل وتكرره, لأنهم لا يقولون كان فلان يطعم الطعام ويحسي الرمان ويحافظ على الجار إذا فعل ذلك مرة أو اثنتين, بل يخصون به المداوم على ذلك. وقد قال تعالى: {وكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} يريد دوام ذلك منه. وقال {وكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} {قَدَرًا مَّقْدُورًا} , يريد الإخبار عن مضي ذلك. فادخل كان لمضي الفعل لا

لتكثيره. ويجب بأقل ما يخرج عليه كلام الراوي, والظاهر في الاستعمال ما قدمنا ذكره. وصورة التعلق بالاستدلال بفعله عليه الصلاة والسلام. وقول كثير منهم هو محمول على العموم, ولا أخص الفعل لاستدلال من استدل من الفقهاء على أن الصلاة في البيت جائزة وعلى كل وجه فرضًا ونفلاً فإنه عليه الصلاة والسلام صلى في البيت, فأنا أحمل ذلك على عمومه, وقد علم أنه لا يجوز أن يكون صلاها فرضًا ونفلاً, فالتعلق بذلك باطل. ومنه- أيضًا- استدلال من استدل على تخصص خبر النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط وبول بجلوسه للغائط مستقبلاً لبيت المقدس. وهذا ونحوه ليس باستدلال بعموم فعل ولا خصوصه. وإنما هو استدلال به على تخصص عموم قوله: "لا يستقبل القبلة بغائط ولا بول", وقد قلنا أن تخصص العموم بفعله إذا وقع موقع البيان صحيح, وإنما يكون فعله عليه الصلاة والسلام بيانًا للمجمل وتخصصًا للعام, وضروب ما يحتاج إلى بيان إذا بين بقوله إنه بين بفعله, وعلم أنه مساو لنا في الحكم الواحد عليه وعلينا, وأنه ذاكر للفعل وموقع له على غير وجه السهو, وأن يعلم أنه لم

يوقعه على سبيل اعتماد المعصية. لأنه قد يجوز وقوع/ الفعل منه على هذه السبيل, وثبت بشرح القول في ذلك عند بلوغنا إلى القول في أحكام أفعاله. ومما استدل به من أفعاله ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم صلى العشي بعد غيبوبة الشفق, وأن ذلك الشفق كان الحمرة. وهذا غير صحيح لأجل أن الشفق شفقان الحمرة والبياض. والصلاة التي فعلها واحدة لا يصح أن تكون مفعولة في وقتين, فالخبر إذًا لا ينبئ عن أنها مفعولة عند مغيب أحد الشفقين, ولا يصح أيضًا أن يقال إنه يجب فعلها عند غيبوبة الاثنين على العموم, لأنها فعلت لا محالة عند غيبوبة أحدهما, فكيف يدعي العموم فيها, وهذه جملة في هذا الفصل كافية.

باب ذكر تفصيل ما يمتنع دعوى الخصوص والعموم وأجوبته وما لا يمتنع ذلك فيه من أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه

باب ذكر تفصيل ما يمتنع دعوى الخصوص والعموم وأجوبته وما لا يمتنع ذلك فيه من أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه فأول ما يجب أن يقال في ذلك أن لسم القضاء ولفظه يحتمل في اللغة وجوهًا منها: الخلق والكتابة والإعلام والأمر الحتم, ويكون بمعنى الحكم. وقد بينا ذلك في الكلام في القدر في كتاب أصول الديانات بما يغني الناظر فيه, ولكنه مع ذلك إذا أضيف إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ومن يقوم مقامه من الأئمة والحكام فإنه لا يحتمل إلا الحكم المقضي عليه بقول وأمر هو أمر له بالخروج مما عليه من فعل مبتدأ أو أداء مال أو غرم قيمة, وأمر بحد من الحدود وكفارة, ونحو ذلك من القضايا الشرعية لأنه صلى الله عليه وسلم إنما يحكم ويقضي في العين الواحدة أو الأعيان بقول وأمر عام أو خاص مميز أو محتمل, يصح النظر والاجتهاد في المراد به على ما نذكره من بعد. ولو قضى عليه الصلاة والسلام بالإشارة والرمز والإيماء على وجه يفهم منه مراده لصح لذلك. وقد يجوز أن يقضي أيضًا عند الإقرار والاعتراف وقيام البينة بأخذ مال وإقامة حد بأن يحد المشهود عليه أو يحكم باليد عند قيام البينة بثبوتها

على الشيء, ونحو أن يحكم بالمال عند شاهد ويمين المشهود له, غير أنه إذا فعل ذلك ولحق به فلابد من أن يقارن ذلك ما يعلم عنده أنه إنما فعل ذلك بشرع وأمر من الله تعالى له به, وأنه مفعول من أجل الحادث من البينة والإقرار, وإن وقع ذلك منه عند حصول هذه الأمور على وجه لا يعلم معه أنه فعله لأجل الحادث/ 373 من الإقرار وغيره, فليس يجب القطع على أنه قضي بذلك لأجله ولا هو مجيب ولا هو الموجب له .. ومحال في صفة الثقة الأمين أن يروي عنه أنه قضى بالشاهد واليمين والإقرار إلا وقد علم ذلك يقينًا بالأحوال الظاهرة له. ومتى شك في ذلك وقاله اجتهادًا لم يحل له أن يؤديه, وأن يقول علمت ذلك من حكمه. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يحمل قول الراوي: "إنه عليه السلام قضى بالشاهد واليمين" وبالشفعة للجار. وبوجوب الكفارة في الإفطار عامدًا بالوطء, ونحو ذلك على أنه قضى بما قضى به لأجل ذلك وفي ظاهر

القول قضى بذلك وقطع سارق المجن ورجم ماعزًا أنه تولى ذلك بنفسه. وقد يستعمل إضافة ذلك إليه إذا أمر به الغير والقضاء بوجوب الفعل من جهته, وقد يباشر الفعل وقد يكله إلى غيره, وقد قلنا إن القضاء منه يكون تارة بالقول إنه واجب, وتارة بفعل مقام القول, فليس بظاهره أنه قضى بذلك قولاً دون فعل, أو فعلاً دون قول. فإن كان القضاء به بقول عام ولفظ يفيد الجمع شاع دعوى الخصوص والعموم فيه, وإن كان بقول ليس من

ألفاظ الجمع, أو فعل من الأفعال امتنع دعوى العموم والخصوص فيه. ومع ذلك فإنه لا يمتنع أن يقام فعله مقام قوله: إذا قال: إذا قال: "حكمي على الواحد حكم على الجميع" وعلل وقوع حكمه وتعبد بالقياس في شريعته, واعلمنا تساوي أمته في ذلك الحكم. ويقال إذا دل على ذلك قضاؤه بالفعل عموم في كل مكلف على تأويل أنه بمثابة القول العام. فصل: وإذا قال الراوي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بأخذ المال بالشاهد واليمين وبالشفعة للجار وبالكفارة بالإفطار, ونحو ذلك وجب الوقف في كيفية قضائه بذلك وهل كان بقول عام, أم بفعل من الأفعال, أم في عين من الأعيان, لأنه قد يجوز أن يقول حكمت بالشفعة لك وحدك أيها الجار, وعليك وحدك أيها المجامع وبالمال مع يمينك أيها المشهود له, ويحتمل أن يقع ذلك على وجه لا يعلم معه أنه مقصور على تلك العين واجب فيه وفي غيره. إلا أن ظاهر الحكم للشخص وفيه وعليه فقصرت عليه وحده إلا أن يعلم وجود مساواة غيره له وقضاؤه باللفظ العام, نحو أن يقول: الشفعة تجب

بالجوار, ولكل جار, والكفارة واجبة بالإفطار, ونحو ذلك, وإذا كان كذلك لم يجب أن يفعل قول/ الراوي: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار, وحكم بالشاهد واليمين بالمنزلة قوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان, والشفقة للجار", ووجب القضاء بعموم, هذا القول, والوقف في قوله: قضى, وهل ذلك بقول او فعل, وهل على عمومه في الكلام أو قصره على المحكوم له. فصل: وقد يقول عليه الصلاة والسلام: قد قضيت بأن الشفعة للجار, والخراج بالضمان, ويكون مع قوله هذا ما يدل على أنه مراد به البعض ممن يقع الاسم عليه, فإن تجرد من ذلك وجب عمومه لا محالة عند أصحاب العموم. فصل: فإن قال قائل: فما وجه استدلال من استدل من الفقهاء بما روي من إيقاعه القضاء على عموم الحكم. قيل: إن كان مع ذلك, ما يدل على أنه واجب في جميع ما يقع عليه الاسم حمل على ذلك, وإلا لم يسع التعلق به, وما روي من أن الشافعي

رحمة الله عليه بقصة عمر بن عبد العزيز في ذلك وأن عروة بن الزبير رشوان الله عليه قال لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان, فإنهما إنما احتجا بذلك لاعتقادهما أن حكمه على الواحد حكم على الجميع, وأنه علق الحكم في الخراج بالضمان, وذلك يوجب التعميم, وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان" مما روي أنه قضي بذلك التعلق بقوله في ذلك دون قضائه إذا لم يعرف كيفية وقوعه.

باب الكلام في صحة دعوى العموم وجواز التخصص في جواب الرسول عليه الصلاة والسلام

باب الكلام في صحة دعوى العموم وجواز التخصص في جواب الرسول عليه الصلاة والسلام اعلموا- وفقكم الله- إن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم- ربما كان لعام من القول, وربما كان بخاص, وربما كان بلفظ محتمل يقرنه ببيان المراد منه, وربما وكل استخراج معناه إلى السائل إذا كان من أهل الاجتهاد, والواجب إذا كان ذلك كذلك حمل جوابه عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي خرج عليه وعلى ما وضع في اللسان لإفادته من عموم أو خصوص أو إجمال واحتمال, وإن كان مجملاً قد بينه صير إلي بيانه, وإلا وجب الاجتهاد في المراد به. وإذا سألته سائل عن حال نفسه وحادثة تخصه فقال له مثلاً توضأت بماء البحر أو المضاف إلى ما خالطه, أو أفطرت عامدًا أو وطأت في رمضان, ونحو ذلك. فقال له عليه الصلاة والسلام: عليك الكفارة, أو يجزئ في وضوئك, أولا وضوء لك وجب قصر الحكم على السائل ولم يسع دعوى العموم في ذلك إلا أن يدل دليل يقارن جوابه على انه عام من المكلفين, أو في كل من كان/ 375 يصفه السائل أن يعلق إذا تعلق الحكم عليه لصفة هي سببه أو علته, وهذا نحو قوله لعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليه. وقد سأله

عن لبس الحرير "إلبسه" ونحو قوله لأبي بردة بن نيار في الأضحية بجذعة من المعز "يجزيك", وقوله لأبان بن سعيد بن العاص "حالف بني عبد القيس وإن كنت مسلمًا". وقوله لحبان بن منقذ "لك الخيار بيع البيع ثلاثًا". فله بغير شرط, فإن كان قال: لك الخيار

بعد البيع ثلاثًا, فله بغير شرط، فإن كان قال: له الخيار بعد البيع ثلاثًا، فله حكم غيره وله الخيار. وكذلك إذنه وإباحته وحكمه على جماعة ونفر من الأمة بشيء يجب كونه مقصورًا عليهم. وذلك نحو إذنه للعرنيين بالتعالج بأبوال الإبل, وإنما

وجب قصر الحكم على السائل أو السائلين في مثل هذا لكونه خطابًا لهم دون من عداهم, وحكم منه عليهم, والأحكام معلقة بقوله وخطابه, وخطاب الواحد والنفر ليس بخطاب لسائر الأمة فوجب ما قلناه. ولأن التكليف إن كان متعلقًا بالمصالح فيجب قصر الحكم على المخاطب للاتفاق على صحة اختلاف مصالح المكلفين فيما يشرع لهم, ولذلك اختف فرض الحر والعبد والمقيم والمسافر والذكر والأنثى وفرائض العلماء فيما يفتون به. وكذلك- أيضًا- إن كان سؤال السائل له عليه السلام وقع لغيره وهو معين أو غير معين مخصوص, وصدر الجواب على وجه يخص ذلك الغير وجب قصر الحكم عليه, لأنه ليس بخطاب للأمة, وذلك نحو سؤال عمر رضوان الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم عن طلاق ابنه عبد الله وقوله له: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو إن شاء أمسك, ونحو هذا من اللفظ,

لأن قوله (مره) كناية عن الواحد المسئول عن حادثته دون غيره. فصل: وإن كان السؤال للغير وقع مطلقًا فيهما وجب حمله على عمومه من جهة المعنى دون اللفظ, وثبت بشرع للكل, وهذا نحو ما روي من أن سائلاً سأله عمن جاء امرأته في رمضان. فقال: "أعتق رقبة", فقوله: أعتق خطاب خاص للواحد المواجه, ولكن لما كان جوابًا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع من غير تخصص أثر في قوله: اعتق رقبة. وإن كان خطابًا للواحد صار عامًا, وبمثابة قوله لو قال عن سؤال على من جامع في رمضان عتق رقبة" وإنما وجب كذلك, لأنه صدر/ وخرج على سؤال حصل بلفظ يقتضي العموم, فصار لذلك بمثابة السؤال وبمنزلة اللفظ العام, لأنه عليه السلام منصوب للبيان. فإذا أجاب عن سؤال مطلق ما هو جواب عنه وجب جعله مطلقًا كهو من جهة المعنى دون اللفظ. فإن قيل: فهو عليه الصلاة والسلام ما قصد بذلك كل من جامع, لأنه لو جامع في سفر وعلى وجه له أن يجامع لم يجب عليه كفارة.

يقال: نحن لم نقل: إن العام لا يجوز أن يخصص بدليل لفظ عموم أو أطلقه صح تخصصه مما يقوم مقامه بمنزلته. كأنه قال المجامع في رمضان في غير سفر وعلى وجه محظور عليه الكفارة, وإذا كان ذلك كذلك سقط هذا السؤال. فصل: فأما إذا قال الراوي إن رجلاً أفطر في رمضان فحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالكفارة أو أمره بالكفارة, فإنه لا يجعل بمثابة العموم, وبمنزلة أن يقول من أفطر أو جامع في رمضان فعليه الكفارة أو المفطرون في رمضان عليهم الكفارة, ونحوه من ألفاظ العموم, لأنه يمكن أن يكون قضي عليه وحده بذلك لكونه مصلحة ولغير ذلك. ولأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عليه بذلك لفطر عامدًا أو ناسيًا أو بأكل أو جماع, وقد يختلف حكم الإفطار بحسب اختلاف أجناسه ووجوهه, ولا يمكن أن يقع إفطاره على وجهين يقتضين لما قدمناه, فلم يسع دعوى العموم في ذلك. فصل: فأما إذا سأل عليه الصلاة والسلام عن شيء مخصوص فخرج جوابه على ما تناول ما سئل عنه وغيره. فقد اختلف فيه.

فمن قال بالوقف قال يحتمل البعض ويحتمل الكل, ويجب إيقافه على الدليل. واختلف القائلون بالعموم, فقال بعضهم, يجب قصره على ما خرج السؤال عليه. وقال آخرون يجب حمله على العموم, وهذا هو الأصح, الأولى إن ثبت القول بالعموم, لأن الحكم متعلق بلفظ الرسول عليه الصلاة والسلام دون ما وقع عنه السؤال, وذلك نحو سؤال السائل له عن ماء البحر أو عن ماء بئر بضاعة فيقول في جواب ذلك "الماء طهور لا ينجسه شيء", لأن هذا جواب قد انتظم بيان ما سئل عنه من الماء وما لم يسأل عنه, وهو مستقل بنفسه, وغير مفتقر إلى ارتباطه بالسؤال او ابتدئ به, لأنه لو قال الماء طهور لا ينجسه لوجب حمله على العموم, وكذلك حكمه إذا صدر على الشيء الحاضر/وقد يظهر الجواب باللفظ العام لمن شاهد الحال ما يوجب قصر العام على السبب الحاضر فيجب قصره عليه, وليس لتلك الأحوال نعت محصور ووصف محدود, وإنما هو بمثابة قول من قيل له تكلم في هذا الباب بشيء أو كلم زيدًا, فقال: والله لا نكلمت, وقد يعلم أحيانًا أنه أراد الحلف على كلام زيد. وفي الباب الذي سئل الكلام فيه دون جميعه, وليس في وجوب قصر ما علم ذلك من حاله على السبب خلاف, وإنما الخلاف فيه إذا لم يعلم

ذلك, ولم يحصل غير مجرد اللفظ العام فإذا كانت الحال كذلك وجب تعليق الحكم بما يقتضيه موضوع الخطاب دون السبب الخاص. فأما إذا كان الجواب مرتبطًا بالسؤال, ومما لا يصح الابتداء به, ولا يستقل بنفسه, فإنه يجب قصره عليه, وذلك نحو قوله تعالى: {فَهَلْ وجَدتُّم مَّا وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا قَالُوا نَعَمْ} وقوله في جواب السؤال عن بيع التمر بالرطب, وقوله: كلا إذا, لما قيل: إنه ينقص الرطب إذا يبس, وقول من خالف في ذلك أن خروج العام على سؤال وسبب خاص قرينة في قصره قول فاسد لا شبهة له فيه إذا لم يقارن الخطاب ما يوجب قصره على السبب, ولعلنا أن نذكر قدر ما يتعلقون به من بعد. فصل: فإن قال قائل: أفيجوز أن يسأل عليه الصلاة والسلام عن أمر عام فيجيب عنه بجواب خاص, وما هو جواب عن بعضه؟ قيل: أجل, إذا كان الحكم متعلقًا ببعض ما أطلق السؤال عنه؛ وذلك نحو أن يقول له قائل: أيجوز الوضوء بما وقعت فيه النجاسة؟ فيقول: نعم, يجوز ذلك إن لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. أولم يبلغ قلتين. ونحو أن يقول له سائل: أتجب الكفارة على المفطر في رمضان؟ فيقول: نعم, تجب

عليه إذا أفطر عامدًا, أو إذا أفطر بجماع, ونحو أن يقول السائل: ألي طلاق زوجتي ونكاح المشركات؟ فيقول له: نعم لك طلاقها في طهر لم تمسها فيه, ولك نكاح المشركات إذا كن كتابيات, وأمثال هذا مما يتعلق الحكم فيه ببعض ما أطلق السؤال عنه, ولا خلاف في قصر الجواب في هذا على ما قيده به عليه الصلاة والسلام. فصل: فإن قيل: أفيجوز أن يسأل عليه الصلاة والسلام عن شيء فلا يجيب السائل عنه؟ قيل له: يجوز ذلك إن كان قد قدم إليه جوابه, اللهم إلا أن يظهر سهو السائل عن الجواب ونسيانه له, وتحضر حاجته إليه, فيلزمه الجواب, أو كان بحضرته من قد بين له ذلك فأجاب عنه بما قاله فيه, فسقط عنه فرض تكرار البيان للسائل, وقد يجوز أن ينبهه ويكله إلى ما تقدم من بيانه, نحو قوله لعمر: تكفيك الآية التي نزلت في الصيف". فأما إذا لم يتقدم من بيان, ولم يكن بحضرته من ينوب عنه في الجواب, والحاجة حاضرة إلى بيانه, فلا بد من الجواب, لأنه عليه الصلاة والسلام منصوب لذلك.

فصل: فإن قيل: أفيجوز أن يسأل عن شيء فيجب بذكر غيره ويخفي, فيحتاج إلى تأمل, وتنبيه على جواب ما سئل عنه؟ قيل: أجل, إذا كان سائله عالمًا مجتهدًا, ولذلك قال لعمر حيث سأله عن القبلة للصائم "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته هل كان عليك من جناح؟ فقال: لا, فقال: ففيم إذًا؟ فنبه على حكم القبلة بحكم المضمضة, وقوله عليه السلام للخثعمية". أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أينفعه ذلك, قالت: نعم, قال: فدين الله أولى.

وإن كان هذا أوضح من جوابه لعمر ومرتب من النص على أن الحج نافعه, ومتى لم يكن السائل بهذه الرتبة وجب الإيضاح له.

باب فيما يمتنع دعوى الخصوص فيه من ألفاظ العموم عند مثبتيه, وما يصح ذلك فيه

باب فيما يمتنع دعوى الخصوص فيه من ألفاظ العموم عند مثبتيه, وما يصح ذلك فيه اعلموا - وفقكم الله - أنه إنما يمكن دعوى الخصوص في اللفظ العام وقيام دلالة على تخصصه إذا صدر ممن ليس بمشاهد ومن لا يعرف قصده اضطرارًا, لأنه إذا لم يعلم مراده بالخطاب, وكان اللفظ العام معرضًا أن يراد به الخصوص, وغير ممتنع تخصصه بدليل, وجواز أن يكون مرادًا به الخصوص, وأن يكون قد نصب على تخصصه دليلًا إن لم يكن ممن يعمي مراده ويقصد إلى إخفائه وجب لذلك أن يتأمل الأدلة, فإن وجد ما يخصه عمل بذلك, وإن فقد حمل على عمومه بحق موضوعه, وهذه حال جميع الصيغ العامة الواردة في كتاب الله عز وجل, لأنه غير معروف الذات ضرورة, ولا ممن يعلم مراده ضرورة, فكل عام ورد من قبله تعالى فإنه معرض لأن يراد به ما وضع له, ولأن يراد به البعض, فإن نصب على تخصصه دليل صير إليه, وإلا حمل على عمومه بحق الموضوع. وهذه - أيضًا - حال خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام الوارد على من لم يتلق الخطاب عنه, ولم يشاهد ذاته, ويضطر إلى مراده في تجويزه كون خطابه عامًا على أصل موضوعه, وكونه خاصًا بدليل يقتضي ذلك, وذلك

مما لا خلاف فيه, وإذا وقف جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم على أن مراده تعالى بالخطاب العام ما وضع له في اللسان علم النبي عليه الصلاة والسلام مراد جبريل ضرورة. واستدل بتوقيفه ومعرفة مراده على أن مراد الله جل ذكره ما وقفه عليه لامتناع الكذب عليه ما وقفه عليه لامتناع الكذب عليه في البلاغ عن الله عز وجل, فأما خطابه الرسول عليه الصلاة والسلام, وكل مشاهد الذات ومن لا يصح العلم بقصده ضرورة أحيانًا فإنه إنما يسوغ جواز دخول التخصص في خطابه العام إذا لم يضطر إلى أن مراده فيه العموم, لأنه معرض لأن يريد به الخصوص. وجوزنا أن يريد به ما يفيده في أصل الموضوع بأن كان ممن لا يجوز أن يعمي ويخفي مراده, فلا بد إذا أراد به الخصوص من نصب الدليل على مراده, وإن كان ممن يجوز ذلك في صفته ولم يضطر إلى مراده جوزنا قصده له إلى العموم وإلى الخصوص. فأما إذا اضطررنا إلى قصد النبي عليه الصلاة والسلام وغيره ممن يسمع خطابه ويتلقاه وأنه مريد به العموم لم يصح تجويز كونه خصوصًا, وكذلك إن اضطررنا إلى مراده به الخصوص عند أحوال وأسباب وأمور يخرج الخطاب عليها لم يصح دعوى العموم فيه وحمله على موجبه في اللسان لحصول العلم بقصده. وإن نقل إلينا لفظه العام عليه السلام من لا يعلم ضرورة أو بدليل صدقه عليه فيما نقله, وقال علمت مراده ضرورة وأنه عام أو خاص, وكان ممن يلزمنا العلم بخبره عملنا بذلك عملًا ولم نعلم أن ما أخبر به من معرفة مراده على ما خبر به أم لا؟ لأن خبر الواحد لا يوجب العلم, فإن كان من الآحاد التي قد دلت الأدلة على صدقهم فيما خبر وأنه توقيف من الرسول على

ذلك, أو إجماع من الأمة على تصديقه, ونحو ذلك علم بنقله مراد النبي عليه الصلاة والسلام من جهة الدليل. وإن خبرنا بمعرفة مراده بالخطاب قوم هم أهل تواتر, وممن يعلم صدقهم ضرورة فيما نقلوه مما اضطروا إلى العلم به وجب لنا العلم بقصده ضرورة, وكان سماعنا لإخبارنا عنه بذلك بمثابة سماعنا منه واضطرارنا إلى مراده, وهذه سبيل كل محتمل من الخطاب الوارد في الكتاب والسنة التي لا يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم به ضرورة, فيجب تنزيل ذلك على ما وصفناه. فصل: وعلى هذه الطريقة يجب تنزيل خطاب الأمة وإطلاقها اللفظ العام في صحة قصدها به إلى الخصوص تارة, وإلى ما يفيده موضوعه من العموم أخرى, لأنها مشاهدة ومسموعة القول. فإن اضطررنا إلى قصدهم بالخطاب حملناه على ما عرفناه من قصدها في عموم أو خصوص, وإن خبرنا عنهم بذلك من يعلم صدقه ضرورة أو دليلًا قام ذلك مقام تلقيه الخطاب عنها ومعرفة مراده بغير واسطة, وإن أخبرنا عنها, بمعرفة مرادها من لا يعلم صدقه, ولا كونه جوزنا قصدها إلى كل واحد من الأمرين, ولم يقطع على مراد جميعها بالإطلاق لجواز تجويز البعض منهم بإطلاقه وإخفاء مراده وتعميته, وغير ذلك من الأمور, وحال الأمة في استعمال ما يطلقه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر من ذلك واحد, ولهذا يجب تخصص كثير من إطلاقاتها نحو قولهم: الأشياء لله, وكل كائن بقدرة الله, وقد علم أنها لا تريد بذلك نفسه تعالى, وإن كل كائن من قديم وباق فبقدرته.

فإن قيل: وكيف يصح تلقي جميع الأمة حتى يعرف مرادها مع تعذر ذلك وتباعد أوطانهم؟ قيل: يعرف ذلك بلقاء البعض منهم, والخبر عن البعض على ما نبينه من بعد في فصول القول في الإجماع وتتبع ذلك بطوله فهذا مما يجب تنزيله على ما بيناه.

باب ذكر ما يصح التعلق به من ألفاظ العموم للخصوص وما لا يصح ذلك فيه

باب ذكر ما يصح التعلق به من ألفاظ العموم للخصوص وما لا يصح ذلك فيه اعلموا - وفقكم الله - أن تخصص العام يكون على وجهين: أحدهما: أن يكون مخصصًا فيه لأمر معين معلوم, إما بلفظ ينبئ عن ذلك من ألفاظ الاستثناء وغيرها, أو دليل منفصل يكشف عن ذلك ويعينه, وما هذه حالة من المخصوص يصح التعلق به والعلم بالمراد به بعد المخصوص. والوجه الآخر: أن يكون تخصصًا لشيء منه غير معين ولا معلوم, وما هذه حالة لا يصح التعلق به فيما بقي. وصورة المبين من ذلك أن يقول مثلًا اقتلوا المشركين إلا أبا جهل وإلا زيدًا وإلا أهل الكتاب, وما جرى مجرى ذلك. وصورة المجمل الذي ليس بمبين أن يقول اقتلوا المشركين إلا رجلًا منهم مخصوص على صفات مخصوصة, وإلا نفرًا منهم من شلة في أهل نسب

مخصوص. أو يقول: اقتلوا المشركين المستحقين للقتل منهم أو لأمم لا تستحق القتل منهم, ونحو هذا فإن هذا استثناء لأمر مجمل يجعل الخطاب مجملًا, لأننا لا نعرف من الذي استثناه وصفاته, ولا من الذي يستحق القتل منهم ممن لا يستحقه. ولعل من يدخله تحت الخطاب هم الذي أريدوا بالاستثناء أو بعضهم, وكذلك لو قال صلوا في أوقات الليل والنهار إلا وقتًا مخصوصًا, واقطعوا السراق إلا سراقًا على صفات, وذكوا الرقة والحيوان والحبوب إلا حيوانًا ورقة وحيوانًا على أوصاف وأحكام مخصوصة لصارت هذه الاستثناءات وما جرى مجراها مجملة اللفظ العام, وهذا ما لا يعرف فيه خلافًا. وصورة ما يعنيه الدليل المنفصل, نحو ما خص من العموم بدليل العقل, نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وما خص من أحكام الشرع معينًا بإجماع وقياس وخبر واحد, وما جرى مجرى ذلك, وقد بينا فيما سلف أنه إن خص منه شيء معين فاستثناء متصل به وما يقوم مقامه كان الاسم حقيقة فيما بقي ولم يكن مجازًا. وإن خص بمنفصل من الأدلة كان مجازًا, وأنه يصح الاستدلال بما بقي وإن كان كذلك بما يغني عن إعادته, فلا وجه إذًا لقول من قال إنه إذا خص صار مجازًا, ولذلك لم يصح الاستدلال به. وهذا الاستدلال الذي ليس بمبين للمجمل من الخطاب لا يجوز استعماله إلا في أمر واجب على التراخي على قول من أجاز تأخير بيان العام, وهو الصحيح إن ثبت القول بالعموم, ولا يجوز عند منه ذلك ورود مثل هذا الاستثناء في الأمر إذا كان على الفور.

باب الكلام على من زعم أنه يجب التوقف فيما خص واستثنى منه إذا وجب طلب شرائط وأوصاف للمستثنى منه لا ينبئ الإطلاق عنها

باب الكلام على من زعم أنه يجب التوقف فيما خص واستثنى منه إذا وجب طلب شرائط وأوصاف للمستثنى منه لا ينبئ الإطلاق عنها زعم بعض المتأخرين من متكلمي القدرية إنه إذا كان التخصص يوجب ضم أوصاف إلى العين والفعل والاسم الذي علقت به العبادة جعل المخصوص منه مجملًا لا يصح التعلق به, ولا يعلم المراد منه بظاهره, وإن لم يجوب ذلك صح التعلق به. قال: والذي لا يوجب ذلك نحو التخصص بالاستثناء وما جرى مجراه لبعض ما وقع عليه مجرد الاسم فقط من غير تعليقه بشرط ووصف وشيء سواه, وذلك - زعم - نحو قوله: اقتلوا المشركين إلا زيدًا, أو اقطعوا السراق إلا عمرًا, وفيما سقت السماء العشر إلا البر, وفي الماشية زكاة إلا الخيل, ونحو هذا. قال: وإذا كان الاستثناء لذلك عرف من أريد بالخطاب ممن خرج منه, لأنه لا شيء آخر يضام الاسم أو الفعل يتعلق به الحكم. قال: وأما التخصص الذي يخرج المخصوص إلى أوصاف وشروط تزيد على العين والفعل والاسم المتعلق الحكم به بمثل قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإنه إذا خص منه سارق التمر والكير وأقل من ربع دينار والسارق من غير حرز أوجب ذلك أن يكون قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مرادًا به سارق ربع دينار فصاعدًا من حرز, إلى غير ذلك من الشروط بأن يكون بالغًا وعاقلًا.

قال: وظاهر اسم سارق لا ينبئ عن ذلك فكأنه قد بين بذلك إنه لم يعلق الحكم على الاسم فقط وفعل السرقة حسب, وإنما أراد سرقًا وسارقًا على صفات مخصوصة لا ينبئ الاسم عنها فيصير المستثنى منه كذلك مجملًا لا يصح التعلق به, وصار بمثابة أن يذكر شيئًا ويريد غيره وخلاف ما ينبئ الكلام عنه, وبمنزلة قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} و {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} و "إلا بحقها" وأمثاله من المجمل. وهذا الذي قاله - وفقكم الله - باطل من وجوه: أقربها: إن الاسم يلقح من بقي تحته ومن أخرج منه, فإذا أخرج بعض من أجري عليه لكونه على صفات مخصوصة, وجب تنفيذ الحكم فيما بقي, والعلم بأنه مراد لجريان الاسم عليه, وإنما كان يجب ما قاله لو كان ما بقي بعد الاستثناء لا يلحقه الاسم, وهذا باطل باتفاق, وإنما لا ينبئ إطلاق الاسم عن إخراج منه بالصفات المخصوصة, لأن اللفظ لا ينبئ عن إخراجه, وإنما يخرجه الاستثناء والدليل. ولذلك لو قال: اعتق رقبة لوجب تنفيذ ذلك في المؤمنة والكافرة والصغيرة والكبيرة والصحيحة والسقيمة لتناول الاسم لجميعهم, فلو قال: ولا تكون كافرة ولا سقيمة لم يجب الوقف في باقي من يقع عليه, بل إنما يعلم بالاستثناء والدليل من لم يرد بالخطاب, وفي ذلك يحتاج إلى دليل, فأما من بقي تحته فمعلوم ثبوت الحكم فيهم نحو تناول الاسم لهم. فأما تمثيلهم اللفظ العام بعد الاستثناء منه بالمجمل ففي نهاية التخليط والبعد, وذلك أن اسم الجزية وذكر الحق لا ينبئ عن قدر الحق والجزية.

وما هي باتفاق وإن أنبأ عن أن الحق فيها أمر يجب فيه, وأن الجزية إتاوة ومذلة فوجب كون ذلك مجملًا. وقوله: اعتق رقبة واقطع السارق والسارقة لقطع عام يعلم المراد به لو تجرد عن دلائل الخصوص, فإذا خرج البعض باستثناء غيره خرج مالًا ينبئ الخطاب عن خروجه, وإنما ينبئ الدليل. فأما ما لم يخرجه فهو بحاله في جريان الاسم عليه, وهذا واضح, فبطل ما قاله. فصل: فإن قيل: أفتعرفون من الإطلاقات ما إذا قيد بصفة وبين المراد به منع من التعلق بالإطلاق. قيل: أجل, وهو أن يطلق الاسم الذي له حقيقة ويريد به ما هو مجاز فيه, فلا يصح إذا بين ذلك التعلق بإطلاقه, وليس هذا من باب لفظ العموم إذا خص منه بشيء بسبيل. ومن أوضح ما يدل على فساد قول هذا القائل ما قدمناه من إجماع الصحابة على الاستدلال بسائر ألفاظ العموم وإن كانت مخصوصة, وليس فيها عموم في حكم ليس بمخصوص, وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. ومما يدل بطلان قوله - أيضًا - إنه قول يوجب على موضوع قائله امتناع استدلال كل أحد من الناس بشيء من ألفاظ العموم الواردة من الكتاب والسنة في الأحكام الشرعية, وفيما ورد في الأحكام في أصول الدين من الوعد والوعيد, لأن جميع الأحكام المعلقة بقوله "اقتلوا المشركين" "واقطعوا السراق" "واجلدوا الزناة" "وفي الرقة ربع العشر"، " وفي

خمس من الإبل شاة" {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وأمثال ذلك مخصوص وكله ومراد به أهل صفات مخصوصة لا ينبئ الاسم عنهم, ومال وماشية يحول عليها الحول مع البلوغ والحرية وتمام النصاب وغير ذلك من الشروط وكذلك القول في جميع أي المواريث, لأنه مراد به بأن لا يحجب عن الميراث ولا يكون عليه دين, ولا تختلف الملتان, ولا يكون عبدًا ولا قاتلًا إلى غير ذلك من شروط التوارث, وهذه حال جميع العمومات الواردة في الأحكام. فصل: ويجب - أيضًا - أن لا يصح لهذا القدري ولا لغيره من أهل دينه في الوعد والوعيد أن يتعلق بعموم وارد في وعد أو وعيد لأجل أن الحكم بالثواب والعقاب على أهل المعاصي والطاعات لا تتعلق باتفاق على من يلحقه مجرد اسم مؤمن وطائع ومحسن وعاص ومشرك وكافر وقاتل وآكل ربا

ومال يتيم. وكل من يلحقه الاسم في وعد أو وعيد, لأنه إنما توعد على الكفر وسائر المعاصي بشرط الإصرار وإن لم يتب, وإن لم يجتنب الكبائر مع مواقعة الصغير وإن لم يكن معه من الطاعات وما يحيط معاصيه ووعد على الإيمان والطاعة إن لم يبدله ولم يحبط طاعته ولم يكن معه كبير يوازيه, فإن مر على ذلك ظهر خلافه لجميع موافقيه على بدعته ومخالفيه وإن رام فصلًا لم يجده.

باب الكلام على من زعم أن العموم إذا خص وجب حمله على أقل الجمع

باب الكلام على من زعم أن العموم إذا خص وجب حمله على أقل الجمع اختلف الناس في هذا على أربع أقاويل فقال قوم: إنه لا يصح التعلق به بأي دليل خص, وقد تكلمنا عليهم فيما سلف. وقال أهل الوقف: إنه لفظ يصلح لاستغراق الجنس ولكل جمع دونه على الحقيقة فإذا علم أنه لم يرد به استغراق الجنس وجب الوقف فيه. وجوز أن يراد به أقل الجمع وما فوقه من الجموع, وهذا صحيح مطرد مع القول بالوقف. واختلف القائلون بالعموم, وأنه يصح التعلق بالمخصوص بعد قيام الدليل على تخصصه على قولين

فقال الجمهور منهم: إنه دال على أن المراد به جميع من يجري عليه الاسم بعدما خص. وذكر عن فريق منهم: إنه يجب حمله على أقل الجمع. والصحيح مع القول بالعموم حمله على جميع ما بقي بعد المخصوص منه, وقد دللنا على ذلك من قبل. والعمدة فيه أن إطلاق الاسم موضوع لإفادة جميع من يجري عليه الاسم على الاستيعاب والاشتراك, فإذا خرج منه البعض بدليل بقي اللفظ متناولًا لما كان متناولًا له, لأجل أنه كان مفيدًا له ولما فوقه مما أخرجه الدليل فلما منع دليل التخصص دخول ما خص منه بقي اللفظ جار على ما كان متناولًا له من ذلك. يبين هذا ويوضحه إنه إذا كان القول ألف ومائة وعشرة أسماء مفيدة لكمال قدر من العدد وجب إذا خص منه شيء باستثناء وما يقوم مقامه من دلائل التخصص أن يبقى الاسم متناولًا لجميع باقي الجملة, فإذا قال ألف إلا خمسين ومائة إلا واحدًا, أو عشرة إلا واحدًا, لم يجب حمل الاسم على أقل الجمع الواحد في تلك الجملة, بل يجب حمله على جميع الباقي بعد المستثنى والمخصوص, فكذلك سبيل لفظ العموم الموضوع لإفادة جميع الجنس ومن يلحقه الاسم في وجوب قوله على كل ما بقي بعد المخصوص, وهذا واضح لا إشكال فيه. فصل: وقد اعتل الحاملون له على أقل الجمع بأن قالوا: إنه لفظ يصلح لأقل الجمع وهو الثلاثة ويصح حقيقة, ويصلح لكل ما زاد عليه من الجموع ولاستغراق الجنس, فإذا خص منه البعض وجب حمله على اليقين الذي هو الثلاثة, لأنه لا دليل يوجب حمله على ما زاد عليها.

وهذا اعتلال باطل على أصولهم, لأنهم وجميع أصحاب العموم يقولون إنه لفظ موضوع لإفادة جميع الجنس وبمثابة اسم العشرة والمائة اسم كل جملة من الأعداد, ولا يجوز أن يكون إطلاقه صالحًا للثلاثة ولا لما زاد عليها مما يقصر عن استغراق الجنس, وإنما يعتل بما ذكروه أهل الوقف المنكرون للعموم, وإذا كان ذلك كذلك وجب حمله بعد المخصوص على جميع ما بقي مما كان يفيده وما خرج منه مخرج الخصوص بدليل وبقي اللفظ جار على جميع ما كان متناولًا له من قبل.

باب الكلام في حقيقة الاستثناء وأحكامه وأقسامه

باب الكلام في حقيقة الاستثناء وأحكامه وأقسامه إن قال قائل: ما حقيقة الاستثناء قيل له: حقيقته "إنه كلام ذو صيغ مخصوصة محصورة, دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول" وكل استثناء فهذه حاله, وكل ما هذه حاله فإنه استثناء. فإن قيل: هذا منتقض بجميع أدلة التخصص المنفصلة التي ليس باستثناء, لأنها دالة على أنه لم يرد ما أخرجته بالكلام. قيل له: هذا باطل لأننا قلنا حده إنه قول وكلام ذو صيغ محصورة, دال على أن ما ذكر فيه لم يرد بالكلام الأول, والأدلة المنفصلة التي سألت عنها ليس بقول, فزال ما قلته.

فإن قيل: فهو منتقض بالقول المتصل بلفظ العموم وغيره الذي ليس بصورة الاستثناء نحو قولهم: رأيت المؤمنين ولم أر زيدًا, وما رأيت عمرًا وخالدًا لم أره, ونحو ذلك. قيل: هذا - أيضًا - باطل, لأننا قلنا: قول ذو صيغ مخصوصة ونحن نعني بذلك قولهم رأيت الناس إلا زيدًا وغير عمر وسوى عمرو, ونحو ذلك, فبطل ما سألت عنه. فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون حقيقة الاستثناء "إنه القول المخرج من الخطاب ما كان داخلًا" أو ما هو داخل فيه وأن يكون مأخوذًا من قولهم ثنيت زيدًا عن رأيه وثنيت العود, وقد أثنيته عما كتب عليه, وزيد مثنى عن رأيه ومثنى في مشيه, وإنما يعنون بذلك رد زيد عن رأي كان عليه, ورد العود عن عوجه. يقال له: ما قلته باطل, وإن كان الاستثناء إنما أخذ له الاسم من المعنى الذي ذكرته للعلم بأن أهل اللغة متفقون على أنه قد يخرج من لفظ العموم أشياء بقول ليس باستثناء عندهم ولا موصوف بذلك, نحو قولهم: اضرب العبيد ونافع لا تضربه, وأمثال ذلك, فإن أردت أن ما هذه حالة من القول بمعنى الاستثناء وإن لم يوصف في اللغة بذلك, فذلك صحيح, وإن أردت وجوب تسميته استثناء, فذلك فاسد, وخلاف على أهل اللغة, وقد بينا أن اللغة لا توجد قياسًا, وأنهم قد يسمون الشيء باسم لمعنى فيه, وإن لم يسموا به كل ما فيه ذلك المعنى إذا خصوا به قبيلًا دون قبيل, فبطل ما قلته. وقول المعرف بأن الاستثناء ما أخرج ما هو داخل فيه, أو ما كان داخلًا فيه خطأ, لأنه يصير نسخًا وتبديلًا للحكم بعد ثبوته, وذلك فاسد, فوجب أنه المخرج من الخطاب ما كان يصح دخوله فيه, على ما قلناه من قبل.

باب القول في وجوب اتصال الاستثناء

باب القول في وجوب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه وإحالة تأخره عنه قد اتفق الدهماء من أهل اللغة والمعاني من المتكلمين والفقهاء على وجوب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه ومنع تأخره عنه, وقد حكي عن عبد الله بن عباس رضوان الله عليه أنه كان يجوز تأخيره عنه, ويجب تأول ما روي عنه من ذلك على وجه يوافق ما عليه أهل اللغة مع أن الرواية عنه لم تقم بها حجة واتفق كل من أحال تأخير البيان على إحالة تأخير الاستثناء عن المستثنى عنه, لقولهم بإحالة تأخير البيان, لأنه أحد البيانين, فلو جاز تأخيره لكان تأخير ما ليس باستثناء من القول, والأدلة المنفصلة أحرى وأقرب, فهذا واجب على أوضاعهم. فأما الذي يدل على إحالة ذلك مع القول بصحة تأخير البيان فهو علمنا

بأن أهل اللغة لا يستعملون الاستثناء في الكلام إلا متصلًا به ومتقدمًا عليه في كلام يكون معه جملة واحدة على ما نبينه من بعد, وأنهم يستقبحون تأخيره عنه ولا يجعلوه مفيدًا, لأن القائل إذا قال: رأيت الناس, ثم قال بعد شهر أو حول إلا زيدًا وغير زيد وسوى زيد لم يفد بقوله إلا وغير وسوى إذا أورده منفصلًا منقطعًا متأخرًا عن الكلام, وما ليس بمفيد من الكلام شيئًا مطرحًا عندهم. ويدل على ذلك ويبينه اتفاق أهل اللغة على إجرائهم الاستثناء من الكلام مجرى الشرط فيه والتقييد له ومجرى الابتداء والخبر, وقولهم إن ذلك أجمع إذا بتر من الكلام وأخر لم يكن مفيدًا, لأن القائل إذا قال: اضرب زيدًا, ثم قال بعد شهر أو يوم أو حول إذا قام أو إن قام, أو إذا كان قائمًا أو راكبًا لم يكن ذلك مفيدًا شيئًا, وقبح استعماله, وكذلك لو قال أعتق رقبة أو صم شهرين أو أطعم فقيرًا, قال بعد حول مؤمنة ومتتابعين ومسلمًا لم يكن ذلك تقييدًا للكلام ولا مفيدًا, ولا حالًا محل قولهم اعتق رقبة مؤمنة, وصم شهرين متتابعين وأطعم فقيرًا مسلمًا, وكذلك لو قال قائل زيد, ثم قال بعد شهرين, منطلق أو قائم أو قام وانطلق لم يكن ذلك مفيدًا ولا خبر مبتدأ ولو جعل ذلك متصلًا لكان حسنًا مفيدًا, وثبت بذلك ما قلناه. فصل: فإن قيل: فكيف خفي ما قلتموه على ابن عباس مع علمه وفصله وكون اللغة له طبعًا. قيل له: عن هذا جوابان: أحدهما: إن الرواية عنه غير معلومة, ولعلها أن تكون متوهمة عليه أو موضوعة له.

والجواب الآخر: إنها إن صحت عنه حملت على تأويل يوافق طريقة اللغة, فيمكن أن يكون أراد بالقول بجواز ذلك القول, بأنه يجوز أن يضمر المتكلم الاستثناء في نفسه عقيب كلامه ويخبر بعد مدة عن إضماره لذلك, فأجل الخبر عن الاستثناء المضمر المتصل بالكلام محل الاستثناء, وهذا قريب غير بعيد. فإن قيل: فما وجه إحالة الخبر عن الاستثناء وإن تأخر محل الاستثناء المضمر المتصل بالكلام؟ قيل: وجه ذلك أن الاستثناء لو أظهره المستثنى متصلًا بكلامه لأفاد التخصص, وكون المستثنى عير مراد بالقول, فكذلك الخبر عنه, وإن تأخر يفيد أن بناء الخبر خبر عن إضمار استثناء وقت تكلم غير داخل في كلامه ولا مراد به, فهذا وجه يصح حمل كلامه عليه, ولو صح عنه التصميم على صحة تأخير الاستثناء وفصله من الكلام لكان ذلك خلافًا منه على أهل اللغة وبمنزلة أن يقول بجواز تأخير التقييد والشرط والخبر عن الكلام والابتداء, ولا خلاف في إحالة ذلك, فثبت ما قلناه. فصل: وقد حكي أن قومًا أجازوا تأخر الاستثناء عن المستثنى منه بأن يوردوه موجودًا معه كلام يدل به على أنه استثناء مما تقدم, وذلك نحو أن

يقول إلا زيدًا, وهذا الكلام استثناء من قوله: رأيت الناس إلا زيدًا. وهذا أيضًا باطل من وجهين: أحدهما: إنه لو جاز ذلك لجاز ادعاء مثله في جواز تأخير خبر الابتداء والتقييد والشرط, وأن يقول قائل بعد حول من قوله زيد قام, ويقول أريد بقولي قام زيد الذي ذكرته منذ حول, ويصح مثل ذلك في التقييد والشرط, وفي الاتفاق على فساد ذلك وقبح استعماله دليل على بطلان ما قالوه. والوجه الآخر: إنه لا معنى ولا وجه يجوز تأخير قوله إلا زيدًا معنى قوله أردت بقولي إلا زيدًا الاستثناء من قولي رأيت الناس, لأنه لو قال بعد دخول زيد هذا لا تضربه أو لم أرده بالقول لأفاد ذلك أنه أراد بالإطلاق المتقدم من عدا من ذكره فما حاجته مع ذلك إلى قوله إلا زيدًا وأردت به الاستثناء, وهل ذلك عند أهل اللغة إلا لكنه وفحم وإطالة بما لا معنى له يقصد إليه, والكلام الذي تبين به أن مراده الاستثناء مقيدًا لما يقصده هذا غير معروف ولا مستعمل في اللسان, فبطل ما قالوه. فصل: وقد اعتمد المخالفون في ذلك على أنه لما جاز تأخير البيان, وجميع أدلة التخصص في إخراجه من الكلام ما لولاه لكان داخلًا فيه. فيقال لهم: لم قلتم ذلك؟ وما دليلكم عليه واللغة قد فرقت بين ذلك؟ ثم يقال لهم: قد بينا فيما سلف أن تأخير القول إلا زيدًا أو سوى زيد يخرجه عن أن يكون مفيدًا أصلًا, فضلًا عن أن يكون استثناء يوصف بذلك وتأخير الأدلة المنفصلة من الأقوال وغيرها من أدلة العقول والقياس أن يكون فيها ما

يجوز تأخير نصبه عن الكلام لا يخرجها عن أن تكون مفيدة ومؤذنة بخروج ما أخرجته من الكلام, وإذا كان ذلك كذاك بطل جمعكم بين الأمرين. ويقال لهم - أيضًا - إن وجب إلحاق الاستثناء بأدلة التخصص فيما قلتم لأجل ما وصفتم لصح تأخير الشرط والتقييد وخبر الابتداء عن الكلام قياسًا على جواز تأخير أدلة التخصص. وكما بطل ذلك سقط ما اعتللتم به.

باب القول في جواز تقدم للاستثناء على المستثنى منه

باب القول في جواز تقدم للاستثناء على المستثنى منه فإن قيل: قد قلتم في صدر هذا الباب بصحة تقدم الاستثناء على المستثنى منه إذا كان معنى كلام يكون معه جملة واحدة, وأن العرب قد استعملت ذلك فأخبرونا ما صورته؟ قيل له: المتقدم من الاستثناء على ضربين: فضرب منه متقدم متبتر منقطع مقطوع غير مفيد, وهو إذا كان ذلك كذلك بمثابة المتأخر المنقطع الذي وصفناه وخبرنا أنه لا يفيد, فصورته أن يقول "ما مررت إلا" ويقطع الكلام, ثم يقول بعد يوم لرجل أباك وأخاك "أحد" وهذا لا يفيد ولا يعقل أباك بأحد معنى ما, وذلك فاسد غير مستعمل. فأما صورة المتقدم المفيد فنحو ذلك ما جاءني إلا أخاك أحد, وقولك: ما مررت إلا أباك بأحد, وقد تكلمت العرب بذلك نثرًا ونظمًا, ومنه قول كعب بن مالك رحمة الله عليه.

والناس ألب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القانوزر فقد قوله إلا السيوف وأطراف القنا, وجعله بمثابة قوله ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا. وقال الكميت: فمالي إلا آل أحمد شيعة ومالي إلا مشعب الحق مشعب فنصبًا جميعًا بالاستثناء ما هو في موضع النصب والخفض, لأنه مما تكلمت به العرب على هذا الوجه, وقد قال أهل العربية إن الاستثناء إذا تقدم نصب أبدًا المستثنى منه تقول: ما جاءني إلا أباك أحد, وما مررت إلا أباك بأحد, واستشهدوا بهذين البيتين, فيجب ترتيب الأمر في تقديمه ومنع تأخيره على ما وصفناه.

باب الكلام في أقسام الاستثناء وضروبه

باب الكلام في أقسام الاستثناء وضروبه والاستثناء على ضربين: فمنه استثناء من الجنس أو بعض جملة داخلة تحت الاسم, والاستثناء من غير جنس. وصورة الاستثناء من الجنس, نحو قولك رأيت الناس إلا زيدًا, وضربت العبيد إلا نافعًا, وأمثال ذلك. واستثناء بعض ما دخل تحت الجملة التي يتناولها الاسم, نحو القول رأيت زيدًا إلا وجهة وإلا يده ورأسه, ورأيت الدار إلا بابها, وأمثال ذلك, ولا يجب أن يقال في مثل هذا إنه استثناء من الجنس, ولكن يقال استثناء بعض ما اشتمله الاسم, لأنهم لا يطلقون على المستثنى أنه من الجنس إلا إذا كان واحدًا أو أحادًا من جملة كل شيء منها يستحق إذا انفرد اسم واحد مفرد غير معين ولا مضاف ومتعلق بجملة, نحو قولك إنسان وفرس وعبد وثوب, ونحو ذلك, وليس هذه حال استثناء كل بعض لجملة إذا كان مما لا يقع عليه الاسم منفردًا, لأنك إذا قلت له على عشرة إلا درهم, وعندي مائة ثوب إلا ثوب فهو استثناء من جملة, غير أنها آحاد يقع على كل واحد منها اسم درهم وثوب إذا انفرد فهو بمثابة المستثنى من ألفاظ الجموع المطلقة المدعاة للعموم فيجب تنزيل أبعام الجمل على ما قلناه.

والقائلون بالعموم يقولون في جميع هذه الاستثناءات أنها تخرج من المستثنى ما لولاه لكان داخلًا في الخطاب. ومن أهل الوقف من يقول هي كلها تخرج من الخطاب ما كان يصح ويجوز دخوله فيه, وهذا قول من يزعم أن القول استثناء وبابه يقع على التام والناقص, وأنه لم يوضع لكمال الجملة والعدد. وفريق منهم يقول: بل الاستثناء من ألفاظ الجموع المطلقة هي التي تخرج ما كان يصح دخوله في الخطاب, فأما استثناء يد زيد من الجملة, والبيت من القصيدة والباب من الدار والواحد من العشرة والخمسين من الألف, وأنه استثناء لما يجب دخوله تحت اللفظ لولا الاستثناء, وهذا قول من يقول إن أسماء الجمل موضوعة لإفادة كمالها, فسواء كانت جملة أعداد أو جملة نخلة ودار وإنسان, وأمثال ذلك, وفي هذا نظر قد ذكرناه في غير هذا الكتاب. والضرب الثاني من الاستثناء يخرج من الخطاب من يجري عليه الاسم, وليس بمخرج من الخطاب من دخل فيه, ولا من يصح دخوله, ولا مما قصده المتكلم قط بكلامه وإن كان الاسم واقعًا عليه, وذلك نحو قولك من دخل داري أكرمته إلا اللصوص وأهل الغارة, ومن لقيته أكرمته إلا قاتل ولدي والمستخف بحقي والقاصد لقتلي وأمثال ذلك, وهذا ونحوه مما يعلم بالعرف وشاهد الحال ويقع اضطرارًا أنه مما لم يدخله المتكلم قط في كلامه ولا قصده, ولا يصح أن يقصد إكرام قاصد قتله وسبي ذريته, هذا محال وإن كان الاسم واقعًا عليه. ومن الاستثناء ما هو عند أهل اللسان استثناء من غير الجنس, ومنه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} وليس هو من الملائكة لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وقوله تعالى: {وَمَا

كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} وأمثال هذا مما قاله إنه استثناء من غير الجنس, ويجب عندنا أن لا يقال في هذا الاستثناء وأمثاله إنه تخصص للكلام, لأن ما يتناوله الاستثناء ليس مما يقع عليه الاسم بحال, فكيف يكون تخصصًا له, والتخصص إخراج بعض ما يتناوله الاسم. وقد زعم قوم من الناس أن قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ} إنما استثناه من جهة المعنى من حيث دخل مع الملائكة في الأمر بالسجود, وإنه كان من الجن. وقال آخرون: بل إنما قال {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} على وجه التشبيه لفعله بفعل الجن لامتناعه من السجود وجميع التأويلين يجوزان من المتأول, ولا وجه لصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز. فأما قوله إلا خطأ, وإلا رب العالمين فلا شبهة في أنه استثناء لما لم يدخل تحت الاسم في حقيقة ولا مجاز, وإنما استحال أن يكون قوله إلا خطأ استثناء من الجنس, لأنه محال قول القائل إن المؤمن قتل المؤمن خطأ, وليس له ذلك, لأنه قول يوجب تصحيح الأمر والنهي مما وقع خطأ غير مقصود, وقد بينا أن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف, وكون الله سبحانه عدوًا لأنبيائه وأوليائه باطل باتفاق, فثبت ما قلناه. وكذلك حكم قوله تعالى: {لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} لأن أكله بالتجارة ليس بأكل بالباطل, وكذلك قوله: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فهو معنى قوله رب العالمين ليس بعدو لي, "ولكن كلوها بالتجارة".

ومنه قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} وليس ابتغاء الثواب في مجازاة الإنعام بسبيل. ومنه قوله تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا} ورحمة الله ليست بصريخ لهم, وإن كانت قبة على الصريخ ومنحة لهم, فصارت بمعنى الصريخ. ومنه قوله تعالى: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ} والظن ليس من جنس العلم, ولا مما يقع عليه اسم علم, ولكنه عند الظان بصورة العلم. ومنه قوله تعالى: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} والإشارة ليست من الكلام, وإن قامت مقامه, ودلت عليه وتتبع هذا كثير, والعرب تقول ما في الدار رجل إلا امرأة, وماله ابن إلا ابنه وما رأيت أحدًا إلا الثور, قال النابغة: وقفت بها أصيلالًا أسائلها أعيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا أواري لأيامًا أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

والأواري ليست بأحد, وقال آخر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس والحمير والعيس ليست من الإنس في شيء, وقد قيل إن الشاعر أراد بقوله ليس بها أنيس مأنوس بالبصر إلا اليعافير وإلا العيس وليس الغرض الكلام في تحقيق ما أراده وجعل أنيس موضع مأنوس بالبصر يحتاج إلى دليل وإطلاق الاسم لا يقتضي مأنوسًا. وقال آخر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وليس ذلك من العيب في شيء فصل: وقد اختلفت عبارات الناس عن هذا الاستثناء. فقال قوم: ليس باستثناء على الحقيقة, وإنما يوصف بذلك مجازًا. وهذا مما لا حجة لهم عليه لتوقيف أهل اللغة لنا على أنه استثناء ومسمى بذلك, فدعوى المجاز تحتاج إلى دليل. ومنهم من قال: لا اسميه استثناء في حقيقة ولا مجاز, وهذا خلاف على نص أهل اللغة.

