التفسير الوسيط - مجمع البحوث

مجموعة من المؤلفين

الأزهر مجمع البحوث الإسلامية التفسير الوسيط للقرآن الكريم تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإِسلامية بالأزهر الحزب الأول الطبعة الثالثة 1413هـ - 1992م مطبعة المصحف الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

تصدير

تصدير يسر الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية، أن تقدم لقراء الثقافة الإسلامية، كتاب: (التفسير الوسيط للقرآن الكريم) وهو ثمرة توصية لمس فيها المؤتمر الرابع للمجمع، حاجة المسلمين إلى وضع تفسير وسيط للقرآن الكريم، في أسلوب ميسر: يسهل للقارىء الوصول إلى معانيه. ولقد سارع المجمع - إثر صدور هذه التوصية - إِلى العمل على تنفيدها، مدركا خطورة الموضوع الذي يتصدى له، مستجيبا للهفة المسلمين إلى تفسير للقرآن الكريم: ييسر لهم الرجوع إليه- باعتباره أساس وجودهم، ومصدر شريعتهم- في وقت أخذوا يتلمسون فيه الطريق إلى ذاتهم، وبناء حضارتهم: على أساس راسخ، وبنيان متين. فعقد مجلس المجمع عدة جلسات للنظر في التخطيط؛ لتنفيذ هذا المشروع، ووافق على الخطة التي انتهى إليها، وعهد إلى بعض أعضائه بالإشراف على إِخراجه. وقد سار العمل في هذا المشروع على درجتين: أولاهما يتم فيها وضع التفسير، بتوزيع أجزاء القرآن على نخبة من العلماء الممتازين ليقوم بكتابة التفسير، وفقا للخطة العلمية التي أقرها المجلس. وثانيتهما: يتم فيها مراجعة ما كتب والتنسيق بينه، بحيث يظهر في أسلوب موحد واف بالمقصود. وقد اشترك في لجنة التنسيق من السادة أعضاء المجمع فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد أبو زهرة، والأستاذ محمد خلف الله أحمد، والأستاذ الدكتور محمد مهدى علام. وانضم إليهم من السادة العلماء: 1 - فضيلة الأُستاذ الدكتور عبد العظيم الغباشى. 2 - السيد الأُستاذ على عبد العظيم. 3 - فضيلة الأُستاذ الدكتور محمد السيد ندا.

4 - فضيلة الأُستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي. 5 - فضيلة الأُستاذ الشيخ محمد سليم زيدان. 6 - فضيلة الأُستاذ الشيخ مصطفى محمد الحديدى الطير. كما اشترك في بعض المراحل فضيلة الأُستاذ الدكتور عبد الحسيب طه حميدة. واننا لنتوجه إلى الله العلى القدير، أن يمدهم بعونه وتوفيقه، ليكملوا أداء هذه الرسالة الجليلة، وأن يوفقهم إلى إتمامها، في الصورة التي يرضى عنها الله المؤمنون. كما نرجوه -سبحانه- أن يوفق الأمانة العامة إلى موالاة إصدار ما يتم من هذا التفسير. ولله الموفق، والهادى إلى الصواب. تحريرا فى 30 من ربيع الأول1393هـ 23 من أبريل 1973م الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية دكتور محمد الرحمن بيصار

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالمين، بعث محمدا خاتما للمرسلين، وأَنزل عليه القرآن العظيم، بلسان عربى مبين، وجعله حجة باقية على الزمان، ونبراسا للهدى والعرفان، ففتح به قلوبا غلفا، وأسمع به آذانا صما، وبَصَّرَ به أعينا عميا. والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين: سيدنا ومولانا محمد صفوة خلق الله أجمعين: اختصه برسالته الخالدة، واصطفاه لدعوة الحق الباقية، وشرفه بالعلم والعرفان، وزينه بأكرم السجايا وأكمل الأَخلاق. ورضوان الله ورحمته وبركاته، على آله وأصحابه، ومن نهج نهجهم، واتبع سبيلهم من المؤمنين الصادقين إلى يوم الدين. أما بعد، فإن القرآن الكريم: كتاب الله الخالد، نزل به الروح الأمين، على أكمل البشر، وخاتم الرسل: سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، بعد ما اشتبه عليهم الضلال بالهدى، والجهل بالعرفان. وكان ذلك من رحمة الله بعباده، وعظيم رأفته بخلقه. وقد استطاع القرآن - ببلاغته وعظيم هداه - أن يلين قلوب العرب بعد عنادهم، ويروض جماحهم بعد شماسهم، فلانوا بعد صلابة، وانقادوا بعد شرود، واستجابوا بعد إباء، إذ انشرحت له صدورهم، وتفتحت له قلوبهم. ثم ما لبثوا أن انتقلوا من الضلالة إلى الرشاد، ومن البداوة إلى الحضارة، ومن الجهالة إلى العلم، ومن الفرقة والشقاق، إلى الأُلفة والاتحاد، ومن الضعف إلى القوة، ومن الهوان إلى العزة، وصدق الله إذ يقول: " {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. (¬1)} ويقول: { ... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ... (¬2)}. ¬

_ (¬1) الجمعة: 2 (¬2) المنافقون: 8

وتحت راية هذا الذكر الحكيم: انتشر الإسلام في العالمين وسادت اللغة العربية كثيرا من لغات البلاد التي آمنت به، وازدهرت الحضارة الرفيعة في ربوعها، فإنه أباح لهم عمارتها والتمتع بطيباتها وزينتها، إلى جانب أنه حثهم على السمو الروحى عن طريق العلم والعمل الصالح، للفوز في دار الخلود. وفي ذلك يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .} (¬1) ويقول عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}. (¬2) ويقول سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3) وفي ظلال تمسكهم بهداه، استحقوا أن يكونوا خير أُمة أُخرجت للناس. وذلك لأنهم: يأْمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤْمنون باللهِ، ويسلكون سبيل الرشاد. ولما تراخى المسلمون في الاعتصام به: انتثر عقدهم، وذهبت ريحهم، وتفرق شملهم، فلا سبيل إلى استعادة أمجادهم وعزتهم وتوتهم، إلا بأَن يعودوا إلى التمسك حهذا الكتاب العظيم: وأن تخفق قلوبهم لتوجيهه، وتنقاد لإرشاده، في شئون الدنيا والدين. ومن أبرز صفات المؤمنين الصادقين، التجاوب العقلى والروحى، والعملي مع آي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬4). وأن يتأثروا بعظاته على نحو ما يقوله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .} (¬5) وأن يحذروا الفرقة بعد أن جمعهم الله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ... } (¬6). {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. . .} (¬7). وأن يأخذوا بأسباب القوة علماً وعملا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .} (¬8) ¬

_ (¬1) الأعرف: 32 (¬2) طه: 112 (¬3) الزلزلة: 8،7 (¬4) الأنفال: 2 (¬5) الزمر: 23 (¬6) النحل: 92 (¬7) آل عمران: 103 (¬8) الأنفال: 60

القرآن والتفسير

القرآن والتفسير القرآن هو المصدر الأول للعقيدة والشريعة الإسلامية، لهذا عني به علماءُ المسلمين منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى الآن تلاوة وتدبرًا، ودراسة من جمع نواحيه: البلاغية والتشريعية، والاجتماعية والخُلقية والعلمية. وهو المعجزة الكبرى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ودستور العفيدة والشريعة والاخلاق لأُمته. والقرآن الكريم في أعلى درجات البلاغة، بحيث لا تصل إِلى مثله قدرة البشر؛ ومع هذا فقد كان ميسر اللهم للعرب الذين نزل بلغتهم، وقلما كانوا يحتاجون إلى بيان مَقصد غامض فيه، فإذا جدَّ لهم ذلك سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ببانه عملا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) ومن ذلك أنه لما نزل في إباحة الفطر في ليالى رمضان قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2). سأل عدى بن حاتم رسول الله عن الخيطين، فقال: هما بياض النهار، وسواد الليل. ولما اتسعت الفتوح الإسلامية، واختلط العرب بالأعاجم، فسدت عروبتهم بما شابها من لغات هؤُلاء الأعاجم، وأُترف المسلمون، فأصابتهم أمراض الترف، من ضعف في التدين، ثم اقتراف للمآثم وإشاعة للبدع. فخاف المصلحون من العلماء الأَعلام على كتاب ربهم أن يفسره من لا يحسن تفسيره، أو من يزيغ به عن معناه لغرض في نفسه، كبدعة يريد ترويجها، فألفوا التفاسير، ووضعوا قيودًا وشروطًا للمفسر، لا يصح تجاوزها، حتى يسلم كتاب الله من التأويلات الفاسدة، الناشئة عن الجهل، أو مرض القلوب. وأول المبينين هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد شرح من الآيات ما التبس فهمه على أصحابه، ثم تلاه بعض أصحابه، ثم تدفق الخبر من التابعين ومن يليهم، ممن آتاهم الله بسطة في العلم، ورسوخا في الإيمان. ¬

_ (¬1) النحل: 44 (¬2) البقرة: 187

ومن أبرز مفسري الصحابة: عبد الله بن عباس، فقد عُرِف- لدقة فهمه، وصدق حسه - بأَنه ترجمان القرآن، وأنه حبر الأُمة. روى البخاري عن دقة فهمه أَنه قال: "كان عمر يدخلنى مع أشياخ بدر، فكأَن بعضهم وجد فى نفسه، فقال: لِمَ يدخل هذا معنا، وإِن لنا ابناء مثله؟ فقال عمر: إِنه ممن علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخلهم معه، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}؟ فقال بعضم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجَلُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: إذا جاء نصر الله والفتح، فذلك علامة أجلك، فسبح بحمد، بك واستغفره إنه كان توابًا، فقال عمر: "لا أعلم إلا ما تقول". وقد كثرت الروايات عنه عناية بآرائه. وما يروى له من اختلاف في الرأى في المسألة الراحدة أحيانًا، فإن مرجعه إلى اختلاف الروايات قوة وضعفا، أو أنه بدا له فيها من الأدلة ما لم يبد له أولًا، فعدل إلى ما رآه راجحًا، وذلك حق الله على كل مجتهد. وقد عرف بالتفسير من الصحابة أيضًا: الخلفاءُ الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأَبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم. ولم يتوقف أحد في قبول تفسير الصحابة وإنما الأمر في التابعين. وقد وقع الإجماع على وجوب تفسير القرآن بما صحت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أما ما روى عن الصحابة في تفسيره، فقد أخذ به الكثيرون: لسلامة عروبتهم ودقة فهمهم، واحتمال سماعهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن الأئمة من كان يأخذ في فهم الآية بما رجح عنده من أدلة الرجحان، وإن خالف به فهم الصحابي، ما دام لم ينسبه الصحابي إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكما اجتهد الصحابة في فهمه، يجتهد غيرهم من أثبات العلماء؛ أهل الاقتدار وسلامة الدين.

ولما جاء عصر التدوين، جمع بعض المفسرين الأقوال المأثورة في التفسير، عن الرسول والصحابة والتابعين، واقتصروا عليها. وجنح آخرون إلى إِضافة ما هداهم الله إلى فهمه في الذكر الحكيم مع المأْثور، ليكون القارىءُ على بينة مما قيل في تفسيره، فيختار ما رجح عنده مما قوى دليله. ومنهم من كانت عنايته بالأحكام الفقهية أعظم، كالقرطبى، والجصاص. ومنهم من كانت عنايته بوجوه الإعجاز فيه أبلغ كأبي بكر الباقلاني. ومنهم من كانت عنايته بالنحو أكثر كأبى حيان. ومنهم من فسره بحسب الآراء الفلسفية أو الطائفية. ومنهم من فسره وفق النظريات العلمية، وبالغ في ذلك مبالغة كبيرة، مع أن النظريات العلمية عرضة للتبديل والتغيير، فإذا فسر بما يظهر مع الأيام فساده، كان في ذلك خطورة على عصمته من الباطل، والله تعالى يقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1). أما تفسيره بالحقائق العلمية الوطيدة، فلا مانع منه إِن كان بغير تكلف، بل بحسن نية. هذا، إلى أن سيلا جارفًا من الأساطير الإسرائيلية، والأقاصيص الخرافية، تطرق إلى بعض كتب التفسير التي ألفها أعلام العلماء، ونقلت عنهم من بعدهم بحسن نية. وأكبر الظن أن هذه الأساطير والخرافات، سرت إِلى كتب القوم من أعداءٍ الإسلام الذين عجزوا في وقت ازدهاره عن حربه علنًا، فنسخوا كتب أُولئك العلماء ودسوا فيها تلك الأكاذيب، بعد رحيلهم إِلى دار الخلود في غفلة عن عيون الرقباء، لتضعف الثقة بالقرآن وبعقليات المفسرين! وبذلك يتم لهم ما أَرادوا من حرب الإسلام عن طريق القلم، بدلا من حربه بالسيف. وهناك من المفسربن، من أوجزوا في التفسير، فبالغوا في الإيجاز حتى قل الانتفاع به. وهناك من أطنبوا فجاوزوا القصد، وضموا إلى تفسيرهم بعض المصطلحات الفنية التى لا يفهمها إلا المتخصصون، فعسرت الاستفادة منه. ¬

_ (¬1) فصلت: 42

لهذا كله، كان المثقفون المعاصرون - على اختلاف ثقافاتهم - في أشد الحاجة إلى تفسير وسيط: يخلو من الإسرائيليات والخرافات، ويبتعد عن الخلافات الطائفية، ويتجنب الجدل الفلسفي ما أمكن، ويتضمن الأحكام الفقهية التي يساعد عليها ظاهر النصوص في إيجاز، ويبتعد عن الصطلحات النحوية والبلاغية إلا ما دعت إِليه الضرورة، ولا يذْكُر من الأُمور العلمية والكونية إلا ما ثبت منها قطعًا، وما اتفق مع النص بلا تكلف، ويعرض لربط الآيات والسور بعضها مع بعض، ويبيّن أَسباب النزولِ، كل ذلك في لغة سهلة محببة إلى القارىء: تستدعى المتابعة، وتلتقى مع الرغبة في الاستفادة. وقد أدرك (مجمع البحوث الاسلامية) حاجة المسلمين في هذا العصر إلى مثل هذا التفسير؛ ليروى ظمأهم من معانى كتاب الله تعالى، فقرر إخراجه استجابة منه لتلك الدواعى الشريفة. فلذلك عهد إلى ثلاثة من أعضائه، بالإشراف على إخراج هذا التفسير، من حيز التفكير إلى حيز التنجيز. واستعان بمجموعة من العلماء الفضلاء الأثبات، للقيام بهذا التفسير، وانتظم من الجميع مؤْتمر عام تعددت جلساته. واستقر الرأى- أخيرًا- على النهج الذي ينبغى أن يمضى فيه المشروع، وتكونت لجان فرعية؛ كل لجنة مؤلفة من عالمين يقومان بالتأليف، وخصت كل لجنة بحزبٍ من أحزاب القرآن، فإن فرغت من تفسيره، أخذت سواه. وهكذا. واقتضت دقة العمل وتوحيد المنهج والأسلوب والروح، تأْليف لجنة لتنسيق ما يؤَلفه السادة الاعضاءُ، مكونة من أعضاء المجمع الثلاثة الذين تقرر إشرافهم على العمل، ومن لفيف من الخبراء الباحثين، حتى يخرج التفسير على نسق واحد محققًا الأمل المنشود. ولما كانت بعض آى الذكر الحكيم، تشير إلى نوع من الحقائق العلمية في ملكوت السموات والأرض، وعوالم الإنسان والحيوان والنبات، أو تقضى استيفاءَ بعض الأحداث التاريخية، أو الاستيثاق من بعض الآراء التي ينبغى أن تشرح الآيات بها، رأت اللجنة أن تستعين بالخبراء المختصين بتلك الشئون، عملا بقوله تعالى: " .... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (¬1). ¬

_ (¬1) الأنبياء: 7

منهج هذا التفسير

منهج هذا التفسير 1 - تسبق السورةَ مقدمةٌ لها: تحوى أهم مقاصدها، حتى يلم القاريءُ بمجمل أغراضها، قبل أن يتناول فهم كل آية على حدتها. 2 - يُذْكَرُ نص الآية أو الآيات المترابطة، وتتبع كل آية برقمها في المصحف، مع التزام الرسم العثماني في كتابتها، ومراعاة العلامات والرموز التي اتفق عليها في الرسم العثماني. 3 - تُفَسَّر المفردات اللغوية بايجاز، مع التزام ما يتفق وظاهر معني اللفظ في الآية، وترك التفصيلات اللغوية التي لا تتصل بالمعنى القرآني المراد. 4 - تذكر أسباب النزول - إن وجدت - واستدعى التفسير ذكرها. 5 - يربط معنى الآية أو الآيات الكريمة بما سبقها؛ ليتضح التسلسل- البياني في السرد القرآنى بقدر الإمكان، مع البعد عن التكلف أو الإغراب. 6 - تتجنب الإسرائيليات والأخبار الخرافية. 7 - يترك التعرض للإشارات الصوفية، والخلافات الطائفية، والأساليب الجدلية. 8 - يذكر التفسير بعبارة واضحة سهلة، يستطيع فهمها المثقف العادى، ويجد من أسلوبها ما يرغبه في متابعة القراءة مع ذكر نص الآية المراد تفسيرها، قبل الشروع في التفسير، مسبوقة برقمها. 9 - تترك المصطلحات الفنية التي تعوق القارئ غير المتخصص عن متابعة القراءة، إلا إذا دعت الضرورة إليها لغرض التوضيح، وإبانة المعنى المراد. 10 - تذكر الأحكام الفقهية التي تظهر بوضوح من النص، وعند اختلاف الفقهاء في الحكم المستفاد منه، يذكر هذا الاختلاف لمصلحة القارئ ـ، ولا يتوسع فيه، وان أمكن التوفيق بين الآراء، يوفق بينها. 11 - إذا تكرر موضوع الآية في أكثر من سورة، شرح في كل موضع شرحًا كافيًا؛ ولكن التوسع في معناه، يترك إِلى النص الأوفى في الموضوع، ويشار إلى ذلك، للرجوع إليه عند الحاجة.

12 - إذا صحت وثبتت أمور كونية يمكن تفسير الآية بها، ذكرناها في تفسيرها، مستعينين بآراء الخبراء فيها. 13 - يقتصر في الكلام على أسماء الحروف التي استهلت بها بعض السور على أرجح الأَقوال، وكذا في الكلام على القضاء والقدر، ونحو ذلك. 14 - تُرَدَّ شبهات الملحدين في شرح الآيات التي أثاروها فيها. 15 - لا يتعرض لاختلاف القُرَّاء إلا إذا احتاج إليه تفسير الآية، بأن أفاد معنى آخر أو حكما ينبغى أن يعلم. 16 - يتناول الشرح الآية جملةً جملةً، وأحيانًا يكون التفسير وراء النص، متناولا لمشتملات الآية كلها، عندما يرى أن ذلك أوضح للقاريءٍ، وأيسر وأجمع للفكرة. 17 - عند الاستشهاد بآية أُخرى في الشرح، يذكر رقمها وسورتها، وعند الاستشهاد بالحديث النبوى الشريف، تذكر درجته أو مصدره من كتب السنة المعتمدة. 18 - عند الفراغ من شرح قصة قرآنية، يذكر الغرض من ذكرها. 19 - إذا وردت القصة القرآنية في أسفار العهد القديم أو الجديد، ولم تتعارض مع النص القرآنى أشرنا إلى ذلك إِن رأينا فيه فائدة، فإن خالفته، فالمعول عليه هو ما في القرآن الكريم، ولذا نغفل الإشارة إليها في أسفارهم. 20 - التزمت اللجنة القصد في التعبير، ما لم يقتض موضوع الآية البسط، فإنها تسلك سبيله لمصلحة القراءِ. هذا هو المنهج الذي صارت عليه اللجنة. وهي تقرر أنها انتفعت بجهود أعلام المفسرين القدامي والمعاصرين - جزاهم الله على ما قدموا خير الجزاء - كما أضافت ما وصل إليه العلم في شتى الميادين. وبعد: فإن اللجنة تتوجه إلى الله تعالى أن يجعل عملها خالصًا لوجهه الكربم، وأن يتقبل منها ما قامت به، وأن يعفو عما يكون منها من تقصير. والله الموفق للصواب. أعضاء اللجنة

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة مقدمة هذه السورة الكريمة، نزلت بمكة قبل الهجرة، وهي سبع آيات، نزلت بتمامها، وسميت الفاتحة لأنها أول القرآن في ترتيب المصحف، فهى فاتحته. وهذه. السورة - مع قلة آياتها وإيجازها - تشتمل على مقاصد القرآن كله. فالقرآن نزل لتعريف الناس برب العالمين، وما يتصف به من صفات جليلة، ولحثهم على حمده وعبادته، وإثبات يوم الجزاء، وأن الملك له تعالى في هذا اليوم، وأنه يجب توحيده بالعبادة دون شريك، والاستعانة به تعالى في جميع الشئون، إذ لا يوجد شيء ولا يتم إلا بمعونته. ولهذا يطلب من العباد أن يستعينوا به في أمرهم كله، وأن يهديهم الطريق المستقيم، وأن يكفيهم شر طريق المغضوب عليهم والضالين، وقد اشتملت الفاتحة على هذا كله فى إيجاز، فلا غرابة في أن تسمى أُم الكتاب، وأن يفتتح بها القرآن الكريم، وأن تفرض في الصلاة. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. لما كانت الفاتحة تتلى في كل ركعة في الصلاة، فإن استحضار معانيها في ذهن المصلي، أمر مطلوب، لأنه يثني بها على ربه ويناجيه، فلهذا قدمنا تفسيرها بمجمل مرقم لمعانيها فيما يلى:

1 - أَستعين متيمنا متبركا {بِسْمِ اللَّهِ} الذي لا معبود بحق سواه، {الرَّحْمَنِ} المنعم بجلائل النعم، {الرَّحِيمِ}: المنعم بدقائقها. 2 - الثناءُ كله لله تعالى، على ما أسداه. من النعم على عباده، وعلى ما اتصف به من صفات الكمال، لأنه منشيءُ العالمين، ومبلغهم كما لا تم، وحافظهم. 3 - (الرحَّمْن) واسع الرحمة لعباده جميعًا في الدنيا، إذ عمهم بنعمه فلم يحرم منها كافرا ولا فاسقا. (الرَّحْمن) واسع الرحمة لعباده المؤمنين في الآخرة، يقبل من محسنهم ويحسن ثوابه، ويعفو عن مسيئهم ويقبل متابه. 4 - مالك يوم الجزاء، فلا سلطان فيه لأحد سواه، في ظاهر الأمر وباطنه: يحاسب فيه عباده، فيعاقب من عصى، فلا يمتنع عليه بملك ولا جاه، ويثيب من أطاع، فيعطيه بغير حساب. 5 - نخصك - يا من هذه صفاتك العلية - بالعبادة، فلا نشرك فيها أحدًا سواك، فأنت وحدكَ المعبود ونخصك بالاستعانة، فأنت وحدك المعين. 6 - وفقنا يا رب، واهدنا الطريق المستقيم، الذي سنه كتابك العظيم، وبيَّنه رسولك الأَمين. 7 - (صراط الذين أنعمت عليهم): في الدنيا بالتوفيق إلى طاعتك، وفي الآخرة بحسن مثوبتك، لا صراط الذين غضبت عليهم لكفرهم، ولا الضالين الذين لم يهتدوا بهداك. التفسير (1) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن، لأنها وردت في سورة النمل " الآية (30). واختلف العلماء في مكانها من سور القرآن: فأَكثر علماء السلف، على أن البسملة آية من الفاتحة. ولذا تجب قراءتها مفتتحة بها في الصلاة، وبها تم آياتها السبع، كما أنها آية من كل سورة. وممن قال بذلك: قراءُ مكة، والكوفة وفقهاؤُهما، والشافعى وأصحابه.

ويؤيد مذهبهم: إثباتها في المصاحف أول كل سورة، ما عدا "التوبة". مع ما ورد من الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه: ولذلك لم يكتبوا "آمين" فى آخر الفاتحة؛ لأنها دعاءُ مطلوب بعدها، وليس منها. وذهب آخرون إلى انها آية من الفاتحة وحدها، وبه أخذ بعض الشافعية وحمزة، ونسب إلى الإِمام أحمد، وقد أقام الفخر على ذلك ست عشرة حجة منها نصوص من السنة: وقراءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤُها، ومالك والأوزاعى- على أن البسملة ليست آية من الفاتحة، ولا من أي سورة أخرى، وإنما أثبتت في المصحف للتبرك بها والفصل بين السور. {بسْم اللهِ}: المراد بالاسم هنا: المسمى، وهو ذات الله تعالى، فإنه سبحانه هو المستعان به في كل أمر يؤْتى بالبسملة فيه. والدليل على ذلك أنه لما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أول سورة الأعلى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في سجودكم" (¬1). وكان يقول في سجوده: "سبحان ربى الأعلى" ولم يقل: سبحان اسم ربي الأعلى. وقال الآلوسى: الأسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين، وهي عندهم أسماء مترادفة، كما قال الإِمام ابن فورك في كتابه الكبير فى الأَسماء والصفات، وأبو القاسم السهيلى في شرح الإرشاد، ثم قال: ومنه {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأعلَى} إذًا التسبيح إنما يتوجه إلى الذات الأقدس. إلى آخر ما قال. ويمكن تقدير فعل محذوف تقديره: أبتدىءُ باسم الله، ويكون ذكر الاسم هنا على معناه المشهور. ولفظ الجلالة (الله). علم على الذات العلية، وهو الإله المعبود بحق، الذي يخلق عباده، يرزقهم، ويدبر شئونهم ويقتدر عليهم، وله ما في السموات وما في الأرض. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: تذكير برحمته التي وسعت كل شىءٍ، وبذلك جمع الله لعباده في البسملة من أسمائه الشريفة، بين ما يقتضى الإجلال والتقديس والعبادة وهو لفظ الجلالة علم الذات، وبين ما يقتضى الأنس والأمل في الخير، وهو الرحمن الرحيم، ليأْنسوا بربهم، ولا يقنطوا من رحمة الله تعالى. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وأحمد.

وسيأتي الكلام على معناهما في الفاتحة. وينبغى أن يضمر القاريءُ في نفسه معانى ما جاءَت البسملة من أجله، كالقراءَة، والتبرك، والاستعانة ونحوها ... 2 - {الْحَمْدُ للهِ}: الحمد: هو الثناءُ على الجميل الذي يصدر عن المحمود باختياره، من نعمة أو غيرها. أما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناءِ على صاحبها بالقول، أو مقابلة نعمته بعمل يدل على الاعتراف بها: كآداب الجوارح، أو الشعور القلبى بفضل صاحبها. ولذلك يقول الشاعر: أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا والحمد شعبة من شعب الشكر الثلاث، ولكنه أَدل على إجلال المنعم وشكره من سائر الشعب؛ لخفاء الاعتقاد، وما في آداب الجوارح من الاحتمال فلذا جعل الحمد رأس الشكر والعمدة فيه. قال - صلى الله عليه وسلم - "الحمد رأْس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده" (¬1) وأل في الحمد للاستغراق، والمعنى: جميل الحامد لله تعالى. ولفظ الجلالة (الله) يشعر باستحقاقه تعالى وحده للحمد، كما يشعر به لفظ {رَبِّ} في قوله: {رَبِّ الْعاَلمينَ}: أي أنه تعالى مستحق للحمد؛ لألوهيته ولأنه رب العالمين، أى منشئهم ومبلغهم إلى كمالاتهم اللائقة بهم، وحافظهم حتى ينتهوا إلى غاياتهم. وكلمة: {الْعاَلَمِينَ} جمع عالَم، وهو ما سوى الله من جميع المخلوقات، فيشمل العاقل وغيره من الأجناس. وحكمة بدء الفاتحة بالحمد لله، الإِشارة إلى حصول النعم الإلهية التي أحاط الله بها عباده، وأن المصلي يحمده تعالى على ذلك. 3 - {الرَّحْمنِ الرَّحِيمَ}: أصل الرحمة في اللغة: رقة القلب وانعطافه بالشفقة. وهذا المعنى ينطبق على المخلوقات فإطلاقه على الله تعالى، إنما يكون باعتبار لازمه الذي يليق به تعالى، وهو التفضل والإحسان. ¬

_ (¬1) رواه الطبرانى وعبد الرزاق والبيهقى عن ابن عمرو، والحديث حسن، ورواه الديلمى بسند رجاله ثقات.

والرحمن الرحيم: صفتان لله - تعالى - وصيغة كلتيهما: تدل على الكثير وقد جمع ببن الرحمن والرحبم؛ لتأكيد كثرة رحمته جل وعلا. ويختص الوصف بالرحمن شرعا، باللُه -تعالى- بخلاف الرحيم، فيصح إطلاقه على المخلوقات. ومن ذلك قول الله تعالى في وصف النبي - صل الله عليه وسلم - { ... حَرِيصٌ عَلَيكُم بالمؤمنين رءُوفٌ رحيمٌ} (¬1) وقوله تعالى في وصف المؤمنين: { ... رُحَماءُ بَينَهم ... } (¬2). 4 - {مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ}: هذا هو رابع الأوصاف للفظ الجلالة: وصف أولا بكونه: {رَبِّ العاَلَمينَ}، وثانيا بقوله: {الرَّحْمَنِ}، وثالثا بقوله: {الرَّحِيمِ}، ورابعا بقوله: {مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ}. والمالك: من له التصرف الشامل فما يملك بدون منازع. والدين: هو الجزاءُ على الأَعمال. ومعنى: (مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ): المالك لكل ما في هذا اليوم من جنة ونار، وإنس، وجن، وحساب وجزاءٍ - من ثواب أو عقاب - وغير ذلك. وهذه الآية دالة على المعاد، ومجازاة كل مخلوق بما قدم من عمل، ولو لم يكن معاد للخلق يجازون فيه، لكان الموت هو نهاية الجميع. وبذلك يستوى المؤْمن والكافر، والبر والفاجر والمصلح والمفسد، وذلك أمر يتنافى مع العدالة الإلهية، ولا تسلم به المبادىءُ العقلية؟. لهذا اقتضت حكمة الله أن يكون للناس معاد، يجازون فيه بالثواب أو العقاب على ما قدموا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬3). ووصف الله بـ {رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لإظهار استحقاقه تعالى للحمد، وللإشعار - من طريق المفهوم - بأن من لم يتصف بتلك الصفات، لا يستحق أن يحْمد، فضلا عن أن يعبد! ¬

_ (¬1) التوبة: 128 (¬2) الفتح: 29 (¬3) فصلت: 46

5 - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: من أول السورة إلى هنا، كان الأُسلوب للغيبة، ثم تغير هنا إلى الخطاب حتى آخرالسورة. وفوق ما يفيده تغير الأسلوب من التنبيه إلى موضوع الكلام، فإن فيه إشارة لطيفة إلى ترقي الحامد كلما أثنى على ربه، وأخلص في مناجاته، فينتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وذلك حال المصلي الذي يقرأ الفاتحة، فإنه حين يدخل الصلاة، يكون قريب عهد بما كان يشغله من الشئون قبل الدخول فيها، فإذا أقبل على ربه بحمده له، وثنائه عليه، تاركا شواغله، انتقل إلى مقام الإحسان في عبادته، وهو أن يعبده الله كانه يراه على ما سنبينه. وهذا يقتضى أن ينتقل من الغيبة إلى موقف المخاطب لمولاه، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. هذا، وتقديم ضمير المفعوك {إيَّاكَ}، في كل من الجملتين، للاهتمام، مع إفادة القصر، كأَنه قيل: إياك يا الله وحدك نعبد، واياك يا الله دون سواك نستعين. وفي ذلك إقرار له تعالى، بالأُلوهية والوحدانية. وقدمت جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على جملة: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لأن المقصود الأوَّلي هو العبادة، ولما كان فعل الطاعة وتوفر الدواعى إلى فعلها، لا يتمان إلا بمعونة الله وتوفيقه، فلهذا يطلب العبد الاستعانة باللهِ عقب تخصيصه بالعبادة، إذ أن العبد لا حول له ولا قوة إلا باللهِ. والعبادة للمعبود هي الطاعة الخالصة له، المبنية على حبه، المؤَداة على وجهِ يشعر بمنتهى الخضوع له. ولكون العبادة بهذا المعنى، فلا تكون إلا لله وحده (¬1)، وهي أخص من الطاعة التى تتحقق في مطلق الامتثال، فكل عبادة طاعة، وليس كل طاعة عبادة، فأنت إذا امتثلت أمر والديك أو ولى أمرك، يقال لك: أنت أطعتهم، ولا يصح أن يقال: أنت عبدتهم، فالعبادة أعلى مقام في الطاعات، وهي المعراج الروحى الذي يصعد فيه العباد إلى درجة، ¬

_ (¬1) لأنه هو المستحق لأن يعبد دون سواه، لتفرده بكامل القدرة وعظيم السلطان، وجمع ألوان الإنعام، وجمع صفات الألوهية، فلذا يخصه قارئ الفاتحة بالعبادة فيقول: (إياك نعبد).

كأنهم فيها يشهدون الحق - سبحانه وتعالى - فإن لم يصلوا إلى ذلك، فليشعروا بأنه تعالى يراهم، وذلك هو مقام الإحسان الذي يشير إليه الحديث الشريف بقوله -عليه الصلاة والسلام- في تعريف الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (¬1) ". والعبادة: تشمل عمل القلوب، وعمل الجوارح. وتشمل فعل المأمور به، وترك المنهى عنه. فلا يتحقق معنى العبادة إلا بذلك كله. وفي الآية سؤَال وهو ان مقام العبودية يقتضى التواضع والذلة لله تعالى. فكان الظاهر أن يقول العبد.: إياك أعبد، وإياك استعين " بضمير المفرد الذي لا يعظم نفسه". والجواب: أن النون في (نَعْبُدُ)، و (نَسْتَعِينُ)، ليست للمتكم المعظم نفسه، ولكنها للمتكلم ومعه غيره من المؤمنين، فكلهم يعبد الله، ويستعين به وحده، فهذا إقرار من المصلي، وشهادة منه بان هذا هو شأن المؤمنين مع ربهم. وفي ذلك إدراج لعبادته واستعانته، ضمن عبادتهم واستعانتهم؛ رجاء القبول ببركة ذلك. ومن أجل هذا الملحظ -ولما سبق- طلبت الصلاة في جماعة. 6 - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: بعد أن يخص العبد ربه بالعبادة، والاستعانة مخاطبا له بقوله: {إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعِين} يناجيه، وايصلب منه الهداية إلى الطريق المستقيم، فإن الله وحده هو المانح للخير، والهادى إلى الصرط القويم والهداية: هي البيان والإِرشاد، سواء اهتدى من ترشده أم لم يهتد، وقد يراد منها: خلق الاهتداءَ في القلب. وهي بهذا المعنى مختصة باللهِ -تعالى- إذ لا يقدر عليها سواه، ولما كانت من أشرف المطالب وأسناها. شرع الله لعباده أن يرجوها منه سبحانه بقولهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} اما الصراط: فهو الطريق الذىَ يسلكه السائر إلى المقصود، وهو نوعان: حسي ومعنوي؛ فالطريق إلى منزلك حسي، والطريق إلى الله معنوي، وهو الطاعة. ووصف الطريق بالمستقيم؛ للاحتراز عن الطريق المنحرفة المعوجة، وهي طريق أَهل الضلال والفساد. ¬

_ (¬1) رواه الخمسة.

ومعروف، أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتى المبتدأ والمنتهى. وإذا كان المقصود للعباد في رحلة الحياة الدنيا، هو الوصول إلى الله تعالى: فإن أقرب الطرق إليه هو الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (¬1)}. ففى وصف الصراط بالمستقيم، إِشارة لطيفة إلى أن سبيل الله هي أقرب الطرق إلى مرضاته تعالى. وأَما غيرها فإما أنها لا توصل إلى الله أصلًا، وهي صراط المغضوب عليهم والضالين، وإما أنها توصل بعد محنة العقاب، وهي صراط العصاة المؤْمنين. 7 - {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... } الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ ... } إلخ بدل من الصراط المستقيم، مبين لمعناه، فإن الصراط المستقيم هو طريق من أنْعَمَ الله عليهم بالإيمان والإسلام، أي اهدنا صراط المؤمنين الذين أنعمت عليهم في الدنيا بحسن الطاعة، وفي الآخرة بحسن الثواب: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬2). {غَيْرِ المغَضْوُبِ عَلَيْهِمْ}، المغضوبُ عليهم: هم الذين خرجوا عن طاعة الله ورسوله، وأفسدوا دينهم بالكفر والمعاصى، فغضب الله عليهم، أي أَراد الانتقام منهم لذلك. {وَلا الضَّالَّين}. الضالون، هم الذين أَفسدوا عقيدتهم بالجهل بدين الله، فانحرفوا عن سواء السبيل. هذا، واشتهر بين المفسرين: أن المراد بالمغضوب عليهم: اليهود، لقول الله فيهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} (¬3) {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}. وأن المراد بالضالين: النصارى، لقول الله فيهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءالسَّبِيلِ} (¬4) ولأَن الرسول -صلى الله عليه وسم- فسرهما بذلك كما رواه عنه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وحسنه. ¬

_ (¬1) الأنعام: 153 (¬2) النساء: 69 (¬3) المائدة:60 (¬4) المائدة: 77

والظاهر: أَن تفسير الرسول لهما باليهود والنصارى، لدخولهما في عموم معناهما، وقد شرحنا المراد منهما فما تقدم، وهو شامل لهاتين الطائفتين وغيرهما من أهل الكفر والضلال. وقاريء الفاتحة يختمها في الصلاة أو سوا ها بقوله "آمين" وليس منها. ولكنه مسنون وهو اسم فعل أمر معناه: استجِبْ. واعلم أن الفاتحة تسمى السبع المثافى، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}؛ (¬1) ولأنها تثني -أى تكرر- في الصلاة وغيرها. فحافظ أيها المؤْمن على تلاوتها في أذكارك، فهي كثيرة الخيرات، جمة البركات. ¬

_ (¬1) الحجر: 87

سورة البقرة

سورة البقرة مقاصدها: تشتمل هذه السورة على مقاصد عظيمة، منها ما يأتى: 1 - التنويه بشأن الكتاب العزيز، الذكرهو أصل التشريع السماوى، وأساس القانون الإسلامى. {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (3)}. 2 - بيان أحوال الناس من الدعوة الإسلامية، وهم فرق ثلاث: (1) فرقة المؤمنين الصادقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}. (ب) فرقة الكافرين المشركبن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}. (ج) فرقة المنافقين، وهم أضر أعداء الدِّين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} وقد عني القرآن بأوصافهم وأحوالهم في ثلاث عشرة آية. 3 - تذكير الطوائف الثلاث، بنعمة الخلق لعلهم بعتبرون، فيستمسكوا بالعروة الوثقى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} 4 - توجيه التحدي لمن أنكر معجزة القرآن: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}. 5 - بيان الدلايل الكونية المقرونة بالنعم الإلَهية، لإقناع الخلق بالبعث والمعاد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.

6 - عناية الله تعالى بخلافة البشر في الأرض، إذ جعل أول خليفة فيها آدم -عليه السلامِ- وخلقه وأبناءه ليعبده، ويعمروا إلأرض، كما قال جل شأنه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ... } الآيات (30) وما بعدها. 7 - القصص القرآن في فيما يتصل بنفع الإيمان، وضرر الكفر، وخداع المنافقين، وأثر ذلك في المجتمعات الق بعث الأنبياء لإصلاحها. 8 - عنايا القرآن بذكر قصص بني إسرائيل، لأنهم أَكثر الأُمم نعمًا، وأشدهم عصيانًا وكفرًا: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}. (40) 9 - قصة موسى -عليه السلام- مع بني إسرانيل في شأن البقرة الق سميت السورة باسمها: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ... } الآية (67). 10 - قصص الرسل مع أممهم من بعد موسى، لبيان ما تحملوه في سبيل الدعوة إلى الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ... } الآية (87). 11 - تبيين موقف أهل لكتاب الكفار - من المؤمنين حتى لا يتخذوهم أَولياءَ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ... } الآية (109). 12 - العناية بقصة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في بناء الكعبة بمكة؛ لأنها أول بيت وضع للناس في الأرض، وقدجعله الله مثابة للناس وأمنا. 13 - اختبار الناس بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة: { ... وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... } الآية (143). 14 - تصوير حال أهل الكفر والضلال، حين يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}. (167)

15 - بيان ما أحل الله للمؤْمنين، وما حرم عليهم في الأطعمة، ليقفوا عند حدود الله تعالى في مطاعمهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. 16 - بيان عبادة الصوم التي بها طهارة القلوب، وزكاة النفوس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ... (183)}، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... } الآية (185). 17 - الأمر بالجهاد، دفاعًا لا اعتداءً، مع مايراعي من الآداب عند القتال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ... } الآية (190)، { ... وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ الآية (191)، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ... الآية} (193) 18 - تطهير ذرية المؤمنين من الانتماء إلى الأمهات أو الآباء المشركين، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ... الآية} (221) 19 - وضع حد للشقاق بين الزوجين والمحافظة على طهارة الأنساب، ببيان أَحكام الطلاق، والعدة للمطلقة، والمتوفى عنها زوجها {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ... } الآية (239) {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ... } الآية (228)، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... } الآية (234). 20 - بيان التفاضل بين الرسل على حسب درجاتهم عند الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... } الآية (253) 21 - الحث على الإنفاق في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}. 22 - النهى عن الربا؛ لأنه من المعاملات التي لاتتفق مع المروءة الإسلامية، ولا الأُخوة الدينية ولا مع النظام المالى الإسلامي، الذي يحرم أكل أموال الناس بالباطل: {وَأحَل اللهُ البَبعَ وَحَرمَ

الرِّبَا .. } الآية (275)، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ .. } الآية (276)؛ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} الآية (279). 23 - الأمر بقيد الديون وتسجيلها في وثائق، حى لاتقع المشكلات في المعاملات المالية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... } (282). 24 - الإيمان بالله، وجميع الرسل والملائكة، والكتب دون تفرقة بينهم {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ... } الآية (285). هذه بعض المقاصد والأهداف من سورة البقرة. وهي مدنية. وآياتها ست وثمانون ومائتان. والمدني: ما نزل بعد الهجرة. {بسم الله الرحمن الرحيم الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} المفردات: {الم} يقول السلف: إنها وأمثالها في فواتح السور من المتشابه، الذي استأثر الله بعلمه. ويقول غيرهم: إنها للتنبيه. وقيل غير ذلك. وسيأتى بيان مافيه. {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا ينبغى أن يشك في صحته. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}:إرشاد لهم

{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: يصدقرن بما غاب عن حسِّهم، مما أخبر عنه الكتاب الذي لاربب فيه. {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} يؤَدونها في أوقاتها، كاملة الأركان والشروط. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: ومما انعمنا عليهم يبذلون في سبيل الخير. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: أي أولئك الموصوفون بما تقدم، متمكنون من هدى ربهم. {وأولئك هم المُفْلِحُونَ}:أى بما يرجون، الناجون مما يكرهون. التفسير 1 - {الم}: افتتح الله بعض سور القرآن، بأَسماء بعض الحروف، وعددها ثمانيه وسبعون حرفا فى جملة السور. وهي تكرار لأربعة عشر حرفا في أوائل تسع وعشرين سورة، منها سورة البقرة هذه، وأولها: {الم}. وقد ذهب كثير من السلف، إلى أن معافى هذه الحروف وأغراضها، سر من الاسرار التي استأثر الله تعالى بعلمها، فتكون من المتشابه الذي لا يعلم تأويل إِلا الله عز وجل. أما علماء الخلف، فقدحاولوا ببان المقصودمنها لأن القرآن جاء بلغة العرب ليفهموه، ومن أَحسن ما قيل في ذلك: إنها تشير إلى أَن القرآن، مكوَّن من كلمات أساسها هذه الحروف التي تنظمون منهَا -أيها العرب- كلامكم، ومع ذلك عجزتم عن أتأتوا بمثله، وفيكم الفصحاء والبلغاء. فإذا جاء به النبي الأُمى، فالله تعالى هو الذي أنزله إليه، ولم يأت به من عند نفسه، لأنه مثلكم في البلاغة وفي الفصاحة. فإذا كنتم عاجزين عن الإتيان بمثله، - وأَنتم أَئمة البلاغة، فهو مثلكم في ذلك العجز. فالقرآن فوق مقدرة البشر جميعًا. ومن أَحسن ماقيل أيضًا: إن المشركين كانو اتضافروا، على ألا يسمعوا القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .. } (¬1) فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ التلاوة بهذه الاحرف المنزلة، جاهرا بقراءته ليستمعوا إِلى القرآن الذي أعرضوا عنه. فهي- لغرابتها- أقوى في تنبيههم إلى استماعه من أن يقول لهم: استمعوا إليه. ¬

_ (¬1) فصلت: 26

2 - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {ذَلِك} إشارة للبعيد الحسِّي. وقد يستعمل للبعبد المعنوىٌ للتعظيم، كما فى قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (¬1)}. وهي هنا إشارة إلى الكتاب؛ للإيذان ببعد منزلته علوًّا، أي ذلك الكتاب البعيد المدى في منزلته الرفيعة. {الكِتَابُ}: بمعنى المكتوب، وهو القرآن الذي نتلوه، الموعود به -صلى الله عليه وسلم- في قوله جل شأنه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (¬2)} فأل فيه للعهد، أي ذلك الكتاب الذي وعدنا بإلقائه عليك، ويجوز أَن تكون للكمال، والمعنى: ذلك الكتاب: الكامل، في بلاغته وإِعجازه وتشريعه. أو ذلك الكتاب، أما غيره فلا. {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، أَى أنه ليس من شأنه أن يشك فيه، لنصوع حقائقه. وإلا فهناك من المنكرين المعارضين من شك وشكَّك، وارتاب وأراب، فلم يعتبر ريبهم فيه ريبا. لأنه نشأَ عن الرين والحجاب الذي ختم الله به على قلو بهم. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ ... وينكر الفم طعم الماء من سقم {هُدًى لِّلْمُتقينَ} أي بيان وإرشاد لهم إلى ماينفعهما في دنياهم وأُخراهم، لما تضمنه القرآن من العقائد والَأحكام، والأخلاق التي لا غاية وراءَها. والمتقي: من يتقي عذاب الله ويصون نفسه منه، بترك السيئات وعمل الصالحات. وخص بهذا، لأنهم هم الذين ينتفعون بما في الكتاب من هداية إلى الصراط المستقيم، على حد قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (¬3). وأيضًا قوله جل شأنه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (¬4) ربما أنه مذكر للجميع وهاديهم ومنذرهم، فالتقييد بما ذكر، مراعاة لمحل الثمرة والفائدة أما غيرهم، فلم ينتفعون بالقرآن؛ لسُوء اختيارهم. 3 - {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: ¬

_ (¬1) السجدة: 6 (¬2) المزمل: 5 (¬3) النازعات: 45 (¬4) آخر: ق

تَضَمَّنَتْ هذه الآية الصفة إلاُولى للمتَّقين الذين نزل القرآن هدى لهم. واعلم ان التكاليف الشرعية: اما ترك، واما فعل. وما يطلب تركه يدخل تحت عنوان المتقين. والفعل: اما قلبى: ويدخل تحت قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. وإِما من عمل الجوارح. وقد أَشار إلى البدني منها بقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، وتخصيصها بالذكر؛ لأنها رأس العبادة البدنية، ولأنهاتنهى عن الفحشاء والمنكر، لقوله تعالى: { ... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... (¬1)}. وأَشار إلى المالي منها بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. ووجه الترتيب في الآيتين: أن الترك من قبيل التخلية، وأن الأفعال من قبيل التحلية، والأولَى تسبق الثانية، ولهذا قدم وصفهم بالمتقين على غيره من الأوصاف، لأن التقوى من قبيل التحلية، فهي أشبه بإزالة الأدران والأوساخ قبل التحلية باللباس النظيف الجديد الذي تشبهه سائر صفات المتقين. ويلي هذا ما كان عن عمل القلوب، وهو الإيمان بالغيب، إذ هو أساس قبول العمل الصالح، ولهذا لم يقبل من الكفار عمل مهما كانت صورته طيبة، لأنه لم يقم على عقيدة صحيحة قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (¬2)}:ويلي ذلك العبادة البدنية التى ترجع فائدتها إلى فاعلها، وقد أشير إليها بقوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ثم العبادة المالية المتعلقة بغير فاعلها المشار إليها بقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، أي على جهات البر. والإيمان بالغبب هو التصديق والإذعان القلبى به، والمراد بالغيب ما غاب عن الحس من شئون الدين وقام الدليل على ثبوته، فافه تعالى لا تدركه الأبصار، وما يتعلق بالملإِ الأعلى أو بأحوال يوم القيامة، من بعث وحثر وحساب، غيب - فالإيمان بذلك كله ايمان بالغيب، ولا يتحقق الإيمان بدونه، وهو أساس لفروع الإيمان، ولهذا قدمه عليها. جاء في تفسير ابن كثير جـ1ص 41 قال سعيد بن منصور، حدثنا أبر معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بت عمير، عن عبد الرحمن بت يزيد، قال: كنا عند عبدالله ¬

_ (¬1) العنكبوت: 45 (¬2) الفرقان: 23

ابن سعود جلوسا فذكرنا اصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وما سبقونا به، فقال عبدالله: إِن أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- كان بَيِّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد. قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب. ثم قرأ {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ... } إلى قوله: { ... الْمُفْلِحُونَ}. وهكذا رواه ابن أبى حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه، من طرق عن الأعمش بهذا الإسناد. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولها يخرجاه. وكلام ابن مسعود -رضي الله عنه- في هذا الأثر يشعر بان من لم يروا النبي -صلى إليه عليه وسلم- وآمنوا به، يعتبر إيمانهم برسالتِهِ إيمانا بالغيب، وأَن ذلك منقذ لهم. ومعنى {وَيُقِيمُونَ الصلَاةَ}: يؤَدُّونها في أوقاتها، كاملة الأَركان والسنن. ومن كلام أمير المومنين عمر- رضي الله عنه -: من حفظها- اى الصلاة- وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. ومعنى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: ومما أعطيناهم من فضلنا ينفقون. وإسناد الفعل {رَزَقْنَاهُمْ} إلى ضمير الله تعاك، إشارة إلى أن الله تعالى، جعلنا مستخلفين عنه فيما ننفق من الرزق الممنوح لنا، ولم تبين جهة الصرف لغرض التعميم، فينبغى ألا نبخل بمال الله على خلق الله المحتاجين، وألا نشح على كل عمل معد لمصلحة الإسلام والمسلمين. 4 - {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ... } الآية. هذه هي الصفة الثانية للمتقين، وفي وصفهم بالايمان بما أنزل على النبي وهو القرآن، وما أنزل من سائر الكتب على من قبله من الرسل- بيان أن الإسلام يقر الرسالات السماويِّة في حينها، ولا ينكرها، وانه لا يفرِّق بين أحدٍ من رسل الله، على عكس اليهود والنصارى. فاليهود ينكرون المسيحية والإسلام وكتابيهما، والمسيحيون ينكرون الإسلام وكتابه. وقوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: أي ويؤْمنون كذلك بالدار الآخرة، وما فيها من بعث وحشر وثواب وعقاب، والعبارة فيها قصر اليقين بالآخرة على المؤْمنين، وفي

ذلك تعريض بإيمان أَهل الكتاب بها، فإنه غير مطابق، ولا صادر عن يقين، فاليقين: إنما يكون عن علم لا يعتريه شك قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (¬1) وأهل الكتاب ليسوا كذلك. وسميت الدار الثانية بالآخرة؛ لتأخرها عن دار الدنيا. 5 - {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ... } الآية. اسم الإشارة في {أولئك} عائد على المتقين الموصوفين بالصفات السابقة، فتكون تلك الصفات كلها ملحوظة مع المشار إِليه، والتعببر بقوله: {عَلى هُدىً}: فيه إشارة إلى تمكن المتقين من الهدى، فكأنهم مستقرون عليه، وتنكير هدى لتعظيمه، وأكد هذا التعظيم بأنه صادر {مِّن رَّبِّهِمْ}: أي بتوفيقه: {قُلْ إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى (¬2)} {وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أي وأولئك الموصوفون بما تقدم هم -لا غيرهم- الفائزون عند الله بالسعادة الدائمة. وأصل الفلح: الشق في الأرض، وهو عمل الفلاح، والمؤمنون قد شقوا طريقهم إلى الله، فوصلوا وفازوا يمرضاة ربهم، وعظيم ثوابه. وتكرار اسم الإِشارة: {أوَلئكَ}، للتنويه بشأْن المتقين المتصفين بهذه الصفات. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}. المفردات: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} المراد بهم الذين جحدوا ما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأَصروا على ذلك. ¬

_ (¬1) الحجرات: 15 (¬2) البقرة: 120

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}: أي أغلقها ومنعها عن قبول الهدى، بسبب إصرارهم على الكفر. والمقصود أنه تعالى لم يوفقهم إلى الإيمان بسبب عنادهم. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: أي غطاء، وهذا كناية عن عدم انتفاعهم بالآيات الكونية المرئية: الدالة على وحدانية الله تعالى، كما لا ينتفع الأعمى بالمرئيات لغيره. التفسير 6 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. بعد أن وصف الله المؤمنين الصادقين، في أربع آيات، صدرت بهن السورة، أتبعها وصف الكافرين، فخصهم بآيتين، لبيان حالهم ومآلهم. فهنا في هذه الآية: إخبار من الله تعالى عن قوم، علم الله أَزلا: أنهم لا يؤْمنون، وأن الإنذار وعدمه سواء عندهم، لأن ظلمة الكفر حجبتهم وتحجبهم عن نور الإيمان. وقد يقال: إذا علم الله أزلًا كفرهم باختيارهم السَّيِّىء، وأَخبر عنهم بأنهم لا يؤْمنون فما فائدة الإنذار، وتوجيه الدعوة إليهم؟ والجواب: أن الإنذار لإقامة الحجة عليهم، حتى لا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتحقيق عموم الرسالة، وليثاب الرسول على توجيه الدعوة إليهم، وإن لم يستجيبوا. هذا والكفر نوعان: كفر إنكار لله قلبا ولسانا، ككفر فرعون. وكفر إباء وامتناع: وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه، أَو يغر بلسانه ويكفر بحقوقه ويأباها، ككفر إبليس، ومن على شاكلته من البشر، وكلاهما يؤَدئ إلى الخلود في النار. 7 - {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ... } الآية. الختم لغة: الاستيثاق على الشيءِ بوضع مادة تغطيه، حتى لا يخرج منه ما هو فيه، ولا يدخله ما هو خارخ عنه. والمادة التي يختم بها اسمها الختام بكسو الخاء، كما في قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} (¬1) والألة التي تستعمل في الختم اسمها الخاتَم بفتح التاء. ¬

_ (¬1) المطففين: 26

والمقصود من قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ .... } إلخ بيان السبب في إضرارهم على الكفر، وعدم اننفاعهم بإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم. وليس المرادمن الختم على القلوب، والغشاوة على الأسماع والأبصار، المعنى الحقيقى لهما، إذ لا ختم في الحقيقة ولا غشاوة، بل المراد إنه تعالى تركهم وشانهم الذي اختاروه لأنفسهم من إِصرارهم على الكفر، وتركهم التذكر بقلوبهم وعقولهم، وصرفهم اشماعهم عن المواعظ وابصارهم عن آيات الله تعالى، فلم يلطف بهم ولم يهدهم، جزاءَ إصرارهم وسوء اختيارهم، كما يشير إليه قو له تعالى: { .. بَل طَبَع اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ (¬1) .. } وقوله: { ... كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (¬2)}. وقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (¬3)} ونقل ابن كثير عن ابن جرير الطبرى في تفسير الآية أنه قال: والحق عندي في ذلك ما صح في نظيره الخبرُ عن رسوال الله -صلى الله عليه وسلم- وساق ابن جريرهذا الخبر بسنده عن ابى هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب ونَزَع واسْتَعْتَبَ (¬4) صُقِل قلبُه (¬5) وإن زاد زادت حتى تعلُوَ قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (¬6)}. قال ابن كثير: ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب اغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذالختم والطبع من قبل الله، فلا يكون للإيمان إليها مسلك؛ ولاللكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... } الآية: انتهى باختصار. وخلاصة كلامه وكلامنا أن الكافر هو الذى تسبب في إظلام قلبه حتى انصرف عن الإيمان، وأن الرين هو ذلك الظلام المعنوي الذي حَجَبَ قلبه، بسبب انصر افه عن دواعى الإيمان، وان نسبة الختم إلى الله كناية عن تركه لهذا الظلام دون أَن يكشفه حتى يدخل الهدى في قلبه، بسبب إصراره. ¬

_ (¬1) النساء - من الآية: 155 (¬2) الأعراف - من الآية:101 (¬3) المطففين:14 (¬4) أى رجع عن ذنبه، وطلب رضا ربه. (¬5) أى جُلى قلبه وأصبح نظيفا من أثر الذنب. (¬6) روه ابن جرير والنسائى والترمذى وقال حسن صحيح.

ولو أنه صرف قواه الفكرية والحية إلى معرفة الحق لكشف الله عنه هذا الظلام، ولهدا. إلى الحق المبين. {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: جملة مستأنفة لاتدخل في حكم الختم السابق. والغشاوة: هي الغطاء. والجملة: كناية عن عدم انتفاعهم بالاَيات الكونية المرئية. وبذلك اجتمع على الكفار عمى البصيرة، الق هي نور القلوب، وعمى البصر الذى هو نور الابصار، وانسداد السمع. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: ويشمل ما أعد للكافرين من عذاب الآخرة الدائم، وما يصيبهم في الدنيا على أيدى المؤمنين من الأسر والقتل. والعظيم ضد الحقير، كما أَن الكبير ضد الصغير. وقد وصف العذاب بلفظ (عظيم) منكرا، تهويلالما يصيبهم من أليم العذاب. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}. المفردات {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: الخداع: أَن تظهر لغيرك خلاف ما تخفيه له من الشر ليحسن الظن بك، ولما كان المولى سبحانه، لا يخفى عليه سرهم ونجواهم، فلذا يكون الخداع هنا بحسب زعمهم؛ جهلًا منهم. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}: أي وما يعو د ضرر خداعهم إلا عليهم.

{وَمَا يَشْعُرُونَ}: أَى وما يدرون أن ضرره عائد عليهم. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} المراد منه هنا الشك والارتياب الذي نشأَ عنه النفاق. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}: شكًا وارتيابا. والمراد: أنه خلّاهم وريبهم، فلم يسعفهم بالتوفيق، لسوء نيّاتهم، فتضاعف الريب في قلو بهم، وتعاظم أثرد من الننفاق. التفسير 8 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ْ: هذا شروع فى بيان صفات الطائفة الثالثة، وهم المنافقون، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. وهم أسوأ واخبث من الكافرين الصرحاء. وقد ابتلى الله بهم كل مجتمع: في كل زمان ومكان. وفي الاحتراز عنهم وعن مكرهم صعوبة ومشقة؛ لأن مظهرهم لا يتفق مع مخبرهم. وقد ذكر القرآن فى شانهم هنا ثلاث عشرة آية متتالية - تبدا من هذه الآية - ليحدد أوصافهم وخداعهم، وضرب فيهم الأمثال التي تكشف عن حالهم، وعاقبة أَمرهم. وقد ظهر النفاق بالمدينة بعد غزوة بدر الكبرى، وسببه -كما قال ابن كثير- أن عبد الله ابن أبي سلول، كان سيد اللخزرج، ركان رئيسا لهم وللأوس قبل الإسلام، ثم رأَوا أن يجعلوه ملكا عليهم، فلما جاءَ الخبر اشلموا واشتغلوا عنه، فبقى في نفسه من الإسلام واهله شىء، فلما كانت وقعة بدر وظهرت شوكة المسلمين قال: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه، يريد بالامر: الملك، ويريد بتوجهه: زواله عنه وقد دفعه يأسه من تحقيق أمنيته، أن يدخل في الأسلام كما دخل قومه، ولكنه دخله مرائيا غير مخلص، ودخل معه آخرون من قومه وغيرهم على مشاكلته، كما حدث مثل ذلك من طائفة من أهل الكتاب، فمن ثمَّ وُجِدَ النفاق فئ أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، والنفاق مرض اجتماعى ينشأ عن الحقدوالضعف النفسى والطمع. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: أي وبعض الناس جماعةٌ منافقون: يظهرون للمؤمنين أخهم جمعوا بين طرفين من الإيمان، أولهما الإيمان باللهِ، وثانيهما الإيمان باليوم الآخر: خداعا للمؤمنين، حتى يأمنوا جانبهم،

{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: أي وليسوا في الحقيقة مؤمنين؛ لعدم إيمانهم بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ ولأن إيمانهم باللهِ واليوم الآخر غير صادق. وقد روعي لفظ (مَن)، مفردا في ضمير يقول. وروعى معناه جمعا في ضمائر {ءَامنَّا}، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. ونفي إيمانهم الذي ادعوه بالجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أَقوى، لأَنها تقتضى دوام النفي واستمراره، كما علم الله فيهم. 9 - : {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... }: الآية. هذه الآية كالتعليل لنفي الإِيمان عنهم، أي وما هم بمؤْمنين حقا؛ لأنهم يخادعون الله والمؤْمنين بما يقولون. والخدْع: ان توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكرره. أَما الخادعة فإنها في أصل معناها تقتضى أن يكون من الجانبين، ولكن قد يراد منها المبالغة في الخدع من جانب واحد، وهو المقصود هنا. ولذا قريءَ {يَخْدَعُون} على الأصل. وخداعهم الله -بحسب زعمهم- جهل منهم بالله، إذ لو عرفوه لعلموا أنه لايُخْدَعُ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وخداعهم للمؤْمنين غفلة منهم، فنفاقهم غير خاف على أحد منهم فقد فضحهم الله، وأظهر رسوله على نفاقهم، وفضحوا أنفسهم في غزوة أحد، {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} (¬1)، ولذا قال الله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}. فإن من خادع من لا يُخْدَع فقد خدع نفسه، لانه يظهر لها بفعله انه يحقق لها أمنيتها من التقية والسلامة، مع أَنه يوردها به موارد العطب، ويجرعها كأس العذاب وأليم العقاب والحرمان من دار الثواب. ويجوز أن يكون المعنى: وما يعود ضرر خداعهم إلا على أنفسهم، فإنهم سيعذبون به في أخراهم، وسيفضحهم الله في الدنيا باطلاع نبيه على ما أضمروه. {وَمَا يَشْعُرُونَ}: أي وما يفطنون لهذه العاقبة، لتمادي غفلتهم، كالذي لا حس له ولا شعور. ¬

_ (¬1) محمد:30.

10 - {في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا ... }: الآية. المرض في الأصل: خرو البدن عن اعتدال مزاجه وصحة أعضائه، فيتعرض البدن للآلام. ويطلق مجازا على شك القلوب رارتيابها. فمرض القلوب هنا، مراد به نرددها في العقيدة، وعدم وصولها إلى الحق، مع قيام الأدلة عليه، فلما عموا عن النور، زادهم الله مرضا. فالنفاقُ عرض ظاهرى لمرض قلبى هو: الشك والجبن. والمراد من زيادة المرض: نمو حال النفاق عندهم. ذلك ان المنافق يبتدىءُ فيكذب على الناس ويرائيهم، فإن استمر على ذلك، صار النفاق من أحواله الملازمة، على حد قوله تعالى: { ... مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (¬1) ... }. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: أي ولهم عقاب مؤْلم في الدنيا، بسبب ما يجره عليهم النفاق من مهانة واحتقار، وعذاب شديد عند الله في الآخرة. بكذبهم على الله والناس بقولهم: {آمَنَّا}. وقد يقال: إذا كان المنافقون أشد خبثا من الكفار، فلم لم يستحل النبي قتلهم؟ والجواب: انهم لما اظهرو االاسلام، عاملتهم الشريعة بهذا الظاهر، والله يتولى السرائر. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}. التفسير 11 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} قِى الآية بيان لعناد المنافقين، وإصرارهم على الفساد، كلما وجه إليهم الإرشاد من أيَ ناصح، ولهذا بق القول للمجهول، فقبل: {وإذا قِيلَ لَهُمْ لاتُفْسِدُوا في الْأرْضِ}. وإفسادهم ¬

_ (¬1) التوبة - من الآية: 101

في الأرض كان: باثارة الفتن بين المسلمين، وإفشائهم أسرار المسلمين للكفار ة وتحريض الجميع -مسلمين وكفارا- على الحروب. وقد كانت الأرض قبل مبعث النبي مليئة بالفساد وبالمعاصي، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم - عمل على إزالة هذا الفساد، والقضاء على العصبيات الجاهلية. وبذلك تهيأت الأرض للصلاح باستقامة المجتمعات الصالحة عليها، فلما جاءَ المنافقون، وكان من آثارهم إحياء الفتن بين الناس- قيل لهم: {لاَ تُفْسِدُوا في الأرْضِ}، أى بعد إصلاحها بالتعاليم الإسلامية، فكان جواب النافقين مبنيا على مغالطة كاذبة. إذ قالوا: {إنمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}: أَى: نحن مقصورون على الأصلاح، ولا نعرف الإفساد، فكيف ننهى عنه مع أننا لم نفعله؟. وإنما قالوا ذلك، لأنهم صوروا الإفساد إصلاحا، لمرض قلوبهم، على حد قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (¬1). 12 - {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}: هذا هو الرد على دعواهم. وهو أَبلغ رد لما فيه من {ألاَ}، المنبهة و {إنَّ} المؤَكدة، وتعريف الخبر {الْمُفْسِدُونَ}. وتوسيط ضمير الفصل {هُم}. ونفى اليشعور والادراك عنهم لفساد عقولهم، فصاروا لا يميزون بين الخبيث والطيب، ولا يشعرون بالفروق ببن الفاسد والصالح. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} التفسير 13 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ... }: الآية. نُصِحُوا في الآية السابقة بترك الإفساد، وهنا، نصحوا بتحقيق إيمان سليم من النفاق. ¬

_ (¬1) فاطر: 8

والمعنى: وإذا أُرشدوا، فقيل لهم: آمنوا باللهِ ورسوله- بقلوبكم- كما آمن الناس الكاملون المستجمعون لخصائص جنسهم ومزاياه، بحيث لايقترن إيمانكم بشىءً من شوائب النفاق. {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}؟ والاستفهام في كلامهم للإنكاروالنفى. والسفهاءُ: ناقصو العقل والرأي، أي لانؤمن كإِيمان المؤْمنين السفهاء، الذين لا عقل عندهم ولارأى. وهذا الرد قالوه فيما بينهم، لأنه كفر صريح، وهم يتظاهرون بالإيمان، وقد فضح الله سرهم هذا وأَظهره، ثم رد عليهم السفه كما سيأتى. وقال أبو السعود في قولهم: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} إنه رد في متهابلة الناصحين من المؤْمنين، فيه ضرب من النفاق، لأنه يحتمل الشر والخير - فهو في ظاهره- على معنى: نحن لا نؤْمن كما آمن السفهاء، بل نؤْمن كما آمن الناس كما أَمرتمونا أنتم، فلا تتهمونا بفساد الإِيمان، ولكنهم يقصدون في أنفسهم أن المسلمين سفهاء، وأنهم لذلك لايؤْمنون كما آمنوا. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ}: رد الله عليهم السفه الذى اتهموا به المسلمين أُبلغ رد، واكد اتصافهم به، وأَنه مقصور عليهم، فصدر بلفظ {أَلاَ} التي هي للتنبيه، وأكده بلفظ {إنَّ}، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، أَى إِنهم هم السفهاءُ، لاغيرهم ممن أرادوا وصفهم يالسفه من المؤْمنين. {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} أنهم هم السفهاء وحدهها، أَما المؤْمنون فهم العقلاء العلماء. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} المفردات: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}: أي انفردوا بمن بقى منهم على الكفر، أو برؤَساءِ- المنافقيق والقائلون: صغارهم. {إِنَّا مَعَكُمْ} أي كافرون مثلكم بمحمد.

{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}: أَى مستخفون بالمؤمنين، حينما تظهر الإيمان لهم. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}: أي يجازيهم على استهزائهم. {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ}: أي يمهلهم في ضلالهم. {يَعْمَهُونَ}: يتحيرونَ. التفسير 14 - {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}: في هذه الآية تصوير لأحوال المنافقين في معاملتهم المؤْمنين والكفار، فإذا لقوا المؤْمنين قالوا آمنا؛ ليظهروا موافقتهم لهم، وإذا خلوا إلى شياطينهم الذين يلقنونهم الباطل - وهم من بقى منهم على الكفر، أو كبار المنافقين، والقائلون صغارهم- قالوا مطمئنين لهم: إنا معكم في الكفر باطنا، وتعللوالإظهار الإيمان للمؤْمنين بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي مستخفون بهم، إذ نعمل على خلاف ما نقول لهم. وقد صور الله نفاقهم في الآية أبدع تصوير، فعبّر عن ملاقاتهم للمؤْمنين بكلمة {لَقُوا} لأن لقاءَهم للمؤْمنين كانه مصادفة لا يحرصون عليه. وعبر عن ملاقاتهم لشياطينهم بكلمة {خَلَوْا} لأن الخلوة تطلب قصدا للادلاء بالأسرار، وذكر انهم كانوا عند لقاء المؤْمنين يقولون (آمنَّا) فعبروا بالفعل الماضي ليظهروا للمؤْمنين انهم معهم من زمان مضى، وعند لقائهم لشياطينهم يقولون: {إنَّا مَعَكُم} بالجملة الاسمية المفيدة للدوام، ويؤَكدونها بإنَّ، ويعللون إظهار إيمانهم بالاستهزاء بالمؤْمنين. فرد القرآن عليهم بقوله تعالى: 15 - {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: ومعنى {اللهُ يَسْتَهْزِىٌ بِهِمْ}: ينتقم منهم ويجازيهم على استهزائهم، لاستحالة المعنى الحقيقى على الله تعالى. سميت عقوبتهم باسم الذنب الذي صدر عنهم، للمشاكلة اللفظية، وهي ذكر الشئ بلفمل غيره لوقوعه في صحبته. ومما جاءَ على هذا النمط قوله تعالى: {وجَزَاء، سيِّئَةٍ سَيِّئَة مثْلُهَا ... } (¬1). ¬

_ (¬1) الشورى - من الآية: 40

فالجزاء ليس. سيئة، وإِنما عبر بها عنه للمشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف. وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} المدّ يأتى قى بمعنى الزيادة، ومنه قوله تعالى: { ... وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ... } (¬1) أو الإمهال والأملاء. والطغيان هنا، مجاوزة الحد في الضلال، والعَمَه: عمى القلب. ومن لوازمه: الحيرة والتردد. والعنى: ويزيدهم الله فى ضلالهم الشديد، أو يمهلهم فيه: يتحيرون ويتخبطون، لا يدرون أين يتوجهون بسبب طغيانهم المستمر. والمراد أنهم -بسبب كفرهم وعنادهم- سد الله عليهم طرق التوفيق، فازداوا رَينًا على قلوبهم، وطغيانا في تصرفاتهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} المفرداتَ: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}: المراد به، استحبو االكفر على الإيمان. {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}: فما نالوا خيرًا من الكفر الذى جعلوه بدلامن الإيمان، فكانوا أشبه بالتجار الذين جهلوا أساليب التجارة، فجروا على أنفسهم الخسارة. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}: إلى ما يوصلهم إلى الربح، لجهلهم. التفسير 16 - {ولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ... } الآية. اسم الإشارة يعود على المنافقين، مع ملاحظة صفاتهم المتقدمة. والأصل في الاشتراء: أن يكون في المبادلات الحسية، كاشتراء السلعة بثمنها، ثم استعملته العرب في المعاق، كاشتراء الضلالة بالهدى. ¬

_ (¬1) لقمان - من الآية: 27

والمراد: انهم استحبوا الكفر على الإيمان فليس الاستبدال حقيقة حتى يكون معاوضة، لأنهم لم يسبق لهم الإيمان حتى يبذلوه في مقابلة الكفر. والتعبير بلفظ {اشْتَرَوا} يؤْذن بأنهم قادرون على الإيمان بالفطرة، لو نظروا واعتبروا. والباء في قوله: {بِالْهُدَى} داخلة على المتروك. لأنهم اخذوا الضلالة وتركوا الهدى الذى كان فيهم بالفطرة، وتمكنوا منه بالأدلة الواضحة. {فَمَا رَبِحَت تَجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ترشيح وتقوية للمعنى المجازى؛ فإِنه لما استعمل لفظ. اشترىَ مجازا عن استبدل، أتبعه ما يشاكله تقوية له، وتمثيلا لما فاتهم من فوائد الهدى. بصورة خسران التجارة، الذي يتحاشاه كل أحد، للإشباع في التخسير والتحسير أىَ: فلم يربحوا، ولكن خسروا، وما كانوا مهتدين إلى الربح اجهلهم بطرق التجارة الرابحة، وعدم اهتدائهم إلى أساليبها وأسبابها. وكذلك هؤلاءِ المنافقون: كان رأْس مالهم الهدى، فاستبدلوا به الضلالة، فخسروا بذلك رأْس المال: وهو الهدى، وربحه وهو النجاة والفوز، {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} إلى طرق التجارة الرابحة في الدين. {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}. التفسير 17 - {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} بعد أن بين الله في الآيات السابقة صفات المنافقين، عقبها بتمثيلهم فيها، زيادة في توضيحها وتقريرها.

ففى التمثيل إبراز المعنى الخفى في صووة الظاهر. وهو نوع من أساليب البلاغة تصور فيه المعقولات والمحسات، والمَثَلُ في أصل اللغة بمعنى الشبيه والنظير، كالمِثل والمثِيل، وقد يستعار للحال التي فيها غرابة كما في هذه الآية (¬1). والمراد من قوله: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} مَنْ سعى في تحصيل وقدِها- أَى لهبها وضوئها لتضيء له في الليلة المظْلمة. والأصل في كلمة {الَّذِى} أن من تستعمل في المفرد، وقد تستعمل في الجمع كما هنا، فهي بمعنى جماعة المستوقدين، ولذا قال سبحانه: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} بضمير الجمع، ومن أمثلته قوله تعالى: { ... وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ... } (¬2)، أي كجماعة الخائضين. ويجوز أن يراعي لفظه المفرد، فيعاد الضمير عليه مفردا كما في قوله تعالى {اسْتَوْقدَ} و {حَوْلَهُ} كما يجوز أن يراعي معناه، فيعاد الضمير عليه جمعا، كما في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}. وخلاصة المعنى: أن الله شبه حال هؤلاءِ المنافقين - وقد آتاهم ضربا من الهدى باستعداد الفطرة، ونطقوا بالشهادتين بألسنتهم، ثم أضاعوا ذلك ولم يتوصلوا به إلى نعيم الآخرة وسعادة الأبد فبقوا في حيرة واضطراب لإعراضهم عن الحق واستبطانهم للكفر:- شبه حالهم هذا- بمن أَوقد نارا لينتفع بنورها في الظلمة ليلا، فلما أضاءَت ما حيوله عن الامكنة، سرعان ما انطفات، وذهب الله بنورهم، قبقوا في مكانهم حائرين: لا يرون شيئًا فيما حولهم؛ لشدة الظلمة التي تحبط بهم من كل جانب. والتعبير بلفظ {أَضَاءَتْ} أبلغ من التعبير بأنارت، لأن الضوء مصدر النور، كما يعلم من قوله تعالى: هو {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ... } (¬3)، ومعلوم أن نور القمر مستمد من ضياء الشمس. وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، معنا.: لم يُبق منه شيئًا. وإنما لم يقل: بضو ئهم كما يقتضيه الظاهر من كلمة {أضَاَءتْ} لئلا يتوهم أن الذي ذهب هو زيادة الضوء، مع بقاء أصل النور ¬

_ (¬1) وقد يراد منه القول السائرالمثل مضربه بمورده فى الغرابة، كما فى قواهم: "الصَّيف ضيَّعت اللبن" وما في الآية ليس، لا جماع المشبه والمشبه به، والمثل السائر ليس كذلك. (¬2) التوبة من الآية: 69 (¬3) يونس من الآية: 5

ولذا قال عقبه: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}، أي تركهم في ظلمات لايرى فيهاشئ. وإسناد إذهاب النور إلى الله، للإيذان بأنه إنما ذهب بأمر سماوى. كالمطر والهواء أو المبالغة في إذهابه. 18 - {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}: ليس المراد: الاخبار بأنهم أُصيبوا بحقيقة الصمم والبكم والعمى، فقد كان لهم آذان تسمع، وألسنة تنطق، وأبصار تنظر. ولكنهم- لما حجبوا أسماعهم عن معرفة الحقائق كانوا بمثابة الصم الذين لا يسمعون. ولمّا لم ينطقوا بالحق مخلصين، كانوا بمثابة البكم الذين لا يتكلمون. ولمَّا لم يتعرَّفوا الحقائق ببصائرهم، كانوا كالعمى الذين لا يبصرون. ولا سبيل لعودتهم إلى الحق؛ لإعراضهم عن استعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله. ولهذا قال سبحانه: {فَهُمْ لَا يَرْجِعونَ} أَي لا يعودون إِلى الهدى، فقد أضاعوه، كما لا يعود إلى مقصده من بقى في ظلام لا يهتدى فيه إلى سبيل يوصله إليه. ومن هذا البيان اتضح أن في الكلام تمثيل حالهم - في تعطيلهم لفطرتهم المتمكنة من من الهدى، وعدم انتفاعهم بالاَيات والنذر، وعدم قطعهم بالحق - بحال. من فقد السمع والنطق والبصر، لتعطل مصادر النفع وعدم الانتفاع نى كل منهما. {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}. المفردات: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}: الصيب: (¬1) بطلق على المطر المنهمر، وعل السحاب الكثيف، والسماء: كل ما علاك والمراد منها هنا: السحاب، فهو من معانيها. ¬

_ (¬1) بوزن فيعل، مأخوذ من الصوب، وهو النزول والانصباب.

{فِيهِ ظُلُمَاتٌ}: المراد بها الظلمات الناشئة من كثافة المطر وتتابعه وغمامه وظلمة الليل {وَرَعْدٌ}: الرعد، صوت مدوٍّ في الهواءِ، سببه التقاء سحابة كهرباؤها موجبة، بسحابة أخرى كهرباؤها سالبة، فتتحد الكهرباءُ فيهما، وعندها يسخن الهواءُ فيتمدد تمددا فجائيا، ينشأ عنه ضغط قوي، يعقبه تخلخل سريع فيجذب إليه تيارات هوائية أُخرى تحدث صوتا قويا هو الرعد، ويتم هذا في سرعة عجيبة. {وَبَرْقٌ}: البرق، لمعان ضوئي شديد، يظهر ويختفى سريعا. وسببه حدوث شرارة كهربائية ناشئة عن اتصال الكهرباء في سحابتين: إحداهما كهرباؤها سالبة، والأخرى كهرباؤها موجبة. والبرق والرعد متلازمان غالبا، ولكننا نرى البرق ثم نسمع بعده الرعد؛ لأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت أضعافا مضاعفة. {الصَّوَاعِق}: جمع صاعقة، وهي حرارة هائلة تصحب البرق والرعد أحيانا. وسببها اتصال كهربائيّ ناجم عن التفريغ الكهربائى الذئ يحدث بين الأرض والسحب المكهربة، فتحدث حرارة بالغة سريعة: تصهر ما بينهما، أو تحرقه اوتفتته ة تبعا لاختلاف مادته. وظواهر الرعد والبرق والصواعق، تحدث عند تكاثف السحب، واختلاف درجات الحرارة بين طبقات الهواء. {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}: أى لايفوتونه ولا ينجون من بطشه، كما لا ينجو الشخص مِمنْ أحاط به. {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}: أَي وإذا أظلم البرق عليهم ولم يضئ لهم، رقفوا ولم يمشوا. التفسير 19 - {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ... } الآية. في هذه الآية تمثيل آخر لحالة المنافقين؛ إذ مثلها بحال مطر غزير منهمر من السحاب، اشتمل على ظلمات كثيرة، كما اشتمل على رعد ربرق.

وقد كرر التمثيل، رعاية لتفننهم في فنون النفاق، وتنقلهم فيه من حال، إلى حال، وذلك جدير بأَن تعدد فيه الأمثال، وقد جىء بحرف العطف {أوْ} بين التمثيلين، لإفادة تساوى القصتين في ان يكونا مئلا لحالهم انفرادا أو اجتماعا، فـ {أوْ} هنا، مثلها في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. أي جالس أحدهما أوكليهما، فهما سواء في الإفادة. وكأن سائلا قال: كيف حالهم عند سماع الرعد؟. فأُجيب {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}. والأَصابع مجاز عن الأنامل. فهو من باب التعبير عن الجزء باسم الكل، مبالغة، في إعراضهم عن قبول ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يحذرونه كما يحذر الخائف من الصواعق، فيسد أذنيه بأنامله حتى لا يسمعها؛ خشية أن يموت من شدة الصوت الذي يصحبها. {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}: انذار لهم بأنهم لن يفلتوا من عذابه، أي لا يفونونه، كما لا يفوت الشخص من أحاط به من جميع جهاته. 20 - {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ... } الآية. هذا كلام مستأنف لبيان حالهم عندما يرون البرق، كأن سائلا قال: وما حالهم عند البرقَ فأجيب: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أَي بذهبها {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أَي مشوا فى ضوئه. وسرعان ما يزول الضوء، فيقولون في حيرتهم، وهذا معنى قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}: أي وقفوا حائرين. {وَلَو شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم} عند قصف الرعد {وَأبْصَارِهِمْ} عند وميض البرق، وإنما وحد السمع وجمع الابصار، لأن السمع في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، كما قاله صاحب الإرشاد: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فهو الفاعل المختار، يقول للشىء كن فيكون.