ومنهم من قال: اسميه استثناء منقطعًا من الكلام. ومنهم من يقول هو بمعنى كلام مبتدأ مستأنف, وهو قوله لكن كلوها عن تجارة, ولكن بهن فلول من قراع الكتائب, ولا طائل في النزاع في العبارات والأسماء والألفاظ بعد أن بينا أنه استثناء لما ليس من الجنس.

باب جواز استثناء الأكثر

باب جواز استثناء الأكثر مما تقدم ذكره ووصف الخلاف في ذلك اختلف الناس في هذا الباب: فقال أكثر المتكلمين والفقهاء بجواز ذلك وأنه لغة للعرب وموجود في كلامها. وأنكر آخرون, وقالوا إن ذلك لا يجوز, وكأنه الأشبه والأولى عندنا وإن كنا قد نصرنا في غير هذا الموضع جوازه. والذي نعتمده في منع ذلك استقباح أهل اللغة لاستثناء الأكثر مما دخل تحت الاسم, لأنهم يختلفون في استهجان قول القائل: رأيت ألف رجل إلا

تسعمائة وتسعة وتسعين, وكذلك فهم مطبقون على قبح قول القائل عندي مائة ألف إلا تسعة وتسعين ألفًا وتسعمائة وتسعة وتسعين ولو حسن استثناء الأكثر لحسن في مثل هذا الاستثناء, وما هو أطول منه, بل قد قال كثير من أهل اللغة: إنهم لا يستحسنون استثناء العقد الصحيح, وإنما يستحسنون استثناء المكسور منه, ويستقبحون أن يقال له عندي عشرة إلا درهمًا, ويرون أن القول له عندي تسعة دراهم أولى وأحسن, وإنما يجوز أن يقال: له عندي عشرة إلا دانقًا وإلا ثلثًا وإلا نصفًا وثلثين ونحوه مما لا يبلغ عقدًا صحيحًا. قالوا: ولذلك قال سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} فاستثنى الخمسين لأنها كسر, وليست بعقد صحيح, وكذلك القول في الستين إلى التسعين, ولو بلغ المستثنى مائة لعدل عنه إلى اسم الباقي الموضوع له, ولوجب أن يقول: فلبث فيهم تسعمائة عام, وكل هذا يوجب قبح استثناء الأكثر وجوازه في الأقل, ولا وجه لقول من يقول في جواب هذا لعمري أن أهل اللغة قد استقبحوا ذلك غير أن لا أعلم أن استقباحهم له استقباح كراهية واستثقال أو استقباح إلغاء له واطراح وكونه خارجًا عن لغتهم, لأنه إذا ثبت استقباحهم لذلك وكراهيتهم له ثبت أنه ليس من لغتهم واستعمالهم, لأنهم قد وقفونا على أنهم لا يتكلمون بما يستقبح استعماله, ولو جاز مثل هذا التأويل في استقباحهم لذلك لجاز تأويله مثله في كل ما قالوه إنه قبيح في لغتنا استعماله, وأن يقال كل ما لم يستعملوه وكرهوه, فإنه من لغتهم, ولا يعلم أنه ملغى مطرح عندهم, وهذا تعسف لا وجه له. وقد تعلق في منع استثناء الأكثر بأشياء غير صحيحة, والمعتمد فيه ما قلناه, منها.

إنه لو جاز استثناء الأكثر لجاز وحسن استثناء جميع ما في اللفظ, وهذا باطل. لأن استثناء جميعه نقض للكلام ورفع جميع ما فيه, وليس هذه حال استثناء الأكثر, كما أنه ليس ذلك حال استثناء الأقل, ويفسد ذلك أنه قد جاز بإجماع تخصص الأكثر مما دخل تحت اللفظ مما عدا الاستثناء من الأدلة, ولم يجب قياسًا على هذا جواز إخراج جميع ما في اللفظ, كما جاز إخراج أكثره, والعلة في ذلك ما ذكرناه من أن إخراج جميعه نقض للكلام, وليس كذلك تخصص أكثره, فبطل ما قالوه. فصل: فأما من أجاز ذلك فقد اعتلوا لصحته بأمور باطلة منها: إن الاستثناء بمعنى أدلة التخصيص, فإذا جاز تخصص جاز استثناؤه. ومنها أيضًا: إذا جاز استثناء الأثل جاز استثناء الأكثر لأنهما جميعًا يرفعان من الخطاب ما لولاه لكان داخلًا فيه, وهذا باطل لأنه إثبات لغة بقياس واستدلال, وقد بينا فيما سلف أن اللغة لا تثبت بمثل هذه الطريقة, وتقصينا القول فيه بما يغني عن الإعادة. ومن المعتمد عندهم في ذلك دعواهم استعمال أهل اللغة لذلك ووروده في القرآن والشعر. قالوا: لأن العرب تقول: له علي عشرة إلا ستة وسبعة, وتقول: له علي دينار إلا عشرة دراهم وإلا عشرين درهمًا, وله علي عشرين درهمًا إلا دينارًا, فتستثني الأكثر في مثل هذا ويبقى الأقل. قالوا: وقد قال الله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} واستثنى النصف وقال: {أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ولا فرق بين استثناء النصف وما هو أكثر منه.

قالوا: ومنه قول الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكمًا بالحق قوالًا وهذا الذي ادعوه من استثناء الستة والسبعة من العشرة, والعشرة من الدينار, والدينار من العشرة غير ثابت ولا موقف عن أهل اللغة وإن استعمله من الناس القليل عن غير توقيف, وما يتعلق بذلك من الأحكام في الإقرار مأخوذ من جهة الاجتهاد وضروب أدلة السمع دون اللغة. وقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} يقدر تقدير ابتداء الكلام, كأنه قال: بل قم نصفه أو زد عليه أو انقص منه, فإنه أعظم لثوابك وأصلح في تكليفك من قيام الأقل منه, على أن النصف ليس بأكثر الداخل تحت الاسم, وقوله انقص منه ابتداء كلام متصل بالاستثناء. وقول الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ليس باستثناء الأكثر مما دخل تحت الاسم للمائة, ولا لفظه لفظ الاستثناء, وإنما فيه ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم, وليس ينكر أن يقول القائل: أخذت من المائة تسعين ومن العشرة تسعة, ولا يجوز قياسًا على هذا أن تقول: له عندي عشرة إلا تسعة بلفظ الاستثناء, كما لا يجوز أن تقول: له عندي عشرة إلا تسعة وخمسة دوانيق وتسع حبات حتى يبقى من العشرة حبة وفلسًا, وإذا كان ذلك كذلك ضعف القول بهذا, وصح ما قلناه.

باب القول في أن الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوف بعضها على بعض, هل يجب رجوعه إلى جميع ما تقدم أو قصره على ما يتصل به ويليه

باب القول في أن الاستثناء المتصل بجمل من الكلام معطوف بعضها على بعض, هل يجب رجوعه إلى جميع ما تقدم أو قصره على ما يتصل به ويليه فنقول وبالله التوفيق: إن الواجب تصوير هذه الجملة والاستثناء منها ليقع الكلام فيه موقعه. وصورة الاستثناء الراجع إلى جملة واحدة, نحو قولك من عصاني عاقبته إلا من تاب, واضرب الجناة والعصاة إلا من تاب, واقتل المشركين إلا أهل الأمان, وأمثل ذلك مما هو استثناء من جملة واحدة وهي لفظ العموم, وكذلك الاستثناء من كل جملة من الأعداد قاصرة عن الاستغراق, نحو قولك: اضرب العشرة العبيد إلا من تاب منهم, واقتل المائة إلا من تاب, وأمثال ذلك. وصورة الجمل المختلفة المتصل بها الاستثناء قول القائل: من قذف زيدًا فاضربه واردد شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب, أو إلا الذين تابوا, أو يقول: من دخل الدار وأكل الطعام وأفحش في الكلام عاقبته إلا من

تاب. أو يقول: من قتل زيدًا وعمرًا وخالدًا ضربته إلا من تاب, ومن هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}. وأمثال هذا. ومن هذه الاستثناءات الواردة في القرآن ما يرجع إلى جميع الجمل المتقدمة, ومنه ما يرجع إلى بعضها, ومنه ما لا يصح حمله إلا على ما يليه على ما سنفصل من بعد. وقد اختلف الناس في حكم هذا الاستثناء المتصل بجمل من الكلام. فقال الدهماء من القائلين بالعموم من المتكلمين والفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة إنه راجع إلى جميع ما تقدم إلا أن يمنع من ذلك دليل فيجب قصره على البعض.

وقال قوم من أصحاب أبي حنيفة منهم الكرخي ونوابت من القدرية إنه يجب حمله على ما يليه من الجمل فقط. واعتمد كل فريق منهم على ما سنذكره. والذي نختاره في هذا الباب الوقف في ذلك والقول بجواز رجعوه إلى الكل وجواز رجوعه إلى البعض سواء كان ذلك البعض يليه أو لا يليه, وإن ذلك موجود في الكتاب وكلام أهل اللغة. والدليل على صلاحه للأمرين استعماله فيهما جميعًا فمن ادعى وضعه لأحدهما والتجوز به في الآخر أو أن مطلقه لأحدهما ويستعمل الآخر بقرينه احتاج إلى دلالة وإلا فهو بمثابة من قبل عليه دعواه, وفي تكافئ القولين دليل على صلاحه للأمرين. ويدل على ذلك - أيضًا - إنه لا يمكن العلم بتوقيف عن جماعة أهل اللغة على أنه موضوع لإفادة أحد الأمرين. فإن قيل: ما أنكرتم من بطلان قولكم بالوقف في ذلك لاتفاق أهل اللغة وسائر الأمة معهم على أنه لا بد من أن يكون مفهوم موضوعه ومطلقه عودة إلى جميع الجمل المقدم ذكرها أو إلى ما يليه أنهم مع اختلافهم في ذلك لم يقل أحد منهم بالوقف, فقولكم خارج عن اللغة والإجماع.

يقال لهم: هذا في نهاية البطلان لأننا لا نعلم توقيفًا عن جميع أهل اللغة من طريق يوجب العلم ويقطع العذر على أنه راجع إلى أحدهما أو أنه لا بد أن يكون في أصل الوضع مفيدًا عندهم لأحدهما, ولا عن الأمة في ذلك إجماع معلوم, وإنما هذه مسألة حادثة تختلف فيها أهل اللغة والفقهاء, ولو صح إجماع من الأمة على وجوب عودة إلى جميع ما تقدم أو إلى ما يليه لوجب حمله على ذلك بحجة الإجماع لا بموجب اللغة والموضوع, وكذلك لو اتفقت الأمة على أنه لا بد من أن يكون في الأصل موضوعًا لأحدهما ثم اختلفت في أيهما الذي وضع له لوجب أن يستدل بإجماعها على أنه لابد من أن يكون موضوعًا لأحدهما, ثم لا تعلم أيهما هو منهما لاختلافهما في ذلك وتكافئ دعاوي المختلفين فيه, والواجب على من لم ير القول بالوقف في ذلك أن يقول إن الاستثناء المتصل بجمل من الكلام راجع إلى جميعها وعامل فيه إلا أن يمنع من ذلك دليل, فإن القول بذلك أولى. والذي يدل على أن هذا القول أولى أمور: أحدها: أن المعطوف من الكلام بعضه على بعض بمنزلة المذكور جميعه باسم واحد يعمه, من حيث كان لا فصل عندهم بين قولهم: اضرب زيدًا وعمرًا, وخالدًا وبين قولهم اضرب هذه الفرقة, واضرب هؤلاء الثلاثة, ولذلك لا فرق بين قولهم اضرب زيدًا بن محمد وزيدًا بن بكر, وزيدًا بن جعفر, وبين قولهم اضرب الزيدين باسم يعمهم.

وإذا كان ذلك كذلك واتفق على أن الاستثناء المذكور عقيب جملة باسم واحد راجع إليها وجب أن تكون هذه سبيل الاستثناء المتصل بجمل من الكلام, وإن عطف بعضها على بعض, لأنه لا فرق بين أن تقول اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب باسم يعم جميعهم, وبين أن تقول عاقب من قتل ومن زنى ومن سرق إلا من تاب باسم يعم جميعهم, وبين أن تقول عاقب من قتل ومن زنى ومن سرق إلا من تاب, وبين أن تقول أيضًا عاقب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب في وجوب رجوع الاستثناء في مثل هذا إلى جميع من تقدم, لأن أسماءهم وصفاتهم, وإن تغايرت فهي عائدة إليهم, وبمثابة الاسم الواحد العائد إليهم إذا وصل بالاستثناء فوجب لذلك تساوي حاليهما في الإفراد والجمع والنسق, وهذه سبيل كل جمل عطف بعضها على بعض بأي حروف العطف عطفت من فاء وواو وغيرهما هذا هو العمدة في هذا الباب. ووجه السؤال عليه لأهل الوقف, ومن قال: بل يجب رجوعه إلى ما يليه أن هذا قياس على اللغة وإثبات لغة باستدلال, وذلك غير صحيح من حيث قيل له: لما كان الاستثناء المتصل بجملة واحدة باسم بعضها راجع إليها وجب أيضًا رجوعه إلى جميع الجمل المقدم ذكرها وإن اختلفت وتغاير أسماؤها وأوصافها, وهذا قياس, لم يكن عنهم توقيف على ذلك لجواز أن يتواضعوا على وجو رجوعه إلى جميع الجملة, الواحدة باللفظ العام وجعله راجعًا إلى ما يليه من الجمل المتغايرة إذا تقدم ذكرها, وهذا غير محال من تواضعهم, على وجوب رجوعه إلى جميع الجملة, الواحدة باللفظ العام وجعله راجعًا إلى ما يليه من الجمل المتغايرة إذا تقدم ذكرها, وهذا غير محال من تواضعهم, فإذا لم يوقفوا على جعله في الأمرين بمنزلة واحدة ولا على فرق بينهما رجع القول إلى الوقف وضعف التعلق بذلك. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن أهل اللغة مطبوقون على أن تكرار

الاستثناء عقيب كل جملة ضرب من العي واللكنة إذا قال القائل: إذا دخل زيد الدار فاضربه إلا أن يتوب وإن أكل الطعام فاضربه إلا أن يتوب, وإن فعل القيام فاضربه إلا أن يتوب, وإذا رأوا هذا عيًا في الكلام كان الأقرب عمل الاستثناء في جميع الجمل المتقدمة وترك جوازه عقيب كل جملة استثقالًا وكراهة التكرار. واستدل كثير ممن قال برجوعه إلى جميع ما تقدم بالاتفاق على وجوب رجوع الاستثناء بمشيئة الله تعالى إلى جميع الجمل المقدم ذكرها, نحو قول القائل: والله لا أكل الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيدًا إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله. وكذلك زعموا سبيل الاستثناء بغير مشيئة الله, والسبب أنهما كلامان لا يستقلان بأنفسهما لو أفردا عما وصلا به. فيقال لهم: الأمر عند مخالفيكم من أهل الوقف ومن يقول يجب رجوعه إلى ما يليه سواء, لأنه يصلح أن يرجع بقوله إلى شاء الله تعالى إلى الاستثناء في كلام زيد فقط ويصلح أن يرجع إلى جميعه, وإنما يجب إعمال الاستثناء بمشيئة الله في جميع ما تقدم من جهة الشرع والحكم بذلك لا من ناحية

توجب اللغة, فبطل مال قالوه, على أن هذه علة توجب رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل فيه, لأن قصره عليه وحده يجعله مستقلًا وهم لا يرون ذلك, فبطل ما قالوه. واستدل أيضًا آخرون على ذلك باتفاق أهل اللغة على رجوع الشرط ووجوب إعماله في جميع الجمل المتقدمة, نحو قول القائل: لا تضرب زيدًا إذا أكل الطعام ودخل الدار وركب الحمار إلا أن يكون قائمًا, وكذلك لو قال اضرب زيدًا إذا دخل الدار وأكل الطعام وركب الحمار إن كان قائمًا أو إذا كان قائمًا, فيجعل قوله إذا كان قائمًا وإن كان قائمًا شرطًا في جميع ما تقدم, لأجل أنه كلام لا يفيد لو فصل وتكلم به مفردًا, وكذلك حال الاستثناء فوجب استواؤهما. يقال لهم: الأمر عند من قال بالوقف, وقال برجوعه إلى أقرب المذكور سواء لأنه يصلح جعله شرطًا لركوب الحمار أو لأكل الطعام أو دخول الدار, ويصلح كونه شرطًا لجميع ذلك, فالقول في ذلك وفي الاستثناء بمشيئة الله سواء, فزال ما قلتم على أنه لو كانت العلة في ذلك أنهما لا يستقلان لو أفراد وجب حملهما على ما يليهما لأنهما يستقلان لذلك, فبطل ما قالوه.

باب ذكر ما يتعلق به من قال يجب رجوعه إلى ما يليه فقط

باب ذكر ما يتعلق به من قال يجب رجوعه إلى ما يليه فقط وقد اعتمد القائلون بذلك على أنه إنما وجب رد الاستثناء إلى بعض ما تقدر, وتعليقه به لأجل أنه غير مستقل بنفسه ولا مفيد إذا أفرد, ولو أفاد واستقل بنفسه لم يجب رده إلى شيء مما تقدم, وإذا كان ذلك كذلك وكان رده إلى ما يليه فقط وتعليقه به يجعله كلامًا مفيدًا, فأما لم يكن بنا ضرورة إلى رده وجمله على جميع ما تقدم وهو قد صار مفيدًا بحمله على ما يليه. يقال لهم: ما قلتموه باطل, لأن القائلين بالوقف في ذلك والرادون له إلى جميع ما تقدم ذكره لم يوجبوا الوقف فيه أورده إلى سائر ما تقدم من أجل أنه لو قصر على ما يليه فقط لم يكن مفيدًا ولم يجز ويصلح ذلك, بل إنما ردوه إلى جميع ما تقدم لأجل أن ذلك يوجب موضوعه في اللغة, وأن في رده إلى البعض إخراج له عن حكم موضوعه, وذلك ما لا سبيل إليه من ناحية مطلق اللفظ, اللهم إلا أن يوجب ذلك دليل يقترن به, وهو عندهم بمثابة الاسم العام الموجب لاستغراق الجنس, لأجل أن ذلك موضوعه ومفهومه في اللغة, لا لأنه لو حصل على ما دون جميع الجنس أو أقل الجمع لم يكن مستقلًا ولا مفيدًا, ويمثل هذا اعتل من أوجب حمل أسماء الجموع المعرفة والمنكرة

على أقل الجمع لاستقلالها بذلك فلم يقبلوه فبطل ما عولتم عليه. فصل: ويقال لهم فيجب لنفس اعتلالكم هذا حمل الاستثناء بمشيئة الله تعالى والشرط في الكلام على ما يليهما فقط, لأن حمله عليه يجعله مفيدًا مستقلًا يوجب أيضًا حمل لفظ الجمع في معرفة ومنكره الذي يدعونه للعموم على أقل الجمع اللازم له, لأن حمله عليه يجعله مستقلًا, فإن مروا على هذا تركوا قولهم, وإن أبوه أو شيئًا منه نقضوا اعتلالهم. فصل: واعتمدوا - أيضًا - في ذلك على أن قالوا إن إطلاق الكلام الأول بغير استثناء متصل به متيقن معلوم, فلا يجوز أن يخرجه عما يقتضيه إطلاقه إلا بيقين, والذي يتيقن واتفق عليه عوده إلى ما يليه ما ورده إليه فوجب إزالة الكلام الذي يليه عن إطلاقه بيقين ويبقى الباقي على حكم إطلاقه. يقال له ما قلتموه باطل من وجوه: أولها: ادعاؤهم تيقن إطلاق الجمل المتقدمة مع إيصال الاستثناء بآخرها, ومعاذ الله أن يكون ذلك كذلك, وكيف يتيقن هذا وفيه أعظم الخلاف. ومن يقول يجب رجوعه إلى سائر ما تقدم يزعم أنه وإن اتصل بالجملة الأخيرة فإنه بمثابة إيصاله بكل جملة ذكرت وتعقيبه بها فدعوى اليقين في ذلك باطل. والوجه الآخر إنه ليس حمله على يليه متيقن, لأننا نجوز رجوعه إلى أول المذكور من الجمل أو إلى أوسطها, فمن أين تيقن ما ادعيتم؟.

ويقال لهم: فقولوا - أيضًا - لنفس اعتلالكم هذا إن الشرط والاستثناء بمشيئة الله راجعين إلى ما يليهما, لأن قبله متيقن لنفي الشرط والاستثناء عنه ولا يزال عن حكمه اليقيني إلا بيقين, وقولوا - أيضًا - بوجوب حمل ألفاظ الجموع على أقل الجمع, لأنه متيقن إنه مراد وما عداه مختلف فيه وغير متيقن فإن ركبوا ذلك أجمع أبطلوا مذاهبهم, وإن أبوه نقضوا استدلالهم. فصل: واستدل الفريقان على صحة كل واحد من القولين بأنهم قد وجدوا الاستثناء راجعًا إلى جميع ما تقدم. وقال آخرون: قد وجدنا استثناء راجعًا إلى ما يليه وبعض ما تقدم, فوجب أن يكون ذلك موضوعه وفائدته, وهذا باطل متعارض على ما نراه, وإنما وجب حمل ما رجع إلى جميع ما تقدم أو إلى بعضه على ذلك بدليل لا بحق الإطلاق والوضع عند أهل اللسان. فصل: والذي يبين ما قلناه من جواز رجوع هذا الاستثناء إلى جميع ما تقدم تارة وإلى بعضه أخرى كان مما يليه أو لا يليه قوله عز وجل في القذفة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وإنما رجع هذا الاستثناء إلى إزالة اسم الفسق وإسقاط الشهادة دون إسقاط الحد, لأن التوبة لا تعمل في إزالته. وكذلك حكم الاستثناء في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} لأن تصدقهم لا يعمل في إسقاط الكفارة بالرقبة

وإن عفوا عن الدية. وقد كان يصح إعماله في إسقاط حقهم وحق الله سبحانه من الكفارات وهذه حال الشرط عندنا, لأنه لو قال صل صلاتين, وصم يومًا أو يومين, وانحر بدنه, فإن لم تقدر فصم يومًا أو يومين أو أطعم مسكينًا لاحتمل أن يكون الشرط بعد القدرة راجعًا إلى جميع ما تقدم, واحتمل أن يكون راجعًا إلى عدم القدرة على نحر البدنة فقط, وهذا مثل قوله تعالى: {يقول سبحانه في سورة المائدة: لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} وقوله فمن لم يجد شرط يصح رجوعه إلى عدم الرقبة فقط, ويصح عوده إلى عدم الجميع, ولو قصد سبحانه رفع الاحتمال في إيجاب رجوعه إلى جميع ما تقدم عقب كل جملة يذكرها بالشرط, نحو أن يقول عقيب قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم فمن لم يجد الصيام ثلاثة أيام أو كسوتهم, فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام, أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام, فلما عقبه بآخر جملة صح عوده إلى الجميع وإلى البعض. فأما الاستثناء الذي خبرنا أنه لا يجوز أبدًا حمله على ما يليه فهو قوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} لأنه لو حمل قوله إلا قليلًا على بعض من تفضل الله عليه بالعصمة واللطف في ترك الكفر واتباع الشيطان لكان فيمن عصمه وجنبه اتباع الشيطان ولطف له في ذلك قلنا قد اتبع الشيطان ولم ينفعه بالعصمة واللطف, وهذا فاسد بإجماع, ومبطل لمعنى الكلام, ورفع المنة عليهم بذلك إذا كانت على من كفر واتبع الشيطان ولو أنكر أن يكون

بعض من تفضل عليه بذلك متبعًا للشيطان لا ننكر ذلك في جميعهم ولفسد مع الكلام بإجماع, فوجب حمل قوله إلا قليلًا على قوله: لعلمه الذين يستبطونه منهم إلا قليلًا, لتقصير وإهمال وغلط يقع منهم في الاستنباط ولا يعلمون ذلك, ويمكن أيضًا أن يكون قوله إلا قليلًا منهم راجعًا إلى قوله: أذاعوا به, فكأنه قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليل منهم لا يذيعونه, وهذا صحيح أيضًا, وذلك يوجب رجوعه إلى أول المذكور, على أنه قد يمكن أن يحمل على أنه راجع إلى قوله {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} فكأنه قال: ولولا فضل الله ورحمته بإرسال محمد عليه السلام إليكم وبيانه لكن واستنقاذكم به من الجهل بالله عز وجل, وما أيده به من الآيات لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا منكم قد كانوا تفضل الله عليهم بالعصمة من الكفر قبل بعثة الرسول عليه السلام كأويس القرني وزيد بن عمرو بن نفيل وأمثالهما ممن تفضل الله عليه بالهداية له إلى معرفته ووفقه للاستدلال على توحيده وإتباع رسول قبله قد فرض إتباعه عندنا غير بعيد أيضًا, فبان بذلك صحة ما قلناه في هذا الباب وبفصول القول فيه.

باب القول في تخصص العام بالشروط

باب القول في تخصص العام بالشروط الذي يجب تقديمه في هذا الباب بيان معنى الشرط أولًا وصورته إذا كان لفظًا لغويًا, والفرق بينه وبين الشروط المعنوية. فأما الشرط المعنوي فعلى ضربين عقلي وشرعي. ومعنى وصف الشرط العقلي بأنه شرط لغيره أو ما يقوم مقام الغير أنه ما لا يصح حصول مشروطة دون حصوله, ويجب انتفاء المشروط بانتفائه, ولا يجب حصول المشروط بحصوله وذلك, نحو الحياة التي هي شرط لوجود العلم والقدرة وجميع صفت الحي التي لا تحصل دون حصول الحياة, ويجب انتفاؤها بنفيها, ولا يجب حصول العلم والقدرة بحصول الحياة, وبهذا المعنى فارق شرط الحكم علته, لأن من حق العلة أن لا يثبت الحكم إلا بثبوتها, ويجب انتفاؤه بانتفائها, ويجب حصول الحكم بحصولها

متى وجدت. ولا يجب حصول المشروط بحصول شرطه متى وجد, وقد كشفت هذا, وتبين في أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. ومن حق ما هو شرط لحكم عقلي أو لوجود غيره أن يكون كذلك لنفسه وأمر يرجع إليه, ولا يصح خروجه أو خروج مثله عن كونه شرطًا لما هو شرط له, ولا يصح خروجه أو خروج مثله عن كونه شرطًا لما هو شرط له, فالشرط للحكم على قول مثبتي الأحوال كالحياة أو كون الحي حيًا الذي هو شرط لكون الحي عالمًا قادرًا مدركًا أو لوجود العلم والقدرة والإدراك على قول منكر الأحوال, وما هو شرط لوجود الذات باتفاق, فيجوز وجود الجسم الذي هو شرط لوجود أعراضه, ووجود الفاعل الذي هو عندنا شرط لوجود فعله, وقد شرح هذا أيضًا في الكلام في الأصول بما يغني متأمله إن شاء الله. فأما شرط الحكم الشرعي فهو للأمر الذي يجعله الله سبحانه إذا حصل شرطًا لحصول الحكم بما يتعبد به من إيجاب أو ندب أو تحريم أو تحليل وإباحة أو حظر, وليس فيما يجعله الله سبحانه إذا حصل شرطًا لثبوت الحكم ما يكون شرطًا لنفسه وجنسه ووجه هو في العقل عليه, وما يقدر أنه لو لم يحصل لم يثبت الحكم, ولم يصح التعبد به, وإن كان سبحانه قد دل على أنه إذا لم يحصل شرط الحكم لم يثبت فهو في بابه بمثابة العلة الشرعية التي تكون علامة على وجوب الحكم وليس بموجبه لحصوله, على ما سنشرحه في أحكام الشروط والعلل, وذلك نحو جعل

الإحصان شرطًا لوجوب الرجم وإن كانت علته الزنى وأمثال ذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, فجعل بحق الطاهر القيام إلى الصلاة شرطًا في وجوب الوضوء. ومنه قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} في جعله شرطًا للكف عن قتالهم, وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} في أمثال هذا مما جعل شرطًا لحظران الفعل أو إباحته مما صار شرطًا بالشرع, وقد كان يصح أن لا يكون شرطًا وأن يكون للشرط شيء يخالفه. فأما الشروط النطقية اللغوية التي تخص العموم لو ثبت وهي المقصودة بذكر تخصص العموم بالشروط بمعنى أن الشرط منها شرط في حكم اللسان ومفهومه, فهو ما إذا لم يكن لم تكن مشروطة, لأنه قد علم أن قصد القائل منهم بقوله: إن جئتني جئتك, وإن تقم أقم وإن تضرب أضرب, وإن أحييك حتى تحييني, وإذا جاء المطر وقام زيد جئتك, وأمثال ذلك, فإنه يقصد تعليق مجيئه بما جعله شرطًا له وأنه إذا لم يحصل الشرط لم يكن مشروطة ولو أتاه وإن لم يأته لم يكن إتيانه, وقوله: إن تأتني آتيك شرطًا, وهذا ما لا يعرف في خلاف, وأن فائدة وصفه بأنه شرط لما يجعل شرطًا له. ومنه قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وقوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وإلى أن يعطوا الجزية, ومتى أعطوا الجزية, وحتى يطهرن, وإلى أن يطهرن,

فإذا تطهرن, وإن طهرن, وأمثال هذا من ألفاظ الشروط, وإنما وجب تخصص العموم بهذه الشروط للاتفاق على أنه إذا قال اقتلوا المشركين {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية, واقطعوا السارق وجب الإطلاق مع القول بالعموم الشمول والاستغراق لكل من يجري عليه الاسم حتى إذا قال اقتلوا المشركين إن كان حربيين, أو إذا كانوا وثنيين صارت هذه الشروط مخصصة للفظ ومخرجة له عن حكم التجريد والإطلاق باتفاق. وكلما زيد في الشرط تزايد تخصص العام, لأنه لو قال اقتلوا المشركين إذا كانوا عربًا حربيين قرشيين أبطحيين, وأمثال ذلك تزايد تخصص العام بزيادة الشروط, لأنه لا يجب حينئذ قتل أحد منهم حتى يجتمع له جميع الشروط المذكورة, فبان بذلك ما قلناه. فصل: وقد زعم بعض من تكلم في أصول الفقه أن الشرط للحكم لا يكون شرطًا له على الحقيقة حتى يكون مما إذا كان مشروطة لا محالة, وإذا لم يكن المشروط, وهذا باطل, لأنه إنما يجب في الشرط للحكم الشرعي الذي لا يثبت الحكم إلا بثبوته, ولا يجب متى لم يثبت ثبوت الحكم, ولذلك كان انقضاء الحيض شرطًا لتحليل الوطء ولا يحل إلا مع عدمه, ولا تجب إباحة الوطء بحصوله, لأنه قد يكون مشروطًا بشرط آخر مع انقضاء الحيض, وهو الغسل والمتطهر من دم الحيض, ولذلك قال تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْن} {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فجعل لإباحة الوطء شرطين, فكل حكم جعل له شرطان وشروط يجب أن لا يثبت إلا بثبوت شروطه, واستكمالها, فلا يجب متى رتب بعض الشروط بثبوت الحكم بثبوته, ومثل هذا أيضًا في العقليات

أحكام الشرط والمشروط

واجب, لأن وجود المحل ووجود الحياة شرطان لوجود العلم والقدرة, ولا يجب بحصول المحل حصول العلم دون مضامة الحياة له, وعلى هذا تقررت أحكام الشروط, في العبادات, لأن القائل إذا قال هي طالق إذا جاء المطر وقام زيد وركب عمرو لم تطلق إلا باستكمال الشروط, ولا يجب وقوع الطلاق لحصول البعض منها في حكم اللسان, ولو لزمه ذلك بحصول بعضها لكان إنما يتوجه عليه بحكم شرعي ودليل ويوجب ذلك غير موجب اللسان. فصل: من القول في أحكام الشرط والمشروط. قد اتفق على أن من حق المشروط وقوعه وحصوله بشرط أن يكون متوقعًا مستقبلًا غير حاصل, وعلى أنه لا يصح أن يكون موجودًا في الحال ولا ماضيًا منقضيًا, بل لا يكون إلا مترقبًا منتظرًا, ولهذا لم يجز أن يقول القائل: لا أضرب زيدًا أمس أو بالأمس حتى يقوم عمرو أو يقدم بكر, لأنه يجعل المشروط ماضيًا بشرط يكون مستقبلًا, وذلك فاسد, لأن ضربه زيدًا بالأمس قد وجد وحصل منه وعدم بعد وجوده, فكيف يقف وجوده على شيء يكون بعده, ومن سبيل ما يقف وجوده على شيء يكون بعده سبيل ما يقف على حصول غيره أن لا يحصل حتى يحصل ذلك الغير, وقد علم أن ضربه لزيد أمس قد وجد وحصل قبل ما جعل شرطًا لوقوعه, هذا نهاية الحال. وكذلك لو قال قائل: لا أكون قائمًا ولا ضاربًا في هذه الحال, وهو قائم وضارب فيها حتى يقوم زيد لكان بذلك محيلًا لجعله شرطًا مستقبلًا لوجود ما قد حصل واستقر وجوده, وذلك باطل فصح فساد جعل الماضي وفعل الحال مشروطًا بمنتظر متوقع. ولو قال قائل لقوم: عد إذا قام زيد أو إذا انطلق لكان ذلك صحيحًا, لأنه شرط مستقبل بما يكون مستقبلًا. فصل: وقد زعم كثير من الناس أنه كما لا يكون المشروط وقوعه إلا مستقبلًا, فكذلك لا يكون الشرط المتوقع المستقبل إلا متوقعًا مستقبلًا لا بل لا يجوز أن يقول آكل غدًا إذا كنت اليوم موجودًا, لو كان زيد اليوم راكبًا,

وفي هذا نظر, وهو عندنا غير صحيح, لأن أكثر الشروط متوقعة مستقبلة على ما قالوه. وقد يكون الشرط حاصلًا غير مستقبل والمشروط وجوده لابد أن يكون مستقبلًا, لأن القائل قد يقول إذا قام زيد قمت, فشرط المستقبل بمستقبل مثله. ويقول أهله اللغة - أيضًا - إن كان زيد اليوم في داره أو راكبًا أو مناظرًا قمت غدًا, وإن كان الأمير اليوم راكبًا في هذه الساعة جئتك غدًا, فيكون المشروط مستقبلًا وشرطه حاصل موجود, فلو تبين لنا أن زيدًا كان في داره, وأن الأمير كان راكبًا, وقبل وقوع المشروط لصح كونه شرطًا, وإن كان حاصلًا وثابتًا قبل المشروط, وإنما يمتنع أن يجعل قيام زيد في الحال شرطًا لصحة قيامه في غد, لأنه قد يصح قيامه في غد وإن لم يكن زيد قائمًا في الحال, فلو قال لا يصح أن يقوم غدًا حتى يكون زيد قائمًا في هذا الحال لأبطل وأحال, لأن ذلك يصح منه, وإن لم يقم زيد. فصل: وإذا قال الله سبحانه قد أوجبت عليك القيام غدًا, إن كان النبي راكبًا اليوم أو محاربًا لصح ذلك ولوجب القيام في غد إن كان راكبًا ومحاربًا, وليس هذا الشرط شرطًا لله عز وجل, لأنه عالم لا محالة بأن زيدًا قائم أو غير قائم, ولكنه شرط للمكلف فيجب عليه اعتقاد كون هذا القول أمرًا بشرط يجوز كونه حاصلًا ويجوز عدمه. فصل: فإن قال قائل: فكيف حال هذا القول عند الله عز وجل إن كان زيد قائمًا في هذه الحال وإن لم يكن قائمًا. قيل له: حاله إنه عنده أمر للمكلف بشرط وجود قيام زيد فإن كان قائمًا فهو أمر له بشرط قد وجد, وإن لم يكن قائمًا فهو أمر على الحقيقة بفعل له

جواز تقديم الشرط وتأخيره

يوجد شرطه. وكذلك الأمر لمن مات أو جن أو منع من الفعل بمرض وعذر أنه أمر له على الحقيقة بشرط لم يوجد, والقدرية تقول: إن ذلك ليس بأمر له وإن كانت صورته الأولى صورة الأمر, لأنه لم يرد وقوع ذلك ونحن نبين هذا في فصول القول في النسخ, وقد مضى طرف منه في فصول القول في الأوامر وأن الداخل في الصلاة يجب أن ينويها فرضًا بشرط بقائه سليمًا, ولو اعتقد أنه لا يدري أفرضت عليه الركعات أم لا لم تجزئه صلاته. وقد يصح تقديم الشرط اللغوي المخصص للعام ويجوز تأخيره لأنه لا فرق بين قول القائل إن جئتني جئتك, وبين قوله أجيك إن جئتني, فيقدم

تارة الشرط ويؤخره أخرى, وكذلك فلا فصل بين أن يقول إن كان المشركين وثنيين أو محاربين فاقتلوهم, وبين أن يقول: اقتل المشركين إن كانوا وثنيين ومحاربين. ومن هذا قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فقدم الشرط, وقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهذا تقديم للشرط, ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، وهذا تقديم للشرط, ثم قال: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} تأخر من هذا الشرط, فهو في هذا الباب مفارق لامتناع تقدم الاستثناء على جميع الجملة التي هو مستثنى منها, لأنه لا يحسن أن يقول: إلا السيوف وأطراف القنا وزر من غير تقديم شيء من جملة الكلام, نحو قوله: الناس ألب علينا وأمثاله, فافترقا في هذا الباب. فصل آخر: من القول في حكم الشرط, وقد يصح جعل وجود الشيء شرطًا لوجوب شيء آخر, ويجوز جعل عدم أمر وانتفائه شرطًا لوجوب شيء, فالأول نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} والثاني نحو قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وقوله: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} في أمثال هذا مما يطول تتبعه. فصل آخر من القول في ذلك وقد يكون الشرط زمانًا, وقد يكون مكانًا, وقد يكون فعلًا للواحد المكلف, وقد يكون أفعالًا للجماعة.

فأما الشرط بالزمان نحو قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وأما الشرط بالمكان, فنحو قولهم: اضرب زيدًا إذا كان بالحجاز, وأكرمه إن صار إلى العراق, وقد جعلت عرفة ومواضع المناسك شرطًا لصحة أفعال الحج, وجعل المسجد عند كثير من الناس شرطًا لصحة الاعتكاف وأمثال هذا كثير. فأما الشرط بالفعل, فنحو القول اضرب زيدًا إن ضربك, وعظمة إن عظمك, وقد يكون الشرط لإيجاب الفعل صفة, نحو القول اضرب زيدًا إن كان صحيحًا أو قائمًا أو متألمًا أو ملتذًا. وقد يكون الشرط مما يجري مجرى الفعل, ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومن نحو قولهم: اشرب الماء إذا كان عذبًا, وتجنب ذلك إذا كان وبيئًا أو أجاجًا. وقد يكون الشرط لوجوب الفعل صفة وأمرًا لغير المأمور, والمأمور بإيقاع الفعل فيه, بل أفعال للغير, وذلك نحو لزوم فرض الجمعة بشرط وجود الجماعة, ولزوم فرض الجهاد والمنع إذا كان مع المكلف عدد يكون بهم القيام. وقد يكون فعل بعض المكلفين للشيء فرضًا لسقوط فرض مثله عن غيره, نحو وقوع عقد الإمامة من بعض الأمة ودفع العدو وغسل الميت ومواراته والصلاة عليه, وكذلك القول في جميع الفرائض دون الأعيان.

فصل: وقد يكون الشرط شرطًا للواجب والندب والإباحة والحظر, فليس الشرط مقصورًا على حكم من أحكام الشرع. فصل: واعلموا أن اختلاف صفات العبارات وأحكامها بمثابة تغايرها واختلاف أجناسها, فكما أنه إذا كان الواجب منها غير المباح, والحرام غير الحلال لم يجز أن يكون الشرط لتحريم الشيء شرطًا لتحليل شيء آخر, وإن صح ذلك وجاز, لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء شرطًا لأحكام كثيرة على مكلف واحد أو مكلفين متغايرين إذا قال إن طلع الفجر, فقد أوجبت عليك الصلاة حرمت الأكل والشرب والوطء, وأطلقت لزيد التصرف والمشي لصح ذلك وجاز, وإنما غرض هذا الباب أن يعلم أن للأمر والتعبد بالفعل حكم غير الحكم بصحته وإجزائه, فإذا جعل دلوك الشمس شرطًا للأمر بفعل الصلاة لم يجب كونه شرطًا للأمر بفعل الصلاة لم يجب كونه شرطًا لإجزائها وسقوطها مثلها, وكذلك إذا جعل الشيء شرطًا لإجزاء الفعل وصحته لم يجز جعله شرطًا للأمر والتعبد به, لأن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة بشروط تقتضي إجزاؤها, ولا تقتضي التعبد بها, وكذلك الذبح والتوضي بالمغصوب وقد ظن به كثير من الناس إن ما كان شرطًا في الأمر بالشيء, فهو شرط لإجزائه وسقوط مثله, وما كان شرطًا لإجزائه كان شرطًا للأمر به. وذلك باطل بما بيناه في فصول القول في الأوامر, فبان بذلك صحة ما قلناه من أن الشرط لبعض أحكام الفعل لا يجب كونه شرطًا لحكم آخر, وإن صح كونه كذلك.

فصل: واعلموا أن الشرط إنما يدخل في الكلام لما له يدخل الاستثناء فيه, لأنه إنما يدخل الاستثناء لإيقاف المستثنى والمنع من إجراء الحكم عليه, وكذلك الشرط, لأنه لا فصل بين أن يقول: اقتلوا المشركين إلا أهل العهد وبين أن يقول: اقتلوا المشركين إن لم يكونوا معاهدين, وقد فصل قوم بين ذلك, وهو باطل, وخلاف لما عليه أهل اللغة من إيجاب تساويهما, ولا فصل بين الاستثناء بمشيئة الله عز وجل ومشيئة زيد في أنهما جميعًا يرفعان حكم المستثنى إذا علمت مشيئتهما. فصل: وقد يرد بلفظ الشرط والتعليل ما ليس بشرط ولا تعليل إذا قام الدليل على ذلك, ويكون مجازًا قد صرفه الدليل عن موضوعه كما يصح التجوز بغير ذلك من الألفاظ نحو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.

باب القول في أن تخصص بعض العلم بالشرط والاستثناء لا يوجب تخصيص جميعه

باب القول في أن تخصص بعض العلم بالشرط والاستثناء لا يوجب تخصيص جميعه قد بينا فيما سلف أن الشرط والاستثناء يصح رجوعهما إلى جميع ما تقدم من الجمل, ويصح رجوعهما إلى البعض الذي يليهما وإلى ما قبله, وإن كان الكلام جملة واحدة فقد خصاها وأخرجا منها قدر ما تناولاه وإن كانا جملتين أو جملًا كثيرة وقام الدليل على أن الشرط متعلق ببعضها خص الشرط بتلك الجملة فقط, ولم يجب تخصص باقي الجمل به, وقد يجوز أن ترد الآية العامة منظومة على جمل فيكون أولها على العموم وآخرها خاص. وقد يكون آخرها عام وأولها خاص, وذلك نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقد ثبت أن ذلك شائع في بعضهم, وهن اللواتي تملك رجعتهم والتي لم تبت بثلاث, ولم تنقض عدتها, ولم يوجب ذلك أن يكون من اللائي عنين بفرض التربص ثلاثة قروء, وأن التربص والإعداد عام في كل مطلقة, والرجعة والرد مقصور على بعضهن. ومن هذا أيضًا قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وقد ثبت أن العفو غير جائز من المطلقة وأنه مقصور على

البالغةً المالكةً لأمرها، ولم يوجب ذلك تخصيص الحكم الأول، وهو أن كل مطلقةً قبل الدخول بها لها نصف الصداق، بل ذلك باقٍ على عمومه، والعفو مخصوص في بعضهن. ومنه أيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} في أنه عام في كل من قصد طلاقها. وإن أول الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله في موضع أخر {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} راجع إلي بعضهن وهن اللواتى تملك رجعتهن دون المبتوتات. وقوله بعد ذلك: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا يوجب أن يكون ذلك أجلًا لكل مطلقة. وإن لم يكن خلافًا، فبان بذلك أنه لا يجب تخصصه جميع الجمل لتخصص بعضها بشرط أو استثناء. وكذلك - أيضًا - إذا ذكرت الجمل المعطوف بعضها على بعض بلفظ الأمر والوجوب على القول بلفظ بني لذلك ثم قام الدليل على أن الأمر متعلق ببعض ذلك على وجه الندب أو الوجوب لم يجب كونه متعلقًا بجميعه على ذلك الوجه. وهذا نحو قوله سبحانه {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وبعض ما تقتضيه هذه الآية عام، وبعضه خاص وبعضه ندب? وبعضه واجب، لأن قوله: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} عام في كل الثمر كثيرةً وقليله وقوله: (وَآتُوا حَقَّهُ) خاص في قدر ما يوسق، وما يجب فيه الزكاةً دون البقول والخضروات. وقوله (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) على الندب إلى ذلك أو الإباحةً والإطلاق له. وقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} على الفرض والإيجاب.

ومنه قوله - أيضًا -: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} عند من زعم أنه يجب أن يضع عنه من مال كتابته شيئا وقوله: وكاتبوهم على الندب والإرشاد. والأمران عند الجمهور من أهل العلم على الندب دون الإيجاب. وكذلك سبيل قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} لأن تمتيعهن واجب عند بعض الناس على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. والطلاق مباح، والمتعةً إما على الوجوب أو الندب. ومن هذا -أيضًا - قوله عليه السلام: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزروها? ولا تقولوا هجرًا وإن انتبذوا في الظروف واجتنبوا كل مسكر))

وقد ثبت أن زيارة القبور مباحةً والنهي عن الهجر على الإيجاب? وأن الانتباذ في الظروف مباح واجتناب السكر واجب- وتتبع هذا يطول، وفيها ذكرناه من ذلك كفايةً.

باب ذكر جمل الأدلة المنفصلة المخصصة للعام مما يوجب العلم وما لا يوجبه

باب ذكر جمل الأدلة المنفصلة المخصصة للعام مما يوجب العلم وما لا يوجبه جملة الأدلة المخصصة للعموم المنفصلة على ضربين: أحدهما: يوجب العلم والقطع? والآخر/ لا يوجبه، والذي يوجب العلم منها دليل العقل، ونص الكتاب والسنة الذي لا احتمال فيه ولا اجتهاد في العمل بالمراد به? وفعل الرسول المعلوم وقوعه منه على وجه البيان لذلك? وإجماع الأمة على تخصصه بنصها على ذلك، أو ما يقوم مقام النص من أفعالها والأسباب القائمةً مقام القول بأنه مخصوص هذه جملةً ما يوجب العلم من الأدلة المنفصلة. والضرب الآخر أخبار الآحاد والقياس جليه وخفيه. وقد يخص العموم عند بعض أهل الاجتهاد بالاستدلال بشواهد الأصول وأقوال الأئمة ومذاهب الرواةً وقول الصحابي وإن لم ينتشر فإذا انتشر وعدم الخلاف صار حجةً يوجب العلم وإجماعًا عند بعضهم. هذا جملةً ما يخص به العام.

باب القول في وجوب تخصص العام بدليل العقل

باب القول في وجوب تخصص العام بدليل العقل واعلموا قبل الشروع في تفصيل ما يخص العموم أننا قد بينا فيما سلف أن العموم والخصوص معنيين في النفس لا يكونان أبدًا إلا على ما هما عليه. فالعام عام أبدًا، لا يجوز كونه مخصوصًا. وكذلك الخاص. وإنما العبارةً ذات الصيغة والصورةً التي تكون عبارةً عن العام تارةً بإطلاقها عند القائلين بذلك، وتكون عبارةً عن الخصوص بقرينتها هي التي يدخلها التجوز والاحتمال. وهذه العبارة إنما تصير عبارةً عن العموم بالإرادةً لكونها عبارةً عن ذلك. وكذلك تكون عبارةً عن الخصوص بالإرادة لذلك. وقد بينا هذا من قبل بما يغني عن إعادته. فصل: ومتى قلنا أنه مخصوص بدليل العقل وجميع ما عددناه فإنا نتجوز بذلك ونعني به أنه دليل على إرادة المغير لكون العبارةً عبارةً عن الخصوص وإلا ما الذي به يصير عبارةً عن الخصوص أو العموم هي الإرادةً. فصل: والذي يدل على تخصص العقل للعموم علمنا من جهته بأن المراد بقوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}

و {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} بعض ما يقع عليه الاسم دون جميعه، وعلمنا أيضًا من ناحية العقل بأن المراد بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} وأمثال ذلك من أدلة العقلاء البالغين دون الأطفال والمنتقصين في أمثال هذا/ مما يطول تتبعه. ولسنا نعني بكون العقل مخصصًا لذلك إلا علمنا من ناحيته بأنه لم يرد جميع من يقع عليه الاسم، ولم يدخل في الخطاب. فإذا سلم وجَلا عنه إحالة تخصص العام بدليل العقل هذه الجملة، وقال لا اسمي ذلك تخصصًا صار مخالفًا في عبارة لا طائل في المشاحة فيها مع تسليم المعنى. ويدل على ذلك - أيضًا - إنه إذا جاز الانصراف عن ظاهر الخطاب إلى المجاز بدليل العقل، وذلك كثير في الكتاب والسنة جاز تخصص العام به إن كان اللفظ حقيقةً فيما بقي بعد التخصيص، أو مجازًا فيه. فمن ادعى منع ذلك طولب بالحجةً عليه، ولا سبيل له إلى ذلك. فصل: وقد احتج من حكي عنه إنكار تخصص العام بدليل العقل بأن دليل العقل متقدم على وجود السمع، ومحال تقدم دليل الخصوص

على اللفظ المخصوص. وإنما يجب كون المخصوص لفظًا موجودًا? كما يستحيل كون التأكيد تأكيدًا لخطابٍ لم يوجد. وهذا خلاف في عبارة، لأن تقدمه لم يخرجه عن صحة علمنا به خروج بعض ما تناوله الاسم منه. وهذا هو معنى قولنا خص العام. ولعمري أننا لا نسمي دليل العقل المتقدم تخصيصًا للعبارةً قبل وجودها? وإنما نصفه بأنه مخصص إذا وجد ما يكون مخصصًا له. فيتغير الحال في وصفه بأنه مخصص لتجديد العبارة. فإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه. هذا على أن الكلام الذي يبين قوله في العقل أنه مخصوص هو كلامه عز وجل، وهو عندنا قديم غير مخلوق سابق لوجود العقل، وكل دليل يخصه سواه، فزال ما قالوه. ثم يقال لهم: فقولوا إن دليل العقل مخصص كسمع إذا وجد. وإن أحلتم كونه مخصصًا له قبل وجوده، ولا سبيل لهم إلى دفع ذلك.

فأما من يقول إن العبارةً هي نفس الكلام، وأنه كلام قديم، لم يزل الله متكلمًا به، فإنه يحيل على هذا القول كون تقدم دليل العقل على العام من كلام الله. فبطل اعتلالهم على قول هذا الفريق من النفاةً لخلق القرآن. وقد زعم قوم أنه لا يجوز أن يقال: العقل خص ما لا يجوز دخوله قي اللفظ. وما لو قال المتكلم به قصدت دخوله فيه لعد جاهلًا ومبطلًا. ونلك نحو قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وما جرى مجرى ذلك، لأنه قد علم إحالة دخول كل ما/ يقع عليه اسم شيء تحت القدرة والخلق. وإنه لم يرد بقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} نفس الطفل والمجنون إذا قتلوا? وإنما أراد ذا نفسٍ على صفة مخصوصةً، وهذا أيضًا خلاف في عبارةً، لأن إحالة تناول القدرةً والخلق لكل شيء لم يخرج ما استحال ذلك فيه عن استحقاق الاسم، وهو خارج عن الخطاب بالدليل? وليس معنى التخصص أكثر من خروج ما يلحقه الاسم الداخل تحت الكلام بدليل، ولا معتبر بتسميته تخصصًا أو منع ذلك. فأما قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فليس بمحال إيجابه تعالى قتل كل نفس قتلت نفسًا? وإن لم يكن العاقل عاقلًا، ولو تعبد بذلك لكان سائغًا جائزًا حسنًا، وليس التعبد والأمر به بأعظم من توليه إماتةً من ليس بعاقل من الأحياء. فليس هذا من الضرب الأول بسبيل.

باب القول في تخصص العام من الكتاب والسنة بنص الكتاب والسنة وفعل الرسول الواقع موقع السنة

باب القول في تخصص العام من الكتاب والسنة بنص الكتاب والسنة وفعل الرسول الواقع موقع السنة اعلموا - رحمكم الله - أن الجمهور من الفقهاء والمتكلمين يقولون إن الخبر الخاص وما يقوم مقامه من فعل الرسول مخصص للعام وأن العام متى ورد بُني على الخاص. وإذا قلنا بذلك وجب القول يخصص الخاص من الخبرين للعام. لأنه تبين به خروج متضمنةً منه. وقد قال بتعارض الخاص والعام فريق من أهل العلم من أهل العراق، وأهل الظاهر، وهو الأولى عندنا، لأننا إذا وجدنا عامًا من الأخبار وخاصًا. ولم يعرف التاريخ جاز ورود أحدهما مثبتًا لحكم الآخر ومخصصًا له إذا لم يفرد ويستقر حكمه. وذلك نحو قوله ((في الرقة ربع العشر)) ? ((وفيما سقت السماء العشر)) ? مع قوله: ((ليس في دون مائتي درهم صدقة? وليس فيما دون خمسةً أوسق صدقةً)) وأمثال ذلك.

ومثل هذا يجوز فيه أن يكون العام قد تقدم وثبت حكمه وبرد، ثم ورد الخاص ناسخًا لقدر ما تناوله ورفعه بعد استقرار الحكم فيه. ويجوز أن يكون الخاص هم المتقدم الذي استقر حكمه وبرد، ثم ورد العام بعده مستوعبًا مستغرقًا لجميع ما وقع عليه الاسم مما تناوله الخاص وما عداه فيكون رافعًا لحكم الخاص وناسخًا له، هذا ما لا خلاف في جوازه/ 413 كما

أنه لا خلاف في جواز اقترانه به له لوروده مورد البيان لتخصيصه. ومتى جاز الاقتران لم يكن العمل بأحدهما ووجب تعارض قدر ما تناوله العام لزم العمل في حكه بشيء غيرهما? هذا واجب عندنا. فأما قول من زعم أن البناء والترتيب أولى لأنه استعمال للخبرين. فإنه قول باطل، لأنه استعمال للخاص وإطراح لقدر ما تناوله من العام، وإن كان اللفظ يقتضي دخوله فيه فما استعملوا الخاص علي موجبه، وليس باطراح ذلك القدر من العام لكان الخاص أولى من إطراح الخاص لموضع اقتضاء العام لدخوله فيه، وذلك ما لا حيلةً في دفعه. فأما إذا لم نقل بالتعارض وجب القول بتخصص العام بنص السنة والكتاب وفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائم مقامهما؛ لأنه لا يمكن استعمالهما إلا على وجه تخصص العام بالخبر الخاص وبيانه عليه واستعماله فيما بقي، وكذلك سبيل التعارض أو التخصص بين فعله الواقع موقع البيان وتركه الفعل الواقع على وجه البيان، لأنه يمكن أن يقع على وجه النسخ وعلي وجه البيان، ويستدل على وقوع فعله موقع قوله. فصل: فإن كان الخبر الخاص من أخبار الآحاد التي لم يعلم صحتها ضرورة. ولا بدليل من اجماع أو غيره وجب أن يقول إنه مخصوص للعام في حق من رأى العمل بذلك الخبر دون من لم يره من العلماء وهو أيضا خاص عند الله تعالى في حق فرضه على ذلك العالم وفرضه على غيره القول بأنه عام غير خاص، لأن فرض العلماء في مثل هذا مختلف. ولو كان مما قامت الحجةً بثبوته كان خاصًا عند الله سبحانه بغير شرط ولا تقييد وإضافة لخصوصه إلى حق أخر.

وكذلك إن أجمعت الأمة على العمل به وإن لم يوجب العلم كان الحكم مخصوصًا به عند الله سبحان في حق الأمة المتعبدة بالعمل بخبر الواحد. وجاز أن يكون الخبر عنده تعالى صدقًا صحيحًا. وجاز أن يكون باطلًا موضوعًا وإن وجب على الأمة إعماله في تخصص إذا ورد بشروطه، لأن إجماع الآمةً على العمل به لا يدل على صدق راويه وصحته. كما أن إجماعها على العمل بالشهادةً التي ظاهرها العدالةً لموضع تعبدها بذلك لا يدل على صدقها ما نبينه من بعد. فهذا ما يجب تنزيله على ما قلناه.

باب القول في تخصص العام بالإجماع

باب القول في تخصص العام بالإجماع وإذا أجمعت الأمة على أن العام مخصوص ودانت بذلك علم بإجماعها أنه وارد فيما عدا الذي أجمعت على إخراجه منه، لأنها لا تجمع على خطأ، ولا تخرج ما دخل في العام ولا تنسخ حكمه بعد ثبوته، لأن إجماعها دليل يستقر بعد النبوة وانقطاع الوحي، والنسخ لا يقع إلا من قبل الله عز وجل التعبد لخلقه. وإنما تتبع الأمة الأدلة، ولا ترفع حكمًا ثابتًا وما ينسخ من الأخبار عن الرسول، فإنما هو بيان عن نسخ الله سبحانه للحكم، وإنما توصف بسببه بأنها ناسخةً على معنى إنها دلالةً على قول الله الناسخ للحكم، على ما سنشرحه من بعد. فصل: وإذا أجمعت على أن بعض ما دخل تحت العام مخصوص خارج عنه وجب القطع على خروجه منه، وجوزنا مع ذلك أن يكون خارجًا منه على وجه النسخ لحكمه بعد استقراره ودخوله في حكم العام. وجوزنا أن يكون خارجًا منه على وجه التخصص والبيان المقترن بالخطاب أو المتراخي عنه على القول بجواز تأخير البيان. فإن اتفقت مع أنه خارج عن حكم العام على أنه خرج على وجه النسخ أو على وجه التخصص والبيان قطع بذلك. وإن

التخصيص بالقياس المجمع عليه

اختلفت فيه اختلافًا لم تتم الحجة ببعضه وجب الوقوف في ذلك، فيجب أيضًا تنزيل الأمر في هذا على ما قلناه. فصل: فأما التخصص بالقياس فإنه واجب صحيح. فإن كان قياسًا قد أجمعت عليه الأمةً قطع بأنه مخصص للعام عند الله عز وجل وعند الأمة?ً وإن كان مما لم يجمع عليه وإنما قال به البعض كان القياس مخصصًا للعام عند الله وعند ذلك المجتهد في حقه لا على الإطلاق. وإن اعتقد بعضهم أن ذلك القياس لا يوجب تخصص العام لم يكن العام مخصوصًا عند الله في حق ذلك العالم، لأن الاجتهاد في غير ذلك القياس سائغ. فأما القول بأنه لا يجوز تخصص العام بشيء من القياس وأخبار الآحاد ممن جعل القول بذلك من مسائل الاجتهاد وجب أن يقول أيضًا إن العام مخصوص عند الله في حق من رأى من العلماء وجوب تخصصه بخبر الواحد وذلك فريضةً عليه وغير خاص عنده سبحانه وعندنا وعند من لم ير ذلك من العلماء على ما بيناه من قبل. وأما إذا قلنا أن ذلك من مسائل الأصول/ وأن الدليل قد قطع على وجوب تخصص العام بالقياس وخبر الواحد وجب العمل بذلك والقطع بتخطئة المانع له. وإن سوغنا الاختلاف في غير خبر وقياس. وهذا هو الأولى عندنا. ونحن نبين ذلك في باب تخصص العموم بالقياس إذا لم نقل بتقابلهما إن شاء الله. هذا جملةً ما يخص العام عندنا دون قول الأئمة وقول الصحابي ومذهب الراوي، وما يجري مجرى ذلك مما نذكره من بعد، وبالله التوفيق، وبه نستعين.

باب القول في تخصص العام بأخبار الآحاد وذكر الخلاف في ذلك وما نختاره منه

باب القول في تخصص العام بأخبار الآحاد وذكر الخلاف في ذلك وما نختاره منه اختلف الناس في هذا الباب من مثبتي العموم ووجوب العلم بخبر الواحد والمنكرون لوجوب العمل به. فقال كل من أنكر وجوب العمل بخبر الواحد أنه لا يجوز تخصص العموم به، لأنه إذا قابله العموم، كانت حالة أضعف منها إذا انفرد ولا شيء يقابله. فإذا لم يجب العمل به إذا انفرد كان أبعد عن وجوب العمل به والعموم في مقابلة موجبها وهذا لعمري واجب على موضوعهم، وإنما يجب أن يدلوا أولًا على وجوب العلم به منفردًا، ثم ينظر في وجوب تخصص العموم. ونحن نذكر الأدلة على وجوب العمل به عند انتهائنا إلى الكلام في الأخبار إن شاء الله. وأما المثبتون لوجوب العمل بكل واحد منهما إذا انفرد فقد اختلفوا في ذلك.

فقال فريق منهم لا يجوز تخصص العام بخبر الواحد بحال من الأحوال، واعتلوا لذلك بما نذكره عنهم من بعد. وقال الجمهور من مثبتي العمل به يجب تخصص العام به كيف تصرفت بالعام الحال إن كان عامًا قد دخله الخصوص باستثناء وغيره من الأدلة المنفصلةً أو لم يدخله الخصوص. وقال قوم يجوز وردود التعبد بذلك، ويجوز أن لا يرد، وما قام دليل على ورود ذلك. وقال الفريق الأول: بل قد قام عليه دليل وأن الجماعة قد أجمعت على تخصص عمومات بأخبار آحاد. وقال فريق أخر من جملة الفقهاء وغيرهم يجوز التعبد بذلك إلا أنه لم يرد? بل قد ورد المنع فيه، لأن الصحابة زعموا أنهم ردوا خبر فاطمة بنت قيس ذي أنه لا نفقةً ولا سكنى للمبتوتةً لأجل أنه تخصص لظاهر الكتاب

وزعم عيسى بن أبان أنه يجوز تخصص العام المتفق على تخصصه. والذي قام الدليل على/ تخصصه بكل وجه من استثناء متصل به، وكلام منفصل عنه، ودليل عقل وقياس شرع. قال لأنه بالتخصص مجملًا ومجازًا فيجوز لذلك إعمال خير الواحد في تخصص أشياء أخر منه. وقال قوم من أهل العراق أيضا إنه يجوز تخصص العموم المخصوص بالأدلة لأنها تجعله مجازًا ولا يجوز تخصصه بخبر الواحد إذا خص باستثناء متصل، لأنه يصير الاسم معه اسما لقدر ما بقي حقيقةً، وليس هذه حاله إذا خص بالمنفصل. هذا جملة الخلاف في هذا الباب. والذي نختاره من ذلك أنه لا حجةً عندنا قاطعةً على وجوب التعبد بالعمل بخير الواحد وإن عارضه العموم ولا على وجوب العمل بجميع مقتضى

العموم وإن عارض بعضه خبر الواحد. بل الواجب الحكم بالتقابل، على ما بيناه من قبل. فأما ما يفسد قول منكر مخصص العام بخبر الواحد لأجل تحريم العمل به، وإن انفرد بما نذكره من الأدلة من بعد على وجوب العمل بخبر الواحد إذا ورد على شروط وجوب العمل به. فأما القائلون بوجوب العمل والمنكرون لتخصص العام إذا قابله وجواز ورود التعبد بذلك، فلا حجةً لهم على ذلك. فيقال لهم: لم قلتم ذلك؟ فإن قالوا: لأجل أن خبر الواحد يقتضي غالب الظن والعموم يقتضي العلم والقطع على ثبوت الحكم فيما دخل تحته ولا يقابل ما يوجب العلم بما يقتضي غالب الظن.

يقال لهم: لم قلتم ذلك وأن مقتضى العموم ثابت معلوم غير مظنون? فلا تجدون في ذلك متعلقًا، لأن العموم لو ثبت لكان إنما يثبت بأمر يقتضي غلبة الظن دون العلم، بل القول به باطل لا يجوز أن يعلم، ولا أن يصادف الظن له وخبر الواحد أقوى منه لأنه ثابت بإجماع الصحابة وإن لم يكن كذلك، الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد في الأصل بدون الطريق الذي يثبت به القول بالعموم، فهما سيان. ثم يقال لهم: اعلموا على أن ثبوت الحكم فيما دخل تحت العام ثابت معلوم إذا تجرد، فما الدليل على أنه معلوم أيضًا وإن عارفه خبر الواحد مع تجويز الكل لكون الخبر صدقًا. ولو وقطع على أن مع الخبر لقطع على أن الخبر كذب باطل، وذلك محال فوجب اختلاف حال اللفظ في العلم بموجبه مع تجرده ومع مقابلة الخبر لبعضه، وسقط ما قالوه. ثم يقال لهم: فيجب لنفس اعتلالكم هذا منع إعمال خبر الواحد في ابتداء الفرائض وإشغال الذمم المعلوم سقوطها وبراءتها بالعقل، لأن حكم العقل معلوم، وصحة الخبر مظنون. فإن راموا فصلًا نقضوا اعتلالهم، وإن مروا على ذلك تركوا مذهبهم، ولا محيص من ذلك. ثم يقال لهم: ليس وجوب العمل بخبر الواحد مظنون? بل هو معلوم بدليل قاطع من قرآن وإجماع الصحابةً على ما نبينه في باب القول في الأخبار. وإنما المظنون صدق الراوي، وليس علينا في اسم بصدقه تكليف. كما أنه ليس الحكم بالشهادةً مع ظاهر العدالةً مظنون، بل مقطوع به ومعلوم. وإنما المظنون صدق الشهود، وليس على الحاكم في ذلك تكليف. وإذا كان ذلك

صار وجوب العمل بخبر الواحد وإن قابله العموم معلوم، كما أن العمل بما بقي تحت اللفظ معلوم. فإن قالوا: إنما يعلم وجوب العمل بخبر الواحد إذا لم يقابل موجبه العموم، قيل كذلك. فإنما يعلم وجوب العمل بحكم العام إذا لم يقابل بعضه الخبر الخاص، ولا جواب عن ذلك. فصل: فإن قال قائل: فما تقولون أنتم في العلم بثبوت حكم العقل من وقف أو تحليل أو تحريم على قول من ذهب إلى ذلك مع ورود الخبر بالنقل عنه. فإننا نقول: إن بقاء حكم العقل مع ورود الخبر مظنون، كما أن صدق الخبر مظنون. فلو تيقنا بقاء حكم العقل لقطعنا على بطلان الخبر، ولا سبيل إلى ذلك. وكذلك القول في ارتفاع يقيننا لطهارة الماء مع خبر من يجوز صدقه عن نجاسته بعد علمنا بطهارته قبل الخبر. وعدم علمنا ببقاء حكم العدة على المعتدةً مع إخبارها لنا بانقضاء عدتها وتجويزنا لصدقها في الخبر، وأمثال ذلك مما يكثر تتبعه. ولأن مما يذول به حكم اليقين مع وجود المظنون، وتحريم أكل ما بعلم يقينًا أنه ذكي إذا اختلط بميتةً وأشكل، وتحريم نكاح الأجنبيةً المنتفي تحريم نكاحها إذا اختلطت بذات محرم وأشكل الأمر. وزوال تحليل الاستمتاع بالزوجات إذا وقع الطلاق على واحدةً منهن والتبست الحال فيمن لي منهن، وأمثال ذلك مما يترك اليقين فيه ويزول عنه بحكم الظن على أنه يمكن أن يقال في هذا أيضًا أن تحليل ذلك كان متيقنًا قبل الاختلاط والالتباس فإن اختلط لم يكن متيقنًا، بل متيقن تحريمه.

وجواب هذا أننا نعلم قطعًا أنه كان في ذلك ما ليس بحرام. فلما اختلط زال حكمه الالتباس. واستدل - أيضًا - من منع تخصص العام بخبر الواحد بأنه لو جاز ذلك لجاز نسخه أو نسخ بعضه بخبر الواحد. وجواز هذا من وجهين: أحدهما: أنه لا فصل بين جواز الأمرين من جهة العقل والمعنى واللغةً، لأننا لا نتيقن بقاء الحكم إذا ورد خبر الواحد الذي يجوز أن يكون صدقًا برفعه، فها سيان غير أن الإجماع منع من النسخ به فمنعناه، ولا إجماع ولا غيره من الأدلة في منع التخصص به فبقى على جوازه. والجواب الآخر أن النسخ منافاةً برفع لحكم قد تيقن ثبوته، والتخصص بيان ما لم يثبت حكمه، فافترق الأمران. وقد زعم قوم أن جواز تخصص العام بخبر الواحد صحيح لما ذكرناه من جهة العقل غير أن السمع قد ورد بمنعه، لأن الصحابةً ردت خبر فاطمةً بنت قيس في أنه لا سكنى ولا نفقةً للمبتوتةً، لأنها قالت: لم يجعل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقةً? فقال عمر رضوان الله عليه: ((لا ندع كتاب ربنا بقول امرأةً لعلها نسيت أو شبه لها)). وفي خبر أخر: ((لا يدرى أصدقت أم كذبت)) يعني بكتاب الله قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وذلك عام في كل مطلقةً مبتوتةً وغير مبتوتةً وخبرها يمنع من

ذلك وقصر السكنى والنفقة على الرجعية. وهذا ليس بدليل لأنه يمكن أن يكون - رضي الله عنه - إنما رد خبرها لما علل به من قوله: ((لا يدري أصدقت أم كذبت)) ولعلها نسيت أو شبه لها. وهذا ينبئ عن اعتقاده فيها أنها ليست من أهل العدالةً، لقوله: ((لا ندري أصدقت أم كذبت) ثم نقل مثل ذلك في خبر كل واحد، وعلى أنها ليست من الضبط والذكر بحيث يجب العمل بخبرها? ولذلك ذكر النسيان وأنه شبه لها. وهذا لا يوجب رد من ليست هذه صفته فسقط ما قالوه. وقد ادعى مخالفوهم إجماع الصحابة على أنهم كانوا يرون تخصص العام بأخبار الآحاد. وذلك أنهم خصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد ذكر ذوات المحارم بخبر أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه أن تنكح المرأةً على عمتها أو خالتها)). وخصوا قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} , بإطلاق اللفظ يقتضي/ تحليلها دخل بها الثاني أو لم يدخل، فخصوا ذلك بروايةً من روى لهم قوله عليه السلام: ((حتى تذوق عسيلتها))

وخصوا - أيضًا - قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وجميع أي المواريث برواية آبى هريرة: ((لا يرث القاتل ولا العبد ولا أهل ملتين)) وخصوا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وقال بعضهم وقد خصوا قوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} بما روي عنه من أمره عليه السلام بإعادة الوضوء والصلاة من القهقهةً فيها.

فهؤلاء يدعون إجماع الصحابة على تخصص العمومات بأخبار الآحاد على كسر دعوى المنع لذلك. وعن هذا الذي قاله هؤلاء أجوبة: أحدها: إن جميع هذه الأخبار التي خصوا بها أخبار قد قامت بها الحجةً عند الصحابةً وعلمت صحتها وثبوتها، فلذلك خصت العمومات بها. وقد بسطنا الجواب عن كل خبر في الكاب الكبير بما يغنى الناظر فيه. ويقال لمن تعلق بهذا أيضًا. فما أنكرتم من تجويز النسخ بأخبار الآحاد، لأنهم قد قبلوا خبر الواحد في التحول عن القبلةً لما روي لأهل قباء. فإن قالوا: كان خبرًا قد قامت به الحجةً عندهم. قيل لهم: مثل ذلك فيما خصوا به العام. فصل: فأما قول من قال إني لا أخص العام بخبر الواحد إلا أن يكون مما قد أجمع على تخصصه ومما دخله التخصص، فإنه قول لا وجه له، لأننا قد بينا أنه لا يتيقن ثبوت حكم العام مع معارضة الخبر لبعض موجبه. وعمدتهم في ذلك إنه إذا تجرد عما يخصه يبقى عمومه وثبوت خبر الواحد مظنون وقد أفسدنا هذه الطريقة بغير وجه، فعلم أنه لا فرق بين تخصصه لعام دل الدليل على تخصصه. وعام ليست هذه سبيله، ولا وجه لتعلقهم في ذلك? بأنه لو كان الخبر الخاص محدد على وجه البيان من الرسول عليه السلام لوجب أن تذكره الأمةً وأن تنقله نقلا يوم به الحجة. وإذا لم ينقل كذلك صار واردًا على وجه النسخ. والنسخ لا يصح بأخبار الآحاد، لأنه

قد يصح أن يتعبد ببيان خصوصه للآحاد. وأن لا ينقل اقتران بيانه له أو وقوعه متراخيًا فدعواهم لما قالوه لا حجة عليها. ويقال لهم: ولو كان الخبر المخصص منه على وجه النسخ لبعض العام لوجب بيانه لذلك وأن يلقيه إلقاء يعلم به كونه ناسخًا. وإذا لم ينقل/ 420 على هذا الوجه وجب الحكم على أنه مخصصًا غير ناقل على وجه النسخ. وهذا يسقط ما قالوه. وهما جواب من قال إنني لا أسلط خبر الواحد المظنون صحته على عموم لم يدخله. التخصص بدليل مقطوع به، لأجل أنني أزول عن حكم عموم متيقن بخبر واحد مظنون صدقه، لأنه لو تيقن ثبوت العموم مع خبر الواحد لتيقن كون الخبر باطلًا. وفي الاتفاق على تجويز صحته ما يوجب الزوال عن حكم تيقن العموم. وهذه جملة كافيةً في هذا الباب.

باب الكلام في تخصص العموم بالقياس والخلاف فيه

باب الكلام في تخصص العموم بالقياس والخلاف فيه اختلف الناس في ذلك: فمن قال: إن اللفظ محتمل للعموم والخصوص قال أتبين بالقياس أحد محتمليه. وليس ذلك من تخصصه العام في شيء لإنكاره القول بالعموم. واختلف القائلون بالعموم في ذلك في الأصل على وجهين. فقال كل من قال بالعموم وأبطل القياس في الأحكام إنه لا يجوز تخصصه العام، لأنه ليس بدليل لو انفرد عن العام، فكيف به إذا قابله ومنع إعماله. وقال مثبتو القياس في ذلك قولين:

فقال فريق منهم لا يخص العموم بالقياس كيف تصرفت به الحال، لأنه دليل إذا انفرد عن مقابلةً العموم لموجبه، وليس بدليل إذا قابله العموم، وعليه فريق من الفقهاء من أهل المذاهب المختلفة. وبه قال شيخنا أبو الحسن الأشعري -رضي الله عنه- وطبقة من المتكلمين منهم الجبائي وابنه. وحكي رجوع ابنه عن ذلك إلى القول بأنه يخصه. وقال الجمهور من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي إنه يجب تخصصه بالقياس جليّه وخفيّه، وكيف تصرفت الحال به. وبه قال شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه. وقال فريق من أصحاب الشافعي يجب تخصصه بجلي القياس دون خفيه. وقال عيسى بن أبان ومن ذهب مذهبه أنه يجب نخصص العموم بالقياس إذا ثبت تخصصه بدليل يوجب العلم، وإن لم يكن مما دخله التخصص بدليل قاطع لم يجز إعمال القياس في تخصصه. ومن أهل العراق من يفرق بين وجوب تخصصه إذا خص بدليل منفصل أو باستثناء متصل فيوجب تخصصه به إذا كان مخصوصًا بدليل منفصل، ولا يجيز ذلك إذا كان مخصوصًا باستثناء ولفظ متصل، لأن ذلك يجعل الاسم اسما لما بقي حقيقةً وبمثابة المطلق في كونه مستغرقًا للجنس. والذي نختاره في هذا الباب/ 421 القول بوجوب تقابل القياس والعموم لو ثبت في قدر ما تعارضا فيه والرجوع في تعرف حكم ذلك إلى شيء سواهما. وأنه ليس في العقل، ولا في الشرع دليل قاطع على وجوب ترك الصوم بالقياس، وترك القياس للصوم فالأمر في ذلك والذي قلناه

في تقابل العموم والخبر الخاص في قدر ما تعارضا فيه. فإن قائل قائل: قبل الكلام على المخالفين في هذا الباب قولكم بتقابل العموم والقياس خارج عن الإجماع لأنه لا أحد ممن يقول بالعموم بإثبات القياس في الأحكام يقول بمقابلتهما. يقال له: ليس الأمر على ما توهمته ولا إجماع في ذلك من الأمة، ولا من القائلين بفرض القياس في الأحكام ووجوب العمل بالعام. ولأن القائلين بمقابلة الخبر الخاص للعام في قدر ما يتناوله الخاص من أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر يقولون بترك تخصص العام بالخبر المتواتر وبالآيةً من القرآن، التي هي نص في التخصص للعلةً التي ذكرناها في وجوب تقابل الخبر والعام. ويجب أن يكونوا أقوى بذلك في تقابل القياس والعموم. ومع هذا فقد علمنا أن كثيرًا من الفقهاء يقولون بوجوب تقديم العمل بموجب القياس على العمل بموجب خبر الواحد، ويرى أنه أقوى من الخبر. ومنهم من يقول: بل يجب تقديم العمل بموجب الخبر وترك موجب القياس لأجله. وإذا منع هؤلاء تخصص العموم بالخبر، وهو مقدم على القياس فبأن يقولوا بتقابل العموم والقياس أولى. ومع هذا فلو ثبت إجماع القائلين بوجوب القياس في الأحكام على أنه لابد من تقديم العموم على القياس أو تخصصه بالقياس لم يكن هذا الإجماع من القائلين بالعموم والقياس حجةً،

لأنه ليس بإجماع من الأمةً. وإنما هو إجماع هذا الفريق منهم المصيبون في القول بوجوب القياس في الأحكام. وصوابهم في ذلك لا يدل على أنهم يصيبون في أنه لا بد من ترك العموم للقياس أوترك القياس للعموم، لأنهم إذا لم يكونوا جميع الأمةً لم يكن إجماعهم حجةً لما نذكره من بعد، فبطل التعلق بخروج هذا القول عن الإجماع. فإن قال قائل: فما الدليل على تعارض العموم والقياس فيما تقابلا فيه. قيل له: الذي يدل على ذلك علمنا بأن العموم لو انفرد عن القياس لوجب/ (422) إمضاؤه في قدر ما تناوله القياس وغيره مما يلحقه الاسم. وأن القياس لو انفرد عن مقابلة العموم، لموجبه لوجب العمل به فيما تناوله، ووجب إذا اجتمعا جميعًا تقابلهما والرجوع في تعرف حكم ما تناولاه إلى شيء غيرهما، وليس لأحد أن يقول: بل اطرح القياس للعموم، لأن دليله أقوى؛ لأن ذلك بعكس ما يجب، لأن دليل القياس أقوى مما ثبت به القول بالعموم، لأنه ثابت بإجماع الصحابة عندنا جميعًا. وليس العموم على قول أكثر مثبتي القياس ثابتًا بإجماع الصحابةً، بل في القائلين بالقياس من يبطل العموم قي الأحكام. فلا شك في أن ما ثبت به وجوب العلم بالقياس أقوى مما ثبت به القول بالعموم. وكذلك فليس لأحد أن يقول: إذا كان ما ثبت به القياس إجماع الصحابةً، وهو أقوى مما ثبت به العموم وجب إطراح العموم لأجل القياس، لأن الصحابةً لم تجمع على ثبوت العمل بغير القياس الذي يوجب مستعمله إطراح العموم به. وإنما أجمعوا على وجوب العمل بجملة القياس لا بغير واحد منه نقصد به ترك العموم لأجله.

بل في القائلين بالعموم من يقول: ما عمل الصحابة قط بقياس يقابل العموم موجبه، بل كانت تترك القياس للعام، وتعمل به إذا لم يكن الظاهر في مقابلته، وإذا كان ذلك كذلك تكافأت هذه الدعاوي ووجب القول بتعارض العموم والقياس فيما تقابلا فيه. ويدل على ذلك أيضًا أن حجة العقل لا توجب تقديم أحدهما على الآخر مع العلم بأن كل واحد منهما حجةً في العمل إذا انفرد، وليس في السمع - أيضًا - ما يوجب ترك أحدهما للآخر ولا فيه إجماع، لعلمنا بوقوع الخلاف في ذلك فممن تقدم يقدم العموم ومن أخر يطرح العام لموضع القياس. فإذا تقاومت الأقاويل وجب التعارض بينهما لا محالة. ومما يدل على وجوب تعارضهما أننا إذا أفسدنا قول من قدم القياس على العموم وقول من قدم العموم على القياس واطرحه لأجله لم يكن بعد ذلك إلا القول بالتعارض بينهما من حيث لم يسع العمل بأحدهما وإطراح الآخر، وذلك ظاهر في وجوب ما قلناه. ويجب أن يكون هذا الذي ذكرناه من تقابل العموم والقياس فيما تناولاه وبطلان تقديم أحدهما على الآخر دليلًا قاطعًا على أنه لا يجوز/ 423 أن تكون الأمة مجمعةً على إبطال التقابل بينهما؛ لأن إبطال ذلك خطأ مقطوع به لما بيناه في تقاومهما. ولا يجوز أن يخرج هذا

الحق الواجب عن قول الأمةً، وأن لا يكون فيها قائم به وذاهب إليه. وكذلك فإنه يجب أن يقال ما نعلم أن هذين الفريقين في الأمة، من قال أخص الظاهر بالقياس. وفي منع ذلك قد أجمعوا على تحريم القول بالمقابلةً، كما لا يعلم بإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أن يحرمون الذهاب إلى القول الآخر، وإنما يجب أن يعلم هذا وأمثاله من دين الأمة بتوقيفهم عليه، ولا توقيف عنهم في ذلك.

باب الكلام في موجبي تقديم القياس على العموم في قدر ما يتناوله

باب الكلام في موجبي تقديم القياس على العموم في قدر ما يتناوله فيقال للقائلين بذلك لم قلتم هذا؟ فإن قالوا: لأجل أن القياس معنى لا يصح نقله والتجوز به? ولا يمكن تخصصه، وهو أقوى من النص. لأن النص يجوز نقله والتجوز به واستعماله في غير عين ما وضع له، والقياس لا يمكن ذلك فيه. وإذا وجب تخصص العموم بالنص كان تخصصه بالقياس أولى. يقال: أول ما في هذا أننا لا نسلم لكم وجوب تخصص العام بالنصوص على سقوط الحكم في بعض ما تناوله، بل يوجب تقابل النص العام في قدر ما تناولاه، على ما بيناه من قبل، فبطل ما بنيتم عليه من أصله. ثم يقال لهم: الأمر في هذا بعكس ما قلتم لأن الاحتمال وجواز الغلط في القياس أكثر منه في العموم، بل لا غلط ولا شبهةً عند مثبتي العموم في استغراق إطلاقه لجميع من يلحقه الاسم، وفي القياس شبه كثيرةً تعرض? والعموم عري سالم من جميعها. فمنها: أن القياس قد يكون منتزعًا من خبر واحد يجوز عليه الغلط والسهو والتحريف، فيكون منتزعًا من أصل باطل.

ومنها: أنه إن القياس ربما قاس? وما استكمل صفة الاجتهاد في المسألة، وهو يظن استكماله لذلك. ومنها: إنه قد يقصر المجتهد ويلحقه الفتور والونى فيكون اجتهاده باطلًا، والحكم به باطل. ومنها: إنه لا يأمن وإن اجتهد وقاس أن يكون قد أخطأ ووضع الاجتهاد في غير حقه على قول من يقول إن الحق في واحد. ومنها: إنه ربما استدل على العلةً المنتزعة بما ليس بدليل. ومنها: إنه ربما ظن شبه الفرع بالأصل في علته وإن لم يكن مشبهًا فيلحقه به لظنه تساويهما في العلة. والعموم سالم من ذلك كله فيجب تقديم العمل بموجبه على العمل بموجب القياس. واستدلوا أيضًا على وجوب تقديم العمل بالقياس بأنهم إذا فعلوا ذلك وخصوا به العام كانوا مستعملين الدليلين، لأن العام مستعمل فيما بقي (مما عدا) الذي أخرجه القياس، وإذا لم/ يخص به اطرحنا القياس. وذلك غير سائغ. يقال لهم: هذا توهم منكم لأنكم لا تقدرون على استعمال العام على موجبه في الاستغراق مع إعمال القياس في إخراج بعضه عن الحكم، وإنما تستعملونه مخصوصًا في قدر ما بقي، فقد تركتم القضاء بموجب العموم لوضع القياس. فبطل لذلك ما قلتم. فصل: ذكر علل الموجبين للعمل بالعموم دون القياس. وقد اعتمد هؤلاء لصحة قولهم بأمور:

منها: أن قالوا يدل على ذلك أن القياس بإجماع مثبتيه فرع للعمومات والنصوص وأنه لابد له من أصل ينتزع منه المعنى ويحمل عليه الفرع. فلو جوزنا تخصص العموم به لاعترضنا بالفرع على أصله وما به يثبت، لأنه لا عموم من كتاب ولا سنةً إلا ويصح أن يكون أصلًا للقياس، ولا يصح أن يعرض عليه تفرعه. قالوا: ولهذه العلةً بعينها امتنع الناس من النسخ به، لأنه إنما يثبت بأصل هو النص والعموم. فإذا نسخ به صار رافعًا لأصله، وذلك فاسد. فيقال لهم: ما قلتموه باطل من وجوه: أحدها: إننا إذا قلنا بتخصص العام بالقياس على ما قاله القوم. فمعنى ذلك أننا إنما نخص العام بحكم أصل أخر غير المخصوص قد علمنا المراد به، لأن الله سبحانه إذا أمرنا بالقياس، وعللنا بعض الأصول بعلة توجب إخراج بعض ما في عام أخر غير المعتل المنتزع منه. فإنما خصصنا العام بالأصل المعتل وعوقنا أنه مخصص له وكان الله سبحانه هو المخصص له بحكم ذلك الأصل، وعرفنا نحن أنه مخصص له بالاعتبار والانتزاع لم نكن نحن الواضعين بحكم ما أوجب تخصص العام، بل الله سبحانه الحاكم بتخصصه. ولهذا نقول جميعا - أيضًا - أننا لا نضع الأحكام وإن قسنا، وأن الأحكام التي نثبتها بطريق القياس فالله سبحانه الواضع لها. وإنما نعلم وضعه لها بالنظر والاعتبار. فبطل ما قلتم وسقط قولكم أننا نعرض على الأصل بفرعه، لأن ما يخصى به العام حكم أصل أخر، وليس أحد الأصلين فرع لصاحبه. والوجه الأخر: إننا لو كنا نعرض بنقيض القياس على الأصل العام

فنخصه به لم نكن معرضين به على أصله، وإنما نعرض به على المخصوص، وليس أصله المخصوص. وهذا نحو اعتراضنا بقياس الأرز على البر علي تخصص قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَْ} فيحرم به بعض البيع، وليس هو تخصص لقوله عليه السلام: (البر بالبر مثلًا بمثل وكيلا بكيل). بل هما أصلان ليس أحدهما فرع لصاحبه، وليس يجب إذا قلنا القياس فرع للنص والعموم أن يكون فرعًا لكل/ نص وعموم في الكتاب والسنة، وإنما نعني 425 بذلك إنه فرع لبعض ذلك، فسقط ما قلتم. فإن قالوا: فأجيزوا لأجل ما قلتم النسخ بالقياس. قيل لهم: القوم يجيبون عن ذلك بأجوبة. منها: إن ذلك لا يحيله العقل نسخ أصل بالقياس على حكم أصل أخر بمنزلة التخصص للأصل بحكم أصل أخر غير أن الإجماع منع من ذلك. وقولهم إن ذلك لم يوجد ولا يوجد قياس بشروط الصحة يقتضي نسخ حكم بعض الأصول. والجواب الآخر: إن النسخ بالقياس لا يجوز، لأنه رفع حكم مستقر.

والتخصص له بيان ما لم يرد مما أريد وليس بإزالة لحكم ثابت، فافترق الأمران. والجواب الثالث: إنه لو امتنع التخصص بالقياس، لأنه يكون اعتراضًا عليه بفرعه لوجب امتناع تخصص العام بخبر الواحد، لأنه اعتراض عليه بفرعه؛ لأن العلم بخبر الواحد ثابت بأصل من كتاب وسنةً، والفرع لا يعرض به على أصله. ولو جاز ذلك لجاز النسخ بالقياس، وإن كان فرعًا له حتى يعرض بالفرع على أصله. فإن قالوا: خبر الواحد ثابت بإجماع الصحابة لا ببعض الظواهر والنصوص. قيل لهم: وكذلك القياس ثابت بإجماع الصحابة على العمل به لا ببعض الظواهر والنصوص، فليس هو إذًا فرع لظاهر ونص. علةً أخرى والجواب عنها. قالوا: ويدل على ذلك أن القياس إنما يطلب به علة الحكم فيما لم يرد نطق به، ولو نطق بحكمه لم يحتج إلى القياس، وما دخل تحت العموم مما يخرجه القياس منطوق بحكمه بالقياس إذا عارضه بمثابة معارضته للنص على العين الواحدةً، فلم يجز تخصص العموم به. يقال لهم: ما قلتموه باطل من وجوه. أحدها: إنه ليس كل ما تحت العموم منطوق به كالنطق بالعين الواحدة? بل هو معرض للاحتمال وجواز التخصص. ولذلك صح تخصصه بدليل العقل والمتواتر، وكل شيء يوجب العلم بإخراج بعض منه، وليس

بنقض ومعارضةٍ له لاحتماله. فكذلك تخصصه بالقياس ليس بمعارض لمنطوق به فيه غير محتمل. وقد بينا أن العموم إن ثبت فإنما ثبت باجتهاد، وأنه ليس بمثابة قوله اقتل زيدًا في نفي الاحتمال عنه، فبطل ما قلتم. وجواب أخر: وهو أنه لا يجب لأجل ما وصفتم منع تخصص العام بالعقل والمتواتر وأخبار الآحاد، لأن حكمه قد ثبت بلفظ العموم. والأدلة لا تتناقض. فإن قالوا: ما أخرجه العقل من العام بدليل فالخبر لم يعرف ثبوت الحكم فيه مع إخراج العقل والخبر له. قيل لهم: وكذلك ما أخرجه القياس فإنه لم يعرف ثبوت الحكم فيه، ولا فصل. وهذا نقض لقولهم إن ما دخل تحت العموم قد عرف النطق بحكمه كما عرف حكم العين النصوص على حكمها. علةً أخرى لهم: قالوا: ويدل على ذلك قوله عليه السلام لمعاذ: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فأقره على الحكم بالاجتهاد إذا لم يجده في الكتاب. وكل ما دخل تحت العام فحكمه موجود في الكتاب، وهو بمنزلة النص على العين.

يقال لهم: قد مر جواب هذا بما يغني عن رده وهو كون العموم محتملًا، لأنه يخص. وامتناع التخصص في العين الواحدة. ثم يقال لهم: فيجب لنفس هذا الخبر ألا يخص معاذ العموم بالخبر المتواتر ولا بخبر الواحد? ولا بما سمعه من الرسول، لأن ما يخرجه من العموم بذلك موجود في الكتاب، والشرط الحكم بالسنةً إذا لم يوجد في الكتاب، فكل شيء قالوه في منع ذلك منعناهم به أن يكون ما أخرجه القياس موجود في حكم الكتاب. ويقال لهم - أيضًا - إذا كنا وأنتم نتفق على أن المأخوذ على معاذ وكل عامل العمل بحكم العقل لم يجز الزوال عن حكم العقل بالقياس والخبر ونص القرآن، لأنه معلوم بالعقل براءةً الذمةً، ولا يجوز الانتقال عنه بالقياس والخبر، ولا جواب عن ذلك.

وقد تقصينا ذكر عللهم في الكتاب الكبير. بما يغني الناظر فيه. وما ذكرناه ها هنا منبه على جواب ذلك أجمع. فصل: الكلام على من أحال تخصصه بخفي القياس وأجازه بجليه. هذا الكلام عندنا لا معنى له ممن قاله من أصحاب الشافعي. لأنهم يزعمون أن القياس الجلي هو قياس العلة والخفي قياس الشبه. وقياس العلةً أحق بأن يكون خفيًا، لأن العلة المشرعةً محتاجةً إلى دليل ونظر، وربما قوبلت واحتاجت إلى ترجيح وطول اعتبار، فهو لذلك بالخفاء أولى. وقياس الشبه رد نطق في الصلاة إلى نطق، وذكر إلى ذكر، وجلسة إلى جلسة في الهيئة وذلك ظاهر لا يحتاج إلى دليل/ (427) واستخراج كحاجةً علة الحكم إلى الدليل. فما قالوه في ذلك يعكس ما يجب. ومنهم من يقول قياس العلة مثل قوله: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) و (ينقص التمر إذا يبس)) ونحوه.

وهذا باطل، لأن هذا ونحوه عندنا بمثابة المنطوق به وأبلغ، لأننا قد بينا أننا نعلم ضرورة قصد من قال ذلك أنه نهى عن الحكم مع كل أمر مقطع عن التحصيل من غضب وغيره، وليس العلم بذلك كالعلم بعلة الربا وأمثاله? بل هو بمنزلة قوله: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) وقد مر من ذلك ما فيه إقناع. ويدل على فساد هذا القول اتفاقنا وإياهم على أن الصحابة خصت العمومات بالقياس ولم تفصل بين جليَّه وخفيَّه، كما أثبتت ابتداء الأحكام بالقياس، ولم تفصل في ذلك بين جليَّه وخفيَّه. ويدل على ذلك - أيضًا - أنه إذا كان جلي القياس وخفيه باطنيين ومستخرجين مستنبطين، وجاز التخصيص بأحدهما جاز بالأخر، وبطل ما قالوه.

باب القول في تخصيص العام بقول الصحابي

باب القول في تخصيص العام بقول الصحابي اختلف الناس في ذلك. فحُكي عن الشافعي وغيره ممن يرى تقليد الصحابة إنه يجب. وقال قوم من أصحاب الشافعي هذا إنما قاله الشافعي في قول الصحابي الذي هو حجة. وهو الذي انتشر قوله وظهر، ولم يعلم له مخالف، لأنه حينئذ يصير عنده حجة وبمثابة الإجماع، وذلك ما لم ينتشر ويظهر. وحُكي عنه أنه قال في الجديد في قوله إنه لا يخص العموم بقول الصحابي وإن انتشر، وأنه ليس بحجة ولا إجماع، وأن العموم دليل هو أولى منه. وهذا هو الصحيح وبه نقول. ونحن ندل في فصول القول بالإجماع على أن القول وإن انتشر لم يكن إجماعًا إلا أن يعلم اعتقاد الكل. ونفصل القول في ذلك مما يوضح الحق إن شاء الله.

والذي يدل على أنه لا يجب تخصيص العموم بقول الصحابي أن العموم إذا ثبت كان أحد الأدلة على ثبوت الأحكام، وقول الصحابي ليس بدليل على الحكم، ولا يجوز تقليده بما نبينه في باب إبطال تقليد العالم للعالم، وإذا كان ذلك كذلك وجب ترك قول الصحابي بالعموم. فإن قالوا: الصحابي لا يخص العام إلا بقول سمعه من الرسول عليه السلام يقتضي التخصص. يقال لهم: لم قلتم ذلك، وقد يخصه بخبر يسمعه ويخصه تارة باجتهاده وقياسه، ويخصه تارة برواية راوٍ له، وقد يضع القياس تارة في حقه، وقد يقع منه التقصير ويضعه في غير حقه. وإن كان الظاهر من حاله أنه أقرب إلى الصواب منا، وأعلم بوجوه الاستخراج للعلل وأعرف بمقاصد/ الرسول عليه السلام ووجوه التأويل ومعرفة التنزيل وأسبابه، غير أنه مع ذلك أجمع، غير معصوم من الخطأ ووضع الاجتهاد في غير حقه، وترك الاجتهاد فيما يجب الاجتهاد فيه، وهذا الضرب من الخطأ هو الذي عناه أبو بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم واستعاذوا بالله منه في قوله: "أي سماء تظللني

وأية أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي" وقول عمر: "وإن يك خطأ فمن عمر" وقول ابن مسعود في بروع بنت واشق: "وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان". وقول علي عليه السلام: "فقضائي .... " وأمثال هذا، لأن الدلالة قد دلت على أن كل مجتهد في حكم الشرع مصيب في اجتهاده إذا وضع في موضعه، حق وصواب لا يجوز أن يكون خطأ. وقد قال عمر: "كل الناس أفقه من عمر" وقال: "لولا

علي لهلك عمر" والخطأ في الاجتهاد لا يوجب الهلاك. وكذلك ما ذكرت فيه المباهلة وإحباط العمل على ما نبينه من بعد في فصول القول في الاجتهاد. وإذا كان ذلك كذلك لم يجب حمل قول الصحابي على أنه لم يقله إلا عن تخصص العام. فإن قيل: فأقل أحواله أن يكون قاله عن اجتهاد وقياس واجتهاده مقدم على اجتهادنا. قيل له: الأولى به في صفته ما قلته غير أنه يجوز عليه وضعه في غير حقه والعدول به عن بابه ثم لو وضع الاجتهاد موضعه لم يسغ تقليده فيه، لأنه لم يقلد بعضهم بعضًا وإن كان كل واحد منهم قد وضع الاجتهاد

في حقه، ونحن نبين من بعد فساد تقليد العالم للعالم، فبطل ما قالوه. فصل: فإن قال قائل: فإذا قلتم إن كل مجتهد مصيب، وكان قول الصحابي واقعًا باجتهاد فيجب أن يكون صوابًا وحجة يخص به العموم. يقال: ما قلتم باطل من وجوه: أحدهما: إنه لو وجب لوجب تخصص العام بقول كل مجتهد من الصحابة وغيرهم، لأننا لا نخص مجتهد الصحابة بأنه مصيب دون غيره. وإذا لم يجب ذلك بطل ما قلته. والوجه الآخر: أننا لا نعلم أولًا أن الصحابي قال ما قاله باجتهاد يسوغ القول بمثله وإن كان المظنون به والغالب من حاله أن لا يكون ما قاله إلا عن اجتهاد رأي وطريق يسوغ القول من جهته، وإذا لم يعلم ذلك من حاله، وإنما يحسن الظن به، سقط ما قلته. والوجه الآخر: إنه ليس كل حق وصواب يجب كونه دليلًا لله سبحانه على وجوب تخصص العام. وإنما كان الخبر والقياس وكل ما يخص به/ العام مخصصًا له من حيث وجب كونه دلالة يجب الرجوع إليها وقول الصحابي ليس حجة على غيره به يُخصص العام، فبطل ما قلته، ومع هذا فإن اجتهاد الصحابي وقوله الذي اختاره القياس إليه، فوجب لتخصص العام في حقه على قوله ورأيه، وليس بموجب للكل بل حرام على من لم ير ذلك أن يعمل به وإن لم يخص عامًا، فكيف بأن يعرض به على العام، وليس يمتنع كون الشيء حقًا وصوابًا في حق مكلف، وليس بحق وصواب في حقٍ غيره، ولذلك صار القصر والإفطار حقًا وصوابًا في حق المسافر، وباطلًا في حق المقيم، إلى أمثال هذا مما يختلف فيه فرائض المكلفين.

ولأجل هذا صار منا العالم دليلًا للعامي على وجوب الأخذ بقوله وجواز تخيره فيه، وفي فتيا غيره إذا اختلفت عليه الفتاوى لم يجز أن يكون دليلًا للعالم على وجوب الأخذ أو التخيير له فيه وفي غيره تقليدًا بغير نظر واعتبار. ولأجله صار سماع الخبر من الرسول عليه السلام دليلًا لسامعه على وجوب العلم والعمل به، ولم يكن دليلًا لمن روي له رواية الآحاد على وجوب العلم. فكذلك قياس القائس واجتهاده الذي هو أولى عنده يجريه عليه في حقه ويخصص العام، ولا يجب ذلك على غيره. وهذا بين في سقوط ما ألزموه. ويقال للمطالب. فهذا ممن يقول إن الحق في واحد فيجب - أيضًا - عليك تخصيص العام بقول كل قائس من الصحابة وغيرهم، لأن قول كل مجتهد متعبد بالحكم والفتيا به، والعمل بموجبه، فيجب لذلك تخصص العام به. فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلته.

باب القول في هل يجب تخصص العام بمذهب الرواي أم لا يجب ذلك؟

باب القول في هل يجب تخصص العام بمذهب الرواي أم لا يجب ذلك؟ اختلف الناس في ذلك: فقال الدهماء من الفقهاء والمتكلمين إنه لا يجب تخصص العام به وإن حمله الراوي على الخصوص. وقال قوم من أصحاب أبي حنيفة يجب تخصص العام بحمل رواية له على ذلك لموضع سماعه الخبر من الرسول عليه السلام، وتلقيه له، وفضل علمه ومعرفته بالتنزيل وأسبابه، وكونه أقرب إلى العلم بمقاصد الرسول بالمحتمل من غيره. وزعموا أنه لا يجب حمل الخبر المروي في وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا على استكمال العدد، لأن أبا هريرة رحمه الله،

وهو رواي الخبر جوز الاقتصار في غسله على الثلاث وهذا مذهب عيسى ابن أبان ومن قال بقولهم منهم. وقال كثير من أصحاب الشافعي إن الخبر إذا احتمل وجهين فأكثر فحمله/ الراوي له على بعض محتملاته وجب لذلك صرفه إلى ما حمله عليه. وزعموا أن هذا هو قول الشافعي، لأجل أنه حمل قوله عليه السلام: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" على افتراق الأبدان، لأن عبد الله بن عمر وهو الراوي للخبر حمله على ذلك.

والذي نختاره في ذلك حمل العام على عمومه وإيقاف المحتمل على الدليل. فإن علم أن تخصص الراوي للعام وحمله المحتمل على بعض محتملاته بدليل يوجب ذلك ووجه من وجوه الاجتهاد يغلب على ظننا وجوب العمل به خصصنا به العام إذا لم نقل بالتعارض، وصرفنا المحتمل إلى ما صرفه إليه، وإن لم يوجب ذلك لم يجب أن يصير إليه، وإن لم يعرف حمله من أي ناحية خص العام وقصر المحتمل من الخطاب على بعض محتملاته وجب حملنا للعام على عمومه واجتهادنا في المراد بالمحتمل منه. وإن قال الراوي إنما قصرت العموم على بعض ما يشمله والمحتمل على بعض من احتمله لتوقيف لي من الرسول عليه السلام على ذلك، أو قال علمت ضرورة ذلك من قصد الرسول عليه السلام حتى سمعه بأمر اقترن به قبل قوله، وصار بمثابة راوية للفظ الرسول عليه السلام المخصص للعام والصارف للمبهم إلى بعض وجوه الاحتمال، وإن قال صنعت فيهما بنظر واجتهاد وجب سؤاله عنه، فإن خبر فيه، وإن أمسك عنه رجعنا إلى البحث، والنظر هو الذي يدل على ذلك أن الأحكام معلقة بلفظ الرسول عليه السلام لا بقول الراوي ومذهبه، فيجب حمل العام على عمومه ومقتضى لفظه، وإيقاف المحتمل على النظر في المراد به. فإن قالوا: إذا لم يقل الراوي إني فعلت ذلك برأي واجتهاد علم أنه لم

يفعله إلا بتوقيف من الرسول لأنه إذا لم يبين أنه قاله عن نفسه، فالراوي أوهم أنه سمع خصوصه وصرف المحتمل إلى ما صرف إليه وألزم الناس المصير إلى قوله. يقال لهم: هذا غير واجب ولعاكس أن يعكس ذلك ويقول. لو قاله عن توقيف وسماء لوجب أن يخبر بذلك، لأن ي إمساكه عن ذلك إبهام أنه قال برأيه وتسويغ الخلاف عليه فيجب ذكره التوقيف وهذا أولى، على أنه إذا علم الراوي أن العلماء يعلمون من حاله بأنه إنما خص العام باجتهاده، وربما خصه وصرف المحتمل إلى بعض محتملاته باجتهاده لم يجب عليه بيان ما لأجله قال ذلك، وله من النظر فيما رواه وحمل كل شيء منه على موجب اللسان وطلب المراد بالمحتمل، لأن قوله العاري عن حجة ليس بدليل لنا على وجوب إتباعه فيه وترك العام والنظر في المحتمل. ويدل/ على ذلك - أيضًا - اتفاقنا على أن الراوي لو لم يعلم بشيء من العام جملة ولا ببعض وجوه المحتمل لم يجب عليه ترك العمل بذلك، لأجل نفس تركه له، وكذلك إذا ترك بعضه لم يجب تركنا له إلا بحجة تفارق قوله، إذ كان قوله ليس بدليل. فصل: فإن قال قائل: فما تقولون لو ترك الراوي العمل بالعام جملة وشيء من المحتمل أو صرف الظاهر عن حقيقته إلى المجاز أو خص العام وصرف المحتمل إلى بعض وجوه الاحتمال وصوبته الأمة أجمع على ذلك، هل يدل تصويبها له على أنه قال ذلك عن توقيف وسماع من الرسول أم لا؟ قيل له: لا يدل ذلك على سماعه توقيفًا فيه، بل يدل تصويبها له على أن ما قاله حق وصواب يحرم مخالفته ومخالفة الأمة الموافقة له عليه فيه، لأنه حرام مخالفتها في شيء مما أجمعت عليه وعلى وجه تدين جميعها به. فأما أن يدل ذلك على سماعه توقيفًا حمل الخطاب عليه فلا، لأنه يجوز

أن يكون قال ذلك باجتهاد هو نفس اجتهاد الأمة سواء في الخواطر عليه، ويجوز أن يكون قاله باجتهاد وافقه عليه بعض الأمة بغير ذلك الطريق من الاجتهاد. ويجوز أن يكون بعضها وافقه من جهة الاجتهاد، وبعضها تعلق بظاهرٍ ودليل خطاب، ووجوه غير ذلك، لأنهم متعبدون بالاجتهاد في ذلك كتعبده، اللهم إلا أن يقول إن ما صنعه من ذلك إنما فعله لتوقيف الرسول عليه السلام، فإن قال ذلك قطع به، وأن يقول مثل هذا لا عند تقدم حجته عندهم فيجب تنزيل ذلك على ما قلناه.

باب ذكر ما يمكن أن يفصل به بين ترك الراوي العمل بعموم الخبر وصرفه الحقيقة إلى المجاز وبين صرفه المحتمل من الخطاب إلى بعض محتملاته أو إلى أحد محتمليه

باب ذكر ما يمكن أن يفصل به بين ترك الراوي العمل بعموم الخبر وصرفه الحقيقة إلى المجاز وبين صرفه المحتمل من الخطاب إلى بعض محتملاته أو إلى أحد محتمليه لا يمكن الفرق بين ذلك إلا بأن تارك العمل بالخبر من الرواة وحامل العام منه على الخاص الحقيقة على المجاز تارك لموجب الخبر ومقتضي اللفظ ومتجاوز به ما وضع له ومستعمل له في سوى المعقول من إطلاق وصارف المحتمل إلى بعض محتملاته ليس بتارك مقتضاه وموجبه، لأنه لم يوضع لغير ما حمله عليه، بل هو محتمل له ولم يعدل لذلك باللفظ من فائدته والقول في أنه يمكن أن يكون حمله على ذلك الوجه من محتملاته عن توقيف أو عن اجتهاد واحتمال أن يكون اجتهاده صوابًا سائغًا الحكم بمثله، وأن يكون خطأ لا يسوغ الحكم به كالقول في صرفه العام إلى الخاص.

باب الكلام في أن الصحابي إذا قدر بعض الحدود والكفارات، هل يجب حمل ذلك على أنه قدره توقيفا أو اجتهادا؟

باب الكلام في أن الصحابي إذا قدر بعض الحدود والكفارات، هل يجب حمل ذلك على أنه قدره توقيفًا أو اجتهادًا؟ وإنما وصلنا هذا الباب بما تقدم لشبهه به وقربه منه وتقارب الأدلة فيه. وقد اختلف الناس في هذا الباب. فقال أهل العراق: إنه يجب حمل أمره في ذلك على أنه لم يقدر إلا عن سماع وتوقيف على التقدير، لأن القياس وطرق الاجتهاد لا شيء فيها يؤدي إلى العلم بوجوب التقدير/ ولا إلى غالب الظن لذلك، وقد أيدوا ذلك بما نذكره في فصول القول في القياس إن شاء الله. وقال آخرون ممن خالفهم: إنه إنما يجب حمل ذلك منه على أنه لم يضعه إلا عن توقيف إذا كان الراوي المقدر ليس من أهل الاجتهاد، إلا أنه عدلٌ ثقة

لا يتكلف التقدير باجتهاده، ليس هو من أهله، لأن ذلك محرم في الدين، وذلك لو وقع منه قُدح في أمانته وعدالته. وإن كان المقدر من أهل الاجتهاد لم يجب حمله على أنه قدر توقيفًا لجواز أن يكون قدره اجتهادًا، وسيما إن كان ممن يقول إن للاجتهاد وطرق القياس مدخل في تقدير الحدود والكفارات، لجواز أن قوله به توقيفًا، وجواز يتأت إليه اجتهادًا. وقال فريق آخر: إن قدر الراوي ذلك وصوبته الأمة على تقديره ووافقته على العمل به حمل أمره على أنه لم يقله إلا عن توقيف، لأنها لا تصوبه فيه إلا بأن يكون ما قاله توقيفًا وإن لم تجمع على تصويبه فيه لم يجب حمله على أنه سمع ذلك توقيفًا. والذي نختاره في هذا الباب أنه لا يتغير بكون المقدر من الرواة والصحابة من أهل الاجتهاد وليس من أهله ولا بأن تجمع الأمة على مثل قوله أو تختلف في ذلك، بل لا يجب أن يقدر بحق، لأنه قدر ولا أن يقطع من أي جهة قدر، بل يجب الرجوع إلى الحجة والنظر، لأننا لا ندري لعل المقدر ليس من أهل الاجتهاد، وهو يظن أنه من أهله غير معتمد للمعصية، بل لتوهمه كما آلة الاجتهاد فيه. وهو غير معصوم من ذلك، وإن كان الأغلب من حاله خلاف هذا. وشيء آخر: وهو أنه قد يجوز أن يكون المقدر ليس من أهل الاجتهاد إلا أنه سمع صحابيًا عالمًا إما مفتيًا أو حاكمًا قدر ذلك التقدير، وهو يرى

تقليده والاقتداء به فاتبعه على التقدير، ولم يفعل ذلك لسماع من الرسول، وقد يقدر ذلك العالم ما قدره من ذلك توقيفًا تارة وباجتهاد أخرى، وقد يضع الاجتهاد في حقه وقد يفرط تفريطًا يحظر الحكم بموجبه، فلا سبيل لنا إلى العلم بأن المقدر وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلم يقدر إلا توفيقًا. قال الذاهبون إلى هذا القول: ولذلك لم يجعل التقدير المروي عن عطاء ابن أبي رباح لأقل الحيض فإنه يوم وليلة على أنه صار إليه خبرًا وتوقيفًا، لأنه من أهل الاجتهاد، فيمكن أن يكون قاله اجتهادًا. وجعلنا تقدير أنس بن مالك رحمة الله عليهما له بأنه ثلاث أربع خمس ست سبع ثمان تسع عشر محمولًا على أنه قدره عن خبر، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، ولا وجه لقولهم هذا، لأجل ما قدمناه من الحجة ي ذلك/. وأما حمل أهل العراق لتقدير الصحابي لذلك على أنه لم يقدره إلا توقيفًا فعمدتهم في ذلك أنه لا مجال للقياس وطرق الاجتهاد في تقدير الحدود والكفارات. وهذا خطأ منهم، لأن لها في ذلك مدخلًا. ويستدل على هذا من بعد في فصول القول في القياس إن شاء الله ولم سلم لهم ما قالوه في ذلك لجاز أن يظن الصحابي ما قد ظنناه في مخالفتهم فيقدر ذلك اجتهادًا كما نقدر نحن. وأما قول من قال: إنه اتفقت الأمة على تصويبه والعمل بتقديره فدل ذلك

على أنه لم يقله إلا عن توقيف، وإن لم يُتفق عليه لم يجب القطع بذلك، فإنه - أيضًا - قول خطأ لا وجه له، لأنه قد صح وثبت أن الاجتهاد والعمل بموجب القياس دين لله تعالى، وأحد الأدلة على الأحكام الشرعية بما نذكره من بعد. وإذا ثبت ذلك أنكر أن تكون الأمة متفقة على تقديره باجتهاد هو نفس اجتهاده أو بما يقوم مقامه، فتكون مجمعة عليه قياسًا إما بطريق واحد أو بطرق مختلفة. ونحن ندل من بعد على صحة إجماع الأمة على الحكم بالقياس. وذلك دليل لله سبحانه على الأحكام كما يصح أن يعمل بذلك منهم الآحاد على أنه لا يمتنع أن يكون في الأمة من قال بالبعض قياسًا ووضعه في غير حقه واستعمله في غير موضعه. وذلك خطأ منه دون باقي الأمة، وإن قدر الواحد منهم دون باقي الأمة وإن قدر الواحد منهم ركعات وسجدات وأمرًا نعلم قطعًا أنه لا مجال للاجتهاد في تقديره ووافقته الأمة عليه علم أنه لم يقله إلا توقيفًا، لأن القول به من غير التوقيف لا يكون إلا خطأ. والأمة لا تجمع على خطأ. وهذا نحو المروي عن علي كرم الله وجهه من أنه "صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة أربع سجدات" فمثل هذا إذا ثبت عنه علم أنه لم يصر إليه إلا توقيفًا، لأنه مما لا عمل للقياس في تقديره وإن لم توافقه الأمة على تقديره جوز أن يكون قاله توقيفًا، وأن يكون قاله اجتهادًا، وجوز

ترك قول الصحابي بالقياس

أن يكون اجتهاده خطأ محظور الحكم بموجبه، اللهم إلا أن تتفق الأمة على تسويغه القول بذلك التقدير، وأن يحكم به ويفتي، فيقطع على أنه غير مخطئ في تقديره. ويجوز أن يكون قاله توقيفًا أو اجتهادًا هو صواب منه وسائغ له. فاعلموا أن الأغلب من حال الصحابي إذا قدر عن توقيف أن يخبر بأنه لم يفعل ذلك إلا بخبر لتحسم بذلك مادة التأويل والاجتهاد المؤدي إلى مخالفة موجب الخبر، وسيما إذا علم أن كثير الأمة يعتقد جواز مخالفته، وتجويز أن يكون قاله اجتهادًا ويعمل النظر فيه/ فيجب عليه لأجل ذلك أن يبين أنه إنما قاله توقيفًا لا اجتهادًا. فمتى لم يقل ذلك كان الأغلب من حاله أنه قاله اجتهادًا. فصل: وكذلك القول عندنا في وجوب ترك قول الصحابي بالقياس إذا كان موجب الخلاف قوله، وترك قياسه إذا عرفناه وكان في أيدينا قياس أقوى من قياسه، لأن الحجة هو القياس وإعمال أقوى القياسين وترك الأضعف له، لأن القياس هو دليل على الحكم لا قول الصحابي، وأقوى القياسين دليل لله يوجب ترك الأضعف له، وسنزيد ذلك بيانًا عند بلوغنا إلى الكلام في إبطال التقليد وفصول القول في القياس إن شاء الله. وإنما يُترك القياس لقول الصحابي ويُترك أقوى القياسين لأضعفهما إذا قال به الصحابي من يوجب تقليد الصحابي، ويجوز ذلك. وهو يُحكي عن أبي حنيفة وحكاه

مخالفة الصحابي للخبر دليل على نسخه عند عيسى بن أبان

بعضهم عن أبي يوسف ومن شاء قال فإنه ليس بصحيح. فصل: ولا شبهة في أنه لا يجب تخصص العام بتخصص الصحابي له إذا خالفه صحابي آخر في ذلك، لأنه ليس إتباع أحدهما، والتقليد له أولى من إتباع الآخر. بل إتباع القائل بالعموم أولى، لأن مع قوله دليل لو انفرد لوجب القضاء به، وهو اللفظ العام. فصل: ولا فرق بين ما ظهر وانتشر من قول الصحابي الذي يخص به العام ولم يعرف له مخالف، وبين ما لم يظهر، وبين ما انقرض العصر عليه مما ظهر من غير خلاف ذُكر، وبين ما لم يظهر، وبين ما انقرض العصر عليه مما ظهر من غير خلاف ذُكر، وبين ما لم ينقرض العصر عليه في ذلك، لأنه وإن ظهر ولم يعرف له مخالف فليس بحجة ولا إجماع لما نبينه في فصول القول بالإجماع. فصل: ومن هذا الباب الذي نحن فيه ما حكي عن عيسى بن أبان أنه قال: إذا ورد الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في الأحكام، وروي عن الأئمة بعده خلاف ذلك الحكم، وهو ممن لا يخفي عليه مثله لو كان ثابتًا غير مرفوع وجب أن يكون ترك الصحابي له والعمل بخلافه دليل على أنه منسوخ، وذلك نحو الخبر الذي رواه عبادة بن الصامت في وجوب النفي

مع الحد وقول عمر رضي الله عنه: " لا أنفي بعد هذا أحدًا" وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "كفي بالنفي فتنة" قال: فمثل عمر وعلي لا يخفي عليهما ثبوت هذا الحكم أو زواله، فيجب حمل ذلك على النسخ. وإن كان ما عمل الصحابي بخلافه من الأخبار مما يخفي مثله على من خالفه لم تحصل مخالفة الصحابي له دلالة على نسخه. قالوا: وذلك نحو ما روي عنه عليه السلام من إيجاب الوضوء/ من القهقهة وروي عن أبي موسى الأشعري أنه لا يعيد

الوضوء من ذلك. فهذا - زعموا - مما يخفي على مثله. وما قالوه من هذا باطل، لأن الحكم متعلق بخبر الرسول لا بفعل الراوي ولا بتركه العمل بالخبر. وقد يجوز أن يترك العمل بالخبر لظنه أنه منسوخ. وطريق أداه إلى القول بأنه منسوخ. فقال ذلك متأولًا لا على وجه القصد لمخالفة الحديث. وقد يجوز أن يكون ترك العمل به لأنه تابعيًا روى له خبرًا مرسلًا بأن الخبر منسوخ فعمل بذلك. والمرسل لا يجوز العمل به عند كثير من الناس، فضلًا عن ترك أحكام النصوص ورفعها به. وقد يجوز أن يعتقد حين سمع الخبر أنه أريد به ثبوت حكمه إلى مدة مخصوصة وأن ذلك واجب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لشيء اقترن بالخطاب توهم به تقدير الحكم بوقت وبمدة حياة الرسول عليه السلام، وإن لم يكن الأمر كذلك. وفي الجملة فلا ندري من أين قال بترك العمل بالخبر وهو غير معصوم من الخطأ والزلل، فلا يجب النسخ بفعله ومذهبه. ولأننا إذا كنا قد دللنا على أنه لا يجوز التخصص بقوله وهو دون النسخ به فبأن لا يجوز لأجل تلك الأدلة النسخ به أولى.