الغرض من الاَبتين: {أَوْ كَصَيِّبٍ} إلى {قَدِيرٌ}، تمثيل حال المنافقين من الحيرة والتردد، بين مُضِيٍّ في الإسلام وإِحجام عنه، بحال من أمطرته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف فتحير بين إقدام حين يلمع البرق، وبيق إحجام حين يسمع الرعد ويشتد علبه الظلام، والمطر في كلتا الحالتين فوق رأسه ينهمر، فما أَروع هذا التمثيل. ويمكن جعله من باب التشيه المفرق فيشبه القرآن- الذي تعبدهم الله به وسائر ما آتاهم من المعارف التي هي سبب الحياة الأبدية - بالصيب أي المطر الذي به حياة الأرض. ويشبه ما أحاط بهم من التردد والحيرة والشكوك بالظلمات، ويشبه وعد القرآن ووعيده بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، وتَصَامُّهم عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أُذنيه عنها مع أنهم لاخلاص لهم منها، وهو معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} و. اهتزازهم لما يلمع لهم من رُشدٍ يُدركونه، أو رفد تطمح إليه أَبصارهم بمشيهم في مكان ضوء البرق حين يضيءُ، وتحيرهم في الأمر وتوقفهم فيه حين تعرض لهم شبهة أو مصيبة - بتوقفهم إذا أظلم عليهم البرق. ونبه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} على أنه تعالى جعل لهم السمع والأبصاو ليتوسلوا بها إِلى الهدى والفلاح. ولكنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة وأوْصدوها عن الفوائد ولآجلة، ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي آثروها لأنفسهم، وهي اضاعة فائدة السمع والبصر فإنه على ما يشاء قدير، ولكنه لم يفعل، لعلهم يعتبرون فيدركوا.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} المفردات: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: لكي تَقُوا أنفسكم وتحفظوها بعبادته من عقابه. {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا}: مبسوطة ممهدة كالفراش. {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}: البناء هو المينى، بيتا كان أو قبة أوخباء. ومنه قولهم: بني الرجل على زوجته، إذا ضرب فوقها قبة. والمراد: أنه جعل السماءَ فوقهم كالقبة. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَي وأنزل من السحاب ماء، فكل ما علاك، سماءٌ. {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}: أَي فلا تجعلوا لله شركاء لشبهونه في الاُلوهية. والند: الشبيه والنظير. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَنهم لا يصلحون للألوهية والمشابهة لله في الخالقية وسواها، من الصفات اللائقة بالمعبود بحق "سُبْحَانَهُ وَتعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوا كَبِيرًا" (¬1). التفسير 21 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... } الآية. بعد أَن ذكر الله طوائف المكلفين من المؤْمنين والكافرين والمنافقين - مع بيان صفات كل طائفة - أقبل عليهم جميعًا بالخطاب؛ هَزَّا لمشاعرهم وتنشيطًا لهم، قائلا لهم: ¬

_ (¬1) الإسراء:43

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي}، فكلمة {النَّاسُ} عامة، تشمل أمة الدعوة المكلفين: من آمن منهم ومن لم يؤْمن، من الموجودين في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - ومن سيوجد بعدهم إلى يوم القيامة؛ لعموم الرسالة المحمدية. وقد دخلوا في الخطاب -وهم غير مخلوقين فى وقت الخطاب- تغليبا للموجودين على من سيوجدون، ويكون الأمر بقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} بالنسبة للمؤمنين، بمعنى داوِموا على عبادته، وبالنسبة إلى غيرهم، بمعنى حصِّلوا العبادة وأنشئوها. والعباده المطلوبة؛ هي الطاعة المبنية على حبِّ المعبود، لا يشاركه فيها غيره؛ لأنه المستحق لها وحده؛ لانفراده بالخلق والربربية وكامل الإنعام، مع القدرة الشاملة وعظيم السلطان. وليست العبادة مقصورة على نحو الصلاة والصوم والزكاة،، بل تشمل كل عمل يعمل لنفع الناس والحيوانات، إذا أريد به وجه الله. فالعامل الذي يخلص في عمله لأبناءَ وطنه ويرجو به رضا الله يكون عابدا وعملُه عبادة. وإطعام الحيوانات والعناية بها امتثالا لأمر الله عبادة. وقد اقترن الأمر بالعبادة بذكر أرصاف المعبود، التي من شأنها أن نحملهم على عبادته، لتعدى أثرها لهم. فقوله: {رَبَّكُمُ} يفيد أَنه تعالى مربيهم رمتعهدهم بالتكميل المستمر. وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تذكير لهم بأوَّلِ نِعَمه عليهم، وهي الخلق من العدم، لهم ولاَبائهم من قبلهم، ونعمة الآباو نعمة للأبناءٌ، إِذ لولا خلق آبائهم لما وجدوا.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: أي لتتقوا العذاب، الذى هو عاقبة المخالفين لأمر الله تعالى. 22 - {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ... } الآيه في هذه الآية، تعداد لنعم الخالق على الناس، وتذكير بأَفضاله عليهم، حيث خلق لهم الأرض، وصيرها لهم مبسوطة كالفواش، بحيث يقعدون عليها وينامون، ويزرعون ويحصدون، ويبنون عليها بيوتهم. وجعل {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أَي تكوينا يشبه القبة فوقهم، وزينها بالكواكب والنجوم ليهتدوا بها {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أَي من السحاب (مَاَءً)، وهو المطر الذي تحيا به الأرض والزرع والحيوان {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} تكرما وتفضلا، وخروج الثمار وأصولها بقدرة الله ومشيئته، ولكنه -تعالى- جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في اخراجها. كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها، على المادة المستخلصة منهما. {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الفاء للتعقيب على ما سبق ذكره من النعم الجزيلة. والأنداد: الشركاء، جمعْ ند بمعنى النظير. المعنى: يتفرع على هذه النعم ويتسمبب عنها، ألا تتخذوا للمنعم بها شركاءَ تعبدونهم من دونه، وأنتم تعلمون أنهم لا يصلحون للأُلوهية. فهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون لأنفسهم- ولا لغيرهم- ضرًّا ولا نفعا، فلا عذر لمن عطل عقله، فسوى هذه الأصنام العاجزة بالإله القادر، الذي خلقه وأَنعم عليه، دون حجة سوى تقليد الآباء (¬1). والترتيب في هذه الآية عجيب، فقد رتب الأَمر بالعبادة، على صفة الربوبية لأَنها السبب في وجوب العبادة، ثم بين الربوبية بآثارها. وهي أنه خلقهم وخلق من قبلهم، وما يحتاجون إليه في معاشهم، من الأرض المقلة والسمَاَء المظلة، والثمرات التي منها المطاعم والملابس. ¬

_ (¬1) قد أحسن عمرو بن نفيل، موحد الجاهليين إذ قال: أرَبا وَاحِدًا أم الفَ رَبِّ ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} المفردات {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ}: في شك. {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}: أي من القرآن الذي أنزلناه على - صلى الله عليه وسلم -. {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}: أي بسورة من مثل القرآن في بلاغنه وأَغراضه، أو بسورة من مثل عبدنا. {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ}: مَنْ يشهد لكم علىْ ما جئتم به، إن كان يصلح أن يكون مثلا ْلسورة من القرآن، أو لا يصلح. {مِنْ دُونِ}: أي من غير الله. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: في دعواكم، أن محمدا اخترعه، ولم ينزله الله عليه. {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: أي ما توقد به نار جهم؛ هو الناس الكافرون والحجارة التي جعلوها آلهة، وغيرها. التفسير 23 - {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. لما أمر الله- في الآيات السابقة- بعبادته وحده، ونهى عن اتخاذ إلأَنداد، أتبع ذلك ما يدل على أن القرآن الذي أنزله على محمد معجزة، وأنه من عند الله، إذ تحداهم أن

يأْتوا بسورة مثله إن كانوا صادقين في أن محمدا افتراه من عنده، فعجزوا أمام هذا التحدى مع أنهم أئمة البلاغة والفصاحة، فإذا عجزوا هُمْ فغيرهم أشد عجزا، وحيث كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلهم، وكان، فإنه يستحيل أن يكون القرآن- الذي فاق قدرة البشر من تأْليفه هو، فوجب أن يكرن من عند الله، أنزله الله عليه تأْييدا له، كما أيد المرسلين قبله بالمعجزات. واختصى النبي صلى الله عليه وسم بمعجزة القرآن، لأنه هو المناسب لإعجاز العرب البلغاء الفصحاء، ولأن العالم شَبَّ عن الطرق، ولأن رسالته باقية إلى آخر الزمان، وهذا يقتضى أن تكون شواهد معجزته باقية معها مقارنة لها في جميع الاجيال، فلذا كانت معجزته القرآن الكريم، الذي تقارنه شواهد إعجازه دائمًا. أما سائر المرسلين، فإن رسالة كل منهم كانت موقوتة بين رسولين، ومحصورة في محيط ضيق، فلهذا كانت معجزة كل منهم، مقصورة على زمان معين ومكان معين، وبين عدد محدود من الشهور. وإِعجاز القرآن كما يتجلى في بلاغته وفصاحته، يتجلى أيضًا فيما تضمنه من التشريعات الفائقة، والقصص الصادقة للأمم السابقة، والإشارة إلى الكونيات التي كشف العلم بعضها، ولا يزال جاهدا في كشف سواه، وبما اشتمل عليه من قواعد السلوك والأخلاق. وفي ذلك يقول. النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان عن أبى هريرة، واللفظ لمسلم. وله- صلى الله عليه وسلم- من المعجزات غير القرآن، ما يفوق الحصر، فلله الحمد والمنة. وقد تحداهم الله هذا التحدى في مواضع عديدة من القرآن، مكيِّه ومَدَنيِّه، فمن مَدنيهِ هذه الآية، ومن مَكِّيِّهِ قوله تعالى فى سورة الإِسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1) وسبب تحديهم بهذه الآية وأمثالها: أنهم قالوا: "لَوْ نَشَاءُ لَقُلنا مِثلَ هَذَا (¬2) " ولمَّا نزل القرآن منجما حسَب الحوادث، لم يعجبهم هذا، وقالوا {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (¬3) فجعلوا نزوله منجمًا حسب الوقائع، دليلًا على أنه ليس من عند الله. ¬

_ (¬1) الإسراء: 88 (¬2) الأنفال: 31 (¬3) الفرقان: 32

وقال بعضهم في أحاديثهم عنه: إنه اساطير الأَولين. وزعم آخرون: انه. سحر. تخبُّطٌ منهم ناشئ عن إصرارهم على الكفر. فهم يلتمسون العلل الباطلة لبقائهم على دينهم، ولحمل المؤمنين على ترك الإِسلام. فلا جرم ان تنزل هذه الآية لتحديهم فيما زعموه، حتى إِذا ما عجزوا، وجب اعترافهم بأن القرآن من عند الله، وأَن المنزل عليه هو نبى الله ورسوله. إذ المراد بعبدنا، هو النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مأخوذ من معنى التعبد، وهو التذلل والخضوع لمالِكِه وخالقه. وإضافة عبد إلى ضميره تعالى، للتنويه بشأْن هذا النبي. والتعبير بكلمة {نَزَّلْناَ} المفيدة للتكرار دون {أَنزَلْنا} منظور فيه لحالة نزول القرآن مفرقا حسب الوقائع. وكان ذلك موضع اعتراضهم كما تقدم. وجواب الشرط قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}. والسورة: اسم لطائفة من آيأت القرآن، مأخوذة من سور الدينة، لأَنها محيطة بطائفة من القرآن إِحاطة سور المدينة بما فيها. والضمير في {مِثْلِهِ} عائد على القرآن. كما في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (¬1) أَي فأُتوا بسورة مماثلة لسُوَر القرآن فى البلاغة وحسن النظم، وتضمن مصالح الدنيا والآخرة. فإِن رجعنا ضمير (مِثْلِهِ) على النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمعنى فأتوا بسورة صادرة ممن هو على حاله - صلى الله عليه وسلم- في اللغة، وكونه أُميًّا لم يخالط أَهل الكتاب. وجعل الضمير راجعا إلى القرآن أولى، لتطابق هذه الآية مثيلاتها فى القرآن، كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} (¬2) ولأن الكلام في المنزل، لا فيمن نزل عليه. ومعنى قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي؛ ادعوا أنصاركم الذين يشهدون أَموركم، ويقدرون الأمر في شئونكم؛ ليكون التحدى - في النهاية- للجميع؛ أو لكي يشهدوا بحال ما جئتم به. ¬

_ (¬1) يونس: 38 (¬2) الإسراء: 88

أو المراد بالشهداءِ، آلهتهم الذين يعبدونهم من. دون الله، فيكون الكلام للتبكيت لهم على اتخاذهم آلهة لا يفقهونا شيئًا. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم إن القرآن ليس من عند الله، بل من صنع البشر كما زعمتم. وجواب {إن كُنتُمْ} مدلول عليه بقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}. ومعنى آية التحدى هذه إِجمالا: إن كنتم- أيها الكفرة- صادقين في دعواكم: أَنه من كلام البشر- وأَنتم من البشر- فاتوا بسورة مثل هذا القرآن: في بلاغته وفصاحته، ومعناه وأَحكامه، وقد أُنزل القرآن عربيا، فهو من لغتكم، لا من لغة تجهلونها. والعربية مجال تنافسكم وتسابقكم فى المحافل العربية. ولو كان مقدورا لهم لفعلوا، ولأذاعوا به، وأَشاعوه، ولم يثبت شىء من ذلك عنهم. وبذلك ثبت عجزهم المطلق. وإذا عجزوا- وهم الفصحاء البلغاء- كان غيرهم أَعجز كما تقدم. 24 - {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا ... } الآية. إن الشرطية هناءَ مستعملة لليمين، وإن كَان غالب استعمالها للشك، و {لَنْ} في {وَلن تَفْعَلُوا} من الآية إِنما هو لنفي الفعل المستمر فى المستقبل، إِلى الأبد. وذلك من معجزات القرآن، إِذ لم يقع منهم أنهم أتوْا بسورة مثله. {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}: أي فارجعوا إلى الصواب، واتقوا عذاب النار التي اعدت وهيئت للكافرين، بتصديقكم أنه من عند الله. ووصف النار بأَن وقودها ناس وحجارة، مثل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬1) ¬

_ (¬1) الأنبياء:98

فالناس الذين هم وقودها، هم الكفار، والحجارة حجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها: تجعل وقودا للنار معهم، إهانةً لهم ولِمَا كانوا يعبدون. والآية تبدى مِنَ التحذير، ما لا يستطيع عاقل تجاهله. وفيها دليل على أن النار مخلوقة موجوده، من قبل نزولها. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} المفردات: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}: التبشير يطلق غالبا، على الإِخبار بالخبر السار. وقد يُطلق مجازًا يحزن كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (¬1)} والمراد هنا الأول. {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: أَي كلما رزق أهل الجنة شيئًا من ثمارها، يقولون: هذا هو الذي وُعِدنا من قبل في الدنيا أن نرزقه في الآخرة، أَو هذا الذي رزقناه في الدنيا، لكونه مشابها له، حتى إذا تذوقوه أدركوا الفرق بين ثمار الدارَين. {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}: أي مُنحوا ثمر الجنة، يشبه بعضه بعضا في الشكل، مع اختلاف الطعم، أو متشابها مع ثمار الدنيا. شكلا ليأْنسوا به، لكنه يفوقه طعما ومذاقا. {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: أي زوجات مبرأَة من الدنس والعيب. ¬

_ (¬1) الانشقاق:24

التفسير 25 - {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } الآية. هذه الآية بشارة وعِدَة للمؤمنين، مقابلة لما ذكر في الآية السابقة، من تحذير ووعيد للكفرين. وهكذا، يصرف الله الآيات وينوعا بين الترهيب والترغبب. ومعنى التبشيرة. المفهوم من قوله: {وَبَشِّرِ}: الإخبار بما يسر، وأطلق عليه ذلك، لظهور أثره على البشرة. رقد سيقت البشرى في هذه الآية لمن آمن وعمل صالحا من الناس، أي لمن جمعوا بين عمل القلب، وهو الإيمان والتوحيد الخالص، وعمل الجوارح، وهو الاستقامة والاستدامة للعمل الصالح. ويستدل بها على أن مفهوم الإِيمان لا يدخل فيه العمل الصالح، ولكنه لا بد منه لحسن الجزاء؛ فإن الإيمان وهو التصديق كالأساس، والعمل الصالح كالبنيان فوقه. ولا يكفى أساس من كير بنيان، كما لا يعيش بنيان بغير أساس؛ لأنه معرض للانهيار. وجمع {الصَّالِحَاتِ} للإِشارة إلى الإتيان بها بأَنواعها، دون اكتفاء ببعضها. فأركان الإِسْلام وما يتصل بها، متماسكة كما يفهم من حديث "بُنِىَ الإسلام على خمس: شهادة أَن لا إله إلاالله، وأَن محمدا رسول الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكإة، والحج، وصوم رمضان (¬1) " مجمع عليه. {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}: أي وبشرهم بأن لهم جنات .... إِلى آخر الآية، والجنات: البساتين التي تتداخل وتتشابك فروعها، فهي تُجِنُّ أي تستر من دخل تحتها. وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَي من تحت أشجارها. {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. في هذه الجملة وصف للجنات بان أشجارها تحمل ثمارا متشابهة يستمتع بطعامها أهل الجنة، كلما قطف أَحدهم ثمرة منها وجد مكانها من الغصن ثمرة مثلها، فيعجبون من ذلك ¬

_ (¬1) صحيح البخارى وغيره

ويقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}،وقد بيَّنت السنَّة ذلك. فعن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أَخرى (¬1) ". وقد يقال في معناها: إن ثمر الجنة متشابه فى الصورة والشكل- مع ما كان في الدنيا، فإِذا رأوه قالوا: هذا الذي رزقناه من قبل في الدنيا-، فإذا ما طعموه، أحسوا فرقا شاسعا - في اللذة والطعم- بينه وبين ثمر الدنيا. وإنما جعل ثمر الجنة مشابها - في الصورة- لثمار الدنيا؛ لتميل النفسى إليه حين تراه، فإن الطباع تميل إلى ما تأْلف، ليتبين لها.- بعد تذوِقه- مزيته على ثمار الدنيا: في الطعم واللذة؛ فيقدروا فضل الله عليهم، وقيل في معناه غير ذلك. ئ {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: ولأهل الجنة زوجات مطهرة مما يستقذر من نساءَ الدنيا، كالحيض ودنس الطبع، وسوءِ الخلق والأقذار. والتطهير يستعمل في الأجسام والأخلاق والافعال. والتعبير بقوله: {مُّطَهَّرَةٌ} يشعر بأَن مُطَهِّرا طَهَّرهن. وهو لا يكون إلا الله-سبحانه وتعالى- أذ خلقهن على هذا النمط من الطهر. والزوج في الأصل: اسم لما له قرين من جنسه يزاوجه ويثانيه. ويطلق أَيضًا، على الذكر وإلانثى. والقرينة هي التي تعين المراد، {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: الخلود في الأص {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57] ل؛ البقاء المديد، دام أو لم يدم، فإذا أُريد الدوام قيد بالتأْبيد نحو قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (¬2)} والمرادُ بالخلد هنا: الدوام قطعا، حملا للمطلق هنا على المقيد بالتأْبيد، فى آيأت أُخرى. فإن قيل: إن الأبدان مركبة من أجزاء متضادة في الكيفية، معرضة إلى الاستحالات المؤدية إلى الانحلال والتفكك. فكيف يمكن الدوام في الجنة؟ ¬

_ (¬1) رواه الطبرانى، والبزار، إلا أنه قال: أعيد في مكانها ثلاها، ورجال الطبرانى وأحد اسنادى البزار ثقات: مجمع الزوائد جـ10ص414 (¬2) التوبة:22

والجواب: أن ذلك في عالم الدنيا المعرض للفساد، أما الآخرة فالأمر -في تكوين الأجسام فيها- مختلف عنه في الدنيا، فالأجزاء فيها متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، ولا يعتريها التغير والتحلل. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} المفردات {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا}: أي لا يترك ضرب مثل. وضربالمثل: استعماله فما ضرب له، أي: فيما ذكر له. {بَعُوضَة}: البعوضة واحدد البعوض، وهو ضرب من الذباب معروف، وهو من البعض، آى القطع. يقال: بعضه البعوض، عضه وآذاه. ولا يقال في غير البعوض. ذكره صاحب اللسان. {فَمَا فَوْقَهَا}: أي فالذي فوقها. والمراد بالفوقية: الزيادة في الحجم، كالذباب والعنكبوت، أو الزيادة في المعنى الذي أريد بالتمثيل، أعني: الحقارة والهوان. {بهذاَ مَثَلًا}: أرادوا بكلمة {هَذَا}: تحقير ما يشيرون يها إِليه، وهو البعوض والذباب ونحوهما، مما يضرب مثلا. {إِلَّا الْفَاسِقِينَ}: أي الخارجين عن طاعة الله. والفسق لغة: الخروج، ومنه: فسقت الرطبة عن قشرها، أي خرجت عنه. التفسير 26 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا ... } الآية. روى عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما (أنَّ الله تعالى لما ضرب هذين المثلين - يعني قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} الآيات الثلاث.

قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضربَ هذه الإمثال، فانزذ الذ تعالى هذه الآية إلى قوله: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). وعن قتادة لا ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركرن: ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فانزل الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. واذأ تإملنا سبب النزول الأول، عرفنا الرباط القوى بين الكلام السابق في الآيات الماضية، عن تردد المنافقين وحيرتهم وكفرهم القلبى، وبين هذه الآية والتي تليها، أمَّا ما توسط بين قصة المنافقين الماضية وبين هاتين الآيتين: {إنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِى ... } إلخ ... فهو مرتبط بقصتهم، فقد اشتمل على دعوتهم- ومن على شاكلتهم من الكافرين- إلى الإيمان الصادق بربهم، وبيان مقتضيات ربوبيته، كما اشتمل على بيان إعجاز القرآن الذي يدعوهم إلى ذلك، الأمر الذي يشهد بكونه من عند الله، ويستدعي إيمانهم به، كما تضمن الأثر المترتب على الكفر من الخلود في النار، والاثر المترتب على الإيمان من الخلود فى الجنة. وحقيقة الاستحياء مستحيلة على الة تعالى لأنه: انقباض النفس عن القبح، مخافة الذم ومعناه: وسط بين الجرأة على فعل القبيح من غير مبالاة، وبين الخجل وهو: إبعاد النفس عن الفعل مطلقا، وهذا من صفة الحوادث. وكل ما ورد من هذا القبيل في الكتاب والسنة، إِنما يراد منه لازمه اللائق بالله تعالى: وهو الترك والامتناع. ومعنى الآية: أن الله لا يمتنع من أن يضرب الأمثال، كيفما كانت {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} أي فوقها في الحجم كالذباب والعنكبوت وغيرهما، أو في المعنى، وإِن دق الممثَّل به وصغر عن البعوض فإن في ضرب المثل ابرازا للمعقول في صورة المشاهد المحس؛ ليساعد على الفهم. وقد شاعت الأمثال في الكتب الإلهيه، وعبارات الحكماء والبلغاء لذلك، فيمثل الحقير بالحقير، كما يمثل العظيم بالعظيم. ولا يقدح هذا التمثيل في عظمة من قاله. والقرآن الكريم. لم ينفرد بذكر أمثال هذه الحشرات. فقد ورد ذكرها في العهد القديم ¬

_ (¬1) الواحدى فى أسباب. الترول: 14، 15

أكثر من مرة. ومن ذلك ما جاءَ فى سفر يشوع إصحاح 24 الفقرة 12 - "وأُرسلت قدامكم الزنابير وطردتهم من أمامكم"- وتكرر ذلك في سفر الخروج 23 - 18 وسفر التثنية 7 - 30. ومن كلام العرب: "أَسْمَعُ من قُرادٍ، وأَطيَش من فَراشَةٍ". ولا شك أَن قدرة الله تتجلى في الذرة كما تتجلى في المجرة. وقد روعى في التعبير بكلمة: بعوضة، المبالغة في الرد على ما نطقوا به في معارضتهم؛ إذ المذكور في تمثيل القرآن. هو الذباب لا البعوض، والبعوض أصغر من الذباب. ثم بين الله حال المؤمنين والكافرين- إزاء هذا التمثيل- فقال جل شأنه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. {الحَقٌ}: الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنْكارُهُ، أي: فأَما المؤْمنون، فيعلمون أن المثل هو الأمر الثابت {مِن رَّبِّهِمْ} الذي يضرب الأمثالَ بم ليعينهم على فهم المعافى الصحيحة. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}: كان الظاهر أن يقال: وأما الذين كفروا فلا يعلمون أنه الحق من ربهمِ، ليطابق مقابله، وهو قوله سابقا: {فَيَعْلَمُونَ} الخ ... ولكن عدل عنه إلى: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} لحكاية ما قالوا، وهو مستلزم لجهلهم وعدم علمهم، وذلك أَبلغ؛ لأن قولهم هذا، كالبرهان على كمال جهلهم؛ ففيه نفى العلم مع إثبات دليله. والإشارة في قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} لتحقير المشار إليه الذي ضربه الله مثلا، وليس غرضهم بما قالوا الاستفهام عن الحكمة في ضرب الله الأمثال، بنحو العنكبوت والذباب والبغوض، بل غرضهم الأيذان بأَنها -من اللإناءة والحقارة- بحيث لا يليق أن يريد الله شيئًا من التمثيل بها. لهذا يستحيل صدور التمثيل بها عن الله تعالى { ... كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (¬1). لهذا رد عليهم بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أي يضل بهذا المثل كثيرًا من الناس مثلهم، ممن ساء اختيارهم وأظلمت قلوبهم، ويهدى به كثيرًا منهم، ممن حسن اختيارهم واستنارت قلوبهم. فلا مانع من أَن يضربه مثلا ويريد ما يترتب على ضربه من الآثار، وهو التفكر والاهتداء، لقوله تعالى: { ... وَتِلْكَ الأمثاَلُ نَضْربُهاَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُنم يَتَفَكَّرُون} (¬2) ¬

_ (¬1) الكهف من الآية: 5 (¬2) الحشر من الآية: 21

والإضلال: خلق الضلال في العبد لسوء اختياره. والهداية: خلق الاهتداءِ فيه لحسن اختياره. والتعبير بصيغتى المضارع {يُضِلُّ} {وَيَهْدِى} لإفادة التجدد المستمر. وإنما قدم فعل الإضلال على فعل الهداية، ليكون أَول ما يقرع أسماعهم من المجواب أمرا يسوِءهم، ويفت في أعضادهم. ووصف كل من الفريقين بأَنه كثير، لا ينافى أن أهل الضلال أكثر عددا من أهل الهداية، قال تعالى في المؤمنين: { ... وَقَلِيلٌ ماهُمْ ... } (¬1)، { ... وَقَلِيلٌ مِّنْ عِباَدِىَ الشكُوُر} (¬2) وقوله تعالى: {وَماَ يُضِل بِهِ إلاَّ الْفَاسِقِينَ} من تمام الجوابة على استفهامهم، وهو يفيد إلصاق وصف الفسق بهم. والمراد به هنا: الخروج عن الدين. وإِضلال الله تعالى للفاسقين، لا يعفيهم من أن يتحملوا تبعته، لأن الإنسان إِذا سلك - باختياره الفاسد- طريق الكفر رالفساد، وسار فيه إلى أَقصى نهايته، غير مكترث بالتحذير منه- يتركه الله في ضلالته؛ لأنه سلك سبيلها وأَوغل فيه مختارا { ... وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬3). أَما من اتبع الهدى، ولبس لبوس التقوى، فإن الله تعالى يهديه، ويمكِّن له في هدايته. قال تعالى: { ... وَمَن يُؤْمِن الله يَهْدِ قَلْبَهُ ... } (¬4). {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}. المفردات: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} النقض: فك التركيب، ويكون في الحسيات، كالحبل والبناء. ويسمتعمل في المعافى مجازا، ومنه: نقض العهد هنا. ¬

_ (¬1) ص من الآية: 24 (¬2) سبإ من الآية: 13 (¬3) فصلت من الآية: 46 (¬4) التغابن من الآية: 11

وعهد الله: ما أخذه على العباد من التوحيد والعمل بالشرائع. وميثاقه: توثيقهم العهد وإحكامهم اياه. التفسير 27 - {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... } الآية. {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ}: صفة للفاسقين. وقد وصل {الذين} بثلاث صلات: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله}، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ}، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} وهي صفات في المعنى للفاسقين، فكأنه قيل: وما يضل به إلا الفاسقين الناقضين لعهد الله، القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، الفسدين في الأرض. وقد جىء بها للذم، وتقرير ما هم عليه من الفسق. والنقض: حَلُّ المركب. وهو فى الأصل، يستعمل في الحسيات، كنقض الحبل مثلا، وهو فك طياته فيضعف من بعد قوة. واستعماله في إِبطال العهد -وهو أمر معنوي- تشبيها للعهد بالحبل في الارتباوط. لما فيه من ارتباط أحد كلامى المتعاهدين بالآخر. والميثاق: التوثيق والإحكام. والمعنى الأجمالى: وينقضون ما عاهدوا الله عليه، من بعد ما وثقوه بالقبول والالتزام، أَو من بعد ما وثقه الله بإِنزال الكتاب وإرسال الرسل وعهد الله الموثق عام لكل عهد مشروع، فيدخل تحته العهد المأخوذ بالعقل، وهو الحجة القائمة لله على عباده، الدالة على وجوده ووحدته وصددتى رسله. وبه أوِّل قو له تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ... (¬1)} ويشمل عهد الله أيضًا ميثاقه على النبيين: أن يبلغوا أممهم وجوب الإيمان بالرسول. ونصره إذا بعث مصدقا لما معهم. وهو المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ... } (¬2) كما يشمل توصية للنبيين بقوله: {شرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا ... } إلى قوله: { ... أنْ أقِيمُوا الدّينَ ولَا تَتًفَرقُوا فِيهِ ... } (¬3). ¬

_ (¬1) الأعراف من الآية 173 (¬2) آل عمران من الآية:81 (¬3) الشورى من الآية:13

وميثاقه على الذين أوتوا الكتاب بمثل ذلك بقوله {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... } (¬1) والعهد الذي يأخذه بعض الناس على بعض، المشار إليه بقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ... } (¬2). وسواء أكان ذلك بين الأفراد، ام الجماعات من إلامة الواحدة، أَو بين الأُمم بعضها مع بعض. فلا يجوز نقض هذه العهود إِلا فيما جاز شرعًا. وقد أشار القرآن إلى هذا في قوله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ... } (¬3) وسيأتى شرحها في سورتها. وقوله: {من بَعدِ مِيثَاقِهِ}:أَي من بعد توثيقه وتمامه بين المتعاهدين. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}: هذه هي الصفة الثانية من صفات الفاسقين الخارجين على أمر اقه تعالى، أَي ويقطعون ما أَمر اللهُ بوصله من أمور الدين المختلفة. ويدخل تحت هذا الأمر: صلة الأرحام، وصله الأعمال بالأَقوال، وصلة الإِيمان بجميع الأنبياءَ، بحيث لا ينقطع هذا الإِيمان بواحد منهم بالكفر به. وكذلك صلة الأُخوة بين المؤْمنين، وصلات المؤْمنين بالمجتمع الإِنساني، وَوَصْلُ أُمور الدين بعضها ببعض، إذ التهاون في بعضها، يضعف من قوة الدين. فإِن بناءَ الإِسلام، قائم على أَركانه كلها، كالبيت يقوم على أَعمدته، وهدم ركن منها -أَو جزء من تكوينه- يؤَثر في الهيئة الكلية، كما يتأَثر البيت بهدم ركن من أَركانه أو جزء من تكوينه. وقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ} هو الصفة الثالثة للفاسقين. والإفساد في الأَرض، ضد إصلاحها، وقد صلحت بنشر دعوة الإِسلام، وضعُفَ ما كان فيها من فساد الجاهلية، فيكون من الإِفساد في - الأَرض: صدٌّ الناس عن الإيمان بالرسول -كما يفعله الكافرون- والعملُ على تهييج الحرب بين المؤمتين رغيرهم، كما يفعله المنافقون. ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 187 (¬2) النحل من الآية: 91 (¬3) الأنفال من الآية: 58

وقوله تعالى: {أوَلئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} إشارة إلى الفاسقين المتصفين بهذه الصفات الذميمة: أي: أُولئك المتصفون بهذه الصفات المنكرة، هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم في ميدان الصالحات، إذ استبدلوا: النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح والعقاب بالثواب، والشقاوة بالسعادة، كما خسروا منازلهم في الجنات. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} التفسير 28 - {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ... } الآية. بعد أن عدَّد الله قبائح الكافرين، توجه إليهم مخاطبا بالإنكار، بأُسلوب يقتضى التعجب من كفرهم، مع وجود النعم التى تقتضى الشكر، بدلا من الكفر! والإنكار على المخاطب، أبلغ من الإنكار على الغائب، لِمَا فيه من إحضاره إلى ساحة التعنيف مشافهة. والمعنى: على أي أساس قام كفركم باللهِ تعالى؟ والغرض من هذا الاستفهام نفى أن يكون لهم مستند سليم، يستند إليه كفرهم باللهِ تعالى، فليس لهم حجة سوى قولهم: { ... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (¬1) فإن آباءهم كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} إلخ، تعداد للنعم الرادعة عن الكفر، الباعثة على الإيمان، لتشديد الإنكار والتوبيخ على الكافرين. ومعنى الآية: كيف تكفرون باللهِ، والحال أَن له شئونا معكم. وشئونا في الكون، تقتضى اختصاص بالأُلوهية دون سواه، فقد كنتم أمواتا أَي مشبهين لهم، إذ كنتم عناصر ¬

_ (¬1) الزخرف: 23

وأغذية، فنطفا ومضغا، فأحياكم بنفخ الأرواح فيكم، ثم بعد احيائكم، هو الذي يميتكم عندانقضاء آجالكم، ثم بحييكم مرة أخرى -عند النفخة الثانية- حياة البعث، ثم إليه وحده تُرْجعُونَ للحساب والجزاء، ومن كان هذا شأْنه فلا يصح الكفر به أو إشراك غيره معه في العبادة!. وإنما اختلف العاطف في الآية -بالفاء وثم- لأن قوله: {فَأَحْيَاكُمْ} مراد منه الحياة ألأُولى بنفخ الروح، وهي حاصلة عقب كونهم أمواتا. فلذا عطف بالفاء التى هي للترتيب والتعقيب. أَما العطف بثم التي هي للترتيب والتراخى في قوله: {ثُم يمُيتُكُمْ} فلأن المراد بالموت هنا: خروج أَرواحهم بعد إنقضاء آجالهم، وهو متراخ فى الزمن عن بدء حياتهم. وقوله آخر الآية: {ثمَّ يُحْييكُمْ} المراد به: الإحياءُ للبعث، وهو متراخ فى الزمن كذلك، لأنه بعد إنقضاءِ فترة البرزخ في القبور. وقد يقال: الامتنان بهذه النعم ظاهر في الإحياء بعد العدم، فما وجه المنة بقوله: {ثُمَّ يمُيتُكُمْ} وهل في الموت امتنان؟ والجواب: أن الموت هو سبيل الحياة الأبدية بعد البعث. وما كان وسيلة للحياة الخالدة، يصح عده بين النعم. أن هم استجابوا إلى دعوة الحق. وقد يقال أيضًا: أن المخاطبين من الكفار، وهم لا يعترفون بالبعث والرجوع إلى الله، فكيف ينظم ما ينكرونه في سلك ما يعترفون به؟ والجواب: أن الله تعالى نزَّل إِنكارهم للبعث منزلة العدم، لقيام الدليل العقلي والنقلي على إمكانه وحدوثه، وأَن المقصود الأساسى تذكيرهم به ليحذروه، ولذا ختم الآية بقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: إليه وحده- لا إلى غيره- مرجعكم بعد هذه الأطوار؛ وسيحاسبكم حسابا عسيرا على كفركم به، على الرغم من ظهور آياته البينات.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} المفردات: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}: تعلقت إِرادته تعالى بتسوية السماءٍ، والسماء: هي كل ما سما وعلا فوق سطح الأرض، ويشمل أيضًا الغلاف الهوائي المحيط بالأرض. {فَسَوَّاهُنَّ}: أي جعلهن سَوِيَّاتٍ لانقص فيهن. التفسير 29 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... } الآية. في الآية السابقة بيان لنعمة الخلق والأحياءَ بعد الموت. وفي هذه الآية: بيان قدرته على ما هو أعظم، وهو خلق الأرض والسماءِ وما فيهما من النعم التي يحتاج إليها العباد بعد خلقهم، لأن نعمة الخلق والإِحياء، لا تتم إلا بخلق ما يتوتف عليه بقاؤهم وعيشهم في الحياة الدنيا. ومن خلال هذه النعم، يكون النظر المفيد المؤَدى إلى توحيد الله -تعالى- وإخلاص العبادة له وحده. وقد جاءَت هذه الآية مقررة لما أفادته الآية التي قبلها من الإنكار على الكافرين إذ كفروا بمن هذه نعمه. وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا في الارضِ جَمِيعًا} معناه هو الذي أَبدع لأجلكم جميع ما فى الأرض لتنتفعوا به في شئون معاشكم استرزاقا، وفي شئون معادكم استدلالا، فكل ما على سطح الأرض من حيواكا وزرعها وأشجارها ومائها وهوائها، ومافيها من أجزائها ومعادنها وعناصرها وقواها المختلفة، ابدعها الله كلها لمنفعتنا دينا ودنيا، فتبارك الله أحسن الخالقين. وحيث أَبدعها لمنفعتنا، فعلينا أَن نستعملها فيما يرضي الله تعالى، ويحقق النفع لنا، ويدفع الشرَّ عَنا في الدنيا والآخرة.

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: المراد من استوائه -تعالى- إلى ألسماء، إقباله عليها بإرادته ليخلقها بغير صارف يصرفه عن ذلك (¬1)، واستعماله في هذا المعنى معروف في لغة العرب ومنه قولهم: استوى إِليه كالسهم المرسل: يعنون بذلك انه قصده قصدا مستويا، من غير أن يصرفه عنه صارف آخر- وهذا التفسير هو الذي اختاره الفراء، َ وهو الذي نختاره، آما تفسيره بالصعود ونحود، فلا يليق وصف الله به لتنزهه عن صفات الحوادث. والمراد من السماء: الجنس الشامل للسموات السبع، ولذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} بضمير جمع الأناث. معنى تسويته -تعالى- للسموات السبع، أنه خلقهن من أول الأمر سَوِيَّات، أي مصونات من النقص والعيب (¬2). ومثل هذا قولهم: سبحان من كبر الفيل، أي خلقه من أَول الأمر كبيرا، وسيأتى الكلام على اْلسموات السبع. وظاهر قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أن خلقه -سبحانه- للسموات خالية من العيب، متأَخر عن خلقه مافى الأرض جميعًا لناْ، لأنه عطف عليه بلفظ (ثُمَّ) وهي للترتيب والتراخى. ولكن هذا الظاهر مخالف لنص آخر يقتضى تقدم خلق السموات على دَحْوِ الأرض، فقد قال تعالى في سورة النازعات: {أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}. فهذا النص يدل على أن الله بنْى السماء وانشأَها مرفوعة مسوَّاةً، وجعك ليلها مظلما، وأخرج فيها شمسها المضيئة. وبعد ذلك دحا الأرض، ورتب فيها منافعها، فأَخرج منها ماءَها ومرعاها، وأرساها بالجبال حتى لا تميد بنا، وجعل ذلك متاعا لنا ولأنعامنا. وهذا الذى قرَّرته سورة النازعات، هو الذق يقول به أصحاب النظريات العلمية الحديثة. ¬

_ (¬1) هذا المعنى يتفق وما ذكره صاحب القاموس لكلمة استوى فى بعض معانيها، إذا قال أو استوى إلى السماء: صمد أو عمد أو قعد أو أقبل عليها ... إلخ. والمعانى الثلاثة الأخير ة هي التي تناسب الآية، وقد اخترتا وهو إقباله تعالى بإردته عليها. (¬2) وليس المعنى أنه سبحانه خلقهن أولا غير سويات ثم سواهن.

السماوات السبع

وبما أن القرآن الكريم عودنا على أن لاتضارب بين نصوصه، فلدا يجب تأُويل آية البقرة التي يفيد ظاهرها تأَخر خلق السموات عن خلق مافى الأرض، ليتفق- مع الواقع الذي يفيده نص سورة النازعات، وهو تأخر دحو الأرض وخلق ما عليها، عن خلق السموات، وذلد بجعل {ثُمَّ} في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}: للعطف والترقى في الرتبة، لا للتراخي الزمنى، وكثيرا ما يستعمل لفظ {ثم} لذلك، تقول: النَّاس طبقهات، العامة ثم الخاصة، وتقول: الوزراء ثم رئيسهم ثم السلطان مُتَرَقِّيًا في ذلك من أدنى إلى أعلى. ولا شك أَن القصد والاتجاه بالإرادة إلى خلق السموات وتسويتهن، أعلى مرتبة من ترتيب منافع الأرض فكأن قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وكان منه قبل ذلك ما هو أعظم منه وهو أَنه قصد إلى السموات السَّبع فسواهن، أي خلقهن سويات قاليات من العيوب. السماوات السبع فسر المتقدمون السماوات السبع: بالأفلاك السبعة، والأفلاك جمع فَلَك بفتح اللام، وهو: مجرى النُّجوم- كما في القاموس. ونقل الآلوسي- عن أرباب الأرصاد أن الأفلاك تسعة، وهل هي إلا سماوات- كذا قالوا- ولهذا يرى بعض العلماء أن تخصيص العدد بالسبع لاينفى الزيادد عليه، ومِمَّن قال بذلك يالإمام الرازى، وقال السَّالِيكُونِي إنه الحق. وبعد أن سقنا ما رآه المتقدمون فى المراد من السموات وعددها، نقول: لعلهم يرون أن القرآن الكرأيم اقتصر كلى عدد السبع فى السموات لأن ذلك كان مفهوم العرب فيها، فعبَّر القرآن عن عددها كما يفهمون، حتى لايكذّبون الله ورسوله، ولذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نخاطب الناس بما يعقلون، حتى لايكذبون الله ورسوله فيما يجهلون. واعلم أن المناظير البعيدة المدى، أثبتت أن في السموات ملايين المجرات، وكل مجرة تحتوى على ملايين المجموعات الشمسية، ولا يزال هذا الملكوت تبرز فيه مجرات جديدة، من عالم الغيب.

فهل كل هذه المجرات تجرى في سبعة أفلاك أو تسعة، كما يقتضبه كلام القدامى من الفلكيين- بحيث تجرى كل مجموعة ذات مستوى معين في فلك منها، أم أَنها تحتاج إلى أفلاك أكثر، فتكون السماوات أكثر مما ظنوا. لا شك أن العلم بالحقيقة مقصور على الله، وما يقوله الخلق عن ذلك عرضة للاهتزاز، ثم الانهيار، لأَن هذه الأجرام السماوية في أبعاد سحيقة، فلا نستطيع الاطمئنان إلى عندهم طبقاتها بسبع أو تسع أو غيرهما- وهم على ظهر الأرض- مهما كانت مناظير هم بعيدة المدى. والذي يظهر لنا من القرآن الكريم، أَن السموات السبع شىءٌ آخر غير النجوم والكواكب والأفلاك النى تجرى فيها، فقدقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (¬1)}. فهذا النص يقتضى أن المجرات بنجومها وكواكبها، هي المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا- أي الأولى- وحيث كانت زينة لها فليست هي السماء الأولى ولا غيرها من السموات السبع، ألا ترى أَن عِقْد اللؤلؤ زينة لصدر الفتاة، وليس هو صدرَ الفتاة بل غيرَه. لهذا لم يكن عجبا ما قرأناه أخيرا، من أن بعض العلماء أثبت أن وراء المجرات عوالم عظيمة لم تتبينها المناظير بعد، والله تعالى أعلم بملكه وملكوته عن عباده. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: هذه الجملة مقررة لما قبلها من خلق السمنوات والأرض على النمط البديع، والمنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح العظيمة، فإن علمه بجميع الأشياء، وبما يليق بكل واحد منها، يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على النمط البديع الحكيم. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}. المفردات: {خَليفَةً}: الخليفة؛ من يخلف غيره وينوب عنه. فعيل بمعنى فاعل، والتاءُ للمبالغة. والمراد به آدم وبنوه. ¬

_ (¬1) الملك من الآية: 5

وللخليفة معنى آخر؛ هو الحاكم ومنه قوله تعالى في: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... } (¬1) ويكون المعنى على هذا: أن الله سبحانه، خلق لآدم وذريته ما في الأرض جميعًا، وسخره له، وجعله حاكما عليها لينشر فيها العدل، بما هداه الله إِليه من العلم. {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: أي يريقها والسفك مختص بالدم. {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: نُبْعِدُ عنك ما لا يليق بك، اعتقادا أو قولًا وعملًا: متلبسين بحمدك، من سبح في الماء إِذا أَبعد فيه. {وَنُقَدِّسُ لَكَ}:ْ أي ننزهك عمَّا لا يليق بك، من أجل ذاتك. التفسير 30 - {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... } الآية. القصة المذكورة في هذه الآية - من خلق آدم عليه السلام، وجعله خليفة في الأرض- تتصل بذكر النعم السابقة من الله تعالى على الناس. فإن خلق آدم وتكريمه، وتفضيله على الملائكة، وأَمرهم بالسجود له، كل ذلك: إِنعام من الله تعالى على أبيهم، ونعمة الآباء، نعمة على الأبناء. وهذا توجيه ربط الآية بما قبلها. وكلمة {أذْ} هنا: للظرفية في الماضي. أي: وا ذكر وقت أن قال ربك للملائكة. وتوجيه الأمر بالذكر إِلى الوقت- دون ماوقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات- للمبالغة في إيجاب ذكرها. والمقصود: تنبيه الكافرين إلى تذكر قصة خلق آدم عليه السلام؛ لينبَّهوا لبطلان ما هم فيه من الكفر بالرسول؛ وينتهوا عنه؛ فإن في هذه القصة من الغيبيات ما لا يعلمه إلا نبي موحى إليه من ربه. وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى درجة الكمال - مع إضافته إلى ضمير خطاب النبي عليه الصلاة والسلام- إِشارة إِلى مقام التشريف والتعظيم من الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) ص من الآية: 26

{لِلْمَلَائِكَةِ}: الملائكة جمع مَلَك. وهم: ذوات نورانية، خلِقو الطاعة الله فيما يأْمرهم به، لهم قدرة التشكل بالأشكال الحسنة المختلفة. ولهذا كان الرسل يرونهم. وهذا مذهب أكثر المتكلمين. وقال الحكماءُ: هم جواهر مجردة. مخالفة للنفوس الناطقة بالحقيقة. ومعنى قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إنى خالق في الأرض خليفة وهو آدم- عليه السلام- وخواص بنيه من البشروهم الرسل، وذلك إن كان المراد بالخلافة: الخلافة من جهة اللُّه -سبحانه- في إجراء أحكامه بين الناس، وسياسة خلقه؟ لقصر استعداد المستخلف عليهم، وعدم لياقتهم لقبول الفيض الإلهى، فتختص باَدم والخواص من بنيه، فإن أُريدت الخلافة ممن كان في الأرض قبل ذلك، فالخليفة هو آدم وذريته جميعًا، صالحهم وطالحهم. فقد خلفوا من سبقهم في عمارة الأرض. {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} هذا اسنئناف وقع جوابا عن سؤال تنساق! ليه الأذهان، كأَنه قيل: فماذا قالت الملاتكة بعد آن أخبرهم الله بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}؟ فقيل جوابا لهذا السؤال: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ... } إلخ. والمعنى: أنجعل فيها خليفةَ: مَن يفسد فيها؟ وقد عرفوا ذلك، إمّا قراءةً من اللوح المحفوظ الما سجل من مستقبل أعمالهم، وائا قياسًا لهم على من كان قبلهم، وهم الذين أَهلكهم الله وأحلهم محلهم، وائا من الغرائز التي سيخلقون بها، فإنها قد تدعو إلى الفساد. والاستفهام ظاهره تعجب الملائكة من أنه تعالى، سيجعل في الأرض مَن يفسد فيها، أو الاعتراض على ذلك وانكاره. ولكن هذا الظاهر كير مراد؛ لأن الملائكة كما قال تعالى: { ... عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬1) بل هو استفهام تعجب، قالو. استكشافًا لما خفِىَ عليهم من الحكم في خلق من بفسدون في الأرض، واستخبارًا عما يزيح شبهتهم، ويشدهم إلى معرفة ما فى آدم من الفضائل الق جعلته أهلا للخلافة هو وذريته، كسؤال المتعلم أستاذ. عما ينقدح في ذهنه؛ ليعلم الجواب فيستريح. ¬

_ (¬1) الأنبياء من الآيتين: 26، 27

فليس سؤَالهم اعتراضًا على الله، ولا شكًّا في اشتمال جعله خليفته فى الأرض على الحكم والمصالح. {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: أي يقتل النفوس التي يحرم قتلها، والتعبير عنه بسفك الدماءِ، لأنه اقبح أنواع القتل. {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}: هذه الجملة مقررة للتعجب السابق، ومؤَكدة له، كأنه قيل: أتستخدم مَن شأن ذريته الفساد، مع وجود من هو مجتهد في طاعتك لا يعصيك أَبدا؟ والمقصود عرض أحقيتهم بالخلافة كما فهموا، والاستفسار عما رَجَّحَ بني آدم عليهم، مع ما يتوقع منهم من الفساد؛ ليعرفوا حكمته من الحكيم الخبير: الذي يضع كل شىء في موضعه. وقد نظرت الملائكة في سؤَالها إلى الغرائز الداعية إلى الفساد نى بني آدم، وغفلت عن "العقل" الذي يمسك بها، ويصر فها إِلى الخير وتَعَرُّف أحوال الكائنات والانتفاع بها، وغير ذلك مما يصلح به أمر الخلافة في الأرض، إلى جانب استدلاله حها على الصانع جل وعلا. ولا شك أن بني آدم- بكفاحهم لغرائزهم وشهواتهم، وصرفها ناحية الخير- يفضلون عوام الملائكة، لأنهم مخلوقون للطاعة، ولا شهوة فيهم. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لايليق به؛ اعتقادا وقولا وعملًا، وكذلك تقديسه. والمعنى: ونحن ننزهك؛ متلبسين بحمدك على ما أنعمت علينا من فنون النعم، ونقدس لك تقديسا يليق بمقامك. وقيل: معنى نقدس لك؛ نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك. وكان جواب الله عليهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي إنى أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه، ولا يضير استخلافه وذريته أن بعضهم مفسد سفاك للدماء، لأن الله أودع فيهم الصلاحية لعمارة الأرض، والخير غالب فيهم. على أن ما يقع من بعضهم من الشر هو ابتلاء من الله للجميع؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليثبت القائمين بإرشاد العصاة ثوابا عظيما: { ... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬1) ¬

_ (¬1) الأنبياء من آية: 35

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} التفسير 31 - {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ... }:الآية. شروع في تفصيل الجواب الإِجمالى من الله للملائكة، ومعنى تعليم الله لآدم الاسماء كلها: أنه خلق فيه - بموجب استعداده- علمًا ضروريا تفصيليا، بأسماء جميع المسميات وأحوالها وخواصها اللائقة بكل منها، كأن يلقي فى روعه تفصيلا: أن هذا فرس، وشأنه كذا وكذا، وهذا بعير وحاله كيت وكيت. وكذا كل مادة وعنصر: عرف اسمه وخواصه وطريقة استعماله. والاسم:- باعتبار الاشتقاق- ما يكون علامة للشىء ودليلا يرفعه إلى الذهن، من الألفاظ والصفات والأفعال. ويستعمل- عرفا- في اللفظ الموضوع لمعنى؛ مفردا كان أو مركبا؛ مخبرا عنه أو خبرا، أَو رابطة بينهما. واصطلاحا فى المفرد الدال على معنى غير مقترن بالزمان. والمراد هنا الأول، أَو الثانى كما قاله العلامة أبو السعود. قال ابن عباس وغيره: علَّمه أَسماءَ جميع الأشياءِ حتى القصعة والقصيعة، والجفنة والمِخْلَب. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ}: أي عرض المسميات المدلول عليها بالأسماء، وضمير جمع العقلاء لتغليبهم على غيرهم، وقد جاء في الحديث أنه عرضهم عليهم كأمثال الذر. عن ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم -عليه الصلاة والسلام- بمنان- يعني بعرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها

فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا وقال: { ... أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } إلى قوله: { ... بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (¬1) هذا حديث صحيح الإسناد (¬2) قال أبر السعود رحمه الله: ولعل الله -عز وجل- عرض عليه من أفراد نوع ما يصلح أن يكون نموذجًا: يتعرف منه أحوال البقية وأَحكامها. {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ}: أي قال-تبكيتًا لهم واظهارًا لعجزهم عن اقامة ماعلقوا به رجاءهم من أمر الخلافة- أخبرونى بأسماء هؤلاء فإن تدبير شئون هذاه المسميات موقوف على معرفنها وجميع خواصها وأحوالها، فمن لم يعرفها، لا يصلح للخلافة فيها وولاية أمرها. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أَنكم أحقاء بالخلافة ممن أَستخلِفُه. 32 - {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ... }: الآية. قال الملائكة لربهم: {سُبْحَانَكَ} أي نسبحك وننزهك التنزيه اللائق بك، فلا يمكن أَن تخلو أفعالك من الحكم، ومن جملتها استخلاف آدم، وما سألنا إلا لنتعلم ونعرف الحكمة، وقد عرفناها بمرفة مزايا من استخلفته. {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ونحن لم نتعلم ذلك، بل تعلمنا العلوم اللائقة بعالمنا كما علمتنا {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بما ينبغى لكل شئ {الْحَكِيمُ} في تقديره وتدبيره. {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} التفسير 33 - {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ .... }: الآية. بعد أن أقروا لله بعجزهم أراد -سبحانه- أن يبين لهم فضل آدم عليهم {قَالَ يَا آدَمُ ¬

_ (¬1) الاعراف من الآيتين: 172، 173 (¬2) (المستدرك جـ2 ص544).

أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}:أَخْبِرهم بأسماءَ هذه المسميات التي عجزوا عن معرفتها {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} وظهر فضله عليهم بالعلم. {قَالَ} الله لهم بعد ذلك: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يقروا به جوابه السابق لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي هذا إلتقرير، تفصيل لما أجمل سابقا، وعتاب لهم على تركهم ما كان أَولى بهم، وهو أَن يتوقفوا: متزصدين أَن يبين اللهُ لهم ما لا يعلمون، بدلًا من توجيه السؤَال له- بهذه الصوره-. والهمزة في: {أَلَمْ أَقُلْ} للاستفهام الإِنكاري. وفيها معنى، النفي، دخلت على حرف النفي {لَمْ} فكان ذلك بمنزلة نفي النفي، فيفيد إِثباتًا وتقريرًا كما قلنا، فالمعنى قلت لكم: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. أَي أعلم ما فيهما من أَسرار لا تعلمونها {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من قولكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} في نفوسكم من أنكم أَفضل منهم وأولى بالخلافه، أو من أمتثالكم الذي أَضمرتموه في أَنفسكم. وفي هذه الآية إِشارة إِلى أَن الإنسان اعطىَ الاستعدادَ لِتَعرفِ الأشياء وإدراك نواميس الكون؛ ليسخرها له بمقتضى ما منحه اللهَ هن الأَسباب. وفيما تقدم من ألاَيات، دليل على شرف الإِنسان، وعلى فضل العلم، وأَنه في مقدمة العبادات، وأنه مناط الخلافة والنيابة عن الله في الأرض، وأَن ألحكمة أمر زائد على العلم، لأن الملائكة وصفوا الله تعالى بالحكمة بعد العلم، وإِلا لزم التكرار. وقد دلت الآية الاخيرة على أن الله سبحانه يعلم الأَشياءَ قبل حدوثها. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} التفسير 34 - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ .... } الآية. في هذه الآيَة، تذكير بنعمة أُخرى على أبينا آدم عليه السلام، ناطقة بالتعظيم لقدره،

والتنويه بشأْنه، حيث أمر الله الملائكة بالسجرد له. والآية معطوفة على ماقبلها، عطف القصة على القصة. فقد عطفت فيها قصة السجود على قصة الخلق، لتستكمل بها نعمه -تعالى- التي تفضل بها على خلقه. ومعنى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي واذكر لهم يا محمد، وقت قولنا للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي: عظموه اعترافا- بفضله، وأداءً لحق تعليمه لكم الأسماءَ، واعتذارا عما وقع منكم فى شأنه {فَسَجَدُوا} عطف على {قُلْنَا}، والفاءُ لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال {إِلَّا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد ولم يمتثل. وسيأْتى بيان امتناعه في الآية الكريمة. وظاهر استثنائه من الملائكة الذين سجدوا أنه منهم، ولكنه ليس كذلك، فإنه جِنَّىٌّ؛ لقوله تعالى في آية أُخرى عنه: { ... كَانَ مِنَ الْجِنِّ ... } (¬1)، ولأنه لو كان من الملائكة، لما امتنع عن امتثال أمر ربه، لأنهم { ... لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2) ولهذا، يحمل استثناؤُة منهم على أنه لما كان بينهم، عابدا بعبادتهم، جعل منهم. فإن من طالت اقامته مع قوم واندمج فيهم، اعتبر منهم وان لم يكن من قبيلتهم. وعلى هذا التأويل، يعتبر استثناؤة متصلًا، ويجوز اعتبار الاستثناء منقطعا. ومعنى {أَبَى} امتنع اختيارا. {وَاسْتَكْبَرَ} طلب الكبرياءاستعلاءً وادعاءً، فإن الكبرياءَ حق الله وحده. ومعنى قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وصار من الكافرين بسبب عصيانه على حد قوله في شأن ابن نوح: { ... فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (¬3) واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية- والتي في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ... } (¬4) وكذا ما في سورة الإسراء. وطه والكهف- أن سجود الملائكة، إِنما ترتب على الأمر التنجيزى، الوارد بعد خلقة وتسويته ونفخ الروح فيه. ¬

_ (¬1) الكهف من الآية:50 (¬2) التحريم من الآية: 6 (¬3) هود من الآية: 43 (¬4) الأعراف من الآية:11

أَما ما جاءَ في سورالحِجر {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} فهو إخبار منه تعال للملائكة. بأنه سيخلق آدم، ويكلفهم بالسجود له، إذا أتم تسويته ونفخ الروح فيه. فالأَمر بالسجود فيها معلق على تسويته ونفخ الروح فيه، فهم غير مكلفين بالسجود له، حتى يتم ذلك، فيؤْمروا بأَمر تنجيزى جديد، حمعًا بين هذه الآية والآيات إلاخرى التي نبهنا إليها. أَما قوله في سورة الحجر- عقب هذا الأَمر التعليقي،-: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فمحمول على أنهم سجدوا له بعد تمام خلقه ونفخ الروح فيه، وأَمرهم بعد ذلك بالسجود تنجيزا، بعد أمره به تعليقًا .. وكذلك يفسر ما جاءَ سورة (ص). {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} المفردات: {اسْكُنْ}: أقم فيما تسكن فيه النفس وتطمئن. {الْجَنَّةَ}: البستان. {رَغَدًا}: واسعا. {الشَّجَرَةَ}: مجهولة النوع، وعِفم ذلك عند الله تعالى. التفسير 35 - : {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .... }: الآية. لما كفر إِبليس بعصيانه أَمْرَ ربه بالسجود لآدم، أَبعده الله عن الجنة بقوله: { ... اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ... } (¬1) وقال لآدم: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .... } (¬2) تكريما لهما. ¬

_ (¬1) الأعراف من الآية: 18 (¬2) الأعراف من الآية: 19

والسكن: الإقامة في مكان تسكن فيه النفس، أي تطمئن فيه. والجنة التي أمر بسكناها: هي دار الثواب، عند الجمهور، لأَنها كذلك في عرف نصوص الشريعة: وقيل هي جنة بأرض فلسطبن، أو بين فارس وكرمان أو في غيرهما، خلقها الله امتحانا لآدم عليه السلام، وحمل الإهباط منها على النقل منها إلى أرض أخرى، كما في قوله تعالى: { .... اهْبِطوا مِصْرًا .... } (¬1) لأن خلقه كان في الأرض بلا خلاف. ولم يذكر في قصته رفعه منها إلى السماء حيث جنة الجزاء. ولو وقع ذلك، لكان أولى بالذكر؛ ولأنها لو كانت دار الخلود، لما دخلها إبليس. ذكره أبر السعود والآلوسى، والله أعلم. ومعنى قوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}: أي تمتعا بالأَكل منها أكلا واسعا، في أَي مكان شئتماه من الجنة. ْوقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} نهي أُريد به أختبار آدم وحواء، وتعلق النهي بالقرب من الشجرة، للمبالغة في الإبعاد عن الشجرة نفسها، فإن انتفاء القرب يستلزم عدم الوقوع في الأكل وهو المقصودمن النهي. والمشار إليه بـ (هذه) يحتمل أن يكون شجرة بعينها، ويحتمل أن يكون جنسها. فتدخل فيه هي ومثيلاتها. وبين هذين الاحتمالين وقع التأويل من آدم بسبب الوسوسة. فالمظنون أنه تأَوّل النهي بأنه عن شجرة بعينها من الجنس، فَتَرَكَ المشارَ إلى شخصها وأكل عن جنسها؛ مع أن المقصود هو النهى عن الجنس، إذ لا فرق ببن شجرة منه وشجرة أُخرى. ونحن نمسك عن تعيين شخصها أو نوعها؛ لعدم وجود دليل لهذا التعيين. وكان الأكل منها سببا في اخراجهما من الجنة عقوبة على مخالفة النهى. {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}: المراد من ظلمهما ظلم أنفسهما، فإن مخالفة النهي، كانت سببا فىْ حرمانهما مما كانا فيه من نعيم الجنة. ¬

_ (¬1) البقرة من الآية: 61

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}. المفردات: {فَأَزَلَّهُمَا}: أَوقعهما في الزلة. {عَنْهَا}: أي بسبب الأكل من الشجرة. ْ {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار. {وَمَتَاعٌ}: تمتع وانتفاع. التفسير 36 - {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ... } الآية. أي جعلهما الشيطان يقعان في الزلة عن هذه الشجرة، أي: بسببها؛ لأَنهما خالفا النهى عن الأكل منها، فأَكلا استجابة لوسوسته. وقريءَ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}: أي أبعدهما عن الجنة، فالضمير في هذه القراءة للجنة، وفي القراءة السابقة للشجرة. ويجوز أن ترجع القراءَ ة الأولى إلى الثانية، وذلك بأن يكون معنى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}: أبعدهما عن الجنة؛ فإن الإزلال يستعمل بمعنى الإبعاد. وقد يقال: كيف توصل إبليس إلى إزلالهما بالوسوسة وهما في الجنة، بعد أن قيل له: { ... قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (¬1)} فخرج منها فعلا. ومن عوقب بالإخراج من الجنة مطرودا لا يدخلها؟ - وأُجيب بأنه مُنِعَ من دخول الجنة تكريما ولم يمنع من الدخول وسوسة، للابتلاءِ. ¬

_ (¬1) الحجر من الآية: 34

وقيل: غير ذلك. والأَولى إحالة ذلك إلى الله تعالى، وكل تأْويل فى ذلك رجم بالغيب. وقد ترتب على هذه الزلة ما أشار الله إليه بقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}: أي من النعيم الذي كانا فيه، بعد أن تم الابتلاءُ والوقوع في الزلة؛ ليتحقق ما كان مقدرا في علم الله تعالى ومرتبا على هذه الزلة، مِن هبوط آدم ليكون خليفة في الأرض، فصدر أمر الله بالهبوط إليهما، ومعنى قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}: اهبطوا حال كون بعض أولادكما عدوًّا للآخر؛ بما ركزه الله فيهم من غرائز صالحة لاخير والشر، يسشغلها الشيطان فيوسوس لهم ويزين القبيح حسنا، فتندفع الغرائز نحو البغي والعدوان على الناس، إلا من اعتصم بالشرع وحكَّم العقل، فكان من المخلصين، كما قال تعالى: { ... وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (¬1)}. والضمير في {اهْبِطُوا} لآدم وحواه، بدليل ما جاء في لآية أخرى {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ... } (¬2) وضمير الجمع منظور فيه إلى ذرياتهما في ضمنهما، فكانهما الجنس كله، أولَهُمَا ولإبليس بعد ما دخل للوسوسة. وكان قد طرد منها قبل ذلك. أَما القول بأنه راجع إليهما، وأريد بالجمع ما فوق الواحد، فليس حسنا، فإن آدم لم يكن عدوًّا لحواء. {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: أي لكم فيها استقرار أو موضع استقرار، {وَمَتَاعٌ}: أي تمتع بالعيش وانتفاع به {إِلَى حِينٍ}:- هو حين انتهاء آجالكم بالموت. واعلم أن النهى عن الأكل من الشجرة، ثم الأكل منها بإغواء إبليس، كان مقررا في العلمِ الأزلي، ولكن ترتيبه عليه في الوقوع، كان من ربط المسببات بأسبابها، ابتلاءً وتحقيقًا لمشيئة الله تعالى. ¬

_ (¬1) الحجر من الآ يتين: 40،39 (¬2) طه من الآية: 123

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} المفردات {فَتَلَقَّى آدَمُ}: أي استقبل. {كَلِمَاتٍ}: هي كلمات التربة التي ألهمه الله إِياها. {فَتَابَ عَلَيْهِ}: قَبِل توبته. التفسير 37 - {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ... }: الآية. أي ألقى الله في روع آدم؛ أن يتوسل إِليه بكلمات ألهمه إياها؛ ليتوب الله عليه، فاستقبلها بالأخذوالقبول. والعمل بها حينما تعلمها. {فَتَابَ عَلَيْهِ} التر بة. لغة الرجوع. والمعنى: رجع عليه بالرحمة، بأَن قبل توبته، وإ نما وحد الضمير في {عَلَيْهِ} مع أن حواءَ شريكة له في الذنب، بإجماع العلماء؛ لأن حواءَ تابعة له في الحكم إذ النساء شقائق الرجال في الأحكام. ولذا طوى ذكرهن في معظم الكتاب والسنة اكتفاء بذكر الرجاك بإزاء الأحكام. ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. تعليلا لقوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ}. وصف الله نفسه بأنه هو التواب أي: كثير قبول التربة. وهي صيغة مبالغة من التوب بمعنى الرجوع فإذا وصف به الله، كان بمعنى الرجوع عن العقاب إلى المغفرة وقبول التوبة. وإذا وصف به العبد، كان بمعنى الرجوع عن المعصية. {الرَّحِيمُ}: العظيم الرحمة. وبذلك فتح الله للعصاة طريق التربة إِذا عصوا، ليتوب عليهم كما تاب على أَبيهم آدم، لأنه -سبحانه- التواب الرحيم.

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} التفسير 38 - {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ... }: الآية. كرر الأمر بالهبوط، إيذانا بأنه محتوم لا بد منه، وأن قبول التوبة لا يدفعه؛ ولأن الهبوط الأول مشوب با لعقاب، وإسكان دار البلاء، والعداوة وعدم الخلود، والثاني مشوب بالرحمة بإيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنِّي هُدًى}: شرط، جوابه جملة الشرط الثاني، وهي. قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والمرادمن قوله: (هُدَايَ) كتُبُ الله وآياته ورسُله. والمعنى: فمن تبع هداى: أي بالإيمان والقول مع العمل الصالح، فلا خوف عليهم- في المستقبل- من لحوق مكروه، ولاهم يحزنون على فوت مطلوب، بل يستمرون على السرور والابتهاج. 39 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: هذ. الآية معطوفة على قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} كأَنه قيل: ومن لم يتبع هداى بل كفر باللهِ وكذب بآياته القرآنية والكونية .... وقوله: {أولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} بيان لجزاء من كفر باللهِ وكذب بآياته. ومعنى أصحاب النار: أهلها ومستحقوها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: لا يخرجون منها- والجمع فيما تقدم باعتبار ذرية آدم وحواءَ.

الحكم المستنبطة من القصة

الحكم المستنبطة من القصة قضى الله أزلا أن آدم سيكون خليفته في أرضه، فلذا منحه العقل والقوى والغرائز المختلفة التي تجعله وذريته صالحين لهذه الخلافة. ومع أن تلك القوى التي منحها الله، ضرورية لعمارة الأرض والخلافة عن الله فيها، فهي قابلة لأن تستعمل في غير ما خلقت له من الخير، فكما أنها قابلة للصلاح وإلإصلاح، فهي قابلة للفساد والإفساد. وبما أن كثيرًا منهم- بسبب ذلك- سيقع في المعاصى، بارتكاب ما نهى الله عنه، فلذا أَراد الله أَن يعلمهم- عن طريق أبيهم آدم إذا وقعت منهم المعاصي- كيف يتوبون ويرجعون إِلى ربهم، حتى يتوب عليهم كما تاب على أبيهم. فلذا ابتلى آدم بالنهى عن الأكل من الشجرة فأخطأ، باغراه الشيطان ومساعدة غرائزه، فتلقى من ربه كلمات علَّمه بها: كيف يتوب ويرجع إلى ربه، فلما عمل بمقتضاها، تاب الله عليه. وكان ذلك لتعليم ذريته كيف يتوبون إذا عصوا. ويؤيد هذا أن الله لم يغضب على آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، بل كرمه وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وجعل له الأرض مستقرا، وجعل له ولذريته فيها معايش. هذا إلى ما توحي به الآيات الكريمة، من أن الله فضل الإنسان بالعلم، فكلما ازداد علمه كان جديرا بخلافة الله في أرضه، وحمل أمانته بين خلقه، كما توحي بالسئولية الإنسانية، وأن من أخطأ استحق العقاب، ومن أطاع استحق الثواب، ومن تاب تاب الله عليه، وأن الإنسان لا يحكم في أمر وهو جاهل به. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}. المفردات: {إِسْرَائِيلَ}: هو يعقوب عليه السلام، جد بني إسرائيل. ْ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}: أدوا التكاليف التي عهدت بها إليكم وافية.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أعطكم ثوابى الذي عاهدتكم عليه وافيًا. والعهد: الوصية. والوعد: المَؤثِق. {فَارْهَبُونِ}: فخافون. التفسير 40 - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... } الآية. بعد أن عدد الله نعمه العامة في الآيات السابقة، شرع يبين نعمه الخاصة ببنى إسرائيل، وهم أكثر الأُمم نعمة وأشدهم عصيانًا وكفرًا، مع أَنهم أهل كتاب، وكانت الطاعة أجدر بهم. وإسرائيل: لقب يعقوب -عليه السلام-وهى كلمة عبرية، مركبة من جزءين: اسرا، ومعناها: عهد، أو صفوةْ، وإيل معناها: الله. {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي تذكروها بالشكر، ولا تكفروها بالمعاصي. وستجد- بعد هذه الآية- ألوانا من الخطاب لبنى إسرائيل، تذكيبرًا بنعم الله عليهم مجملة أو مفصلة، وتوبيخا لهم على آثام ارتكبوها. والخطاب- في كل ذلك- موجه إِلى المعاصرين منهم للنبى صلى الله عليه وسلم، مع أن بعض هذه النعم كانت على آبائهم، كالانجاء من الغرق، واغراق فرعون وجنوده، وبعض هذه المعاصى كانت من هؤُلاءَ الآباء أيضًا، كاتخاذ عجل السامري إِلها- لهم وقولهم لموسى سمعنا وعصينا. وإنما ذُكِّر المعاصرون منهم بنعم الآباءِ، لأن أثرها واصل إليهم، وفضلها عائد عليهم. وانما وبخوا على معاصيهم، لأنهم يعتزون بالانتساب إليهم. ومن اعتز بآثم فهو آثم مثله. فكأنما فعل فِعْلَهُ، ولأن عار إِثم الآباءِ يلحق الذرية، ما داموا على سنتهم في الضلال. فكأنهم فيه شركاء، ولأن المراد من نحو قوله تعالى ص للمعاصرين: { ... ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ... } (¬1) بيان أن ارتكاب الكبائر أَمر كامن في جنسهم، فلا غرابة فى كفرهم بما جاءهم ¬

_ (¬1) البقرة- من الآية: 92

به محمد صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (¬1). {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}: أَي افعلوا ما عهدت إليكم بفعله من الإيمان والطاعة والعمل الصالح، وَأَدُّوه وافيًا {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}: با لإِثابة وحسن الجزاء. فالعهد الأول: {بِعَهْدِي} مضاف إلى الفاعل، فإنه تعالى عد إليهم بالايمان والعمل الصالح: بإِرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة. والعهد الثاني {بِعَهْدِكُمْ} مضاف إلى المفعول، أي بعهدى إياكم، فإنه سبحانه، وَعَدَهم الثواب على حسناتهم. وعاهدهم على ذلك. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} إياى وحدى ارهبونى. والرهبة: خوف مصحوب بالتحرز. والفاء تشير إلى معنى الشرطَ، أي: إن كنتم ترهبون أحدًا فارهبونى، وأَلا تنقضوا عهودكم معي. والآية متضمنة للوعد والوعيد، ودالة على وجوب الشكر والوفاءِ بالعهد، وألا يخاف المؤْمن إلا الله تعالى. وفي ذكر قصة بني إسرائيل- بعد قصة خلق آدم- تصوير لتسلط إبليس اللعين على بعض ذريِة آدم وتأثرهم بوسوسته، مع مزيد فضل الله عليهم، وأنهم لم يحذروه مع ما صنعه بجدهم من الإغواء، وما عرف عنه من العداوة له ولأولاده! {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}. ¬

_ (¬1) الصافات-الآيتان:70،69

المفردات: {بِمَا أَنْزَلْتُ}: أي بالقرآن الذى أَنزلته. {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}: من التوراة. {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}: لا تجعلوا بدلا من الإيمان بآياتى، منافع الدنيا، فإنها قليلة. {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ولا تخلطوه به. التفسير 41 - {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ... } الآية. بعد أَن أموهم الله بالوفاء بالعهود، أَمرهم بالايمان بالقرآن الذى أنزل على محمد صلى الله علمِه وسلم. فإنه من الوفاء بالعهد الذي أخذ عليهم. ومعنى كون القرآن مصدقًا للتوراة التي معهم: أنه يدعو إلى ما تدعو إليه من الإيمان باللهِ وتوحيده، والعدل بين الناس. والنهى عن المعاصى. كما أن فيه ما فيها من قصص المرسلين، والعمل ليوم الدين، وغير ذلك من الأصول. وما بينهما من المخالفات في الفروع، فهو سبب اختلاف العصور. وليست هذه مخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة من حيث إن كلا منهما حق في عصره، متضمن لِلحِكَم التي يدور عليها التشريع. وليس في التوراة دليل على أبدية أحكامها الشرعية. ولا يصح أن يكون فيها ذلك؛ لاختلاف العصور المقتضى لتغييرها. فالإيمان بالقرآن المنزل على النبي محمد - صلى الله عليه سلم- لا يتنافى مع ما أُنزل إلى اليهود، فضلا عن أنه واجب عليهم، إذ هو مما عهد الله به إلى جميع النبيين. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (¬1) ... } ¬

_ (¬1) آل عمران - من الآية: 81

ويجوز أن يكون تصديقه للتوراة، أنه نازل حسبما نعت فيها. ومعنى قوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} لا تكونوا أول المبادرين بالكفر به مع علمكم بصدقه من كتابكم. فإن قيل: إِن مشركى العرب سبقوهم إلى الكفر بالقرآن والنبى. فالجواب أن المراد، التعريض، كأنه قيل لهم: ينبغى أن تكونوا أول المومنين به؛ لما عرفتموه من صفاته في كتابكم، فأنتم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، وكنتم تبشرون به، وتستفتحون عل أعدائكم. ويمكن أن يجاب بأن المعنى: ولا تكونوا أول كافر به من أَهل الكتاب، فإنهم سبقوا المسيحيين في الكفر به. ووقوع {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} خبرًا عن ضمير الجمع في قوله {وَلَا تَكُونُوا} بتأويل: أول فريق كافر به. {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} الآيات: حى الدلائل التي أيد الله بها نببه عليه الصلاة والسلام، وأعظمها القرآن، والثمن القليل: هو ما كان رؤَساؤُهم من رجال الدين يحرصون عليه من الرياسة والمنافع المالية. وإنما وصف الثمن بالقلة لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير، فإن مَنْ جَانَبَ عزة الحق، خسر عقله، وخسر منزلة الرضا عند ربه، وآثر ما يفنى على ما يبقى، وما اعظمها من خسارة! {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}: أي لا تتقوا غضب رؤَساثكم ومرؤوسيكم بدوامكم على الكفر، ولكن إياى وحدى فاتقون: بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن متاع الدنيا. 42 - {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي لا تخلطوا الحق الذي علمتموه، بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه، حتى يشتبه أَولهما بالآخر، أَو: لا تجعلوا الحق ملتبسًا على أتباعكم وخفيا عليهم، بسبب الباطل الذي تكتمونه في أثنائه، أو تذكرونه في تأْويله. {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}: معطوف على تلبسوا، داخل معه تحت النهى السابق، أي: لا تجمعوا بين الجريمتين؛ لبس الحق بالباطل وكتمانه، فكل منهما كبيرة في الجرائم.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي والحال أنكم عالمون بالحق، وليس لكم عذر بالجهل. وما أَقبح صدور الذنب ممن يزتكبه وهو عالم! {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} المفردات: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: اجعلوها قائمة باستكمال متطلباتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ}: أعطوها لمستضيها. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}: صلُّوا في جماعة. التفسير 43 - {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}: بعد أن دعاهم الله إِلى الإيمان بما أنزل على محمد، أمرهم بالأعمال الصالحة، فإن الإيمان كالأَساس، والعمل الصالح كالبناء عليه. وذكر في الآدة عملين من الأعمال الصالحة: أولهما: الصلاة؛ وهي عنوان العبادة البدنية، ومعراج الأرواح للمناجين ربهم. وهي عماد الدين. والثاني: الزكاة؛ وهن العبادة المالية، وهي أَثر من أجل آثار الإيمان، تعالج مرض الشح والبخل في النفس، وتعتبر من أهم عوامل الإصلاح الاجتماعى، وعنوان الشفقة من أَغنياء المؤْمنين على إخوانهم الفقراء والمساكين. واقتصر عليهما لأهميتهما بين أركان الإسلام. و"أل" في (الصَّلَاة) و (الزَّكاَة) للعهد. والمعهود صلاة المسلمين وزكاتهم. أمرالله بهما اليهود- بعد أمرهم بالإيمان وعدم كتمان الحق- ليجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي صلوا مع المصلين جماعة، فإنها تفضل صلاة الفذ بسبع وعشربن درجة، لِماَ فيها من اجتماع النفوس وتآلف القلوب.

والتعبير عن الصلاة بالركوع: احتراز عن صلاة اليهود التي لا ركوع فيها، وهو من إطلاق الجزء على الكل، ويصح أن يكون المعنى: واخضعوا مع الخاضعين، فإن من معانى الركوع: الخضوع، قال الشاعر: لا تحقرن. الضعيف علَّك أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}. المفردات: {بِالْبِرِّ}: بالتوسع في الخير. {الْكِتَابَ}: التوراة. {لَكَبِيرَةٌ}: لثقيلة {الْخَاشِعِينَ}: الخاضعين. {يَظُنُّونَ}: يعتقدون {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} في الآخِرة لنيل ثوابه التفسير 44 - {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ... } الآية. هذا توبيخ من الله لبني إسرائيل، وتعجب من شأنهم، والخطاب فيه- وان كان خاصا بهم فهو عام من حيث المعنى: يرادبه توبيخ كل واعظ يأمر بالخير ولا يأْتمر، ويزجر عن

الشر ولا ينزجر. والبر: يتناول جميع أصناف الخير، فيشمل عبادة الله، والإحسان للاقارب والغرباء، وغير ذلك. والخطاب لعلماء اليهود، فإنهم كانوا يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه. ومن ذلك أنهم كانوا يأْمرون بالصدقة ولا يتصدقون. {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}: النسيان؛ السهو الحادث بعد العلم، والمراد به هنا: الترك؛ لأَن أحدا لا ينسى نفسه، بل يحرمها من البرويتركها، كما يتْرك الشئ المنسى، مبالغة في الغفلة وعدم المبالاة بما ينبفى أَن يفعله في حقها. {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تقرءون التوراة وتدرسونها. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: هذا استنكار واستهجان لعدم تعقلهم؛ إذ نصحوا سواهم وتركوا أنفسهم. والعقل في الأصل: المنع والإمساك. سمى به النور الروحى، الذي به تدرك العلوم الضرورية والنظرية، لأنه يمسك النفس؛ ويمنعها عن تعاطى ما يقبح، ويعقلها على ما يحسن. ومعنى الآية: لا ينبغى لكم يا بني إِسرائيل. أن تامروا الناس بخصالْ الخير. وتتركوا أنفسكم فلا تزكوها بصفات البر، وأَنتم تتلون كتاب التوراة: التي توجب البر على النفس وعلى الناس، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعم شرعا لمخالفته ما تتلونه في التوراة، وعقلا؛ لأن تطويع النفس للبر والخير يجب عقلا أن يسبق تطويع الناس لهما، فإن الناس لا يأخذون كرائم الأخلاق، ولا يعملون بها إلا إذا رأوا الدعاة إليها يعملون بها قبل غيرهم. 45 - {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ... } الآية. لما أمرهم الله سبحانه وتعالى بترك الضلال والإضلال، والتزام الشرائع- وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من مخالفة الطبع، وحب الرياسة والجاه والمال - طلب منهم أَن يستعينوا بالصبر والصلاة، فإنهما كفيلان بتذليل الصعاب وإزاله العقبات التي تعترض في سبيل الهدى والبرالمأْمور بهما. والصبر: ضبط النفس والسيطرة عليها، بحيث تحتمل ما تكره انتظارًا للفرج، وتمننع عن لذائذها وشهواتها إن لم تكن من حقها.