ويدل على ذلك - أيضًا- قوله عليه السلام: "نصر الله امرءًا سمع مقالتي فأدها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" فأوجب بذلك نقل ما به يثبت الحكم من لفظه. وأخبر أن فيمن نقله من ليس بفقيه. فيجب لأجل ذلك تعليق الحكم بلفظه وقوله دون فعل الراوي وتركه. فإن قالوا: ظاهر حال الصحابي أنه لا يحكم بقوله ورأيه على خبر الرسول وحكمه، ولا يحتمل أمانته وعدالته أن يترك العلم بموجب خبر قد علم ثبوته، فوجب لذلك إذا ترك العمل به أن يكون قد عرف نسخه ورفع حكمه الرسول عليه السلام. وأن يقوم ذلك مقام قوله قد نسخ ذلك. وقد علمت أنه قد نسخه. ولو قال ذلك لوجب المصير إلى ما يخبر به.

يقال لهم: الأمر فيما تقتضيه ظاهر عدالته وعلمه وأمانته سماعه من الرسول عليه السلام، وكونه أقرب إلى العلم بمقاصده على ما ذكرتم غير أنه مع ذلك غير معصوم من الخطأ والغلط والتأويل وأن يتوهم على الرسول عليه السلام تقدير العبادة بوقت، وفي فريق دون فريق وإن لم يكن الأمر كذلك، ومن أن يعمل بمرسل عن تابعي إلى غير ذلك مما لا يعلم كيف اتجه له ترك العمل بالخبر، وليس ذلك من فعله بمثابة قوله سمعت من الرسول نسخه وعلمت ذلك من دينه ضرورة، لأن هذا خبر منه. فأما إذا قال استدللت على العام بمراده جوزنا عليه الغلط في ذلك ووجب أن ينظر فيما استدل به، فبطل ما قالوه. فصل: وإذا قال الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم/ بكذا وكذا، ونهى عن كذا، "ورخص في السلم" فمن الناس من قال يجب أن يحكى

لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن يكون قد تأول قوله وظنه أمرًا وترخيصًا، وليس كذلك. وقال فريق من الناس هم أكثر أهل العراق: يجب حمل ذلك على أنه بمثابة حكاية لفظ الرسول عليه السلام. وشرط قوم في صفته أن يكون عالمًا باللغة ومصادر الكلام وموارده ومواقعه، وممن لا يخفي عليه معاني الكلام باللسان، فإذا كانت هذه حاله جعل قوله أمر ونهى ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قول الرسول قد أمرتكم بكذا ونهيت عن كذا، ورخصت في كذا، وإن لم يكن من أهل الضبط لذلك لم يرجع إلى قوله أمر ونهي ورخص وأباح، وأمثال ذلك وطولب بحكاية ما سمعه. والأقرب في هذا عندنا أنه إن قال الصحابي العالم بوضع اللسان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر بمعنى وحكم ليس له في اللسان ألفاظ محتملة ولفظ مشترك بينه وبين غيره قُبل ذلك منه، وصار بمعنى تلقي توقيفه لنا عليه السلام بلفظه على ذلك المعنى وإن ذكر عن النبي عليه السلام إثبات معنى وحكم أو نفي حكم، وهو مما له عبارة محتملة مشتركة أو عبارات إحداها له وحده غير محتملة، والأخرى مشتركة بينه وبين غيره وجب مطالبة الراوي بحكاية لفظه عليه السلام، واللفظ الدال على الأمر والنهي مما يحتمل ويشترك فيه الأمر والنهي وغيرهما. وقد قال كثير من الناس: إن القول افعل ولا تفعل مطلقه ومجرده موضوع للأمر والنهي مما يحتمل ويشترك فيه الأمر والنهي وغيرهما. وقال كثير من الناس إن القول افعل ولا تفعل مطلقة ومجردة موضوع للأمر والنهي. وقال قوم هو للإباحة وإطلاق الفعل دون الأمر.

وقال أهل الوقف فيه وفي أمثاله: بل هو مشترك بين الأمر والنهي، ويحتمل بأن يعتقد الراوي من الصحابة أن القول افعل ولا تفعل هو بمجرده موضع لإبهام الأمر والنهي، فيقول أمر ونهي، وهو معني بذلكن اللفظ الذي يحتمل الأمر وغير الأمر ويظن أن اعتقاده بذلك علم بأنه أمر فيقول أمر، وعلمت أنه أمر، وهو عليه السلام ما أمر ولا علم الراوي أنه أمر، وكل ذلك إذا قال عم رسول اله صلى الله عليه وسلم المكلفين والمؤمنين أو المشركين بهذا الحكم أو بإيقاع فعل فيهم وبهم وجبت المطالبة له بلفظ الرسول، وربما كان محتملًا للعموم وغيره والراوي يعتقد أنه لا يصلح إلا للعموم، فيجب حكاية لفظ الرسول عليه السلام في هذا وأمثاله من المحتمل لينُظر فيه وإلا لم يجعل قوله أمر ونهي وأطلق ورخص في منزلة قول الرسول عليه السلام قد أمرتكم بكذا، ونهيت عن كذا، ولعلنا أن نستقصي الكلام في هذا/ في فصول القول في الأخبار. وفي جواز رواية الحديث على المعنى أم لا، وإن جاز ذلك فمن الذي يجوز له الرواية على المعنى من الرواة. ونشبع القول فيه إن شاء الله. فصل: وإذا روى الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى بالشفعة للجار وجب أن يسأل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة للجار" أو قضيت بأن الشفعة للجار، أو قضى لجار وشخص من الأشخاص.

فإن قال: سمعته يقول: "الشفعة للجار" فقضيت أن الشفعة للجار حمل ذلك على العموم في كل جارٍ في استحقاقه الشفعة على أنه يجوز أن يقال إنه قال سمعته يقول: قضيت بأن الشفعة للجار احتمل أن يكون نصًا منه لجار معهود وشخص واحد. وقام ذلك مقام قول الراوي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار في احتماله أن يكون إخبارًا عن قضية لعين، ويحتمل أن يكون إخبارًا عن بيان حكم الشرع في وجوب القضاء بالشفعة للجار، فسمع لذلك دعوى العموم فيه. فإن كان قضية لعين، ودل الشرع بأنه إذا حكم للجار بالشفعة للجوار، وجب إجراء هذه القضية والحكم بوجوب الشفعة لكل من شاركه في علة وجوب الحكم له بالشفعة وجب لذلك من طريق وجوب التعبد بالقياس، لا من ناحية كون اللفظ عامًا، وكذلك حكمه للشفعة للجار يحتمل أن يكون أراد الجنس، ويحتمل أن يكون أراد جارًا معهودًا. وإن قال الراوي أردت بقولي قضى للجار بالشفعة، وقضى بأن الشفعة للجار حكاية قضية وقعت منه لعين امتنع العموم في ذلك. ولم تجب الشفعة لكل جارٍ إلا من جهة العلة والمعنى بعد التعبد بالقياس. وقد يفصل قوم بين قول الراوي: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار" وقوله "قضى بأن الشفعة للجار" لا يخرج إلا مخرج بيان حكم الشرع في إيجاب الحكم للشفعة لكل جار".

فصل: ولا يعقل من ذكر الجار إلا المساقب دون الخليط، فإن أريد به الخليط أيضًا فبدليل، لأن الخليط اسم أخص به من اسم الجار، واسم الجار أخص بالملاصق المساقب من اسم الخليط فيحتاج ذلك إلى دليل، ولا وجه إذا كان ذلك كذلك حمله عليهما. وكذلك حكم رواية الراوي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضى بأن الخراج بالضمان" في الاحتمال لما قلناه ووجوب استفسار الراوي له عن ذلك. ومنه - أيضًا - قول الراوي: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين لأنه يحتمل أن يكون قضية منه في عين، ويحتمل أن يكون خارجًا على وجه بيان حكم للشرع لوجوب القضاء لكل ذي شاهد واحد مع يمينه. فإن قال الراوي سمعته قال حكمت وقضيت بأن الحكم واجب/ بالشاهد واليمين حمل ذلك على العموم. وإن قال إنما أخبرت عن فعل وقع منه لعين محكوم له لم يجب حمل غيره عليه إلا بقوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجميع" وأمره بالقياس على العلل وإجرائها بها من جهة عموم اللفظ، ولا لفظ له أو عموم فعل الرسول عليه السلام. فدعوى العموم في الفعل الذي يقع على وجوه مختلفة، وربما كانت متضادة، ولا نعلم على أي وجه يمتنع. وإذا ثبت من وجه ما أن المراد بقوله "قضى بالشاهد واليمين" بيان حكم

الشرع ووجوب الحكم لكل أحد بالشاهد واليمين صار ذلك تخصصًا لقوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ} لأن ذلك يقتضي أن لا يثبت المال والحق إلا برجلين أو رجل وامرأتان. فإذا قال: وقد ثبت الحق بشاهد ويمين وثبت ما كان نفاه وحمل الأول على أنه لا يثبت إلا بذلك العدد لمن لا يمين له ولا شاهد دون كل ذي حق. وقول أهل العراق: إنه لا يقبل في مثل هذا خبر الواحد، لأنه زيادة على حكم النص، وهو نسخ، ليس بصحيح وإنما يجعل نسخًا لو قال: وحرام في الشرع أن يحكم بشاهد ويمين. وعلى هذا التقدير قلنا إنه نسخ. فإما إذا قال: يحكم برجلين أو رجل وامرأتين، ثم قال: ويحكم بالشاهد واليمين كان زيادة لعمري في حكم النص، ولكنه لي بنسخ لهه، لأنه لم يدل ما كان أمر به، فهو بمثابة زيادة العشرين على الثمانين والتغريب على الجلد في أنه ليس بنسخ، ونحن نشرح ذلك في فصول القول في النسخ إن شاء الله. فصل: وإذا حكي الراوي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم في شخص من غير ذكر علة فلا خلاف في وجوب قصر الحكم عليه، وإذا روى الصحابي أمره

بالفعل في شخصٍ لعلةٍ من العلل وجب ثبوت الحكم في كل من فيه تلك العلة من جهة المعنى، وثبوت التعبد بالقياس لا من جهة عموم اللفظ، وذلك نحو رواية من روى أن محرمًا وقصته ناقته "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يمس طيبًا ولا يخمر له وجهًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا" وهذا حكم في شخصٍ معين، ذكر الحكم فيه فعلل، وحق هذا التعليل أن يكون جاريًا في كل من علم من حاله أن يحشر يوم القيامة ملبيًا، وعلم ذلك من حال كل محرم متعذر، فوجب/ قصر ذلك الحكم على ذلك الشخص، ومن وقفنا على أنه يحشر كمحشره، لأن هذا بمثابة أن يقول: لا يُخمر له وجهًا ولا يمس طيبًا، وأنه يحشر مغفورًا له وتكفر عنه سيئاته، وهي علة لا سبيل إلى العلم بحصولها لكل محرم وقصته ناقته أو مات حتف أنفه. ويظن أننا بينا هذا الفصل فيما سلف بأشبع من هذا، ولا يجوز أن يعدل بحقيقة هذا التعليل إلى المجاز. فيقال أريد به فإنه على صفةٍ وصورة وظاهرٍ من يحشر يوم القيامة ملبيًا، لأن من هذه صورته قد لا يحشر ملبيًا، والتعليل وقع بحشره كذلك. فلم يجز العدول إلى ما قيل من هذا.

ومن هذا النحو ما روي عنه في قتلى بدر وقوله: "زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون يوم القيامة اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك" وهذا غير معلوم من كل مقتول في معركة، بل لا يعلم أنه مجاهد عن الدين. فإن قيل: أريد أنهم بصورة من يحشر كذلك. فالجواب عنه ما سلف، وإذا دل الدليل من غير هذا الخبر على وجوب زمل كل مقتول في المعركة بدمائهم صير إلى ذلك الدليل الدال عليه، لا لأجل هذا الخبر الوارد بما لا يعلم من حال كل مقتول في المعركة. فصل: وإذا روى الصحابي قولًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يوجب تخصص العام وجب تخصصه به وإن كان عامًا لم يدخله تخصص بدليل قاطع، لأننا قد بينا فيما سلف وجوب التخصص بخبر الواحد لما دخله التخصص وما لم يدخله.

والدليل على أنه لا فرق بين الأمرين أننا لا نتيقن ثبوت حكم العام مع قول الصحابي ورواية أن الرسول خصه لجواز أن يقول: اقتلوا المشركين، ويقول الراوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا أهل الكتاب، وإلا ذو العهد في عهده، وإلا من أدى الجزية، لأن المخبر عدل ضابط متدين. بتحريم الكذب على الرسول فالأغلب من أمره سماعه لذلك وضبطه له. ولا يمكن أن ينتفي بثبوت حكم العموم مع رواية من هذه حاله لما يخصه، لأننا لو تيقنا ذلك لتيقنا بطلان الخبر، وذلك فاسد باتفاق. وعمدتهم في منع التخصص به أنه عموم متيقن والخبر مظنون. وهذا باطل لما قلناه. ومما يدل على ذلك - أيضًا - أننا إذا اتفقنا مع القائل بذلك على وجوب تخصص ما دخله الخصوص حتى يخرج بخبر الواحد والقياس مما بقي بعد المخصوص ما لولاهما لوجب فيما بقي وجب - أيضًا - تخصص ما لم يدخل الخصوص بهما، وأن يخرج بهما ما لو لم يردا لوجب دخوله فيه، لأن دخول ذلك فيه بعد التخصيص/ متيقن والخبر مظنون. وسواء كان اللفظ جاريًا فيما بقى بعد التخصيص حقيقة أو مجازًا فإنه دلالة على استغراق ما بقي على ما بيناه من قبل، فإذا وجب التخصص منه بخبر مظنون ووجب التخصيص من عام لم يخص وإن كان اللفظ مستغرقًا للجميع لولا الخبر. وهذا ما لا فصل منه. فإن قالوا: ما نتيقن دخول ما أخرجه خبر الواحد بعد التخصص تحت اللفظ. فلذلك أعلمنا الخبر في إخراج بعضه. قيل: وكذلك ما نتيقن دخول ما أخرجه الخبر في العام الذي لم يخص، ولذلك وجب إعماله، ولا تخلص من ذلك، هذا على أننا لسنا نخص العام بمظنون من خبر الواحد، لأن المظنون صدقه وضبطه ولسنا نخصه بذلك وإنما نخصه لوجوب العمل. بخبر من نظنه كذلك ووجوب العمل والتخصص

به متيقن معلوم، كما أننا لسنا نحكم بالمال لظننا بصدق الشهود، وإن كنا نعلم براءة الذمة من جهة العقل ونزول عن ذلك بالشهادة، وإنما نحكم بوجوب العمل بالشهادة، وذلك أمر متيقن معلوم. فبطل ما قالوه. وقد اعتل بعض المخالفين في هذا الباب لمنع تخصص ما لم يدخله الخصوص بخبر الصحابي. فإن قالوا: لا يخلو الخبر الخاص من أن يكون واردًا قبل ورود العام أو بعده أو معه. فإن كان واردًا قبله ثم ورد العام كان ناسخًا له، ولا يجب ترك بعض ما في العام به، وقد أزال العام حكمه. وإن كان واردًا بعد ورود العام وجب أن يكون ناسخًا لحكم ما ورد فيه بعد دخوله تحت العام، لأنه - زعم - لا يجوز تأخير البيان، وما تأخر عنه لا يكون ناسخًا لما أخرجه من الخطاب والنسخ لا يثبت بأخبار الآحاد. قال: وإن كانا وردًا معًا فذلك محال، لأنه إذا ألقى عليه السلام إلينا خبرًا عامًان من لفظه أو من القرآن، وهو مخصوص وجب أن تلفظ بتخصيصه مع ورود الفظ العام من غير تأخير. فإذا لزم العلم والعمل بالعام وألقاه إلى من تقوم الحجة بنقله، ويعلم صدقه اضطرارًا وجب أن يلقي إليهم بيانه معه في الحال، وإلا كان محيلًا في التكليف. وإذا ألقاهما معًا بحضرة الجماعة وجب أن يتلقوه، ويبطلوا ما خصه نقلًا واحدًا، وإلا وجب أن يكونوا ملبسين علينا في نقل العام وترك الإخبار بالخاص، وذلك منتفٍ عنه. ولا يجوز أن يحفظوا العام وينسوا الخاص، وقد سمعوهما على وجه واحد، لأن النسيان لا يجوز على عدد أهل التواتر، فإذا لم يجز عليهم النسيان لذلك/ ولا اعتماد ترك أقل الخاص ثبت أن ما نقله الآحاد

مما يوجب تخصص العام باطل وتوهم ومما لا أصل له. أما بأن يكون متكذبًا موضوعًا أو منقولًا على وجه السهو وكان الناقل سمع غير الرسول يقول: إلا أهل الكتاب، ومن له أمان، فتوهم أنه سمعه من الرسول فنقله عنه. فقلنا له: هذا باطل، لأن أهل التواتر قد يكونوا عشرة أو عشرين لو أنفرد منهم تسعة عشر لم يكونوا أهل تواتر. فإذا نقلوا جميعًا العام وقع العلم بخبرهم. وإذ نسي الواحد منهم الاستثناء فلم ينقله لسهوه عنه أو اعتمد ترك نقله لجواز الأمرين عليه لم يكن الباقون أهل تواتر في نقل الاستثناء وإن كانوا معه أهل تواتر في نقل العام. وكذلك الحال لو نسي منهم اثنان وثلاثة. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما اعتل بطلانًا بينًا. وهذا ما لا جواب عنه، فدل على أنه يجوز أن يلقي عليه السلام العام الذي هو أول الخطاب إلى الجماعة يسمعه الكل، ثم يقوم نفر منهم قبل أسماع الكلام لعارض تعجلهم من رعاف وقضاء الحاجة، وغير ذلك من أسباب إما متفقة أو مختلفة. وهذا موجود من أحوال الناس فينقل الكل اللفظ العام لسماعهم له، وينقل البعض منهم الخاص، وهم الذين سمعوه وليسوا بأهل تواتر. وإذا كان ذلك كذلك أنكر أن يكون العام والخاص قد وردا معًا. وإن اختلف النقل لهما لأجل ما وصفناه ولم يكن على يقين من ثبوت حكم العام مع ورود الخبر، وسقط ما اعتل به هذا القائل على أننا لا نسلم له أن تأخير البيان محال، وأنه لا يقع إلا موقع النسخ، ولا نسلم - أيضًا - أن ما ألقي عمومه عامًا شائعًا لا يلقى خصوصه إذا كان مخصوصًا إلا إلقاءً شائعًا. بل لو تعبد الرسول عليه السلام بأن يبين العام لأهل التواتر في النقل، وقيل له: ألق خصوصه عقيب عمومه إلى الواحد والاثنين لصح ذلك

وجاز، واختلف في ذلك فرض المكلفين وكان الواجب عليهم العلم باللفظ العام وأنه قد ورد، وتغليب الظن لكونه مخصوصًا والاجتهاد في خبر بعد تخصصه ليرفع بذلك درجة المجتهد في إعمال ما يوجب التخصص، كما صح وجاز أن ينص على أحكام يقطع بالنص عليها حكم الاجتهاد وبكلٍ يُعرف أحكام القياس والاجتهاد. وهذا واضح في سقوط هذا الاعتلال/.

باب القول في تخصيص العام بفعل الرسول عليه السلام

باب القول في تخصيص العام بفعل الرسول عليه السلام قد ثبت أن من أفعال الرسول عليه السلام ما يقع موقع البيان للحكم، وإن كان لابد من كونه كذلك من استناده إلى قول يعلم به أنه يفعله على وجه البيان لمجمل أو تخصيص عام، وكذلك قال: "صلوا كما رأيتموني" "وخذوا عني مناسككم" "وتوضأن كما أمرك الله ثم أسبغ الوضوء"

للمأمور به، وعرف من سأل عنه أن ذلك هو المشروع له، وكذلك فقد روي عنه أنه أخر المغرب ليعلم من سأله أن ذلك هو الوقت في أمثال هذا مما تتقصاه في باب أحكام فعله عليه السلام، وإذا كانت أفعاله قائمة مقام أقواله في هذا الباب وجب تخصص العام بفعله كما يجب تخصيصه بقوله.

فصل: ولا يجب التخصص بفعله إلا بأن يعلمنا أنه بيان لحكم ما تعبدنا به. فأما أن ينفرد بالفعل وإن أوقعه على جهة القربة، فإننا لا نعلم بذلك كونه بيانًا لما شرع لنا. ولهذا لم يجب تخصيص نهيه عن الوصال وبما كان يفعله هو عليه السلام من ذلك، لأن الأصل في بابه جواز مشاركته لنا في العبادة وجواز انفراده بالتعبد له بها على ما بيناه من قبل. ولهذا قال: "إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني جوابًا لقوله: "نهيت عن الوصال ونراك تواصل". وقد قيل إن من هذا الباب - أيضًا - ما روي عنه عليه السلام من قوله: "من قرن بين حجة وعمرة كفاه لهما طواف واحد"

وأنه لما جمع بين الحج والعمرة طاف طوافًا واحدًا. فاعترض هذا الفعل اللفظ العام فخصه. وفي هذا عندنا نظر، لأنه إنما يجب أن يكون فعله، طوافين تخصيصًا لقوله كفاه عنهما طواف واحد إذا قال لنا إن فعله لذلك بيان لحكم قوله طوافًا واحدًا. وما لم يقل ذلك لم يكن بيانًا لجواز تعبدنا في القران بطواف واحد وتعبده بطوافين واختلاف التعبد والمصلحة في ذلك إن كان التكليف متعلقًا بالمصالح. فإن قائل قائل: فلو قال إن فعلي طوافين بيان لقولي لكم كفاه عنهما طواف واحد، ما الذي كان يكون معنى قوله طواف واحد؟ قيل له: يكون معناه أن الطواف عنهما وإن كان مثنى، فإنه من جنس واحد وعلى صفة واحدة لابد من حمله على ذلك لو ثبت أنه طاف لهما طوافين وقال إنه واقع منه على وجه البيان/ لأمره بفعل طواف واحد، وإلا تناقض فعله وقوله إذا قصد البيان به.

وقد قال قوم ممن زعم أن مجرد فعله يقع به بيان تخصص العام أن فعله لطوافين بيان لقوله طواف واحد، وأنه أراد بقوله طواف واحد الجنس والهيئة والصفة، وأكد ذلك بأن القول متعلق بغيره، والفعل أصل له حكم نفسه لا احتمال فيه، وقوله طوافًا واحدًا يحتمل واحدًا في العدد وواحدًا في الصفة والهيئة. وما قدمناه أولى من أنه لا يكون بمجرد وقوعه دون أن يقول إنه بيان لما أمرنا به. وقيل: إن من هذا الباب أيضًا نهيه عليه السلام عن استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول ورواية عبد الله بن عمر أنه رآه عليه السلام مستقبل بيت المقدس على سطحه وهذا أيضًا محتمل لوجوه: أحدها: أن يكون نهي عن ذلك في الفيافي والقفار وحيث لا سترة، ورآه عبد الله مستقبلًا لسترة. ويحتمل أيضًا أن يكون ذلك نهيًا عن استقبال الكعبة بذلك دون غيرها وإن كان رآه مستقبل بين المقدس بعد نسخ التوجه إليها. ويحتمل أيضًا أن يكون مخصوصًا بإباحة ذلك له، لأنه لم يفعله من حيث يعلم أنه يراه أحد من الأمة، فيكون ذلك بيانًا لمن يراه ومن ينقل الفعل إليه، لأن من حق ما يبين الفعل اعتماد وقوعه بحضرة من ينقله وثبت التعبد بالعلم والعمل به. فإن شُرع وجوب العلم والعمل بذلك وجب إلقاؤه بحضرة عدد يقع بخبرهم العلم، وإن أريد به العلم فُعل بحضرة من ينقله، وساغ الاجتهاد في عدالته والعمل بخبره. فأما ما يستتر به فبعيد أن يفعله على وجه البيان.

وما يريد به البيان. نحو قوله لأم سلمة: "ألا أخبرتيه أنني أقبل وأنا صائم" ولا يقول ذلك إلا وقد تقدم إعلامه لهم أنه وإياهم سيان فيما يفسد الصيام على ما بيناه من قبل. وقيل: إن من هذا الباب أيضًا ما روي عنه من نهيه عن كشف العورة وحكمه بأن الفخذ من العورة وكشفه فخذه بحضرة أبي بكر وعمر

وغيرهما واستحيائه من عثمان. وفي هذا أيضًا نظر، لأنه لم يقل إن ذلك فعله على وجه البيان، ويحتمل أن يكون عليه السلام كشف للعلة العارضة/ فانكشف من فخذه مع ذلك ما لم يعتمده ويقصده على بعد هذا، لأنه روي إنه لم يستر فخذه عنهما وعن غيرهما. فلما دخل عثمان سترها. فقيل له في ذلك تعجبًا من صنيعه، فقال: "ألا أستحيي ممن تستحيي منه ملائكة السماء" ولا يكاد يقع ذلك إلا عن اعتماد، ولكن يحتمل ما قلناه من أنه لم يفعله على وجه البيان لهم لكن لكونه مخصوصًا. ويحتمل إن كان وقع على وجه البيان أن يكون وقع على سبيل النسخ لنهيه عن كشفها لولا أن الإجماع حاصل على بقاء النهي عن كشف العورة. ويحتمل أن يكون انكشف لما كشف ساقه شيء مما يلي الساق ويقارن العورة فسمي باسم الفخذ مجازًا واتساعًا لكونه مقارنًا له، فيجب تنزيل البيان بفعله على ما قلناه من أنه لا يكون بيانًا إلا بأن يعرفنا بالقول أنه بيان له دون أن ينفرد بإيقاعه.

قيل: وإذا أقر النبي عليه السلام من فعل بحضرته فعلًا يخالف موجب العموم في حق المكلفين لموجبه ولم ينكر ذلك. فقد قلنا أن الأولى أن يكون إقراره على ذلك بيان منه أن ذلك الفعل الواقع على ذلك الوجه مخصوص من العموم، أو ذلك الفاعل مخصوص بإطلاق ذلك الفعل له أو فعله في ذلك الوقت، وعلى ذلك الوجه ليس مما قصد بالحظر والمنع. فإن كان قد استقر تحريمه على كل مكلف في كل وقت على كل وجه، ثم أقر على الفعل بعد ذلك وجب أن يكون بيانًا لنسخ التحريم، واحتمل مع ذلك أن يكون نسخًا عن ذلك الشخص وحده، واحتمل كونه نسخًا عنه وعن سائر المكلفين. وكان الظاهر والأقرب أنه إن كان نسخًا عنه وحده من الرسول عليه السلام إنه نسخ عنه وحده ليرتفع التوهم لكونه نسخًا عن الكل والتعلق بذلك. وكذلك يجب إذا وقع بحضرته فعل من مكلف يخالف موجب العموم. وكان ذلك الشخص مخصوصًا بإباحته أن يبين هذا ويكشفه لئلا يظن أنه نسخ بعد ثبوته ويسد طريق التأول والتعلق بذلك. يجب إذا رأى منكرًا، وإن كان قد تقدم إنكاره له أن يعيد النكير لذلك ليرفع التوهم لإطلاقه بعد حظره، ولهذا ما وجب أن يقال إنه لما أقر الصحابة على ترك زكاة الخيل مدة أيامه علم بذلك أنه لا شيء يجب عليهم فيها، لأن ترك زكاتها مع تعين فرض ذلك عليهم منكر يجب إنكاره/.

ولا وجه لقول من قال: إنه لا يعلم أنهم لم يخرجوا زكاتها وأن الرسول عليه السلام أقرهم على ذلك، لأن هذا دفع لما قد ظهر وانتشر. ولو كان فيهم مزكٍ لها لوجب ذكره ونقله على وجه من الوجوه. ولا وجه - أيضًا - لقول من قال: إنه لم يكن في خيل الصحابة سائمة، وإنما وجبت الزكاة في سائمتها لأجل أنه لو كان ذلك كذلك لوجب تفصيل ذلك لهم وتوقيفهم عليه، وأن يقول في الخيل إذا كانت سائمة، وفي سائمة الخيل زكاة، كما قال ذلك في المواشي من الغنم. وفي تركه ذلك وقيام الحجة بنقله كنقل سائر الزكوات الواجبة في صنوف الأموال أوضح دليل على أنه لم يكن منه إيجاب لذلك ولا قول فيه. وإقراره لهم على ترك زكاتها دليل على ما قلناه.

باب القول في وجوب تخصيص العام بفحوى الخطاب

باب القول في وجوب تخصيص العام بفحوى الخطاب قد بينا فيما سلف أن فحوى الخطاب ومفهومه بمنزلة النص، بل هو أبلغ من النص لانتفاء وجوه الاحتمال عنه. وإذا ثبت ذلك ثبت تخصص العام به، وذلك يجوز أن نقول: افعل بوالديك ما شئت، وكل فعل شئت، ولا تقل لهما أفٍ، ولا تقذي بعينهما، لأن قوله ما شئت إطلاق لجميع الأفعال بهما. وقوله {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} بمنزلة قوله ولا جميع الأذى لهما فلا تفعله بهما ولا شيء منه. وكذلك لو قال: كل من مال زيدٍ وخذ منه ما شئت ولا تخنه بذرة لوجب أن يكون ذلك بمثابة قوله إلا الخيانة له، فلا تخنه بشيء منها قل أو كثر، في أمثال هذا. وهذا مفهوم الخطاب، وليس من باب القياس جليه ولا خفيه في شيء. فصل: واعلموا أن الاسم إذا كان يشتمل على ما يصح أن يراد باللفظ

العام وما لا يصح أن يراد ولا أن يدخل تحت الخطاب وجب أن يكون ما أخرجه عن حكم الخطاب مخصصًا له لا محالة وإن استحال دخوله فيه من جهة الإحالة والمعنى، لأنه وإن كان كذلك فالاسم ستناوله على حد ما يتناول كل ما يصح دخوله تحت الخطاب، وليس التخصص للعام أكثر من قصره على بعض ما يشتمل عليه الاسم ويتناوله الإطلاق. ولا معتبر بقول من يحكي عنه أن النص على إخراج ما هذه حاله من العام وكل داخل أخرجه منه ليس بتخصيص له الامتناع دخول فيه، لأن الاسم جارٍ عليه، فلا معنى لما قالوه. ولهذا وجب/ لو قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} و {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وعقبه بقوله إلا ذاته، وإلا صفات ذاته، وإلا الباقي في حال بقائه لكان ذلك تخصيصًا لا محالة، وإن استحال دخوله تعالى تحت الفعل والقدرة وكذلك لو قال: النفس بالنفس وثبت على دعوى قائل ذلك استحالة دخول البهيمة في ذلك وامتناع تكليف القصاص منها لوجب أن يكون دليل العقل المانع من ذلك، وقوله لو قال إلا نفس البهيمة، وأنه لا قصاص منها ولا فيها لكان ذلك تخصيصًا لجعله الاسم مقصورًا على بعض الأنفس. فكذلك لو قال مع قوله: {إنَّكُمْ ومَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} إلا الملائكة والأنبياء والأصنام إن دل العقل على ذلك لكان مخرج هذه الأشياء من المعبودات مخصصًا للخطاب لتناول الاسم له كتناوله لغيره، فثبت أنه لا معتبر بهذا القول، وأنه لا وجه له.

تخصيص العام بعادة المخاطبين

فصل: القول في أنه لا يجوز تخصيص العام بعادة المخاطبين وإنما لم يجب ذلك لأن الشرع لم يوضع فيما ورد به من تحليل وتحريم، وغير ذلك على عادة المكلفين، وإنما وضعه سبحانه على ما بينا من تديين عباده وإن كان مبنيًا على استصلاح المكلفين. وقد تكون المصلحة باتفاق في الإقرار لهم على العقود والأفعال المعتادة بينهم. وقد يكون في ترك ذلك والتعبد بضده. وبهذا قرر عليهم عبادات ليست في عادتهم، وحظر عليهم أفعالًا ومأكلًا وعقودًا كانت معتادة عندهم. فهذا ما لا شبهة لهم فيه وفي إبطاله لمن أوجب تخصص العام بعادة المخاطبين، ولا فرق بين أن تكون العادة المتقررة بينهم عادة شرعية أو مألوفة منهم بغير شرع. فإذا جاء الخطاب العام يمنع ذلك وجب منع جميعه. وهذا نحو أن يقول: قد حرمت عليكم الطعام والشراب في يومكم هذا، أو يقول قد حرمت عليكم البيع، وهم معتادون لأكل طعام مخصوص وشرب شراب مخصوص وبيع أجناس مخصوصة. وعلى صفات مخصوصة. فليس لأحد أن يقول هذا الإطلاق محمول على ما عادتهم أكله وشربه وتبايعه لأجل أن الاسم عام مطلق. ويمكن أن يكون من مصلحتهم تحريم أكل شيء وشربه

مما هو عادة لهم بشرع/ متقدم أو عادة توافت على اعتيادها هممهم والحكم متعلق بقول صاحب الشرع ومقتضاه لا بعادتهم. وكذلك لو قال: لا تبايعوا ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وعادتهم جارية ببيع نوع مخصوص، وأكل أموالهم بينهم بضرب من الباطل مخصوص لم يجب قصر النهي على ذلك، بلن يجب حمله على كل بيع وأكل بالباطل، لأن اللفظ عام والحكم المتعلق لا بعادتهم المتفقة لهم أو المتقررة بشرع لهم سالف. وقد يرد الخطاب على لسان نبينا عليه السلام بنسخ شرع لهم متقدم وإن كانوا قبل بعثه متعبدين به، ولا معتبر بعادتهم في هذا الباب من أي ناحية جرت وثبتت. وليس هذا من باب حمل خطاب المخاطب منا بالعام على ما نعلم بالعادة أنه مريد له دون العموم، نحو قوله على الطعام اسقني ماءً في أنه معلوم أنه يريد به البارد القراح دون المسخن الأجاج. وكذلك قوله قدم الطعام في أنه معلوم أنه أراد ما عادته أكله دون الور والحمير ولحوم السباع والخضروات، وكل ما يطعم في أمثال هذا مما قد بيناه فيما سلف، لأن هذا مما يعلم بعادة أهل الخطاب وعادتهم مؤثرة في وجوب حمله على ما يقرر بينهم والقصد به إليه. وكذلك القول دابة في وجوب قصره في اللغة على البهيمة المخصوصة دون كل ما دب ودرج لما بيناه من أن عليه عرف الاستعمال مؤثرة في قصر العام على المقصود في العرف، وليس خطاب الشرع في العبادات والعقود

موضوعًا على عادتهم، فيجب حمله على ذلك. ولو أنه قال لهم بدئًا: إذا حرمت عليكم الأكل والشرب والبيع وأكل المال بالباطل وجاءكم اللفظ عامًا مطلقًا فاحملوه على حظره المعتاد من مأكلولكم ومشروبكم، لوجب قصره على ذلك فوجب الشرع لا بحكم العادة واللفظ. فأما إذا لم يقل ذلك وجب حمله على العموم لما بيناه من قبل.

باب الكلام في منع تخصيص العام بدليل الخطاب

باب الكلام في منع تخصيص العام بدليل الخطاب قال الشافعي - رحمة الله عليه - وأصحابه القائلون معه بدليل الخطاب إنه يجب تخصيص العام بدليل الخطاب. فإذا عم ما تناوله الاسم بحكم، ثم خُص بعض منه، على صفة بذلك الحكم خص العموم به وقصر لأجله على من له تلك الصفة. وهذا نحو أن يقول: في/ الغنم صدقة، وفي كل أربعين شاة شاة. ثم يقول: في سائمة الغنم زكاة، فيدل ذلك على أنه أراد بإطلاق ما فيه السوم دون ما عداه. قال: ومن هذا - أيضًا- قوله تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وذلك عموم فيهن، ثم خصصه في التي لم تُمس ولم يُفرض لها صداقي، لأجل قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ} فأوجب المتعة لمن كانت هذه حالها منهن بدليل الخطاب. وهذا ليس بمستقيم لما نذكره من الدليل على فساد القول بدليل الخطاب من بعد وعليه جلة من أصحاب الشافعي كابن سريج ومن قال بقوله، وإنما يُخص

بعض ما تناوله الاسم في مثل هذا على وجه التأكيد والتنبيه والاقتصار فيه على ذكر البعض. وقد ذكر الله سبحانه إنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيءٍ قدير. ثم خص منها بالذكر ما له صفة مخصوصة، ولم يدل على تخصصه العام، فلم يجب ما قالوه. وكذلك إذا علق المطلق في العام دون إطلاقه بشرط يوجد في بعضه أو بعدد لم يدل على المخالفة وتخصص العام به، وفي تعليقه بالغاية نظر نذكره من بعد. وقد بينا من قبل إنه لا يجب تخصيص العام بخروجه جوابًا عن سؤال وسبب، فلا حاجة بنا إلى إعادته. فصل: القول في معنى "لا" إذا ورد للنفي. وقد قلنا من قبل أن النفي بهذا الحرف وما جرى مجراه يحتمل نفي الإجزء أو يحتمل نفي الكمال، وبينا مفهوم ذلك في اللسان. وقد قال بعض أهل اللغة والمتكلمين في أصول الفقه إنه إذا ورد في النفي كان معناه نفي الأصل، لأنك إذا قلت: لا أحد في الدار، ولا جاءني أحد، ولا رأيت أحدًا كان مفيدًا لنفي الأصل، وكذلك ولا رجل في الدار وأمثاله. قالوا: ومنه قوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولاَ يُنْزِفُونَ} وقوله: {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فيهَا لَغْوًا ولا تَاثِيمًا} فكان الأظهر إنما هو ليفيد نفي

أصل الشيء على كل وجه. فإن أريد به نفيه على وجه دون وجه فذلك مجاز ومشبه بنفي الأصل، ويحتاج إلى دليل، وأوجبوا على هذا الأصل بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" و "لا صلاة إلا بطهور" وأمثال/ ذلك على نفي الأصل. فإن أريد به نفي الكمال فبدليل. وقد تكلمنا في ذلك من قبل بما يغني عن إعادته.

باب القول في حكم العمومين إذا تعارضا

باب القول في حكم العمومين إذا تعارضا اعلموا أن من الواجب في هذا الباب البداية بذكر ما يصح وقوع التعارض بين العمومين وبين الخاص والعام، وما لا يجوز ذلك فيه. وقد اتفق على أن ما تضمنه العام والخاص من الخطاب من الأحكام والقضايا العقلية لا يصح فيه التعارض، فلا يصح لذلك أن يرد اللفظ في إثبات حكم ووصف عام قد قضت العقول على وجوب عمومه لو لم يرد سمع به. وكذلك فإنه لا يجوز أن يرد خاص بنفي حكم أو إثباته قد ثبت بحجة العقل موجبه يعارضه عام ينفي حكمه. والذي يدل على ذلك أنه لو عارض خطابٌ موجب خطاب آخر قد ثبت موجبه بقضية العقل لوجب أن يكون المعارض رافعًا لحكم العقل وناقضًا لدليله وقضيته، وذلك باطل باتفاق، فيجب حمل ما ورد في مثل هذا بتعارض الظاهر حمل ما يقتضي ثبوت موجبه على موجب العقل، وتأول ما ورد بصورة المعارض له. وهذا نحو قوله عز وجل. {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وظاهره يفيد وجوب كونه عالمًا بكل ما يتناوله اسم شيء. والعقل قد قضى على وجوب ذلك لو لم يرد الخبر به. فإذا ورد معه

قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} وجب حمل ذلك على أنه أراد أنكم تنبئونه بما يعلم أنه لا ولا حقيقة لا على معنى أنكم علمتم أمرًا ليس بعالم به. وكذلك قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ والصَّابِرِينَ} لا يجوز كونه معارضًا لقوله تعالى: {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من وجهين. أحدهما: إنه عالم بذلك في الأزل والعقل قاضٍ به، وحتى تفيد الاستقبال فلا يجعل ذلك معارضًا لقضية العقل. وما يؤكدها من الأخبار. والوجه الآخر: إنه ليس في ظاهر قوله: {واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إنه لم يزل به عليمًا حتى يكون قوله: حتى نعلم/ معارضًا له. وإنما المراد بقوله: حتى نعلم حتى يكون المعلوم منكم أفضى، حتى نرى ذلك ونشاهده، لأن الإدراك لا يقع إلا على موجود، أو حتى نعلم كون الجهاد منكم كائنًا موجودًا وإن كنا عالمين به قبل كونه معدومًا وليس يوصف بأنه علم بوجوده إذا وجد لتغير ذاته تعالى في كونه عالمًا لكن لتغير حال المعلوم على ما قد شرحناه في الكلام في أصول الديانات. ولمثل هذا لم يجز أن يقال: إن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} {وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معارض لدليل العقل على استحالة خلقه تعالى لذاته وصفات ذاته والثاني من الحوادث في حال بقائه، لأن دليل العقل قد أحال

ذلك فيجب حمل هذه الظواهر وأمثالها على أنه أراد بها ما عدا الذي يستحيل خلقه له وترتيبه عليه. ولأجل ذلك لم يجز أن يقال: إن قوله تعالى: {وتَخْلُقُونَ إفْكًا} {وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} معارضًا لقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وقوله: {والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ} وقوله {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} لأن قضية العقل قبل ورود هذه الأخبار قد أوجبت أنه لا خالق مبدع سواه تعالى، ووجوب انفراده بهذه الصفة، وقد وردت هذه الأخبار، فيجب حمل ما صورته معارض لها على تأويل يوافق قضية العقل فيحمل قوله: {وتَخْلُقُونَ إفْكًا} على أنهم يكذبون كذبًا، لأن الإفك هو الكذب، وحمل قوله: {وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أي أنك تصور وتقدر، وقوله: {أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} على أنه أراد به المقدرين والمصورين، لأن الخلق يكون بمعنى التقدير والتصوير على ما قد بيناه في الكلام في المخلوق. فمثل هذا ونحوه لا يصح حصول التعارض فيه، بل يجب العلم والقطع على حمل المؤكد لما في

العقل على موجبه، وتأول ما هو بصورة المعارض له على موافقته وطلب التأويل له. وليس هذه صفة المتعارض في الأحكام الشرعية، لأنها ليست بأحكام ثابتة/ بقضية العقل، ولا يجب ثبوتها لأفعال المكلف لصفة هي في العقل عليها. وإنما يثبت ذلك بحكم الشرع والأمر والنهي، ويصح دخول النسخ والتبديل فيها، وتحريم البعض منها وتحليل مثله. وقضية العقل في العقليات محال اختلافها وتغيير حكمها، فبان الفرق بين الأمرين وأمكن أن يكون قوله مثلًا: "فيما سقت السماء العشر" عامًا استقر حكمه ثم نسخ بعض ذلك بقوله عليه السلام: " (ليس) في الخضروات صدقة" "وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ويمكن أن يكون هذا

حكم تعارض العامين أو الخاصين

هو المتقدم المستقر سقوط الفرض فيه، ثم ورد قوله: "فيما سقت السماء العشر" عامًا موقفًا على عمومه وناسخًا لحكم الخطاب الأول في إسقاط الزكاة عن بعضه، وإن لم يُعرف التاريخ، ويمكن أن يكون وردًا معًا على وجه البيان لإخراج بعض ما شمله اللفظ العام، فلذلك أوقعنا التعارض بينهما على ما بيناه من قبل. فصل: من القول في ذلك يجب الوقوف عليه واعلموا أنه إذا ورد عامان أو خاصان متعارضا الظاهر، أحدهما يوجب ثبوت الحكم، والآخر يوجب نفيه وسقوطه وجب علينا القطع بأن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يخاطبان المكلفين بهما معًا، لأن ذلك إحالة وتناقض وإبطال للتكليف، بل لم يردا إلا في وقتين وأن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ. أو أن يكونا وردا معًا فيكون استثناء ومستثنى منه. وإن فقدنا العلم بالتاريخ والسبيل إليه، فلابد أن يكون الرسول عليه السلام قد أعلم الأمة أو بعضها أيهما المتقدم وأيهما المتأخر فيكون الفرض على من علم ذلك من الصحابة وعلى من تأدي إليه فعل ذلك ومعرفته من التابعين ومن بعدهم العلم بالناسخ منهما من المنسوخ ويكون الفرض علينا نحن إذًا لم نعرف التاريخ بنقلٍ وطريق من الطرق، ولم يكن في لفظ أحدهما ما يدل على أنه ناسخ أو منسوخ أحد أمرين: إما أن يقر الحكم في ذلك على حكم العقل، أو يكون التوقيف قد ورد بأنه لابد من العمل بحكم أحدهما، وهما حكمان/ شرعيان. فإذا تعارضا رجعنا إلى طرق الأدلة على الأحكام الشرعية من المقاييس وغيرها. فإن وجدنا ما يوجب العلم بأحدهما صرنا إليه (ليس) بتناول الظاهر له، ولكن بموجب سواه من أدلة السمع، وإن لم

نجد شيئًا منها يوجب العمل بموجب أحدهما - وقد فرض علينا العمل بموجب واحد منهما - لم يبق وراء ذلك إلا تخيير العالم في العمل بموجب أيهما شاء، وصار في ذلك بمنزلة المخير في الكفارات وبمثابة المجتهد المخير في إلحاق الفرع بأي الأصلين شاء إذا تكافأ وتقاوم اجتذابهما له على حد سواء، إذ لم يعرف أيهما المتقدم الثابت الحكم، ولا أنهما وردا معًا على جهة البيان بحكم العام، وإنما المراد به الخاص، هذا ما لابد منه، لأنه لا يمكن القطع على فرض العمل بأحدهما والحال هذه، وكما صح أن يبتدئ بتعبدنا بالتخيير في ذلك، صح أن يُفقدنا طريق العلم بالتاريخ، ويخبرنا بالعمل بموجب أحدهما. وسنشبع القول في هذا الفصل في فصول القول في القياس وكتاب الاجتهاد إن شاء الله. فصل: فإن قيل: فما تقولون إن فرض الله علينا العمل بموجب أحدهما بعينه دون الآخر. قيل: إذا وجب ذلك علينا لم يكن بُدٌ من أن يجعل الله سبحانه لنا سبيلًا إلى معرفة الناسخ منهما، وأن تؤمن الدواعي على نقل تاريخه حتى لا يندرس ويهي، بل يبلغ على وجه تقوم به الحجة، ويلزمنا المصير إلى متضمنه، هذا أيضًا لابد منه. فصل آخر من القول في حكمهما. واعلموا وفقكم الله أن الأوامر والنواهي والأخبار عن العبادات المتعارض ظاهرها يرد على ثلاثة أضرب.

حكم تعارض العام مع الخاص

فوجه منها: أن يكون لفظ أحدهما عامًا في إثبات الحكم في جميع ما يتناوله الاسم. والآخر خاصًا بنفي ذلك الحكم عن بعض ما تناوله العام. وهذا نحو قوله: "فيما سقت السماء العشر" "وفي الرقة ربع العشر" وقوله تعالى: {السَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وأمثال ذلك مع قوله: "ليس فما دون خمسة أوسق، وخمسة أواق ومائتي درهم صدقة" "ولا قطع في ثمر ولا كثر" "ولا في أقل من ربع دينار".

وهذا ونحوه ليس مما يجوز أن يقال إنه متعارض من كل وجه، ولكنه متعارض من وجه دون وجه وفيما تناوله العام/ دون غيره وقد بينا حكم هذا الوجه فيما سلف وأنه متعارض في قدر ما تناولاه والخلاف يف ذلك. وقول من زعم أنه تنبيه بما لا حاجة بنا إلى رده. والوجه الآخر أن يتعارض لفظاهما تعارضًا يمكن أن يكون حاصلًا بينهما على وجه النسخ، ويمكن أن يكون على وجه البيان والترتيب والأمر بحملهما على وجه ينفي التعارض بينهما إذا حملا عليه. وذلك بأن يكون أحدهما ينفي الحكم عن الشيء إذا كان على صفة مخصوصة. والآخر يثبته له إذا عري وخلا منها أو كان على خلافها. وهذا نحو ما روي من قوله عليه السلام: "لا ربا إلا في النسيئة" وهو رواية ابن عباس: وقوله في خبر أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت "يدًا بيد مثلًا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى" ونحوه من اللفظ. فمثل هذا التعارض في ظاهره ولفظه، لأن

قوله: "لا ربا إلا في النسيئة" يعطي جواز التفاضل في الجنس والجنسين نقدًا، وأنه ليس بربًا. والآخر يعطي ظاهره أن الزيادة ربًا نقدًا كانت أو نسيئة، سوى أنه مع ذلك يمكن أن يكون أراد بقوله: إنما الربا في النسيئة فقال: هي ربا، ويجوز أن يكون قد أجاز التفاضل في الجنسين نقدًا وحرمه نسيئة. وأن يكون قد نسخ بذلك قوله: "مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". ولا يجوز لأحد أن يقطع على أن ذلك خرج جوابًا لسؤال سائل، أعني خبر النسيئة لأجل أن فيه إثبات قضية ودعوى خروج على سؤال سائل لا طريق إليه وزيادة لا يقتضيها لفظ الخبر. وكذلك فليس لأحد أن يقطع على أن خبر النسيئة ناسخ لخبر ذكر المماثلة، أو أن خبر المماثلة ناسخ لخبر النسيئة لجواز أن يكون الأمر بخلاف ذلك، وأن يكون ذكر النسيئة ورد في الجنسين المختلفين، والآخر واردًا في الجنس الواحد فلا يكون بينهما تعارض ولا نسخ. وكذلك فليس لأحد القدح على أنهما وردا كذلك معًا لا مكان أن يكونا وردا على سبيل النسخ. وإذا كان ذلك كذلك وجب لتجويز الأمرين/ الحكم بتعارضهما وتعارض كل ما كانت حاله حالهما من الأخبار والأوامر والنواهي العامة في النفي والإثبات ووجوب الرجوع في تعرف حكم أحدهما إلى شيء سواهما من ضروب أدلة السمع، ولأن حالهما إذا كانا كذلك أظهر وأبين من تعارض العام والخاص في قدر ما تقابلا فيه. فإن لم (تكن) كذلك فهي بمنزلتهما لا محالة. ولا وجه لقول من قال: إني أقطع على ورود خبر النسيئة على الجنسين المختلفين لإمكان وروده في المثلين أولًا، أعني تحريم التفاضل فيه نقدًا أو

نسيئة، ثم إباحته نقدًا وحظره نسيئة فوجب لذلك القضاء على تعارضهما متى قلنا بوجوب تعارض العام والخاص في قدر ما تقابلا فيه. ومثل هذا - أيضًا - ما روي من قوله عليه السلام: "لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب" وقوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" وهذا متعارض الظاهر لصحة دخول النسخ فيه، وإن لم يكن في اللفظ ما يمنع من ذلك

لأجل أنه يمكن أن يكون قوله: "لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب" ورد بعد قوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" فيكون هذا القول رافعًا لإباحة الانتفاع بالأهب إذا دبغت. ويمكن أن يكون قوله لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب ورد قبل "أيما إهاب دبغ فقد طهر" واستقر حكمه، ثم ورد قوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" نسخًا لما كان محظورًا بقوله: "لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب" وناسخًا لما كان أباحه من الانتفاع بما دبغ، لو قال عليه السلام: "لا ينتفع من الميتة بشيء دبغ أو لم يدبغ. ثم قال إذا دبغ منها شيء يمكن دباغه فانتفعوا به لصح ذلك وجاز. وإذا ثبت ذلك جاز دخول النسخ والتبديل في مثل هذا، وأمكن وروده معه على وجه البيان، وأن يكون أراد بقوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، إذا يدبغ الإهاب، وأن يكون قد بين ذلك بقوله: "إيما إهاب دبغ فقد طهر" وكشف ذلك بقوله في شاة ميمونة: "ألا انتفعتم بإهابها. قالوا: إنها ميتة. فقال "دباغها طهورها"

على وجه البيان لقوله: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب. ولو علمنا ورود الخبرين كذلك لحملناهما على وجهين لا تعارض بينهما: فيقال أراد بقوله:/ لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب قبل دباغه. وأراد بقوله: ألا انتفعتم بإهابها إذا دبغوه فانتفعوا به، غير أن ذلك وإن كان جائزًا، فالنسخ الذي ذكرناه ممكن أيضًا. فلأجل ذلك أوقعنا التعارض بينهما، ولا يجب القضاء بتعارض مثل هذا. وإن روي التاريخ أو كان في لفظ أحد الخبرين ما ينباء عن أنه ناسخ أو منسوخ أن في القصة التي يذكر فيها الحديثان أو أحدهما. وقد ذكر في الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميمونة وهي ميتة، فقال: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به. ثم كتب: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يريد بذلك لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ. فسياق هذا الحديث يبين أنه إنما قال: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب متصلًا بقوله: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به" ومتى ثبتت هذه السيرة حملًا على وجهين لا تعارض بينهما. فلا ينتفع بجلدها ما لم يدبغ، ويحل الانتفاع به إذا دبغ. ولو قاله كذلك لم يكن فيه تعارض. وكذلك لو صح وثبت أن جلد الميتة لا يسمى إهابًا إذا دبغ. وإنما يسمى بذلك إذا كان على جسد الميتة أو حال يصح أن يكنى به عن الجسد أو إذا انفصل منه، لأنه يكون إذا لم يدبغ في حكم ما هو على الجسد منه. وقد ذكر منتنة لم تدبغ. وأن أهل اللغة لا يسمون الجلد إهابًا إلا إذا لم يدبغ أو إذا كان على الجسد أو في حكم ما هو عليه بدلالة قول عائشة رضوان الله

عليها في صفة أبيها في الخطبة المشهورة "فرد الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها" يعني في الأجساد التي في الأهب وكنت عن ذكر الأجساد بذكر الأهب. واحتج لذلك أيضًا بقول النابغة الجعدي في ذكر بقرة وحشية أكل ولدها وهي غائبة عنه. ثم أتته فوجدت جلده وشيئًا من صوفه: فلاقت بيانًا عند أول معهد إهابًا ومغبوطًا من الجوف أحمرا تعني أنها وجدت جلدًا غير مدبوغ. وإذا ثبت هذا كان ما يوصف بأنه إهاب، وإنما أُلحق جلد الميتة بالعصب في تحريم الانتفاع به ما لم يدبغ لكون العصب مما يمتنع دباغه، فكأنه قال والجلد ما لم يدبغ بمثابته في امتناع الانتفاع به/ وإذا ثبت هذا فلو أنه قال: لا تنتفعوا بإهاب الميتة. ثم قال انتفعوا بجلود الميتة لم يكن ذلك متعارضًا، لأنها تكون أهبًا قبل الدباغ وجلودًا إذا دبغت. وهذا مستقيم إن ثبت أن الجلد لا يسمى بحال إهابًا إذا دبغ، وإلا ففيما قالوه نظر، والتعارض باقٍ إن لم يثبت ذلك. والوجه الثالث من وجوه التعارض هو أن يتعارض الخبران

حكم المتعارضين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه

العامان والخاصان من كل وجه، ولا يمكن بناء بعضه على بعض، لآ بأن يكون أحدهما عامًا والأخر خاصًا ولا حملهما على وجهين مختلفين. وما هذه صفته في التعارض على ضربين: فضرب منه يتعارض في لفظه ونصه والضرب الآخر غير متعارض في لفظه، ولكن بأن يمتنع فيه حمله على وجهين. وذلك بأن يكون كل واحد منهما يزيد على ما يتناوله الآخر من وجه وينقص عنه من وجه. ولا يملك لذلك حملها على وجهين وفي حالتين. فأما ما يتعارض في نصه ولفظه: فهو قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" ويقول في آخر: من بدل دينه فلا تقتلوه. ويجوز أن يقول: "لا يصلى عند طلوع الشمس ولا بعد صلاة العصر" ثم يقول في خبر آخر: صلوا عند طلوع الشمس وبعد صلاة العصر. ويقول: قد أحللت لكم الجمع بين الأختين ويقول في خبر آخر: حرمت عليكم الجمع بينهما. وأمثال هذا مما يتعارض في لفظه ونصه. والضرب الآخر من التعارض: هما اللذان يريد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه، لا بأن يكون التعارض في لفظه.

وذلك نحو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مع قوله: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ومثل قوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" ونهيه عن قتل النساء والولدان، ونهيه عن الصلاة بعد صلاة العصر، مع قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فذلك وقتها"

وأمثال هذا مما يزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص من وجه، ويمكن ذلك فيهما، وذلك أنه يمكن أن يجعل قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عامًا في الأختين والأجنبيتين وتحليل الجمع بينهما بملك اليمين فيكون ذلك زائدًا على قوله: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وبجعل النهي عن الجمع بين الأختين لا فيم ملكت اليمين، ويمكن أيضًا أن يجعل النهي عن الجمع بين الأختين عامًا فيما ملكت وفي المعقود عليهن، ويكون/ قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مراد به بإحدى الأختين، هذا ما لا يتهيأ دفع جوازه، ولأجل هذا قال علي وعثمان رضي الله عنهما: "أحلتهما آية وحرمتهما آية" والتمسا تعرف الحكم من جهة غير الظاهرين. وكذلك يجوز أن يكون قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" عام في النساء والرجال وكل ذي دين يصح تبديله له. ويمكن أن يكون نهيه عن قتل النساء متناولًا لجميعهن في كل حال مع تبديل دينهن. ومع ترك ذلك، ومتى أمكن ذلك أمكن أن يكون النسخ والتبديل داخلًا في مثل هذا وأمكن أن يراد به البيان والتخصيص. وكذلك فيمكن أن يكون نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات نهيًا عن الصلوات الفائتة وغيرها على العموم. ثم ينسخ ذلك بقوله: "فليصلها إذا ذكرها" فيجعل ذلك وقتًا للقضاء، ويمكن أن يكون ابتداء. بجعل ذلك وقتًا للقضاء، ثم نسخه بالنهي عنه في هذه الأوقات.

ويمكن أن يكون ذلك منه على وجه البيان (منه) فيكون وقت النهي عن التطوع وفعل ابتداء الفروض في تلك الأوقات ويكون مع ذلك وقت القضاء وما له سبب عارض من الصلوات من نحو دخول مسجد، وصلاة على جنازة ويكون قوله إذا ذكرها عام في سائر أوقات الذكر ومتى أمكن في ذلك الأمر إن لزم على القول بوجوب تعارض الخاص والعام تعارض مثل هذا، لأن الأثر فيه أظهر من وجوب تعارض العام والخاص، لأجل أنه تعارض مطلق، وذلك مخصوص وهو أقرب إلى الاحتمال والبيان، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. فصل: ولا يجوز لأحد أن يقول فيما يتعارض لفظه ومعناه من كل وجه أنني أجعل ذلك بمنزلة ما وردا معًا إذا جهل تاريخهما، وبمنزلة جعل موت الغرقى الذين لم ينكشف لنا موت بعضهم قبل بعض بمنزلة من علمنا موتهم معًا، لأجل أننا قد بينا فيما سلف أن ما هذه حاله من المتعارض لفظه وما لا يمكن حمله على وجهين، ولا يزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه لا يجوز أن يكون وردا معًا، لأنه تناقض وإحالة وإبطال للتكليف والمحنة. فلابد من القضاء على أن أحدهما/ وارد بعد الآخر على وجه النسخ لحكم الأول وإن جهلنا التاريخ. وإنما جعلنا موت الغرقى الذي لا علم لنا بأيهم مات أولًا بمثابة من

علمنا موتهم معًا، لأجل جواز موت سائرهم في حال واحد، لأن ذلك غير مستحيل، ولأجل أن التعبد أوجب ذلك بما يذكر علته من الدليل من جهة الاجتهاد وأدلة السمع. فالحال إذًا فيهما مفترقة. ولأجل أننا لو قضينا بموت بعضهم قبل بعض لوجب أن نثبت ميراثًا لمن لا نعلم أنه وارث، ولا سبيل إلى ذلك. وكذلك لو قضينا بالخاص على العام لقضينا بخروج من لا نعلم أنه خارج من حكم العام. وكذلك لو قضينا بالعام على الخاص لأبطلنا بذلك حكم الخاص مع أننا لا نأمن ثبوت حكمه. وذلك غير جائز، وكذلك لو قضينا بأنهما وردًا معًا لقضينا بما لا سبيل لنا إلى العلم به مع تجويزنا كون أحدهما هو المتقدم وكون الآخر ناسخًا له فوجب أن يكون القضاء بأن أحدهما ناسخ للآخر أو أنهما وردا معًا قضاء بما لا يعلم ومشبهًا للقضاء بموت بعض الغرقى قبل بعض. وأن يكون حكمنا بتعارضهما بمنزلة حكمنا بموت جميع الغرقى معًا. وإنما ساغ - أيضًا - الحكم بموت جميعهم من حيث قلنا إن ذلك جائز صحيح، وأنه لا شيء يعارض القضاء بذلك ويمنع منه. وإذا قضينا بحكم الخاص على العام قضينا بشيء يعارضه حكم العام، لأنه بظاهر ينفي حكم الخاص. وكذلك لو قضينا بحكم العام على الخاص لقضينا بحكم يعارضه حكم الخاص، لأنه ينفي ذلك القدر من حكم العام بذلك الفرق بين الأمرين. وإذا لم يجز الحكم بورود الخاص والعام معًا شككنا في ذلك. وتجويز أن لا يكونا وردا كذلك ووجوب القول بتعارضهما كان منع ذلك في العامين والخاصين المتعارضين من كل وجه أولى لاستحالة ورودهما مع أنهما كذلك لا يردا إلا على وجه نسخ أحدهما لحكم الآخر، ولا طريق لنا إلى العلم بمعرفة عين الناسخ منهما والمنسوخ فنقضي بذلك، وهذا واضح لا إشكال فيه. وإنما لا يجوز أن يرد ما هذا سبيله من

المتعارض في لفظه أو بأن يزيد أحدهما على الآخر/ من وجه وينقص عنه من وجه عند من أجاز تأخير البيان، فإنه يجوز أن يرد كذلك، ولكنه لابد لمعتقد جواز تأخير البيان من أن يعلم أنه إذا قيل له: من بدل دينه غدًا فاقتلوه، ومن بدل دينه غدًا فلا تقتلوه إنه لابد أن يكون قد أمر بقتل بعض من بدل دينه دون بعض ونهى عن قتل بعض منهم دون بعض. ومتى لم يعتقد ذلك وجب أن يعتقد أنه مأمور بقتل من قد نهى عن قتله، وذلك متناقض وإسقاط للتكليف، وليس من كلام مكلف حكيم. فصل: فإن قيل: أفلستم قد أوجبتم القضاء على إخراج بعض العام من حكمه بالقياس؟ فهلا أخرجتم أيضًا البعض منه بالخبر الخاص؟ قيل له: قد قلنا من قبل أننا نعمل في العام والقياس إذا تقابلا في قدر ما تقابلا فيه ما نصنعه من التعارض بين الخاص والعام، فسقط السؤال. ولو فصل فاصل بينها بأن القياس دليل مستقر بعد النبوة وبعد ورود العام ولابد أن يكون مستخرجًا من أصل يعلم ثبوت حكمه وأنه غير منسوخ ولا مرفوع حكمه، فيجب لذلك القضاء بأنهما وردا معًا للاتفاق على أن الأصل المستخرج منه علة القياس والأصل الذي يقصره على تخصصه ثابتين، وأن أحدهما غير ناسخ لصاحبه فيجب القضاء بمضمون أحدهما وما دل من تعليله على تخصص العام، وهذا فرق واضح لا إشكال فيه، على أنه إذا كان القياس جاريًا بعد ورود العام جاز القضاء به، ولا سبيل لنا إلى العلم بأن الخاص وارد بعد ورود العام، أو أنهما وردا معًا، فيقصر به عليه. فبطل ما قالوه. فصل: وإن قال قائل: أفلستم قد قضيتم بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} على عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا

كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وهذا عام والأول خاص فهلا بنيتم كل عام على كل خاص وارد. قيل له: كل خاص اتفقت الأمة على العمل به وبناء العام عليه عملنا فيه كالذي عملناه في حد الأمة، لأنه يكون حينئذ مما قد علم أنه لم يرد على وجه النسخ، والأمة متفقة على أن حد الأمة لم يرد على وجه النسخ فوجد بناؤه. فإن اتفق/ على مثل ذلك في كل خاص مع عام وجب بناء جميعه، ولكن ليس الأمر كذلك في سائره، فسقط ما قالوه. وكذلك الجواب عن قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مع قوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} لأن الأمة متفقة على أن ذلك لم يرد على وجه النسخ. وأن حكميهما ثابتان، فوجب بناء العام على الخاص، وليس هذه حال ما لم يتفق على ثبوت حكميهما. فإن قيل: فهلا أوجبتم بناء العام على الخاص الوارد في الأحكام كما أوجبتم ذلك في قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} وقوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} {ويتلاومون}. قيل: لأن الضرورة ألجأت إلى بناء ذلك في الأخبار لاستحالة الكذب في شيء من أخبار الله عز وجل. وما ورد في الأحكام يجوز أن يكون وردًا معًا على وجه البيان، ويجوز أن يرد أحدهما بعد الآخر على وجه النسخ، فوجب لذلك الوقف. فصل: القول في هل يجوز أن يخلو العامان أو الخاصان المتعارضان من

ترجيح أحدهما على الآخر أو دليل يوجب العمل بموجب احدهما أم لا يجوز ذلك. اختلف الناس في ذلك: فقال الكل إلا شذوذ من متأخري أهل العراق إنه يجوز ذلك ويصح، وقال هذا الفريق إنه لا يجوز. والذي يدل على جوازه علمنا بحواز سقوط التعبد لنا بموجبي كل واحد منهما، وليس في ورودهما متعارضين أكثر من تكافيهما وسقوط فرض العمل بكل واحد منهما ونبقيهما على حكم العقل وبراءة الذمة، وكذلك إن وجب بإجماع العمل بموجب واحد منهما وتحريم ترك العمل بموجبها جميعًا كان العالم عند التقاوم مخيرًا في العمل بموجب أيهما شاء. ومثل هذا مما كان يجوز ورود التعبد به كما خير في الكفارات وغيرها مما تقدم ذكرنا له. فإن قيل: إلا لم يردا متعارضين وبقينا على حكم العقل لم يكن في ذلك تنفير وإيهام الشبهة والمناقضة في كلام الحكيم العليم/.

وإذا وردا متعارضين من كل وجه عاريين من ترجيح أحدهما على الآخر بوجه أو دليل قاطع يوجب العلم بأحدهما نفر ذلك من الطاعة فهو الوهم الباطل والتناقض من كلام صاحب الشريعة، فلم يكن بد من وجود أمرٍ يوجب العمل بموجب أحدهما. قيل: هذا باطل، لأن من حق المسلم العالم أن يعلم أن صاحب الشرع لم يوردهما إلا في زمانين على سبيل النسخ، وإنه لا يجوز إيرادهما من جهته معًا. وفي اعتقاد ذلك والنظر فيه تعريض لثواب عظيم وتشديد لمحنة المكلفين. ولو كان ما قالوه من هذا صحيًا لاستحال في صفة الله سبحانه إنزال شيء من كتابه متشابهُا يتبعه الملحدون والذين في قلوبهم زيغ، لأنه تنفير ومفسدة مع قدرته على إنزاله محكمًا غير متشابه. وكذلك فكان يجب أن لا ينسخ آية بأية لإخباره عنهم إذا بدل آية مكان أية قالوا لرسوله: إنما أنت مفتر. ولما لم يجب ذلك وكان في إنزال هذا النسخ على هذه السبيل تشديد للمحنة وتعريض لأحوال المثوبة، فبطل ما قالوه. فإن قالوا: ولا يكون في أقواله وإيراده متعارضًا فائدة. قيل: إن الله سبحانه ورسوله عليه السلام: لا يوردانه متعارضًا ولا يصدر منهما إلا على جهة النسخ، ولابد أن يعلم ذلك المتعبدون من الصدر الأول ومتلقو الخطاب عن الرسول عليه السلام. فالفائدة حاصلة لهم والامتحان بالنظر إليهما لازم لنا والعلم بأنه لا يرد منفصلًا على سبيل النسخ، فبطل ما قالوه. وإن قالوا تعري المتعارضين من الترجيح يوجب تكافي أدلة الشرع.

قيل: إذا تعارضت لم تكن أدلة، ومع ذلك فلا يمتنع تعارضهما والتخيير في العمل بأيهما شاء العالم، لأنه لو ابتدأ الحكم بالتخيير لكان صحيحًا جائزًا. فصل: ومتى أجمعت الأمة على أنه لابد من العمل بموجب أحدهما مع تساويهما وتقاومهما وجب التخيير لا محالة، فكذلك يجب كون العالم مخيرًا في حكم الفرع متى اجتذبه أصلان متنافيا الحكم اجتذابًا واحدًا في وجوب التخيير في إلحاقه بأيهما شاء وإذا وجد دليل يقتضي العمل بموجب أحدهما صير إليه، ولم يكن العمل بموجبه رجوعًا إلى أحد المتعارضين، بل ذلك رجوع إلى ذلك الدليل فقط. فصل: ولا يجوز أن يقال إن للدليل القاطع الموجب للعمل بموجب أحدهما/ ترجيح له على الآخر لأنه لا يوصل إلى العلم، والقطع على العمل بموجب أحدهما، وإن لم يجب ذلك من جهة أحد الظاهرين، وما أوجب العلم قطعًا لا يوصف بأنه ترجيح، بل يقال حجة ودليل قاطع. وإنما الترجيح ما يتوصل به إلى تغليب الرأي والظن لوجوب العمل بموجب أحدهما ولو أوجب العلم لم يكن ترجيحًا، بل دليل قاطع. ونحن نذكر من بعد ضروب الترجيحات وما يختص منها والأخبار وطرقها وما يشترك فيه القرءان والأخبار.

فصل: وقد بينا فيما سلف وجه التعارض في قوله تعالى: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وأن عثمان وعليًا رضوان الله عليهما قالا: "أحلتهما آية وحرمتهما آية" ويمكن أن يرجح عموم قوله: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} على عموم قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فإن عموم النهي عن الجمع بين الأختين ما اتفق على أنه قد دخله تخصيص، ولا هو محتاج إلى شروط. وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مما قد أجمع على تخصيصه، وأنه مشروط مخصوص بالاستبراء أو نفي الشركة في الملك وغير ذلك من الأمور، فوجب أن يكون إباحة الوطء بملك اليمين عموم متفق على تخصصه، وليس تخصيصه أيضًا باستثناء ولفظ يصح أن يقال: إنه يصير للاسم العام اسم لما بقي بعد الاستثناء. والتخصص على هذا الوجه يجعل اللفظ مجازًا ومستعملًا في غير ما وضع له، وصار عند كثير من الناس مما لا يمكن التعلق به في قدر ما بقي. وكذلك سبيل كل عمومين هذه حال أحدهما. ولا يستقم دفع هذا بأن يقال لسنا نقول إن اللفظ يبقى مجازًا، لأنه قد قيل ذلك واختلف فيه، فصار غير المختلف فيه أظهر وأقوى منه. ووجه آخر من وجه الترجيح بنيهما، وهو أن تحريم الجمع بين الأختين مما قد ثبت وعلم أنه ورد بعد ذكر المحرمات من الأجنبيات وذوات الأرحام، ومع تفصيل ما يحل من ذلك مما يحرم، فلما ألحق الجمع بين الأختين بجملة المحرمات وجب القضاء بعمومه في الحرائر والإماء.

وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لم يرد لتفصيل ما يحل مما يحرم بالمدح من تحذر واجتناب الاستمتاع بمن ليست بزوجة ولا ملك يمين فلم يرد التفصيل، فصار العمل بعموم تحريم الجمع بين الأختين أولى. وهذه جملة في هذا الباب كافية.

باب القول في هل يجب تخصيص العام بخروجه على سبب خاص وسؤال خاص أم لا؟

باب القول في هل يجب تخصيص العام بخروجه على سبب خاص وسؤال خاص أم لا؟ أول ما يجب أن يقال في هذا الباب أن بين قولنا خرج الخطاب على سبب وخرج عند سبب/ فرق، وهو أن القول خرج على سبب يفيد أنه متعلق بذلك السبب وخارج لأجله وبمثابة قول القائل ضربت العبد على قيامه وكلامه، وأكرمته على موافقته وطاعته، وذلك بمثابة ضربته لأجل قيامه وأكرمته لأجل طاعته. والقول ضربته عند كلامه وعند قيامه لا يفيد تعلق الضرب بالفعل ووقوعه لأجله، ولكنه يصلح أن يقال: إنه لفظ مشترك يصلح أن يراد به ضربه بسبب القيام ولأجله، ويحتمل أن يكون إخبارًا عند طاعته إياي يريد لأجل طاعته ومعصيته، وقد يقول ضربته عند قيامه ومشيهن ويعني موافقة الضرب المشي في حالة. فهذا قدر ما بينهما من الفرق. فصل: وقد نعلم أحيانًا ضرورة قصد المتكلم إلى قصر العام على السبب والسؤال الخاص ومتى علم ذلك لم يجز دعوى العموم فيه، لأن العلم بقصده قرينة تمنع من إجراء الخطاب على عمومه. وذلك نحو علمنا بأن من قيل له كل هذا الطعام وكلم هذا الإنسان، فقال: والله لا أكلت ولا تكلمت، وهو يصد إلى أنه لا يكلم من قيل له كلمه، ولا يأكل ما قيل له كله، وأمثال هذا كثير.

فمتى علم القصد إلى قصر الخطاب على السبب والسؤال الخاصين وجب حمله على ذلك. وطريق الاضطرار إلى قصد الله تعالى إلى قصر العام على السبب والسؤال منسد، وإنما يعرف ذلك بتوقيف الملك والرسول عليهما السلام على أنه مقصور على ما حرم عليه أو العلم الضروري من حال النبي والملك عليهما السلام إلى القصد إلى قصره على بعض ما جرى عليه الاسم. فصل: واعلموا - رحمكم الله - أن الجواب الصادر على سؤال هو متعلق به على ضربين. أحدهما: بلفظ مستقل بنفسه لو أورد مبتدأ به من غير تقدم سؤال لكان مستقلًا وكلامًا تامًا مفيدًا للعموم، وذلك نحو جوابه عليه السلام حين سئل عن ماء بئر بضاعة بقوله: "الماء طهور لا ينجسه شيء" وقوله عن سؤال من سأله عن عبد اشتراه واستغله "الخراج بالضمان" لأنه لو ابتدأ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء. والخراج بالضمان، لكان كلامًا مفيدًا. والجواب المتعلق بالسؤال ناقص غير تام. وذلك نحو قوله تعالى: {فَهَلْ وجَدتُّم مَّا وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا قَالُوا نَعَمْ} وهذا جواب لا يصح الابتداء به. وكذلك قوله في جواب السؤال عن بيع الرطب بالتمر، وقوله: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذًا" لأن "فلا إذا" لا تفيد شيئًا لو ابتدئ به. وكذلك حكم جوابه عن السؤال عن حكم ماء البحر. وقوله: "هو

أقسام الجواب المستقل بنفسه

الطهور ماؤه" لأن القول "هو كناية لابد له من التعلق بمذكور معهود متقدم ذكره/ ولذلك لا يحسن أن يبتدئ القائل فيقول كلمته وما رأيته. ولو أورد ذلك في جواب قول سائل هل رأيت زيدًا أو كلمته لكان مفيدًا صحيحًا. وهذا الجواب وأمثاله متعلق بالسؤال ومرتبط به، ولا يجوز تعديه وانتشاره إلى غيره، ولا خلاف يعرف في ذلك. فصل: فأما الجواب التام المستقل بنفسه الخارج على سؤال وسبب خاص فإنه على ثلاثة أضرب. فضرب منه يكون لفظه عامًا منتظمًا لما وقع السؤال عنه ولغيره نحو قوله

عليه السلام: "الماء طهور لا ينجسه شيء" "والخراج بالضمان". وهذا الضرب يوصف بأنه جواب زائد على السؤال. والثاني يكون مطابقًا للسؤال وغير زائد عليه ولا ناقص عنه. وذلك نحو أن يسأل عن ماء بئر بضاعة وماء البحر، فيقول ماء بئر بضاعة وماء البحر طهور لا ينجسه شيء وربما اختصر فقال: الماء الذي سألت عنه طهور، أو يقول هو طاهر، وهو كناية عنه وحده. وأمثال هذا مما هو راجع إلى ما تقدم ذكره وغير متلبس على غيره. وهذا الجواب في بابه بمثابة الجواب الناقص الراجع إلى ما وقع السؤال عنه فقط. والجواب الثالث هو الناقص عما يتناوله السؤال. وذلك نحو أن يسأل عن حكم ماء بئر بضاعة فيشير إلى شيء منه، فيقول هذا الماء طهور ويسأل عن ماء البحر فيشير إلى شيء منه. ويقول هذا ماء طهور. ويجوز أن يسأل عن بيع الرطب بالتمر، فيشير إلى رطب وتمر حاضرين، فيقول لا يجوز بيع هذا الرطب بالتمر. وهذا وأمثاله جواب ناقص، لأنه سئل عن أمر عام فأجاب عن حكم بعضه، ومثل هذا لا يكاد يقع منه إلا بتنبيه على أن ذلك حكم جميع ما يقع عليه الاسم عما يُسأل عنه. وقد يسأل عن شيء فيجيب عن غيره تنبيهًا للسائل على حكمه إذا كان عالمًا ومن أهل الاجتهاد، نحو قوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمضت هل كان عليك من جناح؟ قال: لا قال ففيما إذا" وقوله للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أينفعه ذلك؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أولى ومثل هذا الجواب لا يصدر منه إلا لعالم مجتهد. فأما إن كان السائل ممن قد مسته الحاجة إلى تعجيل الجواب أو عاميًا

ليس من أهل الاجتهاد، فإنه لا يصدر جوابه إلا عما يسأل عنه على وجه يبين به الحكم فيما وقع السؤال عنه. فصل: ذكر اختلاف الناس في الجواب بالخطاب العام. اختلف الناس في ذلك. فقال الجمهور من المثبتين للعموم أن الواجب حمله على العموم، وإن كان السؤال واقع عن/ شيء مخصوص. وقال قوم من أصحاب الشافعي رضي الله عنه يجب قصره على السؤال والسبب الخاص. قالوا: وهذا هو قول الشافعي يقال من قال إن مذهبه حمله على العموم قال: مذهبه اعتبار لفظ صاحب الشرع دون السبب

والسؤال الخارج عليهما. وقوله في هذا مختلف، لأنه قال تارة إن قوله: "الخراج بالضمان" عام وحمله على جميع المبيعات وإن كان خارجًا على عبد اشترى واستغل وظهر به عيب فقال: "الخراج بالضمان" ولم يراع خروجه على ذلك العبد ولا على جنس المبيع من الرقيق. فهذا قول من يراعي اللفظ دون السبب والسؤال. وقال في موضع آخر إن قوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" يحتمل أن يكون خارجًا على سؤال سائل يجب قصره عليه. فهذا كلام من يعتبر السبب دون لفظ الخبر. والذي نختار من ذلك لو ثبت العموم حمل الخطاب على عمومه دون مراعاة السبب والسؤال. والذي يدل على ذلك أن الأحكام معلقة بلفظ صاحب الشرع دون السبب، لأنه لو ابتدأ عليه السلام من غير سؤال فقال: "الخراج بالضمان" "والماء طهور لا ينجسه شيء" لوجب باتفاق تعليق الحكم بمقتضى الخطاب. ولو

وجد السبب والسؤال مع عدم الكلام لم يثبت بذلك حكم، وليس لأحد أن يقول إنما يثبت الحكم باللفظ والسبب والسؤال جميعًا، لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب لو ابتدأ بالكلام مع عدم السبب والسؤال أن لا يثبت به حكم. وذلك باطل باتفاق فثبت أن الحكم متعلق بمقتضي الكلام. ومما يدل أيضًا على أن الحكم للكلام دون ما خرج عليه اتفاق الكل على ثبوت الحكم بمقتضى الخطاب، وما يخرج عليه من الصفات والصيغ والأحوال دون الرجوع إلى السبب والسؤال. يبين ذلك أن سائلًا لو سأله فقال: أيحل الانتشار ويحل شرب الماء وأكل الطعا. فقال: الانتشار من صيغه الصلاة والشرب مندوب إليه والأكل واجب عليك والاصطياد على المحرم حرام لوجب حمل الحكم على موجب خطابه دون السؤال، لأنه يقول: يحل ويجوز الانتشار، وذلك سؤال عن الجواز. فإذا أجاب بلفظ يقتضي الندب أو الوجوب أو التجويز صير إليه وقضي به، وعدل عن اعتبار السؤال الذي خرج عليه وكان سببه، فصار الاعتبار بصفة اللفظ ومقتضاه. ومما يدل على ذلك - أيضًا - قوله سبحانه: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} وليس ذلك إلا الرد إلى قوله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والمصير إلى موجبيهما دون السبب والسؤال، لأن الرد إليهما مخالف للرد إلى الله وإلى رسوله. ومما يدل على ذلك - أيضًا - أنه/ لو كان مقتضى العام الخارج على سؤال وسبب خاص قصره عليهما لوجب إذا ذكر الدليل على عمومه أن يصير بذلك الدليل مجازًا ومستعملًا في غير ما وضع الكلام له. وذلك باطل باتفاق، فعلم أن خروجه على السبب والسؤال لا يقتضي قصره عليهما.

ولأجل هذه صار قوله: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عامًا وإن كان سبب ورودها سرقة المجن أو رداء صفوان بن أمية. وصار قوله: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} عامًا في حكم الظهار وإن كان سببه ظهار سلمة بن صخر.

وصار قوله {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام في كل ملاعن ورامٍ لزوجته ونافٍ لولد وإن كان سببه رمي هلال بن أمية زوجته بالفاحشة. وصار قوله {والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} عامًا في جميع القذفة إذا لم

يأتوا بالشهود، وإن كان سببه رمي أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها في قصة الإفك وصفوان بن المعطل الذكواني. وصار قوله: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" عامًا في كل محصن وإن كان سببه إقرار ماعز بن مالك بالزنا في أمثال هذا مما يطول تتبعه. وليس لأحد أن يقول إنما وجب تعميم هذا الخطاب الوارد في هذه الأحكام بدليل لولاه لوجب قصره على السبب إلا من حيث جاز لغيره أن يقول: بل إنما يقصر العام على السبب بدليل وموجب إطلاقه العموم. هذا على أنه لا يمكن القول بذلك مع القول بأنه عموم على الحقيقة مع الدليل على ذلك، وبالله التوفيق.

باب ذكر ما يتعلق به المخالفون في ذلك

باب ذكر ما يتعلق به المخالفون في ذلك وقد استدلوا على صحة قولهم بأشياء منها: إنه لما كان الحكم المتعلق بعينٍ مخصوصة يجب قصره عليها دون ما عداها، لأنه قد تكون المصلحة في التكليف تعلق الحكم بها فقط وجب مثل ذلك في قصر العام على السبب والسؤال الخاصين. يقال لهم: هذا باطل، لأن الحكم المتعلق بالعين الواحدة لا شيء يوجب تعديه إلى غيرها. والخطاب العام يقتضي لفظه تناول ما خرج عليه السؤال، وما له المسبب الخاص، وجميع ما عداهما بحق اللفظ. فكما لا يجب أن يكون اللفظ الوارد بحكم في عشرة أعيان مقصورًا على عين واحدة. فكذلك لا يجب قصر الخطاب العام على ما خرج عليه السؤال، لأنه لفظ يتناوله ويتناول ما عداه، وهذا واضح في الفرق بين الأمرين. ولو خرج الجواب متعلقًا بما وقع عنه السؤال فقط لقصرناه عليه لجواز تعلق المصلحة فقط، كما يصنع ذلك في العين الواحدة. وإذا ورد الحكم فيها بلفظ/ موضوع لها دون ما عداها، ولكن ليس الأمر في عموم اللفظ كذلك. فصل: فإن قالوا: إذا اعتبرتم اللفظ العام دون ما خرج عليه من السؤال والسبب الخاص. فما أنكرتم من جواز قيام دليل على تخصيص ما خرج

عليه السؤال وما له السبب الخاص، كما جاز تخصيص ما عداه. وكما أنه لو ورد مبتدأ غير جواب لجاز تخصيص نفس ما وقع عنه السؤال. وهذا منتفٍ على فساده، فوجب تخصيص العام وقصره على السبب والسؤال الخاصين. يقال لهم هذا باطل، لأنه إذا ورد مبتدأ يخص منه ما يقدر أن السؤال فأخرجنا منه نفس ما وقع منه السؤال لم يكن الكلام جوابًا ولا بيانًا عما وقع عنه السؤال. ولا يجوز أن لا يقع منه بيان ما يسئل عنه وحكم ماله السبب الذي خرج عليه الخطاب، فافترقت حال العموم إذا كان جوابًا ومبتدأ في جواز تخصيص كل شيء منه إذا كان مبتدأ به، وإحالة تخصيص ما وقع عنه السؤال إذا كان جوابًا. ومم يعتمد عليه - أيضًا - في إسقاط هذا السؤال إجماع الأمة على أنه لا يجوز تخصيص ما خرج عليه السؤال، وما ورد عليه من السبب الخاص. فوجب منع ذلك بالإجماع، وبطل ما قالوه. لأن من يقول إنه مقصور على السبب والسؤال الخاصين لقول هو بيان لحكمهما فقط دون ما عداهما. ونحن نقول لابد أن يكون بيانًا لهما وإن كان بيانًا لما عداهما، فالإجماع إذًا حاصل على أنه لا يجوز تخصيصهما. واعتمدوا - أيضًا - على ذلك أن قالوا: لولا وجوب قصر العام على السبب والسؤال الخاصين لم يكن لنقل الرواة لهما فائدة ولا وجهًا. ولكان ذكرهما بمثابة تركهما. وهذا باطل. فوجب أن يكون تكلف نقلهما إنما فائدته قصر العام عليهما.

يقل لهم: لم قلتم أنه لا فائدة فيه إلا ما ذكرتم؟ فإن قالوا: لأنه لا يمكنكم ذكر وجه غير ذلك. يقال لهم: وهذه دعوى نائية، وعندنا من ذلك مالا يجب علينا ذكره فدلوا أنتم على أنه لا فائدة لنقلهما إلا ما ادعيتم. ثم يقال من الفوائد في ذلك معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص، والاتساع في حكم الشريعة، وذلك لا يعلم بالاقتصار على نقل اللفظ. ومن أعظم الفوائد في ذلك أنه لو لم ينقل السؤال والسبب الخاص اللذين خرج الخطاب عليهما ونقل مجرد اللفظ لجاز لأهل الاجتهاد إخراج جنس ما وقع عنه السؤال وما له السبب الخاص الذي ورد الخطاب لبيان حكمه وحكم غيره من اللفظ العام، مع أنه لابد أن يكون مرادًا ومقصودًا بالحكم وإن أريد ثبوته في غيره. وإذا نقل السبب والسؤال امتنع التعرض بتخصيصهما وإخراجهما من حكم الخطاب باتفاق. وهذا من أعظم الفوائد/ في هذا الباب، وقد صنع أبو حنيفة مثل هذا بعينه في قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"

وزعموا أن الأمة لا تكون فراشًا. والخبر إنما ورد في الأمة، وفي وليدة زمعة. فذكر أن عبد الله بن زمعة قال: "هو أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه". وقال سعد: "هو ابن أخي عتبة بن أبي وقاص" فقال صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فجعل صلى الله عليه وسلم فراشًا. فحفظ النسب يمنع من هذا. وكذلك لو قال في السؤال عن ماء البحر: "الماء طهور لا ينجسه شيء" أو سؤال عما وقعت فيه النجاسة، وهو دون القلتين فنقل مجرد اللفظ العام دون السؤال لجاز أن يتسلط مجتهد بضرب من القياس إلى تنجيس ماء البحر وما دون القلتين إذا كان يحمل الخبث عنده، فيكون قد أخرج باجتهاده نفي ما قصد بيان الحكم فيه، وإن كان بيانًا لغيره أيضًا. وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه من أنه لا فائدة في نقل السبب والسؤال إلا ما ذكر. ويقال لمن اعتل بهذا ممن ينكر العمل بأخبار الآحاد، ومن ينكر العمل

بالمراسيل. ومن ترك قبول الزيادات في الأخبار، ويمنع العمل بدليل الخطاب، وقصر الخطاب على ما له شرط خاص. فولا وجوب العمل بخبر الواحد والمرسل والزيادة في الخبر، والمصير إلى دليل الخطاب، وقصر العام على ما له الشرط لم يكن لنقلهم أخبار الآحاد والمراسيل والزيادات في الأخبار وتعلق بالوصف والشرط الخاص وجهًا ولا معنى، فإن مر على ذلك ترك قوله. وإن قال: له فوائد غير وجوب العمل بذلك. قيل له: وما هي؟ وأجيب بمثل هذا عن فائدة نقل السؤال والسبب الخاصين. بل ما نقوله في ذلك أبين وأظهر وأعم فائدة. فبطل ما قالوه. فصل: علة لهم أخرى: قالوا: لولا وجوب قصر العام على السبب والسؤال الخاصين لم يكن لتأخير الحكم إلى حيث حدوث السبب والسؤال الذين خرج عليهما الخطاب معنى. فلما أخر إلى حين حدوثهما وجب قصر الحكم (عليهما). يقال لهم: لم قلتم: إنه لا فائدة لذلك إلا ما قلتم؟ فلا يجدون فيه متعلقًا. ثم يقال لهم: إن الله سبحانه لا يقدم التعبد بالحكم ولا يؤخره لعلة من العلل على ما بيناه في أصول الديانات فسقط ما قلتم. ويقال لهم - أيضًا -: ما أنكرتم أن تكون الفائدة في ذلك سبق العلم بأن التعبد عند حدوث السؤال والسبب الخاص هو اللطف والمصلحة في التكليف، وأنه لو تقدم التعبد عليهما أورده بعمد ورودهما أو مبتدئًا به لم

يطع أحد من المكلفين، ولكان تنفيرًا وفسادًا. ومثل هذا لا ينكر أحد اتفاقه في المعلوم. وإذا/ كان ذلك كذلك سقط ما قلتموه. ويقال لهم: هل أنتم في هذه الدعوى إلا بمثابة من قال إنه لما أخر الحكم في جلد الزاني ورجمه، وقطع السارق، وحكم اللعان والظهار إلى حين حدوث تلك الأشخاص في تلك الأوقات وجب أن يكون الحكم متعلقًا بتلك الأعيان فقط في تلك الأزمان دون ما عداها. فإن مروا على هذا فارقوا الأمة، وإن أبوا أبطلوا شبهتهم. واعتلوا لذلك - أيضًا - بأن أهل اللغة قالوا: إن الجواب متضمن للسؤال ومعلق به ومردود إليه، فوجب لذلك قصره عليه، وهذا صحيح في الجواب الناقص مثل نعم ولا، وهو حلال وحرام. ونحو ذلك من الأجوبة. فأما الجواب التام العام الذي يصح الابتداء به فليس من حقه قصره على السؤال. وقولهم: إنه مردود إلى السؤال ومعلق به، إنما معناه إنه يجب أن يكون فيه بيانه، فأما أن لا يثبت ويبين حكم غيره فباطل على ما قدمناه. واعتلوا لذلك - أيضًا - بأن قالوا: قد اتفق على وجوب قصر العام على قصد المتكلم ومراده به، متى علم ذلك من حاله، وأنه قاصد به إلى الخصوص دون العموم. فلذلك يجب قصره على السبب والسؤال الخاصين. وهذا في نهاية البعد، لأننا إنما قصرنا العام على قصد المتكلم إلى الخصوص للعلم بأن ذلك مراده. وإنما تكلم ليدلنا على قصده. وخروج الخطاب على السبب والسؤال الخاصين لا يعلم به قصد المجيب إلى

قصر لفظه على ما خرج عليه السؤال. ولو علمنا قصده إلى ذلك لقصرناه عليه، على ما بيناه من قبل، ولكن إذا لم يعلم ذلك، وكان الخطاب عامًا حملناه على موجبه ومقتضاه. وليس لهم أن يقولوا خروجه على سبب وسؤال خاص دليل على قصر الخطاب عليهما دون ما عداهما، لأن في نفس هذا وقع النزاع، فكيف يجعل دليلًا؟ وهذه جمل في هذا الباب كافية إن شاء الله.

باب الكلام في هل يجوز أن يسمع اللفظ العام الذي قد خص بدليل من لا يسمع تخصصه أم لا؟.

باب الكلام في هل يجوز أن يُسمع اللفظ العام الذي قد خُص بدليل من لا يسمع تخصصه أم لا؟. اختلف الناس في ذلك: فقال الجمهور من أهل العلم المثبتون للعموم إنه يجوز أن يسمع اللفظ العام الذي قد ورد خصوصه من لا يسمع الخصوص، وعليه البحث عن ذلك فإن وجده وإلا اعتقد عمومه. وقال قوم من المتكلمين، ومتأخرون من أهل العراق إنه لا يجوز أن يسمع الله عز وجل أحدًا من المكلفين العام المخصوص ولا يسمعه خصوصه فإنه لابد أن يسمعه إياهما أو يصرفه عن سماع العموم. إذا لم يسمع الخصوص. واتفق الكل على أنه إذا كان العموم مخصوصًا بدليل العقل جاز أن يسمعه من لم يتقدم له نظر في الدليل على تخصيصه، وأن دليل العقل المخصص له متقدم عليه، لأن العقل وقضيته متقدم على ورود السمع.

واتفق القائلون بجواز تأخير بيان العام على جواز سماع العام، وإن لم يسمع خصوصه، وإن كان التخصيص واردًا، لأن فقد سماعه/ للتخصيص بمنزلة تأخير بيان التخصيص. فقال: ابن سريج يجوز سماعه للفظ العام وإن كان مخصوصًا ببعض أدلة السمع، وإن لم يسمع تخصيصه، ولم يتقدم منه نظر فيما يخصه من جهة القياس. وأن عليه إذا سمع ذلك التصفح والبحث عن أدلة التخصيص. وتجويز أن يكون قد وردت معه أو بعد وروده. فإن وجد ما يجوزه من ذلك خصه، وإن فقده قضينا بعموم اللفظ - وهذا هو الذي نختاره. والذي يدل على ذلك اتفاق الكل على أن الله سبحانه قد خاطب بالعمومات المخصوصة بأدلة العقل المكلفين واسمعهم ذلك، وإن لم يتقدم من كثير منهم النظر فيها والعلم بها. ولذلك قال الله تعالى: {ومَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ} يريد بذلك أنه إنما يعلمه الطالب لمعناه الراسخ في العلم. فبين بذلك أنه قد يسمعه من ليس براسخ، ولا طالب، ولم يوجب على السامع العموم الذي لم يتقدم نظره فيما يخصه من أدلة العقل والإقدام على اعتقاد عمومه قبل نظره في أدلة العقل، بل أوجب عليه جواز إخراج دليل العقل لبعضه وجواز عدمه فألزمه النظر في ذلك والفحص عنه. وإذا كان ذلك كذلك صح - أيضًا - وجاز أن يسمعه العام الوارد في الأحكام الشرعية ولا يسمعه الخاص، ولا يوجب عليه اعتقاد عمومه والقطع على ذلك، بل يلزمه تجويز كونه مخصوصًا، والنظر هل في الشرع ما يخصه أم لا؟. فإن وجد ذلك خصه، وإن علم فقده قضى بعمومه.

فإن قالوا: الفرق بين الأمرين أنه قد أعلم المكلفين وجوب بناء السمع على أدلة العقل وحمله على موافقتها. قيل لهم: وكذلك فقد أعلم المكلفين بناء وجوب العام على الأدلة الموجبة لتخصيصه وأعلمهم جواز تخصيصه له، فوجب تساوي الأمرين. وهذه الدلالة بعينها هو جوابهم عن اعتلالهم لإحالة ذلك بأنه لو سمع العام ولم يسمع الخاص لوجب عليه اعتقاد العموم. وذلك إيجاب للجهل، وذلك محال. وعن اعتلالهم لذلك بأن لو جاز أن يسمع العام من لا يسمع تخصصه لجاز أن يسمع المنسوخ من لا يسمع ناسخه، لأننا نجوز الأمرين وعلى السامع لذلك النظر فيما يخصه، فإن وجده وإلا أوجب عمومه، وكذلك يجب عليه التمسك بحكم المنسوخ الذي سمعه وتجويز كونه منسوخًا. فإن كان قد تعبد بالعمل بالمنسوخ لزمه ذلك حتى يعلم الناسخ له، وإن سمعه يتلى وجوز أن يكون منسوخًا قد أزيل حكمه لم يجب عليه العمل به حتى يتصفح الأدلة. فإن وجد ناسخه لم يعمل به. وإن فقد ذلك علم ثبوت حكمه، وعليه البحث والنظر. وليس ما يدعونه من وجوب اعتقاد السمع لعموم اللفظ وثبوت الحكم المنسوخ بواجب، بل عليه اعتقاده ما وصفناه. فبطل تعلقهم بذلك. واستدلوا على ذلك - أيضًا - بأنه لو جاز ما قلناه لجاز أن يسمع الخطاب المستثنى منه من لا يسمع الاستثناء.

فيقال لهم: إن عنيتم بهذا أنه لورد/ الخطاب المستثنى منه شيء في قصد المتكلم به من لا يصل به الاستثناء، فذلك باطل، لأنه إذا فصله من الاستثناء فقد ألزم كونه عامًا إذا لم يكن فيه استثناء، ولا هناك دليل يقوم مقامه. وإن عنيتم به أنه قد يجوز أن يسمع المستثنى منه من لا يستتم سماع الكلام إلى آخره، ومن يصده عارض من علةٍ وغفلةٍ و (عائق) عن سماع ما يتصل به من الاستثناء، فذلك صحيح، وعلته إذا كانت الحال هذه أن يبحث عما لم يستتم سماعه وصده عارض عن استغراق سماعه أن يسأل ويبحث هل ورد معه استثناء أم لا؟ فإن علم ما استثني منه حكم به. وإن علم أنه عارٍ منه قطع على أنه لا استثناء ورد فيه، وجوز مع ذلك أن يكون في أدلة الألفاظ ووجوه الاجتهاد ما يخصصه، ويكون قائمًا مقامه لاستثناءٍ فيه المتصل به. فإن وجد ذلك حكم به، وإن فقده حكم حينئذٍ بعمومه. فسقط ما عولوا عليه. واستدلوا - أيضًا - على ذلك بأن سماع المخاطب العام، وإن لم يسمع الخاص ليس بحكمةٍ، لأنه بمنزلة خطاب العربي بالأعجمية. وهذا باطل، لأن الأعجمية لا يعلم العربي منها شيئًا. والعربي المخاطب بعام لم يسمع قرينته يعرف أنه خطاب عام. ويجوز أن يكون مخصوصًا بما يعرفه عند الطلب، وأن لا يكون كذلك، فافترق الأمران. فصل: فإن قيل: فلم قلتم إن الذي على سامع العموم اعتقاد جواز كونه عامًا عاريًا مما يخصه، وجواز كونه مقرنًا بما يخصه والنظر في ذلك.

قيل: لأنه لا يخلو أن يكون الواجب عليه اعتقاد العموم قطعًا أو اعتقاد الخصوص قطعًا، أو اعتقاد كونه خاصًا عامًا، أو اعتقاد كونه لا خاصًا ولا عامًا، أو اعتقاد كونه عامًا متجردًا. وجواز كونه مخصوصًا مقرنًا. فإذا بطلت الأربعة الأقسام. وقسمان منها متفق على فسادهما، وهو وجوب كونه عامًا خاصًا، أو لا عامًا ولا خاصًا. وقسمان منها قد أفسدناهما، وهو اعتقاد العموم مطلقًا، أو الخصوص، لأنه قد وضع في عقولنا جواز تجرده وجواز إقرانه، ولم نقف على ذلك إلا بالبحث والطلب فلم يبق وراء ذلك إلا ما قلناه. فصل: فإن قال قائل: وكم مدة الاجتهاد في البحث عن تجرده أو اقترانه بما يخصه؟. قيل: ليس لذلك حد مقدر. وإنما يجب على العالم أن يبحث وينظر حتى يعلم قطعًا أنه متجرد أو مقترن، أو يغلب ذلك على ظنه ويبذل في ذلك وسعه وجهده. فإذا فعل ذلك وجب عليه القضاء إما بتجرده إن علم ذلك أو ظنه أو مقترنًا. ومدة الطلب لذلك وحصول الظن له أو العلم به، يختلف بحسب اختلاف طباع العلماء وقرائحهم وذكائهم واستدراكهم وبطء بعضهم.

فطلب مهلة محدودة معينةٍ بعدي متعذر. وإنما الواجب ما قلناه. فإن قيل: فهل يجوز ورود المحتمل والمجمل من الخطاب الذي لم يتعين فرض تقديم العمل/ بالمراد به عاريًا مما يدل على المراد به. قيل: أجل، لأن تأخير بيان المجمل والمراد بالعام صحيح جائز على ما نبينه من بعد، فجاز لذلك ورود خبر يرد عاريًا من دليل المراد وتأخره إلى وقت الحاجة إلى تنفيذه.

باب القول في المطلق والمقيد

باب القول في المطلق والمقيد قد بينا فيما سلف أن التقييد للعام بالصفات يوجب قصره وحصره وأن كلما زيدت الشروط في تقييده كان ذلك أضيق في تخصيص العام. واعلموا أن التقيد للعام وما قصر عنه يكون بلفظ الاستثناء وبلفظ الشرط وبلفظ الصفة والنعت. وقد اتفق على أن ذلك أجمع مخصص للعام. وقد ذكرنا صورة هذه الألفاظ من قبل بما يغني عن رده. واعلموا أن التقييد بذلك أجمع يوجب تخصيص العام بلفظ الجمع المعرف والمنكر وغيره من الألفاظ وتخصيص العام الشائع في الجنس وتخصيص المجمل القاصر له عن استغراق الجنس، لأنه إذا قال: اقتلوا المشركين إذا كانوا وثنيين أو حربيين خص ذلك اللفظ العام. وإذا قال: اقتل مشركًا، وأعط فقيرًا كان ذلك عامًا شائعًا في الجنس، فإذا قال إذا كان أو إن كان المشرك حربيًا. وكان الفقير شريفًا تقيد بذلك ما كان شائعًا.

وكذلك إن قال: اضرب عشرة من الناس لكان ذلك شائعًا في كل عشرة. ولو قال: إذا كانوا مذنبين أو عجميين تقيدت الجملة بالصفة. ومن هذا قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ولو لم يقيدها بالإيمان لأجزأت كل رقبة، وقوله {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ولو لم يقيدهما بالتتابع لأجزأ متتابعًا ومتفرقًا في أمثال هذا مما يطول تتبعه. فصل: وقد اتفق أهل العلم على أن الحكم الواحد بعينه إذا أطلق في موضع وقيد في موضع كان الحكم لتقييده، ولم يعتبر بإطلاقه، نحو أن يقول في كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ويقول فيها في موضع آخر: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، لأن مطلق هذا هو مقيده لعينه. وكذلك حكم إطلاق الصيام في كفارة الظهار وتقييده بالتتابع في موضع آخر، وأمثال ذلك. واتفق الكل أيضًا على أن الحكم المقيد إذا كان غير المطلق ومتعلقًا بغير

سببه ومخالفًا لجنسه، فإن المطلق من ذلك على إطلاقه والمقيد على تقييده، وذلك نحو تقييد الشهادة بالعدالة في أنه لا يوجب/ تقييد الرقبة بالإيمان، وتقييد التتابع في الصيام، ولا خلاف في ذلك. واتفقوا - أيضًا - على أن المطلق من الحكم إذا كان من جنسه مطلق ومقيد فواجب حمله على إطلاقه، لأنه ليس بأن يُرد إلى المقيد من جنسه مقيد بالتتابع، وهو صيام الظهار، ومنه ما قد شرط فيه التفرق، وهو صيام المتمتع. وهذا النوع واقع بين مطلق ومقيد. واختلف الناس في الحكم المنفصل من التقييد إذا كان غير حكم آخر مقيد. وكان مع ذلك من جنسه إلا أنه متعلق بغير سببه هل يجب حمله على الإطلاق أو تقييده بتقييد ما هو من جنسه المتعلق بغير سببه.

فقال أهل العراق وكثير من أصحاب مالك والشافعي: إن المطلق من ذلك عن إطلاقه والمقيد على تقييده، إلا أن يدل القياس على تقييده فيلحق بالمقيد قياسًا، لا من ناحية وجوب حمل المطلق على المقيد لموضع التقييد. وقال بعض متقدمي أهل العراق ومتأخريهم إنه لا يجوز تقييد ما أطلقه القرآن والسنة بالقياس والاستدلال، لأن ذلك زعموا زيادة في حكم النص بقياس والنسخ لا يجوز بالقياس. وقد بينا نحن أن التقييد بالقياس وغيره نقصان لا زيادة. وقال كل من خالفهم يجوز تقييد المطلق بقياس، لأنه ليس بزيادة ولا نسخ. وقال كثير من أصحاب مالك والشافعي يجب تقييد المطلق بتقييد ما هو من جنسه المتعلق بغير سببه. واختلفوا فقال بعضهم إن ذلك واجب من جهة وضع اللغة ومعقول اللسان. وهذا خطأ لما نذكر من بعد. وقال آخرون منهم: بل يجب ذلك من جهة القياس إذا اقتصر حمله على حكم المقيد. وهذا صحيح على ما قالوه إن وجد قياس وشيء يقوم مقامه يوجب تقييده وإلحاقه بما ورد النطق بتقييده. وهذا نحو اختلافهم في إطلاق الرقبة في كفارة الظهار، وهل يجب تقييدها بالإيمان لأجل تقييدها به في كفارة القتل أم لا. والذي نقوله إن ذلك غير واجب من جهة اللغة وهما كفارتان متغايرتان ومتعلقتان بسببين مختلفين.

وكذلك القول في إطلاق اسم اليد في التيمم وتقييدها بذكر المرافق في الغسل، لأن حكم التيمم غير حكم الغسل إلا أن/ يدل على ذلك قياس من الجمع بينهما بأنهما طهارتان أو مستباح بهما الصلاة، أو كون التيمم بدلًا من الغسل، وأمثال ذلك. والذي يدل على صحة ما قلناه أن الحكم المطلق غير الحكم المقيد وإطلاق المطلق يقتضي نفي التقييد عنه، كما أن تقييد المقيد ينفي كونه مطلقًا. فلو وجب تقييد المطلق، لأن من جنسه ما هو مقيد لوجب إطلاق المقيد لأن من جنسه ما هو مطلق، ولا فصل بين الدعويين. فإن قالوا: قد أجمعوا على منع رد المقيد على المطلق وإطلاقه لأجله. قيل لهم هذا الإجماع هو الدليل على صحة ما قلناه وفساد ما قلتم، وإلا فكيف وجب رد المطلق على المقيد، ولم يجب رد المقيد إلى حكم المطلق إلا لأن للفظ كل واحد منهما حكم غير حكم الآخر. وإن قال قائل: حمل المطلق على المقيد يقتضي تخصيصه، وتخصص

العام جائز صحيح، وحمل المقيد على المطلق يوجب إبطال تقييده وفائدته، فاقترن الأمران. قيل له: وحمل المطلق على المقيد يبطل فائدة إطلاقه ونفي عمومه فيما فيه الصفة. وفيما ليس فيه، ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل وتقييد غير حكم المطلق المتعلق بغير سببه ليس بدليل على تخصصه أو تقييده، كما أن إطلاق المطلق ليس بدليل على إطلاق غيره المقيد. فبطل ما قلتم. ويدل على ذلك - أيضًا - أن المطلق والمقيد الواردين في حكمين متعلقين بسببين مختلفين بمنزلة حكم خاص وحكم عام في وجوب إمضاء كل واحد منهما على موجبه، لأنه لو قال في كفارة الظهار: فتحرير رقبة، أي الرقاب كانت من مؤمنة وكافرة وذكر وأنثى لوجب عموم ذلك في كل الرقاب. ولو قال في كفارة القتل فتحرير رقبة مؤمنة لتقيدت بالإيمان، ولم يجب حمل مطلق هذا على تقييد باتفاق. وإذا ثبت ذلك وكان إطلاق الرقبة باتفاق تفيد عمومها شائعًا في سائرها. وقوله: أي الرقاب كانت، وأي رقبة شئت وأمثاله. إنما هو تأكيد لقوله فتحرير رقبة، فوجب حمل المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده. فصل: ذكر ما يتعلق به المخالفون في ذلك. وقد تعلقوا في ذلك بأن موجب اللسان يقتضي حمل المطلق على المقيد، لأن أهله يكتفون بالتقييد للشيء عن تكرار تقييده وتقييد مثله اقتصارًا على ما ذكر منه/. قالوا: وعلى مثل هذا ورد قوله تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ} يريد بنقص من الأموال، ونقص من الأنفس، ونقص من الثمرات. فيدل على إعادة ذكر النقص إيجازًا واختصارًا.