وهو صفة الصالحين، فهم لا يقنطون من رحمة الله. إِذا مسهم البلاء، ولا يندفعون في المعصية، ولا يطغون إذا مستهم النعماء. قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} (¬1). والصبر: دعامة كل عمل صالح، ومعين على اجتياز المصاعب. وقد أمر الله تعالى بالاستعانة بالصبر فى كل الأُمور؛ بأن نصبر على مشقة الطاعات، وصعوبة البعد عن الشهوات وعن اللذات الآثمة، وعلى مكاره الشدائد والمحن، امنثالا لأمر الله في الأُولى، وصبرا على بلائه فى الأُخرى. كما أَمر بالاستعانة بالصلاة، لما فيها من العبادة النفسية والبدنية وإظهار الخشوع لله. وكل ذلك يزكى النفس ويقويها على احمال التكالف والشدائد. ولذا حث الله نبيه وأمته عليها بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (¬2) وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة. ويحتمل أن المراد بالصلاة: معناها اللغوى؛ وهو الدعاءُ، فإنه من خير ما يستعان به. والخطاب موجه إلى اليهود بعد دعوتهم إلى الإيمان والعمل الصالح.، ليجمعوا- إِلى. الإيمان المطلوب- هذه العبادات. فكأَنه قيل: ولا تكتموا الحق- وهو نبوة محمد- فأعلنوه وآمنوا به؛ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصلوا مع المصلين من المسلمين، بعد ايمانكم، ولا تأَمروا الناس بالبر على حين تهملون أنفسكم. وأول خصال البر والخير هو الإيمان، واستعينوا بالصبر والصلاة على الأمر كله. وللخطاب مفة العموم فى الحكم لجميع المسلمين أيضًا، كما سيأْتى. {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}: الضمير في {إنَّهاَ} عائد إلى الصلاة، أي وإن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الخاضعين بقلوبهم لله، أو عائد إلى جميع الأُمور؛ التي أمر بها بنو إسرائيل، والتي نهوا عنها، في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الآيات. ¬

_ (¬1) هود. (¬2) طه من الآية: 132

ومعنى كونها كبيبرة: أنها صعبة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}: وهم المتواضعون الخاضعون بقلوبهم. وإنما لم تثقل عليهم لأنهم يرونها حقًّا لله، ويتوقعون حسن الجزاء عليها، فتهون عليهم. ولذا قيل: مَن عَرَف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أَيقن بالخلف، جاد بالعطية. والخشوع: حالة فى النفس، تستتبع في القلب التسليم لأحكام الله، وفي الجوارح السكون والتواضع على الوجه اللائق. والخشوع المتكلف- بالتباكي وطأْطأَة الرأس- مذموم شرعا. فهو من الرياء، يفعله الجهال؛ لِيُرَوا بعين البر والإجلال. ولهذا قال عمر لشاب نكس رأسه: "يا هذا، ارفع رأسك" فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب. 46 - {الَّذِينَ يَظُنُّونَ ... } الإَلة. الظن هنا: بمعنى العلم والتيقن، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (¬1) وقيل: الظن بمعناه المعروف، وهو إدراك الطرف الراجح، على أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت، لأنهم يلقون بعده ربهم، ويكون المراد: ونها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يتوقعون الموت في كل لحظة، ويعلمون ما وراءه من البعث والحساب، فهؤُلاء لا يكون الصبر على الطاعة وعلى ترك المعاصى كبيرة على نفوسهم، كما لا تكون الصلاة ثقيلة على نفوسهم أيضًا، حذرا من العقاب- بعد البعث- على معصية الله. ويجوز أن تفسر ملاقاة الرب بملاقاة ثوابه، وذلك مظنون فالزاهد العابد، لا يقطع بكونه ملاقيا ثواب الله. بل يظن ذلك، ليحمله هذا الظن على كمال الخشوع. والأول أولى؛ لقوله تعالى عقبه: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: أي ويعلمون أنهم إلى ربهم راجعون للحساب والجزاء، فإن الإيمان بالبعث وما وراءه، لا ينفع فيه الظن، بمعناه المعروف، إذ لا بد فيه من القطع واليقين، الذى هو العلم. وهذه الآيات الثلاث - وإن نزلت في علماء بني إسرائيل - فالحكم فيها عام، يشترك فيه علماءُ الإسلام، ورجال جميع الديانات السماوية من قبل. فهو مبدأ مقرر فيها، فَمَن ¬

_ (¬1) الحاقة الآية:20

أمرَ بالبر، ينبغى له أن يسبق من يدعوه إِليه، فلا ينسى نفسه ويذكر الناس، وعليه أن يستعين بالصبر والصلاة على قهر النفس وتطويعها للبر، وعل تحمل مشاق الحياة ومتاعبها، فإنهما يمنحان النفسى قوة الاحمّال، ويسهلان لها صعاب الأُمور. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}. المفردات: {نِعْمَتِيَ}: المراد بها؛ جميع مما انعم الله به عليهم. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: أي على عالمى زمانهم، قبل أن يضلوا، وتنسخ شريعتهم بما بعدها. {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}: أي لا تقضى عنها شيئًا من الحقوق. {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}: أي ترد شفاعة من يشفع لها، لو فرض أنها وجدت شفيعًا. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: أي ولا هم يمنعون من عذاب الله لهم. التفسير في هاتين الآيتين، يذكر الله تعالى، بني إسرائيل بنعمه التي انعمها عليهم، ويطلب منهم أن يقوا أنفسهم ويحموها من العقاب، بالايمان والعمل الصالح. ويخبرهم: أنهم إن جاءُوا بشفاعة شفيع، فلن تقبل منهم، أو أعْطَوْا فديةً فلن تؤْخذ منهم، أو حاولوا الخلاص بالقهر، فلن يتمكنوا منه. فلا منجاة من عذاب الله لمن يستحقه. وفيما يلي تفصيل ذلك:

47 - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... } الآية. كرر نداءهم وتذكيرهم بنعمته عليهم؛ للتوكيد وربط ما بعده - من الوعيد الشديد- بتجاهلها، {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: أي فضلت آباءكم الذين كانوا قبل نسخ شريعتكم. وإنما وجَّه الخطاب- بالتفضيل- إلى المعاصرين للنبى- صلى الله عليه وسلم- باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم. والمراد بالعالين: سائر الوجودين في وقت التفضيل. وتفضيلهم عليهم، إنما كان بما منحهم الله. من النعم؛ المشار إليها بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ... } (¬1). ْولأنهم كانوا وقتئذ، أصحاب دين سماوي، وغيرهم كانوا يعبدون الأَوثان. فلذا، فضلوا غيرهم. ولا يفهم من الآية تفضيلهم على النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وامته. بل هو -عليه السلام- وأُمته أَفضل مننهم. قال تعالى. موجها كلامه لأُمة محمد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... } (¬2) 48 - {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... } الآية. المراد: من اتقاء اليوم، اتقاء ما يحصل فيه من العقاب والشدائد، بالإيمان والعمل الصالح. {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}: أي لا تقضى نفس عن نفس شيئًا من الحقوق في هذا اليوم. فالحقوق منوطة بأصحابها التزامًا وقضاء. تقول: جزى عني- هذا الأمر، أي قضاه عنى. وقرأ أبو السماك {لَا تَجْزِي} من أجزأ عنه، إذا أغنى. أي لا تغنى نفس عن نفس شيئًا، من الإغناء، ولا تجديها نفعًا. ¬

_ (¬1) المائدة عن الآية: 20 (¬2) آل عمران من الآية:110

وفي الآية من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى. {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}: الضمير في {مِنْهَا} للنفس الثانية، وهي الكافرة؛ لأَنها أقرب مذكور، وليوافق قوله بعد: {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} ولأنه المتبادر من قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أَي أن النفس الكافرة، لو استأذنت ربها في شفاعة شفيع، فإنه لا يجيبها إلى رغبتها. وقد استدل المعتزلة - بعموم الآية- على أنه لا شفاْعة لأهل الكبائر. وهو مردود بما ورد في الكتاب والسنة من قبول الشفاعة بإذن الله تعالى، قال الله تعالى: { ... مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ... } (¬1) وقال تعالى: { ... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (¬2) إلى غير ذلك من الآيات. وقد ثبتت الشفاعة للمؤْمنين المقصرين نصُّا، فيما رواه البخاري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة، من قال: لا إلَه إلا الله، خالصًا مخلصًا من قَلْبِهِ" وفي رواية: "مِن نَفْسِه". وفيما رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر، والطبراق عن ابن عباس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتي"إلى غير ذلك من الأحاديث. وقد وردت أحاديث الشفاعة مطولة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وفي باب الإيمان في صحيح مسلم وغيرهما. فالمراد من قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} اليهود، فإن الخطاب معهم لردهم عما يعتقدونه من شفاعة آبائهم الأَنبياء لهم. ومثلهم في حكمهم: جميع الكفار من النصارى والوثنيين ومن لا عقيدة لهم. وإنما يقبل الله الشفاعة للمؤْمنين المقصرين. رحمة بهم بسبب إيمانهم الذي خلطوه بعمل صالح وآخر سيئ. وهؤُلاء قد وعدهم الله بالغفران إن تابوا. قال تعالى: { ... خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ... } (¬3). ¬

_ (¬1) يونس من الآية: 3 (¬2) الأنبياء من الآية: 28 (¬3) التوبة الآية: 102

والشفعاءُ الذين تقبل شفاعتهم بإذن الله، هم: الأنبياءُ والملائكة والصالحون. {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}: أي فدية، كما قال ابن عباس. قال الآلوسي: وأصل العدل -بفتح العين- ما يساوى الشيءَ قيمة وقدرًا. وإن لم يكن من جنسه- وبكسرها- المساوى في الجنس والجرم. انتهى. سميت به الفدبة؛ لأَنها تساوى المفدى وتجزىءُ عنه. ومعنى الآية: أن النفس الكافرة إِن جاءت بشفاعة شفيع، لم تقبل منها، ولو أَعطت فدية لم تؤخذ منها. {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: النصر؛ العون، فالمعنى: ولا هم يعانون بالقوة حق يفلتوا من العقاب، فهم ونصراُّوهم مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى. وقد سدت الآية عليهم - بما تقدم - طرق الإفلات من العقاب، إذ دلت على أنهم لا ينجون منه يشفاعة شفبع لهم، ولا بفداء يقدمونه، ولا بنصير يحمبهم ويخلصهم من العذاب بقوته وجاهه. {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} المفردات: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}: بوقعون بكم العذاب السيِّءَ. {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: يبفونهن أَحياءَ. {بَلَاءٌ}:اختبار، أو مشقة ومحنة. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}: فصلناه.

التفسير 49 - {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}: أي واذكروا نعمتى، وقت إنجائكم من عدوكم فرعون، فى عهد موسى عليه السلام. والحقيقة أَن الإنجاء منه كان لآباء المخاطبين بهذا التذكير، وهم من كانوا في عهد نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- من اليهود ولكنهم- لما نجوا منه بإنجاه آبائهم- اعتبر إنجاء آبائهم نعمة عليهم. فلهذا ذكرهم الله بها. وآل فرعون: أهله. والمراد: نجيناكم من فرعون وآله، وهم من ينسبون إِليه والمراد: رعيته، ويطلق على من يؤُول إليك؛ في قرابة أو رأى أو مذهب، فألفه بدل من الواو كما قال يونس: ويخص- في غالب الاستعمال- بالإضافة إلى من له خطر وشان، ولا يضاف إلى مؤَنث، فلا يقال آل عَزَّةَ مثلا، وقد يضاف إلى من لا خطر له كآل الكوفة وقد لا يضاف، نحو: هم خير آل. وفرعون: لقب لمن ملك مصر، ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتُبَّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة. ويرجح بعض الباحثين: أَن فرعون موسى هو منفتاح بن رمسيس الثاني، ارتكازا على بعض عبارات مأْثورة عثر عليها في لوحة في "تل العمارنة" حديثًا. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بمعنى: يبغونكم العذاب ويطلبونه لكم. من: سامه خسفا. إذ أولاه ظلما. وسوء العذاب: سيئه. وأفظعه. وهو من اضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي يُذيقونكم العذاب السيِّيء الفظيع، وهو ما في قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} فهو بدل من {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} و {يُذَبِّحُونَ} - بالتشديد- على التكثير. فقد كان فرعون يذبح الأطفال الذكور، ويبقى البنات، كما كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه، والتجمع لإفساد أمره. وقيل في سبب ذلك: إن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل، ففعل ما فعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان- هو ورعيته- إلى جانب ذلك يستخدمونهم في الأعمال الشاقة المهينة.

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: أي يستبقون بناتكم- يا بني إسرائيل- أحياءَ لخدمتهم. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: الإثارة راجعة إلى العذبيح والاستحياء، أو إلى الانجاءِ أو إلى الجميع، فإن البلاء: الاختبار. وهو يكون بالضار لبصبروا، وبالسار ليشكررا، وبهما جمبعا ليشكروا على السار وبصبروا عل الضار. ولا نخلو اختباراته تعالى وبلاؤُه. لعباد. من حِكَم. {مِنْ رَبِّكُمْ}: أي من مالك أموركم. الذي يبلوكم بالشر والخير فتنة وامتحانا؛ ليثيب من شَكر على السراء. ويحرم الثواب من لم يصبر على الضراء. والإشارة إلى المخاطبين في عهد محمد- صلى الله عليه وسلم- لأن ما أصاب آباءهم، فكأنما أصابهم، {عَظِيمٌ}: صفة، وتنكير {بَلَاءٌ عَظِيمٌ}: للتفخيم. 50 - {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ ... } الآية. هذ. نعمة أخرى غير ما تقدم {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}: فَصَدنا بين مياهه، حتى صارت فيه مسالك لكم. والباءُ في {بِكُمْ} بمعنى اللام، أي فرقنا لأجلكم البحر لكي ننجبكم من فرعون وقومه، وتلك نعمة كبرى، تقتضى منهم مزيد الشكر عليها؛ بالإيمانْ والعمل الصالح. وقيل: الباء للملابسة أي فرقنا البحر حال كونه ملتبسا بكم. والبحر كما قيل: هو بحر القلزم، ويطلق على الذى ماؤُه ملح والذي ماؤه عذب، ومنه قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (¬1). {فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} في الكلام مُقَدرٌ: يدل عليه ما عرف من القصة في نواحى القرآن. وحذف ما يعلم جائز وبليغ. والتقدير: واذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده، فأنجيناكم من الغرق، ومن إدراك فرعون وآله لكم، ومما تكرهون، إذ أخرجناكم منه سالمين، وأغرقنا أعداءكم: فرعون وآ له- من القواد والجنود الذين تبعوكم {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: أي تنظرون جميع ما مر، وفي ذلك تقرير {للنعمة} عليهم، والخطاب لمعاصري النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارأنهم أبناءُ مَنْ صنع الله بهم هذ. النعمة الكبرى. ¬

_ (¬1) الرحمن الآية:19

وهذه الواقعة، من الآيات الملجئة إلى العلم؛ بوجود الصانع الحكيم، وتصديق موسى، عليه السلام، ولكنهم كفروها إِذ عبدوا العجل بعدها-، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ... } (¬1) وغير ذلك من سيئاضهم فلا كر، بة في أن يكفر معاصروهم للنبى محمد - صلى الله عليه وسلم - برسالته ومعجزاته. فالجحود فيهم فرض قديم. {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}. المفردات: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ْ أعطيناه موعدا أن ننزل التوراة عليه بعد أربعين ليلة. {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ}: أي جعلتموه إلها. {مِنْ بَعْدِهِ}: أي من بعد موسى. والقصود: من بعد مضيه لتلقي التوراة. {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ}: أي حين تبتم. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: من بعد الاتخاذ. التفسير 51 - {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... } الآية. في هذه الآية: إِنعام آخر على بني إسرائيل، بعد ما جاوزوا البحر. فقد وعد الله موسى -عليه السلام- أن يعطيه التوراة بعد أربعين ليلة، وقَبِلَ موسى، فالمواعدة- على هذا- من الجانبين. فهي هن الله وعد، ومن موسى عليه السلام، قبول. على حد قول الطبيب: عالجت ألمريض، فالعالجة من الطبيب فعل ومن المريض قبول. ¬

_ (¬1) البقرة - من الآية: 55

ويجوز أَن تكون المفاعلة على غير بابها، فتكون المواعدة بمعنى الوعد من جانب واحد، وذلك مأْلوف في كلام العرب مثل: عاقبت اللص وشاهدت الحديقة، فتكون. المواعدة من الله خاصة لموسى، إذ هي بمعنى: وعدنا موسى. وتدل له قراءة أبى عمرو {وَاعَدْنَا}. ويجوز أن يكون واعدنا بمعنى: وافينا، أي: وافيناه بالتوراة بعد أربعين ليلة. وموسى: اسم أعجمى لكليم الله، الذي بعثه لبنى إِسرائيل، وهو منهم. وتعبير الله عن ميقاته بقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} إما لأن افتتاح الميقات كان من الليل، أو لأن الأشهر القمرية تربئ بالهلال، والهلال يرى ليلًا. وأكثر توقيتات القرآن بالليل. {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}: أي صنعتموه من ذهب على شكل العجل، أَو جعلتموه إلها. وعلى المعنى الأول: يتعدى إلى مفعول واحد وهوْ العجل. وعلى الثاني: يتعدى إلى مفعولين والثاني محذوف تقديره "إلها" وهو المقصود. فكلهم عبدوه-، إلا هارون وقلة معه، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في ميقات ريه. والعرب. تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. والعجل: ولد البقرة الصغير. وقد رأى السامري- عند بني إسرائيل- رغبة جامعة، في عبادة العجل، كما كانوا يفعلون بمصر في عهل الفراعنة، إذ كانوا يعبدون معهم العجل (أبيس) فانخذ من الْحُليِّ تمثالا على صورة العجل، وجسمه ووضعه في مستقبل الريح، فإذا دخلته أحدثث صوتا كخوار العجل، فعبدوه الهذا. وفى الآية تسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لماكان يشاهد من جحودهم؛ لنبوته وللكتاب الذي أنزل عليه، وإيذان بان عليه أن يصبر كما صبر موسى في هذه الواقعة، فإن بني إسرائيل- بعد أَن خلصهم الله من فرعون، وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت- اغتروا بتك الشبهة الواهنة التي لا تقتضى أُلوهية العجل، فعبدوه. ثم إن موسى- إذاكان قد صبر على ذلك- فلأن يصبز محمد- صلى. الله عليه وسم- على أَذى قومه أولى؛ لأنه سيد أولي العزم.

{وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}:أي في إشراككم، إذ وضبتم العبادة في غير موضعها، وعرضتم أَنفسكم بذلك لعقاب الله. والظلم لغة: وضع الشىء فى غير موضعه ومجاوزة الحد. والجملة حال أو تذييل، لإفادة أنهم قوم عادتهم الظلم، وقد أكد تمكن الظلم منهم، بالجملة الاسمية المفيدة للاستمرار. وفي الآية تنبيه إلى أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم، لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم بتعريضها للعفاب. 52 - {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ... } الآية. العفو لغة: المحو والإزالة. والمراد به هنا: غفران ذنبهم، وشركهم بعبادة العجل، بعد توبتهم منه. والتعبيربلفظ {ثُمَّ} للإيذان بالتفاوت الكبير بين إشراكهم القبيح، وبين لطفه تعالى؛ بالعفو عنهم لما تابوا. والمعنى: ثم محونا عنكم عقوبتكم على اتخاذكم العجل إلهاْ، بعد توبتكم منه. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: لعل هنا للتعليل، أي: لكي تشكروا نعمة عفوه تعالى، بالاستمرار على طاعته، والعدول عن معصيته. {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}. المفردات {إذْ}: ظرف للوقت الماضي. {آتَيْنَا}: أعطينا. {الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي التوراة الجامعة ببن كونها كتابا، وكونها فارقة ببن الحق والباطل.

التفسير 53 - {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: هذا هو الإنعام الرابع على بني إسرائيل. والمراد بالكتاب والفرقان: التوراة، فهي جامعة بين كونهاِ كتابا سماويا وفارقة بين الحق والباطل، والعطف لتغاير العنوان، وذلك على حد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفُزقَانَ وَضِيَاء وَذكْرًا ... } (¬1). أو المراد بالكتاب: التوراة. وبالفرقان: معجزات موسى عليه السلام، لأَنها فرقت بين الحق والباطل، أو النصر على فرعون وقومه بإغراقهم. فهو فارق بينهم وبين بني إسرائيل، كما سمى يوم بدر: يوم الفرقان. والمعنى: ولقد آتينا موسى التوراة وما يفَرِّق بين الحق والباطل، لكي يهتدي بذلك بنو إسرائيل إلى الحق، ويرجعوا عما هم فيه. من ضلالة. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)} المفردات {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}: أي بعبادة تمثال العجل. {بَارِئِكُمْ}: خالقكم. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: فاصنعوا بها ما يشبه القتل، وهو الحسرة والندم واللوم الشديد. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}: فقبل توبتكم. ¬

_ (¬1) الأنبياء - من الآية: 48

مباحث الآية

التفسير 54 - {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: بين الله في هذه الاَية؛ طريقة توبة اليهود عن عبادة العجل، إلتى استعقبت العفو عنهم. والمعنى: واذكر يا محمد، لمعاصريك من اليهود، فضل الله عليهم، إذ أَمر نبيه موسى فقال لآبائهم: يا قوم، انكم ظلمتم أنفسكم، إِذ عرضتموها لعقاب الله باتخاذكم العجل إلها، فعبدتم تمثالا؛ نقربا إليه، مع أَنه- كأصله- مخلوق الله، ولا قدرة له على شئ في نفسه ولا غيره، فتوبوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم في أحسن تقويم، فَأَهلِكُوا أنفسكم بالندم على هذه الجريمة، والإقبال على الطاعة له تعالى. ذلكم خير لكم عند خالقكم في الآخرة، لما فيه من عظيم الثواب والبعد عن شديد العقاب .. إنه- تعالى- هو الذى يقبل التوبة كثيرًا عن عباده، البليغ الرحمة بهم. مباحث الآية 1 - {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}: البارىءُ؛ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت. قال الله تعالى: { ... مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ... } (¬1) فقد خلق الاعضاءَ متناسبة متميزا بعضها عن بعض، في الصورة والوظائف، وجعل كل عضو بقوم بوظانفه العجيبة على الوجه الأَكمل -دون عناءِ- في تعاون مع سائر الأعضاه، كما جعل الناس متمايزين في الصورة. حتى بعرف بعضهم بعضا. فلا ترى أحدًا بشبه الآخرمماما في صورته. إلى غير ذلك عن سباب الكمال في الخلق. وصدق الله تعالى إذيقول في سورة (التين): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ¬

_ (¬1) الملك - من الآية: 3

وفي ذكر: الباريءِ في هذا المقام، تقريع لهم بما كان منهم؛ من ترك عبادة الله الذي برأهم بلطيف حكمته، إلى عبادة ما لا يقدر على شيءٍ، وهو مثل في الغباوة والبلادة .. والفاءُ هنا. تفيد تسبب الأمر بالتوبة على اتخاذهم العجل. 2 - {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: المتبادر من القتل، إزهاق الروح، فإن كانت توبتهم هي القتل، فالمراد بقوله تعالى: {فَتُوبُوا}: اعزموا على التوبة، هذا إذا كانت الفاءُ للتعقيب. فإن كانت تفسيرية. فالتوبة على أصل معناها، والقتل تفسير لها، كما قيل في قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ... (¬1)}. وإن كانت توبتهم هي الندم المعبر عنه بالقتل مبالغة، فعطف القنل على التوبة للتفسير، ولا إشكال فيه. وكثير عن المفسرين- سلفًا وخلفًا- على أَن القتل حقيقي. قال سفيان بن عيينة: كانت- توبة بني إسرائيل القتل. وقال الزهري: لما قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قاموا صفين. وقتل بعضهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي اهـ. ورُوِىَ: أنه أَمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده. قيل: كانت جملة القتلى سبعين أَلفا. وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشِّفَارُ من أيديهم. ونظرًا لأنه لم يأْت نص يعول عليه في السنة، يقتضى أَن القتل حقيقي-، فقد جنح بعض العلماءِ إلى أن المراد بالآية: اجعلو اأنفسكم كالمقتوله: بمزيد الغم والندم والإذلال. وقدورد استعمال القتل في غير حقيقته في اللغة والسنة. ومما وردفى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأَخير منها". أَي أبطلوا دعوته كمن مات- اهـ من لسان العرب. وقد صدَر أبو السعود والبيضاوى تفسيرالآية بهذا المعنى المجازى، فقال كلاهما: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}: إتماما لتوبتكم بالبخع (¬2) أوقطع الشهوات اهـ. ¬

_ (¬1) الأعراف - من الآية: 136 (¬2) البخع: قتل النفس غمّا 10هـ من القاموس.

ومن الحكم: من لم يعذب نفسه لم يَنعمها، ومن لم يُقتلها لم يُحْيها. ذكره البيضاوى في تفسير الآية. وأنكر القاضى عبد الجبار، أن يكون الله تعالى قد أمر بنى إسرائيل بقتل أنفسهم، إذ الأمر لمصلحة المكلف، وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة. وقرأ قتادة {فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ}: بالياءِ بدل التاء. والمعنى: إن أنفسكم تورطت في هذا الذنب العظيم، وفعلت ما يهلكها، فأقيلوها وارفعوها من هذه الورطة؛ بالتوبة والتزام الطاعة. وهذه القراءَة تزكى المعنى الثاني لقتل النفس المطلوب منهم. 3 - {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} جملة معترضة: للتحريض على التوبة. يعني أن قتلهم لأنفسهم - بالندم على عبادة العجل- خير لهم من بقائهم على عبادته، لما يترتب عليه من العذاب والهلاك الدائم. وكرر كلمة الباريءِ، اعتناءً بالحث على التسليم لما أمَرَ به، وتَلَقى ما يرد من قبله بالقبول والامتثال. 4 - {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} إِن كان خطابا من الله لهم، فهو معطوف على محذوف، وكأنه قال: ففعلتم ما أَمركم به، فتاب عليكم بارئكم. وإِن كان كلام موسى، فهو جواب شرط تقدبره: إن فعلتم ما أمرتم به. فقد تاب عليكم. وإنما لم يقل: فتاب عليهم، ليعود الضمير على القوم أَسلافهم، لأن هذه نعمة أريد بها تذكير المخاطبين في عهده صلى الله عليه وسلم. لا أسلافهم. فالنعمة على الآباءِ نعمة على الذرية. {إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}. المفردات: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ}:"لن"؛ لنفي الفعل في المستقبل، ولا تفيد تأكيدًا ولاتأبيدًا، خلافًا للزمخشري، حكاه صاحب القاموس. والإيمان: التصديق الجازم.

{جَهْرَةً}: هي في الأصل مصدر جهرت بالقول، استعيرت للمعاينة، لتشابههما في الوضوح والانكشاف. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}: هي نار جاءتهم من ناحية السماء فأحرقتهم. ومن معانيها: الموت وكل عذاب مهلك. التفسير 55 - {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: أضفى الله تعالى على بني إسرائيل الآلاءَ السابقة، وقابلوها بالكفر، حتى عيدوا العجل. ودعاهم إلى التوبة: بالندم وكف نفوسهم عن أهوائها وشهواتها، فلما تابوا قبل توبتهم. ومع كثرة البينات المتوالية التي قدمها موسى بإذن من الله تعالى، تفننوا في الطلب، وحسبوا أن الله تعالى في مكان وله حيز، بحيث يمكن أن يروه جهرة في الدنيا، فقالوا لن نؤْمن لك حق نرى الله جهرة: أي معاينة. فالآية سبقت؛ لبيان تعنتهم في طلب الآيات، وتأثرهم بما فاله سيدهم فرعون مصر لهامان: { ... يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (¬1)}. وفي ذلك عبرة وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فيما يلقاه من تعنتهم. والمعنى: واذكروا أيها اليهود المعاصرون للنبى صلى الله عليه وسلم، إذ قال أجدادكم لموسى عليه السلام: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... } أي لن نسلم لك - مصدقين مذعنين راضين مطمئنين- {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}: أَي حتى نراه مشاهدة وعيانا. أو الجهرة صفة لخطابهم، كما روى عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) غافر- من الآية 36 والآية 37

والمعنى على الرأْي الثاني: واذ قلتم- جهرة وعلانية غير مبالين- يا موسى، لن نؤْمن من أجل قولك، حتى نرى الله بأَعيننا. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}: استولت عليكم وأهلكتكم، لفرط عنادكم وطلبكم المستحيل. والصاعقة: الموت، أو نار سفطت عليهم من السماء. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: أي تنظرون اليها، وهي نصيبكم وتباشر اهلاككم. 56 - {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ... } الآية. {مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بالصاعقة، وكان ذلك بدعاءَ موسى عليه السلام، ومناشدته ربه بعد أن أفاق. والموت هنا، ظاهر في مفارفة الررح الجسد بقرينة ذكر البعث معه. وقال بعض العلماءَ: كان موتهم غشيانا رهمودا، لا موتا حقيقيا. كما فى قوله تعالى: { ... وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ (¬1) ... }. والمراد من البعث على هذا، إعادة النشاط والصحو لهم. وقال آخر: موتهم؛ هوجهلهم الذي كانوا فيه. وبعثهم: تعلمهم أحكام التوراة؛ ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ... } (¬2) وقول الشاعر: وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يُظَنُّ من الأحياء وهو عديم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي لكي تشكروا نعمته تعالى ببعثكم بعد الموت، أو جميع نعمه بعد ما كفرتموها. والمراد من شكرهم- له تعالى: ما يعم قيامهم بما كلفوا به، وتركهم لما نهوا عنه قبل موتهم بالصاعقة، فإن الله- بعد موتهم- بعئهم لييشكروه تعالى: بالعمل بما شرعه لهم قبل صعقهم، حتى تغفر لهم جرائمهم. فلفظ الشكر: يتناول جميع الطاعات، لقوله تعالى: { ... اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكرًا ... } (¬3). ¬

_ (¬1) إبراهيم - من الآية: 17 (¬2) الأنعام - من الآية: 122 (¬3) سبأ- من الآية:13

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}. المفردات: {الْغَمَامَ}: السحاب. واحده غمامة، كسحابة. سمى به: لأنه يغم وجه السماء، أي يستره. {الْمَنَّ}: المشهرر، أنه الترنجبين. وهو شىءٌ يشبه الصمغ: حلو مَشوب بحموضة. {وَالسَّلْوَى}: "طائر يشبه السمانى، أَو هو السماني بعينها. التفسير 57 - {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: هذه الآية تتضمن الإنعام السابع على بني إسرائيل، وهي معطوفة على {بَعَثْنَاكُمْ} مؤْذنة بأن الإظلال بالغمام، كان بعد البعث، ولم يكن قبل الصعق، فإنهما جميعًا معطوفان بلفظ {ثُمَّ} على ما قبلهما، وهو أخذتكم الصاعقة، و {ثُمَّ}: تفيد الترتيب على ما سبقها. والمعنى: وجعلنا الغمام يظلكم، بعدالبعث، ويرد عنكم حر الشمس في التيه. {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} المن هو- كما سبق- صمغة حلوة فيها بعض الحموضة، وكان ينزل عليهم كالندى، من الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: هو ما مَنَّ الله به عليهم من غير تعب ولا زرع. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رواه مسلم: "الكمأَة من المَنِّ الذي أنزل الله على بني إِسرائيل" أي: بعض المن. والكمأة: نبات معروف. والسلوى: هي السماني أو طائر صغير يشبهها. وكانت تأتيهم بُكْرَةً وعشية فبخناروق سِمَانَها ويَدَعُون غيرها.

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}: المراد من طببات الأرزاق: مستلذاتها وفي الكلام قول مقدر. أي: وقلنا لهم: كلوا. {وَمَا ظَلَمُونَا} بتركهم لشكرنا، وإقبالهم عل معصيتنا، واقتراحهم أدنى الأرزاق وهو الفوم والعدس والبصل، بدلًا من خيرها وهو المن والسلوى {لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أي ولكن كانوا لا يظلمون سوى أنفسهم، بتعريضها للعقاب والحرمان، دون أن يعود شىءً من ظلمهم وآثاره على الله، والتعببر بجملة {كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: يشير إلى أن الظلم لأنفسهم كان خلُقًا قديما فيهم، وأنهم مستمرون عليه. {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}. المفردات {الْقَرْيَةَ}: المدينة من قريتُ إذا جمعت، سميت بذلك لأَنها تجمع الناس، وقبل: القرية: مسكن القلة من الناس. والمدينة: مسكن الكثرة منهم. والمشهور عن ابن عباس وغيره: أنها بيت المقدس. {رَغَدًا}: واسعا هنيئا. {حِطَّةٌ}: أي حطٌ لذنوبنا وغفرانٌ لها. {رِجْزًا}: أي عذابا، وراؤه مثلثة. لغة. التفسير 58 - {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ... } الآية

الظاهر أن الأمر كان على لسان موسى، وهو كالأوامر السابقة واللاحقة. والقرية على المشهور: هي بيت المقدس أو أربحا، ولكنالم نجددليلا يؤيد هذا القول المشهو ر، والأمر للإباحة، بدليل عطف {فَكُلُوا مِنْهَا} عليه، فإن الأمر بالأكل للإباحة، وهو غير الأمر المذكور في قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ... } (¬1)، فإنه للإيجاب. بدليل عطف النهي عليه في قوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، فإن النهي فيه للتحريم وقد عوقبوا علي مخالفته بأن يتيهوا أربعين عاما، وأَمر الإباحة هنا مؤخر عن أمر التكليف في قوله: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}. {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}: أي فكلوا منها في أي مكان شئتم أكلا واسعًا: لا يقتصر على سد الجوع، وهذه نعمة كبرى، أنعم الله بها عليهم، بعد خروجهم من التيه: حيث أمرهم أن يدخلوا قرية ذات زروع وثمار، وأباح لهم أن يأكلوا من طيباتها - حيث شاءُوا - كلا واسعًا هنيئًا، بعد أن كانوا حيارى في التيه: مقصورين فيه على لون واحد من الطعام. وقد أمرهم الله أَن يدخلوها من بابها فقال: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} متطامنين خاشعين: شكرًا لله تعالى على إخراجكم من التيه، والإنعام عليكم بالاسترزاق في هذ. القرية. كما أَمرهم أن يسألوه تعالى: العفو عن ذنوبهم الماضية فقال لهم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي حِطةٌ منك با الله لخطايانا وغفرانٌ لذنوبنا. ووعدهم الله أن يستجيب دعاءهم واستغفارهم عن خطاياهم فقال: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}: نستر لكم سيئاتكم السابقة، فلا نعاقبكم طيها {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}: ثوابًا على إحسانهم، فوق غفران خطاياهم، ولكن هؤُلاء المنكرين للنعم لم يستجيبوا {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} بما أمروا به وهو قولهم: حطَّةٌ، المفيد لطلب حط ذنوبهم وغفر انها {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ليس فيه خضوع واستغفار لذنوبهم، إعراضا وعنادًا منهم لربهم {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: أي فأنزلنا عليهم- لظلمهم- عذابًا من السماءَ، بسبب ما استمروا عليه من الفسق المتجدد، والخروج عن الطاعة آنا فآنا. وظاهر قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أنهم لم يشتركوا جميعًا في تبديل ماقيل لهم، بل الذين بدلوا هم الذين ظلموا. ¬

_ (¬1) المائدة - من الآية: 21

وعلى هذا فإن النص يفيد: أن مَن دخل القرية قسمان: قسم أطاع ولم يبدل، وقسم عصى وبدل. فبدلًا من أن يدخلوا خاضعين خائفين متواضعين، دخلوا مستكبرين. وبدلًا من أن يستغفروا ويطلبوا حط الذنوب وغفرانها، لم يعترفوا بذنوبهم ولم يستغفروا الله منها، بل قالوا ما يخالف ذلك، استهزاءً بما كلفوا به، فاستحقوا أن ينزل الله عليهم من السماء رجزًا أي عذبا، بسبب فسقهم وفساد سرهم وعلانيتهم. ويصح أن يكون التبديل وقع منهم جمبعًا، وأن المعنى: فبدلوا- جميعًا- قو لا غير الدى قيل لهم، لظلمهم. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}. المفردات. {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى}: طلب السُّقيا من الله. {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}: المراد بالعصا هنا، آية موسى، وهي المسئول عنها بقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} والمراد بالحجر: وليس حجرًا بعينه. {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}: أي فخرجت منه بقوة بعد انصداعه هذه العيون. {كُلُّ أُنَاسٍ}: أناس؛ جمع لا واحد له من لفظه، وتخذف همزته مع أل. والمراد بهم: السبط من أولاد يعقوب؛ أي كل سبط. {مَشْرَبَهُمْ}: أي موضع شربهم. {وَلَا تَعْثَوْا}: العثو عند بعض المحققين؛ مجاوزة الحد مطلقا، فسادًا أو غيره، ثم غلب في الفساد

التفسير 60 - {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ... } الآيه. كلمة {إِذِ} تكررت خمس عشرة مرة، والقصص الخاصة ببنى إسرئيل. وهي في اللغة: لمطق الظرفية في الزمن الماضي.: هي على تقدير: اذكر: والمراد من ذكر الوقت فيها: تذكر ما وقع فيه من النعم والحوادث، لعل ذاك يفيدهم العبرة، ويهيئُ نقوسهم للتوبة والاستجابة لأَمر الله. ولم يعن القرآن بالترتيب الزمنى فى ذكر قصصهم، لأنه ليس له دخل فى تصحيح عقائدهم وأعمالهم. والذي له دخل في ذلك، هو تذكر النعم التي انعم الله بها عليهم، والعقوبات والحوادث التي حلت بهم في أي زمان، فإِن لهم- في تذكر ذلك- أعظم العبر، التي يجب أن تردهم إلى رشدهم، وتكفهم عن التمادي في طغيانهم. وقد سبقت هذه الآيه، لبيان حال من أحوال بني إسرائيل في هجرتهم. وكانوا قد أصابهم في التيه عطش شديد، فاسنغاث موسى بربه، وطلب منه أن يسقى قومه حتى لا يموتوا عطشا وذلك قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}: أي دعا ربه، أن يهيىء لهم وسائل السقيا والري. {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}: أجاب الله موسى عليه السلام فى طلب السقيا، ودله على الطريقة التي تحقق رغبتهم، وتكون معجزة له أَمام قومه فقال له: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}، فضرب موسى الحجر {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباط: وهم ذرية يعقوب من أولاده الاثنى عشر. والمراد بعصا موسى: العصا التي ضرب بها البحر فانفلق، وكان كل فرق كالطود العظم. وهي معجزته الكبرى. والمراد بالحجر: أَي حجر، كما قال الحسن: ضربه فانفجر منه الماء، وهذا أَبلغ في الإِعجاز وأبين في القدرة. والمراد من انفجار تلك العيون من الحجر، خروج الماء الغزير- بقوة- من اثنى عشر مكانا، في الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام بعصاه. ونلك نعمة كبرى، من نعم الله عل بني إسرائيل.

وقد يقال: إن الله قادر على أن يمنحهم الماء بدون ضرب الحجر. بالعصا، فلماذا لم يفعل؟. والجواب: أن الله تعالى، أراد أن يبين لهم كرامة نبيهم موسى على الله تعالى، ويؤَكد لهم نبوته: بإجراءِ تلك المعجزة على يديه، بمجرد ضربه الحجر بعصاه، حتى يقو ى إيمانهم بنبوته، التي يتشككون فيها من آن لآخر. وقد مرَّ قريبا أنهم قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} كما أن فيها تثبيت إيمانهم باللهِ، لأنه إيمات يتزلزل هن آن لآخر. فقد مرَّ قريبًا: أنهم أشرِبوا في قلوبهم حبَّ عبادة العجل، مع عظيم آيات الله التي مرت بهم، والتي من شأنها أن تصرفهم عن الكفر به. ومن أقواها: شقه البحر لهم، وعبورهم إلى سيناء - في طرق يابسة- بين حوائط من ماء. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}: أي قد علم كل ناس من الأسباط، محل شربهم من تلك العيون. فقد خصص لكل سبط منهم عين، حتى لا يحدث خلاف بينهم على الماء، فهم أهل خلاف وشقاق. {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} أي قلنا لهم: كلوا المن والسلوى، واشربوا من رزق الله الذي تفضل به، فجمع لكم بين النعمتين المتلازمتين، بحيث تحصلون عليهما في يسر وسهولة، وذلك من أجلّ النعم وأعظمها. وقوله: {مِنْ رِّزْقِ اللَّهِ}: إشارة إلى أن الأكل والشرب نعمة متمحضة من جانب الله تعالى، لا دخل لعملهم في الحصول عليها. ثم عقب الأمر بالأكل، والشرب بالنهى عن الفساد، فقال: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فإن من شأن النعمة أن تستحثهم على الطاعة والاستجابة للمنعم سبحانه، في نهيه لهم عن الإفساد في الأرض، فقد هيأ لهم ما يكفهم عنه. والعثو: الإفساد. فقوله بعد ذلك: {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة، لأن المعنى وأحد لكل من العثو والافساد، ولكن لو نظرنا إلى أصل معنى العثو وهو: مجاوزة الحد مطلقا، فسادا أو غيره، يكون التعبير بلفظ {مُفْسِدِينَ} لتعيين المراد من العثو.

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} المفردات: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}: الهمزة لإنكار طمع المومنين في إِيمان اليهود بعد ما علموا حالهم، أي استنكاره واستبعاده منهم، والفاءُ عطفت ما بعدها على مقدر، والتقدير: "أتحسبون قلوبهم صالحة للإيمان بعد ما علمتموه من حالهم، أفتصمعون أن يؤمنوا لكم"، والمراد نهيهم عن الطمع في ايمانهم بعد علمهم بحالهم. {فَرِيقٌ مِنْهُمْ}: جماعة منهم. {كَلَامَ اللَّهِ}: المراد به: التوراة. {فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: بين لكم خاصة، أو حكم وقضى عليكم {لِيُحَاجُّوكُمْ}: ليخاصموكم ويقيموا عليكم الحجة. {عِنْدَ رَبِّكُمْ}: أي في كتاب رببهم وشرعه، كما تقول هو عند الله كذا، أي في كتابه وشرعه. التفسير كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون معه، شديدى الحرص على إيمان اليهود، طامعين في دخولهم في لأنهم أهل كتاب، ولأنهم كانوا من: قبل يستفتحون ويستنصرون على إلاوس- والخزرج بالنبي الذي قرب زمانه، وذكرت أوصافه في كتابهم،

لكنهم- عندما جاءهم ما عرفوا- كفروا به؛ لما أنطوت عليهَ نفوسهم من الخبث، وسوء السريرة، ولما جبلوا عليه من سوء السيرة؛ ولهذا حكى الله فيما مضى مساوئهم، ونعى عليهم جناياتهم، وذكر أن قلوبهم قاسية، كالحجارة أو أشد قسوة، ورتب على ذلك إقناط المؤمنين من ايمانهم، ونهيه لهم عن الطمع فيه فقال: 75 - {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ... } الآية. أي لا تطمعوا في ايمان اليهود مستجيبين لكم. {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}: وهم الأحبار والرهبان. {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}: أي يسمعون التوراة، ثم يتعمدون تحريف ما فيها، مما لا يوافق أَغراضهم، ولا يتمشى مع أهوائهم، من بعد ما فهموها، فَقُدَماؤُهُمْ حرفوها بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، كما قاله مجاهد. ومعاصروهم للنبى- صلى الله عليه وسلم- حرفوها بتغيير نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبديل آية الرجم، وغير ذلك، حتى يحتفظوا لأنفسهم بالزعامة الدينية: يفعلون ذلك {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}: أي فهموه حق الفهم، دون أن تكون لهم شبهة فيما حرفوه، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مبطلون كاذبون. أَو معناه: وهم يذكرون من غير نسيان، فهم - في جريمتهم هذه - عامدون مصرون. وإِذا كان أمرهم كذلك، فلا تطمعوا في إِيمانهم، فلا يؤمن من. ضاعت أمانته، وخبثت سريرته، واجترأَ على كلام الله بالتحريف مع العمد والإصرار. فجملة {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: حال مؤَكدة لاستهجان قبح ما اجترأوا عليه من التحريف. والتعبير باللام في قوله {لَكُمْ}: لتضمين الكلام معنى الاستجابة فكأنه قيل: أفتطمعرن أَن يؤمنوا مستجيبين لكم. ثم عقب الله اتصافهم بالخيانة العلمية، باتصافهم بالنفاق في الإيمان فقال: 76 - {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ... } الآية. أي ومن صفاتهم التي تدعو إلى اليأْس من ايمانهم: أنهم منافقون، فقد كان بعضهم إِذا لقوا الذين آمنوا، نافقوهم، وأظهرواْ أنهم مؤمنون برسول الله وما أنزك عليه، وأَخبروهم أته - صلى الله عليه وسلم - مبشَّر به في التوراة.

{وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}. أي وإذا فرغ وخلا بعض اليهود - وهم الذين لم يظهروا النفاق - إلى بعض آخر- وهم المنافقون منهم- بعدما سمعوهم يحدثون المؤمنيين ببعض ما كتموه من التوراة {قَالُوا} -لائمين لإخوانهم المنافقيين منكرين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: أتخبرون المؤمنين بما فتح الله عليكم من أبواب العلم التي كتمناها عنهم كالبشارة بالنبي وعلاماته، وأخذ ألميثاق على أنبيائهم بالأيمان به، وتبليغ أُممهم أَن يؤمنوأ به وأن ينصروه إن أدركوه، - أتحدثونهم بذلك- {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} - أي ليقيموا عليكم به الحجة في كتاب ربكم وشرعه؟ وقيل المراد بقوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} يوم القيامة، أي ليحاجوكم به يوم القيامة توبيخًا لكم، وزبادة في فضيحتكم على رءُوس الأشهاد؟ وهذا الرأى غير مقبول، فإنهم عالمون بأنهم محجوجون بما في كتابهم يوم القيامة: حدثوا به أو أخفَوه، فلا وجه لتوبيخ اخوانهم على اظهاره للمؤمنين. إِذاكان أن المراد بقوله {عِنْدَ رَبِّكُمْ} يوم القيامة. روى عن ابن عباس أن ناسا منهم أَسلموا. ثم نافقوا. فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذب به آباؤُهم، فقالت لهم اليهود: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، أي بما حكم به عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أَكرم على الله منكم؟ نقله القرطبى، وقدمه على ما سواه من الآراء. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} خطر هذا الفعل علينا وعليكم؟ والتعبير بالفتح فى قولهها: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الإيذان بأَنه سر مكتوم، وباب مغلق فى وجه غيرهم، فلاينبغى أن يطلع عليه سواهم. ثم وبخهم الله -تعالى- وجهّلهم، وأنكر عليهم هذا التلوُّن والنفاق في الدين فقال: 77 - {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}؟ أَي أَيلومونهم على التحدث: بما فتح الله عليهم، مخافة أَن تقوم عليهم الحجة، ولا يعلمون أن الله- سبحانه وتعالي-محيط بما يسرونه من أقوالهم عن الؤمنين، ومايعلنونه

من النفاق، فلا تخفى عليه خمافية من أمرهم، وأنه مطْلع رسوله- صلى الله عليه وسلم- بالوحى عل كيدهم فتحصل المحاجة، كما حدث في آية الرجم، وتحريم بعض المحرمات عليهم؛ فأي فائدة في اللوم والعتاب؟ فليرتدعوا عن ذلك وينزجروا، ويدخلوا في الإيمان بقلوبهم. والاستفهام في (أوَ لَا يَعْلَمُونَ): إنكاري: مؤْذن بشناعة نفاق المنافقين منهم، وقبح اللوم من أصحابهم لهم، على اطلاع المؤمنين على صفة الرسول وغيرها في التوراة، مع علمهم أن الله يعلم سرهم ونجواهم. {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} المفردات: {أُمِّيُّونَ}: جمع أُمي، وهو الذي لأ يقرأ ولا، يكتب، منسوب إِلى الأم، إِيذانا بأنه- في الخلو عن العلم والكتابة- كما ولدته أُمه. {أَمَانِيَّ}: جمع: أُمنية، وهي في الأصل، ما يقدره الإِنسان في نفسه، مأْخوذة من مَنَى، إذا قَدَّر. والمراد بها هنا الأَكاذيب التي أَخذوها عن شَياطينهم المحرفين للتوراة، كما قاله ابن عباس ومجاهد. {فَوَيْلٌ لَهُمْ}: الويل في الأصل، مصدر لا فعل له من لفظه، مثل ويح، والمعنى هلاك لهم وشدة عذاب. وهى كلة دعاءٍ.

التفسير بعد أن بين الله -سبحانه- جنايات اليهود في ماضيهم وحاضرهم، وفي جملتها تحريفهم لكتاب الله التوراة، من بعد ما عقلوه، عقَّب ذلك بذكر فريق جاهل منهم: تأَثر بتحريف أحبارهم، وضل بإضلالهم، وهم الأُميون فقال: 78 - {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ... } الآية. ْأي ومن هؤُلاء اليهود، عوام جهلة: لا يعرفون القراءَة ولا الكتابة، فلا يقرءُون التوراة، لا يتحققون مما فيها. ومدى علمهم بها أماني مدسوسة وأكاذيب باطلة، تلقوها عن رؤسائهم وأحبارهم، وعملوا بها تقليدًا لهم. ومن هذه الأُمنيات والأكاذيب: أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأَن الله -سبحانه وتعالى- يعفو عنهم ويرحمهم، وإن كفروا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أَياما معدودات، وأنهم صفوة الإنسانية، وشعب الله المختار لعمارة الأرض، وأَنهم أبناءُ الله وأخباوه، وأَن السيطرة على الناس لهم، وغير ذلك من الأماني التي تمنوها، فهؤُلاءِ- ضلوا، تبعًا لأضاليل أَحبارهم. والاستثناءُ في قوله {إِلَّا أَمَانِيَّ}: منقطع عن الكتاب وليس. متصلا به؛ لأَن أمانيهم الكاذبة المذكورة، لا توجد في كتابهم، فهي من اختراع أَحبارهم. فإلا بمعنى: لكن، أي: لكن يعتقدون أَماني فارغة: لا أصل ولا حقيقة لها. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}: أي وما هم إلا قوم يظنون، المراد من الظن هنا، الكذب أو التوهم، أَي: وما هم إلا قوم يكذبون أَو يتوهمون هذا، فلا علم عندهم بما يقولون، ولا دليل عليه، فأنى يرجى منهم الإيمان بالرسول وهم على هذه الاوهام، مغرورون بتلك الأماني! ثم أنذر الله -سبحانه- الأَحبار المحرفين للحق بالهلاك، فقال: 79 - {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ... } الآية.

أي هلاك عظيم لهؤلاء الذين يحرفون كتاب الله، وهو التوراة، إذ يكتبونها بأيديهم، ويدسون فيها أكاذيبهم، وما يحفظ عليهم رياستهم وجاههم، موهمين العوام أنها من عند الله، ليحملوهم على اعتقادها، والتعلق بالأماني - التي زيفوها في التوراة: يبتغون بهذا الفعل ثمنًا قليلًا، هو: الاحتفاظ بالرياسة، وأكل أموال الناس بالباطل. وهم بهذا يرتكبون. أكبر جريمة، وهي: افتراءُ الكذب على الله، ويختارون الباطل وينبذون الحق، فيكونون بذلك: كمن يبيع شيئا نفيسًا غالى القيمة. بثمن تافه! وسبب ذلك: أنه لما ضعف أمر علمائهم في أمتهم، عمدوا إلى أمور تصرف الناس إليهم وألحقوها بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله ليقبلوه عنهم، فتتأكد رياستهم. وكان مما أحدثوا فيها أن قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا في الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (¬1): يعنون بالأُميين: العرب، ويعنون بأنهم ليس عليهم في الأُميين سبيل: أن ما أخذوا من أموالهم فهو حل لهم، ومنه قولهم: لا يضرنا ذنب، فنحن أبناءُ الله وأحباؤُه، وأن النار لن تمسنا إلا أياما معدودات. إلى غير ذلك مما كذبهم الله فيه فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}: من تحريف كلام الله، وتبديله، وسوء تأْويله {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} بالباطل من جاء ورياسة ومال. وتكرير الويل هنا؛ لتأْكيد الوعيد، وتعليله صراحة بالتزوير في الحق، وبكسبهم الحرام، بعد الإشعار به في صدر الآية {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. وإنما قيد الكتابة با لأيدي، مع أنها لا تكون إلا بها، لتحقيق مباشرفهم ما حرفوه، زيادة في تقبيح أَفعالهم، ولتأكيد القصد إلى التحريف، ليشتروا به ثمناَ قليلًا. ولأن الأيدى جوارح تقع بها أكثر الجنايات. وقدم الكتابة وأَخر: يكسبون؛ لأن الكتابة مقدمة، وإلكسب مترتب عليها، فالكتابة سبب، والكسب مسبب عنها. ¬

_ (¬1) آل عمران 75

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)} المفردات: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ}: لن تصيبنا، والمس: اتصال أحد الشميئين بآخر واصابته له. {أَيَّامًا مَعْدُودَةً}: يضبطها العد، فهي إذن قليلة {بَلَى}: حرف جواب كنعم، إلا أنها لا تقع إلا جوابًا لنفي متقدم، سواءً أدخله استفهام أَم لا، وتفيد إثبات ما بعدها. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}: الخطيئة: السيئة التي استمكنت من النفس، وحملتها على تجنب الصواب عمدًا، وإِحاطتها به: شمولها له واستيلاؤُها على جميع تصرفاته، كما يحيط الثوب بلابسه. التفسير اليهود أهل غرور وزعم باطل، فهم يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، ولذا عطف القرآن على ما سبق، ضربًا آخر من ضروب غرورهم، وافترائهم الكدب على الله وهم يعلمون، فقال: 80 - {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ... } الآية. إدًعى هؤلاء اليهود أن النار لا تمسهم في الآخرة ولا تصيبهم إلا أياما قليلة يضبطها العد. مثل اهذا الكلام الذي قالوه؛ لا يجوز قوله أو اعتقاد مدلوله، إلا بعهد من الله -

تعالى - مالك يوم الدين، الذي يقضى فيه بدخول الجنة والنار، ولا معقب لحكمه. ولذا أمر الله نبيه أن يرد عليهم موبخًا ومبكتًا بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا}. بأن النار لن تمسكم إلا أيامًا معدودة؟! والاستفهام في {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا} للإنكار والنفى، أي: لسنتم على .. عهد من الله بما تدعون. أما قوله تعالى: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} فهو جواب شرط مقدر، أي إن صح أن لكم عهدا عنده -تعالى- بما قلتم، فلن يخلف الله عهده. وإِظهار لفظ الجلالة في موضع الإضمار؛ للإشعار بعلة الحكم. فإن عدم الخلف في العهد من أَحكام إلأُلوهية. ثم أكد توبيخهم على ما افترَوه على الله فقال: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي بل أتقولون على الله ما لا دليل لكم عليه، فأنتم تفترون على الله الكذب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (¬1). وإنما وبّخهم على قولهم على الله ما لا يعلمون وقوعه- مع أن ما أسندوه إليه يعلمون أنه لم يقع- للمبالغة في التوبيخ والنكير. فان التوببخ على الادنى مستلزم للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأولى. ثم أبطل الله دعواهم على وجه أعم وأشمل، لهم ولسائر الكفرة بقوله: 81 - {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي بلى: تصيبكم النار فيصهر بها ما في بطونكم والجلود، أنتم وغيركم ممن سار سيرتكم، وأحاطت به خطيئته مثلكم، وتلازمكم وإِياهم النار خالدين فيها، لأَن القانون الإلهى العادل، الذي شرعه رب العالمين: أن من كفر بالله، وعمل السيئات، واستولت عليه الخطايا حتى صار لا يخلو منها، فأُولئك أصحاب النار، أي الملازمون لها في الآخرة. هم فيها خالدون لا يبرحونها. ¬

_ (¬1) الزمر:60.

وقد دل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} على أنه لم يبق جانب من قلبه ولسانه وجوارحه إلا اشتملت عليه سيئته وخطيئته، واستولت عليه. وهذا لا يتحقق إِلا فى الكافر. ولذلك فسر علماءُ السلف: السيئة والخطيئة في الآية بالكفر. وقد روى ذلكَ عن ابن عباس وأبى هريرة، ومجاهد وعطاءٍ وغيرهم. ويشهد لهذا: أن الجزاءَ عليهما هو الخلود في النار، كما نص عليه قوله تعالي: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. كما آذن به تعقيب هذه الآية بثواب المؤمنين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وبهذا التأْويل. لا يحتج بالآية على خلود أصحاب الكبيرة في النار. وفى الآية تحذير شديد. من ارتكاب السيئات، فانها تؤدى إلى التمادى فيها، فلا يبالي صاحبها بالكفر، فعلى من يرتكب سيئة أَن يبادر بالتوبة منها، فإن من لم يبادر بها، أَحاطت الخطيئة بقلبه، فاصبح مظلمًا لا ينفذ إليه النور، فيكفر، والعياذ بالله تعالى. قال - صلى الله عليه وسلم - "إن العبد إذا أذنب ذنبًا نُكِتَتْ في قلبه نُكْتةً سوداءُ. فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله -تعالى- في القرآن: "كلا بَلْ (¬1) رَانَ عَلَى قُلوبِهِمْ ما كَانُوا يَكْسِبُونَ" (¬2). وفي هذه الحالة تحيط به الخطايا، كأنه محبوس فيها لايجد لنفسه منها مخرجا. وجريا على سنة القرآن في ذكر الوعيد مقرونا بالوعد، ترهيبا وترغيبا، أردف ذلك الوعيد ببيان في جزاءِ المؤمنين الصادقين في الإيمان، ليظهر الفرق بين الاشقياءِ والسعداءِ، فقال سبحانه: 82 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أَي والذين جمعوا بين الإيمان الصحبح، ومايترتب عليه من أَعمال صالحة؛ أولئك هم أصحاب الجنة الجديرون بدخولها، بحسب وعدالله وفضله. هم فيها خالدون: منعمون بكل ما يشتهون. ¬

_ (¬1) السين للسكتة فى التلاوة وسط الكلام. (¬2) سورة المطففين: الآية 14؛ والحديث رواه أحمد والترمذى والحاكم والنسائى وغيرهم.

وترتيب الإثابة بالجنة على الإيمان والعمل الصالح: يؤذن بأن العمل الصالح، لا بد منه للحصول محل هذا الثواب، فهو الدليل على صدق الإيمان وقوته، وحياته، فكما أَن أغصان الشجرة وثمارها، دليل على حياة الشجرة وقوتها، فكذلك العمل الصالح، دليل - على حياة الإيمان وقوته. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} المفردات: {مِيثَاقَ}: الميثاق: العهد المؤَكد. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: أي وتحسنون بالوالدين إحسانا مطلقا بلا حدود. {وَالْمَسَاكِينِ}: الذين أذلتهم الحاجة وأسكنتهم. {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: أي قولوا لهم قولًا حسنا، وهو ما تطيب به النفوس. ومنه الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، في غير عنف ولا خشرنة. التفسير شروع في ذكر بعض القبائح التي ورثها اليهود المعاصرون للرسول عن أَسلافهم، ممَّا يجعل الإيمان مستبعدًا منهم، ويحمل المؤمنين على ألا يطمعوا فيه. وذلك أَنهم تولَّوا مدبرين عما أخذ عليهم العهد به من الفضائل. ومن كانوا كذلك، فلا ينبغى أَن يطمع المؤمنون في إيمانهم. 83 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... } الآية. أي واذكروا أيها المومنون، وقت أن أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وعاهدناهم عهدًا مُؤكدا في التوراة: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} أَي وقلنا لهم فى العهد: لا تعبد ون إلا الله،

والمقصود منه: نهيهم عن عبادتهم لغيره تعالى، فهو نفى بمعنى النهى، أي لا تعبدوا غيره تعالى، وهذا نظير قولك لشخص: تذهب إلى فلان وتقول له كذا، فهو بمعنى: اذهب إليه وقل له كذا، وهو أبلغ من صريح النهى، لما فيه من الإيذان بأنه ينبغى أن يسارع المنهى إلى الامتثال، حتى يخبر عنه بأنه امتثل فعلا، وانصَ عما نهى عنه. والميثاق - بالتوحيد وغيره من العقائد وأمهات الشرائع والأخلاق - مأخوذ على جميع الأمم، كما أُخذ على بني إسرائيل، فلا خلاف بينها إلا في فروع الشرائع.، فإنها تختلف تبعًا للزمان والأَجيال؛ رعاية لمصلحة البشر، بحسب التطور الإنسانى. والمراد من أَخذ الله الميثاق عليهم بالأُمور الآتية: توصيتهم بالعمل بها توصية مؤكدة في التوراة التي أنزلها على موسى -عليه السلامِ- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: وأَخذ الله عليهم العهد أَيضًا: بأَن يحسنوا إلى الوالدين وهذا الإحسان المأْمور به عامّ: يدخل فيه جميع مايجب لها من أنواع الرعاية والعناية، وقد قرن الله -سبحانه وتعالى- الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته؛ لما الوالدين من الفضل الكبير على الولد؛ لأنهما بَذَلاَ الكثير من العنابة الصادقة في تربيته والقيام بشئونه، أيام أن كان ضعيفًا عاجزَا، وكفلاه حتى قدر على الاستقلال، والقيام، بشئون نفسه، مع الحنان العظيم، لا يبغيان من وراء ذلك أَية مصلحة تعود عليهما، فهما أحق بالعناية والرعاية، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وتنكير الإحسان في قوله: {إِحسَانًا}؛ للإيذان بتعميمه، وإِبلاغه، إلى أَقصى مداه. {وَذِي الْقُرْبَى}: أي وأوصيناهم بالإحسان كذلك إلى ذوى القربى، وهم: مَن تكون بينهم وبين الإنسان صلة قرابة من جهة الأب أو إلاَّم، والإحسان إليهم هو: القيام بما يحتاجون إليه بقدر الطاقة، وذلك تقوية للروابط بين الأقارب ولأن من لا خير فيه لذوي قرابته فلا خير يرجى منه لغيرهم. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: أي وأخذ عليهم الميثاق أيضًا: بالإحسان إلى اليتامى والمساكين.

واليتامى هم: الذين مات آباؤهم وهم في دون البلوغ، فهم لهذا في أَمس الحاجة إلى الإحسان، ويكون: بالكلمة الطيبة، والتوجيه الرشيد، والرعاية الحانية، والمعونة بالمال؛ إن احتاجوا إليها. وفي القرآن والسنة كثير من الوصايا باليتامى؛ ليجدوا من المسلمين الكرماءِ العاملين؛ بدينهم، ما يعوضهم، عن فقد آبائهم، ولأن الإحسان إِليهم والرحمة بهم، حماية للمجتمع؛ حتى لا يكونوا عنصر شرٍّ وإفساد فيه. ومن أهل الحاجة الذين أَوصاهم الله بالإحسان إليهم أَيضًا: المساكين الذين لا يقدرون على الكسب، أَو لا يكفيهم ما يكسبونه، ففي العناية بهم تعاون وتكافل، وإِقامة للمجتمع على أسس من التوادّ والتراحم. {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}: ومن جملة الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يقولوا للناس قولًا حسنا، كالنصيحة لهم، والأَمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة ولين الجانب، والمخاطبة بما تطيب به نفوسهم؛ وعدم الإساءَة إليهم بالقول والخشونة؛ فإن الفظاظة والغلظة لا تليق بأَهل الشرائع السماوية. وقد اشتمل المثاق على وجوب إِفراد الله -تعالى- بالعبادة والتوحيد، وهو الأَهم. ولذلك قدم الأمر بهءلى سواه، ثم عطف عليه الأمر بالإحسان إلى العباد فى معاملتهم. ولمَّا كانوا متفاوتين. فى ذلك، بدأ بأحقهم وهما الوالدان، ثم أَتبعهما ذوي القربى؛ رعاية لحق القرابة، ثم اليتامى لضعفهم، ثم المساكين سدًا لحاجتهم، ثم سائرالناس، بما هو مقدورلكل أحد، وهو الإحسان بالقول، بأن يلقوهم بالطيب من القول ويجتنبوا إيذاءَهم. فهذا النوع من الإحسان سهل هين على النفوس: يقدر عليه كل إنسان، ويستطيع أداءَه في كل حال، فلا عذر لتاركه. ومن هذا نرى: أن هذا العهد قد اشتمل- بالإجمال- على أهم المقاصد للشرائع السماوية. فهى تكون أَولا: داعية إلى تطهير العقول والقلوب من رجس الوثينة، وإخلاص العبادة لله وحده وتكون -ثانيا: لإصلاح المجتمع، وأول إصلاحه: رعاية الأَقارب والضعفاء - واليهود لا يفعلون ذلك.

ومما أخذ الله به الميثاق على اليهود، وفرضه عليهم في كتابهم، ما حكاه بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإقامة الصلاه: أداؤُها تامة مستوفية الشرائط والأَركان. وإيتاءُ الزكاة: إعطاؤُها لمستحقيها. والصلاة التى أُمر بنو إسرائيل بإقامتها، والزكاة التى أُمروا بإتيانها هما: الصلاة والزكاة المشروعتان في ديانتهم. وقد ذكر ذلك كله , ليعقب عليه: أنهم أعرضوا عما أخذ عليهم الميثاق بأدائه، كما سيجيءُ؛ حتى يعلم المؤمنون أَن نقض اليهود لمواثيق الله مرض قديم فيهم، فلا ينبغى للمؤمنين. أَن يطمعوا في إيمانهم. ومع أن اقامة الصلاة وإِبتاء الزكاة؛ داخلان في عبادة الله التي أخذ بها الميثاق على بني إسرائيل، فإنه-تعالى- أَفردهما بالذكر- بعد الإحسان إلى الوالدبن والأقربين وأَصحاب الحاجات- لعظم شأْن- هاتين العبادتين, ولما للصلاةْ من الأثر اكبير في تربية النفس، والنهي عن الفحشاء والمنكر، والخشوع لعظمة الله، ولما في الزكاة من تخفيف ويلات الفقر والبؤْس عن المحتاجين، وحسن الصلة بالمجتمع عن طريق الإحسان. إليه. هذا هو الميثاق الذي أَخذه الله على بني إسرائيل في التوراة، فماذا كان من شأْنهم؟ هل التزموا العمل بهذا الميثاق؟ إنهم لم يلتزموه، وكانت حالهم كما قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}: فقد أفصحت الآية عما كان من أكثرهم- بعد أَخذ الميثاق عليهم، بما فيه خيرهم وسعادتهم- وهو أنهم تولوا عن العمل به، وهم معرضون غير مكترثين بما يترتب على اعراضهم .. أَما القليلون منهم فإنهم التزموا العمل بالميثاق، وحافظوا على تنفيذه، وهم المخلصون في إيمانهم من أسلافهم- قبل أن تنسخ شريعتهم بالإسلام- ومن آمن منهم بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وحافظ على هذا الميثاق الموجود في سائر الأديان، كعبد الله بن سلام, وزيد بت سعنة. وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} لتأكيد توليهم، أَي ثم توليتم وأَعرضتم عن تنفيذ هذا الميثاق، وأَنتم قوم عادتكم التولي والإعراض عن المواثيق، وهي عادة ورثتموها عن آبائكم، ويؤخذ كونه عادة لهم من الجملة الإسمية الدالة على الثبوت. {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}.

وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب للحاضرين من اليهود فى قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} , لأَنهم خلف لهؤلاء السابقين، في السير على نهجهم فى نقض العهود وعدم احترام المواثيق, فكأَنهم هم، فلذا خوطوا بتوليهم وإِعراضهم. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} المفردات: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}: تريقونها، بأن يقتل بعضكم بعضًا. ْ {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ}: أصله تتظاهرون، فحذفت إحدت التاءَين تخفيفا، أَي تتعاونون عليهم. {بِالْإِثْمِ}: هو الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم والملام. {وَالْعُدْوَانِ}: هو التجاوز في الظلم. {أُسَارَى}: جمع أسير، بمعنى مأْسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر والغلبة. {تُفَادُوهُمْ}: تنقذهم بدفع الفداء، وهو ما بدفع في فك الأَسير.

{خِزْيٌ}: هوان. {يُرَدُّونَ}: يرجعون. {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}: آثروا متاعها على نعيم الآخرة. التفسير ذكر الله بني إسرائيل فى الآية السابقة , بأَهم الأَوامر التي أَخذوا العهد عليهم بالإتيان بها، وأنهم لم يأتمررا بها. ونقضوا الميثاق الذى واثقهم به. وهنا، ذكَّرهم بأهم المنهيات, التى أخذ الميثاق عليهم في التوراة: بأَن ينتهوا عنها، فلم ينتهوا. على سياق الالتفاف إلى الخطاب الذي ختمت به الآية السابقة. فإن الميثاق بذلك - وإن كان على أسلافهم- غير أن المعاصرين منهم للدعودة الإِسلامية. يزعمون تمسكهم بالتوراة، وأنهم عاملون بها. فلذا خوطبوا بأنهم خالفوا ما أخذ عليهم فيها من المواثيق كما صنع أسلافهم. وذلك لإلزامهم بما يزعمون تمسكهم به. وقدم توبيخهم على ترك امتثال الأوامر ,على التوبيخ على عدم اجتناب النهيات؛ لأَن الأوامر هي الاصل فى التكاليف الشرعية. كل نهى عن فعل، أمر بضده. فالنهي عن الزنى, أمر بالعفة , وهكذا , فالأَمر هو الأساس. والنهي تابع له. 84 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أخذ الله عليهم الميثاق بأ إلاَّ يسفك بعضهم دم بعض.: عبر عنه بقوله: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}:إشعار بأن دم كل فرد من أفراد الأُمة ,كأنه دم الآخر. فإذا سفكه فكأنه سفك دم نفسه. وكذلك واثقهم ألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، كما بينه بقوله: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}: يدخل فى معنى الإِخراج من الديار المنهى عنه: أن يتصدى الرجل لايذاء جاره، حتى يلجئه إِلى الخروج من داره.

ومن الإخراج: أن يكونوا سببا فيه، كما حدث من اليهود في خيانتهم لعهودهم مع المسلمين، إذ كانت خيانتهم لهم، سببا في إخراجهم من ديارهم حول المدينة عقايا لهم. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}:ثم أنتم -أيها المعاصرون للنبى - صلى الله عليه وسلم - قد أقررتم بهذا الميثاق، واعترفتم بلزوم العمل بمقتضاه، وأنتم تشهدون على أنفسكم باعترافكم به، ولزوم العمل بمفتضاه، وذلك مثل قولك: أقر فلان بكذا شاهدًا على نفسه. أو المعنى: وأنتم تشهدون اليوم على أسلافكم: أنهم أقروا بهذا الميثاق. وسواءٌ أكان المعنى هذا، أم ذاك، فإنه يقتضى أَن يعمل اليهود المعاصرون للرسول، بالميثاق الذي أخذه الله على اليهود في كتابهم، حيث إنهم معترفون به، زاعمون أنهم متمسكون بالتوراة. وهذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون وما يعترفون به، لا من باب أن التوراة لا يزالون مكلفين باتباعها، فقد نسخت بالقرآن. وقد تضمن هذا الميثاق أربعة أمور تعتبر أساسا لمجتمع فاضل، يسوده السلامِ والطمأنينة، والعدالة والمودة والرحمة: ألا يسفك بعضهم دم بعض، وألا يخرجه من داره، وألا يتظاهر عليه بالإثم والعدوان، وأن يفتديه إذا أُسر. ولكنهم لم يعملوا بهذا الميثاق، كما تحدثت به الآية الكريمة، إذ تقول: 85 - {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ ... } الآية. وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ}: خطاب خاص باليهود المعاصرين للرسول، فيه توبيخ شديد لهم واستنكار واستبعادٌ قوىّ. لما ارتكبوه بعد إقرارهم الميثاق، وشهادتهم عليه. و {أَنْتُمْ}: مبتدأ، و {هَؤُلَاءِ}: خبره. ومناط الإفادة اختلاف الصفات، وإن اتحدت الذات، إِذ المعنى: ثم أنتم- بعد ذلك الميثاق والإقرار والشهادة- هؤُلاءِ] المشاهدون الناقضون المتناقضون، كما تعرب عنه الجمل الآتية: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ... } إلخ، فإنها بيان للخبر، وتفصيل لأحوالهم المدرجة تحت إسم الإشارة ضمنا ة كأنهم قالوا: كيف نحن؛ فقيل: تقتلون أنفسكم، وذلك يشبه قولك: أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا وكذا.

وقال الفراءُ: هؤلاءِ، هنا: اسم موصول بمعنى، الذين وما بعد. صلة. {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}: أي تتعاونون عليهم قتلا وإخراجا آثمين فى حقهم, معتدين ظالمين فيما تصنعونه بهم. {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}: أي وأنتم مع قتل بعضكم بعضا، وإخراج بعضكم بعضا من ديارهم , إذا وجدتم الذين أخرجتموهم من ديارهم، أسرى في أيدى غيركم من الأعداءِ؛ تسعون لفكهم. وتبذلون عوضا لإطلاقهم، وهذا من التناقض العجيب، حيث استحللتم اخراجهم وتعريضهم للأسر. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}: فكيف تخرجونهم من ديارهم ,وتستحلُّون ذلك ,وهوحرام عليكم في التوراة , وإذا صاروا في الأسر بإخراجكم لهم فاديتموهم؟ أَليس هذا نقضا للميثاق. في جانب، وعملا في جانب آخر؟ فلماذا لم تتبعوا حكمها فى النهي عن إخراجهم، رقد اتبعتموه في افتدائهم؟ فقد جاءَ فيها أنه -تعالى.- أَخذ عليهم الميثاق: ألا يقتل بعضهم بعضا، أو يخرجه من داره، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرا ئيل، فاشتروه واعتقوه. وكان اليهود من بني قريظة وبنى النضير يقيمون بالمدينة، ويحالف الأولون الأوس، والآخرون الخزرج، فكانت الحرب وإذا قامت في الجاهلية بين الأَوس والخزرج، انضم إلى كل فريق منهما حليفه من اليهود، وقتل بعض اليهود بعضا، أَو أخرجوهم من ديارهم ,وبعد الحرب: يفدى كل فريق منهم، أسرى الفريق الآخر عند حلفائهم، فعيرتهم العرب، وقالت: كيف تقاتلونهم، ثم تفدرنهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم، ولكن نستحيى أن نذل خلفاءنا؛ فذمَّهم الله على تناقضهم فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ}، فتفدون أسراكم، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم؟ إذ لو كانوا يؤمنون به كله لما تناقضوا في العمل به. والاستفهام للإنكار والتوبيخ, على والتفريق بين أحكام الله التي أخذ عليهم العهد بالعمل بما في التوراة.

ومناط التوبيخ والإنكار، هو كفرهم ببعضها مع إيمانهم ببعضها الآخر، وسمى عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا، إبرازا لشناعة ما ارتكبوه، بتنزيله منزلة الكفر بأحكام التوراة. لذا توعدهم الله، تعالى- عل عصيانهم بنقضهم الميثاق النزل منزلة الكفر- بالخزي العاجل في الحياة الدنيا، والعذاب في الآخرة. فقال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ}: فالإشارة في قوله {ذَلِكَ}: راجعة إلى القتل والإخراج من الديار: الذين نقضوا بهما عهد الله بغيا وكفرا. والمراد بالخزي في الحياة الدنيا, الذل والهوان مع الفضيحة بين الناس، إذ كانت العرب تعيرهم بقتلهم لذويهم، مع أنهم يفادون أسراهم، ثم ما تلا ذلك من قتل بنى قريظة وإجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام، وفي ذلك أعظم الخزى. وتنكيير الخزي لتهويله. ووعيدهم بالعقاب على مخالفتهم التوراة مع أنها نسخت بالقرآن: أَما لأن ما فعلوه بقومهم، كان قبل البعثة. وهم كانوا حينئذ، مكلفين بالتوراة، أو لأن القرآن لا يقر الظلم، كما لم تقره التوراة. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}: أَي أن هذا الخزى الذي نزل بهم في الدنيا، لا يكفر عنهم سيئاتهم، وإنما يصيرون الى أشد أنواع العذاب يوم القيامة. والمراد من قوله: {يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}: أنهم يعاقبون به وينتهون إليه. وبهذا التفسير لا يقال: إن الرد إلى أشد العذاب يقتضى أنهم كانوا فيه قبل ذلك. والتعبير بقوله {يُرَدُّونَ} بضمير الغيبة، للإيدان بعموم هذه العقوبة لمن يكون على هذا الكفر، وأَنها لا تختص بالمخاطبين من قبل، كما أن تحويل الكلام من أُسلوب الخطاب السابق إلى الغيبة هنا، يؤْذن بالإعراض عن خطابهم؛ لعظيم جرمهم. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: وليس الله بساهٍ عن أعمالهم القبيحة، التي من جملتها هذا المنكر، بل هوعالم ومحيط بها، ومجازيهم عليها.

قد عاد الاقرآن إلى أسلوب الخطاب ف قوله لليهود: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. بعد أسلوب الغيبة المؤْذن بالإعراض في قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}. للمبالغة فى التهديد والوعيد. ثم أكد الله عليهم الوعيد الشديد , مبينا السبب الذي من اجله استحقوه بقوله: 86 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... } الآية. أَي آثروا متا عها من نحو الرياسة والمال ,وكل ما ينتفعون به من حظوظ عاجلة: آثروه على نعيم الآخرة. فأَعرضوا عنها, وتركرا شرح الله. مع علمهم أن متاع الدنيا قليل. وأَن الآخرة خير للمتقين. والإِشارة إِلى المذكورين بأَوصافهم، فيها بيان أن تلك الأوصاف هي السبب فيما توعدهم الله به. وليس فيما صنعوا شراءُ وبيع على الحقيقة ,ولكنهم لما جعلوا حظوظهم من نعيم الآخرة المقيم ,بدلا لما تمتعوابه في الحياة الدنيا الفانية. شبهت حالهم هذه بحال من يشترى شيئًا هينا، ب بثمن خطير عظيم، من حيث عدم تكافؤ قيمة البدل والمبدل منه فى كل. فإنهم لما كفروا ببعض أحكام التوراة، كان ثمنهم على هذا الكفر مرضاة حلفائهم، وبعض المنافع الدنيوية التافهة- على رأى- أو بقاء رياستهم الدينية فى قومهم - على رأى آخر- وكلا هما متاع الحياة الدنيا الذي لايساوى سيئًا بجانب نعيم الآخرة المقيم. {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: أىَ كل هؤلاء الذين تقدم ذكرهم- وقد آثروا متاع الدنيا عوضًا عن نعيم الآخرة- لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يُقطع عنهم، ثم لا يجدونا نص هيرا يدفع عنهم- بقوته أو بشفاعته- ما وقعوا فيه من أشد العذاب، لأن أعمالهم قد سدت عليهم جميع أبواب الرحمة، فهم في العذاب الشديد خالدون.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} المفردات: {الْكِتَابَ}: التوراة. {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} أي: بعثناهم على أَثره إليهم يقال: قفاه به أي: أَتبهه إياه وأَرسله على أثره {الْبَيِّنَاتِ} الآيات الواضحة الدالة على نبوته. {وَأَيَّدْنَاهُ}: قويناه, من آد الرجل إذا اشتد وقوى. {بِرُوحِ الْقُدُسِ}: القدس: الطهاة. وروح القدس: هو جبربل -عليه السلام- أَي الروح المطهر. {غُلْفٌ}: جمع أَغلف أي: مغشاة بأغلفة مانعة من وصول الهدى إليها {يَسْتَفْتِحُونَ}: يستنصرون من الاستفتاح، وهو طلب الفتح والنصرة. {فَلَعْنَةُ اللَّهِ} اللعنة: الإبعاد والطرد من مواقع رحمة الله. التفسير 87 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ... } الآية. ْهذا تذكير من الله لبنى إسرائيل، بضرب من النعم التي أنعم بها عليهم، فقابلوها بالكفر والعصيان. وهي أن الله -سبحانه وتعالى- أَرسل موسى -عليه السلام- إليهم، وآتاهم التوراة فيها هدى ونور لهدايتهم.

{وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}:وأتبعناه بالرسل تترى -ومن هؤلاءِ الرسل: يوشع وداود وسليمان، وعزير وإلياس واليسع، ويونس وزكريا ويحيى- عليهم السلام- فلم يكن لبني إسرائيل عذر يعتذرون به عن مخالفة هؤلاء الأنبياء. وكثرة الرسل فيهم ليست لأنهم شعب الله المختار، أو أنهم أَبناء الله واحباؤه كما يزعمون، بل لغلظة قلوبهم، وصعوبة انقيادهم. وليتوالي تفسير التوراة لهم بما تلاها من أسفار رسل بني إسرئيل، ولطول الفترة بين موسى وعيسى - عليهما السلام -، فقدكانت خمسا وعشرين وتسعمائة وألف سنه. على ماقيل. {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}: وأرسل الله إليهم في أعقاب أولئك الرسل عيسى ابن مريم، وأعطاه الآيات الواضحة الدالة على نبوته. كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. والإخبار ببعض المغيبات. وكذلك آيات الإنجيل، وإضافة عيسى إلى أُمه، للرد على اليهود الذين زعموا أن له والدا. وقالوا فيه فى أُمه ما قالوا, فأساءوا إلى الحق المؤيد بالمعجزات. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}:أي قواه الله تعالى -بجبريل الأمين الذى يؤيد الله به أنبياءَه. وإطلاق روح القدس على جبريل فى الإسلام شائع. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "قل وروح القدس معك" (¬2).وقال له مرة أُخرى:"وجبريل معك" (¬3).وكان حظه معهم كحظ من سبقه من الرسل. وإنما خص عيسى -عليه السلام -بالذكرمن بين أنبياءِ بني إسرائيل؛ لكونه صاحب كتاب نسخ بعض أَحكام شريعة موسى -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) النحل:102. (¬2) قال عمر لحسان: أنشدك الله. أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أجب عنى، اللهم أيده بروح القدس" قال: (اللهم نعم) رواه مسلم عن أبي هريرة. (¬3) عن البراء- رضي الله عنه قال: سمعت ر سول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان ابن ثابت "أهجهم أو هاجهم. وجبريل معك" رواه مسلم.

وقوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ}:من أولئكم الرسل {بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ}: من الحق المبين {اسْتَكْبَرْتُمْ}: على الاستجابة له {فَفَرِيقًا}:منهم {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}: غير مكتفين بتكذيبهم. والاستفهام للانكار والتوبيخ على موالاة تكذيب الرسل وقتل بعضهم. وفي الآية التفات من الغيبة في قوله تعالى: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، إلى الخطاب في قوله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ ... } والآية لتشديد النكير عليهم، والإِيذان بأن المعاصرين للرسول منهم على نهج أَسلافهم، من التكذيب والفجور. فقد كذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- وحاولوا قتله. ولقد ذكرت الآية الكريمة أن السبب في ضلالهم هو: الاستكبار والاستعلاءُ. فهذا الاستكبار جعل هواهم هو المتحكم فيهم، فلا يتبعون إلا ما يناسب هوهم، حتى جعلوه إلهم فأداهم ذلك إلى أن يكذّ بوا النبيين أويقتلوهم، إن تمكثوا من قتلهم. وعبر فى جانب القتل بالفعل المضارع فقال {تَقْتُلُونَ} ولم يقل: قتلتم، كما قال كذبتم، استحضار لصورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله كأنه ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أَبلغ، واستفظاعه لها أَعظم. وعقب الله هذه الجنايات بأُخرى: حكاها عنهم بأُسلوب الغيبة -إ عراضًا عنهم - فقال سبحانه. 88 - {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ... } الآية. أَصر اليهود على العناد والكفر ,وعدم الاستماع إلى ما يد عوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - معللين عدم إيمانهم، بأَن قلوبهم, مغشاة بأَغطية لا ينفذ منها إلى قلوبهم ماجاءَ به - صلوات الله عليه- حتى تفقهه عقولهم، على حد قول ومشركي مكة {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (¬1) يعنون أَن ¬

_ (¬1) فصلت: 5.

قلوبهم ليس فيها استعداد لقبول ماجاءَ به النبى - صلى الله عليه وسلم - وقد كذبوا، فانه دين الفطرة، فلو تركوا فطرتهم - كما خلقت عليه- لقبلته وآمنت به، ولكنهم أساءُوا الاختيار، ففسدت فطرتهم. ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}. و (بل) هنا للإضراب الإبطالى ,ورد ما يقولون ,أَي: ليس الأمر كما زعموا ,بل ابعدهم الله عن رحمته، بأَن خذلهم وتركهم وشأنهم، بسبب إصرارهم على الكفر، لسوءَ اختيارهم الذي أبطلوا به استعدادهم الفطرى لقبول الهدى، فاستحقوا بذلك أن يحرمهم الله من لطفه ورحمته. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1) ثم ختم الآية بالنتيجة فقال: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} الفاء في {فَقَلِيلًا} افادت ترتب ما بعدها- وهو قلة إِيمانهم- على ما قبلها، وهو لعن الله لهم. وقليلا صفة لمحذوف، و (ما)؛ صلة لتأْكيد القلة، وليست نافية. أَي: فإيمانا قليلًا يؤْمنون. والمقصود من القلة العدم، أَي. لا يؤْمنون أصلا، لأَن الإيمان الشرعى لا يتجزأُ فإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض الآخر. لا يعتبر إيمان بل كفرا، واستعمال القِلَّة بمعنى العدم معروف في لغة العرب، يقولون: هذا شىء قلما ينفع , يريدون أَنه لا ينفع أصلا. 89 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ... } الآية. وهذا نوع آخر من ضلالات اليهود الذين كانوا في عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - وهوأنه لما جاءَهم كتاب منزل من الله- وهو القرآن مصدق للتوراة التى معهم, في التوحيد وأصول الدين، وموافق لها فما يختص ببعث النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}:وكانوا - قبل مجيئة - يستنصرون على اعدائهم من الشركين، بالنبي المبعوث فى آخر الزمان، قائلين: اللهم أنصرنا عليهم ¬

_ (¬1) آل عمران:117.

بالنبي الذي نجد نعته في التوراة. ويقولون لهم: قد أطل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا. فنقتلكم به قتل عاد وإرم. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}: تكرير للشرط الأول فى قوله {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} مع تغيير الأُسلوب , وذلك لطول العهد بسبب توسط الجملة الحالية: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} -أي: فلما جاءَهم الكتاب الذي عرفوا أنه من عند الله كفروا به. وإيراد الموصول {مَا عَرَفُوا} دون الاكتفاء بالإضمار بأن يقال لهم: فلما جاءَهم أَي الكتاب إنما جاء ليبان كمال مكابرتهم. فإن معرفتهم لما جاءَهم. من دواعي الإيمان لا الكفر. وقوله {كَفَرُوا} جواب {لمَّا} الأْولى عند المبرد. وقال أبو البقاء هو جواب الأولى والثانيه معًا. وقيل إِن المراد بلفظ {مَا عَرَفُوا} هو النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعمال {ما} فيمن يعلم كثير، كقوله تعالى {والسَّماَءِ وَماَ بَنَاهَا} (¬1) يعنى ومن بناها. وعلى هذا تكون جملة {كَفَرُوا بِهِ} جوابا عن {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} أما جواب {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ}: فمقَّدرٌ وتقديره: كذبوه. وقد دل عليه جواب الثانية. والمعنى عليه: فلما جاءَ هم الرسول- صلى الله عليه وسلم-الذي عرفوا صفاته ونبوته من التوراة: معرفة لا يخالجها ريب، حسدوه، لأنه من العرب أولاد إسماعيل، وملأ الحسد قلوبهم غيظا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}: الفاءُ لترتيب ما بعدها -من اللعن- على ما قبلها من الكفر، أًى: فلعنة الله عليهم وطرده لهم من حمته وتوفيقه، بسبب كفرهم بما عرفرا أنه الحق، وإصرارهم عليه، وإنما، قال {عَلَى الْكَافِرِينَ} ولم يقل عليهم ليشعر بأن سبب حلول اللعنة بهم هو كفرهم {وَعَلَى} تفيد استعلاءَ اللعنة عليهم وشمولها لهم. ¬

_ (¬1) الشمس: 5.

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} المفردات {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا}:بئس فعل يستعمل لإفادة الذم، والمعنى: بئس شيئًا اشتروابه أنفسهم أن يكفروا. واشتروا هنا، تستعمل للشراء والبيع. قال فى الصحاح: شرى الشيء يشريه شرى وشراء إذاباعه وإذا اشتراه أيضا وهو من الأضداد، وهو هنا بمعنى: باعوا. {بَغْيًا}،البغي الفساد، من قولهم: بغى الجرح أي فسد. والمراد منه هنا: الحسد، لأنه من فساد النفس. {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}: أي رجعو ابغضب فوق غضب، يقال: باءَ بإثمه يبوء بمعنى: رجع يرجع. {مُهِينٌ}: مذل من الهوان، وهوالذلة. التفسير 90 - {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ... } الآية. اليهود كانوا ينتظرون بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بيانه، فلما جاءَهم حسدوه، واستبدلوا بالإيمان الذي هيأ الله لهم أسبابه ليسعدوا .. استبدلوا به الكفر الذي يؤدى بهم إلى الشفاءِ الدائم، وآثروه عليه، فكان اختيار الكفر على الإيمان، بمنزلة بيع أنفسهم بالكفرإلى النار.