ومنه قوله: {عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} يعني قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال. وقوله: {والذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذَّاكِرَاتِ} يعني والذاكرات لله. فحذف اختصارًا. ومنه قول الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضًا أريد الخير أيهما يليني أالخير الذي أنا ابتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني يعني أريد الخير أم الشر. فحذف ذكر إرادة الشر اجتزاءً بذكرها في الخير. وقال آخر: يا من يرى عارضًا يُسر به بين ذراعي وجبهة الأسد يريد بين ذراعي الأسد وبين جبهته وقال آخر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والأمر مختلف يعنى نحن راضون بما عندنا

قالوا: وعلى مثل هذا جاءت الآيات المُضمنة الأحكام. فقال في موضع: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} وأطلق الشهادة في موضع آخر، فتقيد المطلق منها بالمقيد وعقل ذلك المسلمون. وكذلك فقد عقلت الأمة تقييد آخر جميع المواريث بأن تكون بعد قضاء الدين، لأجل تقييد بعضها بذلك في موضع مخصوص، وذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ولم يقيد بذلك في قوله: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وقوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ} وأمثال ذلك، فوجب لأجل هذا أجمع حمل المطلق على المقيد الذي هو من جنسه. يقال لهم: ما قلتموه من هذا أجمع غير واجب. فأما تعلقهم بذكر الحذف والاختصار في كلامهم. فالفرق بينه وبين المطلق والمقيد أنه لو لم يحمل الثاني مما ذكر فيما وصفتم على معنى الأول ويُرد إليه ويُقدر الحذف فيه بطل الكلام وخرج عن أن يكون مفيدًا، وإن قدر فيه الابتداء به صار منقطعًا منبترًا وابتداءً لا خبر له، وإن قدر فيه معنى آخر غير الذي بدئ بذكره كان تعسفًا وتركًا لعادة الاستعمال لأننا متى لم نقدر الحذف في قوله: {والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ} وأنه أراد نقص من الأنفس والثمرات لم يكن الكلام مفيدًا، لأنه يتم عند قوله:

{ولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ} /. فإذا قال بعد ذلك. والأنفس والثمرات ولم يرد الابتلاء بالنقص منهما صار لذلك كلامًا مبتدءًا لا خبر له. وذلك باطل في الاستعمال. وكذلك متى لم يقدر في قوله: والذاكرات الله صار ذكرهن لغوًا لا فائدة فيه. وكذلك القول في جميع ما ذكروه من الآي والشعر. وذلك واضح عند التأويل، فصار ما ذكرناه ضرورة ملجئة إلى حمل ثواني ما ذكر من هذا ونحوه على أوائله ورده إليه وتقدير المحذوف فيه، وإن حذف اختصارًا وإيجازًا. وليست هذه حال المطلق والمقيد، لأن تقييد المقيد لا يلجئ إلى حمل المطلق عليه ولا يخرجه عن كونه مقيدًا إذا حمل على إطلاقه والمقيد على تقييده، وكل واحد منهما كلام تام منفصل عن صاحبه ومستقل بنفسه لا تعلق لأحدهما بالآخر، فبطل ما قالوه. فأما قوله: إن الأمة عقلت تقييد الشهادات بالعدالة بتقييدها في الأموال، وعقلت تقييد دفع جميع المواريث إلى أهلها بعد الوصية والدين بتقييد ذلك في بعضها. فإنه قول باطل. لأننا إنما نوجب تقييد ذلك في كل موضع بدليل قاطع من توقيف وإجماع وخبر واحد وقياس، وبعض ضروب أدلة الشرع. ولولا ذلك لما أجمعوا على رد المطلق إلى المقيد، وفي الأمة من لا يرى تقييد الشهادة في النكاح بالعدالة وإن كانت عنده واجبة، وإن كان من جنسها ما هو مقيد. وليس يجوز أن نظن بالأمة أنها قيدت المطلق من ذلك برده إلى المقيد، لأن ذلك إجماع منها على خطأ عظيم، وإن كنا لا ننكر أن يكون فيها مخطئ قد

توهم وجوز تقييد المطلق لكون ما هو من جنسه مقيدًا، لأن البعض منهم يجوز الخطأ عليه. وهو ممتنع في جميعهم، ولا يقطع أيضًا على ما لأجله قيدوا المطلق المتفق على تقييده. وقد يتفقون على تقييده بطرق مختلفة فدعواهم الإجماع في هذا بعيد جدًا. فصل: واستدلوا - أيضًا - على صحة قولهم بأن القرآن بأسره بمنزلة كلمة واحدة. فإذا قيد الحكم في موضع تقيد أمثاله في غيره، وإن تعلق بغير سببه، وهذا أبعد من الأول. فيقال لهم: لم قلتم هذا؟ والله سبحانه يقول: إنه كلمات وقصص وسير وأحكام وآداب وأمثال، وفيه نفل وفرض، وحلال وحرام وإباحة وحظر، وخاص وعام، ومطلق ومقيد، ومجمل ومفسر، وظاهر ومكنى، ونطق وفحوى، ولحن ودليل خطاب عند مثبتيه إلى غير ذلك من الأقسام التي بدأنا بذكرها. وكيف يكون هذا أجمع/ بمثابة كلمة واحدة. ثم يقال لهم: فلو قال لهم لأجل نتبين ما قلتم فيجب جعل المقيد مطلقًا، لأنه بمثابة المطلق، وجعل جميع العمومات مخصوصة لأن منه مخصوص، وجميع الأوامر على الندب، لأن منها ندب، وجميعها على الفور أو التراخي، لأن فيها كذلك، وجميعها ناسخ غير منسوخ، أو منسوخ غير ناسخ، لأن من أي القرآن كذلك هل كان في هذا إلا بمثابتكم، وإذا لم يجب هذا أجمع سقط ما قلتم. فإن زعموا أنهم أرادوا بذلك أن الحكم الواحد المتعلق بسبب واحد إذا أطلق تارة وقيد أخرى وجب القضاء بإطلاقه. قيل: هذا مسلم، فلم يجب ذلك إذا كانا حكمين متعلقين بسببين مختلفين، ولا شبهة لهم في ذلك.

فصل: فأما قول من قال من أصحاب أبي حنيفة إنه لا يجوز تقييد الرقبة في كفارة الظهار، وتقييد الصيام بالتتابع في موضع إطلاقه بالاستدلال والقياس، لأجل أن ذلك زيادة في حكم النص، وهذا نسخ، والنسخ لا يجوز بقياس واجتهاد، فإنه خطأ على ما نبينه في فصول القول في النسخ. وقد بينا أن تقييد المطلق نقصان. والزيادة على النص منها نسخ، ومنها ما ليس بنسخ، على ما سنشرحه من بعد إن شاء الله.

باب الكلام على القائلين بالخصوص

باب الكلام على القائلين بالخصوص اعلموا - رحمكم الله - أن هذا الفريق زعموا أن مطلق أسماء الجموع المعرفة والمنكرة إنما وضع لإفادة أقل الجمع، وهو الثلاثة على قول أكثرهم. قالوا: فإن أريد به ما زاد عليه ذلك فبدليل يقرن باللفظ. وكل دليل استدللنا به على إبطال القول بالعمومي من أن ذلك يحتاج إلى رواية تقطع العذر وتوجب العلم. وذلك متعذر من أن مطلق اللفظ يرد تارة يراد به والمراد به أقل الجمع، ويرد تارة لاستغراقه، وتارة يراد به ما بين استغراقه وأقله، فدعوى وضعه لبعض ذلك بمثابة دعوى وضعه لغيره. ومن أن الاستفهام عن الجمع وكم قدر المراد به ثلاثة أم الاستغراق، أم قدرًا بين العددين أوضح دليل على أنه غير موضوع لبعض ذلك دون بعض.

ومن أنه لو كان مجرده موضوعًا لإفادة الثلاثة فقط لكان ما دل على أن المراد به ما زاد عليها مصيرًا له مجازًا في الاستغراق، وكل عدد زائد على الثلاثة، لأنه يصرفه إلى غير ما وضع له مجرده، وذلك باطل باتفاق منا ومنهم ومن سائر أهل اللغة والمعاني، وقد أوضحنا في الدلالة وفساد القول بالعموم وجه الاستدلال بجميع هذه الأدلة، فأغنى ذلك عن الإطالة بإعادته. فصل: وقد اعتمدوا في أن المعقول من مطلق اسم الجمع أقله بأن ذلك متيقن كونه مرادًا باللفظ، وما زاد عليه فيجوز أن يراد به وأن لا يراد، وهو مشكوك فيه. فيقال لهم: لسنا نخالفكم في أن اسم الجمع إذا كان مستعملًا في حقيقته دون مجازه كان أقل الجمع منه متيقن/ القصد إليه، وهذا لا يوجب أن يكون مطلق اللفظ موضوعًا له فقط. وأن ما زاد عليه لا يصلح أن يكون مرادًا بمطلق اللفظ. وفي هذا الفصل بيننا وبينكم الخلاف، لأنكم تقولون إنه موضوع لإفادة الثلاثة فقد دون ما زاد عليها، ونحن نقول يصلح أن تراد وما زاد عليها، ويكون اللفظ مستعملًا فيها وفي الزايد عليها، وأنه إذا أريد ما زاد عليها كان حقيقة فيه وأنتم تزعمون أنه لا يعقل من مطلقة إلا أقل الجمع، ولا طريق لكم إلى ذلك، ولو وجب إذا كان يتيقن من إطلاق اسم الجمع الثلاثة التي هي أقله أن يكون اللفظ موضوعًا لهذا المتيقن دون ما عداه، فوجب أن يكون القول عشرة ومائة وكل عدد بين أقل الجمع وبين استغراقه موضوعًا للثلاثة التي هي أقل الجمع، لأن القائل إذا قال رأيت عشرة ومائة، فالثلاثة منهم متيقن القصد إليهم بالاسم، وإن لم يجب كون الاسم موضوعًا له، وكذلك اسم الجمع المطلق بغير تقدير يتيقن منه الثلاثة، ولا يجب كون الاسم موضوعًا له دون ما عداه.

وكذلك فإن هذه العلة توجب عليهم أن يكون القول ناس، والناس اسم للواحد دون الثلاثة، لأن دخول الواحد فيه والقصد إليه متيقن، كما أن القصد إلى الثلاثة متيقن، فكيف صار الاسم موضوعًا لبعض ما تيقن منه دون بعض؟ فبطل بذلك ما قالوه. ويقال للمعتل بهذا ممن لا يقول إن الأمر قد دخل فيه معنى الإباحة، وإن الإيجاب قد دخل فيه معنى الندب، وإن مطلق الأمر لا يعقل منه فعل دفعة واحدة، وأن التراخي قد دخل فيه معنى الفور. فيجب لأجل اعتلالك هذا أن تقول مطلق لفظ الأمر موضوع لإباحة الفعل وإطلاقه، لأن ذلك متيقن منه، والاقتضاء له أمر زائد على إباحته، وكذلك ما حمل الإيجاب على الندب إلى الفعل، لأن الندب إلى الواجب والدعاء إليه متيقن وكونه فرضًا زائدًا على الندب إليه. وكذلك إذا قال: اضرب وصل، فإن المرة الواحدة منه متيقن القصد إليه، وما زاد عليه مشكوك فيه، وإذا قال افعل ففعله عقيب الأمر متيقن إجزاؤه وتأخيره غير متيقن ومختلف فيه. فإن مر على هذا أجمع خلط وترك قوله. فإن أباه نقض اعتلاله. فيقال لهم: في استدلالكم هذا تخليط ظاهر، لأنكم تزعمون أن المعقول من مطلق اللفظ الثلاثة فقط. ثم تقولون ما زاد عليها مشكوك فيه، وهذا نقض لما أصلتم، لأنه إذا كان اللفظ مفيدًا للثلاثة فقط. فما عداها متيقن كونه غير مراد ولا داخل في الإطلاق. فكيف يجوز أن يكون مشكوكًا فيه، وأن تقولوا يجوز أن يراد ويجوز بأن لا/ يراد؟ وما يجوز أن يراد باللفظ هو الذي يستعمل حقيقة أو مجازًا فيه. وقد اتفق على أنه إن أريد به فوق الثلاثة لم يكن مجازًا، وما وضع لقدر من العدد لا يجوز ولا يصلح أن يراد

بمطلقه ما وضع له، ولهذا لم يجز أن يراد بذكر العشرة الماية والألف والأحد عشر، لأنه موضوع للعشرة فقط، دون ما عداه، فما زاد عليها متيقن كونه غير داخل في اللفظ. وكذلك القول مشركون والمشركون لو كان مفهومه ومعقوله الثلاثة فقط لتيقن خروج ما زاد عليه منه، ولو كان ذلك متيقنًا لما حسن أن يقول لمن قال رأيت الناس، كم رأيت منهم؟. فقولكم يجوز أن يراد به ما زاد على الثلاثة نقض لقولكم إنه موضوع للثلاثة، وكل هذا يدل على كونه مشتركًا بين الثلاثة وما زاد عليها من الأقدار إلى استغراق الجنس. فإن قالوا: إنما يحسن الاستفهام في قوله رأيت الناس لجواز أن يكون أراد به فوق الثلاث ويكون مجازًا فيهم. قيل لهم: هذا باطل باتفاق، لأنه حقيقة فيها، وفيما زاد عليها، على أن بإزاء هذه الدعوى قول أصحاب العموم إنه حقيقة لاستغراق الجنس، وإنما يجوز الاستفهام، لأنه قد يريد به المتكلم ما قصر عن الاستغراق من الثلاثة وما فوقها، ويكون مجازًا إذا استعمل فيما قصر عن الاستغراق، كما يكون مجازًا في الواحد إذا استعمل فيه. وهذا مع كونه خطأ أقرب من دعوى أصحاب الخصوص أنه مجاز في استغراق الجنس، وما زاد على الثلاثة من الأعداد، وليس تركب هذا منهم محصل لعلم هذا الباب. فبطل ما قالوه، وصح ما قلناه.

باب الكلام في أقل الجمع والخلاف في ذلك

باب الكلام في أقل الجمع والخلاف في ذلك قد بينا فيما سلف أن العموم هو الشمول، وذلك أصله، ويجب على ذلك أن يكون العموم المجموع تحت اللفظ وباللفظ هو الاثنان اللذان يشتمل اللفظ عليهما ويجمعهما، وليس معنى المجموع باللفظ، وفيه أنه موافٍ به ومنضم ومتقارب باللفظ الشامل له، لأنه قد يجمع باللفظ المجتمع في نفسه مع غيره والمنضم بعضه إلى بعض ويجمع به - أيضًا- في الذكر والخبر والأمر ما لا يجوز عليه الاجتماع والانضمام، نحو القديم سبحانه وصفاته والحوادث إذا ذكرت معه بلفظ يعمه وإياها. ونحو الأعراض التي لا يمكن فيها التقارب والانضمام، ونحو الجسم والعرض إذا جمعا في الذكر واجتماعهما محال. فبان بذلك أن الجمع من جهة القول ليس من معنى اجتماع المنضمين المتجاورين في شيء وإنما المراد به أنهما مجتمعان في الذكر. وقد اختلف الناس في أقل الجمع الداخل تحت اللفظ من الصحابة رضوان الله عليهم. فقال عثمان بن عفان وزيد بن ثابت: "إن أقل الجمع اثنان"، وبه قال

جلة من الفقهاء منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله/ وعليه كثير من أهل اللغة. وقال عبد الله بن عباس وأبو حنيفة والشافعين وكثير من أهل اللغة إن أقل الجمع ثلاثة، وأول ما يجب أن يقال في هذا إن غرض الخلاف في ذلك ليس هو أن الاثنين ليسا بمجموعتين يجب لفظ يعمهما، لأن هذا ليس بقولٍ لأحد، وإنما الغرض منه أنه إذا قيل ناس ورجال، وتصدق على مساكين، وثلث مالي للمساكين أو الفقراء ومساكين هل يقع هذا الجمع على الاثنين حقيقة، وما زاد عليهما أم لا يقع إلا على ما زاد على الاثنين. وإن استعمل فيهما فعلى وجه المجاز.

والذي نختاره في ذلك أن مطلق اسم الجمع يقع على الاثنين، وما زاد عليهما حقيقة وإن أقل الجمع اثنان. والذي يدل على ذلك أشياء أحدها إجماع أهل اللغة وغيرهم على صحة إجراء اسم الجمع وكناياته على الاثنين كإطلاقه على الثلاثة وما فوقها، وقولهم فعلتم ويفعلون. ولا خلاف في ذلك. وقد ورد به القرآن ومنثور كلام العرب ومنظومه. قال الله سبحانه في قصة موسى وهارون عليهما السلام: {إنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} وإنما هما اثنان. وقال تعالى في قصة يعقوب عليه السلام: {عَسَى اللَّهُ أَن يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} وإنما هما يوسف وأخوه: وقوله بهم كناية عن الجمع. وقال تعالى: {إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وإنما هما قلبان، وقوله: قلوبكما اسم الجمع. وقال تعالى: {ودَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}، وإنما هما إثنان. وقوله لحكمهم كناية عن الجمع. ولو قال لحكمهما لجاز. وقال تعالى: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقوله: اقتتلوا اسم الجمع. ثم قال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، وذلك لفظ التثنية، ثم قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، ثم قال: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} بلفظ الجمع.

وقال تعالى: {وهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ (21) إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} وإنما كانا داود وسليمان عليهما السلام وملكين من الملائكة، وقوله: تسوروا لفظ جمع. وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم "أنه أمر يستر ظهور القدمين"، وإنما هما ظهران. وإذا كان ذلك كذلك وكان الاستعمال له قد جرى في الاثنين، كما جرى في الاثنين، كما جرى على ما زاد عليهما وجب كونه حقيقة فيهما، فمن ادعى (كونه مجازًا فيما استعمل فيه) عليه إقامة الحجة برواية قاطعة عنهم أو حجة عقل/ تحيل إجراء اسم الجمع على الاثنين وأني لهم بذلك، فثبت ما قلناه. وقد تطلبوا لكل شيء مما تلوناه تأويلًا يوجب حمل ذلك على ما زاد على الاثنين. فقالوا: أراد بقوله: {إنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ} موسى وهارون وفرعون وقومه وهم جماعة. قالوا: وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فلا حجة فيه، لأنه باب ذكر فيه أهل اللغة أن ما في الإنسان من الجوارح زوج وما فيه منها فرد.

وقوله: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يراد به اقطعوا يد كل أحد منهما. قالوا: وقوله {عَسَى اللَّهُ أَن يَاتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} إنما أراد به يوسف وأخاه والأخ الأكبر المتخلف عن العود إليه. وقوله: {وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فإنما المراد به حكمهما وحكم من حكما عليه ممن حضرهما. وقوله: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فإنما قال ذلك، لأن الطائفتين جماعتين، وهم جمع على الحقيقة، فإذا ذكروا بذكر الطائفتين عُبر عنهما بلفظ الاثنين. فيقال لهم: جميع ما قلتموه في هذه الآيات من التخريج تعسف وترك لموجب الظاهر، لأن ظاهر الكلام أن لا ثالث مع كل اثنين ذكرا في هذه الآيات، فإدخالكم في الظاهر ما لم يذكر فيه مطرح، لأنه لا توقيف عن أهل اللغة على أن الاثنين لا يجري عليهما اسم الجمع حقيقة، وإنما يجري مجازًا فيلجئ توقيفهم على ذلك إلى بطلان التأويلات التي تعسفتموها، ولا حجة للعقل تحيل إجراء اسم الجمع في أصل الوضع على الاثنين لجريانه على ما زاد عليهما، وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قلتموه. وما قلتموه في قوله: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ}، وأن الطائفتين جماعتان باطل من وجهين: أحدهما دعواكم أن الطائفة لا تكون إلا جماعة، وليس الأمر كذلك، لأن الواحد من كل شيء طائفة منه. ولهذا استدل كثير من الناس على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} قال: والواحد من الفرقة طائفة.

والوجه الآخر أن في الآية ما يوجب أنه أراد بذكر الطائفة الواحد، لأنه قال {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} والجماعة من الناس لا يقال: إنها أخوان، ولا يقال في الفرقة من الناس التي هي جماعة أنها أخ لجماعة أخرى أو لواحد. فإن قيل: فقد قلتم إن الاثنين جمع فقط، فلم لا يجري على كل جمع اسم الاثنين، لأنه اسم جمع. قيل لهم: إنما يجري على الاثنين اسم الجمع المشترك بين الاثنين وما زاد عليهما ولا يجري على الثلاثة، وكل جمع زائد/ على الاثنين اسم الجمع المفيد للاثنين فقط. كما لا يجري على كل جمع اسم الثلاثة والعشرة، وإن كانا اسم جمع، لأنه جمع مخصوص، فكذلك القول رجلان وطائفتان اسم جمع، غير أنه ليس بمشترك في كل جمع، فبطل ما قلتم. فأما رومكم الانفصال في قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، فإن أهل اللغة ذكروا ما في الإنسان من الجوارح زوج وما فيه فرد فلا تعلق فيه، لأنهم متفقون على أن القلب فرد في الإنسان وليس بزوج، كما أن الرأس فرد فيه. فساغ أن يقال أيديهما لأنها أربعة أيدي في الاثنين، ولم يسغ أن يقول فاقطعوا رؤوسهما، لأنه ليس لهما إلا رأسان، فكذلك إذا لم يكن لهما إلا قلبان وكان الاثنان لا يجري عليهما عندهم اسم الجمع لم يسغ أن يقال فقد صغت قلوبكما، بل يجب أن يقال فقد صغت قلباكما. وهذا لا مخرج منه. ومما يدل - أيضًا - على أن الاثنين جمع على الحقيقة إجماع أهل اللغة على أن القول قمنا وفعلنا وفعلوا وقالوا من كنايات الجمع وأسمائه، وأن الثلاثة وما فوقها مستعمل ذلك فيه، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الاثنان يخبران عن أنفسهما بما يخبر به الجماعة عن أنفسها فيه، ولأن فعلنا وقلنا وقمنا حسب ما تقوله الثلاثة وما فوقها وجب لذلك كون الاثنين جمعًا على الحقيقة.

فإن قالوا: فيجب على هذا كون الواحد جمعًا، لأن الواحد قد يقول فعلنا وقلنا، وقد قال الله سبحانه: {والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} و {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} وقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وبِدَارِهِ الأَرْضَ}، {ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقال: {فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ} إلى أمثال ذلك. يقال لهم: نحن لم ننكر أن تستعمل بعض الألفاظ عل طريق النقل والمجاز. وقد علمنا ضرورة من توقيف أهل اللغة أن الواحد ليس بجمع، وأنه إنما يجري عليه اسم الجمع مجازًا، وليس مثل هذه الضرورة التوقيف في نفي كون الاثنين جمعًا، فسقط ما قالوه. فليس يمكن أحد أن يقول استعمال قلنا وفعلنا في الاثنين مجاز، وفيما زاد عليهما حقيقة، لأنه من ألفاظ الجمع للاتفاق على أنه لفظ جارٍ على الاثنين حقيقة، كم يجري على ما زاد عليهما، وبمثابة قولنا "الناس" الجاري على كل جمع من الجموع زاد أو نقص، وليس بموضوع لقدر منه مخصوص. فصل: وقد استدلوا على أن الاثنين ليستا بجمع بأن أهل اللغة قالوا: إن الأسماء على ثلاثة أضرب توحيد وتثنية وجمع. فالتوحيد قولك رجل وزيد والتثنية قولك زيدان ورجلان. والجمع قولك زيدون ورجال، فيجب أن تكون التثنية ليست بجمع، كما أن الموحد ليس بجمع.

فيقال لهم: إنهم لم يقولوا إن الاثنين ليستا بجمع على الإطلاق، وإنما أرادوا أن القول رجلان ليس باسم جمع يشترك فيه الاثنان وما فوقهما، بل هو جمع بمنزلة الاثنين/ مما زاد عليهما، وهو جمع مخصوص ومفيد لقدر 483 من الجموع مخصوص. وهذا كما قالوا إن القول رجال وناس اسم جمع، والقول مائة وعشرة مفيد لقدر من العدد وإن كان مع ذلك اسم جمع. وجملة ذلك أنهم قصدوا بقولهم هذا أن القول رجال جمع مشترك بين الاثنين وما فوقهما، ورجلان جمع مخصوص. فصل: واستدلوا- أيضاً- على ذلك بأن صورة القول رجلان مخالف لصورة القول رجال، والأسماء إذا اختلفت صورها اختلفت معانيها. فإذا كان القول رجال مفيداً لجمع لم يفده قولنا رجلان. وهذا باطل، لأننا قد قلنا إن القول رجلان يفيد جمعاً مقدراً مخصوصاً، ورجال جمع مشترك فقد اختلفت الفائدتان، ولأن هذا اعتلال يوجب أن يكون القول عشرة ومائة ليس بجمع، لأنه مخالف لصورة القول رجال، فإن لم يجب هذا لم يجب ما قالوه. على أننا قد بينا في صدر الكتاب أن الأسماء قد تختلف صورها وتفيد معنى واحداً وإن اختلفت (صورها) فسقط ما قالوه. قالوا: ويدل على ذلك أن السابق إلى فهم كل واحد من قول القائل ناس ورجال وفقراء الثلاثة وما زاد عليهما دون الاثنين. فصار الاسم مختصاً بما زاد عليهما. وهذا باطل، لأن فيه الخلاف. وليس السابق ذلك إلى فهم السامع، بل هو مشترك، كما بين الاثنين وما فوقهما.

فصل: واستدلوا -أيضاً- على ذلك بأنه لا يحسن أن يقال رأيت اثنين رجالاً، كما يقال: رأيت ثلاثة رجال، وليس ذلك إلا لأن القول رجال اسم الجمع والاثنين ليسا بجمع، وهذا باطل من وجهين: أحدهما: إن الاثنين وإن كانا جمعاً فإنهم لم يستعملوا رأيت اثنين رجالاً، ولا يجب أن يتعد استعمالهم. ولو قالوا ذلك لقلناه. والوجه الآخر: إن القول اثنين يفيد جمعاً مخصوصاً مقدراً. والقول رجال جمع مشترك بين الاثنين وما زاد عليهما، فلم يستحسنوا تعقيب اسم الجمع المقدر المفسر باسم جمع مبهم ومحتمل، وحسن أن يقولوا رأيت اثنين رجلين وفرسين، لأنه يفيد التقدير، كما يفيده الاثنين، وهذا مسلم على ما استعملوه، فسقط ما قالوه.

باب الكلام في دليل الخطاب

باب الكلام في دليل الخطاب أما مفهوم الخطاب ولحنه وفحواه فمتفق على صحته ووجوب القول به وقد ذكرنا منه طرفاً في صدر الكتاب، وهو نحو قوله: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ} {ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}، وأمثال ذلك. فأما دليل الخطاب عند مثبتيه فهو تعلق الحكم بأحد وصفي الشيء، فيصير إثبات الحكم فيما له الصفة دليلاً ينبه عما خالفه فيها، وذلك نحو قوله: {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} و {إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} وقوله عليه السلام 484: "في سائمة الغنم زكاة "وأمثاله مما يكثر تتبعه. فهذا يوجب ثبوت الحكم فيما فيه الصفة ونفيه عما خالفه عندهم.

وقد اختلف الناس في ذلك: فقال الجمهور من الفقهاء بثبوت القول به وأشهرهم به الشافعي رحمه الله وأصحابه، وعليه الأكثرون من أصحاب مالك وأهل الظاهر. وقال شيخنا أبو الحسن- رحمة الله عليه- في الاحتجاج للعمل بخبر الواحد بقول تعالى: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قال: فدل ذلك على أن العدل بخلافه. واحتج- أيضاً- بوجوب رؤية المؤمنين الله عز وجل في المعاد بقوله تعالى: {كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} قال: فدل تخصيص الكفار بالحجاب على رؤية المؤمنين له. وقال أهل العراق وكثير من أصحاب مالك وغيرهم من المتكلمين والفقهاء بإبطال دليل الخطاب، وبه قال أبو العباس بن سريج وحذاق أصحاب الشافعي من أتباعه. وهذا هو الصحيح وبه نقول.

وتجاوز بعض أصحاب الشافعي ذلك بأن تعليق الحكم بالأعيان وأسماء الأعلام المحضة تدل على نفيه عمن عدا العين، وقالوا بذلك في تعليق الحكم بالعدد والغاية وفي تعلقه بالشرط. وقد قال بدليله إذا علق بغاية وشرط بعض منكري دليل الخطاب إذا علق بالصفة. ونحن نفصل القول في ذلك إن شاء الله. والذي يدل على فساد القول بذلك أشياء: أحدها: إنه لو كان ذلك كذلك لم يثبت القول به إلا لغة وتوفيقاً، وما يقوم

مقامه من استقراء لكلامهم يعلم به قصدهم اضطراراً، ولو كان عنهم في ذلك توقيف لكان لا يخلو أن يكون متواتراً معلوماً صحته ضرورة أو بدليل، أو من أخبار الآحاد التي لا يعلم صحتها، ومحال أن يكون فيه تواتر من الأخبار مع جحد أكثر الناس لذلك. وكذلك فلا خبر فيه دل دليل من الأدلة التي قدمنا ذكرها في غير بابٍ على صحتها صحة الأخبار وإن كان المخبر عنهم بذلك مخبراً عن الآحاد. وقد بينا بغير وجه سلف فساد إثبات لغة يقطع بها على الله عز وجل، ويحمل عليها كتابه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحكام دينه المعلومة بأخبار الآحاد، على ما بيناه قبل هذا بما يغني عن إعادته. وإذا لم يثبت في ذلك رواية وتوقيف على معاني الكلام في لغتهم سقط ما قالوه. فإن قيل: ما معنى قولكم او ما يقوم مقام التواتر بتوقيفهم مما يعلم قصدهم به عند استقراء كلامهم. قيل: ومثل علمنا بأن مرادهم بقوله ضروب وقتول وأمثاله مراد به تكثير المضاف إلى المذكور من القتل والضرب. وقيل: تكثير الفعل. وما 484 قلناه/ أولى. ومثل قولم أعلم وعليم، وأقدر وقدير، وأجسم وجسيم، لأننا بالضرورة نعلم أن قصدهم بقوله أجسم وجسيم، وأقدر وقدير المبالغة والتفضيل في الصفة. وقد قالوا لنا: إن معنى المبالغة في الاسم مأخوذة من معنى الاسم فعلم أن القول قاتل وضارب وجسيم مفيد للضرب والقتل والتأليف.

فإن قيل: فأنتم إذا قلتم أن تعلق الحكم بالصفة لا يدل على المخالفة احتجتم في ذلك إلى رواية عنهم. قيل له: لا نحتاج إلى رواية فيما لم يضعوه، لأن ذلك فيما لا نهاية له، وإنما نحتاج إلى نقل ما وضعوه له، وقد مر بيان هذا من قبل بما يغني عن إعادته. ومما يدل على ذلك- أيضاً- حسن الاستفهام لمن قال إذا ضربك زيد عامداً فاضربه، وأن يقال له: فإن ضربني خاطئاً أضربه أم لا؟ وكذلك إذا قال لا تقتل ولدك خشية إملاق، وزك السائمة من ماشيتك وأن يقال له: أفأقتله إن لم أخش إملاق وأزكى المعلوفة- أيضاً- أم لا؟ وكذلك لو قال: إذا قتلت الصيد عامداً فعليك الجزاء حسن أن يقول فما الحكم إن قتلته خطأ؟ وقد بينا فيما سلف أن حسن الاستفهام عن الشيء دليل على صلاح تناول الخطاب له في حقيقة أو مجاز، وأن دعوى كون المستفهم عنه متجوز به يحتاج إلى برهان وتوقيف متعذر، فثبت أن ما عدا ماله الصفة موقوف لجواز الاستفهام عن حاله. ويدل على ذلك- أيضاً- أننا نجدهم يعلقون الحكم بالصفة تارة، ويكون حكمهم فيما خالف تلك الصفة كحكمهم فيما يعلقونه تارة بالصفة، ويكون حكم ذلك مخالفاً لنفي الحكم عنه. فثبت بذلك أن ذلك مفيد لثبوت الحكم فيما له الصفة بنصه وخلافه فيها بوقوف حكمه يجوز مساواته له فيه ويجوز انتفاؤه عنه.

فإن قالوا: إذا كان ما خالف ذا الصفة مساوياً لحكمٍ كان الخطاب مستعملاً على جهة التجوز والاتساع. قيل لهم: انفصلوا ممن قال وإذا انتفي الحكم عمن خالف ذا الصفة، فذلك مجاز واتساع. وإلا فموضوعه مساواة المختلفين في الصفة في الحكم، ولا فرق في ذلك. ومما يدل على أن تعليق الحكم بالصفة لا يدل على المخالفة أن تعليقه بها بمثابة الخبر عن ذي الصفة ببعض الأفعال. وقد اتفق على أنه إذا قيل قام أو انطلق أو خرج الأسود لم يدل على نفي ذلك عن الأبيض. وكذلك قوله اضرب الأسود أو السودان لا يدل على نفي الضرب عن البيضان. فإن قالوا: نحن نسوى بين الأمرين، فنقول ذلك في الخبر والأمر. قيل لهم: فانفصلوا من قول من قال إن تعليق الحكم والخبر بالاسم العلم يدل على نفيه عمن ليس الاسم له حتى إذا قيل ركب زيد أو قام أو 486 صلى لوجب نفي ذلك عن كل أحد غير زيد، وهذا بعد/ وخطأ ظاهر ممن بلغه. ونحن نتكلم على قائله من بعد. ومما يدل على ذلك-أيضاً- اتفاق الكل من أهل اللغة والمعاني على أن الغرض بوضع أسماء الأعلام والأسماء التي هي النعوت والصفات تمييز من له الاسم ممن ليس له سواء كان مفيداً صفة فيه، كالقول قائم وضارب، أو علم كالقول زيد وعمرو، وأنهم إذا علقوا الحكم بالاسم فقصدهم إثبات الحكم له، فلو دل تعليقه بالاسم الصفة على المخالفة لدل تعليقه بالعلم واللقب المحض على ذلك. وفي العلم بفساد ذلك دليل على ما قلناه.

فإن قالوا: هذا قياس منكم لبعض الأسماء على بعض، واللغة عندكم لا تقاس. يقال لهم ليس الأمر كذلك، لأننا روينا عن أهل اللغة أن الغرض بوضع الأسماء تميز المسميات. وأن تعليق الحكم بالاسم يفيد إثباته لمن هو له كالاسم العلم يفيد نفيه عمن ليس له، فكما يحتاج مدعي ذلك إلى توقيف منهم، فكذلك دعواكم، وأني لكم به. وأما من يرى القياس في الأسماء فليس يمتنع عنده قياس النعوت والصفات في هذا الباب على الألقاب. فزال ما قلتم. فإن قال قائل فقد ركب قوم منهم وجوب دلالة تعليق الحكم باللقب على المخالفة، فما المبطل لذلك من قولهم. قيل لهم: إن الواجب عندنا أن لا نناظر قائل ذلك، لأننا نعلم بضرورة من مقاصد أهل اللغة إنهم لم يضعوا قولهم رأيت زيداً إنهم لم يروا ثوبه ولا شيئاً غيره يواريه، وإنما رأوه مجرداً، وقولهم زيد عالم للدلالة على أن الله سبحانه وملائكته وأنبياءه وجميع من عداه من الإنس وغيرهم ليس بعالم، وقولهم محمد نبي، وأن كل غير له من إبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل ليس بنبي، وقولهم عمر عدل رضي للدلالة على أنه كذلك، وإن كل من عداه غير عدل ولا رضي مما يعلم أنه غير موضوع في

لغتهم ضرورة، فلا يحسن مناظرة من ركب لنصرة دليل الخطاب. ومما يزيد ذلك كشفاً ووضوحاً اتفاق أهل اللغة على أن في لغتهم خبر عن مخبر واحد متعلق بمن له الاسم، ذا مالا يختلفون فيه، كما لا يختلفون في أن في لغتهم خبراً عن مخبرين وأكثر. وإذا كان ذلك كذلك لم يجز قولهم رأيت زيداً أو قام زيد خبراً عن قيامه، وعن انتقاء القيام عن غيره، لأن ذلك يوجب كونه أبداً خبر عن مخبرين. أحدهما إثبات أمر والآخر انتفاء غيره. وكذلك قولهم رأيت الطريق، وقام الطويل إن كان خبراً عن إثبات 487 الحكم/ عمن قضى عليه وعن نفيه عن غيره، فليس في اللغة خبر عن مخبر واحد مثبت ولا منتفي. وإذا كانوا مطبقين على بطلان ذلك ثبت أن الخبر عن قيام زيد وانطلاقه ورؤيته ليس بخبر عن نفي ذلك عن غيره. وقد قيل: لو كان الخبر عن قيام زيد خبراً عن نفيه عن غيره لكان القول بأن زيداً قد قام وعمرو، أو زيد وغيره مناقضة لا محالة، لأن الخبر عن قيامه ينفي القيام عن غيره، فإذا ضم إليه ما يثبت ذلك كان نقضاً ظاهراً. ولما لم يعد ذلك أحد نقضاً بطل ما قالوه. وهذه الدلالة إذا صحت فهي- أيضاً- دلالة على فساد دعوى دلالة تعليق الحكم بالصفة على نفيه عمن ليست له، لأنه كان يجب أن يكون قوله في سائمة الغنم زكاة، وفي المعلوفة نقضاً، وكذلك قوله في الغنم زكاة وفي الخيل والإبل، وإذا لم يكن ذلك نقضاً بطل ما قالوه. فصل: ذكر ما تعلقوا به في أن تعليق الحكم بالصفة دال على المخالفة. وقد استدلوا على ذلك بأمور نخن ذاكرون لها ومعترضون عليها:

فمنها: أن قالوا: إن ذلك موضوع لغة العرب، وأن الشافعي إذا قاله عن العرب ثبتت لغة لهم. وأن أبا عبيد" قال بذلك في قوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته، وأن دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه". وفي قوله عليه السلام: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً لأنه قيل له إنما إريد بذلك الهجاء من الشعر وسب الناس

أو ما هجي به الرسول عليه السلام. فقال: لو كان ذلك هو المراد لكان لا معنى لتعليق ذلك، وتعليق التحذير منه والنهي عنه بامتلاء الجوف، لأن قليل الهجاء ككثيرة، يعني بذلك إن ما دون ملأ الجوف لا يلحق الذم به. ففهم أبو عبيد من تعليق الذم عليه بامتلاء الجوف عليه أن ما دون ذلك بخلافه وأن قليل الهجاء وكثيره هو مراد به، وقول أبي عبيد حجة في هذا الباب. فصل: واستدلوا على ذلك بأي من القرآن وأخبار عن الرسول والصحابة فمنها: قوله: "لأزيدن علي السبعين" لما قيل له (إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)، فعقل أن ما زاد علي السبعين بخلافها. ومنها: قول ابن عباس في امتناعه من حجب الأم عن الثلث إلى السدس، وأن ما دون الثلاث وأقل الجمع لا يحجب الأم. فعقل أن ما دون أقل الجمع بخلافه حكمه في الحجب به.

ويقول الصحابة إن قوله: "الماء من الماء" منسوخ بقوله "إذا التقى الختانان وجب الغسل" ونصه باتفاق غير منسوخ، وإنما نسخ دليله، وهو أن لا ماء من غير ماء. وبقول يعلى بن أمية لعمر: كيف نقصر الصلاة وقد أمنا ويقوله عجبت مما عجبت/ منهم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" فعقلا من إطلاق قصر الصلاة عند الخوف وجوب الإتمام عند للأمن وكونه بخلاف حكم الخوف.

وقالوا - أيضاً - قد قال ابن عباس: إن الربا لا يكون إلا في النسيئة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" فعقل أن البيع نقلا لا ربا فيه، وأنه بخلاف حكم النسيئة. فصل: فاستدلوا - أيضاً- على أن تعليق الحكم بالشرط دال على أن ما عداهما بخلافهما. ويجب تجنب العمل بما يكون قد جاء في سائر ما ذكروه. فأما تعلقهم بأن الشافعي قال ذلك، وأنه موجب لغة العرب وأبو عبيد، فإنه لا تعلق فيه من وجوه: أحدها: إنه لم يثبت عنهما أنهما رويا عن العرب، وإنما قالا إن ذلك موجب اللغة، وقد يظنان أن ذلك موجب اللغة، وإن لم يكن الأمر كذلك يكون اجتهادهما المؤدي لهما إلى القول بذلك ليس بصحيح، وهما غير معصومين من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالعرب ما ليس كما ظناه. وقد قال الشافعي وأبو عبيد لو لم يكن الواجد بخلاف حكم من ليس بواجد، وحكم السائمة بخلاف حكم العاملة. ولو لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" "ولي الواجد يحل عرضه وعقوبته"، فائدة لبطل معنى التخصيص،

فهذا اجتهاد منهما واستدلال ليس بصحيح لما نذكره من بعد. والوجه الآخر: إنهما لو رويا ذلك عن للعرب لم يحصل العلم بروايتهما له عنها، لأنها رواية الواحد، ومن جرى مجراه، ولا دليل يدل على ثبوتها. وقد بنا من قبل أن اللغة لا يثبت للعلم بها يمثل هذه الرواية وإن استعمل مثلها فيما يتعلق بالآداب ومعاني الشعر والحكايات، وبينا هذا بما يغني عن إعادته. والوجه الآخر: إنهما إذا أرويا ذلك وقال خلق من أهل اللغة، وكل من لم يقل بدليل الخطاب إن ذلك ليس بلغة للعرب تكافأت الدعاوي وسقطت، وكانت مسألة خلاف عن العرب، فيحتاج كل مدع ما ليس منها إلى دليل على دعواه. وقد قيل إنه لا يجوز أن يقبل في إثبات لغة قول ذوي الآراء والروايات. لأنهم ربما قصدوا بذلك نصرة المذهب والقول وكل ذلك يوجب أنه لا حجة في مثل هذه الرواية في إثبات لغة يحمل عليها الكتاب والسنة ويمكن أن يكون أبو عبيد قد اعتقد سقوط عقوبة من ليس بواجد ولزومها للواجد من جهة العقل، لكون الواجد قادرا على دفع الحق مع إلطاطه وعجز المعدم عن ذلك. فأما المحكي عنه في قوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً، فيمكن أيضا أن يكون أبو عبيد إنما قال ذلك لاعتقاده أن قليل الشعر الذي هو هجو للنبي صلى الله عليه وسلم وسبه لأعراض/ الناس شر كلمة ومستحق

عليه الذم والعقاب فلا يكون لقوله: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا". معنى. وإذا قاله من هذه الجهة كان مستدلاً وغير حاك عن العرب، ولا قائل به من ناحية دليل الخطاب. وأما تعلقهم بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لأزيدن على السبعين" فلا تعلق فيه من وجوه: أحدهما: إن هذا الخبر من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها، فلا حجة فيه. ولا يبعد أن يقول الرسول ذلك، وهو أفصح العرب وأعلمهم بمعاني الكلام فقد علم أن قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) إنما خرج مخرج الإياس وقطع الطمع في الغفران لهم، وأنه بمنزلة قول القائل منهم اشفع لزيد أولا تشفع له، فلو شفعت له سبعين مرة لم تشفع فيه، ومثل هذا لا يجوز أن يخفي على الرسول صلى الله عليه وسلم، فبطل التعلق بهذه الرواية. وقد يجوز أن يشفع النبي عليه السلام شفاعات تزيد على السبعين مع العلم بأن الله سبحانه قد آيسه من قبول شفاعته لضرب من الاستصلاح والسياسة وتألف قلوب المنافقين والمنحرفين عنه، لأنه معلوم ميل القلوب وحبها لمن يشفع ويلح في السؤال في الصفح عن المسيء إليه فيوقع الشفاعة في المنافقين لهذا الضرب من التآلف والاستصلاح للحي منهم، لا لأنه يعتقد أن ما زاد على السبعين مخالفا لها، وأن الغفران واقع به لا محالة أو مجوز وقوعه به، فبطل ما قالوه.

وليس ما نتبع به القدرية في هذا الخبر تصحيح من أنه لو حلف المزيد على السبعين لوجب أن يزيد عليها وإلا صار عندهم كاذباً ونفروا عن طاعته ولو زاد عليها فأجيب بطل دينه وتوقيفه على أن جميع الكفار خالدين في النار، وإن لم يجب إلى ذلك لانحطت عند الأمة منزلته، وأدى ذلك إلى النفور عن طاعته. وذلك غير صفته، لأنه لا يمنع عندنا أن يقدم الرسول صلى الله عليه وسلم على مسألة الله سبحانه فيما يجوز إجابته إليه. ويجوز أن لا يجاب إليه، لأن ترك إجابته ليس بقادح في إعلام نبوته. وقد تكون المصلحة له ولمن سأل حاجة له أن لا يجاب إلى ذلك. وقد تكون المصلحة في إيقاع ما سأل فعله به أو بأنه لا يفعل إلا عند المسألة، ولو ابتدئ به من غير مسألة لصار مفسدة له أو لهم، فلو كان ترك إجابته تنفيراً عن طاعته لكان وقوع المعاصي الصغائر منه جائز عندهم، وجواز/ للسهو والغفلة عليه فيما عدا البلاغ عن الله مقتضيا لانحطاط قدره والنفور عن طاعته، لأن ذلك أعظم في النفوس من ترك إجابته في بعض ما سأل فيه، فبط لما قالوه. وقد يجوز أن يكون قال ذلك قبل توقيفه وتوقيف أمته على أنه لا يغفر لأحد من الكفار، لأن للعقل يجوز الغفران لهم، وإنما يمنع سمعاً: ثم نزل

قوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}، ولا تعلق فيما قالوه، بل القدح في التعلق بالرواية من حيث قلنا بدئا أولى. وشيء أخر: وهو إنه إذا كانت العقول تجوز الغفران لهم بما زاد على السبعين عقل عليه السلام جواز ذلك بقضية العقل لا بدليل الخطاب، وأن تعليق منع الغفران لهم بالسبعين يوجب وقوعه بما زاد عليها، فبطل ما قالوه. وعلى أنه لو كان إنما زاد على السبعين من ناحية دليل الخطاب لوجب أن يوجب الزيادة على السبعين وقوع الغفران لا محالة، لأنه منع وقوعها بالسبعين، فدليله أن ثبت القول بدليل الخطاب وجوب وقوعها بما زاد عليها لا جواز ذلك، وليس في الأمة قائل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاطعاً بوقوع الغفران لهم بما زاد على السبعين، وهو موجب دليل الخطاب، فبطلها قالوه. فإن قالوا: إذا جوز عليه السلام وقوع الغفران لهم بما زاد على السبعين وفي دليل الخطاب حقه، وإن لم يقطع عل ذلك. قيل: هذا خطأ، لأنه إنما علق بالسبعين عدم الغفران لا نفي جوازه، فدليل ذلك وقوعه بها زاد عليها، وليس ذلك بدين النبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد من الأمة فسقط ما قالوه. فأما تعلقهم يقول من روى عنه من الصحابة: "إن الماء من الماء" منسوخ، فإنه لا تعلق فيه من وجوه: أولها: إنه من أخبار الند التي لا يعلم صحتها بضعة أو دليل ولا حجة في مثل هذا فيما يوجب العلم، وإنما يقبل فيما يوجب العمل. ووجه آخر: وهو أنه لم يرو ذلك ثن كافة المهاجرين والأنصار، وإنما روي أن قائلاً قال: إن فلانا أو قوماً من الأنصار قالوا حين روت عائشة

رضوان الله عليها ما روت في وجوب الغسل من التقاء الختانين، وأنها فعلته ورسول صلى الله عليه وسلم واغتسلا. وقال قائل أو قائلون عند ذلك الماء من الماء منسوخ، ولا سبيل أبدا إلى العلم بأن جماعة المهاجرين والأنصار، قالوا ذلك ورضوا به واتفقوا عليه، وقول البعض لا حجة فيه. هذا إن كان قائل قاله من ناحية دليل الخطاب. وهذا -أيضا - مالا سبيل إليه، وإنما قال من قال ذلك ليبين بذكره غير دليل الخطاب. فبطل ما قالوه. والوجه الآخر: إنه يمكن أن يكون/ قول من قال منهم "الماء من الماء" منسوخ لاعتقاده العموم وأنه قد نسخ بعضه بعد استقراره، لأن القائل بالعموم منهم يقول إن قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" عام مستغرق. وبمثابة قول كل الاغتسال وجميعه وسائره إنما يجب بإنزال الماء، فلما استقر هذا الحكم. ثم روى لهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان وجب الغسل" اعتقد القائل أنه منسوخ إنه قد نسخ الحكم بأن جميع الاغتسال واجب بالماء، لأنه قد أوجب بعد ذلك بعض الماء من غير إنزال الماء فصار عنده نسخاً لبعض العام. وليس القول بهذا من دليل الخطاب في شيء. وشيء آخر: وهو أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ماء إلا من الماء" وفي هذا نفي وإثبات. فإثباته وجوب الاغتسال من الماء، ونفيه قوله: لا ماء إلا من الماء، فهو بمثابة قوله: "لا نكاح إلا بولي" وأمثاله. وهو نص على نفي النكاح بغير ولي.

وروي - أيضاً- رواية ظاهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى باب رجل من الأنصار فصرخ به، فاحتبس ساعة ثم خرج ورأسه يقطر، فقال صلى الله عليه وسلم": عجلت عجلت، ولم تنزل فلا تغتسل والماء من الماء" وهذا نص منه على أنه لا ماء من غير الماء، وليس هذا من دليل الخطاب في شيء. فبهذا الخبر والذي قبله وأمثاله. وقوله: إنما الماء من الماء وجب سقوط الاغتسال بالماء من غير إنزال لا من ناحية قوله الماء من الماء. وقد قال قوم قوله: "إنما الماء من الماء" دخل لتحقيق وجوب الماء من الماء ونفيه عن غيره. لأن هذا عنده حكم قوله "إنما" لأنها محققة وقد تقدم القول في ذلك. وبعد فقد بينا فيما سلف أن تعليق الحكم بالاسم للعلم لا يدل على أن ما عداه بخلافه. وقوله الماء من الماء تعليق وجوب الغسل بالاسم العلم، لأن الاسم ماء اسم علم محض فلا يفيد ذلك سقوط الغسل من غير الماء وصفة الماء أن يقول الماء من غليظ الماء أو كثيره أو أبيضه ونحو ذلك من صفاته فأما القول ماء فليس لصفة لها خلاف. فإن قالوا: فيه حذف يقوم مقام الصفة، لأنه أراد الماء من إنزال، وقد يكون الماء منزلا وغير منزل. قيل: والقول إنزال اسم علم أيضاً، فتعلق الحكم به لا يدل على نفي الحكم عن غيره، ولو قال نصاً الماء من ماء منزل لكان يجب على قولهم أن لا يجب الغسل من ماء غير منزل/ فأما أن لا يجب بشيء غير ماء وغير منزل فباطل، وإنزال الماء صفة للماء، وليس بصفة لنزوله، وإنما صفة نزوله أن يقال نزول قوى أو ضعيف وكثير أو قليل، وما جرى مجرى ذلك، فبطل التعلق بهذا الخبر من كل وجه.

فإن قالوا: ما روي عن أحد منهم أنه قال نسخ قوله" "إذا التقى الختانان وجب الغسل" قوله: لا ماء إلا من الماء، وقوله إذا لم ينزل فلا يغتسل، والماء من الماء، وإنما قالوا الماء من الماء منسوخ. قيل أرادها هذا المعنى ونسخ بعضه إذا كان عموماً، ويقال لهم: فما روي عن أحد منهم حرفاً يقول فيه نسخ دليل قوله الماء من الماء، فوجب أن يكونوا قالوا إنه منسوخ من حيث قلنا، وقد أجمعوا على أن وجوب الغسل بالماء من إنزال الماء غير منسوخ، بل ثابت ولا دليل له عندنا، فيجب أن يكون نسخ بعضه أو نسخت الأدلة التي هي غير دليل الخطاب. فأما تعلقهم بقول يعلى بن أمية لعمرو رضي الله عنه: "ما بالنا نقصر من الصلاة وتد أمنا، وقول عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وقوله فعقلا جميعاً من قوله: {إنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)} أن حال الأمن يجب أن يكون بخلاف حال الخوف. فيقال لهم: ليس للأمر في هذا على ما ظننتم، بل إنما تعجبا، لأن الأصل في الصلاة كان الإتمام وحظر القصر ثم شرط إباحته بحصول الخوف. وذلك يوجب أنه إذا زال الخوف بقي الفرض على أصل الإتمام

ورجعا إليه فلما وجدا القصر مباحاً مع عدم الشرط تعجبا وقالا ما الذي قام مقام الخوف، وقد عدم والأصل الإتمام إلا أن يوجد الخوف. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبح القصر مع زوال الخوف لشيء قام مقامه لكنه صدقة تصدق الله بها عليكم، فلهذا تعجبا لا لأجل اعتقادهما أن تعلق إباحة للقصر بحصول الخوف، دال على أن ما عداه بخلافه. فإن قالوا: لم يكن لهما أن يتعجبا من نسخ وجوب الإتمام بالقصر، لأن العقول تجوز ذلك. قيل لهم: لم يتعجبا لاعتقادهما إحالة نسخ وجوب الإتمام بإباحة القصر، وإنما تعجبا لظنهما إنه لم ينسخ، وأن هناك شرط يقوم مقام الخوف، فسقط ما قلتم. فيقال لهم: وليس لهم أن يتعجبا من التسوية بين حال الخوف والأمن لأنهما يجوزان ورود الشرع بالتسوية بين ذي الصفتين المختلفين في الحكم، فإن وجبت المخالفة عند عدم الدليل على/ وجوب التسوية، فيجب أن لا يكون لهما التعجب من ذلك، ولو اعتقدا دليل الخطاب. فبطل ما قالوه. فأما تعلقهم في ذلك بأن ابن عباس رضي الله عنه عقل من قوله عليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" جواز البيع متفاضلا نقدا لأن النقد خلاف النسيئة، فعقل من تعليق الحكم بالنسيئة إن التبايع نقداً بخلافه. وكذلك فقد عقل من قوله: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} أن ما نقص عما يقع عليه اسم إخوة، وهو عنده ثلاثة لا تحجب بهما الأم من الثلث إلى السدس، وعلم أن حكم الأخوين خلاف الأخوة في ذلك. وكذلك فقد قال إن الأخوات لا يرثن مع الأولاد.

واحتج بقوله: (إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) وإنه لما جعل ميراثها النصف بشرط عدم الولد دل ذلك عنده على أنه لا شيء لها مع وجود الولد، وكل هذا قول منه بدليل الخطاب. فإنه يقال لهم: لا تعلق لكم فيما ذكروه من وجوه: أولها: إنه لو ثبت أن ذلك مذهب ابن عباس وصرح به، وقال: إنما قلت ذلك بالمخالفة في هذه الأحكام من ناحية دليل الخطاب لم يثبت به حجة، لأنه قول له واجتهاد منه، فظن أن ذلك موجب وضع اللغة وقد ثبت أنه ليس الأمر كذلك، وتقليده فيما هو دون القول بدليل الخطاب غير سائغ فكيف به فيه. والوجه الآخر: إن جميع الصحابة خالفته في ذلك ولم تعقل المخالفة في الحكم. فإن كان قوله حجة فقولهم هم حجة - أيضا - لنا، ولا فصل في ذلك. والوجه الآخر: إنه ليس عنه حرف مروي في أنه أوجب المخالفة في هذه الأحكام من ناحية دليل الخطاب، وإذا لم يرو ذلك عنه، فمن أين لنا أنه يوجب الخالقة لأجل ذلك، وقد يجب بأدلة صحيحة غير دليل الخطاب. والوجه الآخر: إنه إنما حرم البيع رباً متفاضلا نسيئة ولم يحظره نقداً لأجل اعتقاده أن التبايع كله غير محرم من جهة العقل متساوياً ومتفاضلا في الجنس الواحد والي المختلف، وأنه لا يجب أن يحرم منه إلا قدر ما حرمه الشرع، فورد بتحريم الربا، ثم قال: إنما الربا في النسيئة، فكأنه قال حرمت الربا إذا كان نسيئة فحرم هذا القدر، وعقل جوازه نقداً، وأنه غير محرم بحكم العقل وبظاهر قوله: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} وعقل/ أن الربا المحرم في النسيئة بقوله: "إنما الربا في النسيئة" وإباحته نقداً بالأصل الذي كان

عليه في حكم العقل، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون الأولى والأليق به أن يكون خالف بين الحكمين من هذه الناحية دون دليل الخطاب. وشيء آخر: وهو أنه قد روى عنه عليه السلام أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة" وهذا نص علي أن التفاضل نقداً ليس بربا، وليس القول بموجب هذا النص من القول بدليل الخطاب في شيء، فسقط ما قالوه. ويمكن أن يكون قال ذلك لأجل قوله: "إنما الربا في النسيئة" وأن قوله "إنما" دخلت في الكلام محققة، وأنها بمعنى قوله لا ربا إلا في النسيئة، لأن من الناس من اعتقد ذلك فيها على ما بيناه من قبل. وليس هذا من القول بدليل الخطاب في شيء. فأما منعه حجب الأم بدون ما هو عنده أقل الجمع وهما الاثنان، فلم يقل ذلك من ناحية دليل الخطاب، وإنما قاله لأجل أن للأخت ولكل وارث أصل وميراث مقدر في الشريعة، فإذ نقل عن ذلك القدر الذي هو الأصل في ميراثه بشرط، ثم عدم الشرط عاد استكمال ميراثه إلى أصل ما جعل له، لأنه إنها نقل عنه بوجود أمر، فإذا لم يوجد بقي علي ما كان عليه. فإذا كان ميراث الأم مقدراً بالثلث، ونقلت عنه إلى ما دونه بشريطة وجود إخوة، فإذا لم يوجدوا عاد الميراث إلى أصله، وليس هذا من القول بدليل الخطاب في شيء.

وكذلك سبيل منعه توريث الأخت النصف مع وجود الولد ليس من ناحية دليل الخطاب، لكن لأن الشرع جعل ميراثها النصف مع عدم الولد. فإذا عدم وجب لها، وإذا وجد الولد ولها ميراث في الأصل مع عدمه ردت إليه. وكذلك لو لم يجعل لها شيء مع وجود الولد وجب أن لا تأخذ شيئاً أصلاً مع وجوده. وإنما عمل في هذا أجمع بالرجوع عند عدم الشروط إلى الأصل، لا إلى دليل الخطاب. هذا على أن في الناس من يرى أن تعلق الحكم بالعدد والغاية والشروط يدل على المخالفة ويوجبه وإن لم يقل بذلك في تعليق الحكم بأحد الوصفين، فيمكن أن يكون ابن عباس من القائلين بذلك في العدد والغاية والشرط وإن لم يقله في الوصف الخاص فبطل ما تعلقوا به عنه من كل وجه/. علة لهم أخرى: واستدلوا - أيضاً- على ذلك بأن القائل إذا قال لعبده اشتر لي عبداً أسود عقل منه منع شراء الأبيض. وإذا قال له: إذا قام زيد فاضربه، عقل منه سقوط وجوب ضربه إذا لم يقم. وهذا هو القول بدليل الخطاب، وهو لغة العرب. وهذا باطل. وفيه - أيضأ- وقع الخلاف. فإن قالوا: فمن أين عقل المخاطب إنه لا يجوز له شراء الأبيض، ولا ضرب زيد إذا لم يقم. قيل لهم: من حيث عم أن الأصل إنه لا يجب ضربه ولا شراء عبد ولا غيره إلا أن يؤمر بذلك. فإذا قال اشتر لي عبداً وليكن أسود لزمه شراء من له هذه الصفة، ولم يجز له شراء غيره، لأن الأصل أن لا يجب ذلك أو حظر شراء عبد لسيده أسود وغير أسود دون أن يأمر بذلك. فإذا أمره بشراء شيء مطلق أو مقيد بصفة وجب عليه ذلك وبقي حظر شيء غيره، وما خالفه في صفته على سقوط وجوبه أو على حظر شرائه، وهنا واضح لا إشكال

فيه، وكذلك الأصل سقوط ضرب زيد أو حظره في كل حال. فإذا قال فإذا القيام بالأصل لا بدليل الخطاب، فبطل ما قالوه. فصل: وقد اعتمدها في الاستدلال على ذلك باتفاق الكل من أهل اللغة والمعاني على أنه لابد للتقييد بالصفة الخاصة من فائدة. نحو قوله: {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} و"في سائمة الغنم زكاة"، ولا فائدة لذلك إلا وجوب الحكم فيما له الصفة وسقوطه عما ليس له. فيقال لهم: هذا بعيد وباطل من وجوه: أقربها: إنه غلط عظيم في الاستدلال، وذلك إنكم تتوصلون إلى العلم بمعنى الكلام في أصل الوضع الخاص من فائدته. وهذا عكس الواجب وقلبه، لأن العلم بفائدة الكلام تبع للعلم بما وضع له الخطاب. فإذا علم أنه موضوع لشيء وأمر من الأمور على أن ذلك الشيء هو فائدته وصار العلم بفائدته تبعا للعلم بما وضع له. وأنتم تجعلون العلم بفائدته طريقاً للعلم بما وضع له. وهذا قلب الواجب وتخليط ظاهر فيه. والوجه الآخر: إنكم مخطئون في قولكم لا فائدة لتعليق الحكم بالصفة الخاصة إلا وجوب المخالفة في الحكم. فلم قلتم ذلك؟ وما الحجة عليه؟ فإن/ قالوا: لأننا لا نعلم لذلك فائدة سواه. قيل لهم: ولم إذا لم تعلموا ذلك وجب القطع على أنه غير ثابت ولا معلوم لأجل أنكم يجب أن تعلموا كل معلوم وتعثروا بكل فائدة، فلا تجدون في ذلك متعلقاً.

ويقال لهم: ما أنتم في هذه الدعوى عندنا إلا بمثابة من قال إنه لا فائدة لقوله: في الغنم زكاة، وفي أربعين شاة شاة، وتخصيص الغنم بتعليق الحكم عليها إلا الدلالة على الوجوب بإسقاط الزكاة عما عدا الغنم، لأنه لو لم يرد ذلك لقال في الماشية زكاة، لأنه اسم يعم الغنم وغيرها. فإن مروا على ذلك أبطلوا قولهم، وإن أبوه وقالوا له فائدة غير ذلك. قيل لهم: مثله في تعليق الحكم بالصفة الخاصة وإنما يلزم هذا من أبى دلالة تعليق للحكم بالاسم للعلم على المخالفة، ومن ركب ذلك فقد أبعد لما قدمناه من قبل. ثم يقال لهم: لتعليق الحكم بالصفة الخاصة فوائد غير ما ظننتم، وهو أنه إذا قال في الغنم زكاة وجب بحق العموم عندكم وجوبها في المعلوفة والسائمة، وأغني ذلك عن قياس أحد الصنفين على الأخر والاجتهاد في طلب الحكم في شيء مما يقع عليه الاسم. وإذا قال في سائمة الغنم زكاة. أوجب النظر على أهل الاجتهاد في حكم المعلوفة، وهل يجب إلحاقها في الحكم بالسائمة لوجه يوجب ذلك. وهي هذا فرض صحيح وتعريض لثواب جزيل، ورفع للذين أتوا العلم درجات. وهو ساقط عند النص على وجوب الزكاة في جميعها. وفائدة أخرى عظيمة، وهو أنه إذا كان مراده تعالى وجوب الزكاة في سائمة الغنم. فقال في السائمة زكاة فقطع النص على وجوبها فيها وجرى على كل مجتهد منع الزكاة فيها بضرب من القياس ووجوه الاجتهاد لأنه

في منافاة حكم النص، وذلك دليل على بطلانه وفساده. ولو قال مكان ذلك غي الغنم زكاة، وهو يريد إيجابها في السائمة لا محالة لجان للمجتهد إخراج جميع ما فيه السوم عن وجوب الزكاة بضرب من القياس مع أنه مراد بالحكم لا محالة. فهذه فائدة - أيضا- واضحة لا إشكال فيها. فبطل ما ظنوه. ولو لم يجمع لتعليق الحكم بالصفة الخاصة هاتين الفائدتين لم يخرج- أيضا-/ عن أن يكون له فائدة ثالثة، وهو أنه إذا قال في الغنم زكاة أوجبها في جميعها عندهم مع القول بالعموم- وجاز عندنا ذلك وجاز أن يريد السائمة دون المعلومة أو المعلوفة دون السائمة، ووجب الوقف والنظر عند أهل الوقف. وإذا قال في سائمة الغنم زكاة قطع الوقف فيما له هذه الصفة وعدل عن إيجابها في عموم الغنم، وكانت الفائدة في ذلك إيجابها في ذلك الصنف وتبقية الباقي على حكم العقل في سقوط وجوب الزكاة فيه وإذا كان ذلك كذلك بطل التعلق بذكر التخصيص من كل وجه. فصل: واستدلوا - أيضاً- على وجوب القول بذلك بأن دليل الخطاب يجري مجرى لحنه ومفهومه. فإذا وجب القول بأحدهما وجب القول بالآخر وهذا باطل، لأننا قد اتفقنا من قبل أن مفهوم الخطاب جار مجرى نصفه، بل العلم به أسبق إلى القلوب من العلم بكثير من النصوص، وأن ذلك معلوم ضرورة من حكم المخاطب، فأغنى ذلك عن رده، وبينا أن تعليق الحكم بالوصف الخاص لا يدل على المخالفة يحال فبطل الجمع بين الأمرين. فصل: واستدلوا - أيضاً- على ذلك بأن تعليق الحكم بالصفة الخاصة بمنزلة تعليق الحكم بالعلة، وكما يجب إثبات حكم ما فيه العلة وسقوطه عما ليس فيه. فكذلك حكم الصفة، وهذا باطل من وجوه:

أحدهما: إن الأمر ض ذلك على حد سواء، غير أنه ليس فائدة علة الحكم ثبوت الحكم بثبوتها وسقوطه لفقدها أو إثبات ضد حكمها بما يخالفها من العلل، وإنما من حقها ثبوت الحكم بثبوتها متى وجدت. وكذلك تعليق الحكم بالصفة يوجب ثبوته بثبوتها، وقد يثبت حكمها بعلة تخالفها، لأن إثبات الحكم الواحد الشرعي بعلتين مختلفتين واجب صحيح على ما تبينه في أحكام العلل إن شاء الله. ولأجل هذا جاز إثبات وجوب القتل بالردة والقتل بالزنى مع الإحصان، ونجاسة العصير بكونه خمراً شديداً وبوقوع النجاسة فيه، وإن كان حلوا إلى غير ذلك. فهذا بأن يدل على صحه تساوى ماله الصفة الخاصة ض للحكم وما خالفه فيها أولى. وشيء آخر: وهو أنه ليس فائدة تعليق للحكم بالعلة سقوطه/ عما يخالفها أو إثبات ضد حكمها بخلافها، وإنما فائدتها إذا قال حرمت السكر لحلاوته والخمر لشدته تعريفنا علة تحريم تلك العين، ولو لم نعرف علة تحريمها لم ندر لماذا حرمت. فأما أن تكون فائدتها زوال الحكم بزوالها عما عداها، فذلك باطل. وكذلك فليس فائدتها وجوب وهى القياس عليها، وإنما يجب ذلك ويستفاد بالتعبد بالقياس لا بنصب علة للحكم. فبطل ما قالوه. على أنه لو سلم أن فائدة العلة في حكم التعبد لحوق الحكم وسقوطه بانتقائها لكان إنما يجب ذلك من حكمها بتوقيف التعبد تعالى على وجوب

مفهوم الغاية

العمل بالقياس، وإنما يجوز أن يقال يجب زوال الحكم عن هذه العين إذا زالت العلة إن لم يكن لتحريمها علة أخرى تقوم مقامها أو بدليل أوجب ذلك من حكم العلة، وليس مثل هذا التوقيف والدليل في إيجاب دلالة تعليق الحكم بالوصف الخاص على المخالفة، فبطل ما قالوه من كل وجه. واستدلوا على ذلك بذكر آيات وسنن من الكتاب علقت الأحكام فيها بصفة خاصة وسقطت عند انتقائها وتتبعها يطول، ولا تعلق لهم في ذلك، لأن المخالفة في تلك الأحكام لم تجب بدليل الخطاب، وإنما وجب ذلك بأدلة قد نبهنا على كثير منها، فبطل ما قالوه. ولو كان ما قالوه دليلاً لكان وجودنا لأحكام كثيرة في الكتاب والسنة معلقة بصفات خاصة ومتناولة ما خالفها في الحكم دليل على ما قلناه. فصل: القول في تعليق الحكم بالغاية هل يدل على المخالفة أم لا؟ اختلف الناس في ذلك. فقال بعض منكري دليل الخطاب: إنه لا تدل عليه، كما لا يدل تعليقه بالصفة. وقال بعضهم: بل هو دال على ذلك، وهو الأولي وبه نقول. واحتج من قال بأنه لا يدل بأن ذلك غير مروي عن أهل اللغة، ولا ثابت بطريق نقطع به عنهم، فلا يجب القول به، وهذا لا تعلق فيه لما نذكره. وهو الدليل على ما أخبرنا، وهو أن أهل اللغة قد وقفونا على ما يقدم مقام نصهم.

على أن ذكر الغاية بحتي وإلى وما يجري مجراهما يدل على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها. وذلك أنهم متفقون على أن القول حتى يعطوا الجزية/، وحتى تنكح زوجاً غيره، وحتى يطهرن كلام غير تام ولا مستقل بنفسه. وأنه لابد فيه من إضمار، وأن المضمر في الكلام الثاني هو المظهر في الأول المتقدم، وهو قوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوهُنَّ} وقوله {فَلا تَحِلُّ لَهُ} فتقديره والمتضمن فيه حتى تنكح زوجا غيره قتيل له وحتى يطهرن فاقربوهن. ولو لم يقدر هذا الكلام الإضمار في الكلام لصار قوله فلا تقربوهن لغواً، لا فائدة فيه اللهم إلا أن يقول: فلا تقربوهن حتى يطهرن، وحتى يتطهرن أو يقمن أو يصلين، ونحو ذلك، فيجعل حتى الأول إحدى الغايتين، والثاني غاية أخرى. ومتى لم يأت بغاية أخرى، ولم يضمر فتحل له. وحتى يطهرن فاقربوهن بطلت فائدة الكلام وخرج عن حد الاستعمال. ولأجل هذا قبح استفهام قول من قال لا تعط زيداً شيئا حتى يقوم وإلى أن يقوم. وأن يقال له فأعطه إذا قام، لأن هذا مفهوم في الإضمار وتقدير الكلام، وبمنزلة قوله فإذا قام فأعطه، وإنما يضمر ويقدر ويحذف النطق لسبقه إلى فهم كل متكلم باللسان. ويدل على ذلك - أيضا- أن الغاية نهاية الحكم، وكذلك غاية كل شيء نهايته والسبب الذي ينتهي إليه وينقطع عنده. فلو كان ما بعد الغاية مثل ما قبلها لخرجت بذلك عن أن تكون غاية لتساوي الحال قبلها وبعدها، فلهذا لم يحسن أن يقول القائل: اضرب المذنب حتى يتوب وهو يريد اضربه وإن تاب، لأنه إذا أراد ذلك - أيضاً- مع توبته لغا في كلامه وضربه لأنه لا فائدة لها، فثبت ما قلناه.

ولأجل هذا بعينه قبح أن يقول القائل: لا أعطينك شيئاً حتى تقوم. فإذا قمت لم أعطك، لأنه يصير قوله لا أعطيك حتى تقوم كلاما لغواً لا معنى له، إذا كان لا يعطه إذا لم يقم وإذا قام، وهذا من توقيفهم معلوم، فوجب أن يكون ذلك بمنزلة قولهم ان تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها. وقد كنا ربما نصرنا أنه لا يدل، وإن كان هذا هو الأولى الأصح عندنا. فصل: فإن قال قائل: قد قلتم في غير موضع أن قوماً قالوا: إن تعليق الحكم بأنما يدل على نفي الحكم/ عن غير المذكور. وإنما تدخل في الكلام محققة، فما الذي عندكم في ذلك؟ قيل: هي عندنا محتملة لأن يقصد تحقيق تعلق الحكم بالذكور وتأكيده فيه ويحتمل أن ترد لنفي الحكم عما عدا المذكور، لأنها قد تستعمل في الأمرين، وإن كان لا يبعد أن يقال ذلك، وإن جاز فإن ظاهر الكلام يقتضي تعلق الحكم بالذكور ونفيه عما عداه. ومنه قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، "وإنما الولاء لمن أعتق" ويمكن أن يكون إنما دخلت لتأكيد

إثبات الحكم لمن علق عليه فقط دون نفيه عن غيره، ولذلك يحسن أن يقال: إنما الأعمال بالنيات، وبالألم وبالمشقة وأن يقول: إنما الولاء لمن اعتق ولمن وهب ومن صام وتصدق، ونحو ذلك، ولا يبعد أن يقال إن ظاهر تعليقه بإنما يدل على أن ما عدل المذكور بخلافه، وأنه قد عقل من قوله إنما الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق، ومن قوله: إنما الأعمال بالنيات إن لم ينو فليس بعمل نافع، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ} يعنى أنه وحده يستحق العبادة والوصف بالإلهية دون كل شيء سواه. ومنه قوله تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} وظاهره أن غير العلماء لا يخشونه. وهذا ظاهر الإطلاق. وقولهم ليس هذا ظاهره، لأنه يجوز أن يقوله ومن وهب وتصدق، فلو كان ظاهره نفي الحكم عمن عدا المذكور لم يجز إثباته لغيره ومساواته له فيه، فإنه غير قادح فيما قالوه، لأنه إنما يدل على نفي الحكم عن غيره إذا لم ينص على دخل بعض أغيارها وكلهم معه في الحكم المعلق عليه بإنما - فإذا جعل غيره كهو بطلت دلالة الكلام بما ضم إليه، ولو كان ما قالوه واجبا لبطل أن يكون قوله اقتلوا المشركين عاماً مستغرقاً لأنه يحسن أن يقول إلا زيد وفلان، فلو كان اللفظ موضوعاً للعموم لكان الاستثناء نقضاً له، فإذا لم يجب هذا لم يجب ما قالوه، لأنه إنما يدل بالتجريد له بالحكم من غير نص على مساواة للعين له، فزال القدح بهذا وثبت ما قلناه. وقد يقول القائل/ لغيره إنما النبي محمد صلى الله عليه وسلم تأكيداً لثبوت نبوته لا يقصد نفي كون ما عداه في سائر الناس نبياً، وإنما زيد عالم ولا نفي كون كل غير له عالما فزال ما قالوه.

فإن قال قائل: فألا أجريتم لام التوكيد مجرى إنما حتى يدل قول القائل: إن العرب لتقري الضيف، وتحافظ على الجار، وتحمى الذمار، على أن ما عداهم لا يفعل ذلك. قيل: لا يجب هذا باتفاق، لأنه إنما يفيد هذا القول إضافة هذه الأفعال إلى العرب، وليس في إضافة الفعل إلى فاعله وجوب نفي مثله عن غيره، ولذلك لم يعقل من قولهم إن زيدا لقائم، أن غيره ليس بقائم. وإنما معناه في ظاهر الاستعمال إثبات الفعل والصفة والحكم المذكور ونفيه عمن عداه. ولو قصد بقوله تعالي: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} إلى أن الجهال- أيضاً- يخشونه لأحال معنى الكلام، ولم يفد بذكر العلماء شيئاً، والله أعلم.

باب القول في أن تعليق الحكم بالشرط يدل على نفيه عمن ليس له أم لا؟

باب القول في أن تعليق الحكم بالشرط يدل على نفيه عمن ليس له أم لا؟ فقد اختلف - أيضاً- في ذلك. فقال جمهور المنكرين لدليل الخطاب: إنه لا يدل على نفي الحكم عمن ليس فيه الشرط. وقال بعض أهل العراق وابن سريج من أصحاب الشافعي إنه يدل انتقاء الحكم عمن انتفي عنه الشرط. والذي نختار في ذلك إنه ليس بدليل على ذلك. والذي يدل على هذا علمنا بأنه لا يمتنع ثبوت الحكم بشرطين مختلفين، ولذلك ما جاز أن يقول القائل إذا قام زيد فأكرمه وإذا تكلم، وإذا أكرمك، فإنما ساغ ذلك لأن نهاية ما في تعليق الحكم بالشرط جعله علامة على وجوب الحكم، وكونه علامة عليه لا يمنع من كون غيره علامة عليه، وأقصى

حالاته - أيضاً - أن يكون بمثابة العلة الشرعية، وكون الشيء علة لا يمنع من كون غيره أيضاً علة، ولذلك جاز إثبات الحكم الواحد بعلتين مختلفتين. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قالوه. وقد زعم بعض من قال بذلك أن من حق الحكم المعلق بالشرط إذا ورد على وجه البيان أن يدل على نفي الحكم عما ليس هو فيه، وذلك نحو أن يقول: اقتلوا المشركين الحربيين والقتلة المغتالين، وفي خمس من الإبل السائمة زكاة، وأمثال هذا، ولا يدل إذا لم يرد كذلك وكان خطابه مفيدا. وهذا- أيضاً- باطل لأنه لا فصل بين الأمرين، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ قلبها وأن يقال: إذا ورد الحكم مبتدئاً ومعلقا بالشوط دل على المخالفة، وإن كان بياناً لمجمل لم يجب ذلك فيه وإلا فما الفرق بين أن يبتدئ فيقول في سائمة الغنم زكاة غير مبين به مجملاً تقدم، وبين أن يقول في الإبل إذا كانت سائمة زكاة/، وذلك ما لا يمكن الفصل فيه. فإن قيل: فإذا جعلتم قوله في الغنم إذا كانت سائمة قدرها كذا زكاة هل تجعلون ذكر السوم بياناً؟ قيل: أجل، هو بيان لما تعبدنا به، وذلك لا يوجب نفي الحكم عما ليس سائمة، ولا يمنع أن يكون قوله السائمة بيان لما يجب الحكم فيه، وهو ما فيه السوم، وليس هو بيان لما لا يجب الحكم فيه. وقد يكون الشيء بيانا لشيء وحكما في شيء وإن لم يجب أن يكون بيانا لغيره، فيكون بيانا لحكم بعض ما اشتمل عليه الاسم. فلا نجيز إذا كان ذلك كذلك أن يكون بيان ما فيه الحكم بياناً لغيره وهذا واضح في إبطال هذا القول. وليس الشرط كالغية في هذا الباب لما بيناه من قبل، فلا يجب إذا كان

ذلك كذلك أن يكون قوله احكم بالمال للمدعي إذا كانت له بينة. واحكم بالشهادة إذا كانت عادلة، واحكم بالمال إذا شهد به شاهدان، فإن شهد به شاهدان دالاً على أنه لا يجوز الحكم بالشاهد واليمين والإقرار، ولا أن يقال إن ذلك زيادة على حكم النص موجبة لنسخه، لأن الحكم بالشاهد واليمين والإقرار ليس بمزيل لوجوب الحكم بالشاهدين، والرجل والمرأتين، وسنقول في تقصي ذلك في فصول القول في النسخ قولا بينا إن شاء الله، وبالله التوفيق، وبه تستعين.

باب الكلام فيما ثبت وجوبه في الشريعة من أحكام، وهناك لفظ يقتضي وجوبه، هل يجب القضاء بثبوته بذلك اللفظ وكونه مرادا به أم لا؟

باب الكلام فيما ثبت وجوبه في الشريعة من أحكام، وهناك لفظ يقتضي وجوبه، هل يجب القضاء بثبوته بذلك اللفظ وكونه مراداً به أم لا؟ اعلموا - وفقكم الله - أن الآي والسنن التي قصد بها بيان إثبات الأحكام الشرعية على ثلاثة أضرب: إما أن تكون مجملة محتملة، أو جارية على ما أريد بها على جهة المجاز أو نصوص ظاهرة وما يجري مجراها من للعموم عند مثبتيه، ومن لحن القول ومفهومه وفحواه، وقد بينا شرح هذه الجملة فيما سلف. فإن كانت محتملة مجملة يجوز أن يراد بها إثبات ذلك الحكم، وأن لا يراد، لم يجب القضاء على أنه بها ثبت ذلك الحكم وأريد، لجواز أن يكون غير مراد به وثابتا بغيره، وذلك نحو قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ} وقوله: (إلا بحقها) ونحوه، لأنه يجوز أن لا يكون ما ثبت من الجزية بإثباتها، بل

يكون واجباً بغيرها ويجوز ثبوته بها، فالقطع على أنه مراد بها متعذر، وكذلك قوله: إلا بحقها/. فإذا قيل في شيء معين إنه من حقها لم يجب القطع على ثبوته بتلك السنة لجواز أن يكون ثابتا بغيرها. فإن قيل: إذا لم يكن في الشرع جزية سوى الثابت عليهم علم بالإجماع إنه هو المراد بتلك الجزية. يقال: فإنما علم أنه مراد بها بدلالة الإجماع، ونحن لا نمنع ذلك، وإنما منعنا أن يعلم أنه مراد بها بنفسها مع كونها محتملة فثبت ما قلناه. وكذلك القول في كل حكم يصح أن يراد بمجمل من القول، ويصبح أن لا يراد به في إنه لا يجب القطع على أنه مراد به بنفس المجمل، من نحو قوله تعالى: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ وأَخَوَاتُكُمْ} وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ) و (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} عند من رأى ذلك مجملا، وإن كنا لا نقول به. وكذلك ما ثبت من الأحكام في تحليل أو تحريم، وهناك لفظ يجري عليه مجازاً واتساعاً، فإنه أبعد عن وجوب القطع بثبوته باللفظ الجاري عليه على طريق المجاز، لأنه إنما يعلم بدليل أنه مراد به وإلا بإطلاق اللفظ، فوجب حمله على ما وضع له حقيقة. وذلك نمو قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} لأنه قد زعم قوم أن اسم النكاح حقيقة للعقد دون الوطء.

وقال آخرون: بل هو للوطء دون العقد، وإنما سمي العقد نكاحاً، لأنه وصلة وذريعة إليه، وأي الأمرين ثبت وجب أن لا يثبت الحكم من تحريم وطء من وطأه الأب، أو عقد من عقد عليه باللفظ الجاري على أحدهما مجازا، لأنه إنما يستعمل فيه بدليل غير مطلقه، فإن لجمع على انه مقصود مراد باللفظ الجاري عليه مجازا أصير إلى ذلك بدليل الإجماع وما يقوم مقامه لا بنفس اللفظ الجاري على الفعل مجازاً، لأنه يجوز أن يكون إنما أريد بلفظ غيره، وبما هو حقيقة له. وإن كان هذا اللفظ يجري عليه مجازاً واتساعاً. وإن كان اللفظ يجري على شيئين أحدهما حقيقة، والآخر مجازا وجب أن يقال إن الحكم الذي يتناوله اللفظ حقيقة ثابت بنفس اللفظ إلا أن يمنع من ذلك دليل ويتفق على أنه ثبت في الأصل بلفظ آخر وورد هذا مؤكدا له. فأما إذا لم يمنع منه دليل قضى على أنه ثابت به، لأجل ظاهر الحال، وما يجري عليه مجازا لا يجب القضاء على أنه ثابت باللفظ منه/ لجواز أن لا يكون ثبت به. فإن قام دليل من غير اللفظ على أنه ثابت به قضى به، لأجل ذلك الدليل لا بنفس اللفظ. فأما الحكم الثابت وهناك نص وعموم ولحن بقوله يقتضيه فواجب القضاء علي م ثبت به إلا أن يمنع من ذلك دليل. وذلك نحو قوله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى} {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ} {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} و {الزَّانِيَةُ والزَّانِي} وأمثال ذلك من النصوصات والعمومات، ونحو

قوله تعالى: (فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ) (ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) و"أدوا الخيط والمخيط" وأمثال هذا مما يجب إثباته بلحن القول وفحواه. فيجب تنزيل ذلك على ما رتبناه.

باب القول في ماهية البيان، ووجوهه، وتفصيل ما يحتاج إلى بيان من قول وغيره، وما به يقع البيان، وجواز تأخيره إلى وقت الحاجة إليه، وغيه ذلك من فصول القول فيه

باب القول في ماهية البيان، ووجوهه، وتفصيل ما يحتاج إلى بيان من قول وغيره، وما به يقع البيان، وجواز تأخيره إلى وقت الحاجة إليه، وغيه ذلك من فصول القول فيه أما البيان فحقيقته أنه الدليل التوصل بصحيح النظر فيه إلى فعل العلم بما هو دليل عليه. والدليل على ذلك أن البيان عند أهل اللغة هو ظهور الأمر وكشفه على وجه ينفصل عما ليس منه، ولذلك يقال: بان لي الأمر إذا انكشف، وأبان الرجل عن ضميره وما في نفسه إذا أظهره، وبان الهلال والفجر وإذا ظهرا واتضحا. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما بان من حي فهو ميت" يراد ما انفصل. ومنه قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي إظهار لما كلفوه. وقوله

تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} أي ليصدع به ويظهر وقوله تعالى: {وإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ} أي ليظهرونه للناس. ومنه قولهم ابنة وبين مرادك أي أظهره على وجه ينفصل به عما عداه. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن نقول هذا معناه. وأن نحده بأنه "الدليل الذي يتوصل بالنظر فيه إلى فعل العلم الذي هو دليل عليه"، وإن كان البيان قولاً مظهراً لمعناه. فالنظر فيه إنما هو للعلم بالمواضعة على معناه، وأن كل ما سمعه من لا يعلم ما وضع لإفادته إذا لم يعرف المواضعة. وقد بينا فيما سلف أن ما يعلم ضرورة لا يحتاج إلى بيان ودليل يتوصل به إلى معرفته/ وكل دليل على أمر من الأمور مظهر ومبين له من غيره من حيث كان النظر فيه طريق إلى العلم بما هو دليل عليه، وسواء كان الدليل المظهر المبين للمراد فعلا أو قولا أو إشارة وعقدا أو أي شيء كان. وقد صار المعقول من دليل البيان في عرف الفقهاء والمتكلمين بيان معنى الكلام دون ما سواه من سائر ما يعلم بدليل. فيجب على هذا الأصل أن يكون المبين هو الدال بما ينصبه من الأدلة على الأمر الذي يظهره الدليل. وأن يكون للبيان قوله وما يقوم مقامه من الأدلة. وأن يكون المبين له الحكم هو المدلول عليه بالقول وغيره. وأن يكون المبين هو المدلول عليه من الأحكام العقلية والشرعية. وأن يكون التبين هو العلم الواقع للمكلف بمدلول الدليل عند متأمله والعلم به.

فصل: وليس من حق البيان أن لا يكون بيانا حتى يتبين به، أو حتى يتبين به كل من يصح أن ينظر فيه أو يسمعه إن كان قولا، وإنما من حقه أن يكون في نفسه على صفة ما إذا سمع وتأمل وعرفت المواضعة على معناه صح أن يعلم به ما هو بيان له، وقد تختلف أحوال الناس في سماعه وتأمله والنظر فيه. فصل: وليس من حقه - أيضا - أن يكون بياناً لمجمل ومشكل من القول ومالا يستقل بنفسه، لأن العمومات والنصوص بيان لما وضعت له وكشف لمعناه. وإن لم تكن محتملة لبيان المراد بالجمل المحتمل ضرب من البيان، وإن كان منه ما ليس كذلك. ولأجل هذا لم يصح قول من قال إن حد البيان "إنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى التجلي بأي وجه كان"، لأنه حد يخرج من البيان أكثره،

ويوجب أن لا يكون البيان إلا بيان مجمل محتمل، وأن لا يكون العموم عند مثبتيه بيانا لما اشتمل عليه، وهذا باطل، لأن كل قول يكشف عن معنى ما وضع له، فهو بيان له، ولذلك صارت النصوص والعمومات ومفهوم الخطاب ودليله عند مثبتيه بياناً، وإن لم يكن بيان المحتمل من الكلام آخر هو بيان له. فصل: فأما قول من حد البيان بانه العلم بالشيء فإنه باطل، لأن العلم به تبين له. وبيانه ما يمكن أن يتوصل به إلى معرفته، ولو كان العلم بالشيء بيانا له لكانت سائر العلوم الضرورية الواقعة عن درك الحاسة بيانا للمعلومات، ولكان المعلوم ضرورة يحتاج إلى بيان. وذلك باطل باتفاق. ويدل على فساد ذلك إطباق الكل على أن الله سبحانه قد بين أحكام أصول دينه وفروعه للكافر والجاحد/ وإن لم يعلم ما بينه تعالى له. فلو كان البيان هو العلم المبين لكان من لم يعقل العلم بما كلف ضير مبين له. وهذا خلاف الإجماع. ويدل على ذلك قولهم: بينت له الشيء فلم يتبين، ودللته عليه فلم يعلم، وذلك دليل على أن البيان غير التبيين. ويدل عليه - أيضا- قولهم: بيان أبين من بيان، وأن مراتب البيان مختلفة في هذا الباب. وقد علم أن تعلق سائر العلوم للمعلومات تعلق متساوي غير مختلف، فوجب أن يكون للبيان غير التبيين.

فإن قالوا: فيجب على ما أصلتم أن تكون الإدراكات التوصل بها إلى علم حقائق المدركات والفصل بين صفاتها دليلاً للمدركات على العلم بها. قيل له: لا يجب ما قلته من وجهين: أحدهما: أبدا قد شرطنا في الحد أنه الدليل الذي يتوصل بمعرفته وصحيح النظر فيه إلى فعل العلم بما هو دليل عليه، والادراكات لا نظر للمدرك فيها، ولا هي- أيضا - مما يتوصل بها إلى فعل العلم بالمدرك، لأن العلم به ضرورة مبتدأ من فعل الله عز وجل دون المدرك فزال الاعتراض. والوجه الآخر: إن الادراكات عندنا علم ضروري بالمدرك، وليست بطرق للعلوم، فسقط ما قاله المعترض. ومما يدل على أن البيان معنى غير التبيين الذي هو العلم بالشيء قول أهل اللغة فيمن دل غيره على الشيء وبينه له هذا بيان منك لفلان. وعلى هذا قال الله سبحانه {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} فقد علم أن القرآن ليس بعلم لأحد، وأن المبين لغيره بالقول وما يقدم مقامه ليس بعلم لمن بين له، فبطل ما قالوه. وقد تكلمنا على ما قاله الشافعي رحمه الله من أن البيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع. وأقل ما فيه أن يكون بيانا لمن يدل بلسانه في الكتاب الكبير بما يغني النظار فيه.

باب الكلام في تفصيل ما به يقع البيان

باب الكلام في تفصيل ما به يقع البيان أما بيان العقليات المستنبطات فهو الدليل على كل شيء منها. وأما بيان الشرعيات فإنه يحصل بالقول وما يقوم مقامه من الواسطة بين المتعبد جل ذكره، وبين المكلفين من عباده من العقل والكتابة والإشارة والإيماء والرمز وإقرار صاحب الشرع على الفعل على وجه يعمل به رضاه به وعدم إنكاره أو على ما قد بيناه من قبل. ولا فرق بين أن يكون للبيان مبتدأ به، وبين أن يكون بياناً/ بالجمل ومحتمل متقدم لأنهما بيانان. ومنه - أيضاً - البيان للأحكام بعللها المنصوص عليها والمستثارة بالنظر مع تعبده لنا بالقياس عليها والرد إليها، لأننا نعلم بالنص عليها والاستخراج لها وجوب ثبوت حكمها متى وجدت وأين وجدت كما يعلم ثبوت الحكم بالقول والفعل القائم مقامه. ولا وجه لقول من قال: إن الصفات التي جعلت عللاً وعلامات على ثبوت أحكامها ليست ببيان، لأجل أن البيان ما أوصل إلى العلم والقطع على حكم ما هو بيان له. وليس هذه حال علل الأحكام، لأنها أمارات توصل إلى غلبة الظن دون العلم، لأننا وإن سلمنا أن البيان ما يوصل إلى العلم، ويتبين الشيء على ما هو به، فإننا نقول إن علة كل مجتهد ينصبها ويقيس عليها توصله إلى العلم بالحكم قطعاً، لأن الدليل قد قام بما نذكره في كتاب

الاجتهاد على أن كل مجتهد مصيب، وأن الحق قطعاً في سائر الأقاويل يوجب أن تكون العلل بياناً. وقد يجوز أن يقال إن للعلل والصفات المستشارة ليست ببيان، لأنه إنما يحصل عندها الظن لثبوت الحكم لما هي فيه لا العلم بذلك. ولكن الظن الحاصل عند استثارتها لكون للحكم متعلقاً بها هو البيان لثبوت الحكم، لأن به يعلم المجتهد وجوب الحكم قطعا بما يقلب على ظنه أنه حكم الله عز وجل. فأما من قال إن علل الأحكام توجب العلم والقطع على تعلق الحكم بها وأن الحق في واحد وأنه يقطع على خطأ مخالفه ومخطئ علة الحكم فقد زال عنه هذا الكلام، ووجب عليه جعل العلل بياناً. فصل: وبيان أحكام الشرع مقصور على السمع دون أدلة العقل، وإن كان العلم بصحة السمع وما يودعه ويستخرج منه حاصل بالاعتبار العقلي غير أن علل الأحكام موضوعة بالسمع، ولولاه لم يعلم كونها عللاً وليست كالعقليات في هذا الباب. ونحن نشرح ذلك عند بلوغنا إلى القول في القياس وأحكام العلل إن شاء الله. وجميع السمع الذي هو بيان الأحكام الكتاب والسنة على مراتبها التي قدمنا ذكرها، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره الواقعين موقع أقواله، ثم إجماع الأمة، ثم ما استخرج من النطق سن الكتاب والسنة بطرق الاجتهاد.

ومنه قياس علة، ومنه استدلال بشواهد الأصول، وما يجري مجرى ذلك، ويحل محل قياس العلة، ويسوغ الحكم للمجتهد به إذا رأى ذلك. هذا جملة بيان الأحكام الشرعية.

باب ذكر وجه حاجة القول إلى بيان والفرق بينه وبين مالا يحتاج منه إلى ذلك/.

باب ذكر وجه حاجة القول إلى بيان والفرق بينه وبين مالا يحتاج منه إلى ذلك/. وقد بينا فيما سلف أن الكلام على ثلاثة اضرب فمنه النصوص وفحواها ومفهوماتها المستقلة بأنفسها. وهذا الضرب لا يحتاج باتفاق إلى بيان لكونه مظهرا بنفسه لمعناه وما وضع له لإفادته. ومنه ضرب يستقبل من وجوه ولا يستقبل من وجه. وهذا الضرب يستغني عن البيان فيما هو مستقل بنفسه في إفادته. ومنه ضرب يستقبل من وجه ولا يستقبل من وجه. وهذا الضرب يستغني عن البيان فيما هو مستقل في إفادته ومحتاج إلى بيان فيما لا يستقل بنفسه في إفادته. وذلك نحو قوله تعالى: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} و {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ} و {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} لأنه لا يحتاج إلى بيان في أن فيه حقا وأن الجزية ضريبة وأتاوة, وأن القرؤ زمن معتاد بالحيض والطهر, ويحتاج إلى بيان فيما هو الحق وقدر الجزية وجنسها. وأي الزمانين من الأقراء وقع به الاعتداد. وهذا بين. وكذلك القول في جميع الألفاظ والأسماء المشتركة بين أشياء مختلفة يجري على سائرها حقيقة في أنها غير محتاجة إلى بيان في كونها متناولة لجملة ما يقع عليه ومحتاجة إلى بيان في تفصيل ما أريد بها منه معينا وذلك

نحو القول بيضة ولون وجارية وعين, وأمثال ذلك مما قدمنا ذكره. والضرب الثالث: هو الذي لا يستقل بنفسه من وجه ما, وهو المجاز المستعمل في غير ما وضع لإفادته. فإذا أريد به مالم يوضع له احتاج إلى دليل وبيان يكشف غن قصد المتكلم به, اللهم إلا أن يكون مجازا قد غلب وظهر استعماله في الشيء الذي تجوز به فيه, وصار عرفا معهودا. وذلك نحو قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} وأمثاله مما غلب مجازه على حقيقته. وقد بينا هذا فيما سلف. وكشف ما ذكرناه الآن الفرق بين ما يحتاج إلى بيان أصلا وبين مالا يحتاج إليه من وجه, وبين ما يحتاج إليه في كشف المراد به من كل وجه. فصل: ومن الجمل التي تحتاج إلى بيان قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} والسلطان هو الحجة, وحجة ولي المقتول غير معلومة عقلا, وإنما هي ما يجعله الشرع حجة له وقد يصح جعل حجته فعل قاتل وليه, ويصح جعلها أخذ ديته, أو غير ذلك مما يجوز العقل ورود السمع به. فإذا وصله بقوله تعالى: {فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} بين بذلك أن السلطان الذي جعله تعالى للولي قتل قاتل وليه بغير سرف?. فصل: فأما قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يقتلن مؤمن بكافر" فليس بمجمل ولا

محتاج إلى بيان على قول أهل العموم, لأنه عام في كل كافر من أهل الحرب والصلح وذي عهد ومن لا عهد له, وليس إثباته له بقوله" ولا ذو عهد في عهده" فوجب تخصيص قوله لا يقتلن مؤمن بكافر, حتى يحمل ذلك على أن لا يقتل بكافر حربي دون معاهد, لأنه لو قطع الكلام على قوله لا يقتلن مؤمن بكافر لتم وكان صحيحا عاما. وصلته به ولا ذو عهد في عهده استئناف حكم آخر, وهو النهي عن القتل للمعاهد في هده. فإذا نقض العهد زال النهي ورجع إلى حكم الأصل، فهو بمثابة أن يقول لا يقتل مؤمن بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده. وليس النهي عن ذي العهد من تخصص قوله: لا يقتلن مؤمن بكافر في شيء ويمكن أن يكون- أيضا- أراد بقوله ولا ذو عهد في عهد النهي عن قتل المؤمن بالكافر وقتل المعاهد بالكافر الحربي, فكأنه قال لا يقتل مؤمن بكافر ولا معاهد كافر بكافر حربي لا عهد له, ويصير بمنزلة قوله او قال: لا يقتلن مؤمن بكافر، ولا الرجل من الكفار بالمرأة. وقوله: ولا يقتل الرجل من الكفار بالمرأة ليس بتخصيص لقوله لا يقتلن مؤمن بكافر- وقد تقصينا في الكتاب الكبير ذكر الآي التي ألحقت بالمجمل, وليست منه. وما أخرج منه وهو منه بما يغني عن الإطالة هاهنا, وبالله نستعين.

باب القول في حاجة الفعل إلى بيان

باب القول في حاجة الفعل إلى بيان قد بينا فيما سلف أن القول الذي لا يستقل بنفسه في بيان ما قصد به محتاج إلى بيان, فإذا ثبت ذلك وجب حاجة فعل الرسول الذي به تبين الأحكام إلى بيان, هو قول يتقدمه أو يتعقبه, وما يقوم مقام القول من الأحوال التي يعلم بها أنه قاصد بالفعل إلى بيان. وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم:" خذوا عني مناسككم" " وصلوا كما رأيتموني أصلي" ونحوه, لأنه قد يفعل القرب الشرعية لا على وجه البيان لأمته، لكونهم مشاركين له فيه, بل لكونه مخصوصا بالتعبد به. وكذلك فقد يقع الفعل على وجه القربة وغير القربة لا لبيان مجمل تقدم, بل لتعبده بذلك واختصاصه به. كذلك? فلا يجوز أن يعلم في الجملة أن قوله قربة قبل النظر في أنه بيان مبتدأ لأمته أو لجملة تقدمت بنفس الفعل الظاهر منه وحقيقته وحال يرجع إليه إلى صورته, لأننا قد بينا فيما سلف إنه لا يكون قربة لنفسه وجنسه وصورته, لأننا قد بينا فيما سلف إنه لا يكون قربة لنفسه وجنسه وصورته وبعض صفاته الراجعة إليه, وإنما يكون قربة إذا قصد به وجه الله سبحانه ويتقيد موجب الأمر به والطلب لثوابه. وذلك غير معلوم بصورة الفعل وجنسه, وما عليه من الصفات في ذاته, وسنزيده إيضاحا عند انتهائها إلى القول في أحكام أفعال صلى الله عليه وسلم, فبان بذلك أن الفعل

أحوج إلى البيان من القول الذي لا يستقل بنفسه في بيان ما أريد به. وليس لأحد أن يقول لا يجوز البيان للمجمل بالفعل, لأن من حق البيان أن لا يتأخر، والفعل والعلم بالقصد إليه يقع منفصلا من الخطاب, لأننا نتبين من بعد جواز تأخير البيان, ولو صح أيضا ما قاله لم يمتنع أن يكون من الأفعال ما يعقبه بتلاوة الخطاب, ويظهر معه ما يعلم به قصده إلى بيان المراد به، فلا يكون لذلك متأخرًا.

باب القول في منع تأخير بيان ما يحتاج إلى بيان عن وقت الحاجة

باب القول في منع تأخير بيان ما يحتاج إلى بيان عن وقت الحاجة لا خلاف بين الأمة في أن الشرع لم يرد بأمر يجب تقديمه وتمس الحاجة إلى تنفيذه مع تأخير بيانه. وهذا هو المعتمد في أنه لا يجوزك تأخير البيان عن وقت الحاجة وقد اختلف في جواز تأخير بيانه من جهة العقل. فقال جميع القدرية ومن قال بقولها في التعديل والتجوير والحسن والقبح إن ذلك محال في التكليف, وعبث وظلم غير جائز في صفحة الحكيم العليم تعالى, وأنه بمثابة التكليف للفعل مع عدم القدرة عليه والعجز عنه, وعدم محله والآلة في إيقاعه. وذلك ظلم قبيح عندهم. وقد بينا فساد مذهبهم هذا في غير موضع من الكلام في الأصول. وأقر أهل الحق في ذلك. فمن قال من أصحابنا لا يجوز أن يكلف إلا من يصح منه فعل ما كلف أو تركه أحال ذلك, لا لأنه ظلم ولكن لإحالة فعله وتركه.

وقال شيخنا أبو الحسن رضي الله عنه: إن ذلك جائز من جهة العقل, وعدل وصواب منه, غير أنه لم يرد به سمع.

باب القول في جواز تأخير بيان المجمل والعموم لوثبت, وكل ما يحتاج إلى بيان إلى حين وقت الحاجة إلى التنفيذ/

باب القول في جواز تأخير بيان المجمل والعموم لوثبت, وكل ما يحتاج إلى بيان إلى حين وقت الحاجة إلى التنفيذ/ اختلف الناس في هذا الباب فقال أهل الحق, وكل من خالف القدرية من الفقهاء بجواز تأخير بيان المجمل والعموم إلى وقت الحاجة, وعليه كثير من الفقهاء، وممن قال به من أصحاب الشافعي أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الأصطخري وابن أبي هريرة والطبري والقفال.

وقالت المعتزلة ومن وافقها من الفقهاء بإحالة تأخير بيان العام إذا أريد به الخاص. وممن قال بهذا كثير من أصحاب أبي حنيفة, وعليه كثير من أصحاب الظاهر منهم ابن داود وغيره. ومن أصحاب الشافعي أبو إسحاق المررزي وأبو بكر الصيرفي, ومن قال بقولهما. وفرق كثير منهم بين جواز تأخير البيان للمجمل الذي لا يستقل بنفسه في كشف المراد به, وبين تأخير بيان العام المستقل بنفسه في الاستغراق.

قالوا لأنه لا يجب علينا اعتقاد أمر مخصوص في المجمل إلى حين ورود بيناه, ولفظ العموم موضوع للاستغراق, فإذا أريد به الخاص وآخر بيانه لزمنا اعتقاد العموم وخلاف ما أريد به, وذلك غير جائز. وسوى كثير منهم بين الأمرين العام كقوله اقتلوا المشركين ونحوه, والمجمل كقوله: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} و {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ} وأمثاله. وأهل الوقف يجعلون اللفظ المدعى للعموم مجملا في احتماله البعض والكل. ومن المجمل أيضا قوله: افعل عدا صلاة آمرك بقدرها وشروطها ووقتها (وآمرك) واقتل رجلا على صفات أبينها لك, وافعل من الحج والزكاة ما أوقفك عليه, ونحو ذلك، فليس تأخير البيان مقصورا على بيان المجمل الذي يذكرونه والعموم فقط, بل هو جائز في تأخير بيان كل ما يحتاج إلى بيان إذا كان موجبه على التراخي. وحكي عن قوم من المتكلمين أنهم يجبرون تأخير بيان الأوامر والنواهي والواجب من مضمونها على التراخي في العام والمجمل, ويحيلون تأخير بيان المراد بالخبر العام الوارد على الوعد والوعيد. وفصلوا بين ذلك مما لعلنا أن نذكر من بعد هذه جملة الخلاف في هذا الباب.

والذي يدل على صحة ما اخترناه من ذلك أنه لا يخلو تأخير بيان من ذكرناه من أن يكون جائزا أو محالا، فإذا بطلت إحالته وجب القول بجوازه. وقد ثبت أنه لو كان منه وجه من الإحالة لوجب أن يكون إلى العلم بذلك سبيل وطريق, وإذا ثبت أن طريق ما يدعون? إحالته من جهته باطل, ليس على ما يدعونه, بما نبينه من بعد ثبت جوازه, إذ لا منزلة بين الجواز والإحالة وقد علم أن محيله إنما يتعلق في إحالته بأن ذلك يوجب استعمال الخطاب على وجه يقبح, وأنه بمنزلة خطاب العربي بالعجمية, وبمثابة خطاب الميت بالجماد, ومن لا عقل له, ونحن نبين فساد ذلك من بعد, أو بأن ذلك يوجب أن يكون ورود الخطاب بمنزلة عدمه, أو بأنه يوجب الوقف في العموم مع ثبوت ذلك, أو بأنه يريد منا تعالى اعتقاد العموم وإن كان مخصوصا وذلك إيجاب للجهل وخلاف المراد, أو بأنه يوجب أن يدلنا على الشيء بما يدل على ضده ونقيضه. أو بأنه يوجب الإخلال بصحة أداء الفعل وقت الحاجة إلى إيقاعه, أو لأنه يقتضي جواز تأخير بلاغ الرسول مع الأمر له بتقديمه, أو بأنه يوجب صحة تأخيره الدهر الطويل مع حضور الحاجة إلى تنفيذه. وذلك باطل. فأما إذا لم يرد تنفيذه وأمر (يلزم) الرسول تقديم البلاغ, فإنه جائز

تأخيره. أو لأنه يوجب اعتقاد فعل اعتقاد لا فعل تعجل لا تعرف صفته, أو لأنه يوجب جواز قطع الكلام عن تمامه, والابتداء عن خبر, أو يوجب جواز تأخير الاستثناء عن المستثنى منه الدهر الأطول. هذا جملة ما يتوصلون به إلى إحالة تأخير البيان فإذا أفسدنا جميع ما يذكرونه من بعد ثبت جواز تأخيره لبطلان كل ما يتعلق به في إحالته. ويجب إذا أريد الاستدلال بهذه الدلالة أن يقال إما أن يكون جائزا على ما نقول أو محال. وقد تعلق في إحالته بأمور كثيرة يطول تعتادها. فإن كنت أيها السائل تقول إنه يفسد سائرها شرحنا ذلك وتقصيناه. وإن كنت إنما تحيله لوجه أو وجوه محصورة من ذلك فاذكره ليكون الكلام عليه. فإذا أفسدناه بالحجة, وفسد ما عداه باتفاقنا وإياك ثبت جوازه. وإن قال السائل إنه لا مذهب لي في ذلك ولا علة, وإنما أنا واقف ومسترشد. قيل له: إن جميع ما يمكن التعلق به في إحالته كذا وكذا ونذكر ما ذكرناه عنهم ونبين له فساد وجه وجه. فإذا فسد صح ما قلناه. وليس لأحد منهم أن يقول دلوا على صحة قولكم بجوازه بسيئ غير المفسد لإحالته, لأن ذلك تجبر? وتحكم, ولا وجه له إذا كان إبطال جميع ما يتوصل به إلى إحالته أحد الأدلة على صحته وجوازه. ونحن نكشف عن فساد جميع ما ذكروه في هذا الباب. فصح ذلك القول بجوازه. دليل آخر: ومما يدل على جواز ذلك- أيضا- أن البيان إنما يحتاج إليه المكلف لإيقاع الفعل على وجه ما أمر بالتقرب به, كما أنه يحتاج إلى القدرة والآلة في إيقاعه لكونه مكلفا له, ولو لم يؤمر به لم يجب البيان له والإقدار

عليه وإيجاد الآلة, ولذلك لا تجب هذه الأمور لمن ليس بمكلف للفعل, وإذا كان ذلك كذلك. وكان تأخير البيان إلى وقت الحاجة وإيراده قبل تلبس المكلفين بالفعل ووقت التضيق لجزء من الزمان لا يخل بصحة أدائه إذا قدم بيانه بهذا القدر, كما لا يخل بصحته تأخير القدرة عليه والآلة منه إلى وقت الحاجة وقد جاز باتفاق تأخير آلته وإقداره إلى وقت الحاجة وجب كون البيان بمثابته ولو ركب راكب إحالة تأخير ذلك أجمع إلى وقت الحاجة لأبطله, لأن تأخيره إلى وقتها لا يخل باتفاق بصحة الفعل وأدائه إذا قدم قبله بجزء من الوقت. وقد بينا إنه إنما يحتاج إلى ذلك أجمع لصحة أداء الفعل وحاجته إلى تنفيذه. فإذا لم يخل تأخيره إلى حين الحاجة بصحة التنفيذ بطل قوله, وصح ما قلناه. فإن قال محصلوهم ما يحل ذلك, لأن تأخيره يخل بصحة الأداء وقت الحاجة. لكن لأن الخطاب به قبيح وبمنزلة الخطاب للعربي بالأعجمية، ولأنه يوجب اعتقاد عموم ما هو مخصوص أو ما لعله أن يكون مخصوصا فسنبين فساد ذلك عند ذكرنا استدلالهم به, فصح ما قلناه. فصل: ومما يدل على ذلك- أيضا- إجماع الآمة على صحة النسخ وجواز تأخير بيان القول الموجب ظاهره, أو دليل وجوب تكراره بغير اللفظ لزوم الفعل في عموم الأزمان, واعتقاد? تجويز تركنا ظاهره ودليل تكراره

ولزوم العبادة لنا ما دمنا أحياء سالمين, وجواز نسخه وورود البيان منه تعالى برفعه في بعض الأزمان، وبأن المراد كان به عندهم إلى ذلك الزمان وإن كان اللفظ العام ودليل التكرار لا ينبئ عن ذلك, بل عن نقيضه وضده لو تجرد عنه. وإذا كان كذلك ولم يوجب تأخير بيان اللفظ المقيض لعموم الأزمان شيئا من سائر ما قالوه في جواز تأخير بيان العموم في الأعيان بطل ما قالوه, وصح ما قلناه. واعلموا أن هذه الدلالة غير مستمرة مع القول بأن النسخ إنما هو رفع ما ثبت حكمه وعلم استقراره. وهذا هو الذي نختاره, لأنه إذا ثبت وجوب دوام لزوم العبادة باللفظ العام- لو ثبت- وبدلالة التكرار فقد علم لزوم ذلك قطعا في جميع الأزمان فإذا ورد النسخ أزال ما كان ثبت حكمه وبدله, ولم يجز أن يقال تبين به أنه أريد التعبد بالقول إلى تلك المدة, لأن ذلك يدخله في التخصيص دون النسخ, وإنما تثبت هذه الدلالة على أصولهم, لأنهم يقولون أن ما ينسخ مما اقتضى لفظ العموم أو دليل التكرار دوامه تبين بنسخه إنه إنما أريد بإطلاق اللفظ العام العبادة إلى ذلك الوقت (وأن تأخير) وأن تأخر بيانها. وهذا نفس ما نقوله نحن في تأخير بيان العام لو ثبت. وكل شيء يتعلقون به في إحالة ذلك مبطل لجواز النسخ الذي يذهبون إليه، ولا محيص لهم عن ذلك. ولسنا نحتاج إلى إعادة ذكر كل ما حكيناه عنهم في إحالة ذلك وكشف

لزومه لهم, لأنه بين عند التأمل. وقد خلطوا في جواب هذه الدلالة أنواعا من التخاليط? عجيبة نحن نكشفها. وقال فريق منهم الفرق بين جواز تأخير بيان الأزمان وتأخير بيان الأعيان أن تأخير النسخ الذي هو بيان الأزمان لا يخل بصحة أداء الفعل على مجه ما كلفناه إذا قدم بيانه قبل تضيقه, وتأخير بيان الأعيان يخل بأداء الفعل. وإن قدم قبل وقت التضيق, وهذا ما لا يذهب فساده على ذي تحصيل لأنهما متساويات في عقل كل عاقل. ويقال لقائل هذا لو قبلت هذه الدعوى فقيل تأخير بيان الأزمان مخل بالأداء. وليس كذلك تأخير بيان الأعيان. ما الذي كنت صانعا. ويقال له: قد بينا فيما سلف أن تأخير بيانه إلى حين الحاجة لا يخل بصحة أدائه. وأنه بمثابة تأخير القدرة والآلة، وكل ما يحتاج في إيقاع الفعل إلى وجوده. وإذا كان ذلك كذلك بطل ما ظنوه. فإن قالوا لم نرد بأنه مخل بأداء نفس المأمور به, وإنما عنينا أنه مخل بأداء اعتقاد وجوبه على وجه ما أمرنا به وذلك إنه إذا أطلق اللفظ وآخر البيان أوجب علينا بحق اللفظ اعتقاد عمومه بأداء كان مخصوصا عنده وآخر عنا بيانه لزمنا اعتقاد مراده به, وأنه مخصوص مع فقد الدليل عليه, وأخل تأخيره بصحة اعتقاد خصوصه، بل يجب علينا اعتقاد ضد ذلك من عمومه. يقال لهم: من سلم لكم أن الواجب اعتقاد خصوصه أو عمومه, وهل المنازعة إلا في ذلك. بل ما أنكرتم أن يكون الواجب علينا اعتقاد جواز تركنا

وموجب اللفظ فيكون عاما وجواز ورود تخصيص له فيكون خاصا ووقوفنا في ذلك وتجويز كل واحد من الأمرين، فلا يجدون إلى دفع ذلك طريقا. ويقال لهم: فهذا بعينه لازم لكم في جواز تأخير النسخ الذي هو بيان الأزمان، لأنه إذا أطلق لفظ التأبيد, وما يقتضي التكرار? في سائر الأزمان أو دل عليه بما يقتضي التكرار, أو يجب علينا اعتقاد وجوبه في عموم الأزمان, فإذا كان مخصوصا عنده ومرادا به بعض الأزمان وجب علينا اعتقاده ولا جواب عن ذلك يراده. وكونه مخصوصا مع أن اللفظ ودليل التكرار يدلان على نقيض ذلك فيحل تأخيره بما يجب علينا من فعل الاعتقاد. فإن قالوا: ليس يجب علينا بما يقتضي عموم الأزمان القطع على بقائه وتأبيده, ولا على نسخه وإزالته. وإنما ويجب علينا اعتقاد تجويز كل واحد من الأمرين. فهذا نفس جواب الذي به أسقطنا شبهتهم، فبطل ما قالوه. وأجاب فريق آخر منهم عنه بأن قالوا- لعمري-: إنه لا فصل بين الأمرين، وليس من حق بيان مدة انقطاع العبادة المسمى نسخا أن يتأخر عن الخطاب العام, بل يجب أن يكون مقرونا به, وكل فصل يتعاطى في ذلك باطل. وهؤلاء وإن كانوا قد الصقوا في التسوية بين الأمرين فقد خرجوا عن الإجماع, وأبطلوا النسخ جملة بما ركبوه, لأن أهل اللغة والمعاني لا يقول أحد منهم أن بيان مدة انقطاع التعبد بالفعل المقترن بالخطاب نسخ للعبادة والأمر, ولذلك لم يقل أحد أن قول القائل اضربه إلى الليل, واضربه ما دام مصرا. فإذا تاب فلا تضربه نسخا للأمر بالضرب. ولذلك لم يقل أحد من