ولما كانت الخسارة في ذلك الاستبدال عظمة. قال سبحانه: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أي بئسما باعوها به {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ}.فالكفر هو الثمن الذي باعوا به أنفسهم، والمشترى الشيطان، أوجهنم، وكل ذلك من باب التصوير والتمثيل، لتهويل سوءِ ما اختاروه وتقبيح أمره. {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}:بسبب بغيهم وحسدهم أن ينزل الله الوحي على من يختار هـ من عباده، وهو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد حسدوه على النبوة، لما لم يكن من بني إسرائيل، بل كان من ولد إسماعيل أخى جدهم إسحاق. وكان ذلك منهم حبا في الرياسة , وتعصبا لنبى جدهم إسرئيل، دون نظرإلى الحق، يريدون أن يقصروا فضل الله عليهم ,ولا يرضون عما أعطى الله غيرهم من فضله. {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}:فرجعوا -بسبب حسدهم- بغضب من الله فوق غضب منه، أي استحقوا غضبا عظيما من الله، بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحسدهم له على فضل الله عليه. وقيل الغضب الأول اكفرهم بمحمد. الثاني لكفرهم بعيسى من قبله، فكان غضبا على غضب، بسبب كفر منهم بعد كفر، وقيل غير ذلك. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}: ولهؤلاءِ الذين عرفوا نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكفروا بها، عذاب مهين مذل. جزاء كفرهم واستكبارهم. وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذب الآخرة، وقال: {وَلِلْكَافِرِينَ} ولم يقل لهم: تعليلا للوعيد بوصف الكفر. 91 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ... الآية. أي وإذا دعوا الإيمان والتصديق بما أَنزل الله على نبيه محمَّد أَنكروا وعارضوا، وقالو مستكبرين: إنهم ى يؤْمنون إ لابما أُنزل على أَنبيائهِم، زاعمين أنه لا حق إلا عندهم.

يريدون بذلك أن يتحكموا في وحي الله وفضله، {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} (¬1) وصيغة الدعوة في قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} تحتوى على حكمة في التعبير، إذ لم يقل بما أنزل الله على محمَّد. فإنها تؤذن بوجوب الإيمان بما أنزل الله تعالى، من حيث إنه هوالذي أنزله، فليس لهم، أن يقترحوا الرسول المنزل عليه ,ويختاروه بأنفسهم ,فالأمر ليس لهم ,ولكنهم -للجاجتهم في التعصب- يكفرون بغير ما عندهم ,ولا يؤمنون إلابما يجيءُ عن طريقهم. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}، أي: ويكفرون بما عداه، مع أن ما دُعوا إليه هو احق الثابت المويد بالآيات والبراهين، حال كونه مصدقا لما عندهم، ومن كفر بما صدق كتاب فقد كفر بكتابه الذي يدعى الإيمان به. وقد أفحمهم الله بالحجة التي تدحض قولهما بقوله لرسوله محمَّد- صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي قل لهم مبكتا مفحما: إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما تزعمون، فَلمَ قتلتم أَنبياءَ الله الذين جاءُوا بما أُنزل عليكم؟. وإنما قال {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} بدلا من "فلم قتلتم".استحضارا لصورة هذا الجرم الفظيع مبالغة في التقريع والتشنيع. والخطاب للموجودين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل آباؤُهم، لرضاهم به، فإن من رضي بالمعصية، فكأَنه فاعل لها. وان كان غائبا عنها. وقد يقال إن هذا من باب قولك كل جازا لأهل قبيلة: أَنتم قتلتم فلانا إذا كان القاتل آباءهم. والمراد: أن الأمر فيكم من قديم على الكفر بكتابكم، لا على الإيمان به، فدعواكم التمسك بكتابكم، منقوضة: خلفا عن سلف. ¬

_ (¬1) الأنعام (124)

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}. المفردات: {الْعِجْلَ}:هو ما صنعه لهم السامري من الحلى. تمثالا على صورة العجل. {الطُّورَ}:هو الجبل ,المعروف في شبه جزيرة سيناءَ. {وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}:داخل قلوبهم مخالط بحب عبادة العجل. التفسير 92 - {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. ْأي ولقد أرسلنا إليهم موسى بالاَيات الواضحة، الدلة على صدقه - عليه السلام - في دعوته، وهي: العصا واليد، والسنون، ونقص الأموال والأَنفس والثمرات، الطوفان، والجراد والقمل، والضفادع والدم، وفلق البحر، وغير ذلك: (راجع الأعراف 130، 131 والآية 50 من سورة البقرة) وليس منها التوراة. فإن الآية ناطقة بأنهم عبدوا العجل بعد مجيء الآيات. والتوراة جاءَتهم بعد أن عبدوا العجل ,وموسى غائب عنهم لتلقيها من ربه، وقد غلط من عد التوراة منها. والمعنى لقد أرسلنا إليكم موسى بهذه الآيات البينات، ولكنكم كفرتم بالله وأَشركتم به، فعبدتم تمثالا للعجل صنعه السامري من حليكم، بعد مجىء موسى بهذه الآيات من ربه، وانتهزتم لذلك فرصة غيابه عنكم لتلقى ألواح التورة ,وقد فعلتم ذلك وأنتم ظالمون بالإشراك

بدل التوحيد الذي تقتضيه البينات التي جاءكم بها. وأى ظلم أعظم من هذا {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1). والتعبير بالجملة الاسمية: {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فيه دلالة على ثبات الظلم واستقرار. فيهم، وأنه شأْن من شئونهم. ولقد سبق التبكيت باتخاذهم العجل في قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} وأعيد هنا بعبارة أُخرى في سياق آخر، وهو أن الآيات البينات الدالة على النبوة والوحدانية. لم تزدهم إلا إيغالا في الشرك وانهماكما في الوثنية {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}: أي ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء موسى بالبينات على رسالته. وصحة ما دعاكم إليه من: توحيد الله بالعبادة. والتعبير بقوله {مِنْ بَعْدِهِ} يفيد أنه لم يكن لهم عذر في ذلك الاتخاذ. فإنه بعد بلوغ الدعوة، قامت الحجة عليهم. وخاطب الحاضرين لأنهم يسيرون على نهج أسلافهم ويعتزون بانتمائهم إليهم فيهم في الكفر جميعًا سواء. 93 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ... } الآية. واذكروا يا بني إسرائيل إذ أَخذ الله العهد المؤكد عليكم بأن تعبدوه -سبحانه وحده- ولا تشركوا به شيئًا , وإن تعملوا بشرعه. وكان أخذه الميثاق: عليكم , في موقف كله رهبة وخشوع: بيان لقدرة الله تعالى. على عقاب من لم يمتثل، إذ رفع فوقكم جبل الطور كأَنه ظلة، تظلكم ,وظننتم أنه سيقع عليكم، وطلب منكم حينئذ، أن تَأْخذوا ما آتاكم الله من الشرع بقوة: بأن تسمعوه سماع تدبر وفهم وقبول. وتعملوا بما جاءَكم فيه من التكاليف بحزم وعزم. ولكنكم لم تلبثوا أن نقضتم العهد. بمجرد أن زال عنكم هذا الموقف ¬

_ (¬1) لقمان:13.

{قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْتَا}: أي كانت حالهم في المخالفة مثل حال من قالوا: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. {وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} ... واختلط حب عبادة العجل بقلوبهم, تقليدا لساداتهم من الفراعنة: الذين كانوا يعبدونه ويقدسونه، ولم ينتفعوا بتحرير الله لهم من ذل العبودية والقتل، بشق البحر لهم وإنجائهم. لهذا انتهزوا فرصة ذهاب موسى - عليه السلام -ألواح التوراة، فأرضوا حبهم لمعبودهم القديم، وعبدوا صنما على شكل العجل: صنعه لهم موسى السامري من حليهم، (انظر آية 148 من سورة الأعراف، وآية 18 وما بعدها من سورة ط). والكلام على تقدير مضافين، أَي: وأشربوا حب عبادة العجل، وجاءَ النظم بدون المضافين للمبالغة، كأن الذكرًاشربوه هو ذات العجلي، والإشراب إفعال من الشراب. ومن عادة العرب أنهم إِذا عبروا عن مخامرة حب أو بعض، استعاروا لهما اسم الشراب، وآثروه. على الطعام, لأنه يتغلغل في جميع الاعضاه أسرع وأَقوى منه. {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، قل لهم يا محمَّد: بئس الذي يأْمركم به إيمان المزعوم بالتوراة: من الأعمال التي تقترفونها، كعبادة العجل، وقتل الأنبياء، ونقض الميثاق. وقولكم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، وإضافة الإيمان إليهم في قوله: {إِيْمَانُكم}. للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنْ كنْتُم مؤْمِنِينَ} فإنه قدح في دعوأحم لإيمان بما أنزلى عليهم عن التوراة. وإبطال لهذه الدعوى. وتقرير الإبطال: إِن كنتمّ -فيما اقترفتموه عن الشرك والمعاصي- مؤمنين بها، عاملين بما فيها كما ادعيتم، بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ إيمانكم المزعوم بها، إذ أن الإيمان الصادق بهلالا يأمركم بما اقترفتموه من الشرك والمعاصى، فليس فيها إباحة شىء من ذلك. وهذا برهان على عدم إِيمانكم بها.

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} المفردات: {يُعَمَّرُ}:يطول عمره. {بِمُزَحْزِحِهِ}:بمبعده. التفسير 94 - {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. ما أكثر دعاوى اليهود الكاذبة!: ادعوا الإيمان بما أُنزل عليهم، فبينت الآيات السابقة فساد ادعائهم: بعبادتهم العجل واقترافهم كبائر الإثم. وادعوا دعاوى أخرى منها: أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا، فهي خالصة لهم دون غيرهم، فأبطل الله دعواهم بهذه الآية. والمعنى: قل لهم يا محمَّد: إن كانت لكم جنة الدار الآخرة عند الله، وفي حكمه وكتابه خالصة لكم، وخاصة بكم من دون الناس جميعًا كما زعمتم:- إذ قلتم لن يدخلها إلامن كان هودا- فتمنوا الموت الدى يروصلكم إلى ذلك النعيم الخالص لكم، الخاص بكم. إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في دعواكم. فإن النفس تستعجل خبرها. 95 - {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... } الآية ولن يَتمنوا الموت أَبدا، بسبب ما ارتكبوه من الآثام، لشدة خوفهم من العاقبة, لأنهم

يعرفون أنهم عاصون، مقترفون للذنوب التي يستحقون عيها العقوبة في الدار الآخرة، ولذلك يستأجلون ولا يستعجلون. وعبر عن أنفسهم بأيديهم؛ لأن معظم الأعمال تتم بالأيدى، ونفى تمنيهم الموت بلن المفيدة لتأكيده، لأَنه ظاهر من حالهم، فإنهم أحرص الناس على الحياة وجمع المال، والانغماس الشهوات والملذات، ومن كَان كذلك، لا يتمنى أن يموت. وهم في هذا الزعم- بأن الدار الآخرة خالصة لهم- ظالمون، كما، أنهم ظالمون في كل أمورهم، ولهذا هددهم الله وتوعدهم على ظلمهم، فقال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي: عليم بهم، وبما صدر عنهم من فنون الظلم، من السفر وسائر المعاصي المفضية إلى أشد العذاب، وعليم بأنهم لن يتمنوا الموت لظلمهم، كما أَنه عليم بسائر أحوالهم. وكان التعبير {بِالظالِمِينَ} دون {بِهِمْ}. للإِيذان بأن السبب في حرمانهم من الدار الآخرة، أنهم ظالمون في أمرهم كله، وان كل من كان على شاكلتهم في الظلم والمعاصي، فهو مهدد بالعقاب، كما هددوا به. 96 - {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ... } الآية. في هذا والذي قبله، إبطال لزعمهم، وبيان لحقيقة حالهم: من الإخلاد إِلى حياة الدنيا، فهم أشد الناس حرصا عليها، وعلى التمسك بأهدابها. ولو كانوا يؤمنون حقيقة بأن الدار الآخرة لهم- كما زعموا بالسنتهم- لتمنوا الموت، وما كانوا أحرص الناس على حياة. وتنكير (حياة) للإطلاق: أي أحرص الناس على آية حياة، وإن كانت ذليلة، فهي عندهم خبر من الموت، كيفما كانت. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}: أي وهم أشد حرصا على الحياة من الذين: أشركوا ,ولم يؤمنوا بالله، ولا باليوم الآخر. وخصوا بالذكر بعد اندراجهم في الناس، لأنهم لا يؤمنون بحياة أخرى بعد هذه الحياة، ويقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬1). فجيءَ بهم لتأكيد حرص اليهود على الحياة الدنيا. ¬

_ (¬1) المؤمنين: 37.

وفي هذا توبيخ عنيف لليهود، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة - وهم أهل كتاب، يؤمنون بالآخرة - على حرص الناس جميعًا، حتى الذين لا يعرفون إِلا الحياة الدنيا، ولا يصدقون ببعث ولا نشور -كانوا- جديرين بأعظم التوبيخ. وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} معطوف على ما قبله بحسب المعنى، كأنه قيل: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. فقوله (أحْرَصَ النَّاسِ) فيه كلمة (من) مقدرة بعد أحرص. وإِلى هذا ذهب عبد القاهر، وأَبوعلى وغيرها، فقد قالوا إن أفعل إذا أُضيف وأُريد منه الزيادة على، ما أُضيف إليه، كانت إِضافته لفظية بتقدير: مِنْ {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}: أَي بلغ من: مدة غلوهم في الحرص على الحياة، أن الواحد منهم، يتمنى أن يعيش السنين الكثيرة، ولو تجاوزت الحد الذي يبلغه الإنسان في العادة. فكلمة (أَلفَ سَنَة) كناية عن المدة الطويلة، التي يود أن يحياها. وليس المراد خصوص العدد؛ لأَن العرب تذكر الأَلف، وتريد الكثرة. وإنما يودون البقاء في الدنيا, لأنهم يرون أَنها- على ما فيها منغصات - خير من الآخرة لما يتوقعون من سخط الله، وتعذيبه لهم على ما أسلفوا من كفر وعصيان، وذلك خير شاهد على أَنهم لا يعتقدون ما يقولون: من أَن نعيم الدار الآخرة خالص لهم. {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} وما ذلك التعمير لو تم، بنافعه ولامبعده من عذاب الله المحتوم, لأنه لا بد له من الموت والعرض على الله، ليجازى على ما قدم في دنياه. والتعبير بالجملة الإسمية، للدلالة على دوام بقائهم في النار، وعدم تزحزحهم عنها. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي واعُد عالم بأعمالهم ومحيط بها، علم من ببصر ويرى، ولا تخفى عليه خافية من أمرهم، ومجازيهم عليها، بما أعده لهم من العقاب. وفي هذا تهديد ووعيد لهم. وعبر بالمضارع {يَعْمَلُونَ} بدلا من الصدر؛ لتصوير عملهم بأَنه كان يتجدد آنا بعد آن.

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} المفردات {عَدُوًّا}: العدو ضد الصديق. ويطلق على الواحد والجمع. {جِبْرِيلَ}: أمين الوحى بين الله -تعالى- ورسله، وهو روح القدس. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}: أي مؤَيدا ما تقدمه من الكتب السماوية، التي نزلت على من سبق نبينا من الرسل. التفسير 97 - {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... } الآية. سبب نزولها: أَن اليهود قالوا للنبي -صلى الله طيه وسلم- إنه ليس نبي من الأنبياء؛ إلا ويأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة والوحي. فمن صاحبك حتى نتابعك؟ فقال: جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا: لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة. تابعناك، فأنزل الله الآية، إلى قوله: {لِلْكَافِرِينَ} أخرجه الترمذي. رُوىَ أن عمر جلس ألى بعضهم وسألهم عن جيريل -عليه السلام- فقالوا: ذاك هو عدونا، يطلع محمدًاعلى أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعداب. وميكائيل يجيء بالخصب والسلام , فرد عليه عمر: بأن من كان عدوا لأحدهما، فهو عدو للآخر، وعن كان عدوا لهما، كان عدوا لله -سبحانه- فلما رجع عمر، وجد جبريل عليه السلام، قد سبقه بالوحي، فقال- صلى الله عليه وسلم - "لقد وافقت ربك يا عمر"

المعنى: من قبائح اليهود، قولهم ئ جبريل - عليه السلام - هو عدونا، وأرادوا من هذا القول: أَنهم لا يؤمنون بوحى يجىء به عدوهم. فهم لا يؤمنون بالنبي- صلى الله عليه وسلم - من أَجل أن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي. فأمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليه بما معناه: قل لهم يامحمد: من كان عدوًّا لجبريل لأنه جاءك بالقرآن فهو عدو لله، فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك , بإذن الله مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، وهدى ورحمة، وبشرى للمؤمنين، ولم يأت به إليك من عند نفسه. ومن عادى ملكا جاءك من عند الله بكتاب هذا شأنه، فإنه عدو لله الذي أرسله. وجعل القلب محل التنزيل, لأنه موضع العلم والعقل وتلقى المعارف ومعنى قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، أنه مؤيد ماسبقه من الكتب السماوية، ومنها التوراة في أصول العقائد والأحكام والأخلاق، وإِذا كان كذلك، لا يصح أَن يعادى من جاء به، ولا من أنزل عليه {وَهُدى وَبُشرَى للْمُؤمِنِينَ}، أي وهاديا إلى سبل السعادة والفلاح، وبشرى للمؤمنين بالجنة، والنعيم المقيم. وفي وصفه بهد وبشرى -وهما مصدران- فيه توكيد لكونه هاديا ومبشرا وقوله {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} تعليل لجواب الشرط المقدر. قائم مقامه، والتقدير: من كان عدوا لجبريل، كان عدوا لله، فإنه نزَّله على قلبك. وخص المؤمنين بالذكر: لأنَّه -بالنسبة إِليهم- هدى وبشرى. أما غيرهم من المصرِّين على الكفر. فهو عليهم عمى، ولهم نذير بأشد العذاب. 98 - {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} أَي من كان عدوا لله بمخالفة أَمره عنادا، والخروج عن طاعته مكابرة، وءدوا لملائكته برفضه الحق الذي جاءُوا به من عنده -تعالى- لرسله، وعدوا لرسله بتكذيبهم، وعدوا لجبريل وميكائيل خاصة، من كان عدوا لهؤلاء- وعداوتهم كفر- عاداه الله، فإن الله عدو للكفرين- ومن عاداه الله باءَ بالعذب المهين. وجميع الملائكة، مع أنهم عادوا جبريل -وحده - لأن معاداة أَحدهم معاداة لسائرهم، وَجَمَعَ الرسل، مع أنهم عادوا محمدا، لأن معادة أحد الرسل معاداة للجميع - وميكال هو ميكائيل،

وبالثانية قرأَ حمزة والكسائى وابن عامر وغيرهم، وبالأُولى قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة أهل الحجاز. وإفراد جبريل وميكائيل بالذكر- مع دخولهما في الملائكة - لإظهار فضلهما, وللتنبيه على أن عداوة جبريل تعتبر عدواة لميكائيل، فلا وجه لادعائهم حب ميكائيل وكراهة جبريل, لأن بغض أي ملك, فى حكم بعض الجميع. وقال في الآية {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ... ولم يقل عدوله أَو لهم؛ للإِيذان بأن عداوة من ذكر في الآية كفر، وأن الله عاداهم لكفرهم. {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} المفردات: {آيَاتٍ}: المراد بها آيات القرآن. {بَيِّنَاتٍ}: واضحة الدلالة على معانيها. {الْفَاسِقُونَ}: الخارجون عن الحق إلى الباطل والفساد. {نَبَذَهُ}: طرحه وألقاه، من النبذ وهو إلقاء الشىء وطرحه؛ لعدم الاعتداد به. التفسير 99 - {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... } الآية. ولقد أنزلنا إليك آياَت القرآن حُجَجَاعلى نبوتك، بما اشتملت عليه من وجوه الإعجاز للبشر، واضحات الدلالة على معانيها وكونها من عند الله؛ ولذلك كانت أحق وأولى بالقبول والاذعان.

واسهلال العبارة بقوله: {وَلَقَدْ} لمزيد تحقيق ما اشتملت عليه الاية الكريمة {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}: لا يكفر بهذه الآيات البينات إلا الفاسقون، أَي المتمردون في الكفر، الخارجون عن حدوده، فإن من ليس على تلك الصفة من الكفر، لا يجترئُ على الكفر بمثل هذه الآيات الواضحات. قال الحسن: إذا استعمل الفاسقين نوع من المعاصي؛ وقع على أَعظم أفراده من كفر أوغيره. من أشد هؤُلاءَ الفاسقين فسقا: اليهود، إذ أنهم كفروا بالآيات البينات، مع تأكدهم من صدق من جاء بها، عنادًا لمن ظهر الحق على يديه، وحَسَدًا له، فإنهم يعرفونه ْكما يعرفون أبناءَهم. 100 - {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} ... الآية. من عادة اليهود: أن ينقضوا العهود والمواثيق؛ ولا يفون بها. ومن ذلك: أَنهم كانوا على نية الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث. ولهذا كانوا يستفتحون ويستنصرون به إِذا حاربوا المشركين قبل أَن يبعث، فيسألون رَبهم النصر، ببركة النبي المنعوت بصفاته في التوراة، ويقولون لهم: قد أَطل زمان ني سنقتلكم نحن معه قتل عاد وإرم، كما سبق بيانه. والاستفهام في {أَوَ كلُمَا}: للإِنكار والتوبيخ والتعجيب من شأنهم، و {كُلَّمَا} لإفادة تكرارهم لنبذ العهود، والواو قبلها للعطف على مقدر يستدعيه المقام. والتقدير: أكفروا بهذه الآيات، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم، ومن جملة ذلك: عهدهم ووعدهم بالإيمان بك يا محمَّد إذا بعثت! وعبر عن نقضهم للعهد، بالنبذ، ليشير إلى أَنهم تركوه مستهينين به, لأن النبذ يكون للشيء الذي لا يعتد به. وإِسناد النبذ إلى فريق منهم، يؤذن بأن منهم من لم ينبذه. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، أَي: بل أَكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة، إِلى جانب أن أَكثرهم ينقضون العهد فايمانهم بالتوراة، لا يجاوز حناجرهم, ولوآمنوا بها حقا, لسارعوا إلى الإيمان بك يا محمد، فأنت منعوت بأوصافكِ فيها.

101 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ... } الآية. الرسول: هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بأنه جاءهم من عند الله فيه تعظيم له. فإن عظمة المرسِل تقتضى عظمة رسوله. وفيه إلى- جانب ذلك- مبالغة في استنكار كفرهم به، أي: ولا جاءَهم رسول عظيم من عند الله: مصدق لما معهم من التوراة، من حيث إنه جاءَ على الوصف الذي وصف به فيها، كما أن كتابه الذي جاءَ به موافق لما فيها، من قواعد التوحيد وأصول الدين والأخلاق، وأخبار إلأُمم. {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. أي ولما جاءَهم محمَّد- صلى الله عليه وسم - مصدقا لما معهم فما تقدم، نبذ فريق من اليهود الذين أوتوا التوراة، كتاب الله وهو القرآن، إذ كفروا بالرسول الذي جاءَ به، وأعرضوا عما جاء في التوراة مبشرابه- صلى الله عليه وسم- كأَنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، أو أن محمدا رسول الله، والواقع أنهم يعلمونه علمًا يقينيا, ولكنهم نبذوه مكابرة وعنادا وجريا على سنتهم في نبذ العهود. فإنه قد أخذ عليهم العهد في التوراة أنه: إذا جاءهم هذا الرسول المنعوت، يؤمنون به وينصرونه، فنقضوا هذا العهد بكفرهم به. وإنما شبههم بمن لا يعلمون, لأَن رفض الحق من شيمة الجهلاء، وهم بنبذهم الحق، مع علمهم به- يشبهون الجهلاء الذين لا علم عندهم. وفي الآية تصوير بيانى حكيم، حيث شبه حال التاركين للعمل بالكتاب المهملين له، بحال من يرى شيئا وراءَ ظهره، نابذًا له وكارها. وإضافة كتاب إلى (الله)، فيها إظهارلبشاعة جرمهم، حيث طرحوا أعز كتاب وراء ظهورهم. وقصرُ نَبد الكتاب - وهو القرآن - على بعضهم، يؤذن بأن بعضا آخر لم ينبذه، كعبد الله بن سلام, وزيد بن سعنة من أحبار اليهود، وغيرهما ممن أكرمهم الله بالإِيمان الصادق برسول الله والقرآن المجيد. ويرى بعض المفسرين: أن المراد بكتاب الله الذي نبذوه: التوراة. قال السدي: لما جاءَهم محمَّد- صلى الله عليه وسلم - عارضوه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن, فنبذوا التوراة وأخلوا بكتاب آصف, وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن.

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} المفردات: {وَاتَّبَعُوا}:تخبر وتحدث أَو تقول. {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}: على عهد ملكه وفي زمانه. {السِّحْرَ}: إخراج الباطل في صورة الحق، وهو- في الأصل- مصدرسحر يسحر- بفتح الحاء فيهما - إِذا أبدى ما يدق ويخفى، ويستعمل فيما لطف وخفى سببه والمراد هنا: أمر غريب يشبه الخارق المعجز وليس بالخارق، إذ يجرى فيه التعلم كالذى حصل من سحرة فرعون، حيث أظهروا لموسى حبالهم وعصيهم أَنهاتسعى, وليس ذلك من باب قلب الحقائق، بل هو تخييل. وسيأتى لذلك مزيد بيان في المعنى. {بِبَابِلَ}: بلدة قديمة، كانت بالعراق ينسب إليها السحر. {هَارُوتَ وَمَارُوتَ}: اسمان للملكين اللذين أنزل عليهما علم السحر، وسيأتى بيانِ المراد منهما. {فِتْنَةٌ}: ابتلاء واختبار

{اشْتَرَاهُ}: استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله. {خَلَاقٍ}: نصيب فى الخير. {لَمَثُوبَةٌ}: لأجر وثواب. التفسير 102 - {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... } الآية. أخبر الله -سبحانه وتعالى - فى الآية السابقة: أَن اليهود الذين أوتوا التوراة: لما جاءهم رسول من عند الله؛ نبذوا كتاب الله وهو لقرآن، وكفروا به- صلى الله عليه وسم- مع أنه مصدق للكتاب الذي معهم. لكونه مطابقا للأوصاف الموجودة فيه. ثم عطف على هذه الجريمة -وهي نبذهم لكتاب الله- جريمة أُخرى، هي: اتباعهم الشياطين بمزاولة السحر بدل العمل بكتاب الله. والمعنى: أن اليهود - لما جاءهم الرسول بالقرآن- نبذوه، واشتغلوا بالسحر الذي كان عليه آباؤهم من قبل. فالمراد مما تتلوه الشاطبن: كتب السحر، التي كانت تقرؤها الشياطين: أي المتمردون من الإنس والجن. وتتلوا: حكاية للحال الماضية، أَي ما كانت تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان، والمراد باتباعهم إياها: استمرار اتباعهم لها واشتغالهم بها، فقد كانوا متبعين لها قبل مجي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد كانت الشياطين في عهد سليمان تلقن كهان اليهود، وتتلوا عليهم قواعد السحر، وتخبرهم كذبا: أن ملك سليمان وسلطانه على الإِنس, والجن، والطير والريح، لم يقم إِلا على تلك القواعد، فكافوا يدونونها من الجن في كتب لديهم: توارثها الخلف عن السلف، حتى وصلت إلى اليهود بالمدينة , فكانوا يشتغلون بما فيها قبل مبعث النبي- صلى الله عليه وسم - ولما بعث، رفضوا كتاب الله الذي جاء به، وفضلوا عليه الاستمرار في مزاولة السحر الذي

يحرمه، مع أَن الديانة اليهودية قامت على إبطال السحر، الذي جاء به سحرة فرعون وحملتهم على الإيمان بالله، وقررت أن الساحر لا يفلح حيث أَتى. ولما كان السحر يؤدي إلى الكفر. كما سيأتى، وكان اتهام الشياطين واليهود لسليمان بمزاولته يشينه، نفاه الله عنه بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}: فأكذبهم الله -سبحانه وتعالى- بهذا، ونزه سليمان - عليه السلام - عن عمل السحر الذي نسبه إليه أُولئك الشياطين، وتبعهم في ذلك اليهود الذين من شيمتهم تلويث الأنبياء, كما نلمسه في أسفار العهد القديم. وفي الآية دليل على أَن من يستخدم السحر ويؤمن به؛ يكون من الكافرين؛ لأَن قوله تعال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}: حجة على أن السحر: ضرب من ضروب الكفر. وقد أطلق القول بكفر من يزاوله: العلامة التفتازانى. ْولكن الشيخ أَبا منصور ذهب إِلى أن إطلاق القول بأن السحر كفر خطأ , وأَنه يجب التفصيل فيه، فإن كان فيه رد ما لزم من شروط الإيمان فهو كفر، وإلا فلا. وعلى هذا، فالمراد من السحر الذي هوكفر: ما كان بالتقرب إلى الشيطان بالسجود له أَو لصنم أو غيره، أَو بالرُّقَى بعبارات فيها شرك بالله -تعالى- أَو نحو ذلك مما ينافى أصول العقيدة الإِسلامية؛ كاعتقاد الساحر أن ما يستعين به في سحره- مثل الجن والنجوم- لها قدرة ذاتية على النفع والضر. وعقاب السحر الذي هو كفر: قتل الذكور وحبس الإناث وضربهن ما لم تقع منهم توبة وأما ما ليس بكفر - وفيه إِهلاك النفس- ففيه- حكم قطاع الطريق، ويستوى فيه الذكور والإِناث، وتقبل توبة صاحبه إِذا تاب. هذا رأى بعض الفقهاء. والمشهور عن أبي حنيفة - رضي الله عنه -: أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر، سواء أَكان ذكرا أَم أنثى. وتقبل توبته إِذا تاب. ومذهب مالك - رضي الله عنه - كما نقله القرطبي: أَن المسلم إِذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا، فإنه يقتل، ولا يستتاب، ولا تقبل توبته.

ومن أَراد معرفة مذاهب العلماء وآرائهم في السحر وأحكامه، فليرجع إلى المطولات. وأما الشعوذة وما يجرى مجراها، مما فيه إظهار أمور عجيبة باستعمال آلات هندسية أو خفة يد، أو الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار، فإنها ليست من السحر، وإطلاق السحر عليهامن قبيل التجوز، أو لما فيها من الدقة كما ذكره الآلوسي. {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ} أي: أَتبع اليهود ما كانت تقرؤُه الشياطين على الكهنة من أبواب السحر من عهد ملك سليمان، زاعمين أن سلطانه قام عليه، واتبعوا أيضًا، ما أنزل على الملكين: هاروت وماروت ببابل، وذلك أَن بابل كانت مدينة بالعراق يسكنها الصابئون الذين يعبدون الكواكب، وكان منهم أُناس يزاولون السحر، ويدعون الناس إِلى الكفر؛ وتقديس الكواكب والشياطين، ويسيطرون عليهم بالسحر؛ ليحملوهم عل عبادتها. ومن رحمة الله - تعالى - أنه جعل من نواميسه ألا يذر الشر وحده يسيطرعلى عباده، فلذا سخر رجلين صالحين - اسمهما هاروت وماروت- لنحذير الناس، فكانا لصلاحهما- يشبهان الملائكة، فلذا أطلق الله عليهما الملكين. ولما كان لكل شيءٍ آفة من جنسه، فلذا ألقى الله في قلبيهما علم السحر، فكانا يعلمان الناس السحر لكي يتخلصوا بتعلمه من سيطرة السحرة من الصابئة، ويتقوا شرورهم، وكانا يمزجان التعليم بالتحذير، فيقولان لمن يعلمانه: إنما نحن فتنة، أي امتحان من الله -تعالى- لعباده لينظر: أينتفعون بسحرنا في اتقاءِ الشر وجلب الخير، أم يسيئون استخدامه في الإضرار بالناس، وإفساد العقائد؟، فهو سلاح ذو حدين، فكما ينفع, يضر ويفسد العقيدة. وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. والمقصود من إنزال السحر على هذين الرجلين المشبهين للملائكة: إلقاؤه في قلبيهما وتَعْليمهماَ إياه. وكل العلوم والمعارف تنزل على القلوب من عند الله - تعالى-:

وقيل: انهما ملكان، وإن السحرة قد كثروا في ذلك العهد، واخترعرا فنونا غريبة من السحر: يموهون على الناس بها، وربما زعموا أَنهم أنبياءَ، فبعث الله - تعالى - هذين الملكين ليعلما الناس وجوه السحر حتى يمكنوهم من التمييز بينه وبين المعجزة، فيحذروا الكذابين، ولا ينخدعوا بسحرهم. وما قلنا من أن الملكين: رجلان صالحان شبها بالملائكة لصلاحهما، هو الرأى الحق، وتؤيده قراءَة (الملكين) بكسر اللام. أما من أخذ اللفظ على ظاهره، وقال: إنهما من الملائكة بعثهما الله لتحذير الناس من السحر، فقد جانبه الصواب؛ لأن سنة اقه أن يجعل رسله من البشر لا من الملائكة. ولهذا لما طلبت قريش أن ينزل الله لهم ملكا، رد عليهم بقوله {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (¬1). وقد دلت الآية على: أن تعلم السحر كله غير حظور، وإنما المحظور منه ما يؤَدى بصاحبه إلى الكفر، باعتقاد فاعلية الشيطان، والكواكب، وألوهيتها، أَو السجود لها أو لصنم أو غير ذلك مما ينافى الإيمان. فالمقصود من قوله {فَلاَ تكْفُرْ}: أي لا تكفر بما يخالف شروط الإيمان من قول أو عمل أَو اعتقاد. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ذكر الله في هذا الجزء من الآية، لونا من ألوان السحر، الذي كان يعلمه الملكان لأهل بابل، وهو السحر الذي يكون من أثره إزالة الألفة بين الزوجين، واحداث العداوة أو البغضاء بينهما، إلى أن يتفرقا. واختصه بالذكر؛ لأنه من الصور التي تظهر فيها مفسدة السحر بأشد ما يكون. فلهذا آثر إِبرازها ليعلم الناس منها مدى ما يصل إليه السحر من الإضرار بالمجتمع؛ فإن إفساد الأسرة افساد للمجتمع؛ لما فيه من تشريد الأولاد الذين هم أَساسه. ويتسع الشر إذا أريد بالمرءِ وزوجه: الإنسان ومن يزاوجة وبقارنه، فينضم إلى الإنسان وزوجته كل قرينين بينهما إلفة كالأخوين والشريكين والصالحين، ومن هذا المعنى. قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (¬2). ¬

_ (¬1) الأنعام: 8 و 9. (¬2) الصافات: 22.

{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}: أَي وما يضر السحرة بهذا السحر أَحدا كائنا من كان، إلا بعلم الله وإِرادته؛ فهم إِذن لا يستطيعون أَن يحدثوا بسحرهم ضررا دون ارادة الله، ودفع بهذا توهم أن يكون ضارًّا بذاته، بل بِإذن الله - تعالى - ربطا للمسببات بالأسباب. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}: ويتعلمون من السحر ما يضرهم ولا ينفعهم لأَنهم يقصدون بتعلمه الشر والإضرار بالناس. وقصدُ المعصية يعتبر معصية يعاقب الله- تعالى- عليها يوم القيامة. أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه، ولا سيما الشر الذي هو هوى النفس ومطلبها. والتصريح بقوله: {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} بعد إثبات ضرره؛ للإيذان بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضر، بل هو ضرر محض. وظاهر هذه الفقرة من الآية يُقَوِّى رأى القائلين بحرمة تعلمه مطلقا. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}: ولقد علم هؤلاءِ اليهود الذين نبذوا: كتاب الله، واتبعوا السحر: أَن من استبدل السحر بكتاب الله وآثره على شرعه -سبحانه- ليس له أىُّ حظ من الجنة، ولا أي نصيب من الخير يوم القيامة؛ لأنه لم يكن له إيمان ولا عمل صالح يكافأ عليه. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. {شَرَوْا} أي باعوا، وهي من الأضداد، ومما جاءت به بمعنى البيع أيضًا قوله تعالى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬1) أي باعوه بثمن قليل. والعلم هنا منزل منزلة اللازم، غير منظور فيه إلى مفعول، أيَ لوكان عندهم علم وعقل. والمعنى: ولبئس هذ الذي باعوا به حظ أَنفسهم من الخير، وهو تعلم السحر والعمل به. ولو كان عندهم علم وعقل، لأدركوا أَن هذا السحر ضار، مفسد للنفس والعقل والناس، ولامتنعوا عن تعلمه والعمل به. وإنما نفي عنهم العلم، لأن العالم إِذا لم يجر على موجب علمه، ينزل منزلة الجاهل وينفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهل. 103 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَي: ولو أن هؤلاء الذين يتعلمون السِّحْرَ ويؤثرونه على ما أنزل الله، أو أنهم آمنوا بالنبي - صلى ¬

_ (¬1) يوسف: 20.

الله عليه وسم- وبما أنزل عليه من القرآن الذي فيه هدايتهم، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأُثيبوا على ذلك، وثواب الله خير لهم من السحر. ولو كانوا من أولي العلم الذين ينتفعون بما يعلمون، لم يفعلوا ذلك، ولكنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فكفروا وعصوا، فكانوا من الخاسرين. وفي النظم الكريم: تنكير مثوبة ليبين فضلها باى قدر، فقليل من ثواب الله - تعالى - في الآخرة خير من نعيم الدنيا الفانية. مهما كثروعظم، فكيف وثواب الله - تعالى - كثير دائم: وفي ذلك: ترغيب في طاعة الله، وترهيب من المخالفة التي تجر إِلى عقابه تعالى. واستنبط بعض العلمان من الآية: أَن مَنْ تعلم السحر لا ليعمل به، ولكن ليتقى ضرر، أو علمه غيره لهذا الغرض، ة لا حرمة عليه، فإن القرآن الكريم ذكر عن الملكين انهما كانا يعلمان- الناس السحر، ولم يعقب حكاية ما فعلاه بالنهى عنه. وهذا يقتضى إباحة تعلمه، للتمييز بين السحر وببن المعجزة والكرامة. ولاتقاء ضرره. ولا ننسى ما بيناه من الخلاف في حكم تعلمه وتعليمه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}. المفردات: {رَاعِنَا}: أي انتظرنا وتأَنَّ بنا حتى نفهم كلامك. وأصله من المراعاة، وهي المبالغة في الرعى. وهو الحفظ والتدبير. وتدارك المصالح. {انْظُرْنَا}: انتظرنا وتأَنَّ بنا. {مَا يَوَدُّ}: الود: محبة الشىء وتمني وقوعه.

التفسير 104 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية. هذا نداء من الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين، صدرت به الآية لأهمبة الأدب الذي دعت إلى الأخذ به؛ لأن نداء المؤمنين بوصفهم، يذكرهم بأَن الإيمان يقتضى من صاحبه: أن يتلقي أوامر الله ونواهيه بحسن الطاعة. {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا}: كان المسلمون- إذا ألقى الرسول عليهم شيئاً من العلم- يقولون: راعنا يا رسول الله، يريدون منها: انتظرنا وتأن بنا؛ حتى نفهم كلامك ونحفظه. وهذه كلمة لا شئ فيهما من سوء الأدب، إلا أن اليهود حينما سمعوهم يقولون ذلك، صاروا يخاطبون الرسول بها، محرفين لها عن معناها الذي أراده المسلمون، إذ أَرادوا سبه بنسبته إلى الرعن، وهو الحمق أو الاستهزاء به باللغة العبرانية. فقد كانوا يتسابون فيما بينهم بكلمة {راعنا} العبرانية فاستعملوها مقلدين - في اللفظ- ما ينطق به المؤمنون مع سوه النية، على دأبهم دائما في تحريف الكلم عن معناه، كما حكى القرآن عنهم ذلك في سورة النساء بقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} (¬1). وكان سعد بن عبادة يعرف لغتهم، فلما سمعهم يقولون ذلك، قال لهم: عليكم لعنة الله، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبى - صلى الله عليه وسلم - لأضربن عنقه فقالوا: أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله الآية: نهيا للمؤمنين عن مخاطبة الرسول- صلى الله عليه وسلم - بهذه اللفظة: لألسنة اليهود، حتى لا يتخذوها ذريعة لسب النبي صل الله عليه وسلم - وإيذائه والاستهزاء به؛ فإن معناها في لغتهم كما قيل: اسمع لا سمعت، وأمرهم أن يقولوا له بدلا عنها {انْظُرْنَا}: انتظرنا وتأنَّ بنا؛ حتى نحفظ ¬

_ (¬1) الآية: 46.

وتفهم ما تقول؛ فإنها تؤَدى المعنى الذي يقصدونه بقولهم: {رَاعنِا} ولا يمكن اليهوه أن يحرفوها إلى سبه - عليه السلام - والاستهزاء به. وفي هذا تنبيه إلى أدب كريم، وهو: أن الإنسان يتجنب في مخاطبته - صلى الله عليه وسم- الأَلفاظ التى توهم جفاء أوتنقصنا. وإلى جانب ذلك، هو نهج قويم للخلق الإسلامي والإنساني. {وَاسْمَعُوا}: أيها المؤمنون قوله - صلى الله عليه وسلم - سماع قبول وامتثال، مع وعى قلبي، حتى تحفظوا ما يلقيه عليكم، ولا يفوتكم منه شئ. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: ولهؤلاء اليهود الذين كفروا برسالة محمَّد، وحرفوا الكلام عن مواضعه وآذوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - واسنهزأوا به، عذاب موجع فى نار جهنم. وفي التعبير بقوله {وَلِلْكَافِرِينَ}: بيان لأن ما صدر عنهم من سوء الأدب في خطاب الرسول- صلى الله علبه وسلم - هو أثر من آثار الكفر، وأنهم استحقوا هذا العذاب المقصور عليهم بسبب كفرهم. 105 - {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... } لآية. لا يحب الكافرون من اليهود والنصارى، ولا المشركرن: أن ينزل الله عليكم -أيها المؤمنون-: شيئًا من الخير، وذلك لعداوتهم وحسدهم لكم، فهم لا يحبون لكم الخير. وأَعظم الخيرات هو القرآن الكريم؛ لأنه الهداية العظمى إلى الصراط المستقيم. وقد جمع. الله به شملكم، وأخرجكم به من الظلمات إلى النور، فكيف لا يحرق الحسد أكبادهم على إنعام الله عليكم بهده النعمة: وكذلك المشركون: يرون قى نتابع نزول القرآن، قوة للإسلام وتثبيتا: لدعائمه وأركانه. وهم يكرهون ذلك ويودون أن تدور الدائرة على المسلمين , ويستكثرون أَن يكون نزول القرآن على محمد -صلى

الله عليه وسلم- من بينهم {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}: (¬1) وخص بعض العلماء الخير هنا، بالوحي. مراعاة للمقام. فهو الذي من أَجله كره أَهل الكتب والمشركون النبي والمؤمنين. وَيَسْتَدلون لذلك بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أَي: والله يختص بنبوته من يشاء ممن أعدهم وهيأهم لها. فكانوا جديرين بها. ولهذا اختص بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين الناس؛ لتمام أهليته لذلك. وصدق الله تعالى إذ يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬2). وقد فسرها عَلي رضي الله عنه بذلك، فهي الخير الذي بكرهه هؤلاء للنبى - صلى الله عليه وسلم -، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}: فلا حرج على فضله تعالى، أَن يمنح النبوة من يشاء ممن هو أهل لها، فكيف يسحدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ومن حسد أحدًا على فضل الله، فهو ساخط على حكم الله: معترض على قضائه، ولا يضر الحاسد بحسده إلا نفسه. وفي إِسناد الرحمة والفضل إِلى اسم الذات. بيان أنهما حقه - تعالى - لذاته، فليس لأحد من عبيده، أدنى تأثير في منحهما ولا في منعهما. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} المفردات: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: النسخ لغة: المحو والإبطال، والمراد هنا بالآية: الجملة القرآنية ذات الحكم الكامل. والمراد بنسخها: بيان انتهاءِ التعبد بها. وقيل المراد بها: الشريعة، على حد قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ}. (¬3) ¬

_ (¬1) الزخرف: 32,31 (¬2) الأنعام: 124. (¬3) الزمر: 71.

وسبب النزول

والمراد. من نسخها على هذا: تغييرها بشريعة أخرى تأتى بعدها, أَو: الآية المعجزة. ونسخها: الإتيان بآية أخرى غيرها. وسيأتي بيان ذلك. {أَوْ نُنسِهَا}:نُبحْ لكم تركها. من نسي: بمعنى ترك، دخلت علية الهمزة للتعدية. قال أَبو على وغيره من أَئمة اللغة: هذا متجه؛ لأَنه بمعنى: نجعلك تتركها. وقريء نَنْسَأْهَا -بفتح النون مهموزا، من نسأه: إذا أخره أَي: نؤَخر نزولها عليكم {وَليّ}: من يلي أمرك أو يملكك. كالمولى {نصير}: معين. التفسير 106 - {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. الربط: جاءَ في الآية السابقة ما يفيد: أَن أهل الكتاب والمشركين، لا يودون أن ينزل الله على المسلمين- فى شخص الرسول- خيرا. أي: وحيا منه. وكمان ذلك حسدًا منهم. فاليهود كانوا يريدون الرسالة فيهم دون العرب؛ لانهم نشأوا في مهابط الوحي، والعرب أميون. والمشركون كانوا يريدونها لرجل من القريتين عظيم، وقد أفحمهم الله بأَن هذا ليس من شأنهم، فالله يختص برحمته- أَي بنبوته- من يشاء والله ذو الفضل العظيم. لهذا ناسب أَن يذكر الله عقب ذلك حكمًا من أَحكام الوحى الذي اختص به رسوله - عليه السلام -، وهو النسخ: تقريرا له، وردا على الطاعنين في النسخ، الكارهين لنزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - وذلك قوله سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } وسبب النزول: أن اليهود قالوا - بعد تحويل القبلة من ببت المقدس إلى الكعبة - إن محمدا يأْمر أصحابه بشئ ثم يناهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من عند محمَّد. ولهذا ينافض بعضه بعضا. قالوا ذلك: إنكارا للنسخ وكراهة للتحويل، إذ كانوا يأنسون بموافقته لهم في القبلة.

فلهذا نزلت الآية للرد عليهم - كما نزل لذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (¬1) {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} والمعنى: أيُّ شيءٍ من الآيات والاحكام: ننهى التعبد به، أو تجعلكم تتركونه؛ نأتي بأفضل منه: مثوبة أو نفعًا أَو خفة على المكلفين. أَو نأتى بمثله في ذلك. فإن تنزيل الآيات المشتملة على الأحكام الشرعية، يكون وففًا للحِكَم والمصالح؛ وذلك يختلف باختلاف الأحوال. قرب حُكْم تقتضيه الحكمة في حال؛ تقتضى نقيضه في حال أخرى، فلو لم يجز النسخ، لا ختل ما بين الحكمة والأَحكام عن النظام. وهذا الحكم غير مختص بالآية الواحدة كاملة. بل هو جارٍ فيما فوقها وما دونها. وتخصيصها بالذكر، باعتبار الغالب. ثم ختم الله الآية بهذا التقرير: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}: الخطاب فيه لكل من لدبه علم وعقل. الاستفهام للتقرير. والمراد بهذا التقرير: الاستشهاد بعلم المخاطب، بأنه تعالى؛ {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}: على قدرته على النسخ؛ والإتيان بما هو خير من المنسوخ أو مثله، أي أنك تعلم أَن الله على كل شىء قدير، فتدرك - بمقتضي علمك هذا قدرته تعالى على نسخ الآيات، والإتيان بخير منها، أو مثلها لمصلحة عباده. وتعريف النسخ شرعا: إزالة حكم شرعى سبق، بخطاب ورد متأخرا، كما قال القاضيان: عبد الوهاب وأبو بكر. وزاد الأَخير: لولاه لكان السابق ثابتا. ومن أراد معرفة الفرق بينه وبين التقييد والتخصيص، وأحوال النسخ وأمثلته، وهل يجوز نسخ القرآن بالسنة أولًا؟ فعليه أَن يرجع إِلى المطولات: ق التفسير وكتب الأصول. ونسخ الأحكام للمصلحة، موجود في جميع الديانات. ففي صحيح مسلم: "لم تكن نبُوَّة قط إلا تناسخت" أي تحولت من حال إلى حال بالنسبة إلى المكلفين- ذكره القرطبي في المسأَلة الثالثة من مباحث الآية. ¬

_ (¬1) النحل: 101

وأنكرته طوائف من اليهود، زاعمين أَن ذلك من البداء، وهو مستحيل على الله، وقد كذبوا؛ فإن النسخ: النقل من حكم إلى حكم، لضرب من المصلحة. ولا خلاف بين العقلاء، في أن شرائع الرسل قصد بها مصالح الخلق: الدنيوية والأخووية. وأَما البداء، فهو: ترك ما عزم عليه أولا والعدول عنه، كقولك لشخص: امض إِلى فلان، ثم يبدو لك نقض الرأي الأول فتقول: لا تمض. أو تقول: له: إزرع كذا. ثم يبدو لك خلافه فتقول له: لا تزرعه، بل ازرع كذا لشئ آخر، على سببل التناقض والتقلب في الرأي وهذا محال على الله - تعالى - لكمال علمه وحكمته، جائز الخلق لنقصانهم. فكل حكم له تعالى صالح، وله حكمة فى وقته: منسوخًا كان أو ناسخًا، وليس في أَحكامه تعالى بداء. رأى آخر فى النسخ ذكرنا- فيما تقدم- رأى جمهور العلماء سلفا وخلفا في معنى النسخ فى الآية الكريمة، وحكمته. وخلاصته أنه: إزالة حكم شرعى سابق، بخطاب ورد متأخرا عنه، وأن كلا من المنسوخ والناسخ لمصلحة العباد في حينه. ومن العلماء طائفة لا يقولون بنسخ الأَحكام، فرارا من البداء المستحيل على الله، فإِن تغيير الأحكام في الشريعة الواحدة، شأن من لا يعلم المصلحة كما ينبغى العلم، حينما شرع. فلما علمها، عدل عما شرعه أَولا، وذلك لا يليق بالله - تعالى - العليم الحكيم. ويقولون: إن الآية الكريمة، ليست دليلًا على ما يقوله الجمهور في معناها، بل إن السياق يدل على خلافه، فإِن الآية قبلها تدل على أَن أَهل الكتاب يكرهون نزول الخير: أي الوحي من الله على المسلمين. وإنما كرهوا ذلك لأنهم كانوا يريدون بقاءَ النبوة في بني إسرائيل، وأَن تظل التوراة شريعة الناس: لا تنسخ، فهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. فأخبرهم الله- تعالى- بأنه يختص برحمته- أَي نبونه وشريعته- من يشاء، لأن أمرها ليس لهم، بل لله وحده {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. فلا يحق لهم أَن يحتكروا فضله عليهم. َ

وعقَّب. ذلك، بما يدل على أن نسخ شريعتهم بالشريعة الإسلامية ليس بدعًا، بالنسبة إلى شأنه وإلى مع سائر الشرائع، فقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَي: ما نغير من شريعة من الشرائع العلومة للناس: كالتوراة والإِنجيل والزبور، أو نجعلها منسية دارسة لا علم للناس بها - كالشرائع المجهولة لنا، النازلة على بعض من قصهم الله علينا من الأَنبياء ومن لم يقصصهم علينا، نأْت بشريعَة هَة خير منها أَو مثلها، حسبما ينبغى لحال الأْمة التي شرعت لها. وقد اقتضت الحكمة نسخ شريعتكم أيها اليهود، بشريعة الإِسلام، التي هي خير للأُمة التي كلفت بها، من شريعتكم , فلماذا تكرهون نزول الوحي على سواكم ناسخا لشريعتكم، وتلك سنة الله فى جميع الشرائع؟ ويؤول أصحاب هذا الرأي الآيات التي ظاهرها التعارض والنسخ، بحيث يبعدونها عن دائرة النسخ بمعنى تغيير الحكم. وقد اتضح مما سبق بيانه، أن المراد بالأية عند أَصحاب هذا الرأي: الشريعة , وقد أطلقت عليها, لأَنها علامه يهتدى بها الناس في معاشهم ومعادهم. وذلك يتفق مع المعنى اللغوى لكلمة الآية فإنها بمعنى العلامة. رأى ثالث النسخ ومن الباحثين من قال المراد: بالآية، المعجزة، وبنسخها, تغييرها. وعنده أَنها نزلت للرد على من اقترح أن يأتى محمَّد بمعجزة ,كمجزة موسى، كما يؤذن به قوله تعالى {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}. والمقصود من الاَية الكريمة على هذا الرأي: بيان أن معجزة النبي- صلى الله عليه وسلم - جاءَت من نوع آخر غير معجزات من سبقه وهى محققة لنبوته، ولذا ختم الآية بقوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وإِذا كان الله كل كل شئ قدير، فلا يفترح عليه تعالى آيات بعينها، فلكل نبي آياته. ولكل عصر ما يلائمه، وقد أيد محمدا - صلى الله عليه وسلم - بما هو كاف من المعجزأت أعظم الكفاية.

ومن أرد مزيدا من البيان فليرجع إِلى المطولات للموازنة بين تلك الآراء. والله الموفق. 107 - {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } الآية. لما قرر في الآية الله السابقة: أَنه تعالى على كل شئ قدير , ذكر هنا ما هوكالدليل على ذلك, وهو أَنه تعالى: له ملك السمؤات والأَرض، واستشهد على ذلك بعلم كل ذي علم فقال {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كما فعل هناك. فالخطاب فيه لكل من يعلم. والعلم بذلك قدر مشترك بين المسلمين وأَهل الكتاب والمشركين. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (¬1)}. وفي شمول الخطاب للمعاندين، أَبلغ ود عليهم. فهو إلزام لهم بما يعلمونه. ولكون التعميم مرادًا، ختمت الآية بقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} والهمزة في: {أَلَم تعْلَمْ} للإِنكار والنفي، دخلت النفي. ونفى النفي إثبات. والمعنى: أنك أَيها المخاطب، تعلم علمًا يقينيا: أنه تعالى، له ملك السنوات والأرض ومن كان كذلك، فهو على كل شئِ قدير. وإِذا ثبتت قدرتة على كل له شيءٍ بما ثبت له من ملك السموات والأرض- فهو صاحب الأمر في خلقه. فله نسخ الآية بخير منها أَو مثلها: تدرجا في الحكم، وتطويرًا له، حسب تطور حاجة البشر ومصلحتهم؛ فإِن رب الخليقة ومالك الكون، من شأْنه أن يرعى مصاحة عباده. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: معطوف على الخبر، دأخل معه في حيز المعلوم للمخاطب. و {دُونِ} بمعنى: غير. والولى: من يلي الاَّ مر أَو يملكه، والنصر: المعين، وجمع بينهما؛ لأَن المالك أَو ولى الأمر، قد لا يستطيع النصر, والنصر قد يكون أَجنبيا غير مالك, فأفادت الآية أَنه تعالى، اتصف با لوصفين جميعا: الملك والنصر. والمراد: وما لكم من غير الله مالك ولا معين. فلذا يرعى مصالحكم في التشريع وغيره. وأَتى بصيغة: فعيل في: {ولى} و {نصير} لأَنها أبلغ من فاعل، ولأن وليا أكثر استعمالا من من والٍ. ¬

_ (¬1) لقمان: 25.

وجيءَ بهذه الفقرة، إشارة إلى أن الراجب على العاقل أن يتجه بكليته إلى من له ملك السموات والأرض، لا إلى غيره، ممن لا يستطيع دفع ضر أو جلب نفع لنفسه. {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} المفردات: {أَمْ تُرِيدُونَ}:أَم هنا منقطعة. بمعنى بل، وهمزة الإنكار، أي: بل أتريدون. {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ}: أي يجعل الكفر في موضع الإيمان من نفسه {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: السببل: الطريق، وإضافة سواء إليه، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الطريق المستوى. التفسير 108 - {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ... } الآية. سبب نزول الآية: اختلف المفسرون في سبب نزولها. والراجح: أنها نزلت في شأْن اليهود حين قالوا: يا محمَّد، اتتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة جملة، وخاطبهم بذلك - بعد رد طعنهم في النسخ- تهديدا لهم. واخنار هذا الإمام الرازى. وقال: إنه الأصح، لأن الحديث - من أول قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} (¬1) إلى هذه الآية - حكاية عن اليهود ومحاجة معهم؛ ولأنه جرى ذكرهم قبل ذلك دون غيرهم. وعبر بالمضارع عل هذا في قوله: {أنْ تَسْألوا} مع أنهم سألوا قيل ذلك إحضارا للصورة لغرابتها، فقد جهلوا أن تنزيل القرآن، كان على حسب الوقائع، وذلك يقتضى إنزاله عل دفعات، فلا وجه لطلب إنزاله جملة. وقيل: إنها نزلت في المؤمنين: توصية لهم بالثقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك الاقتراح عليه، بعد أن رد طعن اليهود في النسخ. ¬

_ (¬1) الآية -40 - من هذه السورة,

على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬1). ولذا، نزل بعدها قوله سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ... }. والخطاب - على السبب الأول- لليهود. وإضافق الرسول إليهم باعتبار الواقع، وإن خالف اعتقادهم. وعلى السبب الثاني، يكون الخطاب للمؤمنين، وعلى هذا يكون المعنى:- لا نكونوا أيها المؤمنون- فيما أنزل عليكم من القرآن- مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينات، واقتراح غيرها، فتضلوا وتكفروا. يعني: أن شأْنكم- وأنتم مؤمنون- ألا تتجهوا لإرادة ذلك. وإضافقالرسول إليهم- على هذا- باعتبار الواقع والاعتقاد. {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}: المعنى: ومن يَخْتَرِ الكفرَ لنفسه، في مقابل الإيمان وبدلا عنه. فقد عدل عن الطريق السوى الموصل إلى أسمى الغايات. {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} المفردات: {وَدَّ}: تمنى وأحب. {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}: العفو: ترك العقوبة على الذنب. والصفح: ترك اللوم علية وهو أبلغ من العفو، إذ قد يعفو ولا يصفح. ¬

_ (¬1) المائدة: 101

سبب النزول

{حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}: بإِذنه في القتال. {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}: تجدوا ثوابه عنده. {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: أَدُّوها -بأركارنها وشروطها وهيئاتها- في أوقاتها. وأصله: أفعل من قام الحقُّ: ظهر وثبت أي أظهِروها على النحو الذي يرتضيه الشرع (بَصِيرٌ): عليم. التفسير 109 - {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... } الآية سبب النزول: روى الواحدي عن ابن عباس: أن طائفة من كبار اليهود قالوا للمسلمين - بعد وقعة أحد - ألم تروا إلى ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق لما هزمتم، فارجعوا إلي ديننا فهو خير لكم فنزلت: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... } المعنى: تمنى كثير من اليهود - أَهل الكتاب - أن يُرجعوكم - أيها المسلمون من بعد إيمانكم- كفارا: حسدًا لكم. نابعا من أَصل نفوسهم وأَعماق قلوبهم. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}: من بعد ما اتضح لهم الحق الذي أنتم عليه , بما جاء عنه -أي عن الحق- من النعوت في كتابهم، وبما ظهر لهم من الآيات التي أَيد الله بها رسوله، فلذلك ينتهزون الفرص لتنفيركم من دينكم - حتى ترتدوا عنه فلا تبالوا بهم. {فَاعْفُوا}: عنهم ولا تعاقبوهم. (وَاصْفَحُوا): ولا تلوموهم. (حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِامْرِه). أي: بإذنه في قتالهم. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فينتقم منهم حين يجيء أو ان الانتقام. وحسبهم -الآن- أن يأْكل الحسد قلوبهم.

وقد أَنزل الله بعد ذلك الإذن بقتالهم، في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1)، كما أَذن بإجلائهم. وفي التعبير بقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ... } الخ، للذان بأن منهم من لم يتمن ارتداد المؤمنين عن الإيمان, وهم الذين آمنوا من اليهود، كزيد بن سعنة وعبد الله ابن سلام. 110 - {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ... } الآية. بعد أن أَمر الله المؤمنين بمداراة أهل الكتاب- بالصبر على حسدهم وعلى ثمنيهم ارتدادهم عن الإيمان, وبالعفو والصفح عنهم؛ حتى يأْذن الله بأن ينتقموا منهم- أمرهم باللجوءِ إليه تعالى بالعبادة، تكميلا لأنفسهم واشتغالا بها عنهم، وتوسلا بها لنصره لهم فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: أدوها كاملة الأركان والشروط، مستوفية لهيئات. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي: أعطوها لمستحقيها من الأصناف الثمانية المجتمعة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} مهما كان نوعه {تَجِدُوهُ} أي: تجدوا ثوابه يوم القيامة {عِندَ اللهِ} تعالى: فيما أعده في جنته للمحسنين. وقد أعد لهم ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفي قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ}، إِيذان بأن الخير الذي تعطيه لأخيك المسلم كأنما تقدمه لنفسك؛ لأن المجتمع الإسلاى كالجسد الواحد. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: فلا يضيع عنده عمل العاملين. ¬

_ (¬1) التوبة: 29. (¬2) التوبة: 60.

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} المفردات: {هُودًا}: جمع هائد، كعُوذ جمع عائذ. ومعنى الهائد في الأصل: التائب. والمقصود هنا بالهود: اليهود. {أَوْ نَصَارَى}: يعنون المسيحيين، جمع نصران ونصوانة، سموا بذلك نسبة إلى بلدة الناصرة التي كان ينزل بها عيسى، أو لأَنهم أجابوا عيسى إِلى نصره لما قال لهم: من أنصارى إلى الله؟. {أَمَانِيُّهُمْ} الأمانيَّ: جمع أمنية- بتشديد الياء- وهي: تقدير شى، في النفس وتصويره. فيها. ولما كان أكثر. عن تخمين، صار الكذب فيه أكثر. فأ كثر التمني: تصور ما لا حقيقة له. {بُرْهَانَكُمْ}: حجتكم. {بَلَى}: حرف جواب , وهي هنا نفي لقولهم. {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}: أخلص توجهه وقصده، أو أخلص نفسه، وعبر عنها بالوجه، لأنه أَشرف الأعضاء ومجمع المشاعر، ومظهر آثار الإخلاص. التفسير 111 - {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ... } الآية. بعد أن حكى الله عن أهل الكتاب: أن كثيرا منهم يتمنون أن يردوا المسلمين إلى الكفر، أتبعه بأكذوبة أخرى من أكاذببهم وهي قول اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كمان يهوديا وفول النصارى: لن بدخلها إلا من كان نصرانيا. بعنون بذلك: أن المسلمين لن يدخلوها، تنفيرًا المسلمين من دينهم. وإثارة للفتنة بينهم؛ لأنهم كما تقدم. يودون ردتهم.

وجمع بي كلام الفريقين فى التظم الكريم: للإيجاز، وثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله؛ لأن العداوة بين القريقين معلومة. ولقد رد الله فريتهم هذه مشيرا إليها بكل بقولة: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي تلك أوهامهم الكاذبة التي لا أَساس لها. والأماني تطلق على ما يتمنى دون أَن يكون له سبب. فلذا أُريد منها -هنا- الأكاذيب مجازا. وجمعت مع أُنها أُمنية واحدة، لتعدد أَصحابها، أو لأَنها مشتملة على أَماني ثلاث: أُمنية اليهود دخول الجنة وحدهم، وأُمنية النصارى كذلك، وأُمنيتهم جميعا أَلا يدخلها المسلمون. ثم أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم مبكتا: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} أَي: أَحضروا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيما زعمتموه، فإن كل دعوى لا دليل عليها باطلة. و"إن" تستعمل لفرض ما لا يتوقع حصوله أحيانا، كما هنا. ثم نفى سبحانه ما زعموه صريحا بعد أَن عرَّض بكذبه، وأثبت عكس ما يقولون فقال: 112 - {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ... } الآية. أي: بل يدخل الجنة: من أَخلص نفسه وذاته لله، فآمن به ونزهه - تعالى- عن الولد {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: في جميع أعماله التي منها الإسلام. {فَلَهُ أَجْرُه} اللائق به {عِنْدَ رَبِّهِ}: المنعم المتفضل المربي في دار كرامته، كما وعده سبحانه. {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروه. (وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) على فوت مطلوب. فأمرهم كله أَمان واستبشار. أَما أَنتم -يأهل الكتاب- فلم تسلموا وجوهكم لله ولم تحسنوا، إذ كفرتم برسوله وكتابه، فلا حق لكم في جنته. وسوف تكونون في خوف داثم وحزن مقيم، وجعل الوجه كناية عن النفس؛ لأنه ترجمان عما تنطوى عليه من عقائد وأخلاق وصفات. فهو مظهر مشاعرها. قال القرطبي: والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء. ويصح أن يكون الوجه في الآية: المقصد. اهـ.

سبب النزول

وسمي الثواب أجرًا، للإيذان بكمال استحقاقه عنده تعالى، كما يستحق العامل أجره على عمله. وإضافة الأجر إليهم للإيذان بأنه أَجر يليق بهم وبإحسانهم. وعبر عن الثواب في الجنة بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِ}، لتكريمهم بإضافتهم إلى الرَّب. والإيذان بتحقيق ما وعدهم به فإن شأن الرب - سبحانه - أن يحقق لعباده ما وعدهم به. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} المفردات: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: المراد بهم عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلاءِ. {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}: بأن قالوا عن أهل كل دين آخر: ليسوا على شيءٍ. التفسير 113 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ... } الآية. سبب النزول: نزلت لما قدم وفد نجران -المسيحي- على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَتاهم أحبار اليهود، فتناظروا وارتفعت أصواتهم، وقال كل فريق منهم للآخرين: لستم على شيء. الربط: بعد أن بين الله - تعالى - أن اليهود يتلاقون مع النصارى في كراهيتهم لغيرهم وادعاءِ لك منهم أنهم الذي يدخلون الجنة دون غيرهم - شرع هنا يبين تضليل كليهما للآخر فقال:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} معتد به في أمر الدين. {وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} كذلك. ثم الله مدى جهلهم وعنادهم جميعًا، بحكاية حالهم فقال: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} السماوي، ومن كان تاليًا للكتاب السماوي، فشأنه أن يعترف بما في كتاب سماوي مثله من الحق، وألا يقول لأهله: لستم على شيء. فاليهود يقرءُون في كتابهم: ما يقتضى صحة رسالة عيسى وصدق ما جاء به، والنصارى يقرءون في كتابهم - الإنجيل - أن موسى نبي، وأن التوراة من عند الله، إذ الكتب السماوية متصادقة، فقولهم هذا: دليل الجهل والعناد. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي: مثل ذلك القول قاله الذي لا علم لهم أصلًا، وهم المشركون وأمثالهم من المعطلة والجهلاءِ، فلا تيأس يا محمد لما يقولون عن الإسلام {فَاللَّهُ} وحده {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهو الذي يعلم الدين الحق {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في شأن الدين، فيقضي بأن دين كل منهما، كان على الحق في زمانه: قبل أن يبدل، وقبل أن ينسخ بما بعده، ويعاقب كلا بما يستحق من عقاب على افترائه. وفي التعبير بعلى - في قول بعضهم لبعض: لستم {عَلَى شَيْءٍ} المفيدة للاستعلاء والتمكن، وتنكير (شَيْءٍ) المفيد للتحقير - كمال المبالغة في تضليل كل فريق منهما للآخر. وفي التعبير بقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} إيذان بأن تلك المقالة لا تصدر عن شخص متصف بالعلم، بل هي مما يقول الجاهلون، فإن شأن أهل العلم أن يقروا بالحق لأهله، وفي هذا توبيخ عظيم لكلا الفريقين، حيث نظموا في سلك لا يعلم أصلا، وحذف المحكوم به على كل فريق، تهويلًا لشأْنه.

سبب النزول

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} المفردات: {وَمَنْ أَظْلَمُ} من: استفهام إنكاري، بمعنى النفي. والمعنى: لا أحد أظلم. {مَسَاجِدَ اللَّهِ}: المراد بها جميع مساجد الله، وأماكن عبادته، فالآية قاعدة عامة، وإن كان سبب النزول خاصًا كما سيأتي: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ}: هوان وذلة. التفسير 114 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... } الآية الربط: ندَّد الله - سبحانه - فيما سبق، باليهود والنصارى، لتضليل بعضهم بعضًا وفي هذه الآية، بَيَّن أن من يعطل الشَّعائر في بيوت العبادة، يُعاقب. وقد دخل في ذلك: أهل الكتاب المذكورون، كما أن فيها نفيًا لزعمهم: أنهم أهل الجنة المختصون بها. سبب النزول: نزلت في المشركين لأنهم منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية من دخول المسجد الحرام. وعلى أي حال، فالمراد من المساجد: دور عبادة الله جميعًا، لأن العبرة بعموم اللفظ. وهذا يدل على أن الإسلام يحترم دور العبادة في الديانات السماوية السابقة له. المعنى: لا أحد أظلم ممن منع الناس من ذكر الله في دور العبادة: فردًا كان المانع أو جماعة،

وسعى في خرابها بإلقاءِ القاذورات فيها، أو إغلاقها، أو الحيلولة دون دخول العابدين فيها، وتعطيل شعائرها الدينية بأي وجه من الوجوه. وإنما وقع المنع على المساجد - مع أن الممنوع هم الناس - لأن طرح الأذى والتخريب ونحوهما، متعلق بالمساجد لا بالناس. وظاهر الآية يفيد: أنه لا يوجد أظلم منه. ولكن المراد: نفي وجود من يساويه في الظلم أيضًا، كما يدل عليه العرف. فإذا قيل في معرض المدح مثلًا، من أكرم من فلان؟ فمعناه عرفًا: أنه لا يوجد أكرم منه ولا من يساويه. {أُولَئِكَ}: المانعون المخربون للمساجد. {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} أي: ما كان ينبغي لهم دخولها إلا خاشعين خاضعين، بدلًا من الاجتراء على تخريبها أو تعطيلها. {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: لأولئك المانعين المخربين هوان وذلة في الحياة الدنيا، أي: أن هذا الحكم يبقى إلى يوم القيامة، ولهم في الآخرة عقاب في النار عظيم لا يقادر قدره. وإذا كان المراد من مساجد الله، مساجد المسلمين خاصة، وأن الآية نزلت في أعدائهم الكافرين، فمعنى الآية: لا أظلم من الكافرين الذين منعوا ذكر الله في مساجد المسلمين، بتخريب أو غيره، أولئك الكافرون، ما كان يحق لهم أن يدخلوها إلا خائفين من بطش المؤمنين بهم، فكيف يستقيم أن يستولوا عليها، ويمنعوا المؤمنين منها. والخزي الذي لهم في الدنيا: بقتل مشركيهم، وضرب الجزية على أهل الذمة منهم. وحبسهم، ونحو ذلك. ويقتضي حمل الآية على هذا المعنى: أن على المؤمنين أن يرهبوا الكافرين أعداء الله، ويكونوا في قوة ومنعة حتى يحموا بيوته، ويمنعوا أولئك الأعداء من تخريبها وتعطيلها. واستنبطوا منها تحريم دخولهم فيها، وهذا رأي المالكية. وعليه يجعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ}: كناية عن النهي عن تمكينهم من دخولها، ليتفق ذلك مع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬1) ¬

_ (¬1) التوبة: 28.

والمساجد يجب تطهيرها من النجاسات، ولذا يمنع الجنب والحائض والنفساءُ من دخولها. ولكن الحنفية يجيزون دخولهم فيها بإذن المسلمين، فإن الآية تفيد دخولهم بخشية وخضوع، ولأن وفد ثقيف قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم في المسجد. وعلى فرض أن الآية تفيد النهي، فهو محمول على كراهة التنزيه لا التحريم. أو على دخول الحرم بقصد الحج لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة قال للمشركين: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخل الكعبة فهو آمن". وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره. وقال: الحديث منسوخ بالآية. ذكره الآلوسي. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} المفردات: {الْمَشْرِقُ}: موضع الشروق. {وَالْمَغْرِبُ}: موضع الغروب. والمراد بهما هنا: هما وما بينهما من الجهات والأماكن. {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: فهناك جهته. أي: قبلته التي أمر عباده أن يتجهوا إليها، فالوجه والجهة شيء واحد. {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: يوسع على عبادة في التشريع. أو واسع العلم. محيط بما تستطيعون عمله، فلا يكلفكم ما يشق عليكم. التفسير. 115 - {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ... } الآية. قال ابن عمر نزلت في المسافر: يتنقل حيثما توجهت به راحلته، خرّج مسلم عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي - وهو مقبل من مكة إلى المدينة - على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} نقله القرطبي.

لا يمنع السبب المذكور، من ارتباط الآية بما قبلها: فإن الآية السابقة أفادت: أن بعض الظالمين قد يمنعون المصلين من الصلاة في مساجد الله، وهذه الآية أباحت الصلاة في أي مكان غير المساجد الممنوعة، على أن يتجهوا إلى جهة الله، أي قبلته التي شرعها، كما تضمنت إباحة صلاة النافلة للمسافر على الراحلة ونحوها، متجهًا إلى مقصده فهو قبلته، وهو الذي استفيد أيضًا من سبب النزول. ولله وحده الأرض كلها: مشرقًا ومغربًا وما بينهما، ففي أي مكان، وجهتم وجوهكم نحو القبلة التي أمر الله عبادة بالاتجاه إليها: للعبادة والدعاء والذكر، فهناك - حيث توجهتم - جهة الله أي قبلته التي أُمرتم بالتوجه إليها. فإن مُنعتم عن الصلاة إليها في مسجد أو مكان، فاستقبلوها - في فروضكم ونوافلكم - في مسجد أو مكان آخر. فإن إمكان الاتجاه إليها غير مختص بمسجد دون مسجد، أو مكان دون مكان. ومن كان راكبًا على دابة ولا يمكنه أن ينزل عنها، لخوف - على نفسه أو ماله - من ضرر يلحقه بالانقطاع عن القافلة، أو كان بحيث لو نزل عنها لا يمكنه العودة إلى ركوبها، أو نحو ذلك، فإنه يصلي الفرض في هذه الأحوال على الدابة، إلى أي جهة يمكنه الاتجاه إليها، وتسقط عنه أركان الصلاة التي لا يستطيع فعلها على الصفة المطلوبة، ولا إعادة عليه (1). وحكم السيارة والقطار والطيارة حكم الدابة أيضًا. وقيل: المراد: بوجه الله: ذاته. وهذا كناية عن عمله - تعالى - بعبادتهم في أي مكان. قال أصحاب هذا الرأي: إن الآية نزلت لتنزيهه - تعالى - عن أن يكون في حيز وجهة، توطئة لتحويل القبلة إلى الكعبة. والمعنى عليه: ولله المشرق والمغرب، فلا يختص ملكه وعلمه بمكان دون مكان، فأينما تولوا وجوهكم في الصلاة والدعاءِ، فهناك - حيث اتجهتم - سلطان الله وعلمه بعبادتكم، فلن تضيع عليكم. ثم ختم الآية بهذا التذييل: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم بما ليس في وسعهم {عَلِيمٌ}: بمصالحهم وبما يعملون في مختلف أماكنهم.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} المفردات: {سُبْحَانَهُ}: تنزيها وتبرئة لله لائقة به مما قالوا. {قَانِتُونَ}: منقادون خاضعون. التفسير 116 - {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ... } الآية. بعد أن بين الله - سبحانه - شيئًا من مآثم اليهود وضلالهم، وأشار إلى تعصبهم الذي أرداهم، ووقوع النصارى فيما وقع فيه اليهود: حيث اتَّهَمَ بعضهم بعضًا بأنهم ليسوا على شيء، تكلم في شأن النصارى واليهود. ومن جاراهم في نسبة الولد لله من المشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله. جاء الإسلام بتوحيد الخالق وتنزيهه عن الولد، بين أهل كتاب ومشركين: يزعمون أن لله ولدًا، فاليهود يزعمون أن عزيرًا ابن الله، والنصارى يزعمون مثل ذلك لعيسى، والمشركون يزعمون مثله للملائكة، فيقولون إنها بنات الله. وقد أنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة لتبرئته - تعالى - عما يزعمون، وضمنها الدليل على ذلك في قوله: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}. وقد تضمن الدليل: أنه لا يصح أن يكون لله ولد، لأنه مالك السموات والأرض، ومن يدعونه ولدًا ليس كذلك، ولابد أن يشبه الولد أباه. ولأنه مملوك لله ومخلوق له، فهو من جملة السماء والأرض التي يختص بملكها الله، والمملوك لا يكون ولدًا، وأن الولد يُحتاج إليه ليعين أباه، ويرثه بعد موته، والله غير محتاج إلى معونة لخضوع الكل له - تعالى - وانقيادهم لإرادته، كما أنه حي لا يموت، فلا حاجة له إلى ولد يرثه بعد موته. فخضوع الكائنات لربها، واحتياجها إليه باقٍ لا ينتهي، فكيف يموت حتى يرثه ولده: تعالى الله عما يقولون.

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} المفردات: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبدعهما ومخترعهما على غير مثال سابق. من بدعه بمعنى أنشأه واخترعه. وكما يأتي فعيل بمعنى مفعول، يأتي بِمَعْنَى فاعل، كما هنا. ونظيره: السميع بمعنى الْمُسْمِعُ، في قول الشاعر: "أمن ريحانة الداعي السميع" وكل من أنشأَ ما لم يسبق إليه يُقال له: مبدع، ومنه أصحاب البدع. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}: أي شاءَ إيجاد شيء. {كُنْ فَيَكُونُ}: نفذه في حينه بيسر وسهولة. التفسير 117 - {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } الآية. هذه حجة أخرى لإبطال دعوى الولادة لله - تعالى - وتقريرها: أنه تعالى مبدع لكل ما سواه، فاعل على الإطلاق، وهذا أمر لا ينازِعُ فيه صاحب كتاب ولا مشرك. وبما أن من زعموه ولدًا لله - تعالى - داخل ضمن من أبدعه واخترعه من السموات والأرض، فلهذا، لا يصح أن يكون ولدًا له سُبْحَانَه، لأن الولد ينشأُ عن التوالد لا الخلق. وأشار إلى حجة أخرى في قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. ومن زعموه ولذا، ليس له هذه القدرة والسرعة في التكوين، فكيف يكون ولدًا لله، والولد على سنة أبيه! وليس المراد بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} حقيقة الأمر والامتثال، لأنه تعالى يخلق المعدوم، والمعدوم لا يؤمر، بل المراد تمثيل سهولة تَأَتِّي المقدورات وفق مشيئة الله - تعالى - وتصوير حدوثها: بانفعال المأْمور وطاعته للآمر القوي المطاع. تقريبًا للأذهان

والأمر عنده تعالى أيسر من ذلك، فالخلق عنده لا يتوقف على أن يأمر بـ (كنْ)، بل يتوقف على الإرادة والمشيئة، فإذا أراد شيئًا كان كما أراد في حينه ومكانه. {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} التفسير 118 - {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ... } الآية. بعد أن حكى الله - سبحانه - عن الكافرين اعتقادهم أن لله ولدًا، حكى هنا تعنتهم، وطعنهم في نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. اختلف المفسرون في المراد من: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فقال ابن عباس: هم اليهود. وقال مجاهد: هم النصارى. وأكثر أهل التفسير على أنهم مشركوا العرب. لقوله حكاية عنهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (¬1). وعبر عنهم بالذين لا يعلمون، استهجانًا لذكرهم، لقبح ما صدر عنهم، ولأن ما يحكي عنهم لا يصدر إلا عن الجهلاء. وفي التعبير بالفعل: {لَا يَعْلَمُونَ} تيئيس من علمهم، فهم لن يتجدد لهم علم - مع تجدد الآيات والعبر والعظات - لغباوتهم. {لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أي: هلَّا يكلمنا الله بغير واسطة: آمرًا وناهيًا، أو مصدقًا على نبوتك. {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}: المراد من الآية: ما اقترحوه من جعل "الصفا" ذهبًا. ورُقِيِّه في السماء وغيرهما مما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (¬2). وهذا منهم غاية في الجحود والإنكار، لاستهانتهم بما أنزله الله عليهم من آيات، وبما أيده به من معجزات. ¬

_ (¬1) الأنبياء:5 (¬2) الإسراء: 90

ثم سرَّى الله عن نبيه، فقال: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} - أي - مثل ذلك القول السقيم، قال الذين كانوا قبلهم من الأمم السابقة، أو من اليهود والنصارى، إذ قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً (¬1)} وقالوا: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ (¬2)} وقالوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ (¬3)} وقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ (¬4)}. {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: تشابهت قلوب السابقين مع قلوب اللاحقين في الكفر، والإعراض عن الحق، والعناد، والمكابرة. والمعنى: أن تشابه أقوالهم نابع من تشابه قلوبهم. {قدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: يطلبون اليقين، وهو العلم الذي لا يخالطه شك، وذلك بالنظر والاستدلال. ولم يتعرض للرد على طلبهم تكليم الله، لظهور بطلانه. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)} المفردات: (بشيرًا ونذيرًا) أي: مخبرًا لمن آمنوا بما يسرهم من الثواب، ومنذرًا لمن كفروا بما يحزنهم من العقاب. (الجحيم): النار، إذا شب وقودها واضطرمت. التفسير 119 - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ... } الآية. هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان لمهمته، كي يتوجه إليها بكلِّيَّتِهِ، ولا يلتفت إلى معارضيه من أهل الكتاب والمشركين، بعد ما سجل تعنتهم. إنا أرسلناك أيها الرسول، بالدين الحق، المؤيد بالبراهين، إلى أهل الأرض جميعًا {بَشِيرًا} أي: مبشرًا من آمن بصلاح الحال وحسن المآل {وَنَذِيرًا}: ومنذرًا من كفر بعذاب الجحيم، ليختاروا ما أحبو لأنفسهم. ولست مجبرًا لهم على الإيمان، فلا عليك إن أصرُّوا ¬

_ (¬1) النساء:153 (¬2) البقرة: 61 (¬3) المائدة:113 (¬4) الأعراف:138

وكابروا: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} فيقال لك: لماذا لم يؤمنوا؟ ولن يُنسب إليك تقصير، بعد ما بلغتهم رسالة ربك. وفي التعبير عن الكافرين بأنهم أصحاب الجحيم: استهجان لذكرهم، وإيذان بعقابهم بالجحيم، وأنهم ملازمون لهذا العقاب، لما تفيده الجملة الإسمية من الاستمرار والدوام. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} المفردات: (لئن): مكونة من لام القسم وإن الشرطية. التفسير 120 - {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ... } الآية. أراد الله سبحانه: أن يبين لرسوله غاية أعدائه من اقتراح الآيات، ويحذره منهم، فقال ما معناه: إن اليهود والنصارى يقترحون الآيات تعجيزًا، لا طلبًا للهداية، فلو أتيتهم يا محمد، بكل ما يسألون، فلن يرضوا عنك، ولن تنال رضاهم، حتى تتبع دينهم الزائف المنحرف، قل لهم يا محمد: إن هدى الله الذي أنزله إليك، هو الهدى الذي يجب اتباعه والاهتداء به، إذ لا هادي غيره، لأن غيره ليس من عند الله، ونقسم: لئن اتبعت يا محمد، ديانتهم الباطلة الناشئة عن الهوى - بعد الذي جاءك من الوحي المقتضى للعلم بالحق - مالك من جهة الله وليُّ يواليك ولا نصير يعينك. والغرض من توجيه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ... } الآية:

هو إقناط اليهود والنصارى من إمكان تخلِّيه عن دعوته، وليس المراد تحذيره حقيقةً من اتباع أهوائهم بعد ما جاءَه من الحق، فإن ذلك لا يُتصور حصوله منه. وقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ} الآية: جواب القسم في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ} أغنت عن جواب الشرط، على القاعدة المعروفة، وهي: أن القسم والشرط إذا اجتمعا يكون الجواب للمتقدم، ولذا خلت الجملة عن الفاء. ويجوز أن يكون التحذير للأمة المحمدية، مخاطبة به في شخص الرسول الكريم، وهو بهذا الوجه قائم دائم للمسلمين أجمعين إلى يوم القيامة. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)} التفسير 121 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ... } الآية. الذين تفضلنا عليهم بإعطائهم الكتاب من أحبار اليهود حالة كونهم يقرأونه حق قراءته فلا يحرفونه، بل يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويحرمون حرامه ويصدقون كل بشاراته، أولئك يتمتعون حقًا بنعمة الإيمان بكتابهم، ولذلك أسلموا. أما الذين كفروا به، بأن حرفوه وأساءُوا تأوليه، وجحدوا بشارته، فأُولئك هم - وحدهم - الخاسرون دون سواهم. ولذلك لم يسلموا كما أسلم الأولون. ولا وجه لتخصيص الآية بمن أسلم من أهل الكتاب كما جنح إليه بعض المفسرين، فقد تضمنت من كفر منهم في آخرها. وقد حمل بعض المفسرين: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والكتاب على القرآن. وهذا الحمل خطأ، فإنَّ عُرْفَ القرآن: على أن أهل الكتاب هم: اليهود والنصارى. ولم يذكر المسلمون فيه. إلا بعنوان المسلمين والمؤمنين. كما أن السياق واللحاق، في بني إسرائيل فلا وجه لما قاله هؤلاء المفسرون.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} المفردات: {إِسْرَائِيلَ} هو: يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، عليهم السلام. {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}: تذكروا ما أنعمت به عليكم، من: الإنجاء من بطش الفراعنة، وإنزال التوراة، وغير ذلك. والمقصود من أمرهم بتذكرها: أن يشكروها بالإيمان، بما يجب الإيمان به. {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانهم. {وَاتَّقُوا يَوْمًا}: المراد باليوم: يوم القيامة، وباتقائه: التحفظ من عقابه. {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تحمل عنها شيئًا من جزاء عملها. {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي: لا يُقبل منها فداء. التفسير 122 - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ... } الآية. بعد أن نفى الله ما افتراه أهل الكتاب والمشركون من أن لله ولدًا، وأيد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أنكروها، ذكَّرَ بني إسرائيل بنعمه عليهم، وحذَّرهم من كفرها. وقد سبق التذكير بهذه النعم في الآيتين 47، و48 من هذه السورة، ولكنه كرر تذكيرهم بها هنا، تأكيدًا لوجوب شكرها بالإيمان، وليرتب عليها الوعيد الشديد. يا أبناء النبي إسرائيل، تذكروا ما أنعمنا به من النعم على آبائكم حتى شملتكم، ومنها أنَّي فضلتكم على عالمي زمانكم، بما آتاكم الله من التوراة دونهم. ومن حَقَّ تذكركم لهذه النعم وتقديركم لها: أن تشكروها.

ومن شكرها: أن تؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي بشرت بها التوراة، التي فضلْتكم بها على الوثنيين والمعطلين المعاصرين لكم، فقد انتهى العمل بالتوراة. 123 - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ... } الآية. أي: واتقوا بإيمانكم بمحمد عقاب يوم: لا تحمل فيه نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئًا من الجزاءِ، {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ}: أي فداء، مهما عظم، لَوْ وَجَدَتْهُ. {وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} إذ لا شفاعة لكافر {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} من أحد، إذ لا غالب للقهار - جل جلاله (¬1) - واليوم المذكور هو يوم القيامة، وإنما خوطب اليهود في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في الآيتين، لأن ما أُنعم به على آبائهم، هو نعمة عليهم. ولكي يأمرهم بوقاية أنفسهم من العقاب: أمرهم بالإيمان بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - شكرًا لهذه النعم. وفي خطابهم منسوبين إلى جدهم - إسرائيل - عليه السلام - إشعار لهم بأن ذرية الرسول الصالح: الذي أمرهم ألا يموتوا إلا وهم مسلمون، يجب عليهم امتثال ما يأمرهم به رسول الإسلام، الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام. والتعرض لنفي الفداء والشفاعة والنصرة في هذا اليوم، لأَنها هي الأمور التي اعتادها بنو آدم في تخليصهم إذا وقعوا في شدة. {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} المفردات: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ}: اختبره ببعض التكاليف. {بِكَلِمَاتٍ}: هي ما كلفه الله به من التكاليف، التي سنتحدث عنها في المعنى. {إِمَامًا}: قدوة للناس. ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية (48) من سورة البقرة في موضع الشفاعة.

{قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}: أي واجعل من أبنائي أئمة. {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}: العهد هنا: الإمامة والنبوة. وينال: بمعنى يدرك، أو يصيب. وعهدي: فاعل، والظالمين: مفعول. التفسير لما ذكر فيما تقدم اشتراك أهل الكتاب، وعبدة الأصنام في جعلهم ولدًا لله، وفَنَّدَ هذه الدعوى الكاذبة، ودعا بني إسرائيل إلى أن يتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، أتبع ذلك ذكر ما كان عليه إبراهيم - عليه السلام - من عقائد مخالفة لما قالوا، موافقة لما دعاهم إليه رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-. والغرض من ذكر ذلك توبيخهم على ما هم عليه مما يخالف ما كان عليه إبراهيم، مع ادعائهم الانتساب إليه، وسيرهم على ملته. 124 - {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ... } الآية. الابتلاء: الامتحان. وهو عند الخلق لاستجلاء ما خفي علمه لديهم. والمراد به - في حق الخالق - تكليفُ العبد ببعض التكاليف. وأُطلق عليه الابتلاء - مع أنه تعالى لا يخفى عليه -شيء - لما فيه من إظهار أعمال العبد التي كانت خفية قبل أن يفعلها، كما يحدث في الامتحان. والكلمات هي: الواجبات التي كلفه الله بها، ولما كان التكليف بها يكون بكلمات، أُطلقت عليها مجازًا. قال ابن العربي: تسمية الشيء بمقدمته أحد قِسْميِ المجاز. والمراد بها التكاليف: ما كلفه الله به من شرعه. ومنها ما سيأتي مما حكاه الله في شأنه، وقد أبرزه من بين تكاليفه، لاتصاله بموضوع المحاجة مع أهل الكتاب والمشركين وجماعها الإسلام. والمراد من قوله {فَأَتَمَّهُنَّ} أنه وَفَّى بتلك التكاليف جميعًا. روى عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلى الله أحدًا بهن فقام بها كلها، إلا إبراهيم: ابتلى بالإسلام فأَتمه، فكتب الله له البراءة، فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (¬1)}. ¬

_ (¬1) النجم: 37.

وقد بين الله هنا: أنه تعالى كافأَه على هذا الإتمام، بأن جعله للناس - عامة - إمامًا يؤتم به، وقدوة يُقتدى به في جميع العصور والأجيال والمل لمن بعده. بخلاف كل نبي، فإمامته خاصة بأُمته، ولهذا جيءَ به موعظة وزجرًا لأهل الكتاب والمشركين: الزاعمين أنهم يسيرون على منهاجه. ولما بشر إبراهيم بهذه المكافأة، طلب إبراهيم مثلها لبعض ذريته فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي واجعل بعض ذريتي إمامًا للناس، وهو كعطف التلقين، كما يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، فتكون الجملة دعائية - فرد الله عليه قائلًا: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: لا يدرك عهدي بالنبوة الظالمين العصاة، ولا يصيبهم، لأن الأنبياء معصومون من المعاصي. وإطلاق الظالمين على العصاة، لأنهم ظلموا بمعاصيهم أنفسهم وغيرهم. وقد حصلت بركة دعوته هذه لعدد من بنيه الصالحين، جعلهم الله أنبياء، وهذه القراءة: نصبت الظالمين مفعولًا لينال، و (عَهْدِي) فيها مرفوع محلًا على الفاعلية، أي لا يصيب عهدي - بالنبوة - الظالمين. وقرأ قتادة والأعمش: (الظَّالِمُونَ) بالرفع فاعلًا لينال، وعهدي حينئذ مفعول. والمراد من القراءتين واحد، إذ الفعل تصح نسبته إلى كل من العهد والظالمين، على الفاعلية أو المفعولية، فإن مانالك فقد نلته. {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} المفردات: {الْبَيْتَ}: المراد به الكعبة. {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}: مرجعًا لهم للعبادة. من ثاب بمعنى: رجع.

{مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}: هو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت. {مُصَلًّى}: مكان صلاة. {وَعَهِدْنَا}: أي أمرنا أمرًا مؤكدًا. {طَهِّرَا بَيْتِيَ}: نظفاه من كل ما لا يليق من الأوثان، وجميع الخبائث. {وَالْعَاكِفِينَ}: أي المعتكفين في المسجد، أي: الملازمين له زمنًا ما. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: الركع جمع راكع، والسجود جمع ساجد، والمراد بهما المصلون. التفسير 125 - {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ... } الآية. أي واذكر يا محمد وقت أن أمرنا بأَن تصير الكعبة المعظمة مرجعًا للحجاج: يرجعون إليه بعد أن يتفرقوا عنه، أو موضع ثواب يُثاب الناس بالحج إليه، والاعتمار فيه. (وَأَمنًا) أي موضع أمن، والمقصود من جعل البيت مكان أمن: أن الحج إليه، يجعل الحاج مطمئنًا إلى رحمة الله، فإنه مكفر لكثير من الذنوب، وأن من لاذ به، كان آمنًا من ظالميه، لغلظ عقوبة الاعتداء فيه وفي الحرم الذي حوله، تشريفًا وتكريمًا له. ولقد سرى هذا الأمن إلى حيوانه غير المستأنس، فيحرم صيده فيه، ولذا أُطلق الأمن في الآية ولم يُقيد. وتكريمًا لإبراهيم - عليه السلام - أمر الله تعالى أن يتخذ الناس - عند الحجر الذي قام عليه لبناء البيت - موضع صلاة لركعتي الطواف وسواهما. والأمر استحباب. ثم أمر سبحانه إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - أن يطهرا هذا البيت - وما حوله - من كل ما لا يليق بعبادة الله وحده فيه، وفي مقدمته الأوثان، حتى تكون العبادة خالصة لله، وقد حفّ بالعابد: الطهر والنظافة من الأوساخ الحسية والمعنوية: كالضوضاء، وأدران القلوب، وهكذا يجب أن يكون الأمر في دور العبادة في شريعتنا، فالحكم ممتد إلينا من عهد إبراهيم عليه السلام. وقد تقرر بالسُّنة إلى جانب ما ورد هنا، وإنما خص البيت بالحكم، لمناسبة الحديث عن شئونه. وقد أمر بتطهيره - على هذا النحو - من أجل الطائفين به للنسك من أهل الحرم، أو الوافدين عليه من بقاع الأرض، ومثلهم الزائرون.

فالتطهير عام من أجل الجميع. وكما أمره بتطهيره مما ذكر للطائفين، أشرك معهم في هذا الحكم: المعتكفين فيه عن الناس لعبادة ربهم، والمصلين الذين عناهم سبحانه بقوله: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. وإنما عبر عن المصلين بالركع السجود، لأن أبرز معاني الطاعة والخضوع لله في الصلاة، يتجسم في الركوع والسجود. ولم يستجب أهل الكتاب والمشركون لهذا الأمر {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} لكفرهم فإن أهل الكتاب لا يصلون إلى البيت الحرام، الذي بناه جدهم إبراهيم، وصرف وجوه الناس إليه، وحملهم على أداء النسك حوله، والمشركون لوثوه بالأوثان والذبائح حولها، وهذا ما يَدَّعون الانتساب إليه، فأين دعواهم هذه مما يعملون؟ أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي أحيا شريعة جده وحافظ عليها كما أمر. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} التفسير 126 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ... } الآية. مازال الحديث متصلًا، فبعد أن تكلم إبراهيم وتكلم عن البيت الذي بناه، شرع يتكلم عن مكَّة: بلد البيت وموطن ولده إسماعيل، وموضع نسكهما. والمعنى: واذكر وقت أن قال إبراهيم - وقد أنزل ولده الرضيع وأمه بوادٍ غير ذي زرع - يا رب اجعل هذا المكان المقفر: الذي لا شجر فيه ولا زرع ولا ماء، اجعله {بَلَدًا آمِنًا} بأن تحوله من هذا الإقفار إلى بلد آهل بساكنيه، ذي أمن، فلا يُعتدى على قاطنيه، وقد كانت مكة حرمًا آمنًا قبل إبراهيم - عليه السلام -. فقد روى مسلم عن ابن عباس مرفوعًا "أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض" الحديث، ودعاء إبراهيم لإظهار تلك الحرمة وتجديدها.

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ} الذي يسكنونه {مِنَ الثَّمَرَاتِ} المختلفة، بأن تجعل بقربه قرى تثمرها، أو أن تُيَسّر جلبها إليهم من الأقطار الشاسعة، وخص دعوته بالمؤمنين منهم بقوله: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) إظهارًا لشرف الإيمان وخطره، واهتمامًا بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب، وإيذانًا بأنهم هم المستحقون لهذا الرزق، دون من كفر من أهل الكتاب والمشركين {قَالَ} الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} منهم {فَأُمَتِّعُهُ} زمانًا {قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} وألجئه إليه يوم القيامة فلا يستطيع الفكاك منه جزاء له على كفره. والواو في {وَمَنْ كَفَرَ} عطف على جملة من كلام الله على جملة) من كلام إبراهيم - عليه السلام - وهي {مَنْ آمَنَ} عطف تلقين، للإيجاز في القول. وقد أرشدت الآية: إلى أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن، وإن كان المؤمن أهلًا لكل خير. فرزق الكافر لاستدراجه، ولو حرم الله الكافرين من التوسعة في الرزق في الدنيا وخص بها المؤمنين، لانساقوا إلى الإيمان قسرًا. وقد قضت حكمته - سبحانه - أن يكون الإيمان اختياريًا، حتى يتجه إليه الإنسان عن طريق النظر في آيات الله، التي يبصرها قوم ويعمى عنها آخرون. ووصف التمتع بالقلة، لأن مدة الدنيا قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ولتعرض متعها إلى الزوال كل لحظة. {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} المفردات: {يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ}: القواعد: الأسس، جمع قاعدة، ورفعها: البناءُ عليها.

{أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}: جماعة مستسلمة ومنقادة لك بالإيمان والعمل الصالح، أو المراد بها: أُمة دينها الإسلام، وهي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}: متعبداتنا في الحج. {رَسُولًا مِنْهُمْ}: أي من أنفسهم، ولم يبعث من ذريتهما فيهم غير محمد - صلى الله عليه وسلم -. {الْكِتَابَ}: القرآن. {وَالْحِكْمَةَ}: وضع الأُمور في مواضعها. {وَيُزَكِّيهِمْ}: ويطهرهم من دنس الشرك والمعاصي. {الْعَزِيزُ}: الغالب الذي لا يُقهر. {الْحَكِيمُ}: الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة. التفسير 127 - {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} واذكر يا محمد أيضًا حين بنى إبراهيم فوق أُسس الكعبة، ورفعها هو وإسماعيل ابنه، وهما يقولان داعيين: ربنا تقبل منا بناء هذا البيت: الذي سيكون قبلة ومطافًا لعبادك، إنك أنت وحدك دون سواك السميع دائمًا لأقوالنا، العليم في كل حين بخفايا نياتنا. 128 - يا ربنا وأضف إلى تفضيلك بتقبل طاعتنا في بناء الكعبة منا، تفضلك بأن تجعلنا منقادين دائمًا لك: لا نخالف أمرك، ولا نعصي نهيك، بحيث يكون قياد قلوبنا بيدك وحدك. ياربنا وأضف إلى ما تفضلت به: أن تجعل بعض ذريتنا جماعة مستسلمة ومنقادة لك، في إيمانها وطاعتها، لا للهوى والشيطان. وعرِّفنا يا ربنا أماكن حجنا ومذابح هدينا، واقبل توبتنا وتوبة ذريتنا، إنك أنت - لا سواك - مانح التوبة، والمتفضل بقبولها وإن عَظُمَ الذنب وتعدد، وأنت كثير الرحمة، عظيم الإحسان.

فإن قيل: إن الأنبياء لا يعصون ربهم، فما وجه طلب إبراهيم وإسماعيل من ربهما أن يتوب عليهما؟ أي يقبل توبتهما: فالجواب: أن ذلك محمول على هضم النفس، أو على أن يتوب عليهما مما خالفا به الأَوْلى، أو فعلاه سهوًا أو أفراد ذرياتهما. 129 - {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يا ربنا، وأتمَّ على ذريتنا نعمتك: بأَن تبعث فيهم رسولًا منهم، لا من غيرهم. يتحدث بلغتهم ويقرأُ عليهم آياتك البينات، ويعلمهم معاني القرآن وأسراره، ويعلمهم الحكمة. أي وضع الأمور في مواضعها، ويطهرهم من دنس الشرك وقبيح العادات، إنك أنت يا رب - لا سواك - العزيز: الغالب الذي لا يُقهر، الحكيم: المدبر عن حكمة وإتقان. تفصيلات لبعض ما تقدم: لم نشأْ أن نقطع على القاريء اتصال المعنى الإجمالي بشيء من التفصيلات وقد رأينا أن نأْتي بما يلزم منها فيما يلي. في نداء إبراهيم وإسماعيل لله - سبحانه - بعنوان الربوبية لهما إذ يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} مظهر من مظاهر الخضوع والإجلال له - سبحانه - وقد أكد رجاءَهما في تقبله - تعالى - لدعائهما بقولهما: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فإن من كان هذا شأنه يتفضل بقبول عملنا الذي علم أننا أخلصناه لوجهه. وبما أنهما مسلمان مخلصان له تعالى، يكون قولهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مراد منه: أَدِم علينا نعمة هذا الإسلام لك: بامتثال أوامرك واجتناب نواهيك دائمًا. فالمسلم لا يطلب أن يُجعل مسلمًا، بل أن يدوم على إسلامه، والمقصود من الإسلام فيما قالا: الخضوع والاستسلام إلى الله - تعالى - بتوحيده، ونفي الشركاء والأولاد والزوجات عنه - تعالى - وغير ذلك من أمهات الفضائل: التي اشتركت فيها جميع الأديان، إلى جانب ما اختصا به في شريعتهما. وما من شريعة إلا كان الغرض منها الإسلام لله أي الخضوع له فيما شرعه. فالإسلام بهذا المعنى: هو دين الأنبياء جميعًا، وعليه قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (¬1)}. ¬

_ (¬1) آل عمران: 67.

وهذا يفيد: أن الإسلام الذي يدين به، هو ما ليس فيه الشرك الذي تردى فيه اليهود والنصارى والوثنيون. ويجب أن يُعرف أن دين إبراهيم، ليس مطابقًا للإسلام في فروع الشريعة، بل في أُصولها وأُصول العقائد. فإن كل دين، جاءت فيه فروع تناسب الأمة التي كلفت بها. وقد كان دين إبراهيم يسيرًا في شرائعه وأحكامه، إذ جاءَ في صحائف، ولم يأت في كتاب كبير، كالإسلام واليهودية والنصرانية. وقد امتاز الإسلام بأنه تناول كل فروع الحياة، وأعطاها الأحكام المناسبة لها، فكان - لذلك - صالحًا لكل زمان ومكان. وقد طلب إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - من ربهما أن يجعل من ذريتهما جماعة مسلمة له - تعالى - ولم يعمما الذرية، لما وقر في نفسيهما، من أن بعضهم سيكونون كفارًا، لما عرفاه من طبائع البشر، وسيرهم على هواهم، وتنكرهم لشرائع رسلهم. وخصَّا ذريتهما بالدعاءِ، لأنهم أحق بالشفقة، والدعاء لهم بالصلاح مطلوب شرعًا. ومعنى {وَتُبْ عَلَيْنَا}: وفقنا للتوبة أو تقبل توبتنا. والتوبة في حق الأنبياء تكون من ترك ما هو الأولى، أو من خطأ في الاجتهاد. وعلى هذا نحمل التوبة التي يسأل الأَنبياءُ والمرسلون قبولها. ولعل في ذكر هذه الجملة هنا بعد قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} إرشادًا إلى أن تلك المواضع، أمكنه التخلص من الذنوب، وطلب التوبة مما فات منها. والغرض من قولهما: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} التوسل إلى قبول توبتهما، بما عُرف من شأنه - تعالى - وهو: أنه كثير التوبة على عباده، رحيم بهم. وقد واصل إبراهيم وإسماعيل دعواتهما فقالا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي في ذريتهما {رَسُولًا مِنْهُمْ} وقد استجاب الله دعاءهما فبعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. والرسول - في عرف المتكلمين - إنسان ذكر، حُر، أُوحي إليه بشرع وأُمِر بتبليغه. فإن لم يؤمر بتبليغه كان نبيًا فقط، وليس برسول. وسأل إبراهيم وإسماعيل أن يكون الرسول من الأُمة ليكون أَدعى إلى الاستجابة، لمعرفتهم بحاله - في نشأته - وبلسانه. وسرُ الجمع بين الأمور الأربعة الواردة في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

أن تلاوة الآيات وحفظها بألفاظها كما نزلت، والتعرف على بلاغتها، وروعة أساليبها ووجوه إعجازها - كل هذا - داعٍ إلى تفهم معانيها وتعقل مراميها. فإذا جمع الإنسان بين التلاوة والفهم، كان أحرى وأجدر بتقبل الحكمة النبوية التي ظهرت في حياة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - قولًا وعملًا. فإذا ما ارتقى إلى هذه الدرجة، زاد خيره وعم نفعه وطهر قلبه، وخلص لمولاه، ونظفت جوارحه مما يُغضب الله. على أن الآية قد استوفت منابع الدين أُصولًا وفروعًا. فكل رأي لا يستند إلى الكتاب أو السنة - أو إلى أصل مستمد منهما على وجه معقول - فهو ردٌّ على صاحبه. {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} المفردات: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}: من اسم استفهام إنكاري بمعنى النفي، ويرغب: يتعدى للمكروه بعن كما هنا، فإنهم يكرهون ملته، أي لا أحد ينصرف عنها لكراهته إياها، ويتعدى للمحبوب بفي، يُقال رغب في كذا: أي أحبه: والملة في الأصل: الطريقة، وغلب إطلاقها على الدين. {سَفِهَ نَفْسَهُ}: امتهنها واستخف بها مثل سفَّه - بفتح الفاء المشددة - وأصل السفه الخفة، فمن رغب عما يرغب فيه - وهو ملة إبراهيم - فقد بالغ في امتهان نفسه وإهانتها، والاستخفاف بها. وقيل: إن سفه مضمن معنى الجهل، أي فقد جهل نفسه أي: لم يفكر فيما ينفعها. {اصْطَفَيْنَاهُ}: اخترناه للرسالة من بين سائر الخلق. التفسير 130 - {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)} لا أحد يزهد في دين إبراهيم إلا شخص امتهن نفسه واحتقرها، لأنه دين التوحيد الخالص

{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: ولقد اخترناه في الدنيا لرسالتنا من بين الخلق، وإنه في الآخرة لفي عداد الصالحين: المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، المستحقين للفوز بأكرم الدرجات. جاءت هذه الآية: تبين ضلال اليهود والنصارى والمشركين، في صدهم عن الإسلام ومحاربة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الآيات السابقة سيقت لبيان أن إبراهيم الذي يفخر مشركوا العرب بانتسابهم إليه، وتفخر اليهود والنصارى بأنهم من بني إسرائيل الذي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، إنما كانت شريعته على نمط الإسلام من: التوحيد، والعقائد وأُصول الأحكام. وهؤلاء وأولئك بصدهم عن الإسلام، ومحاربتهم له قد رغبوا عن ملة إبراهيم إلى الشرك، وادعاء الولدية له تعالى، فاستحقوا أن يقول الله فيهم: إنهم سفهوا أنفسهم، واحتقروها حيث وضعوها في بؤرة الردة عن دينه الحق، إلى الوثنية والشرك، ووصف الله بما لا يليق به، بدل أن يرفعوها إلى قمة الإسلام: دين إبراهيم الذي يدعون انتسابهم إليه، والله هو الذي جمع له كرامتي الدنيا والآخرة، فكان حريًا أن يسيروا على منهاجه. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} التفسير 131 - {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ... } المراد بالإسلام هنا أتم وجوهه من إخلاص التوحيد لله، وكمال الإنقياد لأوامره واجتناب نواهيه، في كل حال. {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: بادر إبراهيم إلى الامتثال، لكمال استقامته التي رفعته عند الله إلى المنزلة العليا، وقال: أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: أسلمت لك،

ليذكر الله بما يدل على عظم شأنه، ويشير إلى أن من كان ربًا للعالمين: لا يليق بأحد منهم، إلا أن يتلقى أمره بالخضوع وحسن الطاعة. فهو إشارة إلى سبب الإخلاص لله. 132 - {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ... } التوصية: إرشاد الغير إلى ما فيه صلاح وقربة، ووصى أبلغ من أوصى لما فيها من معنى التكثير، والضمير في (بِهَا) يعود على {مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}: أي وصى إبراهيم بنيه باتباعها. ودلت هذه الآية، على أن إبراهيم يجمع إلى كمال استقامته، العمل على تكميل غيره، وأن أحق من يسدي إليه النصح: البنون {وَيَعْقُوبُ} معطوف على إبراهيم، أي وصى يعقوب أبناءَه اتباعًا لوصية جده إبراهيم قائلًا: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} وهو الإسلام. وفي نداء الأبناء بلفظ البنوة المشعر بمكانتهم في قلب الداعي، وفي تأكيد الجملة بإنَّ واسميتها، وفي التعبير بلفظ الجلالة، وإسناد الاصطفاء إلى ضميره، وفي اختيار مادة اصطفى ما يفيد تأكيد: أن دين الإسلام هو خير دين. {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. تفيد هذه الجملة: نهيه لهم عن أن يموتوا إلا وهم مسلمون، وبما أن الموت ليس في استطاعة أحد دفعه حتى ينهى المرء عنه، فلذا يكون الغرض نهيهم عن التدين بدين غير الإسلام حتى لا يدركهم الموت وهم به كافرون. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)} المفردات: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أم بمعنى: بل الانتقالية وهمزة الإنكار. أي: بل أكنتم. {شُهَدَاءَ}: جمع شهيد بمعنى شاهد: أي حاضر.

{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ}: وقت حضور علاماته ليعقوب. {تِلْكَ أُمَّةٌ}: تلك جماعة. والإشارة راجعة إلى الأنبياء الثلاثة. {قَدْ خَلَتْ}: مضت. التفسير 133 - {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ... } الآية. بعد توبيخ المخالفين لملة إبراهيم، بقوله تعالى: "ومن يرغب ... " الآية. وبعد بيان أن هذه الملة هي التي وصى بها إبراهيم ويعقوب أبناءهما - جاءت هاتان الآيتان، لإنكاره افتراءٍ أهل الكتاب على يعقوب، أنه كان على ما هم عليه من التدين، وبيان أن انتسابهم إلى آباء صالحين، لا يغني عنهم فتيلًا. والخطاب لأهل الكتاب من اليهود الذين زعموا: أن يعقوب أوصاهم - حينما أشرف على الموت - بالبقاء على يهوديتهم المحرفة، القائلة: بأن لله ولدًا، وأنه شريك لأبيه. وحضور الموت: حصوله، والمراد: حضور علاماته، والإشراف عليه، لأن الميت فعلًا لا يستطيع أن يوصي من حضره. وأم بمعنى: بل والهمزة، وبل للإضراب الانتقالي، من توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم: إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوب - عليهما السلام - والهمزة لإنكار مشاهدتهم يعقوبَ عند احتضاره، أي: بل ما كنتم حاضرين عند مشارفة الموت له، حتى تقولوا ما قلتم. {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}: وجه يعقوب الوصية لبنيه في صورة سؤال، لبيان شدة اهتمامه بأمرهم، وليطلب بسؤاله جوابًا منهم: يعبر عن رسوخ إيمانهم، وعقدهم النية على أن يخصوا الإله الحق بعبادتهم والاستفهام بـ (مَا) في قول يعقوب لبنيه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}: لأَنها تستعمل عند إبهام المسئول عنه لغرض، كما هنا، حيث أراد ألا برشدهم إلى الجواب، حتى ينبع هو من عقولهم دون إيحاء، كما تُستعمل في السؤَال عن المجهول، وإن دخل فيه العاقل والعالم، فإن سُئل عن عاقل بعينه استعملت مَنْ الخاصة به. أما غالب استعمالها - أي ما - ففي السؤَال عن غير العاقل، وقد تستعمل في السؤال عن وصف العاقل، كقولك ما زيد؟ أطبيب أم فقيه؟ ويجوز أن يكون السؤال عن العبادة التي يتعبدون بها.

{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا}. كان يكفي في جوابهم أن يقولوا نعبد الله، ولكنهم أطنبوا وأسهبوا: اغتباطًا وتمسكًا بالحق، وإيذانًا بأنه عقيدة مشتركة بين الأنبياء الثلاثة كما هو عقيدته، وليس أمرًا مخترعًا، بل هو حقيقة الاتباع لإبراهيم وذريته، وذكروا إسماعيل - عم يعقوب - في جملة آبائه تجوزًا، وقدموه على أبيهم إسحاق لأنه أسَنُّ منه، وذكروا {إِلَهًا وَاحِدًا}: للتأكيد، وللتلذذ بالإقرار بالوحدانية، وأكدوا أيضًا، واستمتعوا بقولهم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مستمرون في عبادته، والتمسك بدين الإسلام. 134 - {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ... } {تِلْكَ}: إشارة إلى إبراهيم وأبنائه الأنبياء، وأُنثت لتأنيث الخبر وهو (أُمَّةٌ). (خَلَتْ): مضت وانقضت. والأُمَّة: الجماعة يجمعهم أمر واحد، نحو الموطن أو اللغة. {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}، الكسب: العمل لإصابة ما فيه نفع. لفظ مقدر يقتضيه المعنى - والتقدير: لها جزاءُ ما كسبت، ولكم جزاءُ ما كسبتم. وحاصل المعنى: تلك جماعة من الأنبياء لها جزاءُ ما كسبت من التوحيد والإسلام لله، ولكم جزاءُ ما كسبتم من الكفر والمعاصي. {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: لا يقع لكم سؤال عن أعمالهم. بل عن أعمالكم أنفسكم. فلا تنفعكم أعمالهم الصالحة وأنتم على نقيضها، وإن كنتم من ذرياتهم، فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. فاستقيموا على الإسلام الذي دعاكم إليه رسوله محمد. كما استقام أنبياؤكم عليه، فإن أباكم إبراهيم وَصَّى به بنيه فقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} المفردات: {حَنِيفًا}: مائلًا عن الباطل إلى الحق، ومن الحنف بمعنى: الميل، أو مستقيمًا من الحنف بمعنى: الاستقامة، فهو يستعمل في المعنى وضده. {الْأَسْبَاطِ}: جمع سبط هو: ولد الولد، من السبط وهو التتابع، وكان ليعقوب إثنا عشر ولدًا خرجت من كل منهم ذريات كثيرة، أُطلق على ذرية كل واحد: منهم سبط، بالنسبة لجدهم يعقوب. فالأسباط في بني إسرائيل، قبائل يهودية، تنتمي إلى أصل واحد، كالقبائل العربية، وكانوا اثنتي عشر قبيلة، كما قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا (¬1)}. {بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أحد: اسم موضوع لمن يصلح للخطاب، يستوي فيه المذكر والمؤنث. مفردًا كان أو مثنى أو جمعًا، ولذا صح دخول (بَيْنَ) عليه (¬2). {فِي شِقَاقٍ}: الشقاق: الخلاف أو العداوة، وكل تصح إرادته هنا. {صِبْغَةَ اللَّهِ}: الصبغة في الأصل: الحالة التي يكون عليها الصبغ، وهو تلوين الشيء بلون مَا. ¬

_ (¬1) الأعراف: 160. (¬2) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحلت الغنائم لأحد سواد الرأس غيركم".

وأُطلقت في الآية على الإيمان، لأنه يتداخل في القلوب تداخل الصبغ في المصبوغ ويظهر أثره على المؤمن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب، ويُقال: تصبغ فلان في الدين، إذا أحسن دينه. التفسير 135 - {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} بعد أن بين الله - سبحانه وتعالى - ضلال اليهود والنصارى - في أنفسهم - بقوله حكاية عنهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (¬1) بين هنا إضلالهم لغيرهم، بقولهم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} ثم أتبع ذلك الرد عليهم، وفيما يلي بيان ذلك. {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}. حكت لنا هذه الجملة، دعوة كل من اليهود والنصارى للمؤمنين، إلى اتباع دينهم، وزعمهم أنه الحق دون غيره. وليس المعنى أن كلا الفريقين قالوا ذلك على وجه التخيير، بل المعنى: أن اليهود قالوا لهم: كونوا هودًا تهتدوا، والنصارى قالوا لهم: كونوا نصارى تهتدوا. ويساعد على إفادة هذا المعنى - باللفظ الموجز - ما هو معروف من أن كل فريق منهما يدعي أن ديانة الآخر باطلة. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - و {بَلْ}: إبطال لما ادعاه كل من الفريقين. و (مِلَّة): منصوب بفعل مقدر تقديره: نتبع. و {حَنِيفًا}: حال من إبراهيم ملازمة له. والمعنى قل يا محمد: بل نتبع ملة إبراهيم مستقيمًا دائمًا على الحق. وهذا يشير إلى أن اليهودية والنصرانية - بعد تحريفهما - غير مستقيمتين، وأن ملة إبراهيم - وهي الإسلام الذي نحن عليه - أولى بالاتباع من الملل المعوجة. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نفي عن إبراهيم أن يكون مشركًا، وعرض بإشراك جميع الكافرين: الذين يفخرون بانتسابهم إلى إبراهيم، ويدعون أنهم على ملته. فكفار العرب عبدوا الأصنام واقترفوا كثيرًا من النقائص. ¬

_ (¬1) الآية 111 - من هذه السورة

واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وغير ذلك من القبائح. فكأنه يقول لهم: بل أنتم المشركون. 136 - {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... } الآية. الخطاب للأمة الإسلامية جمعاء، والإيمان بالله تصديق جازم بما اختص به - سبحانه - من صفات الكمال: تصديقًا قائمًا على النظر في أسرار الكون، والانتباه إلى ما يلقاه الإنسان في حياته، من رعاية الله ولطفه، وغير ذلك من عظائم خلقه وحكمته. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}: وآمنا بالقرآن الذي أنزله الله إلينا، لنعمل بما كلفنا الله فيه. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} المراد بما أُنزل إليهم: الصحف التي أنزلها الله إلى إبراهيم، المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (¬1) وصح نسبه إنزالها إلى الأنبياء الثلاثة من بعده، ثم الأَسباط، مع أنها أُنزلت على إبراهيم خاصة، لأنهم مأمورون باتباعها، والتعبد بما فيها والدعوة إليها. {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}: وآمنَّا بما أُعطي موسى وهو التوراة، وبما أُعطي عيسى وهو الإنجيل. وعطف عيسى على موسى دون تكرير الفعل، لأن عيسى جاءَ مصدقًا لما في التوراة، عاملًا بما فيها، مع نسخ أحكام يسيرة منها، كما قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (¬2)}، فكأن ما أُوتيه النبيان شيءٌ واحد. {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وآمنا بما أُعطي النبيون جميعًا من عند ربهم، وهذا تعميم بعد تخصيص، وتخصيص المنزل إلى إبراهيم ومن تبعه، لأن من دخلوا في هذه المحاجة من اليهود والنصارى والمشركين، يدعون الانتساب إليه. وتخصيص موسى وعيسى لما مر قريبًا: من أن اليهود والنصارى، دعوا المسلمين إلى اتباع اليهودية أو المسيحية، وترك الإسلام. وقدم الإيمان بالله، لأن ما بعده متوقف عليه. وقدم: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} لأن الإيمان به واجب على وجه التفصيل، والإيمان ببقية الكتب يكفي على وجه الإجمال، ولأنه مصدق للكتب السابقة ومُهيمن عليها. ¬

_ (¬1) الأعلى: 18، 19. (¬2) آل عمران: 5

{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} التفرقة: جعل الشيء مفارقًا للآخر، وأحد هنا بمعنى: جماعة، لأن بَيْنَ لا تدخل إلى على متعدد. والمعنى: لا نفرَّق بين جماعة من النبيين، فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كما فعل اليهود. وقيل: إن في الكلام معطوفًا مقدرًا لظهوره، أي لا نفرق بين أحد منهم، وبين غيره كما في قول النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالمًا ... أبو حجر إلا في ليال قلائل أي بين الخير وبيني. وهذا التعبير أبلغ من قولك: لا نفرق بينهم، لما فيه من الدلالة - صراحة - على عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عاداه، كائنًا من كان. وفيه تعريض باليهود إذ آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد. وتعريض بالنصارى، لكفرهم بمحمد - صلوات الله وسلامه عليه -. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: وقولوا - أيضًا - ونحن لله مسلمون خاضعون بالطاعة. ومن جمال التعبير: أن هذه الآية، ابتدأت بالإيمان الذي هو فعل القلب، واختتمت بالإسلام الذي هو فعل الجوارح. 137 - {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ... } الآية. الفاءُ في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا} لترتب ما بعدها على ما قبلها، وسيأتي نظم هذا الترتيب في ذكر المعنى. وظاهر الآية مشكل، لأنه يقتضي أن يكون لله مثل، ولو آمنوا بهذا المثل لاهتدوا، وذلك لا يصحن فالله - تعالى - منزه عن المثل، فلا اهتداءَ إلا بالإيمان به وحده. ولهذا ذهب المفسرون في تأويلها عدة مذاهب، نذكر منها رأيين: (أحدهما) أن (مِثْلَ) صلة جاءت لمجرد التوكيد، ولم يُقصد معناها وهي (المثلية)، كما هي في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ (¬1)} أي عليه - وأُيَّد بقراءة ابن مسعود ¬

_ (¬1) الأحقاف: 10.

وابن عباس {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} بحذف كلمة (مثل). (والرأي الثاني) - وهو الذي نختاره - أن: (مثل) ليست صلة (أي ليست زائدة للتوكيد) وأن الباء في قوله (بِمِثْل) للاستعانة، وأن المعنى: فإن دخلوا في الإيمان بوساطة شهادة مثل الشهادة التي ثبت لكم الإيمان بموجبها، فقد اهتدوا، والمراد بهذه الشهادة: ما مر في الآية قبلها. وحاصل معنى الآيتين على هذا التأويل: قولوا، أيها المؤمنون: آمنا بالله وما أُنزل إلينا في القرآن، وما أُنزل إلى إبراهيم وذرياته من الأنبياء، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مخلصون. فإن ترتب على هذا البيان الشامل لما عند أهل الكتاب وما عندكم: أنهم دخلوا في الإيمان - بسبب اعتراف وشهادة مثل الشهادة التي ثبت لكم الإيمان بموجبها - فقد اهتدوا إلى الحق. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أي: وإن أعرضوا عن الدخول في الإيمان بهذا الاعتراف، وفرقوا بين الرسل، فآمنوا ببعض، ولم يخلصوا لله - فما هم إلا غارقون في خلاف وعداوة، وليسوا طلاب حق. وسُمى الخلاف شقاقًا لأن أحد المختلفين يأْخذ في شق غير شق صاحبه: صورة أو معنى. {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}: يكفي من الكفاية بمعنى الوقاية. والمعنى: فسيقيك الله شرهم، أو بمعنى الإغناء، والمعنى: فسيغنيك الله عن مقاومتهم وتصدير الفعل بالسين دون سوف، للإشعار بأن ظهوره عليهم سيتم في زمن قريب من نزول الآية. وقد أنجز الله وعده بتفريق كلمتهم، وقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضير، وغير ذلك مما حاق بباقي اليهود، وكل ذلك بفضل الله.

{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إيراد وصفي: {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بعد وعد الله نبيه بالنصر في قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} إنما يشعر: بأنه محيط بمكرهم ومحبطه، فلن يأخذوا رسوله على غرة. 138 - {صِبْغَةَ اللَّهِ ... } الآية. صِبْغَةَ مصدر مؤكد لفعل من معناه وهو قوله السابق: {آمَنَّا بِاللَّهِ} وكأنهم قالوا: صبغنا الله صبغته. والصبغة: الحالة التي يكون عليها الصبغ، عبر بها عن الإيمان على الوجه الذي مضى في الآيات، لأنه يظهر أثره على المؤمن، ظهور لون الصبغ على المصبوغ، ويتداخل في قلوبهم، تداخله في نسيج الثوب. فالكلام من الصور البلاغية على سبيل الاستعارة. ويجوز أن تكون فيه مشاكلة تقديرية لما يصنعه النصارى، من صبغهم أولادهم بماءٍ أصفر يسمونه المعمودية، يزعمون أنه يطهر المولود. والمراد من الآية على هذا: أن دين الله الإسلام، هو الذي يطهر من الآثام دون سواه. و (مَنْ) في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} للاستفهام الإنكاري، فهي بمعنى النفي. والتفضيل في المعنى جار بين صبغة الله وصبغة غيره، لا بينه - تعالى - وبين غيره في الصبغة، والمعنى: لا صبغة أحسن من صبغة الله، أي لا دين أحسن من دين الله، الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وكما أنه لا دين أحسن من دينه، فلا دين يساويه في الحسن أيضًا. فإنه لا يوجد حسن في غيره من الأديان، بعد أن تجاوزت الحق في شأنه وشأن رسوله كما مر في الآيات. وهذا الأسلوب - وإن كان في ظاهره نفي الدين الأحسن من دين الله - فإنه في الاستعمال العربي، نفي لما يساويه في الحسن أيضًا، فأَفعل التفضيل فيه على غير بابه. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} أي: ونحن - لله الذي أعطانا هذه النعمة - عابدون، شكرًا له عليها وعلى سائر نعمه.

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)} المفردات: {أَتُحَاجُّونَنَا}: أتجادلوننا. فصيغة المفاعلة اعتبارية، فكأن كلًا من المتجادلين يأتي بحجة يدحض بها قول خصمه. {وَالْأَسْبَاطِ}: هم أولاد يعقوب. والمراد بهم هنا، أنبياؤهم. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ}: أي وما الله بساه، بل هو عالم. التفسير 139 - الخطاب بقل للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد من المحاجة في الله: المجادلة في دينه. ذلك أن اليهود والنصارى: يدَّعون أن الدين الحق هو دينهم، وأن الجنة لن يدخلها سواهم، كما تقدم قريبًا، والاستفهام هنا للإنكار. {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} الرب: الخالق المربي لعباده بنعمه. والمعنى: لا وجه لتفضيلكم أنفسكم علينا، فنحن - وأنتم في العبودية لله - سواءٌ، فكيف تحرموننا من فضله؟

{وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: ولنا أعمالنا الحسنة، ولكم أعمالكم السيئة، كما يُستفاد ذلك من التعقيب بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} والإخلاص: هو أن يقصد بالعمل وجه الله وحده. وهؤلاء لم يخلصوا أعمالهم لله. فقد عبدوا عُزيرًا وعيسى - عليهما السلام - فأَنَّى لهم دخول الجنة بأعمال أشركوا فيها: ولم تصف أعمال المسلمين بالحسن، وأعمال سواهم بالسوء، تجنبًا لنفور المخاطبين، واكتفاء بالتعريض اللطيف: الذي توحي به جملة {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}. 140 - {َمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ... } الآية. أم: منقطعة، بمعنى بل وهمزة الإنكار، والآية مسوقة لإنكار قول اليهود: إن الأنبياء السابقين كانوا على دينهم وقول النصارى: إنهم كانوا نصارى مثلهم، أي: لا يقل أحد منكم هذا القول الباطل، وقد أمر الله فيها نبيه أن ينكر عليهم ويُبَكِّتَهم فيقول: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}: فالهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وأعلم: أفعل تفضيل، والتفضيل على سبيل الاستهزاء، إذ المقصود أنهم لا علم عندهم، والمعنى: أن ما زعمتوه هو على خلاف ما يعلمه الله: فأنتم تقولون: إنهم كانوا على يهوديتكم أو نصرانيتكم، والله يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ (¬1)} فكيف يكون على دينكم وأنتم بعده؟ والحق أنه كان حنيفًا مسلمًا، أي: على المباديء التي أقرها الإسلام، وأهمها: التوحيد، وعدم اتخاذ الولد. ولذا صح أن يقول الله في شأنه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (¬2)}. ¬

_ (¬1) آل عمران: 65 (¬2) آل عمران: 67

أي إن إبراهيم، لم يكن على طريقة اليهود والنصارى، في زعمهم: أن لله ولدًا، وغير ذلك من أكاذيبهم. ولمي كن على طريقة من أشرك بالله، بل كان حنيفًا مائلًا عن الباطل إلى سنة الإسلام من التوحيد ونظافة العقيدة، وأَبناؤُه الذين ذكرتموهم كانوا على دين أبيهم، فهل أنتم أعلم بديانتهم من الله؟ الله هو الذي يعلم. أما أنتم فتجادلون بالباطل. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}. الشهادة: هي شهادة الله: أن إبراهيم لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، بل كان حنيفًا مسلمًا. وقد شهد الله بذلك في كتابي اليهود والنصارى - التوراة والإنجيل - وهم يعلمون ذلك وقد كتموا الشهادة بذلك في جدلهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعى كل من الطائفتين: أنه كان على دينه، فأنكر الله عليهم كتمان الحق الذي شهد به الله، فقال ما معناه: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده في كتابه، منزلة من الله، حين زعم أن إبراهيم كان على دينه. مع ما فيه من شرك بالله. واتخاذ ولد له سبحانه، والحق أنه لم يكن كذلك بل كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين. وكما أنه لا أظلم ممن ادعى ذلك، فكذلك لا يساويه أحد في الظلم. ويجوز أن تكون هذه الشهادة هي ما جاء عنه في القرآن: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ... } الآية. والمعنى: أن محمدًا أدى شهادة عنده - في القرآن من الله - عن إبراهيم بأنه لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، بل كان حنيفًا مسلمًا، ولم يكن يسعه كتمانها فإنه لا أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، فلماذا كتمتموها ولم تؤَدوها كما أداها محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وعلى كل، ففي عموم الآية تعريض بكتمانهم شهادته تعالى بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم، وسائر شهاداته. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: الغافل: هو الذي لا يفطن للأمور. مأخوذ من قولهم: أرض غفل، أي: لا عَلَمَ بها، ولا أثر عمارة. والغفلة: السهو والإهمال.

والحكمة في اختيار طريق نفي الغفلة لإثبات عدم الترك: أن نفي نقيص الصفة أبلغ في إثباتها من الإثبات نفسه، لأنه يستلزم إثبات الصفة إلى جانب نفي النقيض، لأن في المقام للتهديد والوعيد. والمعنى: أن الله مُحصٍ أعمالكم، محيط بها، لا تخفى عليه خافية. ولن يترك أُموركم دون عقوبة، وبخاصة إذا كانت بالغة السوء، ككتمان ما أنزل الله. 141 - {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأمة المشار إليها في الآية: إبراهيم وأبناؤه الرسل وقد وردت هذه الآية آنفًا: في ختام دحض مزاعم ومفتريات أهل الكتاب، وتكررت هنا، للمبالغة في تحذيرهم من تركهم لدين الإسلام الذي كُلفوا به، وادعائهم أنهم على دين آبائهم الأنبياء. وكأن الآية تقول لهم: إن أمامكم دينًا دُعيتم إلى اتباعه، واقترنت دعوته بالحجة الواضحة. فانظروا في دلائل صحته وسمو حكمته، ولا تردوه بمجرد دعوى: أن آباءكم الأنبياء السابقين، كانوا على ما أنتم عليه الآن، فإن دعواكم هذه لا تفيد، ولو فرضنا تَسْلِيمَهَا لكم، فإن الشرائع تختلف باختلاف الأمم، فتلك أُمة مضت. لها عملها وفق شريعتها، وهذه أُمة أخرى: لها عملها حسب شريعتها، ولا تُسأَلون عن أعمال آبائكم وشريعتهم، بل عن أعمالكم أنتم، وفق شريعتكم التي شرعها الله لكم. وهي الإسلام، فلا تتمسكوا بشريعة كانت لمن قبلكم، بل تمسكوا بشريعة الإسلام التي نسخها، وقام الدليل على صحتها، وقد تعبدكم الله بها.

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} المفردات: {السُّفَهَاءُ}: خفاف العقول، أو الجهلاء. {مَا وَلَّاهُمْ}: ما صرفهم. {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: طريق قويم، لا عوج فيه. والمراد به هنا: طريق الحق. التفسير 142 - {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ... } الآية. روى البخاري في صحيحه، عن البراء: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة، صلى إلى بيت القدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلَّى أول صلاة صلاها (¬1) صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلَّى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون (¬2)، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مكة، فداروا كما قِبَلَ البيت". وفي رواية ابن إسحاق، وغيره، عنه، زيادة: فأنزل الله - تعالى -: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ... } الآية. ذهب الإمام الزمخشري وغيره من المفسرين، إلى أن الله - سبحانه - أخبر بما سيقوله السفهاءُ قبل وقوعه، ليكون وقعه خفيفًا على قلوب المسلمين عند حدوثه، لأن مفاجأة المكروه ¬

_ (¬1) أي جهة البيت، كما سيأتي. (¬2) أي في العصر.

أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد (¬1) قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأَردُّ لشغبه - وفي هذا أيضًا - إعجاز قرآني، للإخبار بالغيب قبل وقوعه. وذهب القرطبي وغيره: إلى أن الفعل: {سَيَقُولُ}، بمعنى: قال، وأن الآية الكريمة أوردت الماضي بصيغة المستقبل، دلالة على استمرار ذلك القول وتجدده. والسفهاءُ المتسائلون عن تحويل القبلة هم اليهود، كما ذكر ابن عباس، أو المشركون كما ذكر الحسن، أو المنافقون، كما ذكر السُّدِّيّ .. قال الراغب: ولا تنافي بين أقوالهم، فكلٌّ قد عابوا، وكلٌّ سفهاء. وقد تناولت الآيات السابقة: أن أهل الكتاب سفهوا على ملة إبراهيم - عليه السلام - فإنهم علموا الحق، وكتموه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} (¬2) وجاءت هذه الآية الكريمة، لتذكر لونًا آخر من ألوان سفههم، وسَفَهِ من ماثلهم من المشركين والمنافقين. والتعبير بقوله {السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} للإيذان بأنهم انفردوا من بين الناس بالحمق والجهل. أما غيرهم من المؤمنين فقد كملهم الله بالعقل، فاطمأنوا لحكمة الله في تحويل القبلة. مضمون الآية: أن الله - تعالى - سيستجيب لكم، ويوليكم قبلة ترضونها، وهي البيت الحرام، وسيقول السفهاء حينئذ: ما الذي جعل المسلمين يتجهون إلى البيت الحرام، وينصرفون عن بيت المقدس؟ وقد لَقَّن الله رسوله الإجابة على ذلك، بأن الله - تعالى - ليس محدودًا بمكان أو زمان فقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}: ومن كان له المشرق والمغرب، فله الأرض كلها. فكل مكان منها مشرق عند قوم، مغرب عند آخرين، وإذا كانت الأرض كلها لله، فله - سبحانه - أن يختار منها ما يشاء، ليكون قبلة لكم، تتجهون إليها في العبادة. ¬

_ (¬1) العتيد: المهيأ والمعد. (¬2) البقرة: 140.

إن قيل: ما الحكمة في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، مع أن الله يقول: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ويقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فلماذا لم تبق إلى بيت المقدس عملًا بالآيتين المذكورتين. فكما ينطبقان على الكعبة، ينطبقان على بيت المقدس وسواهما؟ فالجواب من نواح ثلاث: الأولى: أن الحكمة فيه مذكورة في الآية التالية، في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ... } الآية، وسيأتي بيانها. والثانية: أن الكعبة كانت قبلة لإبراهيم - عليه السلام - والنبي والمؤمنون أولى الناس باتباعه. قال تعالى: ِ {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية (¬1). والثالثة: أن في التحويل إليها تأليفًا لقلوب قريش ومشركي العرب: الذين يقدسون الكعبة، ويسوؤهم الانصراف عنها. {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أي يرشد مَن يشاءُ إرشاده إلى طريق مستقيم يوصل إلى سعادة الدارين. وقد هدانا إليه أولًا، حينما أمرنا باستقبال بيت المقدس: قبلة النبيين، ثم هدانا إليه آخرًا، حينما أمرنا باستقبال الكعبة، قبلة أبينا إبراهيم، وفي كلٍّ خير ورشاد. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} ¬

_ (¬1) آل عمران: 68.

المفرادات: {وَسَطًا}: خيارًا عدولًا. فقد روى الترمذي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في قوله تعالى: {أُمَّةً وَسَطًا} قال: الوسط: العدل. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (¬1): أي أَعْدَلهُم وخيرُهم. والصلاة الوسطى هي: الفضلى. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} العقب: مؤَخر الرجل، ومعنى (ينقلب على عقبيه): يرجع إلى الخلف، والمقصود أنه يرتد عن دينه. التفسير 143 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... } الآية. هذا خطاب من الله للمؤمنين، لتشريفهم بوصفهم بالعدالة، ليكونوا شهداء على الناس، بعدما وصف الكفار والمنافقين بالسفه والاستهزاء على تحويل القبلة. وبضدها تتميز الأشياء. أي وكما هديناكم أيها المؤمنون إلى صراط مستقيم، بتوليتكم القبلة التي ترضونها، جعلناكم عدولًا أخيارًا، تضُمّون إلى الإيمان والعلم والعمل، فكنتم - بذلك - خير أُمة أُخرجت للناس. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بأن الرسل بلغوهم عن الله، ونصحوهم، ولم تَعُدْ لهم حجة على الله بعد مجيء الرسل، وإنما يشهدون بذلك وهم لم يروا شيئًا، لأنهم يشهدون اعتمادًا على شهادة القرآن، والقرآن كلام الله، فهم يشهدون بشهادة الله تعالى. {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}: بأن ما قلتموه هو الحق، لأن المصدر واحد للجميع، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وفي هذا المعنى يروي البخاري، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُدعَى نوح - عليه السلام - يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك ¬

_ (¬1) القلم:28.

يارب، فيقول: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأُمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... } الآية. وقد جاءَ في رواية أحمد وغيره: أنه - تعالى - يستشهد أمة محمد على تبليغ سائر الأنبياء لأُممهم، ولا تقتصر شهادتهم على نوح: الذي ورد إفراده بالشهادة في رواية البخاري المذكورة. (وعلَى) في قوله: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} بمعنى اللام، كما قاله القرطبي، أي ويكون الرسول لكم شهيدًا، أو للمشاكلة بين قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. ثم تحول الخطاب للأمة - من قوله - تعالى - لهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... } الآية - إلى خطاب الرسول، بقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}. للإيذان بأن خطابه خطاب لهم، وأنه كان معهم فيما كانوا فيه من استقبال بيت المقدس: لم ينفرد عنهم. والمعنى: وما جعلنا قبلتك الأولى - بيت المقدس - ثم حولناك عنها، إلى البيت الحرام، إلا لنميز من يتبعك - في كلتيهما - ممن ينصرف عن اتباعك، فإن اتباع الرسول - ولو كان فيما تكرهه النفس - من آثار الإيمان والتسليم لمن هو أعلم بالحكمة، وهو الله - تعالى - فالحكمة في تحويل القبلة: تمييز الصادق في الإيمان عن غيره. وقد ظهر أثر ذلك بارتداء بعض أهل الكتاب الذين أسلموا عن الإيمان، بعد تحويل القبلة إلى الكعبة، وجعلوا يرجفون مع بعضهم قائلين: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}. والله - سبحانه - يعلم ما كان وما يكون. فالمراد بالعلم هنا: التمييز بالاتباع الفعلي.

والارتداد على العقبين، هو: الرجوع إلى الخلف، وهو تمثيل للارتداد عن الإسلام ومخالفة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما في كليهما من أسوءِ حالات العود والارتداد. {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... } الآية. أي وإن كانت التولية إلى الكعبة لكبيرة، أي ثقيلة الوقع على النفوس، لما في مخالفة المألوف من مشقة. ولكن الأمر يسيرٌ على من هداهم لله، لأن القضية عندهم، قضية طاعة الله ورسوله، وليست الاستمساك بعادة مألوفة، أو تفضيل جهة على غيرها من الجهات. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}: جاء في حديث رواه البخاري عن البراء بن عازب، قوله: وكان الذي مات على القبلة - قبل أن تحول إلى البيت - رجالا قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم! فأنزل الله - عزل وجل - قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وأَخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله: كيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم يضلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله - تعالى -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والمعنى: وما كان الله ليُضيع صلاتكم إلى بيت المقدس قبل نسخ التوجه إليه، بل سيثيبكم عليها، لأَنها كانت - حينئذ - إلى قبلة مشروعة. وإذا لم ننظر إلى سبب النزول، كان المعنى: وما صح ولا استقام: أن الله - سبحانه - يُضيع إيمانكم وثباتكم على طاعة الله ورسوله، في الاتجاه - أولا - إلى بيت المقدس، ثم في الاتجاه - ثانيا - إلى البيت الحرام. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: تعليل للجملة السابقة، مؤكد بإن واللام، يعني: أن الله - سبحانه - يشمل الناس برأفته ورحمته، وبخاصة عباده المؤمنين الطائعين، فلهذا لا يضيع إيمانهم. ¬

_ (¬1) الأحزاب: 36.

والرأفة: نوع من الرحمة، تختص بدفع المكروه، وتخفيف النكبات والعقوبات. أما الرحمة: فتشمل هذا وغيره من أنواع التفضل والإنعام، وتعمُّ كلتاهما الإنسان والحيوان. ولما كان دفع الضرر مقدمًا على جلب النفع، فلهذا سبق هنا ذكر الرأفة، كما ورد في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً .... } (¬1). {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} المفردات: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}: تردد وجهك، وتطلعك إلى السماء. {شَطْرَ}: جهة، وناحية. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ}: في أي مكان وُجدتم. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: أي فلنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا إذا صيَّرته واليًا له، أو لنحولنَّك إليها. {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي فاصرفه نحوه. التفسير 144 - {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ... } الآية. المعنى: قد رأيناك تتجه بوجهك إلى السماء دائمًا، تصرفه في أرجائها، مرددًا بصرك في ضراعةٍ، ورجاء تطلعًا للوحي، بتحويل القبلة إلى الكعبة. ¬

_ (¬1) الحديد: 27.

و (قَدْ) هنا للتحقيق، وعبر بالمضارع: (نَرَى): استحضارًا للصورة الماضية، أو إيذانًا بتعدد الرؤية، حسب تجدد تقلب وجهه - صلى الله عليه وسلم -. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: استجبنا لرجائك، فلنحولنَّك إلى القبلة التي تحبُّها وهي الكعبة. والتأكيد باللام والنون، يفيد أنَّ هذا الوعد الكريم لابد من حصوله. وارتضاء النبي للقبلة: حُبّه لها، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته. والتعبير عن الوعد بتحويل القبلة بهذا الأسلوب، فيه من تكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا غاية وراءه. وقد عقب الوعد بالتنجيز، فقال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي فاصرفه نحوه لوجود الكعبة فيه. والمراد بالحرام: المحرَّم، لأن القتال فيه محرم. والتعبير عن الكعبة بالمسجد الحرام: إشارةٌ إلى أنَّ الواجب هو مراعاة الجهة. روى ابن ماجة، والحاكم والدارقطني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". وروى البيهقي، أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "البيت قبلة المسجد. والمسجد قبلة لأهل الحرم. والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أُمتي). {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: توجيه الأمر للأمة بعد توجيهه للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم - لئلا يلتبس الحكم على المسلمين، فيظنوا أنَّ الأمر خاص به وحده - عليه السلام - أي وفي أي مكانٍ من الأرض وجدتم، فاصرفوا وجوهكم في الصلاة نحو المسجد الحرام. وفي الآية إشعار بانتشار الإسلام في بقاع الأرض، وأن المسلمين سيفتح الله عليهم البلاد، وأن عليهم - حيثما كانوا - أن يتجهوا في صلاتهم نحو المسجد الحرام. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}: المقصود بالذين أُتوا الكتاب هنا: الذين اعترضوا وشنعوا على المؤمنين حينما انصرفوا عن استقبال بيت

المقدس قبلتهم إلى استقبال الكعبة، كما مرَّ في سبب النزول، وهم الذين نزل فيهم الوعيد الآتي. والمعنى: وإن الذين أُتوا الكتاب، وأّثاروا الفتنة في شأن تحويل القبلة، ليعلمون يقينًا أّنَّ تحويلَها هو الحق من ربهم، وأنه منزل من الله، فما بالهم يثيرون الفتنة بشأنه؟ فهم يعلمون من كتبهم: أَنَّ لكل دين قِبْلةً، وأنك صادق لا تنطق إلا بالحق الذي يصدر عن ربهم. وكما يعلم اليهود ذلك من كتابهم، يعلمه النصارى من كتابهم أيضًا. والآية مؤَكدة بعدة مؤَكدات، هي: إنَّ وأَنَّ واللام، وذكر الحق ونسبته إلى الرب - سبحانه - لتقرير أنه وحي من الله. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}: أي أن الله لا يخفى عليه ما يدبره أهلُ الكتاب، من الكيد للإسلام، وسيحاسبهم عليه حسابًا عسيرًا، لأنهم يعلمون الحق، ويكتمون ما يعلمون هذا، وفي قراءَةٍ (تَعْمَلُونَ). والخطاب للمسلمين الذين يستمعون إلى أقوالهم ويتأثرون بها، فيكون - على كلا المعنيين - إنذارًا من الله للمحرِّفين والمنحرفين. ومن هذا يُسْتَنْبَط: أَنَّ الإصغاءَ للأَراجيفِ والشائعاتِ الضارة، لا يحل للمسلمين. {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} المفردات: {آيَةٍ}: الآية: المعجزة، أو الدليل القطعي.

التفسير 145 - {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ... } الآية. المقصود من أهل الكتاب هنا: من شنع في أمر القبلة، وهم اليهود سكان المدينة وأَضرابهم، وكذا من لم يشنع، وهم النصارى إذ لم يشتركوا معهم في الفتنة، لأنهم لم يكونوا من سكان المدينة، لا وقت التحويل ولا بعده، فهم جميعًا لا يتبعون قبلة الرسول ولو جاءَهم بكل آية. والتعبير عنهم جميعًا بأَهل الكتاب تلميحًا بلومهم، وإيذانًا بأَنه ينبغي لهم - وهم أهلُ كتابٍ سماوي - أن يعملوا بنصوصهِ، ولا يحرِّفوها أو يسيئوا تأويلها. واللام في "ولئن": للتوكيد. والمعنى: ولئن جئت يا محمد أهل الكتاب بكل حجة دالة على مشروعية التحويل، ما استجابوا لك، فلا تعلق آمالك باجتذابهم إليك، لأن ترك اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بحجة، بل هو مكابرة وعناد، على الرغم من علمهم بأنك على الحق. {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}: ولست أنت بمتبع قبلتهم بعدما جاءّك من الوحي، لأنك على الحق المبين، وهو حسم لأطماعهم في يذلك، ولن يتبع بعضهم قبلة بعض، فلا اليهود متجهون إلى قبلة النصارى، وهي المشرق، ولا النصارى متجهون إلى بيت المقدس، قبلة اليهود، مع أن المسيحية امتداد لليهودية، لتمسك كل فريق بقبلته، فكيف يعيبون على المسلمين انفرادهم عنهم بالقبلة، وهي حق من عند الله؟! {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. المعنى: ولئن اتبعت اليهود يا محمد في شان القبلة وغيرها، من بعد ما جاءَك من وحي الله المفيد للعلم واليقين، فإنك حينئذ من الظالمين، بترك علم الله إلى هوى هؤلاءُ المبطلين. والخطاب وإن كان للنبي - عليه الصلاة والسلام - فهو لأُمته عامة، تحذيرًا لهم، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وما أجدر المسلمين أن ¬

_ (¬1) ص: 26.

يتدبروا هذه الآية الكريمة. فقد أصبح الهوى عند معظم الناس الآن إلها معبودًا، حتى قاد بعضهم إلى سوء استخدام العلم، فأمسى يهدد الإنسانية ومدنيتها وحضارتها بالفناء والانتهاء. فهؤلاء أضلهم الله على علم، على حد قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬1). {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} المفردات: (الممترين): الشاكِّين. التفسير 146 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ... } الآية. الذي عليه جمهور المفسرين: أن الهاء في {يَعْرِفُونَ} مراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنى به عنه - عليه السلام - تفخيمًا لشأنه وإشعارًا بأَنه في غير حاجة إلى تعريف، لأنه عُرف في كتبهم بالنبيّ الأُمي، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ (¬2)}. كما عُرف فيها بصفات أُخرى تحققت فيه. وذَكَرَ الأبناء لأنهم ألص بآبائهم، فهم وآباؤُهم أكثر خبرة ودراية بهم، واستيثاقًا من نسبهم بحكم الفطرة. ¬

_ (¬1) الجاثية: 23. (¬2) الأعراف: 157.

فالآية تقرر: أن أَهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - يعرفون أَن محمدًا رسول الله، معرفة حقيقية، كمعرفة الآباء بالأبناء. قال عمر لعبد الله بن سلام، وكان من أحبار اليهود قبل إسلامه: "أتعرف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كما تعرف ابنك؟. قال: نعم، وأكثر. لقد بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته، فعرفته. أما ابني فلا أدري ما كان من أمر أُمه. فقبَّل عمر رأسه". {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: فالبشارة به - صلى الله عليه وسلم - كانت موجودة بوضوح في التوراة والإنجيل. وعلماء اليهود والنصارى يعرفونها حقًا، ولكنهم ينكرونها لمرض نفوسهم، إلا من عصمه الله منهم فآمن. ونحن نعلم أنهم حرفوا الكتابين، وقاموا بطمس ما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتبقى فيهم السلطة الدينية. ولكن إنجيل "برنابا" سلم من أيديهم، وظل قرونًا مدفونًا في خزائنهم، حتى عثر عليه أخيرًا في مكتبة الفاتيكان بروما، وتسرب إلى العالم، فارتاعوا، لأنه يفضح أكاذيبهم، فأعلنت الكنيسة أنها لا تعترف به إنجيلًا، مع أنه من أقدم أناجيلهم وأقربها إلى الصحة، لأنه كُتب في القرن الأول الميلادي، ونصوصه ناطقة صريحة بأوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهداف رسالته. وقد جاء في الإصحاح الثاني والسبعين منه على لسان المسيح - عليه السلام -: "إنني قد أَتيت لأُهيئَ الطريق لرسول الله الذي سيأتي بقوة عظيمة على الفُجَّار، ويبيد عبادة الأصنام من العالم". ثم قال: "وسينتقم من الذين يقولون: إني أكبر من إنسان .. وسيجيءُ بحقٍّ أَجلْى من سائر الأنبياء .. وسيمتدُّ دينه، ويعمّ العالم". وجاء في الإصحاح السابع والستين منه: "تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب فيّ، وسيمتد دينه، ويعم العالم بأسره .. ولا نهاية لدينه، لأن الله سيحفظه صحيحًا". وفي الإصحاح العشرين بعد المائتين: "يظن كل شخص أني صُلبْتُ، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاءَ في الدنيا، ينبه كل مؤْمن إلى هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس".

والأناجيل التي يعترفون بها، والتوراة التي بين أيدينا الآن، بقيت فيها إشارات عدة (¬1) ترمز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عني بها كثير من الباحثين، وفي طليعتهم العلامة: رحمة الله الهندي، في كتابه: "إظهار الحق". فارجع إليه إن شئت. وذكرت الآية الذين يكتمون الحق وهم يعلمونه، ويستلزم هذا أن هناك فريقًا آخر، يعلم الحق ويعلنه ويؤْمن به ويؤَيده. ومن هذا الفريق: الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، الذي كان من أحبار اليهود وأسلم، ونزل فيه قول الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (¬2). ومن أحبار اليهود والنصارى الذين عرفوا الصفات النبوية فآمنوا: زيد بن سعنة وتميم الداري، والجارود بن عبد الله، وإدريس بن سمعان. ولإسلام كل من هؤُلاء قصة لا يتسع المقام لذكرها، وإسلامهم جميعًا يستند إلى صفات الرسول في التوراة والإنجيل. 147 - {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. الامتراءُ: إما بمعنى الجدل أو بمعنى الشك، فإن كان بمعنى الجدل، فالغرض من الآية وصفُ أهل الكتاب بأنهم قوم عادتهم الجدل، دون أن يهدفوا إلى الحق، وأمر الرسول بمجانبتهم وألاَّ يجاريهم في جدلهم. والمعنى في هذا: الحق نزل عليك يا محمد من ربك، وهؤلاء قوم عادتهم الجدل بدون طائل، فاتركهم ولا تكونن من المجادلين مع قوم هذا خلقهم، فلا فائدة تُرجى ممن عميت قلوبهم. وإن كان الامتراءُ بمعنى الشك: فالخطاب فيه لكل مكلفٍ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتصور منه الشك ولا يليق به، فإنه لم يقم بدعوته إلا على بينة من ربه {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ} " {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬3). ¬

_ (¬1) من أمثلة هذه الإشارات: سفر التثنية: 18/ 18، 23/ 2. والمزامير إصحاح: 45 حيث أورد في صفحة 17 مطابقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنجيل متى 4/ 17، 6/ 10، 13/ 24، وإنجيل يوحنا (راجع تفسير المنار جـ 9 ص 240 - 283). (¬2) الأحقاف: 10 (¬3) أوائل سورة النجم.

والشاك لا يستطيع أن يمضي فيما يشك فيه، فضلًا عن أنه يلاقي الصعاب في سبيله، ولا يستطيع أن يقول ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن هذا الأمرَ، ما تركته حتى يُظهرَه الله، أو أَهْلِكَ دونه". والمعنى على هذا: الحق نزل عليك يا محمد من ربك، فلا تكونن أيها المكلف، من الشاكين في ذلك، ودع ما يقوله الأَفَّاكون من أهل الكتاب، واكتسب المعارف التي تعصمك منه. {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} المفردات: {وِجْهَةٌ}: جهة. {مُوَلِّيهَا}: متجه إليها. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}: فاطلبوا السبق إليها. التفسير 148 - {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ... } الآية. ولكل فرد أو قوم، جهة وقبلة هو موليها وَجْههُ في الخيرات وغيرها. وكثير من الشعوب يتسابقون في سبيل دنياهم، دون رقابة من الضمير الديني، حتى كادت المدينة الحديثة تدمر العالم تدميرًا، أما أنتم - معشر المسلمين - فعليكم أن تتجهوا إلى الخير النافع في الدنيا والآخرة، لكم ولغيركم، وأن تسبِقوا سواكم إليه، فهذا صراط الله المستقيم، فاتبعوه {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. (¬1) ¬

_ (¬1) الأنعام: 153.

وهكذا يقرر الإسلام الرقابة الدينية على التصرفات البشرية، حتى لا ينحرف الناس عن جادة الصواب. {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذا تحذير من الانحراف في الاستباق في الحياة الدنيا، يعني أن الله - تعالى - مالك أمركم جميعًا وإليه مرجعكم، فأينما كنتم فوق الأرض، أو في بطنها، أو بين طبقات الفضاء يأت بكم الله إليه جميعًا، بأن يقبضَ أرواحكم، ويحشركم إلى حسابه وجزائه: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (¬1). فقدوته عظيمة، وعلمه محيط بكل شيءِ. {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} التفسير 149 - {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... } الآية. ناقشت الآية السابقة السفهاء من الناس، الذين أشاعوا الأَراجيف عند تحويل القبلة، وأفحمتهم بالدليل القاطع، وأَثبتت أن أهل الكتاب - وهم أصحاب الثقافة الدينية في ذلك العصر - يعرفون أن الحق في استقبال الكعبة، كما يعرفون أبناءَهم، ولكنهم ينكرونه مع أنه قبلة جدهم إبراهيم الذي يُشَرِّفون أنفسهم بالانتساب إليه. ¬

_ (¬1) العنكبوت: 22.

وقد عقب الله ذلك بأمر الرسول بالاتجاه في صلاته إلى البيت الحرام، سواءٌ أكان بالمدينة، أم كان خارجها، تعميمًا لاستقبالها في أي مكان. وأَمرُ الرسول أمر لأُمّتِه. فهو إمامهم {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: وإن الاتجاه إلى المسجد الحرام في أي مكان، لهو الأَمر الثابت الموافق للحكمة، المنزل عليك من ربك: الذي وَالاَكَ بفضْلهِ وإحسانه. فلا تعْدِل عن استقبال القبلة التي شرعها لك، فإنه مُطَّلع على عملك، وعلى أعمال عباده جميعًا، فيجازيهم حسبما عملوا. وفي نسبة إلى (ربك): إيذان بصدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءَ به وأنه - تعالى - يحفظه من مؤَامرات أعدائه، ويعاقبهم عليها. وختم الآية بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. لوعد المطيع، ووعيد العاصي. 150 - {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... } الآية. أمر الله رسوله بالتوجه إلى المسجد الحرام، ثلاث مرات: الأولى في قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. والثانية في قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. والثالثة في قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. وحكمة هذا التكرير: أن القبلة لها شأن خطيرٌ. والنسخ من مظان الشبهة والفتنة فلذا أكد أمرها مرة بعد أُخرى. مع أنه قد ذكر في كل مرة حكمة جديدة. ذكره أبو السعود.

وقال القرطبي - نقلا عن غيره في تعليل التكرار -: إن موقع التحويل كان معنتًا في نفوسهم جدًا، فأَكد الأَمر، ليرى الناس الاهتمام به، فيخف عليهم، وتسكن نفوسهم إليه. ويمكن حمل التكرار على أن الآية الأُولى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، لتشريع تحويل القِبْلَة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقوله بعد ذلك: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لتشريع الاتجاه إليها في الأسفار، وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} لتشريع الاتجاه إليها من المقيمين في بقاع الأرض المختلفة. وعلل الأمر باتجاههم إلى الكعبة في كل مكان يصلون فيه، بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}. فَأَهل الكتاب يعلمون من كتابهم: أن اتجاهكم إلى الكعبة حق. فإذا اتجهتم إليها لم يكن عليكم أي دليل ينقص من عملكم، فهي قِبْلَةُ أبيهم إبراهيم، وإن لم يعجبهم انصرافكم عن قبلتهم. والمشركون سيعلمون - بهذا الاتجاه - أنكم ورثة ملَّة أبيكم إبراهيم وقبلته، وكانوا يعترضون عليكم، بمخالفة قبلته، والآن: سقط هذا الاعتراض. أما الظالمون المعاندون: فلا حيلة لكم معهم. فهؤلاء يقولون: ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا ميلًا إلى دين قومه، وحبًا لبلده. أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه. ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الكلمة الشنعاء (حُجَّة) - مع أنها أفحش الأباطيل - من قبيل قوله تعالى: " {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} (¬1) حيث كانوا يسوقونها مساق الحُجَّةِ. {فَلَا تَخْشَوْهُمْ}: فإن مطاعنهم ل تضركم. {وَاخْشَوْنِي}: فلا تخالفوا أمري. {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: ¬

_ (¬1) الشورى: 16.

أي: وأمرتكم بذلك، لأُتِمَّ نعمتي عليكم، ولعلكم تهتدون بامتثال ما أمرتكم به إلى سعادة الدارين. ومن تمام نعمة الله على المسلمين: تطهير البيت الحرام من الأصنام، وتطهير الجزيرة العربية كلها منها، وقد تم هذا في آخر حياة الرسول - عليه السلام - فحقق الله وعده ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده. وقد تحققت للمسلمين البُشْرَيَاتُ الثلاث، التي أشارت إليها الآية الكريمة: قطع ألسنة السفهاء، وإتمام النعمة بإكمال الأمن، وتعميم الهداية ونشرها بين الأُمم والشعوب. قال تعالى: " {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... } (¬1) الآية. {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} المفردات: {يُزَكِّيكُمْ}: يطهركم. {الْكِتَابَ}: القرآن الكريم. {الْحِكْمَةَ}: السنة النبوية، أو ملكة عقلية للتمييز بين الحق وغيره. التفسير 151 - {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ... } الآية. الخطاب للعرب، و {كَمَا أَرْسَلْنَا} متعلق بقوله: {وَلِأُتِمَّ}. والمعنى: ولأُتم نعمتي عليكم بما سبق من جعلكم أمة وسطًا، وكونكم شهداء على الناس، واستقبالكم الكعبة قبلَةَ أبيكم إبراهيم، كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم، أي عربيًا ¬

_ (¬1) المائدة: 3.

مثلكم، وأنزلت عليه كتابًا سماويًا معجزًا، محفوظًا من التحريف والتبديل، يتلوه عليكم فيخرجكم به من الظلمات إلى النور. {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. ويُطَهِّر نفوسكم، ويمحصها لله بوعظه وإرشاده، حتى يكون عملكم خالصًا، لوجه الله - تعالى - وتتلاقى القلوبُ على محبة ورضوان من الله، وتكونوا - دائمًا - في نصرة دين الله، ويعلمكم كتاب الله وما فيه: من أُصول التوحيد، وشعائر الدين، ومناهج الخُلُقِ الفاضل ليكون كل ذلك دستورًا لكم، ويعلمكم الحكمة، وهي: سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام الشافعي. ومن معاني الحكمة: إصابة الحق والصواب. وما من شك في أن فهم القرآن والسنة والعمل بهما، يُنَمِّي في المؤمن موهبة الحكمة التي تهديه إلى الصواب، فيما يتعرض له من مشكلات. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1) والمؤمن البصير، يدرك الصواب بنور الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (¬2). {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} التفسير 152 - {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ... } الآية. فاذكروني بالطاعة واللسان، أذكركم بالثواب وبالثناء في الملإِ الأعلى. وإن نعم الله المتوالية عليكم: تستدعي أن تلهج ألسنتكم بذكر الله - تعالى - وتنفعل جوارحكم بطاعته. ¬

_ (¬1) البقرة: 269. (¬2) الأنفال: 29.

ومن كرمه - تعالى - إكرامه الذين يذكرونه: بذكره إياهم. عن أبي هريرة - رضى الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قدسي عن الله - عزل وجل -: يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا مَعَهُ حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسِه، ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ، ذكرته في ملإٍ خيرٍ منه" (¬1). والذكر من العبد: يكون بالأقوال والأفعال الخالصة، ومن الرب: بحسن المكافأة. {وَاشْكُرُوا لِي} أي: اشكروا نعمي عليكم. ومن أجَلِّها أنني أرسلت فيكم رسولًا منكم يزكيكم، ويعلمكم، ويهديكم إلى الله. وشكر المُنعم واجب. والشكر يكون: بتوجيه الجوارح إلى ما خلقها الله له، وبذلك المال فيما أباحه وندب إليه، ونشر العلم فيما ينفع، لوجه الله - تعالى - فشكر العالم: نشر العلم، وشكر القوي: مساندة الضعيف، وشكر الغني: الصدقة، وشكر الحاكم: العدل والتواضع. وهكذا. وقد وعد الله الشاكرين بموالاة نعمه عليهم: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2). {وَلَا تَكْفُرُونِ} أي: ولا تكفروا نعمي بجحدها أو منع زكاتها، أو ترك طاعة الله شكرًا له عليها، فإن العقاب على ذلك شديد. وقد أعطى الله قارون المال الوفير، فلما ادَّعَى أنه ناله بجهوده وعلمه، و {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (¬3) خسف الله به وبداره الأرض. ولما أعطى الله - سبحانه - سليمان - عليه السلام - ملكه الواسع، قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (¬4) فشكر الله، فَحَفِظَ عليهِ نعمتَه. ¬

_ (¬1) رواه الشيخان والترمذي. (¬2) إبراهيم: 7 (¬3) القصص: 78 (¬4) النمل: 40

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} المفردات: (الصَّبْر): ضبط النفس، وقوة الاحتمال. التفسير 153 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ... } الآية. يُعِدُّ الله المسلمين لما سيواجهونه من الفتن والمحن والحروب، ويدربهم تدريبًا نفسيًا على ملاقاة الشدائد، واحتمال الأهوال، فيأمرهم سبحانه وتعالى، أن يستعينوا على خوض غمار الأحداث والمحن بسلاحين رئيسيين، هما: الصبر والصلاة. أما الصبر، فيكون برياضة النفس على احتمال المكاره، وقمع الشهوات، وملاقاة النكبات، مع التسليم لله بقضائه، وانتظار فرجه، والرضا بحكمه. وبعض المفسرين يقسم الصبر إلى ثلاثة أنواع: صبر على ترك المحارم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المكاره والنوازل. ومن أهم مواطن الصبر: الصبر عند لقاء العدو جهادًا في سبيل الله. ولهذان كان ثواب الصابرين غير محدود: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). ولأهمية الصبر: ورد ذكره في القرآن، في نحو سبعين موضعًا، وأورد ابن القيم الجوزية في كتابه: "عدة الصابرين" أكثر من عشرين فضيلة للصبر. وأما الصلاة: فهي: أُم العبادات، ومعراج المؤمنين إلى منازل الصالحين. واستغراق المؤمن فيها، علاج لما قد يتعرض له من أخطار الحياة، لأَن المؤمن الذي يستعين فيها بالله ¬

_ (¬1) الزمر: 10

- تعالى - على شدائده، لا يتخلى عنه سبحانه، بل يعينه على الخلاص منها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ثم أكد نتيجة الاستعانة بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي: يمنحهم السكينة والعزاء والعوض، والمدد الذي يعين على الثبات والخروج من المآزق، ولم يقل إن الله مع الصابرين والمصلين، لأن الصلاة تجعل المصلي مع الله - تعالى - وإذا كان المصلي مع الله، فالله معه مثلما هو مع الصابر، كما أن الصلاة نوع من الصبر. وليس الصبر بلادة في الإحساس، واستسلامًا للنوازل، وإنما هو: ثبات على مكافحة البلاءِ. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}. التفسير 154 - {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ... } الآية. إن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، بل بعدها مرحلة القبر، ثم البعث، ثم الحساب ثم الجنة أو النار. والشهداء في قبورهم أحياءٌ حياة كريمة، وإن كانت غير مشاهدة، فلهذا نهى الله الناس عن أن يقولوا: إنهم أموات، وقرر أنهم أحياءٌ فقال: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}. أي: بل هم أحياءٌ: حياة مؤكدة، وإن لم نشعر بها، لأننا لا ندرك مما يحيط بنا إلا القليل. وحياة الشهداء مصحوبة بالرزق. قال تعالى:

{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). فهم أحياءٌ ممتعون برزق ربهم، وهم به فرحون، ويستبشرون بما يقدمه إخوانهم من الجهاد في سبيل الله وما ينتظرهم من ثوابه الجزيل، ولكن كنه هذه الحياة، علمه عند الله. وقد أنبأنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: "إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنة كيف شاءَت ... الخ". وكل ما نعلمه فيما عدا ذلك: أن الشهداء في حياة خير مما نحن فيه. وذكر حالة الشهداء بعد الحض على الصبر، لأَنها من ثمراته الطيبات. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} المفردات: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} البلاء: الاختبار. التفسير 155 - 156 - {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ... } الآية. اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون هذه الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (¬2) ¬

_ (¬1) آل عمران: من آية: 169 وآية: 170. (¬2) الأنفال: 42.

والإيمان درجات: فمن الناس " {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (¬1)، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (¬2)، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬3). والله - سبحانه - ليس في حاجة إلى أن يختبر عباده، ولكنه اختبرهم ليقيم عليهم الحجة: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (¬4). وسنة الله تجري على خلقه أجمعين، حتى الأنبياء. روى البخاري والترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". وخرَّج مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضى الله عنهما - أنهما سمعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "ما يُصيب المؤمن مِنْ وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، وَلاَ سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمّ يهمه، إلا كُفِّرَ به من سيئاته". وقد أعدَّ الله المسلمين لحمل رسالتهم الكبرى إلى العالم، فأمرهم بالصبر والجهاد، حتى تعلو كلمة الله، وأنبأهم بأنهم سيتعرضون لشيءٍ من الخوف، وهو غير الجبن، إذ هو: غريزة توقظ في صاحبها التوقِّي من الأخطار. وقد حدث الخوف للمسلمين في غزوة الخندق وحُنين، وأنبأَهم - سبحانه - أنهم سيتعرضون لشيءٍ من الجوع، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يربط على بطنه من الجوع. وقالت عائشة - رضوان الله عليها -: "لقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين" رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام: يغزو مع أصحابه أحيانًا، وليس لهم طعام إلا ورق الشجر، أو ثمرات يتبلغ بها الواحد منهم. ¬

_ (¬1) الحج: 61. (¬2) العنكبوت: 10. (¬3) البقرة: 207. (¬4) العنكبوت: 2.