الأمة أن قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} نسخ للأمر بالصيام, وأن قوله: {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْر} نسخ لإباحة الأكل، وأن قوله: {ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} نسخ لخطر وظئهن في الحيض, بل قد اتفق الكل على أن من حق الناسخ أن يكون وروده متراخيا عن وقت المنسوخ مع اقتضاء اللفظ ودليل التكرار لعموم الأزمان. وإذا كان ذلك كذلك سقط ما قالوه. فصل: وأجاب آخرون عن ذلك بأن قالوا: لا فصل- لعمري- بين تأخير بيان الأعيان وتأخير بيان الأزمان, ولا يجوز نسخ ما أطلق فيه اللفظ العام أو دليل? التكرار. وإنما يجوز أن ينسخ من ذلك ما علمنا قطعا أنه سينسخه أو أشعرنا بجواز نسخه, والقرينة المؤذنة بوقوع النسخ لا محالة قوله: صلوا أبدا إلى أن أنسخ عنكم والمشعرة بجواز نسخ العام قوله: صلوا أبدا إلا أن أنسخ عنكم, ومتى لم يقل ذلك لم يجز النسخ. فيقال لهم: ما قلتموه باطل من وجوه: أولها: إنه يجب عليكم أجازة مثله في تأخير بيان الأعيان إذا أشعر بما يدل على أنه سيخصه لا محالة أو بما يؤذن بجواز تخصصه دون القطع عليه

بأن يقول اقتلوا المشركين رأس الحول إلا من أخصه منهم ومن استثنيه لكم, ومن أبين أنه غير داخل في هذا الخطاب, ونحوه أو أن يقول: اقتلوا المشركين رأس الشهر إلا أن استثني منهم, وإلا أن أبين لكم المنهي عن قتله, وأمثال هذا. فإن راموا فصلا بين الأمرين لم يجدوه. فإن مروا عليه، فقد قاسوا قولهم .. ويقال لهم: إن قوله إلى أن أنسخ عنكم, أو إلا أن انسخ عنكم لا يعلم به وقت انقطاع العبادة إلا وقت يأتي في المستقبل، ولا يجب عليه إيقاع الفعل فيه, واعتقاد وجوب وقوع الفعل فيه إلى أن يرد النسخ فهو بمثابة أن يطلق تأبيد العبادة, وإن لم يقل إلى وإلا أن أنسخ عنكم في وجوب إيقاع العبادة في جميع مستقبل الأوقات ما لم يرد النسخ. ويقال لمن أجاز ذلك, وأباه منهم في أصل الفرق الذي تعاطوا, ما الحاجة إلى أن يقول لهم إلى أن أنسخ عنكم، وإلا أن أنسخ عنكم. وقد وضع عندنا وعندكم وعند سائر الآمة في عقل كل عاقل جواز نسخ العبادة الواردة باللفظ العام بصحيح الأدلة ولو لم يتقدم وضعه دليل جواز ذلك في العقل لم يحسن أن يقول لهم إلى أن أنسخ وإلا أن أنسخ عنكم, كما لا يجوز من قول جميعكم إذا أحال العقل النهي عن نفس ما أمرهم به أن يقول صلوا الصلوات التي أمرتكم بها إلا أن أنهاكم عنها بعينها لاستحالة ذلك. وجاز أن يقول صلوا أبدا إلى أن تموتوا, وإلا أن تموتوا وتعجزوا, لأجل أنه قد وضع في عقولهم سقوط التعبد مع الموت والعجز? فإذا قالوا: أجل. قيل لهم: أفليس قد اتفق على أنه جائز أن يقول: صلوا أبدا سرمدا إلى أن تموتوا, أو إلا أن تموتوا. وجاز أيضا أن لا يقول ذلك لهم, ويقول

صلوا أبدًا, وهو يريد إلى حين الموت, وإن لم يقل إلى أن تموتوا, بل يقتصر بهم على ما وضعه في عقولهم من وجوب سقوط العبادة بالموت. فإذا قالوا: أجل. ولا بد من ذلك. قيل لهم: فما الحاجة إلى أن يقول لهم إلى أن أنسخ، وإلا أن أنسخ عنكم. وهو قد وضع في عقولهم جواز ذلك. وهل أنتم في هذا القول إلا بمثابة من قال لا يجوز أن يطلق القول صلوا أبدا دائما إلا أن ينيطه بقوله إلا أن تموتوا أو إلى أن تموتوا, وإلا أوجب إطلاق القول لزوم التعبد مع الموت. وهذا مالا يقوله أحد, ولا فصل فيه. فإن قالوا: قد وضع في العقل وجوب سقوط التعبد به مع الموت. فجاز أن يذكره مع العبادة، وأن لا يذكره. قيل لهم: وقد وضع في العقل عندنا وعندكم جواز نسخ ما أطلق لفظة، وأن ما يتناوله اللفظ العام يجوز أن يكون مصلحة في أزمان دون أزمان, وأنه لا يتعبد إلا بما هو مصلحة. فلا يحتاج أن يقول صلوا أبدا ما كانت الصلاة مصلحة، وما لم تكن مفسدة, وهو قد أعلمهم أن الفعل المأمور به في الأزمان يكون مصلحة في زمان، ومثله مفسدة في غيره, ولا يحتاج أن يقولوا صلوا أبدا ما كانت الصلاة مصلحة, لأن في ضمن الأمر بها هذا القصد لا محالة, ولذلك جاز النسخ عندكم، فإن أظهره باللفظ كان مؤكدا به ما في العقل, وإن اقتصر بهم على دليل العقل صح وجاز - وهو مثل جواز أن يقول إلا أن تموتوا, وجواز ترك ذلك من حيث لا يمكن الفصل بينهما. ثم يقال لهم: إن المطالبة عليكم في الأمرين سواء فلم لا يجوز أن يقول: صلوا أبدا ويطلقه, ويكون مراده به إلى وقت بعينه يثبت عند حصول الحاجة إلى بيانه, وأن يكون فرض المكلف اعتقاد جواز تركه وعموم اللفظ, وكون

العبادة دائمة, وجواز ورود ناسخ ومخصص لها ومخرج لبعض الأزمان عن أن يكون مرادا كما طالبناكم في جواز تأخير البيان للأعيان سواء? فلم قلتم إنه لا يجوز إطلاق ذلك, وفيه وقع النزاع. وإنما تجوز هذه المطالبة لهم بعد كسر اعتلالهم بما وصفناه, وإلا فعلى تسليم ذلك منهم بنينا الدلالة, لا فيجب أن نبين لمن أنكر ذلك منهم فساد إنكاره لذلك وتعلله بما يصفه, وأنه لا معنى له مع قيام حجة العقل على جواز النسخ. وكذلك وجه القدح في قولهم إن قالوا ما دل الدليل على تكراره بغير لفظ عام لا يجوز نسخه حتى يقترن به ما يوجب نسخه لا محالة أو ما يؤذن بجواز نسخه, هذا أن اتفاق الأمة على جواز نسخ ما دل الدليل على تكراره قاض على فساد ما قالوه, لأن ما دل من الأدلة على أن التكرار والدوام لا يجوز أن يكون مقرونا بما يؤذن بانقطاع التعبد به, لأن ذلك ينقض دلالة تكراره لا محالة. وكذلك إذا قرن به ما يشعر بجواز انقطاعه نقض دلالة وجوب تكراره ودوامه, وأكثر ما نسخ في الشرع هو ما دلت الأدلة من غير ناحية اللفظ على تكراره ودوامه. ولا يجوز أن يقرن بذلك الدليل ما يوجب قطع العبادة. ولا ما يجوز انقطاعها, لأنهما ناقضات لدليل التكرار, فبطل ما قالوه من كل وجه. وهذا عندنا لأن في كل ما يقال إنه دليل على ثبوت العبادة في عموم الأمان من لفظ أو معنى يقرن باللفظ. فأما فصلهم بين القرينتين, وأن قوله إلى أن نسخ عنكم موجب لوقوع النسخ لا محالة, وليس كذلك قوله إلا أن أنسخ عنكم, فإنه قول باطل, لأن أهل اللغة يقولون ذلك. وإن اعتقدوا أنهم ينسخون ما أمروا به لا محالة ويعتقدون أنهم قد لا ينسخون, فهو بمثابة قوله حتى أنسخ أو إلا أن أنسخ وما لم أنسخ عنكم سواء. ولأجل ذلك لم يجب أن يكون قوله:

{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} دليلا قاطعا على أنه لابد أن يجعل لهن سبيلا ? ولولا السنة وقوله صلى الله عليه وسلم: " قد جعل الله لهن سبيلا ? البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ? والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" لم يوجب دليل أنه لا يد من جعل سبيل لهم ? فهو عند كافة أهل اللغة بمثابة قوله: لو قال: إلى أن يجعل الله لهن سبيلا ? أو إلا أن يجعل الله لهن سبيلا في هذا ? أو إلى أو إلا بمنزلة واحدة عند كافة أهل اللسان ? فبطل ما قالوه. فصل: وقد استدل على جواز / تأخير البيان بآيات من القرآن وسنن عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك قوله تعالى: {فَإذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قالوا: وثم موضوعة للتراخي على مهلة. وقوله تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وإنما أراد بذكر التفصيل ? تفصيل أحكامه ومعاينه دون تلاوته وتبيين تنزيله. وبقوله تعالى: {وقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} قالوا وذلك يقتضى تأخير بيانه. وبقوله سبحانه {ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وحْيُهُ وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}. وبقوله في قصة إبراهيم إعلامه هلاك قوم لوط {إنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} ? وإنما أرادوا الكفار من أهلها فلم يبينوا ذلك إلى أن قال إبراهيم عليه السلام: {إنَّ فِيهَا لُوطًا} فقالو: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ}

وبقوله في قصة بني إسرائيل: {إنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وإنما كلن مراده بقرة بعينها وهي التي نعتها دون ما عداها, فأخر بيان عينها إلى حين سؤالهم عنها. وبقوله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى} وأنه أراد بهم ذوي القربى بني هاشم وبني المطلب دون بني أمية, وكل من عدا بني هاشم فلما قسم ومنع ني نوفل وبني أسد وسأل عثمان وغيره عن سبب ذلك. قال عليه السلام:" إننا وبني هاشم لم نفترق في جاهلية ولا إسلام, ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه"

وبقوله تعالى في قصة نوح: {إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ} وقال تعالى عند ذلك: {إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فبين أنه أراد بقوله وأهلك بعض أهله. وقد استدل على صحة ذلك بأن من تأمل سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بعين النصفة علم ما قلناه فمن ذلك بيان المراد بقوله أقيموا الصلاة, وصلاة جبريل عليه السلام به في أول يوم في وقت أوله وفي الثاني وفي آخره وقوله:" ما بين هذين وقت"

وكذلك قوله:" ليس في الخضروات صدقة". و" وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". وفي " أربعين شاة شاة". قالوا: وكل ذلك ورد متراخ عن قوله: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} , و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}. وكذلك قوله:"خذوا عني مناسككم". في حجة ورد متراخيا عن قوله: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} مع بيانه بعد ذلك بمناسكه/ واستطاعته وشروطه. وكذلك قوله: {وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ} عام ورد بعده. {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} وذكر جميع أهل الأعذار ممن لا ظهر له ولا مال. ومثل هذا قد ورد في المواريث. وإطلاق النكاح وحظره من الكفار حتى ورد بيان من يرث ممن لا يرث, ومن يحل نكاحها ومن يحرم, ولو تتبع كل عموم ورد بحكم في تحليل أو تحريم أو إقامة حد وإيجاب فرض لوجد بيانه من السنن متأخرًا.

وقد ذكرنا في الكتاب الكبير جميع ما يتعلق به من الآي والسنن في ذلك, وما يصح منه, ومالا يمكن التعلق به وضروب اعتراضاتهم على الصحيح منه ونقضه بما يغني عن الإطالة به ها هنا. فصل: وما ذكرنا من الأدلة على جواز تأخير بيان العام المراد به الخاص لو سلم القول بالعموم أوضح على جواز تأخير بيان المجمل الذي لا يستقل بنفسه, وبيان المجمل الذي أريد بلفظ الحقيقة, وبيان كل ما يحتاج إلى بيان أعيان الأفعال وجملها, وفي عموم الأشخاص وأعيانها, وتأخر بيان شروط العبادة الواحدة وقدرها ووقتها, وغير ذلك من أحكامها. ولا يظن ظان أن الكلام في تأخير البيان مقصور على بيان العموم وما سموه مجملا فقط دون ما ذكرناه, لأنه إذا كان ما ظاهره موضوع للاستغراق قد يراد به البعض, وإن تأخر بيانه كان تأخير بيان مالم يوضع ظاهرة لبعض محتملاته أولى وأحرى. ولذلك فصل كثير منهم بين جواز تأخير المجمل وبين جواز تأخير العام. واعتقد إحالة تأخير بيان العام, فبان بذلك ما قلناه.

باب الكلام في التسوية بين الأوامر والنواهي والأخبار في هذا الباب بمعنى تأخير البيان

باب الكلام في التسوية بين الأوامر والنواهي والأخبار في هذا الباب بمعنى تأخير البيان اعلموا أن ما ذكرناه من الدلالة على جواز تأخير بيان العام هو الدليل على أنه لا فرق بين جواز تأخير بيانه وبين المجمل وبيان الأوامر والأخبار. وقد فرق قوم بينهما فزعم بعضهم أنه يجوز ذلك في الأخبار، ولا يجوز في الأوامر والعبادات. وقال آخرون يجوز في العبادات، ولا يجوز في الأخبار, ولا حجة لأحد? الفريقين. وقد اعتل محيلو ذلك في العبادات بأنه يمنع من صحة أداء الفعل أو أداء العزم عليه. وقد بينا فساد ذلك من قبل, وأنه غير مانع منهما. واعتل محيلو ذلك في الأخبار بأن الأخبار وعد ووعيد وترغيب وزجر وترهيب, ولا يتم ذلك فيه إلا بأن يعلم من المراد به ممن لم يرد, وإلا لم يقع ترهيب ولا ترغيب, وهذا باطل من وجوه: أحدهما: الاتفاق على جواز زجره لنا بقوله: أطيعوا واحذروا عقابي,

فإنني أمرت بني إسرائيل فعصوني فعاقتبهم, وإن جاز أن يكون مراده البعض تارة والكل أخرى وإن تم الزجر لنا. والوجه الآخر: إنه ليس كل الأخبار وعد ووعيد, بل فيها قصص وحكايات, وغير ذلك, ومحتملة في الأخبار نحيله في جميعها, ودليله هذا لوضح مقصور على إحالة تأخير بيان ما كان منها وعدا ووعيدا. والوجه الآخر: إنه قد ثبت عندنا إنه ليس كل وعيد وزجر وترهيب خبر عن إيقاع المتوعد به، بل منه ما يكون كذلك, وهو ما علم إيقاع المتوعد به, ومنه ما هو ترهيب وإن لم يقصد المتوعد إلى إيقاعه, وإنما يورده زجرا وترهيبا على ما قد بيناه في كتاب الوعيد من الكلام في أصول الدين, فبطل ما قالوه. وإن قالوا تأخير بيانه يخل بصحة اعتقاد عمومه أو خصوصه. قيل: ليس سامعه اعتقاد أحد الأمرين، وإنما عليه اعتقاد تجويز كل واحد منهما, وربما لم يرد المتوعد بوعيده إيقاع (المتوعد به) بأحد ممن

توعده، ولولا الإجماع والتوقيف على أن الكفار مرادون بإنزال المتوعد به من عقابهم لأجزنا غفرانهم والاستثناء في وعيدهم، كما نجيز ذلك فيمن لم نوقف على عقابه من المؤمنين, وإذا كان ذلك كذلك بطل ما قال الفريقان.

باب ذكر ما يتعلقون به في إحالة تأخير بيان المجمل والعموم والاعتراض عليه

باب ذكر ما يتعلقون به في إحالة تأخير بيان المجمل والعموم والاعتراض عليه وقد اعتمدوا في ذلك على أنه إذا خاطب تعالى العربي بالمجمل الذي لا يعرف معناه, وبلفظ عام يريد به الخاص قبح خطابه, لأنه خطاب بما لا يفهم معناه/ فصار بذلك بمثابة خطاب العربي بالفارسية والفارسي بالعربية. وإن كان كل واحد منهما لا يعرف ويفقه غير لغته. وإذا كان ذلك كذلك لم يجز تأخير البيان. فيقال لهم. لو جمعتم بين الأمرين مع علمكم بتفرقة أكثر مخالفيكم بينهما, ولا يجدون فيه متعلقا. ثم يقال: يجوز عندنا خطاب العربي الذي لا يعرف غيرها من اللغات بجميع اللغات الأعجمية وبالإشارة باليد إليه وبالأصوات الممتدة إذا أشعر بأن المخاطب له بذلك عليم حكيم,) وله في الخطاب مراد به) إذا عرف المخاطب أنه سيبين له ذلك. وعلى هذا الوجه جاز للنبي عليه السلام الخطاب لكل من بعث إليه إذا

تمكن من معرفة ذلك, وإن لم يكن من أهل لغته إذا ترجم له وبين له ذلك. ولهذا احتيج إلى التراجمة والمعبرين في كثير من الأحوال. فإذا صح وجاز من الخطاب ما ادعيتم قبحه وبنيتم الخلاف عليه فقد بطل دليلكم. ونحن فقد جوزنا أمر المعدوم ونهيه بشريطة البلاغ إليه والبيان له, وهو أبعد في حال عدمه عن فهم ما أمر به ونهي عنه من الأعجمي الذي يعرف الرموز والإشارات وكثير من لواحق الكلام, ويعلم أن مخاطبه بما يسمعه وإن لم يعرف معناه حكيم ذو أغراض في خطابه, وإذا كان ذلك كذلك بطل الأصل الذي عليه بنيتم. فإن قالوا: إذا جاز خطاب الأعجمي بالعربية والمعدوم بشريطة إفهامه بما يواجه به, فهلا أجزتم خطاب الميت والطفل والمجنون والبهيمة, وإن لم يعرفوا المراد بالخطاب؟. يقال لهم: إن أردتم بخطابهم أن يكون مشروطا بإفهامهم ذلك إذا صاروا إلى حد من يصح منه العلم بالخطاب وأحكامه, فذلك جائز صحيح. وإن أردتم جواز خطابه مع عدم هذا الشرط, فذلك باطل. ونحن لم نجوز الخطاب بالمجمل والعام. على أن يكون أبدا عاريا من البيان إذا كان تكليفا وإذا كان ذلك سقط ما أصلتم- أيضا- من هذا الوجه. وأما من في المعلوم أنه لا يبلغ حد التكليف وتحصل له صفات المكلفين من الموتى والأطفال والمجانين, فمحال تكليفه إذا لم يكن عالما بالتكليف, ولا على صفة/ من يصح علمه بذلك. قد فصل كثير من الناس بين ذلك بأن المعدوم والميت والطفل والمجنون لا يصح أن يعلم المراد بالخطاب وأنه خطاب له. والعربي إذا كلمه بالفارسية حكيم يعلم أن له غرضا بالكلام صحيحا يجري إليه كان عارفا بأنه خطاب

حكيم ومقصود به معنى ووجه صحيح وهذا متعذر في الميت والطفل والمعدوم. والوجه الآخر: إن هؤلاء لا يعرفون كون الخطاب خطابا لهم, وأنه مقصود به غرض صحيح. والعربي إذا خوطب بالفارسية علم ضرورة قصده بالكلام وأن لمن كلمه أغراضا به صحيحة يقف على البيان له. فافترق الأمران. والوجه الآخر: أن العربي إذا قيل له: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} عرف الحق فيه في الجملة. وأنه شيء يجب فيه, ويعرف اليوم, ويعرف الحصاد, ويعرف أنه مخاطب بهذا الكلام. وإنما يجهل عين الحق الذي أجمل في الخطاب. والعربي لا يعرف شيئا من ذلك إذا خوطب بالزنجية. وأنه أمر أو نهي ووارد لغرض في العبادة إن كان عبادة. بل لا يعلم أنه متعبد ومأمور مكلف بذلك القول. وإذا كان ذلك كذلك افترق باتفاق- أيضا- صحة خطاب العربي بما يجهل تعيين معنى منه لاحتماله وخطابه بالزنجية. وبطل ما قالوه من كل جه. واستدلوا- أيضا- على إحالة تأخير البيان بأنه إذا خاطبهم باللفظ العام ومراده به الخاص. وإن أخر بيانه صادر بمثابة أن يخاطبهم بالأسماء اللغوية ويريد بها غير ما وضعت له. فيقول فاقتلوا المشركين ويريد به المؤمنين. ويقول: حرمت عليكم أمهاتكم, وهو يريد إماءكم. وفي خمس من

الإبل صدقة وهو يريد به الخيل, لأن ذلك أجمع خطاب بغير لغة العرب. وهذا باطل, لأن كل اسم مما ذكروه لا يجري على ما قالوا إنه يريده به في حقيقة, ولا مجاز وإطلاق اللفظ العام يصلح أن يراد به البعض حقيقة, كما يصلح أن يراد به الكل عند منكري العموم, ويصلح أن يراد به البعض على وجه التجوز والاتساع باتفاق. وقد يحسن خطاب العربي بالاسم واللفظ المشترك بين أشياء على الحقيقة, وبماله حقيقة ومنه مجاز, وإن عنى به المجاز وأوقف ذلك على البيان فصار/ ما قالوه خطابا بغير ما وضع في اللغة. وما قلناه أحد أقسام خطابهم إن كان حقيقة في البعض أو مجازا. فصل: واستدلوا- أيضا- على إحالة تأخير البيان بأن تأخيره يخل بصحة أداء الفعل وقت الحاجة. ويخل- أيضا- بصحة تعجيل العزم عليه والاعتقاد لإيقاعه على وجه ما أمرنا به. وقد بينا فيما سلف سؤالا ومطالبة في فساد ذلك فأغنى عن إعادته. فصل: واستدلوا- أيضا- على إحالة ذلك بأنه يوجب علينا اعتقاد عمومه, وإن كان مخصوصا عنده. وذلك إيجاب للجهل. وهذا باطل، لأنه إنما يجب على من ورد ذلك عليه تجويز تركه وعموم اللفظ وتجويز ورود ما يخصه, ومحظور عليه اعتقاد عمومه أو خصوصه قطعا. فبطل ما قالوه. فصل: واستدلوا- أيضا- عليه بأنه إذا أطلق اللفظ العام والمراد به الخاص وجب علينا اعتقاد خصوصه, وإن لم يكن على ذلك دليل, بل اللفظ دال على خلافه.

وهذا باطل, لأنه محظور علينا اعتقاد كونه مخصوصا. وإنما يجب أن نعتقد جواز كونه مخصوصا وجواز كونه عموما, كما نعتقد مثل ذلك فيما ورد بلفظ يقتضي عموم الأزمان. فصل: واستدلوا على ذلك- أيضا- بأن التوقيف فيه إذا تأخر بيانه وتجويز كونه عاما ومونه خاصا ينقض القول بالعموم. ويصحح مذهب أهل الوقف والكلام فيه مبني على تسليم القول بالعموم. وهذا- أيضا-، لأجل أنه ليس الوقف في ذلك توقف فيما وضعت الصيغة له في أصل الوضع, وإنما هو توقف في أننا نترك ما وضعت له فيكون عاما. وقد يجوز أن يرد تخصيص له, فيكون خاصا, وإذا ورد وقت التنفيذ ولم يرد بيان يوجب تخصيصه عممناه بنفس اللفظ, وأهل الوقف إذا عدموا دليل كون اللفظ خاصا لم يكتفوا بذلك في العلم بأنه عام, بل يرجعون في كونه عاما إلى دليل سوى فقد الدليل على كونه خاصا. فافترق القولان ولم يكن بإجازة تأخير البيان مؤديا إلى الوقف في صيغة العموم، فبطل ما قالوه. فصل: واستدلوا على ذلك - أيضا- بأن تأخير البيان بجعل ما ورد من الخطاب بمنزله ما لم يرد منه من حيث لا يمكن أن يعتقد فيه خصوص ولا عموم, فلم يجز لذلك تأخيره. وهذا? فاسد, لأنه قبل أن يخاطبوا بما يجوز كونه عموما ويجوز كونه خصوصا, وبمجمل لا يعرف عين المراد به لا يجب على المكلف فعل العزم على قتل أحد المشركين. ولا اعتقاد كونه مأمورا بذلك في جملة ولا تفصيل, ولا أن عليه حقا فيما يحصده يجب عليه العزم على أدائه عند بيانه, وإذا ورد عليه الأمر بذلك وجب عليه فعل العزم على أداء ما يقدر له وقتل الجميع

إن ترك وظاهر اللفظ أو البعض إن خص منه. وإنما يجب عليه ذلك عندنا بشريطة بقاء الأمر وأن لا يسنح عنه قبل وقته, فحصل بذلك ممتحنا مكلفا ولو ترك فعل هذا العزم لكان بذلك عاصيا. فبطل ما قالوه. وهذا هو جوابهم في إحالة تأخير بيان المجمل وسائر اللفظ الصالح عندنا للتعبير به عن الإباحة والإيجاب والندب والتهديد. وعن قولهم: لو تأخر بيان المراد بأمره أنه على التراخي, وهل هو واجب أو ندب يخرج عن كونه مفيدا ولصار وجوده بمثابة عدمه. فصل: واستدل- أيضا- بعضهم على ذلك بأن تأخير البيان يوجب نسخ ما يخص منه بعد وروده على التراخي. قالوا: ونحن لا ننكر النسخ وإنما ننكر أن يكون المتأخر تخصيصا. وهذا- أيضا- باطل، لأن النسخ للعبادة إنما يصح بعد بدئها واستقرارها. ولفظ العموم الواجب تنفيذه على التراخي لم يستقر كونه عموما, بل هو مراعي على ما قلناه, يجوز كونه عموما إن تركنا وظاهره ويجوز ورود ما يخصه. فبطل ما قالوه. فصل: واستدلوا- أيضا- على ذلك بأن تأخير البيان جار مجرى قطع الكلام عن تمامه والابتداء عن خبره والاستثناء عن المستثنى منه. وذلك أجمع فاسد غير مستعمل. وهذا- أيضا- بعيد, لأننا قد أوضحنا فيما سلف أن قطع الابتداء عن خبره والاستثناء عن ما هو استثناء منه يجعل الكلام مبتورا غير مفيد, ويخرج الاستثناء عن كونه مفيدا ومتعلقا بالمستثنى منه. ولا حاجة بنا إلى رد ذلك. وإطلاق لفظ العموم والمجمل المراد منهما أمر مفيد, وتأخير بيان ذلك كلام مفيد لأشياء كثيرة, وإن كان فيه وجه من الاحتمال. وقد ثبت أن من كلامهم المجمل والمفسر والظاهر الجلي والمشكل الخفي.

وليس/ من كلامهم ابتداء لا خبر له. واستثناء يتأخر عن المستثنى منه لما بيناه من قبل, فافترق الأمران. فصل: واستدلوا- أيضا- على ذلك بأن قالوا لو جار تأخير البيان مدة ما لجاز تأخيره المدد الطويلة وذلك باطل, ولا فرق بين طول المدة وقصرها. وهذا فاسد, لأننا نجيز تأخير بيان ما يجب بعد مدة وسنين طوال إلى حين وقته وحضور الحاجة إلى تنفيذه. فبطل ما قالوه. ومن الناس من يدعي في إحالة تأخيره الزمن الطويل عادة في اللغة, وليس مثلها في قبح تأخيره مدة يسيرة والأول أولى. فصل: واستدلوا- أيضا- بأنه لو جاز تأخير البيان لم يأمن الرسول صلى الله عليه وسلم من الاخترام قبل بيانه للأمة. وفيه تضييع الفرض وإزالة المحنة, وذلك غير جائز في صفته. وهذا- أيضا- باطل, لأنه إذا أمر صلى الله عليه وسلم بتأخير بيان الخطاب, ور يؤمر بذلك إلا وقد بين له. وقيل: أخره إلى حين الحاجة, وإن لم يبين له ذلك. فالبيان متأخر عنه وعن الأمة جميعا. وذلك جائز وإن اخترم قبل أن يترك البيان لتخصيص العام كان فرض الأمة تنفيذه على العموم, لأنه لا شيء يخصه بعد اخترامه, اللهم إلا أن يكون هناك قياس على أصل يوجب تخصصه عند من جوز تخصيص الظاهر بالقياس, ولا يقال في مثل هذا إنه لو مات عليه السلام قبل نزول البيان لكان عاصيا ومفرطا. لأنه لم يلزمه بيان شيء أمسك عنه من حيث لم يبين له ما بينه لأمته. وإن بين ذلك له, وقيل له: قدم بيانه مع الخطاب وعقيبه لم يجز أن يؤخره. وإن قيل له: أخره فقد أوجبنا عليك تأخيره أو أبحنا لك ذلك وتقديمه إن شئت وجب عليه أو جاز له تأخيره,

ولزمه اعتقاد جواز بقائه إلى المدة التي قيل له بينه عندها وجواز احترامه دونها وإذا احترم دونها لم يكن عاصيا, أنه ترك ما وجب عليه تركه. أو ما أبيح له تركه ووجب على الأمة تنفيذ حكم الخطاب على عمومه, لأنه لا شيء يخصه فبطل ما قاله. وقد بينا في فصول القول في القول في الأوامر إنه يجوز احترام النبي عليه السلام/ وغيره من المكلفين بالفعل على التراخي قبل الوقت الذي حد به الفعل ووقت, والمنع منه لعوارض غير الموت والنسخ له قبل وقته. ونحن نزيد ذلك كشفا في فصول القول في النسخ إن شاء الله. وإذا كان ذلك كذلك جاز احترام النبي عليه السلام قبل الوقت الذي أمر بالبيان عنده, ولم يكن ذلك عصيانا وتضييعا منه, ولم يلزم الأمة عند ذلك شيء والقدرية تزعم أنه محال احترام المكلف للفعل في المستقبل قبل دخول الوقت, ومنعه منه بالنسخ أو غيره من الموانع وذلك لأنه اقتطاع له عن المصلحة, إذا لا يكلف الرسول وغيره إلا لقصد مصلحته والمنع منه استفساد وسفه لا يجوز في حكمته تعالى, وذلك باطل من دينهم بما نبينه من بعد, وما قد ذكرناه في فصول الأوامر من قبل. فصل: واستدلوا- أيضا- على ذلك بأنه لو جاز تأخير بيان ما يحتاج إلى بيان يصح وجاز من الرسول عليه السلام تأخير البلاغ عن الله سبحانه فيما أرسل به, وذلك محال, لأنه قد قيل له: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} و {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} وأمثال هذا مما أكد عليه فيه فرض البيان وتقديم البلاغ.

وهذا- أيضاً- فاسد من وجهين: أحدهما: إن تأخير البلاغ صحيح جائز في صفته إذا أوجب عليه تأخيره أو أبيح له ذلك وتجويز بقائه إلى حين تضييق فرض البلاغ عليه, ويجوز احترامه قبل ذلك, وأن يلزم الأمة منه شيء. وأن يكون الغرض فيه إذا احترم قبل البلاغ كون إنزاله عليه لطفا له أو لبعض ملائكته. هذا جائز مع القول بوجوب اللطف فلا وجه لدعوى إحالته, وإنما يجب تجويزه لاحترامه قبل البيان له وللأمة. فأما إذا بين له المراد بلفظ العموم الخصوص وأن تنفيذ مراده فرض عليه وعلى أمته ولم يكن هناك ما يدل على تخصصه إلا بيانه للأمة على لسانه لم يجز احترامه قبل البيان. وقد أجاب قوم عن قوم عن ذلك بأن تأخير البلاغ لا يجوز منه, لأن الذي يؤخر بلاغه خطاب له وللأمة. فإذا لم يبلغه لم يكن خطابا لهم, وما قدمنا من الجواب أولى، لأنه لا يمتنع أن يكون خطابا له وحده حين نزوله عليه وخطابا لهم أذا بلغهم. وأن يكون- أيضا- خارجا عن كونه خطابا لهم إن احترم الرسول عليه السلام قبل الوقت الذي أمر بالبلاغ فيه, أو نسخ عن الرسول عليه السلام وجوب بلاغه قبل الوقت، لأن نسخ مثل هذا جائز كسائر? ما يجوز نسخه من عباداته وعبادات غيره قبل وقته فزال ما قالوه. والأشبه في قول محيل البيان إجازة تأخير البلاغ وإحالة تأخير البيان, لأنهم زعموا أن تأخير البيان يقبح الخطاب ويجعله بمثابة خطاب العربي بالزنجية. وتأخير بلاغ الرسول لا يقبح خطابه به وإفهامه إياه. ولا يكون خطابا للأمة مع تأخيره على وجه يحسن أو يقبح, ولا يخل بأداء غير ذلك من جميع ما كلفوه, فصح تأخير البلاغ وإن امتنع على ادعائهم تأخير البيان. وهذه جمل مقنعة في هذا الباب.

باب الكلام في جواز تقديم بيان بعض المراد بالخطاب على بعض وتأخير بيان باقية إلى وقت الحاجة

باب الكلام في جواز تقديم بيان بعض المراد بالخطاب على بعض وتأخير بيان باقية إلى وقت الحاجة والذي نختاره في هذا الباب إنه إذا صح بما قدمناه جواز تأخير البيان إلى حين الحاجة وجب القول بجواز تأخير بيان بعض المراد بالعام والمجمل- أيضا- وصفات العين المأمور بإيقاع الفعل فيها, وصفات الفعل الموقع وشروطه. ولا يجب أن يقال: إن قدر ما قدم بيانه هو جميع المراد. وذلك نحو أن يقول اقتلوا المشركين رأس الحول, ثم يقول بعد مهلة ووقت إذا كانوا حربيين, ثم يقول بعد مهلة أخرى وإذا كانوا مشركين وثنيين دون كتابيين. ثم يقول بعد وقت آخر وإذا كانوا رجالا أصحاب رأي في الحرب والدفع في أمثال هذا. فإذا جاء وقت التضييق ولم يرد على ما تقدم بيانه علم حينئذ أن الذي بينه كان جميع من أراد تخصيصه وقطع بالعموم فيمن عداهم. كذلك سبيل جواز تأخير بيان بعض المراد بالمجمل دون بعض إلى حين الحاجة إلى تنفيذ المراد به, نحو أن يقول في قوله: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} بعد مهلة من ورود الخطاب إذا بلغ خمسة أوسق, ثم يقول بعد مهلة أخرى إذا كان مما يقتات ويدخر, ويقول بعد مهلة أخرى وحقه كذا وكذا, أومنه من غير جنسه. ونحو أن يقول: اقطع سارقا, ثم يقول بعد وقت إذا كان عاقلا بالغا, ويقول بعد وقت ثاني إذا أخرجه من الحرز, وبعد وقت وإذا بلغ المسروق ربع دينار، ونحو هذا. ويقول في صفة الفعل ويكون القطع من الكوع وبآلة كذا

وفي وقت كذا، هذا كله جار على منهج واحد في الصحة والجواز ولا يجوز إذا بين حكما وحكمين وشرطا وشرطين قبل وقت التضييق مع بقاء وقت متسع إليه أن يقطع على أن قدر ما بينه هو جميع الذي أراد تخصيصه من العام وبيانه من حكم المجمل. ولا يجوز لقائل أن يقول? إنه إذا بين بعض مراده مع ورود الخطاب أو بعد مهلة وجب العلم بأن ذلك جميع ما أراد بيانه وإلا كان موجبا علينا اعتقاد الجهل في أنه لا شيء بقي يحتاج إلى بيان, لأنه يجب أن يعتقد بتقديم بيان البعض أنه جميع ما أريد بيانه فيكون أمدا لنا باعتقاد الجهل. وإنما يجب تجويز كون قدر ما بينه جميع المراد وتجويز إيراد زيادة على ذلك وورود بيانها قبل وقت التضيق. ولو لزم هذا الذي قالوه للزم اعتقاد الجهل في تأخير بيان مجمله المراد إلى وقت الحاجة مع كون اللفظ عاما. وقد بينا فساد تعلقهم بذلك ودعواه من قبل بما يغني عن إعادته, فبطل ما قالوه. وقد فصل قوم من الفقهاء من أهل العراق وغيرهم بين جواز تقديم بيان بعض المراد على بعض في العموم والمجمل فقالوا: لا يجوز ذلك في العموم المستقل بنفسه في وجوب استغراق الجنس, لأن اللفظ يقتضي الاستغراق. فإذا بين خروج قدر منه كان ما بقي متناولا لجميع ما بقي, وإذا أراد إخراج شيء آخر منه, واللفظ وما قدم بيانه لا ينبئان عن ذلك وجب اعتقاد عمومه فيما بقي, وذلك إلزام للجهل إذا كان مراده بعضه. وقد بينا فساد هذا القول.

قالوا: وأما المجمل فلا يستقل. فإذا بين بعض مراده به لم يكن للفظ بعد ذلك البيان ظاهر يقتضي أنه لا شيء يراد بيانه إلا ما ذكر. وهذا موافقة منهم في حكم المجمل وخلاف في بيان العام. وقد بينا من قبل إنه والعام سيان, وأنه لا يجب اعتقاد الجهل في العام من حيث توهموا فاستوت الحال فيهما. ولهذا لم يجعل كثير من أهل العلم قوله عليه السلام لما شئل عن سبيل الحج. فقال:" زاد وراحلة" بيانا لجميع السبيل. وقالوا هذا بيان لبعض السبيل لمن لا يستطيع الحج ببدنه, ولأنه لم يبين- أيضا- حصول الأمن في الطريق وغرامة المال في الخفارة، وتحريم الركون في المسير إلى من لا يؤمن على دماء المسلمين, إلى غير ذلك مما يحتاج إلى بيان وإن لم يظهر ما يشعر بذلك وفرض الحج معلق بحصوله, فصح بذلك ما قلناهم. وزعم بعضهم: إنه إنما يجب تجويز تقديم بيان بعض المراد بالمجمل وتأخير باقيه إلى وقت الحاجة إذا كان هناك حال وإشعار بأن هناك أمورًا

أخر في حكمه تحتاج إلى بيان, فإن لم يظهر ما يشعر بذلك من قول أو فعل لم يجز ذلك. فهذا لا وجه له ولا دليل عليه, بل يجوز ذلك مع وجوده ومع عدمه. ويقال لمن قال هذا في المحمل وأمكره في العموم. فجوز- أيضا- تأخير بيان العام? إذا كان هناك إشعار بأن ما يحتاج إلى بيان, وهو لا يقول ذلك. فبطل قوله من كل وجه.

باب الكلام في جواز بيان حكم آي القرآن والمتواتر من سنن الرسول عليه السلام بأخبار الآحاد

باب الكلام في جواز بيان حكم آي القرآن والمتواتر من سنن الرسول عليه السلام بأخبار الآحاد اختلف الناس في ذلك: فقال سائر الفقهاء وجمهور من أوجب العمل بخير الواحد من المتكلمين إنه لا يمتنع بيان حكم العام والمجمل المعلوم ورودها في الكتاب والسنة بخبر الواحد. وهذا هو الذي نختاره. وقال أهل العراق: إن ما ثبت من العمومات في الكتاب والسنة المعلومة المتواترة لم يجز بيانهما وتخصصهما بأخبار الآحاد, بل لا يخصان إلا بخبر معلوم حتى يكون البيان كالمبين في قوته وطريقه

قالوا فأما المجمل فإنه على ضربين: إن كان المراد به من الفرائض الأعيان وعاما يلزم سائر المكلفين وجب أن يكون بيانه معلوما متواترا كبيان أقدار الصوات وأوقاتها وصفاتها, وبيان الزكاة ومقاديرها وأجناس ما تؤخذ منه, وأمثال ذلك من الفرائض العامة. وأما مالا تعم اليلوى به ويكون من فرائض الأئمة والعلماء كتقدير ما يقطع فيه السارق وما يدرأ به الحدود وأحكام المدبر والمكاتب. وما يتعلق بالعلماء ولا تعم به البلوى فيقبل في بيانه خبر الواحد. والدليل على صحة ما قلناه: إن ما تضمنه العام والمجمل من أحكام الشرع أمر يصح أن تختلف فيه فرائض المكلفين فيوجب على بعضهم فيه العلم والعمل جميعا, وعلى بعضهم العمل دون العلم, وإن كان عملا تعم به البلوى أور يجوز يعم. كما يجوز ورود التعبد به وأن لا يرد به جملة, وأن يتعبد به البعض من المكلفين دون بعض, فتختلف فيه فرائضهم فهذا اتفاق.

وقد دللنا على ذلك من قبل. وسنتبع القول فيه عند انتهائها إلى وجوب القياس وأحكام العلل إن شاء الله. وإذا كان ذلك لم يمتنع أن يورد اللفظ العام والمجمل في الكتاب والسنة, وأن ينقلا نقلا متواترا, فيوجب على الكل العلم بورودهما, وأن يبين مراده بهما تارة بيانا معلوما منقولا كنقل المبين والمجمل والعام. فيلزم عند ذلك العلم والعمل به (واجبا, وأن يبين ذلك تارة للواحدة ومن جرى مجراه, فيكون فرض من تلقى البيان عنه عليه السلام من الآحاد العلم والعمل). وفرض من ينقل إليه الآحاد ذلك العمل به دون العلم فتختلف في ذلك فرائضهم. ولا يجوز أن يقال إن محال لأن اللفظ العام مقطوع على عمومه وخبر الواحد غير مقطوع بصحته, لأن إنزاله ووروده هو المقطوع به. فأما كونه عاما فطريقه لو ثبت الاجتهاد وما به يجب العمل بخبر الواحد إجماع الصحابة, فطريق وجوب العمل به أقوى من? من طريق العمل بالعموم. فإن لم يكن أقوى فهما سيان, وعلى أنه لا يجوز أن يقطع بعمومه مع تجويز كون خبر الواحد صدقا, لأنه لو قطع بعمومه لقطع على كذب الخبر, وذلك ما لا سبيل إليه, وإذا كان ذلك صح بيان المتواتر من ألفاظ العموم وما ورد منه في الكتاب بأخبار الآحاد. فأما تفصيلهم الذي ذكرناه في المجمل فلا حجة- أيضا- عليه. لأنه لا يمتنع أن يرد العام والمجمل بما يعم به البلوى, ويكون بيانه مع ذلك من جهة أخبار الآحاد, فيكون العلم بورودهما مفروضا والعمل في تخصيصهما واجبا بأخبار الآحاد ومقطوعا بوجوبه. وإن كان صدق الراوي وضبطه مظنونا, ولا يمتنع أن يكون منه ما يلزم فيه العمل والعلم فيجب بيانه

ونقله على وجه يوجب العلم والقطع على تخصيص الرسول له. ولهذا وجب قبول خبر بسرة في وجوب الضوء من مس الذكر وإن كانت البلوى به نعم, ولأجله قبلوا خبر الوضوء من القهقهة في الصلاة وذلك مما يبتلى به الأقل, ولأجله وجب قبول أخبار الآحاد في الأوساق وتقدير ما يجب فيه الزكاة من الرقة والحبوب والماشية, وإن لم يكن نقل قوله:" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" في التواتر كنقل قوله:" فيما سقت السماء العشر" ومثل العلم بقوله: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}. ولو تأمل أكثر ما تعم البلوى

به لوجد بيانه واردا من جهة الآحاد, وإن كانت الأمة قد قبلته وعملت به في ذلك. ويدل على صحة ما قلناه- أيضا- إنه لا يمتنع أن يكون الأصح للنبي عليه السلام وأمته وكثير منهم تعبدهم في كثير مما تعم البلوى به بالعمل دون العلم, وأنه لو كلفهم العلم والعمل به لم يطيعوا فيه ولا في غيره, فيقتصر بهم على وجوب العمل دون العلم. فإن قيل: فقد وجدنا تعبدهم في كثير مما تعم البلوى به بالعلم والعمل. قيل: ما أنكرنا ذلك, فإذا كان ذلك مراده في تلك العبادة أو كان هو المصلحة لهم فيها على قول باني التكليف على المصالح فلا يقدح فيما قلناه. ويدل على ذلك ورود التعبد بالاجتهاد في القبلة عند غيبتها والقياس على جهتها, وإن كان التوجه إليها مما يعم فرضه. وإنما تصيرون في التوجه إليها عند الاجتهاد إلى غلبة الظن دون العلم, فصح بذلك ما قلناه. وليس لهم الانفصال من هذا بأن يقولوا إنه إنما ساغ ذلك، لأنه لا طريق عند التباس جهتها يوجب العلم فيؤمر به, وله سبحانه طريق? إلى إعلامنا يخصص العام وما تعم به البلوى من أحكام المحمل فلم يجزأن يقتصر في بناء ذلك على ما يقتضي غلبة الظن دون العلم, لأن هذا الاعتلال إن كان صحيحا لم يجز أن يتعبدنا بأن نصير إلى موجب أخبار الآحاد والقياس ابتداء فيما تعم البلوى به. وفيما لا تعم, لأنه سبحانه قادر على أن يبين لنا جميع ذلك بطريق يوجب العلم والقطع. وقد اعتل بهذا الذي قالوه منكرو العمل بأخبار الآحاد والقياس في الأحكام. وقالوا لا يجوز الاقتصار بناء على أدون البيانين مع قدرته على أعلاهما, ولما لم يجب ذلك من قولنا وقولهم بطل ما فصلوا به, وصح ما قلناه.

باب القول في العالم إذا حصل معه لفظ عام ولم يعثر على ما يوجب تخصيصه هل يجوز له إنفاذه على العموم أم لا؟

باب القول في العالم إذا حصل معه لفظ عام ولم يعثر على ما يوجب تخصيصه هل يجوز له إنفاذه على العموم أم لا؟ اختلف الناس في ذلك: فقال كثير منهم يجوز له, بل يجب عليه القضاء بعمومه متى اجتهد في طلب ما يخصه من كتاب وسنة وإجماع وقياس واستدلال وما يجوز تخصيص العام به, فلم يعثر عليه, فإن ذلك فرضه. وقال آخرون: بل يجب عليه التوقف عن القطع على عمومه متى جوز أن يكون في وجوه الأدلة ما يخصه, وإن لم يقف عليه, وأنه لا يجوز له القطع بالعموم حتى يحبط بجميع الأدلة علما. ويعلم أنه ليس في أدلة الشرع ما يوجب تخصيصه. وقد يمكن أن يقال في ذلك إن الحكم فيه مردود إلى غلبة ظن العالم المجتهد, فإذا وجد اللفظ العام وبحث واجتهد في طلب ما يخصه, فلم يجده وحصل عند ذلك معتقدا إنه لا شيء في أدلة السمع يخصه وجب عليه أن

يحكم بعمومه. وقد يجوز عندنا أن تكون ما اعتقده من انتقاء دليل يخصه صحيحا على ما اعتقده, ويجوز أن يكون خطأ منه ويكون الأمر على غير ما اعتقده. غير أن الله سبحانه إنما علق فرضه في وجوب الحكم بعموم الخطاب على حصول هذا الاعتقاد منه أخطأ في ذلك أم أصاب. كما أنه أوجب على المجتهد في طلب القبلة الصلاة إلى ما يغلب على ظنه أنه جهة القبلة أصاب في ظنه ذلك أم أخطأ. وكذلك أوجب على العالم الحكم إذا اعتقد القطع على أنه ليس في وجوه الأدلة ما يخصه سواء أصاب في اعتقاده ذلك أم أخطأ. فأما إذا اجتهد ولم يصره الاجتهاد إلى اعتقاد القطع على أنه لا دليل في السمع يوجب ذلك, بل وجدها ظنية لعدم الدليل? مجوزة لوجوده لم يجز له الحكم بعمومه مع تجويز كونه خاصا, لأنه حينئذ يقدم على الحكم بما يجوز كونه خطأ, وذلك غير جائز. ويجب على هذا الأصل - أيضا- أن لا يجوز للعالم أن يجتهد ويحكم بالقياس والاستدلال في حكم الحادثة دون أن يعتقد أنه ليس فيها دليل يمنع من المصير إلى حكم الاجتهاد لأنه إن لم يعتقد ذلك وجوز وجود ما يمنع من الاجتهاد أقدم على الحكم بما يجوز كونه خطأ, وذلك غير جائز. فإن قال قائل: كيف يجوز أن يوجب عليه الحكم بالعموم ويوجب الاجتهاد إذا اعتقد أنه لا دليل يمنع من ذلك مع أنه مخطئ عند الله في هذا الاعتقاد.

قيل له: لأن هذا الاعتقاد وإن كان خطأ منه فليس تعليق الحكم به وألزمه عنده خطأ, لأنه قد أوجب عليه الحكم بذلك عند حصول هذا الاعتقاد. ولا يجوز- أيضا. وإن كان هذا الاعتقاد خطأ أن يكون آثما وعاصيا به, لأنه لم يجب عليه عند خفاء الأمر وتعذر وصوله إلى الخبر المانع من الاجتهاد عند من رأي عذره بذلك لخفاء الدليل أكثر من فعل الاعتقاد للقطع على أنه لا دليل هناك, بل حصل له فعل هذا الاعتقاد. فإن قيل: أوليس هذا منه جهل واعتقاد الشيء على غير ما هو به, والله سبحانه لا يبيح الجهل ويطلقه لقبحه وقبح إباحته. قيل له: هذا الأصل باطل عندنا, وإنما يقبح من الجهل بالأمور ما حظر الجهل به وقبحه ويحسن منه ما أمر به إن كان من الأمور ما قد نهينا عن العلم به وطلبه من أسرار الناس وعورات بيوتهم, وطلب العلم بعدد أكرار خردل وأمثال ذلك. وقد بينا هذا في مقدمات هذا الكتاب, وفي كتب أصول الديانات بما يغني الناظر فيه. فبطل ما قالوه. وكان الأولى في هذا أن يقال: إن كل دليل على تخصيص العام ومانع من الاجتهاد في حكم الحادثة, فقد أمر كل عالم بإصابته والحكم بموجبه, وليس هو كالأمور التي أباح الله الجهل بها. فيجب أن يكون مخطئ ذلك

الدليل من العلماء مقصرا مفرطا بتركه العلم بما وجب عليه القضاء به. فإن قالوا: ولم لا يجوز أن يوجب عليه الحكم بعموم اللفظ وموجب الاجتهاد إذا ظن أنه لا شيء يمنع من ذلك وجوز مع ظنه له أن يكون هناك ما يمنع منه. قيل: لأنه إذا جوز ذلك المانع مانعا للعامة من الحكم. وإنما هو مانع للعالم، فلا يجوز له الإقدام على حكم يجوز أن يكون ممنوعا منه, كما لا يجوز له أن يبتدئ الحكم بقياسه وغلبة ظنه من غير بحث ونظر مع تجويزه أن يكون هناك ما يمنع من الحكم بذلك, فصح ما قلناه?. فإن قيل: أفلستم قد جوزت للمجتهد أن يحكم بما يغلب على ظنه أنه الحق مع تجويزه أن يكون الحق في غير ما حكم به. قيل له: ما نقول ذلك, بل الحق عندنا في قول كل مجتهد على ما نبينه من بعد, ومن أعتقد أنه في واحد فقد أعتقد الخطأ. وقد اعتل من قال هو يعم ذلك عند غلبة ظنه إنه لا دليل أو عند عدمه الدليل وإن لم يغلب ذلك على ظنه فإنه يجوز ذلك. وإن كان فرضه عند الله غير ما فعله, وأنه لا يجوز قطعه على أنه لا دليل يخصه, وأنه قد أحاط علما بأدلة الشرع, بل يجوز أن يكون فيه دليل لم يعثر عليه, ولا يجب عليه العمل به, وإن لم يعلم به, وإنما يجب عليه العمل بما علمه وبلغه. كما أنه لا يجب على من نسي صلاة لم يخطر بباله ذكرها إعادتها, وأن كان فرضه عند الله إعادتها. وهذا غلط, لأن من هذه حاله لا يجب عليه فعل ما نسيه ولا فعل مثله إذا لم يتبين إنه كان نسي، وليس عند الله غير الذي عنده من لك, فبطل ما قالوه.

وكذلك فإن حال المتزوج بأمه أو بعض ذوات المحارم إذا اختلطت بأهل بلد ولم يعرفهن هو متزوج بمن هي زوجة له عند الله تعالي، وإن كانت أمه، لأنه ليس معني إنها زوجة عنده تعال أكثر من أنه يملك وطأها والاستمتاع بها بالعقد. وكذلك القول في كل ما جري هذا المجري. وقد يجوز أن يقال في مثل هذا إنني إذا طلبت دليل التخصيص وما يمنع من الاجتهاد فلم أجده قطعت علي أنه لا دليل لله سبحانه علي تخصصه مع ورود الشرع واستقراره والفراغ من البيانات وضبط الأخبار والروايات وخروجها إلي النقل والوجود، لأنه لو كان له تعالي دليل علي التخصيص لوجب أن نجده ونعثر عليه مع كثرة البحث والطلب له من مظانه ومواضعه مع حرصنا وتوفر هممنا ودواعينا علي إصابته والتدين بالعمل بموجبه، ومثل هذا لا يمكن في صدر الإسلام وحين ظهور الأخبار وورد الروايات. وليس لأحد أن يقول للمعتل بهذا إن كان الأمر علي ما تدعيه فأوجد لنا فقد الأدلة علي ما قلته، لأنه لا يمكن المجيب أن يريه ذلك إلا بافتضاض جميع وجوه الخطاب في الكتاب والسنة والإجماع ووجوه المقاييس، وذلك مما يقطع المناظر ولا يتمكن المجيب من إيراده في عدة مجالس، والمطالبة به ظلم في النظر، ولكن علي السائل إن وجد ذلك أن يذكره للمجيب، فإن دفعه المجيب نشئ وإلا فقد علم أن ما كان اعتقده من عدم الدليل علي ذلك خطأ ليس علي ما اعتقده. ولا لأحد- أيضاً - أن يقول للمستدل بذلك علي /انتفاء دليل مانع من ذلك ما يدرينا أنك عادم للدليل.

ولعلك قد وجدته كما وجدناه لكنك تكتم ذلك لغرض لك من نصرة المذهب أو غيره، لأن مثل هذا يسوغ - أيضاُ - أن يقال لكل من استدل علي إثبات حكم عقلي بالتقسيم وإفساد جميع الأقسام إلا واحداً منها. وأن يقال له: وما يدرينا إنك صادق في قولك لا يخلو الحق أن يكون في أحد هذه الأقسام فلعله عندك في غيرها وزائد عليها غير أنك تكتم ذلك لنصرة المذب أو غيره من الأغراض. وكل هذا مراوغة وظلم في النظر. وعلي أنه إذا كان مع المستدل بهذه الدلالة عدد يعتقدون مثل اعتقاده، ويخبرون أنهم لم يجدوا شيئاً يمنع من ذلك، ومثل عدتم لا يجوز عليهم كتمان ما يعملون، كما لا يجوز عليم افتعال كذب لا أصل له علم بذلك أنه لا يمكن أن يكونوا عالمين بالمانع من كتمانه، فبطلت هذه المطالبة. وليس يمتنع - أيضاً- عندنا أن يقال إن العالم إذا اجتهد في طلب ما يخص العموم ويمنع من الاجتهاد في حكم الحادثة فلم يجده، ولم يجده في علماء الأمة من في يده دليل علي تخصيص العام في حكم الحادثة فلم يجد، ولم يجد في علماء الأمة من في يده دليل علي تخصيص العام، ونص مانع من الاجتهاد أ، يعلم ويقطع علي الله سبحانه أ، هـ لا دليل لله سبحانه يوجب تخصيص ذلك العام والمنع من الاجتهاد في تلك النازلة، لأنه لو كان علي ذلك لم يجز حفاؤه عليه وعلي سائر العلماء مع تكليفه إياهم لإصابته، لأنهم إذا لم يصيبوه، ولا أحد منهم، مع هذا التكليف كانوا متفقين علي الخطأ وتضييع الحق الذي أمروا بالمصير إليه، وذلك ممتنع عليهم في كل وقت من الأوقات مع بقاء عصرهم ومع انقراضه، فيجب لذلك أن يقطع العالم علي انه لا دليل لله تعالي في مثل هذا، وإن لم يحتج أن يقول إنني قد أحطت بجميع

أدلة أوامر الشرع علكاً حتى لم يخف علي منها علي منها شيء، وهذا واضح لمن تأمله، وهذه جملة في هذا الباب مقنعة. تم الجزء الأول من كتاب "التقريب والإرشاد" ويتلوه في الجزء الثاني باب الكلام في أحكام أفعال الرسول صلوات الله عليه وسلم، والحمد لله حق حمده، وصلي الله علي سيدنا محمد ولآله وسلم. وهو بخط يد العبد الفقير إلي رحمة الله الغني بالله محمد بن المظفر بنن هبة الله بن سرايا القدسي رحم الله من دعا له بالمغفرة. فرغ من كتابته في العشر الأول من شهر رمضان من سنة ثمان وأربعين وخمس ما ية من الهجرة النبوية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1