كما أنبأهم - جل شأنه - أنهم سيتعرضون لنقص من الأموال، كما حدث لهم في أُحُد وتَبُوك، ولفقد الأنفس، كما حصل لهم في أُحُد ومُؤتة، ولنقص الثمرات، كما حدث في عام الرَّمادة. ومعنى الابتلاء من الله: أن يعاملهم معاملة المختبر - وهو العالم بحالهم - ليتميز الصابر المجاهد المحتمل، من الضعيف في دينه ونفسه، وفق ما علمه الله منه أزلا، فيجازى كل منهما على ما عمله، لا على ما علمه الله منه. والخوف: يكون من إزعاج أعدائهم لهم وإرهابهم إياهم، أو من توقع المكاره في النفس أو المال أو الولد. والجوع: يكون من قلة الموارد، ونحو ذلك. ونقص الأموال: بقلة الكسب والخسارة في التجارة ونحوها. ونقص الأنفس: بالقتل أو الموت. ونقص الثمرات: بنحو الآفات. وقد أردف الله تأكيد الابتلاء بذلك، بالحث على الصبر وبيان عاقبته، فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. الخطاب في قوله {بَشِّرِ}: للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يستطيع التبشير. والمصيبة: المكروه الذي يؤلم. وليس الصبر هو: الاسترجاع باللسان وحده، بل بالقلب معه، بأن يتذكر أن نعم الله عليه كثيرة، وأن ما أبقاه الله له، أضعاف ما استرده منه، فيهون المصاب بذلك على نفسه، ويستسلم، فذلك هو المقصود بقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، لا مجرد الاقتصار على النطق: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وإن كان ثواب هذا القول عظيمًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم آجرني، إلا آجره الله - تعالى - في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها ... " إلخ. أخرجه مسلم.

وإطلاق البشرى - بدون تقييد - يشير: إلى أن ثواب الصابرين الذين يقولون ذلك، لا يحيط به الوصف. ويجوز أن يكون المُبَشّرُ به، هو ما دلت عليه الآية التالية من أن: عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأنهم مهتدون، فما أعظمها بشارة. {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} المفردات: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}: الصلاة من الله: الرأفة والمغفرة. التفسير 157 - {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... } الآية. هذا هو جزاء الصابرين الذين يُبَشَّرُونَ به، وهو: أن لهم من ربهم ثلاث بشريات. الأُولى: صلوات الله عليهم. وذُكِرَت بصيغة الجمع للتكثير. وصلاة الله عليهم، هي مغفرته لهم، ورأفته بهم. والثانية: رحمته، بإزالة آثار المصيبة، أو تعويضهم بما ينعم به عليهم، من جلب نفع أو دفع ضر. والبشرى الثالثة: جاءت في قوله تعالى: (وأولئك هم المهتدون) إلى مطالبهم الدنيوية والأُخروية، فإن من نال رأفة الله ورحمته، لم يفته مطلب.

وقد جمع في البشارة بين الصلاة - وهي هنا بمعنى الرأفة - وبين الرحمة - وهي شاملة للرأفة - للمبالغة، كما في قوله تعالى: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً (¬1)}، وقوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ (¬2)}. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} المفردات: {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ}: هضبتان ملحقتان حاليًا بالمسجد الحرام: يسعى بينهما الحاج والمعتمر. {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: من علامات دين الله في الحج والعمرة. والشعائر: لغة: جمع شعيرة، وهي العلامة. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ}: أي قصد الكعبة لأداء المناسك في موسم الحج. والحج لغة: القصد، وشرعًا: قصد الكعبة للنُّسُك المشتمل على الوقوف بعرفة، في زمن مخصوص. {أَوِ اعْتَمَرَ}: أي زار الكعبة لنسك العمرة، وهي كالحج، فيما عدا الوقوف بعرفة وأنها لا تختص بزمان. والاعتمار في اللغة: الزيارة مطلقًا، كالعمرة. {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}: فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}: أي ومن زاد خيرًا على ما طُلب منه. التفسير 158 - {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ... } الآية. ¬

_ (¬1) الحديد: 27. (¬2) الحشر: 10.

روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: "سألت أنس بن مالك، عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما" فأنزل الله - عز وجل -: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وفي رواية الترمذي، عن أنس، أنهما: "كانا من شعائر الجاهلية". ويشرح الشعبي أمرهما في الجاهلية، فيقول: "كان على الصفا في الجاهلية صنم يُسمى: إسافًا، وعلى المروة صنم، يُسمى: نائلة، فكانوا يمسحونهما، إذا طافوا، فامتنع المسلمون عن الطواف بهما من أجل ذلك، فنزلت الآية"، أي نزلت لرفع الحرج من السعي بينهما. بعد ما أُزيلت عنهما الأصنام. والمعنى: إن الصفا والمروة من معالم دين الله، فهما من مناسك الحج والعمرة في الإسلام، بعد أن أُزيل الصنمان من فوقهما، وتمحض الذكر بينهما لله - تعالى - {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}: أي فمن كان حاجًا أو معتمرًا، أو جامعًا بين الحج والعمرة، فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما. وقد علمت مما تقدم: أن السعي بينهما كان نسكًا وعبادة في الجاهلية، ولكن العبادة فيه كانت للوَثَنَيْن القائمين فوقهما، فكان الساعون من أهل الجاهلية يمجدون وثنيتهما أثناء السعي. فلماء جاءَ الإسلامُ، أقر السعي بينهما، بعد أن أزال الأصنام، وجعل الذكر لله - تعالى - وحده، وهذا وأمثاله من السياسة الشرعية في الإسلام، فإنه إذا أقر أمرًا كان معروفًا في الجاهلية، لحكمة تقتضي إقراره، جرده من مظاهر الوثنية، ووجهه إلى الله - تعالى - قصدًا وذكرًا. قال الآلوسي: وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف - أي السعي بينهما في الحج والعمرة - لدلالة نفي الجُناح على ذلك، لكنهم اختلفوا في الوجوب، فعن أحمد: أنه سُنَّة، وبه قال أنس، وابن عباس، والزبير، لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه

عدم اللزوم، كما في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (¬1)} وليس مباحًا بالاتفاق، لقوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فيكون مندوبًا. عن الشافعي ومالك: أنه ركن فيهما، وحجتهما في ذلك: ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وكتب بمعنى: فرض، كما في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (¬2)}. وما رواه مسلم، عن عائشة، قالت: "ما أَتَمَّ الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة، ولا عمرته"، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم". وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سعى بينهما. وعن أبي حنيفة: أنه واجب يجبر تركه بدم. اهـ. بتصرف. ومن أراد مزيدًا في تعرف وجوه نظر الأئمة. فليرجع إلى كتب الفقه. {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. التطوع: ما يأتي به الإنسان من الطاعة غير المفروضة عليه، أي وَمَن أتى بشيء من النوافل، فإن الله {شَاكِرٌ} له، أي يثيبه عليه {عَليمٌ} بكل شيءٍ، فلا يخفى عليه تطوعه، نيةً وكيفيةً ومقدارًا، فلا ينقص من أجره شيئًا. واعلم أن السعي بين الصفا وا لمروة، شعيرة موروثة عن أُم إسماعيل - عليه السلام - فقد جاء في حديث طويل، رواه البخاري عن ابن عباس، بعد ما ذكر: أن إبراهيم - عليه السلام - جاء بهاجر وابنها إسماعيل، عند مكان البيت، وتركهما، فقالت له: "يا إبراهيم: أين تذهب، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيءٌ؟ "، ثم قالت له: "آلله أَمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا" ومضى ابن عباس في الحديث إلى أن قال: "حتى إذا نَفِد ما في السقاء، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يَتلَوَّى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من ¬

_ (¬1) البقرة: 230. (¬2) سورة البقرة: 183.

الصفا، حتى إذا بلغت الواديَ، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، ثم جاوزت الوادِيَ، حتى أتت المروة، فقامت عليه .. إلى أن قال: "ففعلت ذلك سبع مرات". قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك سعي الناس بينهما" ومضى في الحديث، إلى أن قال: "فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماءُ: (أي ماء زمزم) إلى آخر الحديث. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} المفردات: {الْبَيِّنَاتِ}: الحجج الواضحات، جمع بينة. {الْهُدَى}: ما يهدي إلى الحق والرشاد. {فِي الْكِتَابِ}: المرادُ به ما يشمل جميع الكتب السماوية، ومنها التوراة والإنجيل والقرآن. {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ}: يطردهم من رحمته. {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: يسخط عليهم الناس. {وَبَيَّنُوا}: أي أظهروا ما كتموه. التفسير 159 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ... } الآية.

قال الآلوسي: أخرج جماعة عن ابن عباس، قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجة بن زيد، نفرًا من أحبار يهود، عن بعض ما في التوراة، فكتموهم إياه وأَبَوا أن يخبروهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. وعن قتادة: أنها أنزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى. المعنى في هذه الآية الكريمة - وإن كان سبب نزولها خاصًا - وعيدٌ لكل من كتم علمًا يحسنه: سواءٌ أكان من اليهود، أم النصارى، أم غيرهم. فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من آتاه الله علمًا، وَجَبَ عليه أن يبذله للمحتاجين إليه، ولا يكتمه، وإلا كان آثمًا. ولكونها عامة، قال أبو هريرة، فيما رواه البخاري عنه: "لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدًا بشي أبدًا" ولعله قال ذلك، حين قيل له: أكثرت في الرواية. وكما جاء الوعيد عن الكتمان في القرآن، جاء في السنة. أخرج أبو يعلي والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سُئل عن علمٍ فكتمه، جاء يوم القيامة مُلجَمًا بلجام من نار". ومع أن العلم يجب تبليغه، فليس على العالم أن يبلغ منه إلا ما يناسب السامع، لكيلا يضل بسبب ضعف استعداده الفكري، أو العلمي أو وهن دينه. ولهذا كان ابن مسعود يقول: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة". وفي هذا المعنى، يقول صلى الله عليه وسلم: "حدثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله" (¬1)؟!. وقد دلت الآية على هذا المعنى. فإن الوعيد فيها، إنما هو على كتمان ما كان من البينات الواضحات، والهدى الذي لا يضل به الناس. أما سواه، فيُكتم - إلا عن أهله - مخافة الفتنة. وقد فعل ذلك أبو هريرة. ¬

_ (¬1) أورده الفردوسي وذكره القرطبي.

روى البخاري عنه: أنه قال: "حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءَين أما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر: فلو بثثته، قطع هذا البلعوم". قال القرطبي: قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة، وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل، إنما هو يتعلق بأمر الفتن، والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا، مما لا يتعلق بالبينات والهدى. {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}. المراد بالكتاب: جنس الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والقرآن. فاليهود من أهل هذا الوعيد، لأنهم كتموا ما في كتابهم، من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬1)، وكتموا عقوبة الرجم، وغير ذلك من الحق الذي أخفوه وهم يعلمون. والنصارى كذلك لكتمانهم ما في كتابهم الإنجيل من البشارة برسول يأتي من بعد عيسى اسمه أحمد، وأنه أُمِّيُّ، وغير ذلك من نعوته، ونعوت أتباعه التي منها أنهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (¬2). وكل من حبس علمًا عن الناس بينه الله في القرآن أو السنة، فهو كاتم لما بيَّنَهُ الله في الكتاب. وينطبق هذا على كل علم نافع ضروري. {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}: أي أولئك الكاتمون للعلم الذي بَيَّنَهُ الله في الكتاب، يطردهم الله من رحمته، ويسخط عليهم الخلق، فيزدرونهم وينبذونهم، ففي العلم حياة النفوس، وهو حق للناس يجب بذله. 160 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ... } الآية. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 146. (¬2) سورة الفتح: 29.

استثنى الله من أولئك الكاتمين المعاقبين بالطرد من رحمته وبسخط الخلائق: من تابوا ورجعوا عن كتمانهم العلم، {وَأَصْلَحُوا} بإظهار ما كتموه، وتصحيح ما حرَّفوه أو أساءوا فيه الفتوى، وردهم ما أخذوه بسبب التحريف أو الكتمان {وَبَيَّنُوا} الحق دائمًا، ليكون ذلك أمارة على صدق توبتهم من الكتمان. فهؤلاء: لا يعاقبهم الله بما توعد به الكاتمين لأن الله - تعالى - يفرح بتوبة عباده، وقد أكد الله - سبحانه - العفو عنهم، المأخوذ من الاستثناء بقوله: {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي: أقبل توبتهم المقرونة بالإصلاح، وتبيين الحقن {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ومن كان شأنه المبالغة في قبول التوبة وسعة الرحمة، فهو الجدير بأن يتوب على عباده ويرحمهم، إذا بادروا بالتوبة والإصلاح والتبيين. وقد اشتملت الآية على أركان التوبة: 1 - الرجوع عن الذنب ويشير إليه قوله: (تابُوا). 2 - الندم على ما فات لأنه من تمام التوبة. 3 - رد المظالم إن وجدت، ويشير إليهما قوله: {وَأَصْلَحُوا}. 4 - العزم على عدم العود، ويشير إليه قوله: {وَبَيَّنُوا}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)} التفسير 161 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ... } ألآية. بَيَّنَ الله قبل ذلك: أن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. واستثنى منهم من تابوا، وأصلحوا، واستقاموا على تبيين الهدى فأُولئك يقبل الله توبتهم، ويعفو عنهم.

وبين في هذه الآية والتي بعدها، عقوبة الكافرين بصفة عامة. ويدخل فيهم الذين كفروا بكتمان الهدى من أهل الكتاب، تأكيدًا لعقوبتهم السابقة. والمعنى: إن الذين كفروا بالهدى الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصروا على الكفر، فلم يتوبوا - غير مكترثين بما يقرع أسماعهم من آيات الهدى، وما تراه أبصارهم من دلائل الحق، وأقاموا على إصرارهم، حتى ماتوا وهم كفار - أولئك تستمر عليهم لعنة الله التي لازمتهم من أول كفرهم، ولعنة الملائكة والناس. وجميع هؤلاء تستمر لعنتهم عليهم، بسبب إصرارهم على الكفر. وكلمة: {أَجْمَعِينَ}: تأكيد وليست خاصة بالناس، وليس المقصود من لعنة الناس لهم: أنهم جميعًا يلعنونهم، بل المقصود: أن كثيرًا من الناس يلعنونهم. 162 - {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي خالدين في لعنة الله، أو في النار. لا يخفف عنهم العذاب بأنواعه، يوم القيامة فهم فيه معذبون بغضب الله ونار جهنم، والزمهرير. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: أي ولا هم يؤخرون ساعة دون عذاب. مأخوذ من الإنظار بمعنى التأخير، أو المعنى: ولا هم يُنظرون من الله - تعالى - نظر رحمة (¬1)، وإرجاع الضمير في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} إلى النار، ولم يسبق ذكرها، للإيذان بأنها معروفة حاضرة في الذهن، وإن لم تذكر. تهويلًا لأمرها، ولأن لعنة الله تؤذن بها، فإنها هي الطرد من رحمته ومَن طرده الله من رحمته، عذبه بناره. {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} المفردات: {إِلَهٌ} الإله: المعبود. ¬

_ (¬1) النظر بهذا المعنى يتعدى، ويأتي منه المبنى للمجهول، كما في الأساس.

وسبب النزول

{الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}: صيغتان للمبالغة في الرحمة، الأولى سماعية، والثانية قياسية، وتختص الأولى بالله - تعالى - ويجوز إطلاق الثانية على غيره. التفسير 163 - {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}. لما ذكر الله في الآيتين السابقتين وعيد الكافرين، وختمه بأنهم خالدون في العذاب وأنهم لا يُخفف عنهم ولا يُنظرون، أتبعهما هذه الآية والتي تليها، ليرشدهم إلى توحيده - سبحانه - لعلهم ينقذون أنفسهم من هذا الوعيد الذي ينتظرهم، فهما مسوقتان لإثبات الألوهية لله - تعالى - وتفرده بها، وقد مرّ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ... } الآية. لإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كتموا شهادة الكتب السماوية بنبوته. وسبب النزول على ما نقله الآلوسي: عن ابن عباس - رضى الله عنه -: أن كفار قريش قالوا: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: صف لنا ربك، فنزل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ومع أن السبب خاص، فالخطاب عام لكل من يصلح للخطاب، والسائلون في جملتهم. والمعنى: وإله البشر الذي يستحق العبادة، إله واحد، هو الله - تعالى - لا إله إلا هو بليغ الرحمة، فقد عمت رحمته في الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وعمت رحمته في الآخرة، هل الإيمان: من وفَّى منهم، ومن قصر وتاب. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ... } (¬1). ومن كان كذلك: فلا يصح أن يُعبد معه سواه، فإن سواه مجرد من صفات الأُلوهية محتاج إلى الله - سبحانه وتعالى - في خلقه وتدبيره، كما أنه - عز وجل - لو كان معه إله آخرن لفسد العالم. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: 53، 54.

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1) والتعبير بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لتقرير وحدانية الإله وتأكيدها. ونفى الشريك عنه نفيًا حاسمًا، باستعمال أسلوب القصر. وبعد أن ذكر هذه الآية الناطقة بتوحيد المعبود، أتبعها ما يدل على ذلك فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} المفردات: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: أي تعاقبهما، أو اختلافهما بالزيادة والنقصان وغيرهما. {وَالْفُلْكِ}: اسم يُطلق على سفينة أو أكثر، بلفظ واحد. ومن الأول: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (¬2) ومن الثاني: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (¬3). {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}: أي ونشر فيها من كل نوع من الدواب. والدابة: ما يدب، ويمشي على الأرض. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: أي تقليبها جنوبًا وشمالًا وشرقًا وغربًا، حارة وباردة، إلى آخر أنواعها. {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ}: المنقاد لله: يوجهه كيف يشاء. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: 22. (¬2) سورة الشعراء: 119. (¬3) سورة يونس: 22.

التفسير 164 - {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ... } الآية. بينت الآية السابقة: أن المعبود بحق يجب أن يكون واحدًا فقال كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟! وقالوا: هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. رواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى. وساء أصح هذا السبب في نزول الآية، أم لم يصح، فقد ذكر فيها أدلة جليلة على ما جاء في الآية التي قبلها، وهو: أن إلهنا إله واحد، تثبيتًا له وتأييدًا. فقد ذكر الله - تعالى - في هذه الآية أدلة كونية عظيمة، تدل من يعقلون، على وحدانية الله - تعالى - وأنه رحمنٌ رحيمٌ. وأول هذه الأدلة: أنه - سبحانه - أبدع السموات والأرض متناسقة على غير مثال سبق. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (¬1). كل ما في السماء عجيب نافع، فشمسها المشرقة نهارًا: تبث في أرضنا الدفءَ، وتنشر فيها الضوء، وتنبت الزرع، وتستخلص من مياهنا المالحة بخارًا حُلْوًا نَقِيًا، يصيره الله بقدرته سحابًا، ثم يعيده إلينا مطرًا عذبًا، فيسلكه في أعلى الأرض أنهارًا، ويسلكه في جوفها ينابيع، فنعيش به، ويعيش حيواننا، على ما أوجد الله بسبب الشمس من الماء والنبات {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (¬2) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬3) سبحانه، هو أرحم الراحمين. ¬

_ (¬1) سورة الملك: 3،4. (¬2) سورة فاطر: 3. (¬3) سورة المؤمنون: 14.

وقمرها المضيء ليلًا، خلقه الله ليهدي السائرين، ويرشد الحائرين. ونجومها المنيرة السابحة وكواكبها اللامعة الزاهرة: جُعِلَت معالم للحيارى، ومراشد للمدلجين: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬1). وفي هذه النيرات نجوم ملتهبة منيرة كشمسنا أو أكبر، وكواكب تدور حولها كمجموعتنا الشمسية، وتستمد ضوءَها منها، كما تستمد مجموعتنا الشمسية ضوءَها من شمسنا. وهذه وتلك، جاوزت أرقام الحساب التي عرفها البشر، وفاقت عظمتها ما يخطر بالعقول. وقد ارتبط بعضها ببعض، بنظام الجذب والدفع الذي حفظ الله به توازنها. وكل ما في الأرض عجيب مفيد، فجبالها أوتادٌ لها، تحفظها من أن تميد بنا، وأنهارها وبحارها مصادر لأرزاقنا، ومعابر لسفننا، وسبب لحفظ حياتنا، ومعادتها نتخذ من بعضها حُلينا وعملتنا، ونتخذ من بعضها أوانينًا وأدواتنا ومواد بنائنا، وأسلحة دفاعنا وهجومنا على أعدائنا، والسهل من أرضها نزرع فيه أقواتنا، والتلال والهضاب نتخذ فيها الحصون والقلاع لنرد عادية خصومنا، وأشجارها وزرعها وطيورها وحيوانها لأرزاقنا ومنافعنا، وهواؤُها حياة لنفوسنا وحيواننا ونباتنا. أفلا يدل ذلك على إله عليم قادر حكيم، رحمن رحيم لا شريك له فيما صنع! فإن وحدة الوجود وكماله واتساقه يشهد بوحدة الخالق المدبر، إذ التعدد مصدر للفساد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬2). وثاني هذه الأدلة: {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، واختلافهما: تعاقبهما، فبينما الليل يلف الأرض بظلامه، والناس فيه رقود ساكنون، إذ ينبعث النهار من تحت إهابه، فتسجع الأطيار، وتطير من الأوكار باحثة عن رزق الكريم الرحيم، ويهب النائمون من مراقدهم، يبحثون عن أرزاقهم، ويسعون في سبيل عيشهم. وكما أن الليل والنهار يختلفان بالتعاقب، فإنهما يختلفان كلاهما بالطول تارة والقِصَر أخرى. ¬

_ (¬1) سورة النحل: 16. (¬2) سورة ق: 37.

فمن أبدع ذلك لصالح خلقه سوى إله واحد قدير عليم، مهيمن حكيم؟!. وثالث هذه الأدلة: {الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فهذه الفلك: أرشد الخالقُ العقول البشرية إلى صنعها من خشب أو حديد، على نحو معين يسمح لها بأن تطفو فوق سطح الماء بما تحمله من أثقال، وأن تتحرك يَمنةً أو يَسرة، حسب الاتجاه الذي يُراد لها، وأن تجري بالريح التي تملأ أشرعتها وتدفعها، أو بالآلات والوسائل والأسباب التي يسر الله للعقول استحداثها، وهي تحمل أثقالنا وأنفسنا، وتجارتنا النافعة لنا، من قُطر إلى قُطر، وتربط البلاد بعضها ببعض: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (¬1). والله تعالى كما يمسك بنواصي النفوس، يمسك أسباب السلامة في رحلة هذه السفن. ولو شاء لأسكن الريح، {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (¬2)، ولو شاء لعطل آلاتها، فتغرق بمن فيها، أو يموت راكبوها جوعًا وظمأ. فمن الذي خلق المواد التي صُنعت منها؟ ومن الذي أرشد العقول إلى صنعها على نحو يُرجى فيه السلامة؟ ومن الذي يسَّر لها أسباب الأمان، سوى إله واحد قادر عليم، رحمن رحيم؟ ورابع هذه الأدلة: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} والسماء هنا: السحاب، والآية تشير إلى حجة عظيمة، تتجلى فيها الرحمة والشفقة بالعباد أو يتجدد فيها التعهد بالفضل والنعمة، كلما احتاجت الكائنات الحية إلى الماء: أصل الحياة وينبوعها. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (¬3)}. فبينما نرى السماء صافية الأديم، إذا رحمة حانية من الخالق الكريم الحكيم، تبعث الرياح، فتثير سحابًا كونته قدرته تعالى من بخار المياه، فيبسُطه برحمته فوق أرجاء مختلفة من الأرض، ويوزعه بعدالته بين عباده الذين يعيشون على رحماته، وينزل مياهه - بحكيم تدبيره - على الروابي والبطاح والسهول والجبال، فتتخذ سبيلها إلى خزانات وأغوار فوق سطح الأرض أو تحت سطحها. ¬

_ (¬1) سورة الشورى: 32. (¬2) سورة الشورى: 33. (¬3) سورة الأنبياء: 30.

فأَمَّا مياه الخزانات العلوية، فتتخذ سبيلها في أنهار وغدران، إلى أطراف البلاد. وأما مياه الخزانات السفلية. فتتفجر ينابيع، تجرب بالعذب الزلال، ويظل هذا الفضل ممدودًا، وتلك الرحمة مرسلة، ينهل منها من يشاء، ويغرس ويزرع على سلسبيلها من أراد أن ينشيءَ: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (¬1) يتغذى بأرزاقها، ويتفكه بفواكهها وثمارها، ويطعم منها دوابه المختلفة. ولم تنس هذه العناية الرحيمة دواب الصحراء الشاردة، فقد أنبتت لهم في واحاتها المراعي المخضرة، دون أن يزرعها الزارعون، وأخرجت لهم المياه العذبة، دون أن يستنبطها المستنبطون. فمن الذي صنع هذا الجميل، وتعهد به عباده؟ إنه إله واحد عليم، رحمن رحيم!! {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} (¬2). {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} (¬3). {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬4). وخامس هذه الأدلة: أنه: {بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}. والدابة: ما يَدِب ويمشي على الأرض، ويدخل فيها الحيوان كله، حتى الطير. قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} (¬5) .. الآية. والدواب من آيات الألوهية، بخلقها ونشرها في أنحاء الأرض، لينتفع بها سكانها في مرافقهم وضروراتهم وحاجاتهم المختلفة. فقد علم الإله الرحيم: أن الإنسان لا غنى ¬

_ (¬1) الأنعام: 141. (¬2) فصلت: 39. (¬3) الحج: 5. (¬4) الروم: 50. (¬5) النور:45.

له عنها، فخلقها إلى جواره، وذَلَّلَها له، لينتفع بها في أغراضه. فَمَنْ يقدر على ذلك سوى إله واحد رحمن رحيم، قادر عليم؟. وسادس هذه الأدلة: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: أي تقليبها وتلوينها. فأحيانًا تكون نسيمًا عليلًا طيبًا، ينعش الأرواح، وأخرى تكون جافة حارة تضيق بها النفوس، وتارة تجدها لينة رخاءً، وأخرى عاصفة هوجاء، وأحيانًا ريحًا عقيمًا: " {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (¬1) إلى غير ذلك: مما تقتضيه حكمة الحكيم: الذي أحسن كل شيءٍ خلقه، ورتبه على حسب مشيئته وما ينبغي لصلاح أرضه، ولو أمسك الريح ساعة لهلك كل شيء حي على سطحها، فمن فعل هذا سوى إله واحد: حكيم عليم، قهار مقتدر!!. وسابع هذه الأدلة: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. فهذا السحاب جعله الله مصدر المطر الذي به حياة الكائنات الحية، ومخازن له متنقلة متجددة من آن لآخر، وهو يشبه الضباب الذي نراه صباحًا، في الأوقات التي يكون الجو فيها مشبعًا بالرطوبة. وهو يتكون من بخار الماء، ويكون في الجو كالجبال، وقد سخره الله بقدرته وذَلَّلَهُ، وجعله مطواعًا للريح، تنقله إلى حيث شاء الله. والسحاب في تكوينه، وتسخيره، وجعله بين السماء والأرض، ورعده، وبرقه، ومطره - آية عظيمة، من آيات الخالق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (¬2). ثم ختم الله هذه الآية بقوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن هذه الآيات الكونية السبع، لدلائل واضحة على ما جاء في الآية التي قبلها من صفات الله وهي قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الذاريات: 42. (¬2) النور: 43و44 وسيأتي شرحهما.

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وهي آيات لقوم يتفكرون، فإن من تأمل في كل آية مما سبق، وجدها مشتملة على وجوه كثيرة من الدلالات على وجوده تعالى ووحدانيته، ورحمته وسائر صفاته. وفي الآية تعريض بجهل المشركين وغبائهم، لاقتراحهم على الرسول آية تدل على ذلك. أخرج ابن أبي الدنيا وابنُ مردويه، عن عائشة رضى الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية قال: "وَيْلٌ لِمنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَدَبَّر فِيهَا". {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} المفردات: {أَنْدَادًا}: الأنداد: جمع نِد، وهو النظير والشبيه. والمراد بها هنا: الأوثان. التفسير 165 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... } الآية. لما عرض في آخر الآية السابقة، بعدم تعقل من يعبدون الأوثان العاجزة المصنوعة، ويجعلونها أندَادًا ونظراءَ لمن له تلك الأدلة الواردة فيها، الشاهدة بتفرده بالألوهية، أتبع هذا التعريض ببيان سائر أحوالهم مع هَؤُلاء الأنداد في الدنيا والآخرة. والأنداد هنا: الأوثان، على ما رآه مجاهد وأكثر المفسرين. وإطلاقها عليها هو الشائع في القرآن الكريم. وقيل: هم الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب. ومن الممكن أن يراد هنا بالأنداد: الأوثان والرؤساء الذين يصرفون الناس عن عبادة الله - تعالى - وحده، دون شريك. فلا مانع من إرادتهما معًا.

والمعنى: ومن الناس من يتخذ من غير الله الواحد - الذي وردت آياته الكونية العظمى في الآية السابقة - نظراء له وأمثالًا، فلا يقصرون الطاعة عليه - سبحانه - بل يطيعون معه أُولئك النظراءَ، ويحبونهم كحبهم لله الذي يؤمنون به، ويخلطون هذا الإيمان والحب بطاعتهم لرؤسائهم في الشرك والمعاصي وحبهم لهم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} والذين صدقوا بوحدانية الله، أَشَدُّ حبًّا له من حُبِّ أُولئك المشركين لأوثانهم ورؤسائهم، أو أشد حبًا لله - تعالى - من حب المشركين له، لأن المؤمنين لا يعبدون سواه. ويلجأون إليه في الرخاء والشدة ولا اتجاه لهم إلى غيره، أما هؤلاء: فقد وزعوا حُبَّهم بين أوثانهم وشركائهم، وبين الله - تعالى - والله لا يرضى عن هذا الشرك ولا يغفره {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). وهذه شهادة من الله للمؤمنين يعتزون بها، ويجب أن يكونوا أهلًا لها، بطاعته والإخلاص له فيها، وأن يحذروا الشرك الخفي، حتى لا يبغضهم الله ويتخلى عنهم. ففي الحديث القدسي "أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُهُ وشريكَهُ". {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} المراد: بالذين ظلموا: هم هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، فهم ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وظالمون للحق بجعلهم لله أندادًا وهو غني عن العالمين. و"يَرَى" الأولى علمية، والثانية بصرية. والمعنى - كما قال الزمخشري - ولو يعلم هؤُلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة لله على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين، لكان منهم مالايدخل تحت الوصف، من الندم والحسرة على ظلمهم وضلالهم. ثم قال: فحذف الجواب هنا، كما في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (¬2) وكما في قولهم: لو رأيت فلانًا حين تأخذه السياط اهـ. أي: لرأيت أمرًا عظيمًا! ¬

_ (¬1) النساء: 48. (¬2) الأنعام: 27.

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} المفردات: {الْأَسْبَابُ} معناها اللغوي: الحبال، جمع سبب والمراد بها في الآية: ما يصل الرؤساء والأتباع بعضهم ببعض من الصلات، كالدين الواحد والأنساب والأتباع. {كَرَّةً}: رجعة إلى الدنيا. {حَسَرَاتٍ}: جمع حسرة، وهي أشد درجات الندامة على شيٍ فات. التفسير 166 - {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}. الربط: في هذه الآية والتي تليها، حكاية لما سوف يحدث في الدار الآخرة، من العداوة بين التابعين والمتبوعين، وتبرؤُ كل فريق منهما من الآخر، حين يرون العذاب. ومعنى الآية مع ما قبلها: ولو يرى المشركون الظالمون أن القوة لله جميعًا وقتما يرون العذاب، حينئذ، تنقطع بينهم الأسباب والصلات، فلا يهتمون بما كان يجمعهم بهم، من عقيدة أو نسب أو تبعية أو مصلحة، ويتبرأُ بعضهم من بعض، لعل ذلك يخفف عنهم العذاب، ويقول الرؤساء لله تعالى، في تبرئهم من تبعة شركهم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} (¬1) ويأتي بعد ذلك دور التابعين، وهو ما حكاه الله بقوله: ¬

_ (¬1) القصص: 63.

167 - {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ... } الآية. والمعنى: وقال التابعون: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ من هؤلاء الرؤساء المتبوعين، كما تبرءُوا منا، يريدون بذلك التمنى أن يعودوا إلى الدنيا، ويطيعوا الله - تعالى - حتى إذا ماتوا وحُشروا، استطاعوا أن يتبرءُوا منهم، وهم في حالة صالحة للتبرؤ. وقيل: إنَّ المعنى: لو أنَّ لنا نحن وهم رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ منهم فيها، كما تبرءُوا منا هنا ونخذلهم، ونتشفى فيهم. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}. المعنى: مثل ذلك الذي بينته الآية من عذابهم وتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم التي عملوها، بتقديس الأنداد وإغواء التابعين، أو التبعية للرؤساء المشركين، إذ يجدونها حسرات وندامات عليهم. والمقصود: أنَّ أعمالهم لا يجدون لها أثرًا من الخير، بل يبدلها الله حسراتٍ وزفراتٍ، حين يرون العذاب على كل عمل منها. {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} بل يخلدون فيها أبدًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} المفردات: {حَلَالًا طَيِّبًا}: حلالا لا شبهة في حله، أو لا تعافه النفوس. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: خطوات: جمع خُطوةٍ، بضم الخاء وفتحها، كما قال الفراءُ. والمراد بالنهي عن اتباع خطواته: ألا يسيروا تبعًا لوساوسهِ ومغرياتهِ.

{عَدُوٌّ مُبِينٌ}: أي عدو بيِّنُ العداوةِ وَاضِحُها. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ}: أي ما يحرضكم إلا على ما يسوؤُكم، ويحزنكم في عاقبته وهو المعاصي. {وَالْفَحْشَاءِ}: ما اشتد قبحه من الذنب. التفسير 168 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}. بعد أن ذكر الله - فيما تقدم - أن إله الناس واحد ورحمن ورحيم، وأقام الأدلة على ذلك، وحذر من عاقبة الإشراك، أتبعه إباحة الحلال الطيب. مما في أرضه - تعالى - لهم، وحذرهم أن يتبعوا الشيطان في أمرهم كله من عقائد وأعمال وأرزاقٍ، لعداوته لهم، ولأنه لا يأمر الناس بغير السوء والفحشاء، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون. وقد نزلت هذه الآية فيمن حَرَّموا طيبات أُحلِّت لهم، فالمشركون لم يقتصروا على الإشراك بالله - تعالى - بل ضموا إلى ذلك تحريم البَحِيرَةِ، والسَّائِبَة، والوَصِيلة، والحام، وهي أنواع من الإبل، حَرَّموا ذبحها وأكلها. وسيأتي بيانها في تفسير سورة المائدة آية (103). واليهود كانوا يحرمون لحم الإبل على أنفسهم. والآية الكريمة، وإن نزلت في هؤُلاء، فهي عامة الخطاب لهم ولمن على شاكلتهم، كالسيخ من أهل الهند الذين يحرمون ذبح البقر وأكل لحمها، لأنهم يعبدونها. هؤُلاء جميعًا، يقول لهم ربهم - سبحانه - ما معناه: يأيها الناس كلوا مما في الأرض، من حيوانها ونباتها وثمارها، حلالًا لا حرمة فيه، طيبًا لا تعافه النفوس، فلا تمنعوا أنفسكم من هذه المطاعم التي حَرَّمتموها وهي لكم حلال، كما لا تمنعون أنفسكم من غيرها، بشرط أن تكسبوها بطريق مشروع، وألا تكون محرمة لخبثها أو لعارض، كذكر اسم الأوثان عليها. والأمر في: "كُلُوا": للإباحة.

والتعبير بقوله: {فِي الْأَرْضِ}، لتعميم دائرة الإباحة المذكورة، وإفساح مداها. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تسيروا تابعين للشيطان في أُموركم كلها من عقائد واكتساب للأرزاق، وتناول للمطاعم والمشارب، وغير ذلك من العبادات والمعاملات. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إنه عدو ظاهر العداوة لكم، فقد أخرج أبويكم: آدم وحواء من الجنة حَسَدًا لهما. والحسد كامن في نفسه لذرياتهما، والعداوة تابعة للحسد. فلا ينبغي لعاقل أن يستمع لما يزيِّنه له عدوه، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (1)؟! 169 - {ِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} علل الله النهي عن اتباع خطوات الشيطان بعلتين: أولاهما: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وقد تقدمت. والثانية: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ... } الآية. وخلاصة الآيتين: لا تتبعوا وساوس الشيطان، لأنه لا يأمركم إلا بما يسوؤكم ويحزنكم في العاجلة أو الآجلة، وبما اشتد فحشه وقبحه من الذنوب، كالإشراك بالله والزنى وعقوق الوالدين، وادعاء أن الله حرم ما لم يحرمه: كذبح البحيرة والسائبة، أو حلل ما لم يحلله: مثل شرب الخمر وأكل الربا، ومن كان شأنه الأمر بذلك، فلا يصح اتباع وساوسه. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}

التفسير تمهيد: نهى الله الناس في الآيتين السابقتين عن اتباع خطوات الشيطان، لعداوته وأَمرِه بالسوءٍ والفحشاءِ، وذلك يستلزم أنهم مأمورون باتباع ما أنزل الله. فجاءت هذه الآية لتوضح حالهم عند الأمر باتباع ما أنزل الله، فقال تعالى: 170 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... } الآية. المعنى: وإذا قيل لهم: اتبعوا في دينكم ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا معرضين: لا نتبعه، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وسواء قالوا ذلك بلسان المقال، أم قالوه بلسان الحال، فالمراد: أنهم أصروا على سلوك سبيل آبائهم البعيدة عن الهدى. وتركوا سبيل مولاهم الحق، وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1) والآية عامة: تشمل كل أهل الباطل المقلدين لغيرهم فيه، ويدخل فيهم المشركون. {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. الهمزة في "أَوَ لَوْ": للإنكار. والمعنى: أيتبعوهم، ولو كان حال آبائهم أنهم لا يعقلون شيئًا، ولا يهتدون إلى رشاد، لتعطيلهم قوى الإدراك والهدى، إن هذا الاتباع الأعمى أمر تنكره العقول السليمة. ما يُستنبط من الأحكام التقليد: هو قبول قول الآخرين دون معرفة الحجة. والتقليد في الباطل مذموم، لأن هذا هو الذي عابه الله على الكفار. أما التقليد لأهل العلم لأهل العلم الأمناء في الحق فهو - كمال قاله القرطبي - فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أُصولها فيما يحتاج إليه، مما لا يعلمه من أمر دينه، عملًا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) الزخرف: 23. (¬2) النحل: 43.

وحكى ابن عطية: أنَّ التقليد في العقائد مجمع على منعه. وحكى - فيه خلافًا - القاضي أبو بكر الباقلاني، وعثما بن عيسى، والشافعي وغيرهم. هذا: والآيات السابقة تنهض بالعقول، وتحميها من إسار التبعية والتقليد للآخرين، وفقًا للقواعد المقررة في الإسلام: "أما ما زعمه الجهال كطائفة الحشوية من وجوب التقليد وحرمة النظر والاستدلال فباطل، لقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1) وغير ذلك من الأدلة. وتعتبر هذه الآيات مصدرًا لتكوين الشخصية المستقلة الجديرة بالمسلم، بحيث لا يكون إمعة، أو تابعًا لسواه دون رويّةٍ أو تفكيرٍ. {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} المفردات: {يَنْعِقُ}: يصيح، والنعيق: التصويت على البهائم للزجر. {دُعَاءً وَنِدَاءً}: الدعاء والنداء: استدعاء الآخرين. فهما بمعنى واحد، وقيل: الأول: لطلب القريب، والثاني لطلب البعيد. {صُمٌّ}: لا يسمعون. {بُكْمٌ}: لا يتكلمون. التفسير 171 - {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}: بينت الآية السابقة أنَّ الكفارَ يقلدون آباءَهم فيما هم فيه من الكفر، من غير تعقل، وأنَّهم إذا دعاهم داعٍ إلى ما أنزل الله أعرضوا، وأصروا على دين آبائِهم، ولو كان يعقلون شيئًا ولا يهتدون. ¬

_ (¬1) يونس: 101.

وجاءت هذه الآية، لتمثيل حالهم هذه - مع من يدعوهم إلى الحق، وهم لا يعقلون ما يُقال - بحال البهائم مع الراعي الذي يدعوها ويحذرها، وهي لا تعي منه إلا مجرد الصياح والصراخ. وفي الكلام مضاف مقدر، إما في جانب المشبه، والتقدير: مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان، كمثل الذي ينعِق، أو في جانب المشبه به، والتقدير: ومثل الذين كفروا كمثلِ بهائم الذي ينعق. وسنأتي بالمعنى على الوجه الأول، ومنه يُفهم المعنى على الوجه الثاني. المعنى: ومثل هادي الذين كفروا وداعيهم إلى الحق، وهم لا يعقلون، كمثل الراعي الذي ينعق بماشيته، ويصيح بها، ليكفها عن الرعي في مرعى وخيم يضرها. وكما أن البهائم لا تعي من الراعي إلا صوت الدعاء والنداء، دون أن تفهم غرضه وهو كفُّهم عن المرعى الوخيم العاقبة، فعدم تمييزها، فكذلك هؤلاء المقلدون، لم يدركوا من هاديهم وداعيهم إلى الحق ومحذرهم من الباطل سوى الدعاء والنداء، لانهماكهم في التقليد الذي أغلق عقولهم، فلم تدرك ما يقول، وكما أن البهائم وقعت في المرعى الوخيم العاقبة - بجهلها - فكذلك هؤلاء، وقعوا في مهاوي الردى، بإعراضهم عن الهدى. ويجوز أن يكون المراد: تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم - جاهلين حقيقتها الأليمة - بالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفهم المراد منه. ثم ذكرت الآية أنهم {صُمُّ}: لا يسمعون الدعوة إلى الحق لانصرافهم عنه. {بُكْمٌ}: لا يتكلمون بالحق لجهلهم إياه {عُمْىٌ} لا يُبصرون الحق لإغماضهم عيونهم عن أضوائه. {فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}: لا يدركون شيئًا لفقدان الحواس الثلاث التي هي أبواب العلم. وليس المراد نفي هذه الحواء والعقل حقيقة، بل المراد: أنها لا يُنتفع بها فكأنها مفقودة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} المفردات: {مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}: المراد من الطيبات: المستلذات، أو الحلال من الرزق. {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}: أي وما ذُبِحَ مذكورًا عليه اسم غير الله، وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أُطلق على رفع الصوت مطلقًا، ومنه إهلال الصبي عند الولادة. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ}: فمن أجبرته الضرورة على تناول شيء مما ذُكر، لإنقاذ نفسه من الهلاك، غير ظالم لغيره. {وَلا عَادٍ}: ولا معتد بتجاوزه ما يمسك الرمق ويدفع الجوع. التفسير 172 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: أَبَحْنا لكم أن تأكلوا من المستلذات، وأن تنتفعوا بما أحللناه لكم من أرزاقنا التي مننا بها عليكم، وأمرناكم أن تشكروا الله على ما أنعم به عليكم، إن كنتم تخصونه بالعبادة، ولا تُشركون معه غيره فيها، فإن من شأن المؤمن الذي يخص ربه بالعبادة: أن يقتصر على ما أحله له، وألا يتوسع في تناوله، حتى لا تَطْغَى نفسُه وتتجاوز الحلال إلى الحرام.

173 - {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ...... } الآية. بيَّن الله في هذه الآية: ما حرمه علينا من المطعومات، لأسباب تقتضيها. وأول هذه المحرمات: {الْمَيْتة}، فإذا ماتت بهيمة - سواء أكانت تحل مذبوحة، كالبقرة والشاة والطير، أم لا تحل كالخنزير - حرم أَكلها، مهما كان سبب موتها، فسواء في التحريم: أن تموت بمرض أو بغيره. وحكمة التحريم في الموت بالمرض: ظاهرة، وفي الموت بسواه: الاحتياط للسلامة، فإن البهيمة التي تموت غريقة أو نحو ذلك، قد تكون مريضة وصاحبها لا يعلم مرضها، وإنما خلت الذبائح من الحيوانات التي يحل ذبحها، لأن الدم الذي يخرج منها بالذبح، يخرج معه ما عسى أن يكون فيها من أسباب الأمراض. فضلًا عن أنه - بدفعه لا بمسيله - أَمارةٌ على السلامة والحيوية في الذبيحة. وفي حكم الميتة في التحريم: ما يقطع من الحيِّ من لحمه، أو أعضائه. فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه، عن أبي واقد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما قُطع من البهيمة، وهي حية، فهو ميتة". ويُستثنى من تحريم الميتة: السمك والجراد، لما أخرجه ابن ماجة والحاكم، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "أُحلَّت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال". وفي العُرف أنه إذا قال قائل: أكل فلان الميتة، لم يتطرق إلى الذهن السمك والجراد. ويحل الانتفاع بجلدها بعد الدبغ. وإذا ذُبحت أُنثى حيوان يحل أكله، وفي بطنها جنين - حلَّ أكله إذا وُجد ميتًا، لأن ذكاة الجنين بذكاة أُمه، فإن وُجد حيًا ذُبح ليحل أكله. وثاني هذه المحرمات: (الدَّم) والمراد به: الدم المسفوح، لما صرحت به آية الأنعما: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬1). أما الدم المعقود: وهو الكبد والطحال من الحيوان المذبوح، فيحل أكله. ¬

_ (¬1) الأنعام: 145: المراد من الدم المسفوح: الدم السائل، أما الدم المعقود كالكبد والطحال فهو حلال.

واستدل بالآية: على نجاسة الدم المسفوح، ولو كان ذلك من السمك، وإنما حرم الدم، لأنه يشتمل على جراثيم الأمراض، ويتعرض للفساد بسرعة. وثالث هذه المحرمات: {لَحْم الْخِنزِيرِ}، لأَنه يحمل بويضات الدودة الشريطية، وهي أخطر أسباب الضعف وفقر الدم للإنسان، فإنها تمتص خلاصات الأغذية التي يتناولها، وهي على شكل شريط طويل، يمتد في الأمعاء، وهي شديدة النهم، ولا تكاد تشبع، وربما كان التحريم لحكم أُخرى، لا تزال مجهولة لنا. ورابع هذه المحرمات: {مَا أُهل بِه لِغَيْرِ اللهِ} أي ما ذُبح، وقد ذكر عليه اسم غير الله، وإذا كانت المحرمات السابقة قد حرمت لخبث ذاتها، فمما ذكر اسم غير الله عليه، حُرّم، لخبثه معنويًا: فقد ذكر عليه اسم غير خالقه المنعم به عند ذبحه، ولولا ذلك لكان حلالًا، وسُمي الذكر إهلالًا: لما فيه من الإهلال أي رفع الصوت، والمراد بغير الله: ما يشمل الأصنام وغيرها. وذهب عطاءٌ والحسن ومكحول والشعبي وسعيد بن المسيب، إلى تخصيص التحريم بما ذكر عليه اسم الصنم ولهذا أباحوا ذبيحة النصراني، إذا ذُكر عليها اسم المسيح، وقد خالفوا بذلك ظاهر النص، وما عليه الجمهور من التحريم، وقد شمل حكم الآية: ذبيحة الوثني، والمجوسي، وكذا ذبيحة المعطل الذي لا يعتقد في الله - تعالى - فهي حرام كذبيحة من ذكر اسم غير الله عليها. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: في هذا الجزء من الآية، إباحة هذه المحرمات للمضطر، وهو من أُكره على تناولها ليعيش. والمضطر هنا، هو الجائع جوعًا مهلكًا، ولا يجد غير تلك المحرمات، ومثله من كان في يد عدُوٍّ، أكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره. ومعنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، كما قال السدي: غير طالب لأكلها شهوة وتلذذًا، ولا عادٍ: باستيفاء الأَكل إلى حد الشبع اهـ. ومن كان في مجاعة مستمرة فله الشبع من هذه المحرمات، استبقاءً لنفسه.

وعند الشافعي وأبي حنيفة: أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، لأن الإباحة للاضطرار. وذهب مالك: إلى أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غيرها طرحها. والكلام مبسوط في المطولات. وقد استفيد من الآية: أنه لا إثم على المضطر في الأكل مما ذكر في الآية. أما وجوب الأكل منها لحفظ حياته فلا يُؤخذ منها، بل من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). وليس المراد من الآية حصر التحريم فيما ذكر، فإن المحرمات أوسع منها، ولكن المقصود رد اعتقاد المشركين أن الأكل منها حلال. وختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: للإيذان بأن الحرمة باقية، إلا أنه تعالى، أسقط الإثم عن المضطر وغفر له، لاضطراره. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} المفردات: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: ويأخذون بدله عوضًا قليلًا. ¬

_ (¬1) البقرة: 195.

{مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}: أي ما يأكلون من الطعام المشترى بهذا العوض إلا ما يؤدي بهم إلى النار. {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: ولا يطهرهم من دنس الذنوب. {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}: باعوا الهدى بالضلالة، وجعلوها مكانه. التفسير 174 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} نزلت هذه الآية - كما روى عن ابن عباس - في علماء اليهود. كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي الموعود منهم. فلما بعث من غيرهم، كتموا، وغيروا صفته - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم، خشية أن يتبع، فتزول رياستهم، وتنقطع هداياهم. وإطلاق النار على الرشوة، لأَنها تُؤَدى بهم إليها. أو نزلت فيهم، لأنهم كتموا من الكتاب أحكام المحللات والمحرمات من الأطعمة، كما أشارت الآية السابقة. والآية - وإن نزلت فيهم - فهي عامة في كل من يكتم شيئًا من كتب الله التي أنزلها على رسله. ولا يبين أحكام الله لعباده لقاء عرض من أعراض الدنيا الفانية. والمعنى: إن الذين يخفون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام، في مقابل عرض قليل من أعراض الدنيا - وكل عرضها قليل وإن كان كثيرًا - هؤلاء ما يأكلون في بطونهم من هذا العرض الدنيوي إلا ما يؤدي بهم إلى النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة كلام رحمة، وإن كان يكلمهم بلسان ملائكته كلام سخط ومؤاخذة.

{وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي ولهم عذاب مؤلم، بسبب كتمانهم الحق عن عباد الله. 175 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}. المعنى: أُولئك المستحقون لهذا العذاب الأليم، هم الذين استبدلوا في الدنيا الضلالة التي ارتضوها لأنفسهم، بالهدى الذي رفضوه، وكتموه عن غيرهم، واستبدلوا في الآخرة العذاب بالمغفرة، فأي شيءٍ أصبرهم على النار، مع أنها لا يمكن الصبر عليها. و (مَا) في قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}: استفهامية، لغرض التعجيب، كما قال الفراءُ. 176 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. ذلك الذي تقدم من الجزاء الشديد المترتب على الكتمان، حاصل بسبب أن الله نزل القرآن بالحق، فلا يصح أن يكتم أمره وأمر من جاء به، ولا أن يُفْتَرَى عليه، وإن الذين اختلفوا في شأنه لفي خلاف بعيد عن الحق، موجب لأشد العذاب، فإن منهم من يقول: هو سحر، ومنهم من يقول: هو شعر، ومنهم من يقول: أساطير الأولين، ومنهم من يقول: افتراه على الله كذبًا، أم به جِنة، ومنهم من يقول: إنما يُعلمه بشر. ويرى بعض المفسرين: أن المراد من الكتاب: جنس الكتب التي أنزلها الله، وأن المعنى: ذلك العذاب بسبب أن الله نزَّل كتبه بالحق، فلا جرم أن يعذب من يكتمها، أو يكذبها. وإن الذين اختلفوا في كتب الله، بأن آمنوا ببعضها، وكفروا بالبعض الآخر، وأساءوا تأويل بعضها، وكتموا بعضها الآخر - إن هؤلاء - لفي خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشد العذاب.

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} المفردات: {الْبِرّ}: اسم جامع لكل أعمال الخير. {الْبَأْسَاء}: المشقة، أو الفقر، أو الداهية. {الضَّرَّاء}: كل ضرر يصيب الإنسان، فيؤلمه إيلامًا شديدًا، مثل: المرض، أو فقد عزيز. {وَحينَ الْبَأس}: وحين جهاد الأعداء. التفسير 177 - {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... } الآية. بعد أن أوضحت الآيتان السابقتان: أن من الناس طائفة يشترون الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، ومنهم من يختلفون في فهم الكتاب، ويقعون في شقاق بعيد. أوضحت هذه الآية وجوه البر، توضيحًا دقيقًا، لا يقع بسببه فيها لبس أو خلاف. والخطاب لأهل الكتاب، فإنهم كانوا أَكْثَرُوا الْخَوض في أمر القبلة، حين حُوِّلت إلى الكعبة، فقال الله لهم ما معناه: ليس البر في أن تولوا وجوهكم، في أية ناحية من نواحي الأرض حَتَّى يكون ذلك موضع اهتمامكم، ومثار فتنتكم للمؤمنين بغير حق.

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}: يعني: ولكن البر الذي يحق الاهتمام بشأنه، والجد في تحصيله، هو في: إيمان مَن آمن بالله وحده، إيمانًا بريئًا من شائبة الشرك، لا إيمان اليهود الذين أشركوا بقولهم: عُزير ابن الله، ولا إيمان النصارى الذين أشركوا بقولهم: المسيح ابن الله، لأن نسبة ابن إليه - تعالى - نوع من الإشراك به. والبر الحقيقي أيضًا في: تصديق من صدق بالله واليوم الآخر، وما فيه من جزاءِ كل امريءِ على حسب عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأن المشركين هم أصحاب النار خالدين فيها أبدًا، لا كما زعم اليهود: أن النار لن تمسَّهم إلا أيامًا معدودات. وأن آباءَهم الأنبياء يشفعون لهم. فهم خالدون في جهنم، لا يبرحونها، لشركهم بالله، وكذا النصارى، فهم على شاكلتهم. وفي: إيمان من آمن بالملائكة، وأنهم عباد الله المكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون، وأنهم سفراء الله إلى أنبيائه ورسله، وأن حبهم جميعًا واجب، وأن عداوتهم أو عداوة بعضهم كفر، كما حديث من اليهود لجبريل - عليه السلام -. وفي: إيمان من آمن بالكتب السماوية كلها، فلا يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعل اليهود والنصارى، إذ كفروا جميعًا بالقرآن، وكفر اليهود بالإنجيل. وفي: تصديق من آمن بالنبيين جميعًا، دون تفرقة بين أحد منهم، لا كما فعل أهل الكتابين، بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكما فعل اليهود بالنسبة إلى عيسى - عليه السلام -. {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}. وفي: تَصَدُّق من أعطى المال الذي يحبه، ذوي قرابته، فالإنفاق عليهم من أكرم الأموال: يُضاعف ثواب الصدقات. روى النسائي وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى الرحم اثنتان: صدقة وصلة".

وفي حديث آخر، رواه الطبراني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصدقة على ذي قرابة يضعف أجرها مرتين". ويلي ذوي القربى في الإحسان: "اليتامى" فالبر بهم عطف عليهم ورعاية لهم. وهم أولى بالعطف والرعاية عوضًا عما فقدوا من الآباء. وقد أعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل كافل اليتيم، فقال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بسبابته والوسطى" (¬1). وقد عني الإسلام بالحض على رعاية الأيتام، ليكونوا - في مستقبلهم - نافعين لأنفسهم وأُمتهم، بدل أن يُهملوا، فينشأُوا في أنفسهم عُقَدٌ نفسية، فيكون منهم: اللصوص وقطاع الطريق، والفاسدون والمفسدون، ولذلك يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (¬2). ثم يلي ذلك "البر بالمساكين" وهم: الذين لا يجدون ما يحفظ حياتهم إلا بشق الأنفس. ومن كان عمله لا يفي بحاجته فهو مسكين. قال تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر" (¬3). وفي الصحيحين، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، ولكنَّ المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيهن ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّقُ عليه". ثم يلي ذلك في العطاء: "أبناء السبيل"، وابن السبيل هو المسافر إلى بلد المتصدق، أو المارّ به، أُطلق عليه هذا الاسم لملازمته له حين التصدق عليه. ولا يدفع له من الزكاة، حتى يدّعي أنه لا مال معه وأنه محتاج. ويقدح في حاجته قدرته على الكسب - ويشترط في استحقاقه: أن يكون سفره مُباحًا. ويعطي لو كان له مال في بلده يصعب الحصول عليه وهو مغترب. ويمكن معرفة أحكام ابن السبيل تفصيلًا من كتب الفقه. ثم يلي ذلك إعطاء السائلين. وهم الذين يسألون الناس، والسائل ينبغي إعطاؤُه إلا إذا تحققت أنه غير محتاج. ¬

_ (¬1) رواه البخاري وغيره. (¬2) البقرة: 220. (¬3) الكهف: 79.

ثم يلي هؤلاء في العطاء، تحرير الأرقاء فقد شرعه الله - تعالى - للمسلمين، لينقذوا إخوانهم في الآدمية، من العبودية التي استحدثها الناس فيهم، مع أنه - تعالى - خلق الناس أحرارًا. وقد حُثَّ على تحرير الرقيق، وشرعه في الكفارات، وجعل من خصالها عتق الرقاب - ودعا المسلمين إلى مساعدة المكاتبين من الأرقاء، وهم من كاتبهم مالكوهم على قدر معلوم، يؤدونه لهم، نظير عتقهم وتحريرهم، وقد أوصى الله المؤمنين بهذه العاطفة الكريمة، فقال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬1). وأَوجب سبحانه لتحرير الأرقاء نصيبًا في مصارف الزكاة. ثم أَتبع ذلك ألوانًا أُخرى من البر، فقال: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}: أي وفي أداء الصلوات بأركانها وشروطها. {وَآتَى الزَّكَاةَ}: أي وفي إعطاء الزكاة المفروضة لمستحقيها. أمَّا ما مرّ من إيتاء المال على حبه، فالمقصود منه: التنفل بالصدقات. قُدِّم على الفريضة، مبالغة في الحث عليه. أو المراد بهما المفروضة: الأول: لبيان المصارف، والثاني: لبيان وجوب الأداءِ. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}: أي: والبر في الموفين بعهدهم، إذا عاهدوا سواهم، فمن أبرز أنواع البر: الوفاءُ بالعهود، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬2). روى البخاري، أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". والعهد يكون بين العبد وربه، كما يكون بين المؤمن وجماعة المؤمنين، وبين المسلمين وسواهم. والمجتمع الفاضل المتمسك: هو الذي يسوده الوفاءُ بالوعد والعهد. أما المجتمع الذي يفشو فيه الغدر والخيانة والغش والخداع، فمآله التفكك والانحلال. ¬

_ (¬1) النور: 33. (¬2) لإسراء: 34.

وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروع مثل، في صلح الحديبية، في الوفاء بالعهد، على الرغم مما كان فيه من إجحاف بالمسلمين، فعوَّضه الله بسبب هذا الوفاءِ، وأثابه فتحًا مبينًا. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}. البأساءُ: الفقر والشدة. والضراءُ: المرض والشيخوخة ونحو ذلك، والبأس: الجهاد في سبيل الله، أُطلق عليه ذلك. لما فيه من البأس أي الشدة. وقد أفاد هذا النص: أن الصبر في البأساء والضراء وحين الجهاد، من خلال البر. والصبر: صفة في النفس - خِلقية أو مكتسبة بالرياضة - تبعث على تحمل المشاق والمتاعب، رجاء الفرج من الله تعالى. وهو أساس الفضائل، إذ يعين على أداء الواجب للخالق والمخلوق، وعلى قمع الشهوات، واحتمال النكبات، ووأد الفتن، وعلى مشاق الجهاد. ولهذا ورد في الآية منصوبًا على المدح، بتقدير فعل مناسب، نحو وأمدح الصابرين في البأساءِ ... الخ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}: هؤلاء الذين اجتمعت فيهم صفات البر كلها، كما ذكرتها الآية الكريمة، هم الذين صدقوا في الدين، واتباع الحق، وتحرى البر، وأُولئك هم الذين اتقوا الكفر، وسائر الرذائل، دون سواهم، ممن كانوا ينازعون في أمر القبلة، ومن على شاكلتهم. والصدق هنا: هو الإخلاص. ويطلب في العبادات والمعاملات. والتقوى: المراد بها الخوف من الله - تعالى - فإذا امتلأ بها قلب العبد، وأخلص لربه في السر والعلن، والغضب والرضا، والحب والبغض، واليسر والعسر. ونلاحظ: أن هذه الآية الكريمة - على إيجازها - صورت جميع مكارم الأخلاق. فقد جمعت بين الإيمان والعمل، وبين حقوق الله وحقوق العباد، وبين جهاد النفوس وجهاد الأعداء، وبين صلاح الأفراد والجماعات.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)} المفردات: {الْقِصَاصُ}: توقيع العقوبة على الجاني بمثل جنايته. {عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}: أي ترك له القصاص في مقابل الدية. التفسير 178 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى ... } الآية. ستجد في هذه الآية، وما يليها حتى آخر السورة. أحكامًا شرعية. ينبني عليها أمر المعاش والمعاد، وهي تعتبر نصف السورة تقريبًا. وقد وصفت الآية السابقة الأبرار: بالأوصاف الكريمة التي بها صلاح الأُمم. غير أن المجتمعات لا تخلو من منحرفين ضالين، لأن الصراع بين الحق والباطل من سنة الحياة. والله - تعالى - يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬1)، فكان من الحكمة تأديبهم والقصاص منهم، فنزلت الآية لتنظيم القصاص، وعدم الغلو أو القصور فيه، والقضاء على ما كان عليه العرب من المغالاة فيه، بقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة، والجماعة بالواحد، والعظيم بالحقير، فهم يتركون القاتل ويقتلون أعز منه. كما نزلت لتشريع الدية والعفو عن القصاص. ¬

_ (¬1) سبأ: 13.

وكان في شريعة اليهود القصاص، ولم يكن لديهم العفو إلى الدية، فكان تشريعها في الإسلام فيه رفق بالمجتمع، وتهيئة فرصة التوبة للجاني، والتسامح والتصالح مع أُسرة المجني عليه، وذلك يؤدي إلى حقن الدماء، وعدم معاودة القتل بين الأُسر. روى البخاري عن ابن عباس، قال: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله - تعالى - لهذه الأُمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد". {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُ وفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: أي فعلى أهل القتيل أن يطالبوا القاتل بدية المقتول، بالمعروف من غير تعنيف، وعلى المعفو عنه أن يؤدي الدية إلى أهل القتيل بإحسان، من غير مماطلة وبخس. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من رَّ بِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}: حيث عدل عن القصاص إلى الدية. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي فمن قتل بعد قبول الدية أو بعد العفو، أو قتل غير القاتل، أو قتل القاتل إذا لم يقبل العفو عنه إلى الدية، فله عذاب أليم في الآخرة. وذكرت الآية الكريمة حكم القصاص في النوع الواحد، ولم تتعرض لحكم ما إذا اختلف القاتل والقتيل نوعًا، كما إذا قتل حر عبدًا، أو رجل امرأة، أو العكس. والأحناف يرون أن النفس بالنفس مطلقًا، ويشاركهم في ذلك: داود والكوفيون وغيرهم، لهذه الآية، ولقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1) فإنَّ شرع من قبلنا يجب العمل به إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين أو بالدار، وهما سواءٌ فيها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ... " (¬2). رواه ¬

_ (¬1) المائدة: 45. (¬2) رواه ابن ماجة.

وما قاله الأحناف، من قتل الرجل بالمرأة، والعكس، إذا كان من الأحرار المسلمين، أمر مجمع عليه، كما قال القرطبي. أما قتل الحر بالعبد، أو المسلم بالكافر فيمنعه مالك والشافعي وغيرهما. ودليلهم في ذلك: ما روى عن على - رضى الله عنه -: "أن رجلًا قتل عبده، فجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفاه سنة". وما روى عنه أنه قال: "من السنة ألا يقتل مسلم بذي عهد، ولا حر بعبد". ومن حججهم التنويع والتقسيم في الآية، وأنه إذا كان لا قصاص بينهما في نحو الأطراف، فكيف يقتل الحرب بالعبد قصاصًا؟ إلى غير ذلك من الأدلة. أما قتل العبد بالحر فلا خلاف فيه، وكذا قتل الذمي بالمسلم، أما العكس، وهو: قتل المسلم بالذمي، فقد قال به الكوفيون، والثوري، للآية التي نحن بصدد شرحها، ولقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولأَن المسلم يقطع إذا سرق مال الذمي. وهذا يدل على أن ماله قد ساوى مال المسلم، فدل ذلك على مساواة دمه لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه، إلى غير ذلك. والجمهور: على أنه لا يُقتل مسلم بكافر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقتل مسلم بكافر". أخرجه البخاري عن علي. ومن أراد التعمق في بحث الموضوع، فليرجع إلى المطولات في الفقه والتفسير. واستثنى جمهور الفقهاء، من وجوب القصاص: الأب إذا قتل ابنه، لأن الابن قطعة من أبيه، فالخسارة واقعة عليه. وفي العصر الحديث: ارتفعت أصوات بعض المشرعين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، تنادي بإلغاء عقوبة الإعدام لفظاعتها، ولأَن أَغلب مرتكبيها واقعون تحت تَاثير أمراض نفسية، وينادون بعلاجهم لا بقتلهمن ولأن القضاة بشر: يُخطئون ويصيبون، وخطؤهم لا يمكن إصلاحه، في حالة الإعدام.

وأخذت بعض الدول الحديثة، بهذه المبررات، فألغت عقوبة الإعدام. ولكن أكثر العلماء، ورجال الدين عارضوا هذا الإلغاء، لأنه يشجع على سفك الدماء، والاستهانة بالأرواح، إذ الهدف من العقوبة هو الردع. وذهب بعض علماء الاجتماع: إلى أن الإعدام أخف من السجن المؤَبد، المصحوب بالأعمال الشاقة. والقرآن الكريم فرض القصاص، ولكنه فتح أبوابًا للرحمة، أهمها: 1 - القتل الخطأ: لا قصاص فيه. وعقوبته تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يتصدقوا، بتنازلهم عنها. وللحاكم أن يضيف إلى هذا، عقوبة التعزير. 2 - لأولياء القتيل حق العفو عن القصاص في القتل العمد، مقابل الدية، ولهم - أيضًا - حق التنازل عنها، لأنهم هم الذين وقع عليهم الضرر. 3 - إذا عفا البعض من أولياء القتيل، وخالف البعض الآخر، سقط القصاص، وعاد الأمر إلى الدية أو الإحسان بالعفو. 4 - أرجأَ الإسلام تنفيذ القصاص في الحامل، حتى تضع حملها، إنقاذًا للجنين، ورجاءً لعفو أولياء الدم، أو قبولهم الدية. 5 - حبب الإسلام في العفو حيث قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُ وفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وسيأتي شرحه. وقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (¬1). هذا، وقد قرر الفقهاءُ: أن الجاني إذا كان معروفًا بالشر، أو ظهر للإمام أن المصلحة العامة تقتضي عقابه، فعليه أن يعاقبه العقوبة المشروعة، ولا يعفو عنه، صيانة للمجتمع من شره. ¬

_ (¬1) النور: 22.

{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} المراد من أخيه: ولي الدم، أي فالجاني الذي عُفِي له من ولي الدم شيٌ من العفو، ولو أقل قليل. كأن يعفو بعض الورثة، عن حقهم في القصاص، فإن ذلك يُسقط القصاص، كالعفو التام، وسماه "أخاه" استعطافًا، بتذكير أُخوة الدين. وقيل المراد بأخيه: المقتول. والمعنى: فمن عفى له من دم أخيه شيٌ. والمراد ما تقدم بيانه. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}: أي فليطالب العافي بالدية، بالمعروف من غير تعنيف ولا إيذاءٍ. {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}: يعني: وليؤد الجاني الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مماطلة ومن أراد معرفة أحكام القصاص والدية في حق المسلمين وغيرهم. فليرجع إلى كتب الفقه. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّ بِّكُمْ وَرَ حْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: فتح الله بابًا للرحمة والتخفيف وحقن الدماء، بإجازته أخذ الدية، وتوعُّدِهِ من يعتدي بعد ذلك - أي بعد أخذ الدية، بأن يقتص من الجاني، أو يقتل غيره - بالعذاب الأليم، لأنه غاش ومخادع. والمراد بالعذاب الأليم: العقاب في الدنيا بالقصاص، وفي الآخرة بالنار. وقال أبو الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى عذابه في الآخرة. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام، يصنع فيه ما يرى. وقيل غير ذلك. ووجه التخفيف بأخذ الدية: أن أهل التوراة، كان لهم القتل، ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو، ولم يكن لهم قَوَد ولا دية، فجعل الله - تعالى - ذلك تخفيفًا لهذه الأُمة، فمن شاء قتل، ومن شاءَ أخذ الدية، ومن شاءَ عفا. قال القرطبي.

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} المفردات: {الْأَلْبَابِ}: جمع لب، وهو: العقل. التفسير 179 - {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ... } الآية. هذه الآية تعليل لإيجاب القصاص الذي مر بيانه في الآية السابقة، وتوضيح لمحاسنه على وجه بديع، حيث جعل الشيء سببًا في ضده. فقد ذكرت في إيجاز معجز، الهدف من القصاص، وهو حياة المجتمع في أمن وسلام، ولهذا خاطبت أُولي الألباب، أي: أصحاب العقول الخاصة من العلماء والأذكياء. فإذا انحرف بعض الأفراد، اقتضت المصلحة العامة للجميع استئصال المنحرف، محافظة على سلامة غيره فالقصاص من الجناة حياة آمنة للأُمة. وإلى هذا أشارت الآية الكريمة: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْ ضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1). فالأصل: هو القصاص. أما العدول عنه إلى قبول الديات أو العفو، فمتروك لأولياء الدم. وقد عنى علماء البلاغة والمفسرون بالموازنة بين التعبير القرآني: "ولكم في القصاص حياة"، وبين الحكمة العربية: "القتل أنفى للقتل". وأورد السيوطي في كتابه: "الإتقان" عشرين وجهًا، لتفضيل العبارة القرآنية. ومن أبرز وجوه امتيازها على العبارة العربية: أنها واضحة الهدف وهو حياة الأمة، وأن القتل فيها للقصاص. ¬

_ (¬1) المائدة: 32.

أما العبارة العربية: فليست كذلك، كما أن القصاص قد يكون بغير قتل، ذلك عند إصابة بعض الأعضاء. وليس في العبارة العربية تعرض له. وسبب الحياة بالقصاص: أن من يفكر في القتل، ويعلم أن سيُقتص منه إذا قتل، يمتنع عن القتل، فيتسبب ذلك الامتناع في حياة نفسه، وحياة من يريد قتله، فإذا عم هذا التفكير بين الناس، ساد فيهم الأمن والسلام، وتوفرت لهم الحياة، كما أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد، فإذا اقتص من القاتل وحده سلم الباقون، فيكون ذلك سببًا لحياتهم. {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} التفسير 180 - {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ... } الآية. بعد أن تناولت الآية السابقة حقوق أولياء الدم في القصاص أو الدية أو العفو، تناولت هذه الآية حقوق بعض أولياء الميت فيما ترك من خير وهم: الوالدان والأقربون، فذكرت: أن من تَوقَّعَ النهاية، فعليه أن يوصي بتركته لوالديه وبقية أقاربه، بما يعرف العقلاء حسنه فلا يحرم بعضهم بدون حق. وجمهور المفسرين القدماء - وفي مقدمتهم ابن عباس وابن عمر - على أن هذ الآية منسوخة بآيات الميراث في سورة النساء. وسندهم في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبهم على راحلته فقال: "إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية". أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجة. وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أُمامة الباهلي. سمعت رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - في حجة الوداع في خطبته، يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث". فهذا الحديث وذاك، أفهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن آية المواريث نسخت وجوب الوصية للوالدين والأقربين، المأخوذ من هذه الآية. والقائلون بنسخ وجوب الوصية اختلفوا: فمنهم من قصر النسخ على الذين يرثون، وأبقى وجوبها فيمن لا يرثون، كأن يكون الوالدان أو الأقارب كافرين، أو يكونوا مؤمنين، ولكنهم حجبوا من الميراث، كابن الأخر الذي حرم بأخ، وكذوي الأرحام. فالوصية واجبة لهؤلاء وأمثالهم عند بعض من قال بالنسخ. وممن قال بذلك: ابن عباس وعلى - رضى الله عنهما - روى عن على أنه قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية. ومنهم من قال: إن الوجوب نسخ في حق الجميع، ولكنها مستحبة في حق الذين لا يرثون، وإلى هذا الرأي ذهب الأكثرون. وقيل إن هذه الآية لم تُنسخ بآيات المواريث، بل حدد بها ما كان الموصى حرًا في تحديده بمقتضى هذه الآية. فقد رأى الحكيم - سبحانه - أنه قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي به لكل واحد من أقاربه، ولا يعرف من هو أولى بالوصية من سواه، وقد يقصد المضارة. فتولت حكمته تعالى بيان ذلك الحق، بما أنزله من آيات المواريث متفقًا مع الحكمة والمصلحة، حيث حصر الأنصباء في النصف والربع والثمن، والثلثين والثلث والسدس وعين أصحابها، وما فضل - بعد أصحاب الفروض - أعطاه لأولي الذكور العصبات، وَبَيَّنَ دَرجاتهِم، فتحول التقسيم بآيات المواريث من الموصي - كما كان شائعًا - إلى المولى سبحانه وتعالى، فقال في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ... } (¬1) الخ أي يوصيكم في ورثتكم - ¬

_ (¬1) النساء: 11.

وقد عجزتم عن تحقيق المصلحة بينهم بأنفسكم - بأن يكون تقسيم أموالكم بينهم على النحو المبين في الآية، وذلك كمن أمر غيره بإعتاق عبده، ثم أعتقه هو بنفسه. ومن أراد المزيد من تحقيق الموضوع، فليرجع إلى الموسوعات في تفسير تلك الآية الكريمة: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي هذه الوصية: جعلها الله حقًا، يلتزم به من اتقى الله وراعاه. {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)} المفردات: {إِثْمُهُ}: الإثم: ارتكاب ذنب. {خَافَ}: الخوف هنا بمعنى العلم. {جَنَفًا}: الْجَنفَ: الجور والميل عن الحق. التفسير 181 - {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ... } الآية. هذا تحذير من الله، لمن يبدل وصية الميت من الأوصياء والشهود، بعد ما تأكد من صدورها عنه، وإنذار له بأنه آثم مرتكب لكبيرة من الكبائر. ومن كان كذلك، عُوقب عقاب كبائر الذنوب، لأنه أعان على قيام باطل، بدلًا من الإعانة على تنفيذ حق شرعه الله. وتبديل الوصية: يكون بإنكارها، أو بالنقص فيها، أو بتغيير صفتها، أو بغير ذلك. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيسمع أقوال المبدلين والموصين، ويعلم نياتهم، فيجازيهم على حسبها، وفي هذا وعيد مؤَكد للمبدلين، ووعد للموصين العادلين.

واستدل بالآية: على أن وجوب الوصية يسقط عن الموصى بنفس الوصية وأنه لا يلحقه تبعة، إن لم يعمل بها. 182 - {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ... } الآية. والمعنى: فمن علم من المسلمين جورًا من موصٍ في وصية، بأن أَوصى بالمال إلى زوج ابنته، أو ابن ابنته - مثلًا - لينصرف المال إلى ابنته، رغبة في حرمان وارث، أو أوصى لبعيدِ وترك القريب، فأصلح بين الموصى لهم وبين غيرهم ممن وقع الجور عليهم، بتعديل الأَنصباء التي في الوصية، لصالح من جار عليهم الموصى فلا إثم على هذا المصلح، في مخالفة الوصية، لأَنها جائرة، ولا ينطبق عليه الإنذار الإلهى، في قوله تعالى: {فمَنْ بَدَّلَهُ}، لأنه تبديل للمصلحة، لا تبديل للهوى. وقيل: المراد أنه فعل الإصلاح بينهم في حياة الموصى. بأن أَمر الموصى بالعدول عن جوره في وصيته، وتحقيق العدل بينهم. وعلى كلٍّ، فالإصلاح بينهم فرض كفاية، يأثم الجميع بتركه، فإذا قام به أحد المسلمين، سقط الإثم عن الباقين. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: هذا تذييل، قصد به الوعد بثواب من أصلح على إصلاحه، وذكر المغفرة مع أن الإصلاح طاعة، والمغفرة إنما تليق بمن عصى، لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة. ولذا حسن ذكرها. يعني: أنه - تعالى - غفور للآثام، فلأن يكون رحيمًا بمن أطاعه أولى! وقيل: المعنى: إن الله غفور للمصلح ما يفرط منه في الإصلاح، كأن يكذب للمصلحة، أو غفور لجور الموصى بعد ما أصلح الوصى، بين من أوصى لهم وبين غيرهم. وقيل: غير ذلك.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} المفردات: {الصِّيَامُ}: الإمساك عن الشيء. ويقول البيضاوي: إنه الإمساك عما تشتهيه النفس. {يُطِيقُونَهُ}: يحتملونه بمشقة كبيرة. وسيأتي بيان آراء الفقهاء في ذلك. التفسير 183 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ... } الآية. تناولت الآية السابقة بعض الأحكام، ولا يزال حديث الأحكام موصولًا، فقد ذكرت هذه الآية وما تلاها: كثيرًا من أحكام الصيام. وقررت هذه الآية أن الصيام فرض على المؤمنين، كما كان مفروضًا في الديانات السابقة، وإن اختلف الصيام في كل أُمة في الكيفية أو المُدة. قال صاحب الكشاف، في تفسير قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}: على الأنبياء والأُمم، من لدن آدم إلى عهدكم. وقال علي - رضى الله عنه -: "إن الصوم عبادة قديمة، أخلى الله أُمةً من افتراضها عليهم".

وإنما فرضه الله على كل أُمة، لما له من فوائد جسمية وروحية. والحكمة في تشبيه فرضه علينا بفرضه على من كان قبلنا، هي تخفيف مشقته على الصائمين، فإنه إذا كان شريعة عامة في جميع الديانات، كان ذلك أدى إلى الصبر عليه، وعدم التقصير فيه. ولأهميته جُعِل الركن الرابع من أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح المجمع عليه: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضان، والحجِّ". رواه ابن عمر عن ِّالرسول - صلى الله عليه وسلم -. والصوم لغة: الإمساك، ومنه الصوم عن الكلام، كقول مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (¬1). وشرعًا: الإمساك عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع تبييت النية. وللصيام آثار حسنة كثيرة. فهو يربي الوازع النفساني، وينمي الإرادة، ويبعث على الخير، ويقمع الشر، ويُعلم الصبر، ويحقق المساواة بين الفقير والغني في الجوع، ويذكر الغني أخاه الفقير، فيعطف عليه، ويعينه .. إلى غير ذلك من الفضائل. وله فوائد صحية عديدة، أجمع عليها الأطباءُ. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: لعلكم بالصوم تتقون المعاصي، فإنه يذكر الصائم بخشية ربه، ولذا حببه الرسول إلى الشباب الذين لا يجدون مئونة الزواج. فقد جاء في الصحيحين: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ". (¬2) ¬

_ (¬1) مريم: 26. (¬2) أي دفع للشهوة وقمع لها.

وقد بينت السنة فضائله. ومن ذلك: ما رواه الشيخان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه". وما رواه مسلم في حديث قدسي: "كل عمل ابن آدم له، يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به". 184 - {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ... } الآية. أي كتبه أيامًا قليلة تُعد. والمراد بالأيام المعدودات: شهر رمضان، الذي سيصرح به في الآية التالية، وهذا هو رأي ابن عباس، وأكثر المحققين وأحد قولي الشافعي، فيكون الله قد أخبرنا - أولًا - بأنه كتب علينا الصيام، ثم بين عدته بيانًا يُقصد به التخفيف، بقوله: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ثم بينه بيانًا تامًا بقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ} ... الخ. والتعبير عن الشهر: بأنه أيام معدودات، لتقليل مدته، والتيسير على الصائمين وكأنه - تعالى - يقول: فرضناه شهرً تُعَدُّ أيامه: ولم نفرضه أكثر من ذلك، رحمة بكم، وتيسيرًا عليكم. وقيل: المراد بالأيام المعدودات: ثلاثة أيام من كل شهر قمري في وسطه، وهي أيام الليالي البيض: الثالث عشر والتاليان له، ونسخ صيامها بشهر رمضان، ونسب هذا الرأي إلى ابن عباس وجماعة. والراجح الأول. ويكن تحقيق دليل كلٍّ في المطولات. {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِ يضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: أي فمن مرض منكم أو سافر فله أن يفطر مدة المرض أو السفر، ثم يقضي أيامًا بعدة أيام فطره. وتقدير المرض والسفر، فيه خلاف بين الفقهاء. فقد ذهب بعضهم: إلى أن أي مرض أو سفر، يبيح الفطر.

وذهب الجمهور: إلى أن المرض المبيح للفطر، هو الذي يشق احتمال الصيام معه، ولا يحتمل عادة. ومثل المرض الشديد: الخوف من استمراره، أو زيادته أو توقع حدوثه إن صام، بحكم عادة أو مشورة طبيب عادل. وهذا هو الراجح. وقيل: غير ذلك. وأما السفر، فحدده بعضهم بثمانية وأربعين ميلًا، بينما نزل به البعض الآخر إلى ثلاثة أميال. وقيل: غير ذلك. ويشترطون فيه ألا يكون سفر معصية. وعلى المسلم أن يحتاط في تقدير المرض، فالصوم أمانة بين العبد وربه، كما عليه أن يحتاط في تقدير مشقة السفر، وبخاصة في هذا العصر الذي توافرت فيه سبل الراحة بالمواصلات السريعة. وحسبه قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فينبغي له أن يصوم كلما أمكن الصوم، وإن انطبقت عليه الرخصة. وإذا أفطر المترخص بالسفر أو المرض، فلا ينبغي أن يعيب عليه من صام، ومع وجود الرخصة له. فقد روى الشيخان عن أنس - رضي الله عنه -: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِب الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِر، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِم". {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. يقول كثير من المفسرين: إن الصيام في أول الإسلام كان بالخيار للقادر عليه، لأنهم لم يكونوا معتادين الصيام قبل الإسلام، فكان فرضه مع الإلزام فيه مشقة عليهم، فرخص لهم الفطر مع الفدية، وقَدْرُها طعام مسكين في اليوم، عن كل يوم. وقدَّرَها أهل العراق: بنصف صاع من بُرٍّ (أي قمح) أو صاع من غيره، وقدَّرَها أهل الحجاز: بِمُدٍّ (¬1) لكل يوم. ويُستدل من قال: إن الصيام أول الإسلام كان اختياريًا، وأن الآية نزلت لتخيير من قدر عليه بين الصيام وبين الفدية المذكورة، بما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن ¬

_ (¬1) المُد بضم الميم: مكيال خاص وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق، وقدره بعض الباحثين بنصف قدح مصري.

سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} كان مَنْ شاءَ مِنَّا صَامَ، ومن شاءَ أَفطرَ وَيَفْتَدِي - فُعِلَ ذَلِكَ - حتى نزلت الآيةُ التي بعدها فَنَسَختْهَا: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. ومن العلماء من لم يقل بالنسخ، ويفسر {يُطِيقُونَهُ} بمعنى: يصومونه جهدهم وطاقتهم، وهذا مبني على أن الوسع هو القدرة على الشيء مع السهولة، والطاقة هي القدرة عليه مع المشقة، فيصير المعنى: وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة - إن أفطروا - فدية إلخ. ويدخل فيهم: الشيخ الضعيف والحامل والمرضع ونحوهم. ويقول بعض أصحاب هذا الرأي: إن الهمزة في أشق للسلب، فمعنى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على هذا الرأي: وعلى الذين تسلب طاقتهم بالصيام فدية ... إلخ، وذلك كما في: قسط بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، وترب بمعنى افتقر، وأترب بمعنى استغنى. ونحو ذلك. {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرً افَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}. أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية، أو زاد على من يلزمه إطعامه، بأن أطعم مسكينين فصاعدًا، أو جمع بين الإطعام والصيام، فهو خير له. {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}: الخطاب بذلك لمن أُبيح لهم الفطر، على أي وجه مما سبق، أي: وأن تصوموا خير لكم من الفطر، وإن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضيلة. روى الشيخان عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من عبد يصوم يومًا، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا". وإنما يُفضل الصوم الفطر، إذا لم يتعرض به الصائم إلى الخطر، فإن كان يفضي صومه إليه، فالفطر واجب بالإجماع، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). ومذهب الظاهرية: وجوب الإفطار لعذر السفر والمرض مطلقًا، وأن من صام في سفر، أو مرضٍ، لا يصح صومه هو رأي مرجوح، لأنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في بعض الحالات، تشريعًا لأُمته. ¬

_ (¬1) البقرة: 190.

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} {الْفُرْقَانِ}: الفارق بين الحق والباطل. {شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}: علم به بأي وجه من وجوه العلم. {الْيُسْرَ}: السهولة. {الْعُسْرَ}: المشقة. التفسير 185 - {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... } الآية. هذه الآية بينت أن الأيام المعدودات في الآية السابقة هي شهر رمضان، وذكرت أن الله تعالى شرف هذا الشهر بإنزال القرآن الكريم فيه، وكان ذلك في ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬1) أي بدأنا إنزاله فيها. وعن ابن عباس وابن جبير والحسن، أنه أُنزل فيها إلى سماء الدنيا جملة، ثم أُنزل منجمًا في ثلاثة وعشرين عامًا حسب الوقائع. ¬

_ (¬1) سورة القدر: 1.

{هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي: أنزل الله القرآن الكريم في شهر رمضان، هداية للناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى مصالح المعاش والمعاد، وآيات واضحات من جملة الكتب الهادية إلى الحق، الفارقة بينه وبين الباطل. {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}: أي فمن حضر منكم في الشهر، ولم يكن مسافرًا فليصم فيه، أو من علم هلال الشهر بأَيِّ وسيلة من وسائل العلم به فليصمه. روى الشيخان عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكمِلوا عدة شعبان ثلاثين". كانت رؤية العين هي الوسيلة الوحيدة للعلم به في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - وصحابته. وبعض الفقهاء العصريين يرى: أن رؤْية العين غير دقيقة، وأن علم الفلك قد تقدم، وأصبح بالإمكان تحديد الأوقات بالثانية والدقيقة عن طريقه، وأصبح اعتمادنا في تحديد أوقات الصلوات عليه، ويرى ارتكانًا على هذا: اعتبار أول رمضان على أساس حسابه الدقيق. وقال بهذا الرأي - عند الغيم - من القدامى مطرف بن عبد الله، وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة، وهو من كبار المحدثين، فقد قال: "يُعَوَّل على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل، واعتبار حسابها في صوم رمضان". وقد قرر مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية: الاعتماد على الرؤية في حال الصحو، والاعتماد على المراصد الفلكية في حال الغيم، إذ الرؤية فيها رؤية. ومع هذا فلا يزال المسلمون يعتمدون على الرؤية بالعين المجردة، ومن لم ير الهلال في دولته اعتمد على رؤيته في دول مجاورة. {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: بعد أن عظَّمت الآية شأن الصوم، أعادت إباحة الترخيص في الإفطار، توكيدًا لأمره، وذلك عند من يقول: إن الصوم كان واجبًا من غير تخيير، منذ أول التكليف به، وأما عنا من يقول: إنه كان على التخيير، ثم نسخ التخيير بالإلزام في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}:

فإن إعادة الترخيص بالفطر للمريض والمسافر، لإفادة إباحة الفطر لهما عند الإلزام، كما كان التخيير، حتى لا يظن زوال هذا الترخيص، بالإلزام بالصيام. والأيام الأُخَرُ، تتم في غير رمضان والعيدين، ويكون صيامها بعدد أيام الفطر. واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعًا ومتفرقًا، وأنه ليس على الفور، خلافًا لداود، كما استدل بها على أن من أفطر رمضان كله، قضى بعدد أيامه، فلا يجزئه صيام شهر عدده تسعة وعشرون يومًا، مكان رمضان الذي كان ثلاثين يومًا، بل يزيد عليه يومًا. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}: تخفيفًا عنكم بهذا الترخيص. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (¬1). {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}: لغاية رأفته، وسعة رحمته فلا يُكلفكم ما لا تطيقون فإنه: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (¬2). {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي شرع لكم ما ذكر من الأحكام في هذه الآية، لتكملوا عدة شهر رمضان أداءً أو قضاءً، فلا تنقصوا من عدته يومًا أو أكثر، فإن صيامه كله مفروض عليكم، ولتعظموا الله بالحمد والثناء على ما هداكم إليه، من صيام هذا الشهر المبارك، والترخيص بالفطر عند العذر، وطريقة قضاء الصيام عند زوال العذر، ولعلكم تشكرون الله على نعمة الصيام المشتمل على فوائد خلقية واجتماعية وصحية عديدة، وعلى نعمة الترخيص بالفطر للعذر، وقضاء ما أفطرتموه عند زواله. ¬

_ (¬1) النساء: 28. (¬2) البقرة: 286

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} التفسير 186 - {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ... } الآية. ورد في سبب نزول هذه الآية: أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِ يبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. والآية متصلة بعبادة رمضان، إذ هو شهر صيام وقيام، حافل بالعبادة والدعاء، ولهذا وردت آية الدعاء بين آيات الصيام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الصائم لا تُرَدُّ دعوته" رواه الترمذي. ومعنى {فَإِنِّي قَرِيبٌ}: فقل لهم: إني، والمراد بالقرب: الإحاطة والعلم، لا القرب المكاني. وقد وعد الله - تعالى - في الآية أنه يجيب دعاء من دعاه ويحققه. وقيد الله إجابته بقوله: {إِذَا دَعَانِ} للإشارة إلى أنه - تعالى - يجيبه إذا اتجه إليه وحده بالدعاء. ولا تقتضي الآية أنه يجيب الدعاء دائمًا. فهي وعد بالإجابة في الجملة، إِذ الإِجابة

تابعة لمشيئة الله - تعالى - طبقًا لحكمته، قال تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (¬1). وقد يُبدّل الله للعبد خيرًا مما طلبه، أو يدخر له دعاءَه في الآخرة، فيحط عنه من سيئاته ما شاء، أو يوليه فضلًا منه ورحمة. ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يدعو بدعوة، ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله - تبارك وتعالى - إحدى ثلاث: إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر، قال: الله أكثر". رواه مالك في الموطأ، كما رواه غيره. والدعاء: ترجمان العبودية والخضوع والاستسلام من العبد لربه، وإيمانه بأن الأُمور كلها بِيَدَيْ مولاه - سبحانه -. ولذا صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاءُ مخ العبادة". وللدعاء آداب هامة، ذكرها الإمام الغزالي في الجزء الأول من الإحياء. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي}: أي فليطلبوا إجابتي بالدعاءن لأن السين والتاء للطلب، أو فليجيبوني إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أني أُجيبهم إذا دعوني لحاجاتهم. واستجاب وأجاب بمعنى واحد، غير أن الاستجابة أقوى. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي}: أي وليدوموا على الإيمان بي. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}: أي ليهتدوا إلى مصالح دنياهم وأُخراهم. وقد عقبت أحكام الصيام المذكورة بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... } الآية، للإيذان بأنه تعالى خبير بأفعالهم، سميع لأقوالهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيدًا لتلك الأحكام وحثًّا عليها. ¬

_ (¬1) الأنعام: 41.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} المفردات: {الرَّفَثُ}: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، قاله الزجاج. وفي الكشاف: هو الإفصاح بما ينبغي أن يكنى عنه بين الرجل والمرأة، ورفث في كلامه: أفحش. والمراد من الرفث في الآية: المباشرة الزوجية. {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الاختيان: الخيانة البليغة. التفسير 187 - {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... } الآية. سبب نزول هذه الآية كما رواه البخاري: "لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}. وعن ابن عباس، قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن أُناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام

في شهر رمضان بعد العشاء، منهم: عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى -: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}. وعن ابن عباس - أيضًا - قال: إن الناس كانوا - قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيه - يأكلون ويشربون، ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهم، لم يطعم ولم يشرب ولا يأْتي أهله، حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم، وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: وماذا صنعت؟ قال: إني سَوَّلَت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت، وأنا أُريد الصوم، فزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما كنت خليقًا أن تفعل"، فنزل الكتاب: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ذكره ابن كثير. ومن ذلك يُفهم: أن الأكل والشرب والجماع، كانت محرمة عليهم من العشاء، أَو من بعد النوم إلى الفجر، فخالفوا - وهم بشر - قبل أن يُشَدد الإسلام النكير على المخالفين في ذلك، ويستدلون للتحريم السابق، بقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}. وقد دلت هذه الآية: علىلا جعل الصيام من الفجر إلى المغرب، بنص الآية. وهذا يدل على أن الصيام قبل ذلك لم يكن بهذه الصورة. ويشهد لذلك أيضًا قوله: {كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}. وبعضهم فسَّر الآية بأنَّ بعض الصحابة خالف ما اعتقد أنه واجب الأداءِ، وهو بدءُ الصيام من العشاء. أما جُملة {أُحِلَّ لَكُمْ} فلا تدل على أنه كان حرامًا، وإنما لتقرير إباحته، مثل قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬1). والمراد من الرفث إلى النساءِ: جماعهن. ¬

_ (¬1) المائدة: 96.

والمعنى: أُحل لكم أيها المؤمنون، جماع زوجاتكم ليلة الصيام دون حرج. {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}: هذه الجملة في قوة التعليل للإباحة، وهي مجاز عن أن كليهما يمنع الآخر عما لا يحل، فكما يمنع اللباس الحر والبرد، فكذلك كل من الزوجين يمنع الآخر، ويستره عن الفاحشة، بما أحله الله له من المباشرة. وقا ابن عباس معناه: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}: بغشيان نسائكم وإنقاص حَظَّ أنفسكم من الثواب وتعريضها للعقاب بفعل ما تعتقدونه محرمًا عليكم. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}: أي قبل توبتكم {وَعَفَا عَنْكُمْ}: أي محا أثره عنكم، فلم يَعُدْ فعله خطيئة لكم. {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}: بهذا أزال الله عن المؤمنين الحرج، فأباح لهم أن يباشروا نسائهم ليلة الصيام، مع مراعاة أن الهدف ليس إرضاءَ الشهوات فحسب، بل إعفاء الزوجين، وحفظ النوع الإنساني، فينبغي أن ينوي ذلك بالمباشرة كما سنَّها الله. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. أحلت هذه الآية للصائمين: أن يباشروا زوجاتهم، وأن يأكلوا ويشربوا عن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والخيط الأبيض: كناية عن الشعاع الضوئي الممتد بعرض الأُفق، فإذا بدأ ظهوره، تميز من فوقه الليل أسود اللون، وهو الذي كنَّتْ عنه الآية بالخيط الأسود، فإذا اجتمعا على هذا النحو، كان الفجر. فالفجر: عبارة عن مجموع الخيطين الأبيض والأسود. ولذا بينهما الله مجتمعين بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ولكون الفجر مجموع الخيطين، قال الشاعر: وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يبْدُو قبلَ أَبيَضِهِ. . . . . أي: سواده يظهر فوق بياضه.

فمتى جاء الفجر على هذا النحو، وجب الإمساك عن هذه المباحات. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}: حين يبدأ الإمساك عن المفطرات، فعلى الصائم أن يتم صومه إلى الليل. وله في الليل ما أحل الله له، إلا أن يكون معتكفًا في مسجد لطاعة الله، فمحظور عليه ليلًا مباشرة النساء - مراعاة لحرمة المسجد - لا الطعام والشراب، فإنهما مباحان. والمباشرة المنهي عنها - حينئذ -: هي الجماع، أما نحو اللمس والقبلة، فإن كان بغير شهوة فمباحان، ولكن يكرهان. وإن كانا بشهوة وتلذذ، فسد الاعتكاف. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}: {تِلْكَ} إشارة إلى ما تقدم من أحكام، وسماها حدودًا، لأَنها حجزت بين الحق والباطل، والنهي في {فَلَا تَقْرَبُوهَا} آكد من لا تعتدوها، لأنه يشير إلى البعد عنها، حتى لا ينزلق المؤمن في غفلة منه، فيتجاوز الحد، فمن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه. ولم ينهنا الله - تعالى - عن مقاربة حدوده، إلا في هذه الآية وآية الزنى، وآية مال اليتيم، فإن غريزة الجنس، وغريزة حب المال، تعصفان بالإنسان، إلا من التمس أن يعصمه الله. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: وعلى هذا النحو الدقيق: وضح الله الأحكام للناس حتى لا يلتبس عليهم الحق بالباطل، وبهذا تصح عبادتهم، وتسمو نفوسهم ويتمسكوا بتقوى الله. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬1). وهكذا نرى آيات الصيام مختومة بالتقوى، مثلما انتهت بها آيات الأحكام السابقة. لأَنها الهدف الأسمى للمؤمنين. ¬

_ (¬1) النور: 52.

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} المفردات: {تُدْلُوا بِهَا}: تلقوا بها. {الْإثْم}: الذنب. التفسير الربط: الصوم يفضي إلى القناعة والعدالة الاجتماعية، والمال موطن الظلم والطمع والجور. فلذا حذرنا الله من فتنته بهذا النهي الحكيم. 188 - {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ... } الآية. فقد تناولت الآية في سياق ما أوردت الآيات السابقة من أَحكام - حكمًا جديدًا، يتعلق بحرمة الأموال. فإنها تنهي عن أكل أموال الآخرين، عن طريق غير مشروع. والمراد من الأكل ما يعم الأخذ والاستيلاء وغيرهما. وعبر به لأنه أهم أغراض المال. والمعنى: ولا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، وتلقوا بالخصومة فيها إلى الحكام: فإن في ذلك خراب البيوت. وقيل معنى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}: ولا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة. {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي لا تأخذوا أموالكم بينكم بغير وجه حق، وتلقوا بالخصومة فيها إلى الحكام، لتبرروا أكل بعض أموال الناس، بسبب يوجب الإثم والذنب، كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، والرشوة، وأنتم تعلمون أنكم مبطلون، وقد استدل بقوله:

{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}: فمن لا يعلم أنه يأكلها بالباطل، لظنه أنه حق له وحكم له الحاكم بأخذها، فهي له حلال. ولكن على المسلم أن يتحرى في كسبه البُعْد عن الشبهات، فإن الجهل بالجرائم لا يُبرر ارتكابها. وعبارة (وأنتم تعلمون) لإظهار بشاعة تعمد ارتكاب الآثام. وسبب نزول هذه الآية، على ما رواه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير مرسلًا: أن عبد الله بن أشوع الحضرمي، وامرأ القيس بن عابس، اختصما في أرض، ولم تكن بينة، فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يحلف امرؤ القيس، فهمّ به، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬1) فارتدع عن اليمين، وسلم الأرض، فنزلت. واستدل بالآية: على أن حكم القاضي لأحد بما ليس له، لا يجعله حلالًا في الواقع. وجاء في ذلك حديث رواه البخاري ومسلم، عن أُم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلىَّ، ولعل بعضكم أن يكون أَلحنَ بِحُجَّتِهِ من بعض، فأَقضِيَ له على نحو ما أَسمعُ منه، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حَقِّ أخيه، فلا يأخُذَنَّه، فإنما أقطعُ له قِطْعَةً من النار". {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} المفردات: {الْأَهِلَّةِ}: جمع هلال، وهو القمر أول الشهر العربي. {مَوَاقِيتُ}: معالم زمنية بوقت بها الناس شئونهم، ويعرفون بها وقت حجهم. ¬

_ (¬1) البقرة: 174

سبب النزول

التفسير 189 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية. سبب النزول: روى [[ابن]] عساكر، عن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم، ويستوي، ويستدير، ثم لا يزال ينقص، ويدق حتى يعود كما بدا، لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت الآية. وإنما قال: {عَنِ الْأَهِلَّةِ} بالجمع، مع أنهم سألوا عن الهلال، وهو واحد، لأن الحالة التي سألوا عنها - لما كنت تتكرر كل شهر، وتتعدد: نزل تعدد الأحوال منزلة تعدد الذات، فصح الجمع وكان أولى من الإفراد. والسؤال يحتمل أن يكون عن الحكمة في تطور شكل الهلال، وأن يكون عن السبب والعلة، والآية ليست نصًا في المراد، وقد أمر الله الرسول أن يجيب السائلين بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}. وهذا الجواب مطابق للسؤال، إن كانوا يسألون عن الحكمة، وهو من الأسلوب الحكيم، إن كانوا يسألون عن العلة. والأسلوب الحكيم: أن يجاب السائل بغير ما يطلب، وتوجيهًا له إلى ما يفيده، وما هو جدير بالسؤال عنه. والمعنى: يسألونك يا محمد عن الأهلة، قل: هي معالم للناس يُؤَقِّتون بها أُمورهم الدنيوية مثل مواعيد الزراعة، والتجارة، وسداد الدين، والقدوم والسفر، ونحو ذلك، مما يصلح فيه التوقيت القمري، ومعالم للعبادات المؤَقتة، كالصيام والحج ولو كان القمر على حالة واحدة، لم يتيسر هذا التوقيت.

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}. سبب النزول: أخرج ابن جرير، والبخاري عن البراء، قال: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية، أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ... } الآية. وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب، من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء، كما صرح به الزهري، في رواية ابن جرير - رضيَ الله عنه - ويعدون فعلهم ذلك برًّا، فبين لهم: أنه ليس ببر. وكما كان يحدث هذا في البيت الحرام، كان يحدث منهم في بيوتهم، فقد روى أن الأنصار كانوا إذا قدموا من سفر، لم يدخل الرجل من قبل بابه. ويقول الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية، إذا أراد أحدهم سفرًا، وخرج من بيته يريد السفر الذي خرج له، ثم بدا له - بعد خروجه - أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوَّره من قِبَلِ ظهره، إلى غير ذلك، مما يشابهه. وقد نزلت هذه الآية لتعليمهم أدب الدخول. ووجه الاتصال بين دخولهم البيوت من ظهورها، وبين سؤالهم عن الأهلة: التعريض بأن السؤال عن الأهلة، يعتبر كإتيان البيوت من ظهورها، وأن اللائق بحالهم ألا يسألوا عن هذا الأمر، الذي لم يستعدوا لإدراكه من الناحية العلمية. والآية: تعتبر مثلا فيمن يباشر الأُمور بطرق غير مألوفة. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}: أي ولكن البرَّ بِرُّ من اتقى المحارم والشهوات. {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}: أي باشروا أُموركم من وجوهها، التي يجب أن تُباشر عليها. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: في جميع أُموركم. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: لكي تفوزوا بما تطلبون من الهدى والبر، فإن من اتقى الله، تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه، وانكشف له من الأسرار حسب تقواه.

سبب النزول

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} المفردات: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: سبيل الله: دينه. {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: وجدتموهم. {الْفِتْنَةُ}: الابتلاء. التفسير 190 - {وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. الربط: هذه الآية وما تلاها من الآيات، تشتمل على أحكام القتال في الحج في البلد والشهر الحرام، فكانت مناسبة للآية السابقة التي تحدثت عن مواقيت الحج. ولقد اعتزم المسلمون أن يحجوا في العام التالي لصلح الحديبية، وفقًا لما حدث الاتفاق عليه فيه، فأَنزل الله - تعالى - هذه الآية، يعلمهم فيها ما يصنعون، إذا قاتلهم المشركون في البلد الحرام والشهر الحرام. سبب النزول: أخرج أبو صالح عن ابن عباس - رضى الله عنهما -: أن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع عَامَهُ القابل،

ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام، فأنزل الله الآية ... والمعنى: وقاتلوا في سبيل الله - أي لغرض إعلاء كلمة الله - الذين يبدءُونكم بالقتال دفاعًا عن أنفسكم وحريتكم في أداء العبادة، ولا تعتدوا بقتل النساء والصبيان، والشيوخ المسنين، ومن ألقى إليكم السَّلام، وكف يده عنكم، فإن قتلتموهم فقد اعتديتم وتجاوزتم ما يحل لكم، إن الله لا يحب المعتدين، بل يبغضهم ويعاقبهم. 191 - {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِ جُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ... } الآية. المعنى: واقتلوهم - غير معتدين حيث وجدتموهم: في حل أو حرم، وأخرجوهم من ديارهم، كما سبق أن فعلوا ذلك بكم، حيث أخرجوكم من دياركم، ولم يكتفوا بهذا، بل تناولوا من بقى منكم من المسلمين في مكة: بالتعذيب والتنكيل، ليرتدوا عن الإسلام. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}: أي بقاؤهم على الشرك، أشد قبحًا من قتلهم في الحرم والشهر الحرام، فلا تبالوا بقتالهم فيه. أو المعنى: والمحنة التي يفتن بها الإنسان: بالإخراج من الوطن والحرمان من المال، والتعرض لألوان القسوة والعذاب - للتأثير في العقيدة - أشد من القتل لاتصال تعذيبها، وتألم النفس بها. ومن هنا قيل: لَقَتْلٌ بحَدِّ السيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعًا ... عَلَى النَّفْسِ مِن قَتْلٍ بِحَدِّ فِرَاقٍ ومن فتن بمثل هذه الفتنة، فمن حقه المشروع: أن يقابل العدوان بالعدوان. {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}: على المسلمين أن يؤدوا مناسك دينهم ولا يقاتلونهم عند المسجد الحرام، فإذا اعتدى عليهم المشركون، واستباحوا البلد الحرام والشهر الحرام، فللمسلمين أن يصدوا هذا العدوان: بالدفاع عن حياتهم وعن عقيدتهم. والشر بالشر والباديء أَظلم. وليتحمل المشركون وِزْرَ ما انتهكوه من حرمات.

{فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}: فإن ابتدأ المشركون بقتال المسلمين، فعلى المسلمين أن يقتلوهم، وعبر بقوله: {فَاقتُلُوهُمْ} بدل: فقاتلوهم، للإيذان بأن على المسلمين ألا يمكنوهم من المغالبة، وأن يسارعوا بقتلهم. 192 - {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: أي فإن كفوا عن قتالكم، أو عن الشرك، فكفوا عن قتالهم، غافرين لهم اعتداءَهم، راحمين لهم: تخلقًا بصفتي الله - تعالى - وهما: المغفرة والرحمة، لعل الله يهديهم إلى التوحيد، أو يخرج من أصلابهم من يعبده ويجاهد في سبيله. أو أن المعنى: فإن الله يغفر لهم ما قدموا، ويرحمهم إن آمنوا، وذلك فتح لباب التوبة، وإنهاء العداوة والعدوان. 193 - {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ... } (¬1) الآية. والفتنة هنا: الشرك، أي قاتلوهم حتى لا يكون شرك، ليتحقق للمسلمين حرية العقيدة، وحرية أَدائهم لشعائرهم الدينية. فمشركو العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}. فإذا حاول المشركون أن يفتنوا المسلمين في عقيدتهم، أو أن يصدوهم عن أداء شعائرهم فعلى المسلمين أن يقاتلوهم، حتى يقضوا على هذه الفتنة، بالقضاء عليهم، ليكون الدين في الجزيرة العربية خالصًا لله، حتى يأمن الإسلام في معقله من معوقات انطلاقه، وليكون الدين خالصًا لله، ولتحقيق هذا: لابد من القضاء على الفتنة القضاء التام. {فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}: أي فإن انتهوا عن الشرك، وقتال المؤمنين، ودخلوا في الإسلام صادقين مخلصين، فلا تقاتلوهم، لأن الإسلام يحرم قتال غير الظالمين لأنفسهم بالكفر والإشراك بالله. والمراد بالعدوان: مقاتلة المشركين. وسماه عدوانًا لأن مقاتلة المشركين للمؤمنين تعد عدوانًا منهم. فهو على حد قوله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. ¬

_ (¬1) عطف على: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} والأمر الأول: لوجوب أصل القتال، ردًا للاعتداء، وبيان آدابه. والثاني لبيان غايته.

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} المفردات: {الْحُرُمَاتُ} جمع حرمة وهي: ما ينبغي صيانته: من عرض أو مال أو كرامة. {قِصَاص} القصاص: العقاب على جريمة بمثلها. التفسير 194 - {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ... } الآية. إذا استباح المشركون الشهر الحرام الذي لا يحل فيه القتال وقاتلوكم فيه، فقابلوا عدوانهم بمثله، واستبيحوا الحرب فيه كما استباحوا، فلا تبالوا بقتالهم لكم فيه، صدًا لعدوانهم، فإن الحرمات فيها القصاص. وفي هذا المعنى: يقول الله - تعالى -: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (¬1). وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن جابر - رضيَ الله عنهما - قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغْزُو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى". والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}: هذه الجملة هي النتيجة المتفرعة على قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُ مَاتُ قِصَاصٌ}. ¬

_ (¬1) الشورى: 41.

يعني: أنه إذا كانت الحرمات، أي الأُمور التي تجب المحافظة عليها، يجري فيها القصاص، بحكم الشرائع والعقول، فإن لكم الحق في أن تدفعوا اعتداء من اعتدى عليكم بمثل عدوانه. والأمر في قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}. للإباحة. إذ العفو الذي لا يضر المسلمين جائز. وقد استدل الشافعي - رضي الله عنه - بهذه الآية، على وجوب القصاص بمثل ما ارتكبه الجاني من ذبح وحرق وتجويع وإغراق، حتى لو ألقاه العدو في ماءٍ عذب، ألقاه في ماءٍ عذب مثله، ولم يلقه في ماءٍ مالح. واستدل به أيضًا على أن من غصب شيئًا وأتلفه يلزم برد مثله: ثم إن المثل قد يكون بالصورة في ذوات الأمثال، وقد يكون بالقيمة فيما لا مثل له. وبما أن الآية وردت في القتال، وشرعت المماثلة في الاعتداءِ، فلهذا يكون مشروعًا: أن الأعداء استعملوا الغارات الجوية، أو حرب الجراثيم، أو المتفجرات النووية، على المدن المفتوحة، فالمقابلة بالمثل واجبة شرعًا. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). وسمّى صَدّ العدوان عدوانًا، من باب المشاكلة، مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (¬2). وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬3). {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}: انتهت الآية بطلب التقوى من المؤمنين، كما هو الشأن في آيات الأحكام، وطلب التقوى منهم في القتال أشد وآكد منه في سواه، لتعلقه بالأرواح وَبِمَنْ وراءَ المقاتلين من أهليهم وأموالهم. فهي من آداب القتال الهامة في الإسلام. والله مع المتقين بالنصر والتأييد ودفع كيد الأعداء. ¬

_ (¬1) سورة النحل: 33. (¬2) التوبة: 67. (¬3) الشورى: 40.

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} التفسير 195 - {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. الاستعداد للقتال، يقتضي أموالًا طائلة لتسليح الجنود برًّا وبحرًا وجوًا، ولتنظيم الإمدادات، وشق طرق للمواصلات، وإعداد المستشفيات، وما إلى ذلك، فيجب تدبيرها وإحكامها، بحيث تستطيع مواجهة حدة المباغتة. ولهذا أوجب الإسلام على كل مسلم أَن ينفق في سبيل الله، وأوجب للحاكم شرعًا: أن يفرض من الضرائب ما يكفي، ويبقى رصيدًا احتياطيًا للطواريء. والتأهب - في زمننا - واجب على الأُمم الإسلامية، لأن ظروفها تستوجب ذلك. وكما أن الإنفاق في سبيل الله يكون في الجهاد، فإنه يكنو أيضًا في وجوه البر، والخير. {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}: تحذير للمسلمين من التقصير في الإعداد للقاء الأعداء، حتى لا يصيبهم بغتة مكروه يهلكون فيه. والمعنى: ولا تتسببوا - بتهاونكم وغفلتكم - في إلقاء أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك. ومن ذلك ترك الغزو، والتقصير في إعداد الجنود والقادة عسكريًا، وإهمال التحصين والتهاون في الإنفاق، وغير ذلك مما لابد منه. وقد نزلت هذه الآية فيمن فكروا في الإقامة بين أهليهم بعد انتشار الإسلام.

روى أبو داود والترمذي وغيرهما، عن أسلم بن أبي عمرا، قال: "حَمَلَ رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومَعَنا أبو أَيوب الأنصاري، فقال: ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو ايوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صَحِبْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيًّا، فَقُلْنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره، حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقم فيهم فنزل فينا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. فكانت التهلكة - الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد. وخصوص السبب لا يمنع من أن تكنو الآية قانونًا عامًا، في القتال وغيره. {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الإحسان في كل صوره واجب على المسلم في القتل وفي الذبح، وفي إغاثة الملهوف، وفي مباشرة القتال، وغير ذلك. ولكلٍّ من الحالات إحسان يناسبها، فإذا قتل فليحسن القتل، بألا يعذب فيه، وإذا ذبح فكذلك، بأن يحد الشفرة، ويريح الذبيحة، ويسرع في الذبح. وفي إغاثة الملهوف: لا يتركه يتضرع ويتذلل، بل يغيثه سريعًا في الخفاء، بحيث لا تدري شماله ما تفعل يمينه. والإحسان في الحرب: يتناول معاملة الأسرى، وعدم المثلة وتجنب قتل النساء والشيوخ والأطفال. والإحسان في العبادة: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك. بهذا وأمثاله - مما يدخل في نطاق التقوى، يوصي الله المسلمين. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) النحل: 128.

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} المفردات: {أُحْصِرْتُمْ}: حُوصرتم، وحُبستم. {اسْتَيْسَرَ}: سهل. {الْهَدْي}: ما أُهدى من الأنعام، ليذبح بمكة في موسم الحج، ويوزع على الفقراء تقربًا إلى الله. التفسير 196 - {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَ ةَ لِلَّهِ ... } الآية. الربط: أشارت آية البِرِّ إلى ثلاثة من أركان الإسلام: الإيمان بالله ورسله وملائكته واليوم الآخرن، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأشارت آيات الصيام إلى الركن الرابع، وأشارت هذه الآية وما تلاها إلى الركن الخامس والأخير، من أركان الإسلام وهو الحج.

والحج فريضة، مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلًا. والعمرة عند الفقهاء بين مفروضة في العمر مرة، ومسنونة. يفرضها الشافعية والحنابلة، ويسنها المالكية، أما الحنفية فيقول بعضهم: بفرضيتها، وبعضهم: بسنيتها. وقد أمر الله في الآية بإتمام الحج والعمرة خالصين لله، بحيث لا يكون في أدائهما شرك ظاهر أو خفي، وهو الرياءُ. وإتمام الحج والعمرة: الإتيان بهما كاملين تامين، وذلك يتحقق بأداءِ أركانهما وهي الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير. ويزيد الحج: الوقوف بعرفة ورمي الجمار مع رعاية شروطهما، وسائر أفعالهما، كما هو مقرر في علم الفقه. والحج أوانه معروف. أما العمرة فتصح في أي وقت من السنة. وللحاج أن يقرن بينهما في إحرام واحد وعمل واحد، أو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد فراغه من أعمالها يتحلل ويلبس ثيابه، إلى قبيل الوقوف بعرفة، فيحرم بالحج، ويسمى الأول قارنًا، والثاني متمتعًا، لتمتعه فيما بين العمرة والحج، بما هو محرم على المحرم. {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}: إذا عوقكم معوِّق عن دخول مكة، أو عن إتمام المناسك، فعليكم تقديم ما تيسر لكم من الهدي: إبلًا أو بقرًا أو غنمًا أو معزًا، إن أردتم التحلل من الإحرام: يذبحه المحصر عند الأكثرين حيث أُحصر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح بالحديبية لما أُحصِرَ فيها، وهي من الحلّ. وعند أبي حنيفة رحمه الله: يبعث به إلى الحرم، ويتفق مع من بعثه على يوم يُذبح فيه، فإذا جاء اليوم وظن أنه ذُبح، تحلل، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والإحصار هنا. قاصر على منع العدو للحاج والمعتمر من المضيّ في نُسُكِهِمَا، وذلك عند مالك والشافعي لقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولنزوله في الحديبية، وغير ذلك من الأدلة. أما عند أبي حنيفة: فهو شامل لكل مانع من النسك سواء كان المانع عدوًا أو مرضًا أو غيرهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل" ..

فارجع إلى المطولات إن شئت الموازنة بين المذاهب، والمزيد من الأحكام. فالمحصر بالعدو أو غيره عند أبي حنيفة، يتحلل بذبح الهدْي، وعند مالك والشافعي: لا يتحلل بذبح الهدي سوى الممنوع بالعدو فهو المقصود من الآية. وأما الممنوع بنحو المرض: فلا يحله إلا الطواف، وإن أقام سنين. ومن لا هدي معه وقت الإحصار ولا قدرة له عليه، أَحلّ، ثم أَهدى عندما يقدر عليه. نقله القرطبي عن الشافعي. ويرى بعض الفقهاء: أن المحصر بعدو لا يجب عليه القضاءُ - وله ثواب الفريضة، ويكتفي بالهدي - ما لم تكن عليه الفريضة، بان لم يسبق له حج ولا عمرة، وإلا وجب عليه أداؤهما عندما يستطيع. {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. المعنى: لا يحل للمحرم المحصور أن يحلق رأسه، ويتحلل من إحرامه بالحلق أو التقصير، حتى يصل الهدي إلى محل ذبحه، وهو المكان الذي يجب أن ينحر فيه، وهو حصر العدو عن مالك والشافعي، حيث أُحصر الحاج أو المعتمر. وعند أبي حنيفة: محل الذبح في الإحصار مطلقًا: هو الحرم. {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِ يضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّ اسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}. يجب على المحرم - إن كان صحيحًا - ألا يخلع ملابس الإحرام، ولا يحلق شعره، أو يقصه، طول مدة الإحرام، فإن كان مريضًا بمرض يحوجه إلى الحلق، فله أن يلبس ملابسه العادية، ويؤدي الفدية عن ذلك، ومن كان برأسه أذى من: حشرات، أو جرح يستدعي علاجه أن يحلق، حلق وفدى. والفدية هنا: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكلٍّ نصف صاع من الطعام، أو ذبح شاة وتوزيعها على الفقراء.

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَ ةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}: أي فإذا أمنتم إحصار العدو، أو كنتم في حالة أمن وسعة، فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فعليه ما تيسر من الهدى. وتفصيل ذلك: أن من نوى العمرة في أشهر الحج، ثم تحلل منها بعد الفراغ، يُسمى متمتعًا، لأنه تمتع بالانتفاع بما هو محرم على المحرم - بعد ما تحلل من عمرته - كاللبس، والاغتسال، ومباشرة النساءِ، حتى صُبْحِ عرفة، فيغتسل ويلبس ملابس الإحرام، ويحرم للحج، ويؤدي مناسكه. وفي مقابل هذا التمتع: يجب عليه أن يذبح هديًا، جبرًا لهذا التمتع عند قوم. أو شكرًا لله عليه عند آخرين حيث تقرَّبَ إلى الله بالعمرة، قبل أن يتقرب إليه بالحج، ويذبح هذا الهدى، إذا أحرم بالحج، ولا يأكل منه عند الشافعي، لأن التمتع عنده فيه تقصير، والهدى لجبر هذا التقصير، فلا يؤكل منه، وأجاز أبو حنيفة الأكل منه، لأنه دم شُكْرَانٍ على نعمة التمتع، فهو كالأضحية فله الأكل. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِ ي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أي فمن لم يجد الذبيحة أو لم يجد ثمنها، فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في موسم الحج بعد الإحرام به، وقبل التحلل منه، والأفضل أن يكون في سابع ذي الحجة وثامنة وتاسعة، ولا يجوز صوم يوم النحر. وعند أبي حنيفة: أن معنى {في الْحَجّ}: في أشهر الحج فيصوم بين إحرامي الحج والعمرة، وعليه أيضًا أن يصوم سبعة أيام، إذا عاد إلى بلده - تلك عشرة كاملة. وذكر جملتها بعد تفصيلها، لكيلا يتطرق الشك إلى عددها، بأن يُقال: إن الواو: بمعنى أو التي للتخيير كما في قولك: جالس الحسن وابن سيرين. أي أحدهما، وقول الشاعر: كما الناس مجروم عليه وجارم

وهذا حكم خاص بمن لم يكن أهلوهم حاضري المسجد الحرام، وهم غير أهل مكة، أما أهل مكة وسكانها، فهم حاضروا المسجد الحرام، فليس عليهم فدية، لأنهم لا متعة لهم ولا قران، لإمكان أداء العمرة طول العام. والشافعي على أن لهم تمتعًا وقرانًا، ومن تمتع منهم وقرن، كان عليه دم جُبْرَان كغيره فلا يأكل منه، كما تقدم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: ختم الآية بعد ذكر أحكامها بطلب التقوى، جريًا على النسق المطرد في آيات الأحكام السابقة. وإذا كان ثواب الحج مغفرة من الله ورضوانًا، فإن العبث فيه، أو الإخلال بشعائره، مما يُستدعى عقاب الله - تعالى - فهو شديد العقاب لمن خالف مناسكه، فتجاوز حدود الله، وترك ما أُمر به وارتكب ما نهى عَنه. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} المفردات: {رفَثَ} الرفثُ: الجماع أو الكلام الفاحش. {فُسُوقَ} الفسوق: المعصية مطلقًا. أو هو مخالفة أوامر الحج وارتكاب نواهيه، كلبس المخيط والصيد وقص الشعر. {جدَالَ} الجدال: المناقشة الحادة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.

التفسير 197 - {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ... } الآية. لما ذكر الحج والعمرة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} شرع يبين اختلافهما في الوقت، فذكر أن أشهر الحج أشهر معروفات، لا يشكلن على الناس، فلا يصح الحج في غيرها، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، ولا يصح عند الشافعية الإحرام به قبل أَشهره، ليتمه في أَشهره، ويصح مع الكراهة عند الحنفية. أما العمرة: فجميع العام وقت للإحرام بها وفعلها. {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فمن ألزم نفسه في تلك الأشهر بالحج، فعليه أن يبتعد عن الرفث، وهو جماع النساء أو ذكره لهن، أو الكلام الفاحش مطلقًا، كما عليه أن يبتعد عن كل إثم يشوب عبادته، وأن يجتنب المجادلة لأَنها توغر صدور الرفقاء، والخدم وغيرهم، فإن الوقت وقت مودة وصفاءٍ وتسامح. روى البخاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمه". ثم حث على فعل الخير عقب النهى عن فعل الشر، وحض على استعمال الكلام الحسن مكان القبيح، والتزام البِرّ والتقوى مكان الفسوق، والتمسك بالوفاق والأخلاق الحميدة مكان الجدال، فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} وما دام يعلمه فإنه سيجازيكم عليه، فلا تدخروا وسعًا في عمله. {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}. ذكر البخاري وأبو داود - رضي الله عنهما -: أن أهل اليمن كانوا يحجون، دون أن يتزودوا من الطعام، ويقولون: نحن المتوكلون، ويسألون الناس الطعام، فنزلت هذه الآية. ولكنها غير مقصورة عليهم، إذ العبرة - كما يقرر الفقهاءُ - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالمعنى: وتزودوا أيها المسافرون بالطعام، واتقوا طلبه من غيركم والإثقال عليهم بذلك، فإن خير الزاد اتقاء الإثقال على الناس وإبرامهم، أو تزودوا للمعاد بإتقاءِ المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤُها، وخافوا عقابي، يا أصحاب العقول الراجحة.

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} المفردات: {جُنَاحٌ} الجناح: الإثم. {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}: المراد به الرزق من تجارة أَو غيرها. {أَفَضْتُمْ}: اندفعتم. {الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} مزدلفة - بين عرفات ومنى. التفسير 198 - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّ بِّكُمْ ... } الآية. قال ابن عباس - فيما روى البخاري -: كان ذو المجاز وعكاظ، متجرًا الناس في الجاهلية، فلما جاءَ الإسلام، كره المسلمون الجمع بين الحج والتجارة، حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}. والمراد من كونهما متجر الناس في الجاهلية: أنهم كانوا يقيمون بهما أسواقًا للتجارة، في مواسم الحج، ليتعيشوا منها. ومن المباديءِ الإسلامية المعروفة: أن الإسلام يعني بالأجسام، إلى جانب عنايته بالأرواح، ويعني بالتنمية المالية، إلى جانب عنايته بالشعائر الدينية، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 10.

فالسعي في سبيل الرزق عبادة، على ألا يشغل الحاج عن أداءِ المناسك على وجهها، لأَن أَداءَها هو الهدف الأَول والغاية العظمى. والمعنى: لا إثم عليكم في طلب الرزق أَثناءَ الحج. {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}. الإفاضة من عرفات: هي الخروج منها بكثرة. ومعنى العبارة: فإذا اندفعتم من عرفات جموعًا عديدة فاذكروا الله. مأخوذ من أَفضتَ الماءَ: إذا صَبَبْتهُ بكثرة. وعرفات: جبل قرب مكة يقف عليه الحجاج، معظمين ربهم وملبين، والوقوف به أهم أركان الحج، لأن الناس يذكرون فيه الحشر يوم القيامة حيث يكون الناس يومئذ عراة كما خلقهم الله، متساويين لا يعلو بعضهم على بعض بجاه أَو سلطان. وهو موطن التعارف بين المسلمين، من مشارق الأرض ومغاربها. ومكان التفاوض فيما فيه مصلحتهم. والمقصود من الآية: أن الحجاج إذا خرجوا من عرفات - بعد الوقوف بها - متجهين إلى المزدلفة، فعليهم أن يذكروا الله عند المشعر الحرام، بالتلبية والتهليل والدعاء، وذلك في صبيحة مبيتهم بالمزدلفة. فقد جاء في حديث مسلم عند جابر، قال: "فلم يزل واقفًا - يعني الرسول - بعرفة حتى إذا غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا، حتى غاب القرص - أَردف أُسامة خلفه، ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شَنَقَ - أي ضم وضيَّق - للقصواء الزمام". إلى أن قال: "حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاءَ، بأَذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواءَ، حتى أَتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا، حتى أَسفر جدًّا، فدفع قبل أَن تطلع الشمس". {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّاِلِّينَ}: أي اذكروه ذكرًا حسنًا كما هداكم هداية حسنة فقد أخرجكم من الظلمات إلى النور وكنتم قبله في غمار الضلال. أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه.

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} التفسير 199 - {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ... } الآية. روى البخارى عن أُم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - قالت: "كانت قريش ومن دان دينها، يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الْحُمْس. وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاءَ الإسلام، أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأْتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها. فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. وكانت قريش تفعل هذا ترفعًا منهم عن بقية الناس، فأَنزل فيهم هذه الآية، فوقفوا بعرفات مع الحجاج، ثم أَفاضوا منها معهم، ثم إلى المزدلفة، ثم منى. وحرف العطف: (ثُمَّ) للترتيب مع التراخي في الزمن. وهي هنا للإيذان بتفاوت ما بين الإفاضتين، كما في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلا إلى مستحق. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فكيف موقع ثم؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم: لتوضيح التفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وَبُعْدِ ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا} لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأَن إحداهما صواب والثانية خطأٌ. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: الخطاب عام للحجاج، ليفزعوا إلى الله مستغفرين، فيشملهم برحمته ومغفرته، بعد أن أدوا مناسكهم. وقد يكون الخطاب لقريش، ليكَفِّرُوا بالاستغفار ما كان منهم من الاستعلاء، وكلاهما صالح. فالكل محتاج إلى مغفرة الله ورحمته.

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} المفردات: {مَنَاسِكَكُمْ}: عباداتكم. جمع نُسك: والمراد بها أفعال الحج. {خَلَاق}: حظ ونصيب. {وَقِنَا}: اجعل لنا وقاية. التفسير 200 - {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ... } الآية. كان العرب في الجاهلية يلهجون بعد الحج بذكر آبائهم وأَجدادهم وأيامهم، ويبالغون مبالغة تنتهي بالمنافرات. وهي الاحتكام إلى بعض الزعماء، ليحكم بتفضيل أحد المتنافرين على الآخر. وكثيرًا ما أَدت هذه المواقف إلى تخليدها في أَشعارهم رمزًا للعداءِ، وكثيرًا ما أَشعلت الحرب بينهم. فلما جاءَ الإسلام أَدَّبهم وهذَّبهم، وصرفهم عن تلك الحماقات، وأَمرهم بالإكثار من ذكر الله، بأَن يكون مثل ذكرهم آباءَهُم الذين كانوا يبالغون في محامدهم، أَو أَشد ذكرًا، فهو وحده المستحق لجميع المحامد.

{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَ بَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَ ةِ مِنْ خَلَاقٍ}. هذا تفضيل للذاكرين بتقسيمهم إلى مقل لا يطلب بذكر الله إلا الدنيا، ومكثر يطلب به خيري الدارين، والمراد به الحث على الانتظام في سلك الفريق الثاني. أَي وبعض الناس يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فإذا دَعَوُا الله قدموا دنياهم، وطلبوا كثرة الأَموال والأولاد والثمرات، والجاه العريض، وهؤلاء لا نصيب لهم في نعيم الآخرة، لأنهم لم يطلبوها، ولم يعلموا لها. 201 - {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَ ةِ حَسَنَةً ... } الآية. أي وهناك البعض الآخر: يجمعون في دعائهم بين الدنيا والآخرة، ويعملون لكلتيهما، ويطلبون الوقاية من عذاب النار. فالحسنة في الدنيا: المال، والجاه، والولد، والسلطان. والحسنة في الآخرة: الجنة ثوابًا لما قدموا من طاعة، ورضوان من الله أكبر. وذهب بعض المفسرين إلى تفسير الحسنة في الدنيا: بالزوجة الصالحة وفي الآخرة بالحور العين، وعذاب النار بالمرأة السوء. ومنهم من فسرهما: بالعلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة، وكلها أَمثلة للحسنات المطلوبة. وقد ذكرت الآيتان من يطلب الدنيا وحدها، ومن يطلبها مع الآخرة، ولم تذكر من يطلب الآخرة وحدها، لأن الآخرة لا تُنال إلا عن طريق الدينا، فهي مزرعة الآخرة. وهي نعم المطية إلى الجنة، والضرب في مناكبها - طلبًا للرزق - عبادة، لأَن به حياة النفس وقوتها، والإعانة على الطاعة. والمؤمن القوي أَحب إلى الله من المؤْمن الضعيف. ولهذا يرى بعض العلماء أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر {وَلكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَملُوا} (¬1). {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: أي احفظنا من عذابها بالتوفيق للطاعة والتنفير من المعصية، ومغفرتها إذا وقعت. ¬

_ (¬1) الأنعام: 132.

وهذه الآية من جوامع الدعاء. فقد ورد في الصحيحين: عن أَنس - رضي الله عنه -: "كان أكثر دعوة يدعو بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَ ةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. ومن المأثورات: الدعاءُ بها في ختام الصلوات. 202 - {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. ذهب بعض المفسرين، إلى رجوع الإشارة في {أُولئِكَ} إلى المؤمنين الذين ينشدون الدنيا والآخرة. ويمكن أن ترجع إلى الطائفة الأُخرى أيضًا، وهي التي تنشد الدنيا وحدها، فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وهذا هو الأولى، على حد قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (1). والمعنى: أُولئك الذين يطلبون - في دعائهم وعملهم - الدنيا وحدها، أو الدنيا والآخرة لهم نصيب من جنس ما كسبوه، أو من أجله، والله سريع الحساب، فيحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم، في مقدار لمحة. أو يوشك أن يقيم القيامة، ويحاسب الناس، فعليهم أن يبادروا إلى الطاعات، وأن يكثروا من الحسنات، وأن يجتنبوا الموبقات.

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} التفسير 203 - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ... } الآية. بعد أن أمر الله الحجيج - فيما سبق - أن يذكروه عند المشعر الحرام، بعد الإفاضة من عرفات، أمرهم - والمسلمين جميعًا - في هذه الآية الكريمة: بأن يُواصلوا ذكره - تعالى - في أيام معدودات، وهي: أيام التشريق الثلاثة (¬1)، التي تلي يوم النحر: عيد الأضحى. وليس يوم النحر منها. وتسمى: أيام منى أيضًا. فيدخل غي رالحاج - مع الحاج - في هذا الأمر: {وَاذْكُرُوا}. والمقصود بالذكر في الآية الكريمة: هو التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، في: أدبار الصلوات، وعند رمي الجمرات، وعلى القرابين والهدايا. {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}: فمن تعجل الرحيل عن منى قبل غروب اليوم الثاني من أيام التشريق - بعد رمي الجمار، عند الشافعية، وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عند الحنفية ولم يمكث إلى ما بعد رمي الجمار في اليوم الثالث - فلا يأثم بهذا العجيل، ولا حرج عليه في ذلك ومن تأخر بمنى حتى رمي الجمار في اليوم الثالث، فلا إثم عليه في تأخره، ¬

_ (¬1) التشريق: تقديد اللحم. ومنه سمى أيام منى: أيام التشريق، لأنهم كانوا يقددون لحوم الأضاحي فيها.

بل هو أفضل، لأنه التزم السنة. وذكر نفي الإثم في التأخير - مع أنه السنة، مع ذكر نفي الإثم في التعجيل - للمجانسة مثل قوله تعالى: {وَمَكرُوا وَمَكَرَ اللهُ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (¬2). والمقصود: التخيير بين التعجيل والتأخير. ولا يقدح هذا التأخير في أفضلية الثاني على الأول. وفي الكشاف: أن أهل الجاهلية كانوا فريقين: فريقًا جعل المتعجل آثمًا، وفريقًا جعل المتأخر آثمًا، فجاء القرآن ينفي الماثم عنهما جميعًا. {لِمَن اتَّقَى}: أي ذلك التخيير لمن اتقى الله في حجه. وتخصيص التخيير به: إما لأَنه هو الحاج - على الحقيقة - والمنتفع بحجه دون سواه، على حد قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ} (¬3). وإما لأن المتقى دائمًا حذِرٌ متحرزٌ عن كل ما يريبه. فإذا كان التخيير بين التعجيل والتأخير لا إثم فيه لمن اتقى - فغيره أولى. وبذلك تقرر: أن التخيير بينهما، وإباحة كل منهما لكل حاج - لا ينبغي أن يكون موضع تحرج أو تشكك. ثم ختمت الأية بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا الله}: كما ختمت آيات الأحكام السابقة بالتذكير بتقوى الله تعالى. والمعنى: واتقوا الله في جميع أعمال الحج، بأَدائها كما أمر الله، واجتناب ما حرم الله. وفي البخاري: "من حجَّ ولم يرفُثْ ولم يفسُقْ، رجع كيوم ولدته أُمُّه". فعلى الحاج أن يذكر هذا، فيحرص على مواصلة تقوى الله وعبادته، وليظل طاهرًا نقيًا كيوم ولدته أُمه. {وَاعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: أي: واعلموا أَنكم إليه - وحده - تجمعون للحساب والجزاءِ يوم القيامة، على ما عملتهم: خيرًا كان أم شرًا، فاحذروه ولا تخالفوا أمره. ¬

_ (¬1) آل عمران: من الآية 54 (¬2) الشورى: من الآية 40 (¬3) الروم: من الآية 38.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} المفردات: {أَلَدُّ الْخِصَامِ}: أشد العداء. {توَلَّّى}: انصرف، أو وَلى الحكم. {الْحَرْثَ}: الزرع أَو النساء. {النَّسْل}: الذرية. {العزَّة}: الكبرياء. {الْمِهاد}: الفراش الموطأُ. التفسير 204 - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}: قسَّم الله سبحانه وتعالى - فيما سبق - إلى فريقين: فريق يطلب الدنيا - وحدها - ولا يعمل لآخرته حسابًا، وفريق يرجو فضل الله في الدنيا وثوابه في الآخرة. وقد وضح لنا - سبحانه - وصف كل فريق منهما، في هذه الآية وما تلاها. ففي هذه الآية، بيَّن الله أَنَّ: الفريق الأول: تعمق في النفاق، وأتقن صناعة التمويه والغش، وبراعة التعبير، واتخذ من هذا وسيلة له في الحياة الدنيا. فهو يعجب الناس بحديثه، ويبهرهم بقوله.

وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بالفعل: {يُعْجِبُ} أَي يعجبك - في الحياة الدنيا - قوله بفصاحته وحلاوته، فتنخدع بذلك وتعتقد فيه الصدق. أما في الآخرة فلا يستطيع التمويه والتضليل، إذ يظهر كذبه ويفضحه باطل دعواه. ويجوز تعلقه بلفظ: {قَوْلُهُ} أي يعجبك ما يقوله في أُمور الدنيا وأَسباب المعاش، سواءٌ أَكانت عائدة إليه أَم لا. فالمراد من {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: ما به الحياة والتعيش. أو يعجبك قوله في الدنيا وأنها فانية، وأنه ينبغي اتخاذها سفينة للآخرة: بادخار الإيمان والعمل الصالح فيها. وهذا المنافق، لا يكتفي بأَن يخدع الناس ويستولى على إعجاب المسلمين ببراعة حديثه، بل يفعل هذا. {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}: بأَن يدعي أن قلبه موافق لما نطق به لسانه، ويشهد الله على ذلك، مع أن ما في قلبه - الذي يشهد الله عليه - ليس إلا الحقد والعداوةُ للإسلام والمسلمين. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}: أي وهو شديد في خصومته للرسول وأصحابه، كاذب فيما يتظاهر به من حب وولاءٍ. وهو - بذلك النفاق - أَبغض الناس إلى الله. ففي حديث مسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن أبغضَ الرجالِ إلى الله الأَلَد الخصم". وذكر السدي: أن هذه الآية - وما تلاها - نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، حينما جاءَ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وأظهر له الإسلام، وقال: إنما جئت أُريد الإسلام. والله يعلم إني لصادق فيما أقول. وكان حلو الحديث. فأعجب النبي منه ذلك، فلما خرج من عنده، مرَّ بزرع لبعض المسلمين وحُمُرٍ، فأَحرق الزرع وعقر الحمر.

وذكر ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين: تكلموا في شهداء الصحابة فعابوهم. والآية عامة في المنافقين، وإن وردت بسبب خاص. فيدخل في المراد من هذه الآية: أُولئك الذين يتظاهرون بالدعوة إلى الإصلاح، ويستعملون أساليبهم الزائفة، وعباراتهم البراقة في خداع الناس لكسب ثقتهم، والاطمئنان إليهم، حتى يستطيعوا - عن طريق هذه الثقة - محاربة الدين، وهم يلبسون ثوب الإصلاح. 205 - {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ... } الآية. أي: وإذا أدبر ورجع بعد ما بث نفاقه، ونفث سمه، وظن أنه نجح، واكتسب ثقة الناس - سعى في الأرض لينشر فيها الفساد جهد طاقته، ويهلك الزرع والذرية: بالإتلاف والقتل، كما فعل الأخنس الذميم، إذ كان يُظهر الإيمان والحب للرسول بكلام معسول، ثم يتولى، فيحرق الزرع، ويتلف الأموال. ويرى بعض المفسرين: أن المقصود بقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى}: إذا ولِيَ الحكم، وأخذ بيده مقاليد السلطان. ويصبح معنى الآية الكرمية على هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ببيانه الساحر، وادعائه الإصلاح بين المسلمين وحرصه على مصلحة الأُمة - توصلًا إلى الحكم، فإذا ولي هذا الحكم، وتمكن سلطانه بسببه - فعل بالناس ما يفعله ولاة السوء، وظهر من أمره ما كان يخفيه، فسعى في الأرض - بحيلته وتدبيره - ليفسد فيها بما يشاءُ من أَلوان الفساد: فيهلك الحرث، ويسفك الدماء، ويهدد الحريات، وينشر الشرور والمنازعات بين الأُمة، ويضرب بعضها ببعض: باصطناع الأعوان، وتقريب الأنصار، ليبسط بهم سلطانه على الناس، ويحتفظ بزعامته عليهم. على حد قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) محمد: 22.

{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}: أي: لا يرضى الله سبحانه وتعالى بالفساد ولا يقره، بل يعاقب عليه في الدنيا والآخرة، فاحذروه وخافوه. 206 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ... } الآية. المعنى: وإذا نصحه الناصحون: باتقاء عقاب الله تعالى في أفعاله وأقواله، وفي عدم استغلال ذكائه وعلمه وبلاغته في التضليل والإفساد - أخذته الأنفة والكبرياءُ بما يوجب الإثم والتوغل فيه، فلجَّ في الضلال والعناد، لأَنه يرى نفسه فوق نصيحة الناصحين، ونقد الناقدين. فهو في زمرة من قال الله - تعالى - فيهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ} (¬1). والباءُ في قوله: {بِالْإِثْمِ} على هذا، للسببية، يعني أن إثمه الماضي، كان سببا لأَخذ العزة له، واستيلاء الكبرياء عليه، مع وضوح الحق، وتنبيه الناصحين له، ولهذا قال سبحانه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}: أي مهما أحرز من جاه وأموال، فكل هذا إلى زوال. ويكفيه ما سيحل به من عذاب، في نار جهنم يوم القيامة، فإن جهنم ستكون له فراشًا ممهدًا. وإذا كان المهاد هو الفراش الممهد، ليستريح عليه الراقد، فاستعماله في جهنم للتهكم بمن يحُلُّ بها. وجملة {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}: جواب قسم مقدر على معنى، والله لبئس المهاد: {جَهَنَّم}. قال بعض المفسرين: هذه الآية: تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله: أن يجيب العبد من يقول له: اتق الله: فيقول له - معرضًا عن النصيحة - عليك نفسك. ¬

_ (¬1) البقرة: 11، 12.

وذكر القرطبي: أن يهوديًا طال وقوفه على باب الرشيد لحاجة له، فلما رآه خارجًا، قال له: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل عن دابته، وخر ساجدًا لله، ثم أمر بقضاءِ حاجته. فسأله خاصته في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ... } الآية. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} المفردات: {يَشْرِي نَفْسَهُ}: شرى، من الأضداد، كذا في الصحاح، والمراد من شرائها هنا: بيعها، ومنه قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمنٍ بَخْسٍ} (¬1) أَي باعوه. التفسير 207 - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِ ي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ... } الآية. هذه هي الطائفة الثانية، المقابلة للطائفة التي حكيت أحوالها المذمومة، فيما مضى من الآيات. أي ومن الناس مؤمنون صادقون، طهَّرت نفوسهم تقوى الله، وبرئوا من النفاق، وزكت أعمالهم، فلم يستجيبوا للأَهواء والشهوات، وإنما باعوا أنفسهم - وهي أعز ما يملكه الإنسان - طلبًا لمرضاة الله، إذ بذلوها في ميادين الجهاد، وحملوها أقسى أنواع المشقات في طاعة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، موقنين أن كل ما في الحياة - من جاه ومال وسلطان - متاع قليل، وأن الآخرة خير لمن اتقى. وقد صور التعبير القرآني مَنْ بَذَلَ نفسه لله، بصورة من باع نفسه له - تعالى - بثمن هو مرضاته وثوابه، فقبل الله هذا البيع، وأعطاه الثواب الدائم، مع أن ما بذله لله من نفسه وماله، ملك له تعالى. ولذا ختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل الصالح، على شراءِ ملكه بملكه. وأكثر الروايات أن هذه الآية نزلت في صهيب الرومي رضى الله عنه. ¬

_ (¬1) يوسف: 20

فقد أخرج جماعة: أن صهيبًا أقبل مهاجرًا نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه نفر من المشركين، فنزل عن راحلته نثر ما في كنانته، وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وأيم الله، لا تصلون إليَّ حتى أَرمِيَ بما في كنانتي ثم أضربَ بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ، ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا دلنا على بيتك ومَالِكَ بمكة، ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه، ففعل. فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أبا يحيى، ربحَ البيع" وتلا عليه الآية. وعلى هذا يكون الشراءُ - على ظاهره - بمعنى الاشتراء. وفي رواية سعيد بن المسيب رضي الله عنه: أن الذي قال له ذلك، هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه. وأيًّا كان، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولذا أحسن من قال: إن الآية نزلت في كل من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وعرّض نفسه للهلاك. وهذه الآية من قبيل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} المفردات: {السِّلْمِ}: المسالمة، أو الإسلام. وهو: الإنقياد والتسليم. {كَافَّةً}: جميعًا. {زَلَلْتُمْ} الزلل: الانحراف والسقوط. ¬

_ (¬1) التوبة: 111

التفسير 208 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... } الآية. يرى ابن عباس أن الخطاب هنا لمن أسلم من اليهود. فقد ذكر: أن الآية، نزلت في عبد الله بن سلام - من أحبار اليهود - وأصحابه الذين آمنوا معه. وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام: فعظموا يوم السبت، وكرهوا لحمان الإبل ألبانها بعد ما أسلموا. فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن التوراة كتاب الله، فدعنا لنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعلى هذا، فالسلم بمعنى الإسلام، أي: ادخلوا مع المسلمين في شريعتهم، مجتمعين معهم، ولا تفترقوا عنهم، بالأخذ بما نسخه القرآن من التوراة. وقيل: الخطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بكتابهم، وكفروا بالقرآن. والمعنى عليه: يا أيها الذين زعموا الإيمان بشريعتهم: ادخلوا في الإسلام جميعًا، فليس إيمانكم - بما في كتابكم وحده - بنافعكم. وقيل: الخطاب للمنافقين. والسلم - على هذا - بمعنى الاستسلام والطعاة القلبية. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ولم تُؤمن قلوبهم: ادخلوا في الاستسلام، والطاعة القلبية كافة، واتركوا النفاق. وقيل: الخطاب للمؤمنين المخلصين. والمعنى عليه: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم، ادخلوا في شُعَب الإسلام كلها، ولا تُخِلُّوا بشيء من أحكامه. وقال الزجاج في هذا الوجه: المقصود: أمر المؤمنين بالثبات على الإسلام. ويجوز أن يكون المعنى على هذا: يا أيها المؤمنون المخلصون، ادخلوا في المسالمة جميعًا، ولا تشتغلوا فيما بينكم بالجدل والخلاف المذهبي، حتى لا تتفرقوا إلى شيع وأحزاب: يقتل بعضكم بعضًا.

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: أي لا تنقادُوا لوساوس الشيطان، ولا تستجيبوا له إن دعاكم لعصيان مولاكم. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}: فلا يُؤْمنُ جانبه، فاحذروه فإنه يُحَذِّرُ من البر خوف الفقر، ويأمر بالفحشاءِ والمنكر. قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (¬1) البقرة. ولما كان من أساليب الشيطان وحيله، أن يدعوكم إلى المنكر والفحشاء، بالتدريج من شر إلى ما هو شر منه، فلهذا قال: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فقد جعل أتباعه من وساوسه - مرة بعد أُخرى - بمنزلة اتباعه في خطواته، خطوة بعد أُخرى. وعداوة الشيطان للإنسان قديمة، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام. فمن العقل ألا تتخذ عدوك صديقًا. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬2). هذا، وقد ورد النهي عن تتبع خطوات الشيطان - بعد الأمر بالدخول في السلم كافة - ليؤكد الاستمساك بالإسلام استمساكًا قويًا، فإن من يتبع خطواته، لا يدخل في الإسلام دخولًا عميقًا، ولا يستمسك به استمساكًا قويًا، ولا يذوق حلاوته. 209 - {فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي: فإن انصرفتم عن شرائع الإسلام، وانغمستم في الشقاق والخلاف، وتكبرتم عن الإذعان والتسليم لدين الله، من بعد ظهور الحجج الواضحة، الدالة على أنه من عند الله - تعالى - فاعلموا أن الله {عَزِيزٌ}: غالب على أمره، لا يمنعه شيٌ عن عقابكم، {حَكِيمٌ}: لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين. وحسبكم هذا وعيدًا للمارقين. ¬

_ (¬1) البقرة: 268 (¬2) فاطر: 6

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} المفردات: {يَنظُرُونَ}: ينتظرون. {أَن يَاتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ}: الظلل، جمع ظلة. وهي ما يحجب ضوء الشمس من سحاب أو غيره. والمراد من إتيان الله لهم في ظلل: إتيان بأسه وعذابه. ففي الكلام مضاف مقدر. {الْغَمَام}: السحاب مطلقًا، أو الأبيض منه. التفسير 210 - {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... } الآية. الاستفهام هنا، إنكاري. بمعنى النفي. والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الذين ينصرفون عن الدخول في السلم - من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات - إلا أن يأتيهم عذاب الله، في ظلل من السحاب الأبيض: يحسبونه رحمة، وهو عليهم نقمة، فيكونُ أَشدَّ وقعا على نفوسهم!! ونظير هذا قوله تعالى في هلاك قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). ثم قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ}: أَي وهل ينتظرون كذلك، إلا أن تأتيهم ملائكة العذاب، الموكلة بإهلاك الضالين المنحرفين، فإنهم وسائط في إتيان أمر الله عز وجل. ¬

_ (¬1) الأحقاف: 24، 25

وجملة: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} جملة حالية، أي هل ينتظرون إلا أن يأتيهم العذاب والملائكة والحال أنه قد قضي أمر هلاكهم وتدميرهم، فلا يمكن رده؟ وقيل: الجملة معطوفة على {يَأْتِيَهُمُ} داخل في حيز الانتظار، بمعنى: وهل ينتظرون إلا أن يقضي الأمر بهلاكهم؟ وإنما عبر بالماضي {وَقُضِيَ} ليشير إلى جدية الإنذار، فكأنه وقع، لأن وعيد الله لا يتخلف. والآية تهديد ووعيد لمن ينصرفون عن الدخول في الإسلام، ويعطلون مسيرته عن أن تبلغ مداها. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: أي أن مردَّ الأمور - كلها - إليه تعالى وحده. فما شاء فعل .. فمن لا يدخلون في الإسلام، فلا يستعصى إهلاكهم على الله، الذي ينتهي إليه كل شيءٍ. وفي هذا، إنذار بليغ بعد التهديد السابق. وفيه تنبيه للغافلين الضالين، إلى أن مرجعهم في الآخرة، إلى الله وحده. {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)} المفردات: {آيَةٍ بَيِّنَةٍ}: حجة واضحة. {يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ}: يغيرها بالكفر بها، بدل الإيمان بها، والشكر عليها.

{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ}: من بعد ما عرفها. {زُيِّنَ}: حُسِّنَ في أعينهم. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: يرزقهم الله رزقًا واسعًا لا حساب فيه، أو لا يُقْدَرُ على حسابه وضبطه لكثرته. التفسير 211 - {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ... } الآية. أمر الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل اليهود هذا السؤال، تبكيتًا لهم وتأنيبًا، وإقامة للحجة عليهم. وهذا السؤال لا يحتمل إلا جوابًا واحدًا هو: الإقرار بأن الله آتاهم نصوصًا عديدة، في الأحكام والبشارة بمحمد، بينةً واضحة في الدلالة على مقاصدها، ووجوب العمل بها، وحججًا باهرة على يد موسى وسائر أنبيائهم. ولكنهم لم يعملوا بمقتضاها فقتلوا فريقًا من أنبيائهم، وكذبوا فريقًا، وجحدوا الأدلة الواضحة، وغيروا الكتب المنزلة، وجعلوها قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، طلبًا للرياسة، وحبًّا لأغراض الدنيا الفانية. ثم يبين عاقبة ذلك فقال: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: هذا حكم عام، بمؤاخذة من يُغَيِّر آيات الله، التي هي من أَجَلِّ نعمه تعالى على المُغَيّر، بعد معرفته أنها آياته وأنعمه، فيستبدل الكفر بالإيمان، والجحود بالشكر، ويتناول الآيات الواضحة، بالتحريف والتبديل، تبعًا لهواه. فإنه يعاقبه عقابًا شديدًا. {فإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: لكل من ضلوا بعد ما جاءَتهم البينات، وبدلوا نعمة الله كفرًا.

وعبر بقوله: {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} مع أنها مفهومة من السياق - فالتبديل المعاقب عليه لا يكون إلا بعد الإتيان بها ومعرفتها - لإبراز بشاعة جريمة التبديل للنعم، بعد المعرفة اليقينية بصلاحها للمجتمع، ونفعها له. وذلك أبشع ألوان الضلال. ولهذا استحق مرتكبوه أشد أنواع العقاب. 212 - {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... } الآية. هذه الآية، تعليل للآية السابقة، فإن الذي دعاهم إلى تبديل نعمة الله كفرًا، ومقابلتها بالجحود - هو تعلقهم بزنية الحياة الدنيا الكاذبة، ومظاهرها الخادعة، واستجابتهم لشهوات نفوسهم، وحرصهم على حب الرياسة، وجمع الأموال. وفاتهم أن الآخرة خير لمن اتقى، وأن الباقيات الصالحات: خير عند الله ثوابًا، وخير مردّا. والمعنى: جعلت الحياة الدنيا حسنة في قلوب الذين كفروا، فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار، وأعرضوا عن الإيمان بالله واليوم الآخر. وفاعل التزيين - هو الله تعالى، لأنه خلق جمالًا كثيرًا، وزينة حسنة في دنيانا. وما زين الله الدنيا، إلا ليختبر بها عباده، فاغتر بها الجاهلون، فكفروا أو استمروا على كفرهم، وأعرض عن مفاتنها ذوو الألباب، فاسيقنوا وآمنوا، أو ازدادوا إيمانًا على إيمانهم. قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْ ضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (¬1)}. ويجوز أن يكون التزيين من الشيطان، إذ يوسوس لهم الإخلاد إليها، وترك العمل للآخرة. على حد قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الكهف: 7

{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1): ويجوز أن يكون التزيين - فعل قرناءِ السوءِ من شياطين الإنس - لقوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (¬2). وبالجملة: فدواعي الفتن عديدة. نسأل الله السلامة. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}: أي: يجمعون - مع الافتتان بالدنيا - استهزاءهم بالمؤمنين، لإيمانهم بالله، وإقامتهم على طاعته. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أي والذين يخافون الله ويحذرون عقابه، يكونون - يوم القيامة - فوق الذين كفروا منزلة ومكانة عند الله، لأنهم لم تلههم الدنيا - وإن وُضِعَتْ بكل ما فيها من زخرف ومتاع بين أيديهم - عن طاعة الله. ثم يختم الله تعالى الآية بقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: أي والله يعطي من يشاء إعطاءَه بغير تقتير، فيعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب. هذا والآية عامة في جميع الكافرين، ويدخل فيهم اليهود دخولًا أوليًا. ¬

_ (¬1) الحجر: 39 (¬2) فصلت: 25

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} المفردات: {أُمَّةً}: جماعة من الناس، أمرهم ومقصدهم واحد. مأخوذة من: أَمَّه أي قصده. {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}: واعدين المتقين بالجنة، ومخوفين الكافرين من النار. {البَيِّنَاتُ}: الأدلة المقنعة الظاهرة. {بَغْيًا}: ظلمًا وعدونًا. التفسير 213 - {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... } الآية. هذه الآية تحتمل عدة معان، منها: أن الناس كانوا مجتمعين على دين واحد، في عهد آدم عليه السلام، حيث نشأ أولاده على دين أبيهم آدم - وهو قائم على توحيد الله وعبادته. ومنها: أنهم كانوا على فطرة واحدة، فطر الله الناس عليها، وهي فطرة الإيمان بالخالق - سبحانه - فهو أمر فطري: يُحِسُّهُ الإنسان، ويدركه بفطرته، إذا تجردت نفسه عمن يصرفها عن الحق إلى الباطل.

وعلى هذين المفهومين، يكون معنى الآية: كان الناس على العقيدة الحقة: التي فطر الله الناس عليها، فأغواهم الشيطان فكفروا، فبعث الله النبيين، مبشرين من آمن بحسن الثواب، ومنذرين من كفر بشديد العقاب. ومنها: أن الناس كانوا - قبل إرسال الرسل - على دين واحد، هو الكفر، بسبب إغواء الشيطان لهم، وصدهم عن سواء السبيل، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، رحمةً بهم، وإرشادًا لهم، لعلهم يهتدون، إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأُخراهم. وقد جاء في عدد الأنبياء والمرسلين، ما أخرجه أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كم الأنبياء؟ قال: "مائةُ ألف واربعةٌ وعشرون ألفًا". قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثة مائة وثلاثَةَ عَشَرَ: جم غفير". {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}: أي وأنزل معهم الكتب السماوية التي توضح لهم العبادات، وشرائع المعاملات، طبقًا للحق والعدل. فإذا حادوا عن سواء السبيل، عادوا إلى هذه الكتب السماوية: يحتكمون إليها، فتردهم إلى الصواب. ثم بين من اختلفوا في دين الله وبدلوا كتبه، فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}: أي: وما اختلف في الحق، أو في الكتاب المنزل، إلا الذين أُتوه من أرباب العلم والدراسة، بعد ما جاءَتهم الحجج الواضحات على وجوب الأخذ به، وعدم الاختلاف فيه. وكان اختلافهم هذا: بغيًا بينهم، أي ظلمًا أو حسدًا حاصلًا بينهم، ونسوا - أو تناسوا - حظًا مما ذُكِّروا به، وبدّلوا نعمة الله كفرًا. فأصبحوا مصدرًا لإضلال الناس - وهم يعلمون - بدلًا من أن يكونوا لهم هداة مرشدين. وهكذا عكسوا الأَمر، فجعلوا ما أنزله الله مُزيلًا للاختلاف - سببًا لبقائه ورسوخه. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}:

أي: فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم - في كل الأديان - للحق الذي اختلف فيه هؤلاء المختلفون، وأعرضوا عن خلافهم، ولم يعبأوا بهم، وأقاموا على طاعة مولاهم. وقيل: المراد من {الَّذِينَ آمَنُوا} أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: هداهم الله لما اختلف فيه أهل الكتاب من الحق، بإذنه تعالى وتيسيره، فعرفوه. ومن ذلك: هدايتهم إلى تنزيهه - تعالى - عن الصاحبة والولد، وأن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفًا مسلمًا، وما كان يهوديًا ولا نصرانيًا ولا مشركًا، وأن مريم سيدة شريفة، وليست كما وصفها اليهود، وأن عيسى رسول الله، خلافًا لما زعم اليهود من نفي رسالته، ولما زعم النصارى من أنه ابن الله .. إلى غير ذلك. وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬1). وإذا كان المسلمون اليوم، قد تفرقوا كما تفرقت الأُمم السابقة، وانقسموا إلى طوائف ومذاهب: بعضها يخالف الحق، فإن الله يقيض لهذا الدين - دائمًا - من يظهر الحق وينصره، ويزهق الباطل ويخذله، استنادًا إلى كتاب الله - تعالى - المحفوظ بعنايته من التحريف والتبديل. وروى ابن ماجة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفةٌ من أُمتي قوّامةً على أمر الله لا يَضُرُّها مَنْ خالفها". ورى الحاكم عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاتزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق حتى تقومَ الساعة". فالله اللطيف بعباده: يرسل إليهم الرسل، ويُنْزِل عليهم الكتب السماوية، ويمدهم بالعلماء العاملين المرشدين المصلحين، ليردوا الطوائف الضالة إلى الصواب، وليُظْهِرُوا زَيْفَ الباطل، وليقوِّموا ما حرَّفه المضلون، من آيات الله البينات. ولذا قال الله تعالى في ختام الآية: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. ¬

_ (¬1) النمل: 76

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} المفردات: {أَمْ}: تأتي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. ويرى أبو عبيدة: أنها للاستفهام وحده. {حَسِبْتُمْ}: ظننتم. {خَلَوْا}: مضَوا. {الْبَأْسَاءُ}: الفقر، أو الحرب، أو الشدة. {الضَّرَّاءُ}: المرض، أو الضيق، أو الضرر مطلقًا. {زُلْزِلُوا}: الزلزلة: الحركة الشديدة. والمراد هنا: إصابتهم بالاضطراب النفسي، الذي يهزُّ النفس هزًّا عنيفًا ويزعجها. التفسير 214 - {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ... } الآية. الربط: لما بين الله - في الآية السابقة -: هدى الأُمة المحمدية، لما اختلف فيه أهل الكتاب - أتبع ذلك، حث المؤمنين على الصبر، وتحمل الأذى ممن يخالفونهم، كما كان يفعل المؤمنون من قبلهم.

سبب النزول: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق، حين أصاب المسلمين ما أصابهم، وبلغت القلوب الحناجر. وقيل: نزلت في غزوة أحد، لَمَّا قُتِل من المسلمين عددٌ كبير. وقال عطاء: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة، اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله، وأَسَرَّ قوم من الأغنياء النفاق، فأَنزل الله هذه الآية، تطييبًا لنفوس المؤمنين. وكيف كان سبب النزول، فالمقصود من الآية هو: حث المؤمنين على التحمل والصبر، حينما يمتحنون بالشدائد، في سبيل دينهم. فلا يَعْبَأُون بما ينالهم - في أنفسهم وأموالهم - من الأذى، فإن الله عنده خير العوض. والمراد بمثل الذين خلوا من قبلهم: ما نالهم من الشدائد والمحن في سبيل دينهم. وفي ذلك روى البخاري وغيره: عن خَباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّد بردةً في ظل الكعبة - ما لقينا من المشركين فقال: "إنَّ مَنْ كان قبلكم: كان أَحَدُهم يُوضَعُ المنشارُ على مَفْرِقِ رأسه، فيخلُصُ إلى قدميه: لا يصرفهُ ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمِهِ وعظمه: لا يصرفه ذلك عن دينه. ثم قال: "والله، لَيتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضر موتَ: لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه. ولكنكم تستعجلون". وأَداة الجزم {لَمَّا} تدل على نفي الماضي مع ترقب وقوعه في المستقبل، وهذا ليوطِّن المؤمنون أنفسهم، على احتمال ما ينتظرون أن يقاسوه من أهوال. ومعنى الجملة على هذا: بل أَظننتم أنكم - لمجرد إيمانكم - تدخلون الجنة، دون أن تتعرضوا للمشقة والابتلاءِ، كما تعرض المؤمنون الأتقياء من الأُمم السابقة؟

قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {(2)} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). وقد أوضح الله ما نال المؤمنين الصادقين - في الأُمم السابقة - من المحن، حتى يتأسى بها المسلمون، فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟ والجملة هنا، كالجواب عن سؤال مقدر هو: ماذا أصاب الذين كانوا من قبل من شدائد وأهوال؟ فكان الجواب: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ... } أي أصابتهم الشدائد والأهوال، وتعرضوا لفظائع الحروب الظاهرة والخفية، واهتز كيانهم اهتزازًا عنيفًا، حتى كاد اليأس يسيطر علي نفوسهم، وحتى تطلَّع الرسول والمؤمنون معه - من هول ما قاسوه - إلى الله، استعجالًا لنصره. فهم لا يَشُكُّون في تحقيق وعده، ولكنهم يتعجلون حدوثه. والرسول هنا: للجنس، لأن كل رسول جاهد في سبيل الله، هو والمؤمنون به، وتعرضوا للشدائد والأهوال، فلجأُوا إلى الله - تعالى - يطلبون نصره الذي وعده عباده المؤمنين. والتعبير بصيغة المضارع: "يَقُول" بدلًا من الماضي "قال" لأن هذا كان يتكرر من جميع الرسل والذين آمنوا معهم، ولاستحضار هذه الصورة، ليتأسى بها المسلمون. {َلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}: أي: فقيل لهم طمأَنة لنفوسهم، وتطييبًا لقلوبهم، وإسعافًا لهم بمرامهم {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. وإيثار الجملة الاسمية على الجملة الفعلية المناسبة لما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه، وتأكيد مضمون الوعد بإِنَّ لتأكيد تحقق مضمونه. ¬

_ (¬1) العنكبوت: 2،3

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} المفردات: {والْمَسَاكِين}: هم من لا يجدون كفايتهم ولو مع العمل، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬1). {وَابْنِ السَّبِيلِ}: الغريب المنقطع عن وطنه، ولا مال معه. ويمكن إطلاقه على اللاجيء أو المهاجر، ولا مال يكفيه. التفسير 215 - {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... } الآية. بعد أن ذكر الله - فيما سبق - أن الحياة الدنيا ازدانت للكافرين ففتنتهم، وأن الله أرسل الرسل لهداية المستعدين للهداية، وأن على المؤمنين أن يستعدوا للجهاد والبذل والتضحية في سبيل الله، لينالوا ثوابه وجنته، وليظفروا بنصره الموعود - أتبعه بيان وجوه إنفاق المال. سبب النزول: قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما رواه أبو صالح عنه: (كان عمرو بن الجموح شيخًا كبيرًا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا نتصدق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت). وعن ابن جريج قال: "سأل المؤمنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين يضعون أموالهم؟ فنزلت. ¬

_ (¬1) الكهف: 79

ظاهر الآية يفيد: أنهم سألوا عما ينفقونه من الأموال؟ وكانت الإجابة ببيان مصارفها، لأَنها أهم، فإن قيمة النفقة ومنزلتها المستتبعة للثواب، باعتبار هذه المصارف. قال بعض العلماء: هذا من الأُسلوب الحكيم، الذي يقصد به توجيه السائل إلى ما كان ينبغي أن يسأل عنه. ويمكن أن يقال: إنه تعالى أجاب عن سؤَالهم بما يناسبه، وزاد عليه فائدة أخرى، هي بيان المصرف. فإن الإجابة عن سؤالهم: {مَاذَا يُنفِقُونَ} واردة إجمالًا في الآية الكريمة وهي: {مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْر}: فالخير: يتضمن ما كان حلالًا، كثيرًا كان أو قليلًا، إذ لا يسمى ما عداه خيرًا. ومثل هذا مثل رجل يسأل طبيبه: هل يأكل العسل؟ فيجيبه الطبيب قائلًا: كُلْهُ مع الخل. فالزيادة في الجواب - على ما يقتضيه السؤَال - مستحسنة. وتسمى أيضًا: أُسلوب حكيم. على أننا لو نظرنا إلى سبب النزول الأول، لوجدناهم فيه يسألون الرسول أيضًا عن المصرف. ولم يذكر في الآية، للإيجاز في النظم: تعويلًا على الجواب، فتكون الآية جوابًا لأمرين مسئول عنهما. {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}: وقد استفيد من الآية: أن ما ينفق من الخير: يعطي للوالدين، والأقارب الفقراء، {وَالْيَتَامَى}: وهم من فقدوا آبائهم وكانوا فقراءَ. {وَالْمَسَاكِينِ}: وهم من لا كسب لهم، أو لهم كسب لا يفي بحاجتهم. {وَابْنِ السَّبِيلِ}: وهو المنقطع في سفر، ولا يجد ما يكفيه. ولم تتعرض الآية للسائلين لدخولهم في المساكين، كما أنها لم تتعرض للأقارب كذلك. والأكثرون: على أن الآية في صدقة التطوع. وقيل: في الزكاة. واستدل بها من أباح صرفها للوالدين. والأَول أَرجح، لعموم كلمة {خَيْرٍ}، وخصوص الزكاة، وكونها مُقَدَّرة.

{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}: أي وما تنفقوه من نفقات طيبة لا إثم في كسبها، أو تصنعوه من معروف يعلَمْه الله ويُجْزِ عليه الجزاء الأوفى. وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا} ولم يقل: وما تنفقوا من خير، لأن فعل الخير عام: يدخل فيه الإنفاق وغيره: من معاونة القوي للضعيف، وصاحب الجاه لمن لا جاه له، والصحيح للمريض، كما يدخل فيه الإصلاح بين المتخاصمين، والأَمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعيادة المرضى، وهكذا. وجواب الشرط هنا، مؤَكد بإن، لتقرير الوعد بحسن الجزاء المستنبط من جواب الشرط. وَ {عَلِيمٌ}: صيغة مبالغة من العلم، وليس المراد مجرد الإفادة بعلم الله للخير، بل المقصود مع ذلك أنه يحسن الجزاء عليه {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} المفردات: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}: فُرض عليكم قتال الكفار. {كُرْهٌ}: بمعنى مكروه، كخبز بمعنى مخبوز، أي مكروه - طبعًا - لمشقته. ويجوز أن يكون القتال هو نفس الكره، بمعناه المصدري، مبالغة في مشقته على النفوس، مثل قول الخنساءِ: فإنما هي إقبال وإدبار: ¬

_ (¬1) الزلزلة: 7، 8

التفسير 216 - {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } الآية. بين الله قبل هذه الآية، أن الجنة لا يدخلها المؤمن، حتى يقاسي البأَساء والضراءَ في سبيل دينه، كمثل الذين من قبلهم، وذكر لهم مصارف المال، ومواضع النفقات. وجاءَت هذه الآية لتبين لهم وجوب الجهاد، دفاعًا عن الإسلام، وهو المظنة الأُولى للبأساءِ والضراءِ، التي لابد من امتحان المؤْمنين بها. وقد بين الله في هذه الآية الكريمة: أنه فرض على المسلمين الجهاد، وأنه مكروه لهم، وتلك الكراهية أَمْرٌ جِبِلِّيُّ، لما فيه من القتل والأسر، وإتعاب البدن، وتلف المال، وقتل ما عسى أن يكون من الأقارب على الكفر - وهم يحبون أن يهديهم الله إلى الإسلام. وهذا لا ينافي رضاهم بما كلفهم الله به حبًا في مرضاة الله وطمعًا في ثوابه، كالمريض يرضى بشرب الدواء الكريه الطعم، حبًّا في الشفاء. والجهاد أصلًا: فرض كفاية يقوم به المجندون من شباب المسلمين، نائبين عن بقية المسلمين. فإذا دخل العدو بلاد الإسلام غازيًا، فقد انعقد الإجماع على أن الجهاد فرض عين، على جميع المسلمين سواءٌ أكان القتال أم بالحض عليه، أم بتجهيز المقاتلين، أَم تثبيتهم، أَم برعاية أسرهم، أم علاجهم: أم تأليب الرأي العام على المعتدين. ويكون ذلك حسب طاقة المجاهد. قال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ نفسهُ بالغزو، مات على شُعْبَةٍ من النِّفاق" (¬2). ¬

_ (¬1) التوبة:41. (¬2) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يَغْزُ أَو لم يُجَهِّزْ غَازيًا، أَو يُخْلِف غازيًا في أَهله بخير، أصابه بقارعة قبل يوم القيامة". (¬1) {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}: عسى هنا للتحقيق، كنظائرها الواقعة في كلامه تعالى أو: للترجي، باعتبار حال السامع. وموضع الرجاءِ، هو الخير المترتب على الجهاد. فالرجاءُ هنا، يكون في نية المقاتلين، بأَن يترقبوا من ورائه النصر والثواب من الله تعالى. وعسى هنا، تامة، سد ما بعدها، مسد اسمها وخبرها. والمعنى: أَنكم قد تجهلون حقائق الأُمور، فتكرهون شيئًا مما كلفتم به، وتحاولون اجتنابه، ولكن نهايته تكون خيرًا لكم، وتحبون شيئًا وتحرصون عليه، ولكن نهايته - مع حبكم له - تكون شرًا لكم. فليس كل مكروه ضارًا، ولا كل محبوب نافعًا. والجهاد: هو مصدر العزة والكرامة والحرية. وفيه إحدى الحسنين: الظَّفَرُ أَو الشهادة. وما ترك قوم الجهاد إلا ذَلّوا، وأصبحوا فريسة سهلة للمعتدين. فالقعود عن الجهاد، وإيثار السلامة والاستسلام يقود الأُمة إلى: الضعف، والفقر والذل، والهوان. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: أي {وَاللهُ يَعْلَمُ} ما هو خير لكم، وما هو شرّ لكم، {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك فلا تتبعوا ما تميل إليه نفوسكم، وبادروا إلى امتثال ما أمركم، ففيه الخير دائمًا. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} المفردات: {الشَّهْرِ الْحَرَامِ}: أحد الأشهر التي حرم فيها القتال وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. {الْفِتْنَةُ}: المراد منها، تعذيب المسلمين وإخراجهم من ديارهم، وصدهم عن المسجد الحرام، وعن دين الله. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: بطلت وفسدت. التفسير 217 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ... } الآية. تكررت آيات الأحكام فيما سبق، وتكررت الأسئلة طلبًا لتوضيح الأحكام. والسؤال هنا، يدور حول حكم السَّرِية التي قادها عبد الله بن جحش، فَقَتَلت وأَسَرَتْ في الشهر الحرام؟

سبب النزول

سبب النزول: أخرج الطبراني في الكبير، والبيهقي في سننه، وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم ما تلخيصه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رهطًا بقيادة عبد الله بن جحش إلى نخلة، فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش، ولم يامره بقتال، وكتب له كتابًا قبل أن يعلمه أين يسير، فقال: اخرج أنت وأصحابك، حتى إذا سرت يومين فافتح الكتاب وانظر فيه، فما أَمرتك به فامض له ففعل، فإذ فيه أمرهم بالنزول بنخلة، والحصول على أخبار قريش. فتوجه بأصحابه نحو نخلة، فلقوا نفرًا من قريش فقتلوا أحدهم، وأسروا اثنين منهم، وأخذوا عيرهم وعادوا إلى المدينة فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فأوقف الرسول الأسيرين والعير، فلم ياخذ منها شيئًا، فلما قال لهم رسول الله ما قال، سُقِطَ في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين. وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام. فنزلت. فأخذ رسول الله العير، وفَدَى الأسيرين. واختلف في وقت حدوث ذلك، فبعض الروايات تقول: إن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة وهو حلال: ويليه شهر رجب. وهو شهر حرام. وبعضها تقول: إنه كان في آخر يوم من رجب. ولعل ذلك أرجح، فإن الآية تؤيده، إذ فيها أنهم سألوا عن حكم القتال في الشهر الحرام، كما أن الرواية التي تقول إنه كان في آخر يوم من جمادى، يناقض بعضها بعضًا، فقد ذكرت ما رويناه من أن الرسول حلف أنه ما أمرهم بالقتال في الشهر الحرام، وتوقف عن أخذ الغير، وأوقف الأسيرين، وأن الرسول لما قال لهم ما قال، سُقِطَ في أيديهم، وظنوا أنهم هلكوا، وأن المسلمين عنفوا عبد الله بن جحش وإخوانه على ما صنعوا، ولو كان ذلك في آخر يوم من جمادى ما حدث ذلك، ولو حدث لدافع عبد الله وإخوانه عن أنفسهم.

وكما أن السؤال في الآية دلّ على أن القتال كان في الشهر الحرام، فالجواب قرر ذلك. ولكنه عذرهم، إذ بين أنه وإن كان القتال فيه عظيم الوزر ولكن وزر المشركين أكبر، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}: السائلون هم المسلمون، فقد سألوا عن حكم القتال في الشهر الحرام، بعد ما علموا بما كان من سريَّة عبد الله بن جحش. والمعنى: يسألك المسلمون عن القتال في الشهر الحرام: أهو جائز أم لا؟ ثم كان الجواب: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}: أي القتال فيه عظيم الوزر كبير الإثم. وقد أَثبت هذا الجواب حرمة القتال في الشهر الحرام، وأَن ما اعتقده أَهل الشرك من استحلال الرسول القتال فيه باطل. أما ما وقع من عبد الله بن جحش وأَصحابه، وفقد كان اجتهادًا منهم، فقد رأَوا أن قتال المشركين فيه حلال، لأنهم أخرجوهم من ديارهم، وصدُّوا عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام وعذبوهم وهم بمكة. ومن اجتهد وأَخطأَ، فله أجره، فكيف بمن اجتهد وأَصاب، حيث أَقَرَّ الله اجتهاده وعذره؟! وإعادة لفظ القتال، للاهتمام بأَمر الحكم فيه. وتنكيره، للإيذان بأن أي قتال فيه مذموم وإنْ قلَّ، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (¬1) وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2)، فالقتال في الشهر الحرام نسخت حرمته بما ذكر. ¬

_ (¬1) البقرة: 191 (¬2) النساء:89

{وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ}: المعنى: وإذا كان القتال في الشهر الحرام إثمًا كبيرًا، فإن الصَّدَّ عن دين الله، والكفر به، والصدَّ عن زيارة المسجد الحرام بمكة للعمرة، وإخراج أهله المسلمين منه - مجردين من أموالهم - كل هذا أكبر جريمةً، وأبشع إثمًا عند الله - سبحانهُ - من القتال في الشهر الحرام. وقد فعل المشركون هذا كله. فقد قاوموا الدعوة الإسلامية، وعبدوا الأوثان، ومنعوا المسلمين من أداء شعائر العبادة بالمسجد الحرام، وعذبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بمكة. فأي إثم أكبر من هذا؟ ثم عطف على الحكم الجزئي السابق، حكمًا كليًا: يتناول ما تقدم، كما يتناول ما يماثله مستقبلًا، فقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}: أي ما يُفتن به المسلمون ويُعذبون به، أكبر إثمًا عند الله من القتل. وقد بالغ المشركون في إيقاع الأذى بالمسلمين، لصرفهم عن دينهم فقد عذَّبوا ياسرًا والد عمَّار: كانوا يكوونه بالنار ليرتَدَّ عن الإسلام، حتى مات في العذاب. وعَذَّب أَبو جهل، سُميَّةَ أُم عمار زوجة ياسر، تعذيبًا شديدًا، ثم طعنها بين فخذيها بحَرْبَةٍ طعنةً قضت عليها. وأُوذِيَ عمَّار بن ياسر في الله، حتى حملوه على كلمة الكفر فقالها تقية وغفرها الله له. وكان أُمَيَّةُ بن خلف يُعَذِّبُ بلالًا، فيجيعه ويعطشه ويطرحه في الرمضاءِ، ويضع على صدره الصخر، ويكويه بالنار، ليرتد عن الإسلام. وغيرهم كثير، بل لم يَسْلَمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - من إيذاءِ قومه. وأخيرًا تآمروا على قتله للقضاء على رسالته السماوية، فنجَّاه الله بالهجرة إلى المدينة.

ومن هنا، كانت الفتنة أكبر من القتل، لأَنها قتل بطيءٌ مصحوب بالتعذيب والتنكيل. وقيل المراد بالفتنة: الشِّرك والكفر. {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}: أي هم لم يكتفوا بالصد عن سبيل الله والكفر به، ولم يقتنعوا بتعذيبكم وإخراجكم من دياركم، بل لا يزالون يفتنونكم، بشن الحروب عليكم لإبادتكم، أو صرفكم عن دينكم القويم إن استطاعوا، وسيظل شأْن الكفار مع المسلمين مستقبلًا كذلك. ولا شك في أن مقابلة العدوان - بمثله - أمر مشروع. والتعبير بحرف الشرط (إنْ) لاستبعاد استطاعتهم صرفَهم عن دينهم. ثم حذرهم فقال: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: أي من يستجيب منكم لهؤُلاء المشركين، فيرجع عن دينه إلى دينهم، فيمت وهو كافر: بطل كل عمل صالح قدمه، وخسر الدنيا والآخرة. وفي هذا إنذار شديد، لمن تحدثه نفسه - من ضعفاء الإيمان - بالارتداد. (وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ): أي وأُولئك المرتدون عن دينهم أهل النار، هم فيها خالدون، إذا ماتوا وهم كافرون. ولا يغني عنهم إيمانهم السابق عن الردة. أما من ارتد عن دينه، ولم يمت وهو كافر، بل تاب عن ردته وكفره، فالله يقبل توبته بفضله. واستدل الإمام الشافعي بالآية: عن أن الردة لا تحبط الأعمال، حتى يموت صاحبها عليها.

سبب النزول

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} التفسير 218 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ... } الآية. سبب النزول: روى جعفر بن عبد اله، وعروة بن الزبير، وغيرهما، أن الآية السابقة، لما نزلت: اطمأن عبد الله بن جحش ومن معه، إلى أنهم لم يرتكبوا إثما في قتال المشركين في الشهر الحرام، وظن بعضهم أن الآية السابقة نفت عنهم الإثم فقط، فقالوا: إن لم يكونوا أصابوا وزرًا فليس لهم أجر. فقال عبد الله بن جحش ومن معه: يا رسول الله، أَنطمع أن يكون لنا غزوة نُعْطَى فيها أجر المجاهدين؟. فأنزل الله هذه الآية، ليبين أمرهم وأمر كل من آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله. والمعنى: أن المؤمنين الصادقين: الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وتركوا أموالهم وديارهم، حرصًا على دينهم وتمسكًا به، وجمعوا - إلى الإيمان والهجرة - بذل الجهد في طاعة الله، والقتال في سبيل إعلاء كلمة الله - إن هؤُلاء جمعوا هذه الصفات - هم على رجاءٍ وأمل في رحمة الله: ينتظرون ذلك ويطمعون فيه، جزاء إيمانهم وهجرتهم، وجهادهم في سبيله، ثقة منهم بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. قال القرطبي: وإنما قال: يرجون - وقَدْ مَدَحَهُمْ - لأنه لا يعلم أحد في الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ، لأمرين: أحدهما: أنه لا يدري بم يختم له، والثاني: لئلا يتكل على عمله، اهـ. وقد ختم الله الآية بما يطمئن أولئك الذين قاتلوا في الشهر الحرام فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}:

أي: والله سبحانه واسع المغفرة، عظيم الرحمة، بمن آمن به، وهاجر إليه، وجاهد في سبيله، قاصدًا وجهه الكريم، إن اجتهد فأَخطأَ، فما بالك بمن اجتهد فأصاب، كعبد الله بن جحش! وكرر لفظ {الَّذِينَ} مع الهجرة والجهاد، بعد ذكرها مع الإيمان، مع أن الذين هاجروا وجاهدوا هم الذين آمنوا، لتفخيم شأن الهجرة والجهاد، كأنهما - وإن كانا مشروطين بالإيمان - مستقلان في تحقق الرجاء. وقدَّم الهجرة على الجهاد، لتقدمها عليه وجودًا، كتَقَدُّمِ الإيمان عليهما. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} المفردات: {الْخَمْر}: الخمر، ما أسكر من عصير العنب. ثم أصبح اسمًا لكل ما أسكر. ففي الحديث: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ". وفيه: "ما أَسْكَرَ مِنْهُ الفَرَقُ (¬1) فَمِلْءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ". رواه أحمد عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - وسُميت خمرًا، لتغطيتها العقل. من خمر الشيء: إذا ستره. ¬

_ (¬1) الفَرَق بفتح الراء: مكيال كبير يسع ستة عشر رطلًا.

{وَالْمَيْسِرِ}: القمار، مصدر يسر. يقال يسرته: قمرته. واشتقاقه من اليسر - بمعنى السهولة - لأَنه أخذ الرجل مال غيره بيسر وسهولة، من غير كَدّ ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره. والميسر: قمار العرب. كانت لهم عشرة قداح يقامرون عليها وهي: الأزلام، ثلاثة منها ليس لها علامات، فليس لمن أخذ واحدًا منها نصيب من الربح، والباقي له علامات متفاوتة، يتفاوت بسببها الربح. كانوا يضعون هذه القداح العشر في خريطة على يدي عدل، يحركها ويخرجها واحدًا واحدًا. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء، أخذ النصيب الموسوم به، من جزور يذبح، وَيُجَزَّأُ على قدر السهام القداح. ومن خرج قد مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئًا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه: البرم. {إِثْمٌ}: الإثم: الذنب، أو الشر، أو الضرر. {الْعَفْوَ} من المال: ما زاد على النفقة، أو السهل الميسور. {وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ}: أوقعكم في مشقة وشدة. التفسير 219 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ... } الآية. كما سأل الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما ينفقون، وعن القتال في الشهر الحرام، سألوه عن الخمر والميسر. ولقد جاء الإسلام والعرب يعتادون تناول المسكرات - من عصير العنب أو نقيع التمر أو غيرهما - ومع أنها شديدة الضرر بالجسم والعقل، فإن الإسلام تدرج معهم في تحريمها، لتغلغل حُبِّها في قلوبهم، وظنهم أنها أساس لبعض مكارمهم، كما عالج مآثم أُخرى عميقة الجذور، بسياسة التدرج: رحمة وحكمة، لأنه الأُسلوب الأمثل في علاج النفوس التي أقامت على تلك المآثم، وتوارثتها عبر الأجيال.

وقد بين الزمخشري ذلك في كشافه، فقال: نزلت في الخمر أربع آيات. نزلت بمكة: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬1)، فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذًا ونفرًا من الصحابة، قالوا: يا رسول الله، أَفْتِنَا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فشربها قوم، وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسًا منهم فشربوا وسكروا، وأَمَّهم بعضهم، فقرأَ: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" بغير (لا) فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} (¬2) النساء. فقلَّ من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قومًا، فيهم سعد بن أبي وقاص إلى طعام وشراب، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعدٌ شعرًا فيه هجاءُ الأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه، فشكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: "الَّلهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا" فنزلت: { ... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... } إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (¬3). فقال عمر - رضي الله عنه - انتهينا يا رب. والمعنى: يسألك المسلمون يا محمد عن حكم تعاطي الخمر والميسر. قل: فيهما ضرر كبير، ومنافع للناس، وضررهما أكبر من نفعهما. أما ضرر الخمر - من أي نوع اتخذت - فقد أثبته الطب بما لا يدع مجالًا للشك فيه، فإن تعاطي الخمر يؤدي إلى التهاب الكبد، وضعف المعدة، وضعف مقاومة الجسم للأمراض. وقد ثبت من بحوث عديدة بالمستشفيات العامة: أن نسبة الوفيات - بين المدمنين ترتفع إلى خمسين في المائة، على حين لا تتجاوز نسبتها - في غير المدمنين - أربعًا وعشرين في المائة!! ¬

_ (¬1) النحل: 67 (¬2) النساء: 43 (¬3) المائدة: 90، 91

وتأثيرها في العقول ملموس، فقد تمت تجارب عديدة ثتب منها أن الغَوْل (الكحول)، المتولد في الخمر سبب مباشر لخُمسِ الإصابات في مستشفيات الأمراض العقلية!! هذا فضلًا عما تسببه من الجرائم الخلقية، فإنها: تزين القبيح، وتشوه الحسن، وتدفع صاحبها دفعًا إلى ارتكاب الموبقات والآثام، والاعتداء على الحرمات، مما يورث الأحقاد والعداوات. أمَّا ما فيها من نفع: فلعله أن الغول (الكحول) الذي فيها قد يقتل بعض الجراثيم، وأنها تتحول إلى خَلّ، وأن الاشتغال بها، قد يعود ببعض الأرباح على صانعيها، والمتجرين فيها، وأنها قد تحمل على البذل والعطاء وتشجيع الجبان ونحو ذلك. ومن الموازنة بين الضرر والنفع، نجد الضرر يفوق النفع أضعافًا مضاعفة بحيث لو لم يرد نَصَّ ديني صريح بالتحريم، لأَوجب العقل تحريمها دفعًا لما فيها من آثام. ويلحق بالخمر المخدرات مثل: الحشيش، والأفيون، والكوكايين، والهيروين ... وأمَّا ضرر الميسر، فهو أنه يؤدي إلى إتلاف الأموال، وإهمال الأعمال، وشيوع البطالة، وضياع الوقت في غير طائل، والاتكال على الحظ، والحرص على أكل أموال الناس بالباطل، وما يترتب على هذا من إثارة العداوة والبغضاء في النفوس. ونحن نعلم أن كثيرًا من الثروات الطائلة، تبددت على موائد القمار، وفي ميادين السباق، وكثيرًا ما تمتد أيدي المقامرين إلى ما تحت أيديهم من أمانات، فيكون مآلهم السجن. وقد يصل بهم الأمر إلى الانتحار. أما نفعه: فهو ناشيءٌ عن أخذ الفقراء لحم الجزور المتقامر عليه. وقد مرَّ بيان ذلك في المفردات، وأن بعض المقامرين، قد يستفيد من المال الذي أخذه من غيره بدون حق، وأن بعض ماله - في العصر الحديث - تنتفع به الجميعات الخيرية، خصمًا من أرباح أوراق (اليانصيب). وهذا النفع إذا تم، لا يُقاس بما يقع من أضرار جسيمة، وعواقب وخيمة، وشر عظيم. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}:

سبب النزول

سبب النزول: أخرج ابن اسحاق وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أن نفرًا من الصحابة - حين أُمروا بالنفقة في سبيل الله - أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أُمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فنزلت. وكان - قبل ذلك - ينفق الرجل كل ماله، حتى ما يجد ما يتَصَدَّق ولا ما يأكل، حتى يُتَصَدَّقَ عليه اهـ. ومن سبب نزولها أيضًا: ما أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق أَبان بن يمين: أنه بلغه أَنَّ معاذ بن جبل وثعلبة، أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يار سول الله، إن لنا أَرقاء وأَهلين، فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهذه الجزءُ من الآية، مرتبط بما قبله ارتباطًا وثيقًا. فهو في الإنفاق فيما يحل، ,ما قبله في الإنفاق فيما يحرم، وهو معطوف على {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} عطف القصة على القصة. والمعنى: ويسألك المسلمون يا محمد، ما الذي ينفقونه من أموالهم؟ قل لهم: ينفقون العفو، وهو ما فضل عن العيال، دون أن يجهدهم. أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. وابدأ بمن تعول". وأَخرج ابن خزيمة عنه - أيضًا - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الصدقة ما أَبقت غنيّ، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: أنفق عليَّ أو طلقني، ويقول مملوكك: أَنفق عليَّ أو بعنى، ويقول ولدك: إلى من تكلني؟! ".

سبب النزول

وقال أبو سعيد الخدري: بينما كنا في سفر ما النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَه رجل على راحلته، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كان معه فضل ظهر فَلْيَعُدْ به على من لا ظَهْرَ له. ومن كان له فضلٌ من زاد فَلْيَعُدْ به على من لا زاد له". فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأَحدٍ منا في فضل. فمما سبق - يعلم أن الصدقة لا تكون إلا بعد كفاية العيال. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... }: أي مثل هذا البيان الواضح في الخمر والميسر والنفاق: يبين الله لكم آيات الأحكام وغيرها، لكي تتفكروا وتتدبروا في شئون الدنيا والآخرة، فتاخذوا بما هو أصلح لكم. ولعَلَّ هنا، للتعليل. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}: سبب النزول: أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما أنزل الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (¬1) و {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ... } (¬2) الآية. انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شَرَابِه، فَجَعل يفضل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد فيرمي. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ... } الآية: فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه" واللفظ لأَبي داود. ¬

_ (¬1) الأنعام:153 (¬2) النساء:10

والمعنى: ويسألك الناس عن أمر اليتامي، قل إصلاح لهم خير من تركهم أو ظلمهم. والإصلاح يتناول كل نفع يعود عليهم من: تنمية أموالهم، وحسن تربيتهم، وتوليتهم بعض أُمورهم المالية، ليديروها تحت رقابة أَوصيائهم، ونحو ذلك. ولذا نَكَّر {إِصْلاَحٌ} ليتناول كل فروعه. ونَكَّرَ {خَيْرٌ} ولم يقيد بقيد، ليفهم منه أنه "خير" مطلق: يعم الأَوصياءَ والأيتام. فالخير للأَوصياءِ: جزيل الثواب وحسن الذكر. والخير للأيتام: يسارهم وطيب نشأَتهم، ليكونوا نافعين لأنفسهم وأُمتهم. {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}: أي: إن تخالطوهم - في الطعام والشراب والمسكن - تؤدوا اللائق بكم، فإنهم إخوانكم في الدين. والمقصود: الحث على المخالطة، بشرط الإصلاح. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}: وقد حذر الله المخالطين من الإفساد عند المخالطة لها فيجازي كلا منهما بما يستحقه، فإن الله لا تخفى عليه خافية: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1). فالمؤْمن ينبغي أن يراعي هذا، فيرغب في إصلاح أحوال اليتيم: طلبًا لثواب الله، ويرغب عن الإفساد، خشية عقاب الله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ}: أي: ولو شاء الله لضيق عليكم، بأَن لم يُجَوِّزْ لكم مخالطتهم، لترعوا مصالحهم دون مخالطة. ولكنه - سبحانه - رحيم بعباده، رءوف بهم، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (¬2). {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي إن الله غالب على كل شيءٍ: لا يعجزه أمر أراده، وفي جملته إعانتكم {حَكِيمٌ} فيما يشرعه من أحكام. ومن جملة ذلك: أنه شرع لكم ما تقتضيه الحكمة، وتتسع له الطاقة البشرية: التي هي أساس التكليف. ¬

_ (¬1) غافر: 19 (¬2) الحج: 78

{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} المفردات: {تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}: تتزوجوهنّ. {تُنكِحُوا الْمُشْرِكينَ}: تُزَوِّجوهم. {الْمُشْرِكِينَ}: المراد بهم هنا، الكافرون مطلقًا. {الْمُشْرِكَاتِ}: المراد بهن، الوثنيات، ومن لا دين لهن. {وَلَأَمةٌ}: الأَمة، المرأة المملوكة. التفسير 221 - {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... } الآية. الربط: تناولت الآية السابقة، توصية الأولياء والأوصياء بالإصلاح المطلق لشئون اليتامى. وأَعقبتها هذه الآية متضمنة أساس صلاح الأُسرة، وهو الاشتراك في الدين بين الزوجين، وبذلك اشتركت الآيتان في أَن كلتيهما: تتناول لونًا من أَلوان الإصلاح في البيئة الإسلامية.

سبب النزول

سبب النزول: روى السدي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة. كانت له أَمةٌ سوداء وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع .. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأَخبره خبرها، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما هي يا عبد الله؟ فقال هي يا رسول الله: تصوم وتصلي، وتحسن الوضوءَ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: يا عبد الله، هي مؤْمنة. قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيًا، لأعتقنها ولأَتزوجها، ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا المشركين وينكحوهم: رغبة في أنسابهم، فأنزل الله {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ... } الآية. المعنى: المراد من المشركات: مَن يعبدْن غير الله، ومن ليس لهن دين. وقد حرمت الآية نكاحهن. فلا يجوز أن يتزوجهن المسلمون بالإجماع. أما الكتابيات: فلا تدل الآية على منع الزواج منهن، فإنهن لا يُعْرَفْنَ بالمشركات في لسان الشريعة الإسلامية، وإن كان اليهود يقولون: عُزَيْر ابنُ الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله. وإنما يُعرفن بالكتابيات. وقد أُبيح الزواج منهن - صراحة - في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (¬1). وبهذا أخذ جمهور العلماء. ¬

_ (¬1) المائدة: 5

ومن العلماء من منع الزواج منهن. وحجته في ذلك: أنها تنكر معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتضيفها إلى غيره - تعالى - هذا هو الشرك. ولأن الشرك في هذه الآية، وقع في مقابل الإيمان في الآية التالية، فوجب حمْله على عدم الإيمان بالله ورسوله بأَي صورة. ولأنه - تعالى - أَطلق الشرك على أهل الكتاب، لقوله - تعالى - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وأخرج البخاري والنحاس في ناسخة، عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - وكان إذا سئل عن نجاح الرجل النصرانية أو اليهودية، قال: حرم الله تعالى المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئًا عن الإشراك، أَعظم من أن تقول المرأة: ربُّها عيسى، أو عبد من عباد الله تعالى. وإلى هذا ذهب الإمامية، وبعض الزيدية، وجعلوا آية المائدة {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} منسوخة بهذه الآية، نسخ الخاص بالعام، وتلك - وإن تأخرت تلاوة - فهي مقدمة نزولًا. والجمهور على الأول: والآية تقرر: أَن المرأة المملوكة الرقيقة إذا آمنت، رفعها إيمانها فوق المشركة: حرة كانت أو أمة، وإن أعجبت المشركة من يريد الزوارج، لما لها من: حسب، أو نسب، أو جمال، أو مال. ثم إن التفضيل يقتضي: أن في المشركة خيرًا. فإِما يراد الخير، بالانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما، أو هو على حد قوله تعالى: {أصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا}. (¬2) والمعنى: ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن، فنكاحهن - وهن مشركات - حرام: لا ينعقد، ويعتبر وطؤهن زنى، ولأَمة مؤمنة يتزوجها المسلم، خير من مشركة: حرة كانت أم أمة، ولو أعجبتكم، بجمال أو مال، أو حسب أو نسب. ¬

_ (¬1) التوبة: 30، 31 (¬2) الفرقان: 24

{وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}: المراد من المشركين هنا: الكفار مطلقًا، سواءُ أكانوا يعبدون غير اله، أم من أهل الكتاب، أم لا يدينون بدين. والآية تحرم تزويج المؤمنات - سواءٌ كن حرائر أو إماء - بكفار، على أي دين كانوا. فلا ينعقد زواج المؤمنة من: كتابي، أو مشرك، أو معطل. قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْ جِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬1). والآية تدل على: أنه لا يجوز عقد النجاح إلا بولي، لأن النهي عن إنكاحهن إلى المشركين، إنما وجه إلى أوليائهن. وبذلك تصرح السنة. قال صلى الله عليه وسلم: "لا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة. وإلى هذا ذهب معظم الأَئمة، ويعضدهم قوله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (¬2) وإن كان الزهري والشعبي وأبو حنيفة يقولون: إذا زَوَّجت المرأَةُ نفسها كفؤًا بشاهدين، فذلك نكاح جائزٌ، مستمسكين بقوله تعالى: "فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ" (¬3). وقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4). {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}: هذا تعليل لما سبق من تفضيل العبيد - من المؤمنين المؤمنات - على السادة من المشركين والمشركات. أي أولئك المذكورون - من المشركين والمشركات - يدعون إلى الكفر المؤَدي إلى النار، فلا تصاهروهم، حتى لا يفتنوكم ويفتنوا ذريتهم. والله يدعو - بواسطة أَوليائه من المؤمنين والمؤمنات - إلى دواعي الجنة من: الإيمان الخالص والعمل المشروع، فكيف يلتقيان بالزواج!. ¬

_ (¬1) الممتحنة: 10 (¬2) النساء: 25 (¬3) البقرة: 232 (¬4) البقرة: 234

{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: والله سبحانه، يشرِّع للناس بآياته ما ينفعهم ف الدنيا والآخرة، ويوضحها لهم، لكي يتذكروا ويتدبروا، فيستجيبوا إليه عن بصيرة واقتناع. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} المفردات: (الْمحِيضِ): الدم الذي تفرزه المرأة شهريًا، من موضع المباشرة الجنسية. وهو في الأصل، مصدر: حاضت المرأة حيضًا ومحيضًا ومحاضًا، أي سال دمها، ثم أُطلق على نفس الدم السائل. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}: الحرث في الأصل، إلقاءُ البذر في الأرض، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (¬1). يعني: أفرأيتم ما تلقونه في الأرض من البذور؟ أأنتم تنبوته أم نحن المنبتون؟. والمراد يكون النساء حرثًا: أنهم مواضع الحرث، وهو هنا، إلقاءُ النُّطفِ في الأَرحام. وقال الجوهري: الحرث الزرع. أهـ. أي نساؤكم موضع زرع لكم. والتعبير عنهن بذلك، على جه الاستعارة المبنية على تشبيههن بمواضع الإنبات. ¬

_ (¬1) الواقعة: 63، 64

وسبب النزول

التفسير 222 - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ... } الآية. الربط: دلت الآية السابقة على عناية الدين بصحة العقائد، فطالبت المؤمنين أن يقيموا عقد النكاح على أساس من الإيمان الصادق، كما تدل على الغرض الرئيسي من الزواج، وهو: إنجاب الأطفال. وسبب النزول: ما أخرجه مسلم، وأحمد، وأبو داود، وغيرهم، عن أنس - رضي الله عنه - "أن اليهود كانوا - إذا حاضت المرأة منهم - أخرجوها من البيت، ولم يُؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت - أي لم يكونوا معهن في البيوت - فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "جَامِعُوهُنَّ فِي البُيوتِ، واصْنَعُوا كُلَّ شَيءٍ إلَّا النِّكَاحَ" أي إلا الوطء فإنه لا يحل أثناءَ الحيض. وكان اليهود يعتقدون أن الحائض نجسة، وكل من مسها يكون نجسًا، إلى المساءِ، وكذلك يتنجس كل ما تلمسه أو تجلس عليه، أو تلبسه. فمن مس فراشها لا يطهر إلا بغسل ثيابه واستحمامه، ومع هذا يظل نجسًا إلى المساء. ومن ضاجعها ظل نجسًا سبعة أَيام. (¬1) وكان النصارى يتسامحون في أَمر المحيض. والمعنى: ويسألك المؤمنون عن دم النساءِ الذي يأْتيهن شهريًا، عن الأحكام المترتبة على وجوده، قل لهم: هو أَذى، إذ هو ضَارٌّ بصحة الأجسام، وقذر تتأَذى منه النفوس. وقد ثبت طبيًا: أن اتصال الرجل بالمرأة - أثناء الحيض - قد يترتب عليه ضرر المرأَة ذاتها كالتهاب المبيض، كما يترتب عليه ضرر الرجل، لوجود جراثيم ضارة في المهبل ¬

_ (¬1) راجع في ذلك سفر اللاويين، الإصحاح الخامس 19 - 29.

أثناء الحيض، فتؤثر فيه وتصيب المثانة والحالبين. وقد تصل إلى البروستاتا والخصيتين والقناة البولية، وهكذا مما صان الله المسلم منه. والتعبير بجملة {هُوَ أَذًى} بدلًا من هو مؤْذ، للمبالغة في إثبات أَذاه، حيث جعله ذات الأَذى. {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}: المقصود باعتزالهن في المحيض: هو تجنب الاتصال الجنسي بهن أثناءَ الحيض. أما غيره - كالقبلة واللمس ونحو ذلك - فمباح. وكرر لفظ {الْمَحِيضِ} ولم يكتف بضميره، لئلا يتوهم رجوعه إلى شيء سواه، اعتناءً بإبراز أَذاه. {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}: هذا تقرير لوجوب اعتزالهن. وليس إنشاء حكم جديد، فإن الأمر باعتزالهن، يلزمه النهي عن القرب منهن. والمقصود من: القرب منهن: مباشرتهن في موضع الحيض، أي ولا تجامعوهن حتى يطهرن، فإذا طهرن، فلكم مجامعتهن. والمقصود من طهرهن: انقطاع حيضهن عند أبي حنيفة، إذا كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض، فإن كان لأَقل منها، لم يحل وطؤهن إلا بالاغتسال، أو مضى وقت صلاة بعد الانقطاع. أما عند الشافعية: فطهرهن هو اغتسالهن بعد انقطاع الحيض. فلا يحل الوطءُ عندهم بانقطاع الدم وحده، لإطلاق الطهر في الآية، ولقراءة {يَطَّهَّرْنَ} بتشديد الطاء، مبالغة في الطهر. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}: الأمر هنا ليس تكليفيًا، وإنما هو للإباحة. ويقول الفقهاءُ: إن كل أمر يرد بعد نهي للإباحة، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬1). ¬

_ (¬1) المائدة: 2.

سبب النزول

والمعنى: فإذا تطهرت النساءُ - بعد انقطاع الحيض، والاستحمام منه - فلكم أن تباشروهن من المكان الذي أمركم الله باجتنابه - أثناء الحيض - تجنبًا للأَذى. قاله ابن عباس وغيره. وقال الزجَّاج: معناه: من الجهات التي يحل فيها أن تقربوا المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يحل، كما إذا كن صائمات أو محرمات. وأُيَّد بأنه لو أراد الفرج لقال: في حيث أمركم الله - لأنه أظهر. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}: ختم الله الآية الكريمة بتأكيد حُبِّه للتائبين المبالغين في التوبة، فيما عسى أن يصدر منهم من الذنوب، كإتيان الزوجة في الحيض، وحبه للمتطهرين من الأقذار، الحريصين على تنفيذ أوامره ونواهيه. أخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أتى حَائِضًا فَقَد كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم ". والحديث للترهيب، والمقصود: أنه فعل ما يفعله الكافرون. 223 - {نِسَاؤُكُمْ حَرْ ثٌ لَّكُمْ فَاتُوا حَرْ ثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ... } الآية. سبب النزول: أخرج البخاري وجماعة عن جابر، قال: "كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها - أي في فرجها - ثم حملت، جاء الولد أحوْل فنزلت". وقد أباحت الآية، ما حرمه اليهود من إتيان المرأة - في موضع الحمل - من جهة الخلف، إذ جوزت إتيانها من أية جهة شاءَها الأزواج، عند مجامعتهن في القبل. والحرْث: الزرع كما نقلناه عن الجوهري، أي مواضع زرع لكم. والمقصود من الزرع: إنجاب الأولاد. والكلام عن التمثيل والتشبيه.

والمعنى: نساؤُكم موضع إنجاب الذرية لكم، فاتوهن من مكان الإنجاب، كيف شئتم: من الأمام أو من الخلف، أو نائمات على جنوبهن. ولا تعبأُوا بمقالة اليهود، مادمتم تأتونهن في مواضع الحمل، حيث أمركم الله تعالى. وفسر ابن عباس: {أَنَّى شِئْتُمْ} بأي وقت شئتم من الليل أو النهار. وسيأتي بيان ذلك. وليس في الآية دليل على حل وطء الزوجة في دبرها، فإن إباحة إتيانها - كيف شاء الزوج - مقيدة بموضع الحرث، أي موضع إنجاب الذرية وهو القبل. كما أن سبب النزول الذي ذكرناه يدل على ذلك. ولهذا حرم جمهور الفقهاء إتيان النساء في أدبارهن. ومما يدل على ذلك: أن الله تعالى حرم إتيانهن في المحيض، لاستقذاره، فكيف يُباح إتيانهن في الأدبار وهي أشد قذارة من مكان المحيض وقت الحيض؟ أَخرج ابن جرير، وابن حاتم، عن سعيد بن جبير: قال: "بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية الحيض؟ قال: بلى، فقرأ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} إلى {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}: فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، مِن ثَمَّ أُمِرْتَ أن تَأتِيَ، فقال: كيف بالآية، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقًا، لكان المحيض منسوخًا، إذا شغل من هنا جئت من ههنا، ولكن أنى شئتم: من الليل والنهار". وقد جاء التحريم نصًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى أبو داود والنسائي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا". وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا" إلى غير ذلك من الأحاديث.

{وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ}: ثلاثة أوامر متتالية، تدعو إلى العمل الصالح، واجتناب المعاصي. أولها: قدّموا لأنفسكم، وحذف المفعول هنا للتعميم، أي قدموا لأنفسكم. كل عمل صالح يقربكم إلى الله. فإنجاب الأبناء، وحسن تربيتهم، عمل صالح يستمر أثره حتى بعد وفاة الوالدين. والعلم النافع، يبقى أثره بعد وفاة صاحبه. وكذلك الصدقة الجارية، وكل أنواع البر. والخير: عاجلها وآجلها. ومنها ما تقدم في الآية التي قبلها، من: اعتزال النساء في المحيض، على ما تقدم بيانه. الأمر الثاني: الأمر بالتقوى. وهو يتكرر عقب آيات الأحكام، كما لاحظنا سابقًا. ومعنى التقوى: خشية الله، واتقاء غضبه، بفعل الطاعات، وترك المنهيات، فإنها خير زاد. قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬1). والأمر الثالث: في تذكير المؤْمنين بانتهاء هذه الحياة الدنيا، وبأَن كلاًّ منهم سيلقى الله، وسيجني جزاء ما قدمت يداه. والعلم اليقيني بهذا المصير: يلازم صاحبه في كل زمان ومكان، فيجعله حريصًا على أداء الطعات، واجتناب المنهيات. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: ذيَّل الله الآية الكريمة بأَمر رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يبشر المؤمنين بالثواب الجزيل، على ما قدمت أيديهم من أعمال صالحات. ¬

_ (¬1) البقرة: 197

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} {عُرْضَةً}: أي معترضًا وحاجزًا. {لِأَيْمَانِكُمْ}: الإيمان جميع يمين. وهي هنا: اسم للخلف. وهي في الأصل مصدر لا فعل له، تقول: حلفت يمينًا، كما تقول حلفت حلفًا، ثم أُطلقت على المحلوف عليه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَليُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الِّذِي هُوَ خَيْرٌ" أخرجه مسلم وغيره وسيأتي. {أَن تَبرُّوا}: أن تفعلوا البر. {اللَّغْوِ}: ما لا يعتد به من الكلام. واللغو في اليمين: ما يجري على اللسان دون قصد، مثل قول القائل: والله، وبلى والله. التفسير 224 - {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْ ضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّ وا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ... } الآية. لما أمر الله - تعالى - في الآية السابقة بتقواه، وحذَّر من لقائه على معصية، وبشَّر المؤمنين - أتبع ذلك لونًا من ألوان التقوى، وهو أَلا يجعلوا لله عرضةً لأَيمانهم، حتى تنالهم بشارته سبحانه وتعالى.

سبب النزول

سبب النزول: أخرج ابن جرير، عن ابن جريج: أنها نزلت في الصدِّيق رضي الله عنه، لَمَّا حلف أَلَّا ينفق على مسطح ابن خالته، وكان من الفقراء المهاجرين، حين وقع في إفك عائشة رضي الله عنها. والمعنى: ولا تجعلوا الله - لأجل حلفكم به - عرضة وحاجزًا: يمنعكم عن البر والتقوى، والإصلاح بين الناس. وقيل: معناه: لا تجعلوا الله غرضًا لأَيمانكم، بكثرة الحلف به في كل حق وباطل، لأن في ذلك جرأةً على الله تعالى. وهذا هو التفسير المأثور عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - وبه قال الجبائي وأبو مسلم. ويكون: {أَن تَبَرُّوا} علة للنهي، على معنى أنهاكم عن الحلف: رغبة بركم وتقواكم وإصلاحكم. فإذا حلف الإنسان على ترك خير، فليفعل الخير، وليكفر عن يمينه، ولا يجعل اليمين مانعة له من المعروف. قال ابن عباس: لا تجعل الله عرضة ليمينك، ألا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك، واصنع الخير. وروى مسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيرَها خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَيَفْعَل الذي هُوَ خَيْرٌ". والآية توحي بالإقلال من الإقسام، حتى لا يعتادها اللسان. وقد ذم الله المكثرين من الحلف فقال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ} (¬1). والبر: الخير مطلقًا. والتقوى: مراعاة الله في السر والعلانية، واتقاء غضبه، والإصلاح بين الناس: إزالة ما بينهم من جفاءٍ وعداوة. ¬

_ (¬1) القلم: 10

وكل ذلك رغَّب فيه الشارع. فلا ينبغي الحلف على ترك شيٍ منه. ومن حلف فليكفر عن يمينه، بعد أن يفعل الخير الذي حلف على تركه. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: هذا تحذير بليغ، خُتِمَت به الآية، ليعلم كل مؤْمن: أن الله سميع لكل ما يقوله، عليم بكل ما يفعله أو ينويه، وأن عليه مراعاة الله في الأفعال والأقوال والنيَّات. 225 - {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... } الآية. الإيمان ثلاثة أقسام: الأول: يمين لغو: لا يُعتد بها، ولا مؤاخذة عليها. وهي اليمين التي تجري على الألسنة في الأحاديث، لمجرد التأكيد مِثل: لا والله، وبلى والله، وهذا هو المروي عن عائشة في تفسير يمين اللغو. ويرى آخرون: أنه القسم الذي يعتقد المقسم أنه صحيح، ثم يتبين خطؤه. ويرى بعضهم: أنه قسم الغضبان الذي يخرجه الغضب عن اتزانه. ويعده بعضهم: يمين المكره، أو الذي يقسم وينسى قسمه، فيخالف ما أقسم عليه. وهذا كله لا كفارة فيه، على أَرجح الآراء. والقسم الثاني: هو أن يحلف الحالف على ترك أمر غير محرم ولا مكروه، فإذا رأى الأولى أن يخالف ما أقسم عليه - فعل الأولى وكفَّر عن يمينه: بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. فمن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. وإذا أقسم الحالف على فعل معصية، أو ترك طاعة، فواجب عليه أن يخالف ما أقسم عليه، ويكفر عن يمينه. والقسم الثالث: أن يقسم كاذبًا متعمدًا ليخدع السامعين، فهذا إثمه عظيم. فعلى هذا المقسم أن يبادر بالتوبة والإنابة إلى الله. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مِنِ اقْتَطَع حقَّ امْرِيءٍ مسلمٍ بيَمينِه، فَقَد أَوجبَ اللهُ له النارَ. فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا؟. قال: وإنْ كان قضيبًا منْ أَراكٍ" رواه مسلم وغيره.

{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}: أي أن الله سبحانه، رحيم بعباده: لا يعاقبهم على أَيمان اللغو غير المقصودة، ولكنه يعاقب من أقسم به كاذبًا متعمدًا، لأنه مخادع منافق. يفحم اسم الله ليخدع به الناس، جلبًا لمنفعة، أو دفعًا لمضرةٍ. {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}: لا يعجل بعقوبة المسيءٍ، لعله يتوب وينيب. {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} المفردات: {يُؤْلُونَ}: يُقسمون. يُقال: آلى عليه. ومنه: أَقسم. والأَلية: اليمين. والإيلاءُ شرعًا، معناه: أن يحلف الرجل أن لا يقرب زوجته. {تَرَبُّصُ}: التربص، الانتظار. {فَاءُوا} رجعوا. وفاءَ الرجل إلى امرأَته: رجع إليها، بعد أن حلَف أَلَّا يقربها. التفسير 226 - {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ... } الآية. وردت هذه الآية الكريمة متممة لأَحكام القسم، ومكملة لتنظيم الأُسرة الإسلامية، على أساس من صلات المودة والرحمة، والتعاون المثمر، والاحترام المتبادل. واعلم: أن للنفوس والشيطان تأثيرًا على سلوك الناس، فقد يحدث بين الزوجين ما يعكر الصفو بينهما، تأْثرًا بهوى النفس ووسوسة الشيطان، فيحلف الزوج: أَلَّا يباشر زوجته، ويجعلها بذلك كالمعلقة: لا هي متزوجة، ولا هي مطلقة، فيمزق بذلك شمل الأُسرة، ويقطع أواصر المودة والرحمة، ويعرِّض الذرية للانحراف الخلفيَّة.

فأَنزل الله هذه الآية الكريمة، علاجًا لهذه الحالة. فقد تحدثت عن الإيلاء، وهو الحلف على أَلَّا يباشر زوجته، وبينت أحكامه. والإيلاءُ شرعًا: أن يقول لزوجته، والله لا أقربك أربعة أشهر، أو أربعة أشهر فصاعدًا، أو لا أقربك على الإطلاق. وعلى هذا الأئمة الأربعة، عدا الشافعية، الذين قالوا: لا إيلاءَ إلا في أكثر من أربعة أشهر، فلو حلف لا يقربها أربعة أشهر فما دونها، لا يكون إيلاءً شرعًا عندهم، ولا يترتب حكمه عليه، بل هو يمين كسائر الإيمان، إن حنث كفّر كفارة يمين، وإن برَّ فلا شيء عليه. وبعض العلماء - كالنخعي وقتادة - يرونه موليًا إن حلف ألا يقربها أي مدة، قلَّت أو كثرت. وحكم الإيلاء عند غير الشافعي: أنه إن فاء إليها - أي رجع عما حلف عليه - بمباشرتها في المدة التي حلف عليها، أو بالقول - إن عجز عن الوطءِ - صح الفيءُ، وحنث القادر. ولزمته كفارة اليمين. ولا كفارة على العاجز. وإن مضت الشهور الأربعة، بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة بإيقاع الطلاق من الزوج أو الحكم. ويقول الشافعية: إن المولي له التلبث مدة أربعة أشهر، فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن فاء بعودته إلى المباشرة، حنث في اليمين ولزمته الكفارة، وإذا مضت أربعة أشهر، ولم يفيء ولم يطلق، طولب بأحد الأمرين، فإن أباهما، طلق عليه الحاكم. وخلاصة المعنى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ}: أي يحلفون ألا يباشروهن على النحو السابق، انتظار أربعة أشهر دون مباشرة، وليس عليهم إثم في ذلك، فإن فاءُوا - أي رجعوا - إلى المباشرة في أثنائها - مخالفين بذلك ما حلفوا عليه - حنثوا ي أيمانهم، ولزمتهم كفارة يمين، وإن الله غفور لذنب الحنث في اليمين، لما فيه من المصالحة بين الزوجين، وغفور لما قصده المولِي من ضرار بالمرأة بإيلائه، لأن الفيئة توبة.

وإن لم يفيئوا وعزموا الطلاق، وقع الطلاق بمضي الشهور الأربعة عند غير الشافعي، وبإيقاع الطلاق عند الشافعي، فإن الله سميع لإيلائهم، عليم بطلاقهم ونياتهم، فيجازيهم على وفقها. {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} المفردات: {يَتَرَبَّصنَ}: ينتظرن. {قُرُوءٍ}: القروءُ، جمع قُرء. وهو الحيض، أو الطهر منه. {وَبُعُولَتُهُنَّ}: البعولة، جمع بعل، وهو الزوج. {بِالْمَعْرُوفِ}: هو ما يعرفه العقل، ويستحسنه الشرع والعرف. التفسير 228 - {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ... } الآية. بعد أن ذكر الله - في الآية السابقة - حكم المولين من نسائهم إن عزموا الطلاق، ناسب أن يذكر بعدها - في الآيات التالية - أحكام الطلاق. والمراد بالمطلقات في الآية الكريمة: المدخول بهن من الحرائر ذوات الحيض. أما غير المدخول بهن: فلا عدة عليهن.

وأما أولات الأحمال: فـ {أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وأما غير بالغات الحلم أو اليائسات من المحيض: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}. مأخوذ ذلك من قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). وأما الإِماءُ: فعدتهن قُرْآنِ بالسنة. راجع الآية الرابعة من سورة الطلاق. وقد أَوجبت الآية: أن تنتظر هذه المطلقة مدة ثلاثة قروءٍ، قبل الزواج من رجل آخر. والقروءُ: جمع قُرءٍ، بضم القاف وفتحها، ويطلق لغةً: على الطهر، وعلى الحيض. وقد اختلف الفقهاءُ، في المراد من القروء المعتبرة في العدة. فمنهم من قال: المراد بها الأطهار. ومنهم من قال: المارد بها الحيضات. فإن طلقت الزوجة في الحيض، لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق، فإجماع الفقهاء. ولا تنتهي عدتها عند من يقول: إن القروء هي الحيضاتُ، إلا إذا حاضت - بعد الحيضة التي طلقت فيها - ثلاثة حيضات كوامل، وذلك بدخولها في الطهر الذي يلي هذه الحيضات الثلاث الكوامل. ومن طُلِّقت في طهر، حُسِبَ هذا الطهر قرءًا عند من يقول: إن الأقراءَ هي الأَطهارُ، فتعتد بعده بطُهْرين كاملين، وذلك بدخولها في الحيضة التي تلي الطهرين الكاملين. وهذه المدة كافية ليراجع كل من الزوجين نفسه: فيفيءَ إلى المودة والرحمة والصفاء، إن كان هناك مجال للصفاءِ، وكان الطلاق رجعيًا. فإذا انتهت مدة التربص، أصبحت الطلقة بائدًا. ولا يملك الزوج حقَّ المراجعة، إلا بعقد ومهرٍ جديدين، برضا الزوجة، إن لم يستنفد عدد الطلاق. {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}: لما كان أمر العدة يدور على: الحيض، والطهر، والحمل - ولا اطلاع عليهما إلى من جهة النساء - جُعِلَ القولُ قولهن في انقضاء العدة وعدمها، وجُعِلن مؤْتمنات عليها. فلذا ¬

_ (¬1) سورة الطلاق آية: 4

حذرهن الله - في هذه الآية - من كتمان ما في أرحامهن من الحمل: رغبة في الإسراع في الزواج من رجل آخر، بزعمهن انقضاء عدتهن بالأَقراءِ، أو من الحيض: رغبة في إطالة العدة للحصول على النفقة أطول مدة ممكنة. {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: هذا وعيد وتحذير شديد، لتأكيد تحريم الكتمان، وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عن الرحم بحقيقة ما فيها. فسبيل المؤمنات أن لا يكتمن الحق، ولا يتعرضن لزواج غير مشروع أثناء الحمل. ويُعْتَبرُ الوطء فيه زنى. كما أن فيه نسبة الحمل إلى رجل آخر لا صله له به، وهي جريمة بشعة. وجواب الشرط: مفهوم مما سبقه. والتقدير: إن كن يؤْمنَّ بالله واليوم الآخر، فلا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن. {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}: أي للأزواج - في مدة التربص - حق مراجعة الزوجات المطلقات، إن كان الطلاق رجعيًا، فلا يمتنعن عن الرجوع إليهم. وجواب الشرط مفهوم مما سبق. والتقدير: إن أراد الأزواج إصلاحًا بينهم وبين المطلقات - بغير قصد الإضرار بهن - فلهم الحق في ردهن. وأفعل التفضيل {أَحَقُّ} ليس على بابه، إذ لاحق للزوجة في المراجعة. فمتى راجعها الزوج فعليها العودة إليه. وليس المراد من قوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} اشترط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز - للإجماع على جوازها مطلقًا - بل المراد: تحريضهم على قصد الإصلاح بالمراجعة، فلا يقصدون بها المضارة بتطويل العدة عليهن .. لهذا جعل قصد الإصلاح، كأَنه منوط به حق المراجعة.

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: أي: ولهن على الأزواج - من الحقوق وحسن العشرة - مثل الذي عليهن للأزواج من الواجبات. فللزوجة حقوق عند الزوج، وعليها واجبات له، وكذلك للزوج حقوق على زوجته، وعليه واجبات لها. فللزوجات والأزواج - كلاهما على الآخر - حقوق العشرة بالمعروف من غير مشقة. وللزوجات على الرجال النفقة، ولهم عليهن حفظ الزوج في: ماله وولده وفراشه. والرجل أحق برعاية أسرته - والقيام بأمرها وزعامتها - من المرأة، لقوته وخبرته وتجاربه، ولأنه هو الذي يعول الأُسرة، ويكدح في سبيلها، ويدافع عنها. وهذه هي الدرجة التي فضَّل الله بها الرجل، والمعبر عنها بقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}: فتجب طاعتهن لهم، لما ساقوه من المهر والإنفاق. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (¬1). وينبغي للرجل أن يَعْلَمَ أنه مسئول عن رعاية أسرته أمام الله. وعلى المرأة كذلك أن تَعْلَمَ أنها مسئولة عن رعايتها لبيتها أمام الله، وأمام زوجها. قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسئولٌ عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيتها" الحديث رواه الشيخان. ¬

_ (¬1) النساء: 34

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: انتهت الآية بإطهار عزّة الله وقهره، وأنه شديد الانتقام ممن خالف أمره، وخرج على أحكامه، وهو حكيم في تشريعاته: يسنّ للناس ما يوائم مصلحة الجميع. فعلى كل من الرجال والنساء، أن يرعى الله، بالتزام ما سنّه من أحكام. {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} المفردات: {الطَّلَاقُ}: هو التطليق كالسلام بمعنى التسليم. والمراد به: حل العقد القائم بين الزوجين بأَلفاظ مخصوصة. {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}: المراد به، رجعة الزوجة بعد طلاقها، مع أَداءِ حقوقها، وحسن عشرتها: طبقًا للعرف والشرع، في المعاملة. {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}: والتسريح بإحسان، إخلاءُ سبيل الزوجة بإحسان في المعاملة. وذلك بعدم مراجعتها حتى تنقضي عدتها، أو بتطليقها الثالثة - وفي كلتيهما - يحسن إليها: بجبر الخاطر، وأَداء الحقوق، وحفظ الأسرار.

التفسير 229 - {الطَّلَاقُ مَرَّ تَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُ وفٍ أَوْ تَسْرِ يحٌ بِإِحْسَانٍ ... } الآية. كان الطلاق في الجاهلية - وفي مستهل الإسلام - غير مقيد بعدد محدود، وكانت العِدةُ عندهم معروفة مقدرة. فكان الرجل - في أول الإسلام - إذا غاضب زوجته طلقها، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها: يكرر ذلك كما يشاءُ، فلا هو يحسن عِشْرتها، ولا هو يخلي سبيلها، لتأخذ لنفسها وجهة أُخرى مع زوج جديد، وليغني الله كُلًّا من سعته. قال القرطبي: قال رجل لامرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا آويك ولا أدعك تخلين. قالت: وكيف؟ قال أُطلقك، فإذا دنا مَضيّ عدتك راجعتك، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، بيانًا لعدد الطلاق الذي يحل للمرءِ أن يراجع فيه مطلقته، دون مهر أو عقد، حتى لا يتجاوزه: مضارة للزوجة. وقد بينت الآية: أن الطلاق المشروع، مرتان، أي مرة ثم مرة. فللرجل أن يطلق زوجته، ثم يراجعها أثناء العدة - إذا شاءَ دون توقف على رضاها، ثم له أن يطلقها مرة ثانية، ثم يراجعها أثناء العدة - إذا شاء - دون توقف على رضاها كذلك. وكل طلقة من هاتين الطلقتين تسمى طلقة رجعية. أما إذا أمضت العدة بعد الطلقة الأولى. أو الثانية - دون مراجعة لها - فإن الطلاق يصبح بائنًا، فلا تعود إليه، إلا بعقد ومهر جديدين، وبرضا الزوجة أو وليها، فإذا طلقها الثالثة بعد أن راجعها مرتين، فإنها تصبح حرامًا عليه: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، كما تشير الآية التالية. ومعنى إمساكها بالمعروف - بعد الطلقة الثانية - أن يراجعها مع حسن العشرة والمود والرحمة. فذلك هو المعروف عند أرباب المروآت، وفي لسان الشرع، ونظر العقل. ومعنى تسريحها بإحسان - بعد الطلقة الثانية - أن يتركها دون مراجعة أو أن يطلقها الثالثة، وأن يؤدي لها حقوقها من: نفقة العِدة، وأُجرة الرضاع، والحضانة لولده، وجبر الخاطر، وحسن القالة.

والآية الكريمة بهذا، أعطت الزوجين فترات كافية: يتروَّى فيها كل منهما، ويُراجع نفسه، لعله يفِيءُ إلى المودِة والصفاء. فأَبغض الحلال عند الله الطلاق. وقد اختلف الأَئِمة فيمن يوقع الطلاق ثلاثًا مرة واحدة: فذهب بعضهم، إلى أنه يقع طلقة واحدة. ومذهب الأئمة الأربعة: أنه يقع ثلاث طلقات. وقد أخذت المحاكم الشرعية في مصر الآن، بالرأي الأول في لائحتها، اتباعًا لرأي بعض الصحابة وكبار التابعين، ولأن منطوق الآية يؤَيده. والخلاف بين الفقهاء - في هذا الموضوع - مبسوط في الكتب المطولة، أمثال: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأحكام القرآن للجصاص، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، ونيل الأوطار للشوكاني، وأحكام القرآن لابن العَرَبي، وغيرها. قال تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَاخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}: لما ذكر الله في الآية السابقة: أن الطلاق مرتان، وأن للزوج بعدهما أن يمسك زوجته، ويستبقيها بمعروف، أو يسرحها ويتركها بإحسان - على نحو ما أوضحناه سابقًا - أتبع ذلك بيان نوع من أنواع الإمساك بغير معروف، والتسريح بغير إحسان، وهو أن يمسكها ويراجعها، أو يطلقها في مقابل أن يأخذ بعض مالها، فإن ذلك ليس معروفًا ولا إحسانًا. قد أفادت الآية: أنه لا يحل للزوج أن يأخذ شيئًا من صداق الزوجة، الذي أوجبه الله، لكي يبقيها في عصمته، أو لكي يطلقها. لأن ذلك مناف للمعروف والإحسان الذي أمره الله به، والذي هو لائق بصلات المؤمنين بعضهم مع بعض، فضلًا عن الزوجين. ومثل الصداق في الحكم، سائر أموالهن. وتخصيص الصداق بالذكر، لرعاية العادة، أو للتنبيه على أن تحريم الأخذ من غيره أولى.

وقد أباح الله للزوج أن يأخذ منها بعض مالها في مقابل طلاقها، إذا خافا - كلاهما - أن لا يقيما حدود الله، بعدم القيام بواجبات الزوجية، كاستخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وكعدم إنفاق الزوج عليها وسوء عشرته لها. فإن كان الخوف من عدم القيام بحقوق الله من جانب الزوج وحده - مع حسن عشرة المرأة - فلا يحق له أن يأخذ منها - في مقابل طلاقها - شيئًا من المال. فإن أخذه، وجب عليه رده. وإن كان الخوف من جانب الزوجة وحدها، والنشوز من جانبها - فله الحقُّ في أخذه. قال الإمام مالك: لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم - وهو الأمر المجتمع عليه عندنا - وهو أن الرجل: إذا لم يضر بالمرأة ولم يسيء إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه - فإنه يحل له أن يأخذ كل ما افتدت به، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في امرأة ثابت. وإن كان النشوز من قبله، بأن يضيق عليها ويضرها - رد عليها ما أخذ منها. ويدل لجواز أخذه المال منها - إذا كان الشقاق من جانبها فحسب - ما رواه البخاري عن ابن عباس: أن امرأة ثابت، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس: ما أَعْتُبُ عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَرُدِّ عليه حَدِيقَتَهُ"؟ قالت: نعم. زاد ابن ماجه (فأمره رسو الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد). والفراق - في مقابل المال - يُسمى: خُلْعًا. ويعتبر خلق ثابت بن قيس لزوجته، أول خُلْع في الإسلام. واستدلت طائفة من الفقهاء بحديث امرأة ثابت المذكور، على أنه يجوز الخلع من غير اشتكاءٍ ضرر، فإنها تقول: إنها لا تعتب عليه في خلق ولا دين، ولكنها لا تطيقه. وقالوا: إن الآية لم تذكر الخوف من عدم إقامة حدود الله على جهة الشرط، بل لأنه الغالب. وقالوا: إن الذي يدل على ذلك - صراحة - قوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (¬1). ¬

_ (¬1) النساء: 4

ومعنى قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}: فلا إثم على الزوجين فيما افتدت به الزوجة نفسها، لتخلص من زوجها بالخلع في مقابله. أي لا إثم على الزوج في أخذه، ولا على الزوجة في إعطائه إياه. واستدل كثير من الفقهاء، بعموم قوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} على جواز الخُلع بأكثر مما أعطاها، فما تراضيا عليه، صح الخلع به: قَلَّ أو كثر. وهذا هو رأي الجمهور. وإن كان مالك يرى أخذ الزوج الزيادة على ما أعطاها، مجافيًا لمكارم الأخلاق. وقالت طائفة: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها. وبه قال أحمد وإسحاق وغيرهما. واختلف العلماءُ في الخلع: هل هو طلاق، فيعد طلقة؟ أم هو فسخ، فلا يعد طلقة. فقال مالك، والشافعي في أحد قوليه، وأبو حنيفة، والثوري، وغيرهم: هو طلاق بائن، فيعد طلقة. وقالت طائفة: هو فسخ لا ينقص عدد الطلاق إلا أن ينويه. وبه قال ابن عباس، وأحمد، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق وغيرهم. ولهم في ذلك أدلتهم. ومن ذلك ما روى: أن سعد بن أبي وقاص سأل ابن عباس - رضي الله عنهما -: عن رجل طلَّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: نعم لينكحها، ليس الخلع بطلاق ذكر الله - عز وجل - الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء إلى آخرها ما قال.

ومن ذلك قولهم: إنه لو كان الخلع طلاقًا لكان بعد ذكر الطلقتين ثالثًا، وكان قوله بعد الخلع: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} دالًا على الطلاق الرابع، فيكون التحريم بعد أربع طلقات، ولا قائل به، إلى آخر ما قالوا. ويترتب على هذا الخلاف: أن من طلق زوجته تطليقتين، ثم خالعها، ثم أراد أني يتزوجها، فله ذلك عند ابن عباس ومن يرى رأيه، لأنه لم يقع منه سوى تطليقتين، والخلع لغو. ومن جعله طلاقًا لم يُجِز له أن يرتجعها حتى تنكح زوجًا غيره. وعلى القول بأنه طلقة بائنة: يجوز للزوج أن يعود بعده لزوجته، إذا لم يسبقه طلقتان: بأن لم يسبقه طلاق أصلًا، أو سبقه طلقة واحدة. ولكنه لا يعود إليه، إلا بعقد ومهر جديدين. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}: أي تلك الأحكام التي مضت: ما حدَّه الله وشرعه من الأحكام، فلا تتجاوزوها بالمخالفة. {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: أي ومن يترك أحكام الله التي شرعها وبينها لعباده، فإنه ظالم لنفسه وغيره، متبه لهواه. والظالم يستحق عقاب الظالمين المعتدين. وفي هذا بلاغ لمن يجادلون، مدعين ظلم الأُسرة: مطالبين بتعديل حدود الله تبعًا لأهوائهم، أو تطبيقًا للمباديء الزائفة، التي استجلبوها من غير البيئة الإسلامية، باسم المدنية والحضارة. ونسوا أن الذي شرع هذه الأحكام، وحدد هذه الحقوق، هو رب العالمين: خالق الأًسرة: العليم بمصالحها، وأنه أَرأَف بها من هؤلاء الذين يدعون الإشفاق عليها، وهم إنما يريدون بذلك الوصول إلى زعامات كاذبة، وأغراض هدامة. والله من ورائهم محيط.

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)} التفسير بين الله سبحانه - في الآيات السابقة - طريقة إيقاع الطلاق، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة، حتى لا يضيق الرجل على نفسه، بل يستطيع أن يستأنف - بعد الطلقة الأُولى أو الثانية - حياته الزوجية. ثم أتبع ذلك بيان حكم الفراق، إذا كان بافتداء المرأة نفسها من الرجل، بمال تدفعه. وفي هذه الآية الكريمة يبين - سبحانه - الطلاق المكمل للثلاث، الذي لا يمكن بعده استئناف الحياة الزوجية، بل تحرم عليه المطلقة، حتى تنكح زوجًا غيره، فيقول سبحانه: 230 - {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَ هُ ... } الآية. أي فإن طلقها الثالثة - بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه - له الرجعة بعد كل منهما، في أثناء العدة - فلا تحل له مراجعتها في عدتها، أو العقد بعد انقضائها من هذا الطلاق الثالث، حتى تتزوج زوجًا غيره، بعد انقضاء عدتها منه، على أن يكون الزواج الثاني زواجًا شرعيًا صحيحًا، وأن يجامعها فيه. فإن طلقها الزوج الثاني، وانقضت عدتها منه، فلا إثم على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعها بعقد جديد إن ظنا أن يقيما حدود الله، ويتعاشرا بالمعروف ويحرص كل منهما على القيام بواجب الزوجية. وقال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير: النكاح في الآية: العقد الصحيح. فهو كافٍ في التحليل للأول، وإن لم يجامعها، مالم يُرَدْ بالعقد مجرد إحلالها للأول. وإطلاق النكاح

على العقد، معروف لغة وشرعًا. ولكن هذا الرأي ضعيف، لمخالفته لما جاءَت به السنة الصحيحة، وللحكمة المقصودة من هذا الزواج، وهي تخويف الناس من البت في الطلاق، حتى لا تصير نساؤُهم إلى هذا المصير، ولتاديب مَن بَثَّ طلاق امرأته. وإذا تزوجها الزوج الثاني - بقصد إحلالها للزوج الأول: فقد قال أبو حنيفة وأصحابه: النكاح جائز للأول إن دخل بها الثاني وطلقها، وله أن يمسكها إن شاء. وفي رواية أُخرى عنهم: لا تحل للأَول إن تزوجها ليحلها له، ولم يختلفوا في أن نكاح الزوج الثاني صحيح. وحكى الماوردي عن الشافعي: أنه إن شرطا التحليل قبل العقد، صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد، بطل النكاح ولم يحلها للأَول. وفي هذا الموضوع كلام طويل، وآراءٌ عدة فراجعه في كتب الفقه. {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: أي وتلك الأحكام المذكورة التي تتصل بالنكاح والطلاق، والرجعة والخلع، وغير ذلك، هي حدود الله وأحكامه: يبينها بيانًا واضحًا مفصلًا، لقوم يعلمون حقها وأهميتها، فيحافظون عليها، ويتعهدون بتنفيذها. وذلك لا يدركه إلا عالم متدبر. أما الجاهل، فلا ينظر إلى العواقب، ولا يحافظ على حدود الله. وتكررت جملة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} في أحكام الطلاق، لإبراز أهميتها، وإظهار الذنب الكبير في مخالفتها. هذا حكم المطلقات ثلاثًا. أما غيرهن ممن طلقن واحدة أو اثنتين، فقد بين الله ما ينبغي اتباعه بقوله مخاطبًا الأزواج:

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} المفردات: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: أي قاربن نهاية عدتهن. والأجل - كما يطلق على المدة كلها - يطلق على آخرها: مجازًا. {لِتَعْتَدُوا}: أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، فرارًا من إمساكهن مع المضارة. {آيَاتِ الله}: المراد بها، هذه الآيات المشتملة على أحكام النساء. أو كل الآيات، وهذه داخلة فيها. التفسير 231 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُ وفٍ ... } الآية. والمعنى: وإذا طلقتم النساء طلاقًا رجعيًا، فقاربن انقضاءَ عدتهن - بالقروءِ. أو الأَشهر أو الحمل (¬1) - فأمسكوهن - بالمراجعة إلى عصمتكم - بمعروف، من غير إضرار بهن، إن رغبتم أن تستمر الحياة الزوجية بينكم. والمعروف: هو أن تقوموا بما يجب عليكم لهن من حسن العشرة والنفقة، وحسن المعاملة كما أمركم الله. أو سرحوهن بمعروف إن كرهتم البقاءَ معهن، وذلك بان تتركوهن ¬

_ (¬1) راجع تفسر الآية: 228 من البقرة، والآية: 4 من الطلاق.

حتى تنقضي عدتهنن مع أداء جميع حقوقهن المالية، من غير مشاحة ولا تجريح، على حد قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (¬1). {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارً الِّتَعْتَدُوا}: أي ولا تمسكوهن بالرجعة، مضارة لهن، لتعتدوا عليهن، بإلجائهن إلى الافتداء، أو تطويل عدتهن، حَبْسًا لهن عن الزواج من غيركم. روى مالك عن ثور بن زيد الدِّيلي: أن الرجل كان يطلق امرأته، ثم يراجعها، ولا حاجة له بها، ولا يريد إمساكها، كما يطوِّل بذلك العدة عليها، وليضارها. فأَنزل الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارً لِّتَعْتَدُوا}: وأخرج بن جرير وغيره عن السدي: أن رجلًا من الأَنصار يُدعى: ثابت بن يسار، طلق زوجته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر: يضارها. فأنزل الله تعالى هذه الآية. والنهي هنا، تأكيد للأمر قبله بالإمساك بمعروف، وتوضيح لمعناه، وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه، من تطويل عدتها على نحو ما بينه سبب النزول. فلا يحل له أن يراجع إلا إذا كان قد اعتزم العدل وأَراده. فإن تعذر قيام الحياة الزوجية، فلا يسوغ له أن يستأنفها: معاندة للزوجة، وعداوة لها. فإن ذلك اعتداءٌ وظلم، ولهذا قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}: أي ومن يفعل ذلك الإمساك المؤدي للضرار - اعتداءً وظلمًا في موطن الرحمة - فقد ظلم نفسه: بتعريضها لعذاب الله. أما قوله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}: ¬

_ (¬1) الأحزاب: 49

فهو تأكيد آخر، أي ولا تتخذوا آيات الله مهزوًّا بها: بمخالفتها وعدم تنفيذها، لعدم مبالاتكم بحقوق النساء، بل جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها من أحكام وتشريعات. وقيل: معنى اتخاذها هزوًا: إدعاءُ العبث والهزل، وعدم الجد فيما يقولون من عبارات ذات أحكام شرعية: كالطلاق، والرجعة، والعتق. روى أبو داود، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ هَزْلُهُنَّ جدَدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة". وعن أبي عمرة، وابن مردويه، عن أبي الدرداء قال: "كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت، ويعتق ثم يقول: لعبت. فنزلت". والآية على هذا عامة في جميع الأحكام. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}: أي واذكروا نعمة الله عليكم: بالإسلام والتزويج وجميع النعم. واذكروا كذلك ما أنزل عليكم من آيات الكتاب الحكيم، المنزل على رسولكم، المبين لما يسعدكم من الشرائع والأحكام. واذكروا أيضًا: ما أنزل عليكم من حكمة الرسول، وسنته التي بين بيها آيات الله وتشريعاته. {يَعِظُكُم بِهِ}: أي اذكروا ما أنزله عليكم من الكتاب والحكمة، والحال أنه يعظكم ويذكركم به: لتعملوا بمقتضاه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: فلا يخفى عليه شيءٌ مما تأتون وما تذرون، فيؤَاخذكم بما تعملون: من خير أو شر. ولا شك أن معرفة المسلم ذلك، توجب عليه الالتزام بأوامر الله، واجتناب ما نهى الله عنه، ليكون بذلك في وقاية من عذاب ربه: العليم بكل شيء. ثم أردف ذلك بمخاطبة أولياء الأُمور أو المؤمنين جميعًا فقال:

سبب النزول

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} المفردات: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: أي وصلن إلى نهاية عدتهن، تمامًا من غير نقصان. {فَلَا تعْضُلُوهُنَّ}: فلا تمنعوهن من الزواج. التفسير 232 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ... } الآية. سبب النزول: روى البخاري وغيره، عن معقل بن يسار قال: "كانت لي أُخت، فأَتاني ابن عم لها، فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ ثم خطبها مع الخُطَّاب، فقلت له: يا لكع، أكرمتك بها وزوجتكها: ثم طلقتَها، ثم جئتَ تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا. وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله هذه الآية. قال: ففيَّ نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني، وأنكحتها

إياه". وفي رواية "فلما سمعها معقل قال: سَمْعًا لربِّي وطاعة" ثم دعاه، فقال: أُزوجك وأُكرمك". المعنى: وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج، فبلغت المطلقات نهاية عدتهن، فلا تمنعوهن أيها الأَولياءُ، أن يتزوجن أزواجهن الذين طلقوهن، وصلا لما انقطع بينهم وبينهن، إذا وقع التراضي بينهم، بما عرف حسنه شرعًا ومروءة، فإن للزوجة حقًا ثابتًا في اختيار زوجها، لأَنها هي التي ستعيش معه. وكما يحرم العضل بالنسبة إلى زوجها الأول، يحرم بالنسبة إلى زوج جديد: تم بينهما تراض شرعي. {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: {ذَلِكَ}: النهي عن العضَل والإضرار، وما اتصل به من الأحكام. {يُوعَظُ بِهِ}: أي يذكر به. {مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: فيغلب جانب المصلحة على هوى نفسه، لأن شأن الإيمان: العمل بالأحكام، لهذا خص بالذكر. {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}: أي ذلكم الاتعاظ بما كلفتم به من ترك العضل، أعظم بركة ونفعًا، وأطْهر لكم ولهم عن الريبة والتهم، بسبب ما قد يحصل بينهما من صلات غير مشروعة. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: أي والله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع. {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك فاتبعوا أمره، واجتنبوا نهيه. ثم شرع في الحديث عن الولد وحقه بعد الحديث عن الزواج لأنه ثمرة له فقال:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} المفردات: {الْمَولْودِ لَهُ}: أبو الولد. فإن الولد يولد له وينسب إليه. {رِزْقُهُنَّ}: نفقتهن. {وُسْعَهَا}: الوسعة، الطاقة والاحتمال. {فِصَالًا}: فطامًا للولد عن الرضاع. {جُنَاحَ}: الجناح، الإثم. {أَن تَسْتَرْضِعُوا}: أن تطلبوا مرضعات لأَولادكم غير أُمهاتهم. التفسير 233 - {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ... } الآية. المعنى: أفادت الآية: أن الوالدات يرضعن أولادهن، وهذا خبر يراد به الندب والاستحباب، ما لم يمتنع الصبي عن الارتضاع من غير أُمه، أو لا يوجد له مرضع سواها، أو يعجز الواد عن الاستئجار، فإنه يكون واجبًا على الأُم، ويكون الخبر في الآية مرادًا منه الأمر لها إلزامًا.

والمراد بالوالدات في الآية: جميعهن، سواءٌ كن زوجات لآباءِ أولادهن الرضعاء، أو كن مطلقات منهم. وحتى لا يختلف الوالدان في مدة الرضاعة، بأن يريد الأب أن يقصر مدتها، حتى لا يمتد دفعة أجر الرضاعة، أو تعمل الأُم على إطالتها، انتفاعًا بأجر أكثر - حدَّد الله مدة الرضاع اللازمة للطفل، بقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنٍ}: سنتين كاملتين بالتقويم القمري: شأن ما فيه حكم زمني من شئون الإسلام. فمدة الرضاع: حولان كاملان تامان: ينفصل بهما النزاع. ذلك التوقيت بالحولين {لِمَنْ أَرَ ادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} والمقصود بمن أراد أن يتم الرضاعة: والد الطفل. فهو المكلف بالإرضاع. والأُم ترضع له. فاللام في قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} لبيان من تَوَجه إليه الحكم، وهو الأب. قال الشافعي: لا يلزم الإرضاع إلا والدًا أَو جدًّا وإن علا. وسيأتي مزيد بيان لذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}. وكون الإرضاع واجبًا على الأب أو الجد، لا ينافي أن يندب للأُمهات إرضاع أولادهن. وقد يجب عليهن، عند فقد المراضع أو وجودهن بأجر لا يطيقه الأب، أو امتناع الرضيع عن الرضاع من غير أمه كما تقدم. وقد دل قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} على أن إرضاع الحولين ليس حتمًا، وأنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه - كما قلنا - تحديد لقطع النزاع بين الزوجين في مدة الرضاع. فلا يجب على الأب إعطاءُ الأُجرة لأكثر من حولين، ما لم تكن حالة الطفل الصحية: تقتضي ضرورة الزيادة في الرضاع عليهما، فيجب عليه إعطاؤُها. وإذا أَراد الأب الفطم قبل تمام الحولين، ولم ترض الأُمّ - لم يكن له ذلك. ويجب أن تكون مصلحة الصبي مقدمة على كل اعتبار.

وإذا كنت قد عرفت أن توقيت الرضاع بحولين كاملين، الغرض منه قطع النزاع بين الزوجين، وأنه بيان لأقصى مدة الرضاع، عند اعتدال صحة الطفل، وأنه يجوز إنقاصهما إلى ما دون ذلك عند اتفاق الزوجين، واستعداد صحة الطفل للفطام قبلهما - فإنك - حينئذ - تعرف الحكمة في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ... } (1). فإننا إذا اعتبرنا الحمل تسعة أشهر - أو عامًا، كما يحدث في بعض الحالات - فإن مدة الرضاع - في سورة الأَحقاف - تنقص عن حولين كاملين، لأننا إذا نقصنا تسعة أشهر من الثلاثين شهرًا، كان الباقي للرضاع ثمانية عشر شهرًا: أي سنة ونصفا، وذلك شاهد بصحة ما قلناه - من أن تحديد المدة بحولين - لبيان أَقصى مدة للرضاع، كما أنه لقطع النزاع بين الزوجين، وليس للتحديد الملزم. ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وسيأتي الكلام عليه. وقد دلت الآية: على أن الحرمة بالرضاعة، لا تثبت إلا بالإرضاع أثناءَ الحولين، فتجعل للرضيع فيهما حرمة النسب، وهذا هو الصحيح. ومن العلماءِ من أثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين إلى شهر، وقيل: إلى شهرين. وقيل: إلى ثلاثة. وقيل: إلى ستة أشهر. وكل ذلك ضعيف لمخالفته نص الآية، ولحديث مالك في الموطأ: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُ وفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}: المراد بالمولود له: الأب، فإن الولد يولد له، ولم يعبر بالأب مع أنه أخصر: للدلالة على علة الوجوب مع ما فيه من معنى الانتساب، الذي تشير إليه اللام. ورزقهن: نفقتهن. وقد أوجبت الآية على الوالد أن ينفق على أُمِّ رضيعِهِ ويكسوَها، سواء أكانت زوجة له أم مطلقة منه، وذلك أجرة لها على إرضاع ولدهما. بهذا قال الشافعي.

وعند الأحناف: لا تأخذ الزوجة أرة على الرضاع، مادامت في النكاح، أو في العدة، اكتفاءً بنفقتها المشروعة لها. وكل من النفقة والكسوة واجبان حسب المعروف بين الناس، بلا إسراف ولا تقتير، بحيث تكون في وسعه وطاقته، كما يدل عليه قوله تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} فلا يلزم الوالد بما يشق عليه، بل يكون الأجر في حدود طاقته، ولا تلزم الأُم بالإرضاع دون أُجرة، أَوْ بأَجر غير كاف، لكي يستطيع كلاهما أن يقوم بأَعبائه نحو ولده. ومعنى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِهِ}: لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول له: اطلب مرضعًا، بعد أن ألفها الرضيع، ولا يضر مولود له - وهو الأب - زوجته المرضعة بسبب ولده، بأن يمنعها شيئًا مما وجب لها عليه من رزق أو كسوة، أو يأخذ منها الصبي - وهي تريد إرضاعه - أو يكرهها على الإرضاع. ومعنى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}: أن والد الرضيع - إذا مات - قام وارثه - بالرزق والكسوة: بالمعروف - لوالدته التي ترضعه. والمراد بوارث الأب: نفس الرضيع، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، فعلى جده لأبيه إن وجد، فإن لم يوجد، فعلى الأُم. وقيل: الوارث هو ذو الرحم المحرم: قرأَ ابن مسعود: {وَعَلَى الْوَارِثِ ذِو الرَّحِمِ الْمَحرمِ مِثْلُ ذَلِكَ} وقيل: عصباته. وقيل: المراد بالوارث: وارث الصبي. وفي الموضوع كلام طويل، يطلب من الموسوعات. ذلك حكم الرضاع وما يجب فيه: على الوالدة، والمولود له، والوارث. {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}: أي: فإن اراد الوالد والأُم فطام الرضيع - قبل تمام الحولين - فلهما ذلك، دون إثم عليهما أو حرج، بشرط أن يتم ذلك عن تراض وتشاور بينهما، دون إضرار بالرضيع. وهذا الحكم من رحمة الله تعالى بعباده، حيث أرشد الوالدين إلى ما يصلح للطفل، ثم قال:

{وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ}: يقول: وإن أَردتم - أيها الآباء - أن تسترضعوا مراضع أُخرى أَولادَكم غير الوالدات، لمصلحة الطفل، أو لأَي سبب آخر، فلكم ذلك، ولا جناح عليكم فيه، إذا سلمتم المراضع ما أردتم إيتاءَه من الأُجرة، بالوجه المتعارف المستحسن شرعًا، عن طيب خاطر، ليقمن بإرضاعه على خير وجه. وهنا يقول الزمخشري: أُمروا أن يكونوا - عند تسليم الأجر - مُسْتَبِشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: الخطاب في {وَاتَّقُوا اللَّهَ} للآباءِ والأُمهات. فيما فرض عليكم فلا تظلموا. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: فلا تخفى عليه خافية من أحوالكم وأقوالكم، فاحذروا أن تخالفوا عن أمره، فلستم بمعجزيه. وفي الآية - من التهديد والتحذير - ما لا يخفى. ولما انتهى من الطلاق وعدته، والولد - وما يجب له - شرع يبين عدة المتوفَّى عنها زوجها، فقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} المفردات: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}: جمع زوج. ويستوي فيه المذكر والمؤَنث. والمقصود هنا - الزوجات، أي: يتركون زوجات لهم في عصمتهم وقت الوفاة. {يَتَربَّصْنَ}: ينتظرن في بيت الزوجية.

التفسير 234 - {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... } الآية. أي: والرجال الذين يموتون منكم - أيها المسلمون - ويتركون زوجات، يجب عليهن أن ينتظرن بعدهم بدون زواج، أربعة أشهر وعشر ليال بأيامها، وتسمى هذه المدة: عدة الوفاة. ويستوي في قضاء هذه المدة كل زوجة: صغيرة كانت أو كبيرة: مدخولا بها، أو لا: وقال ابن عباس: لا عدة لغير المدخول بها. وهو محجوج بعموم اللفظ. وتكون المعتدة بعيدة عن الطيب والزينة أَثناءَ عدتها. وتمكثها في منزل الزوج، إن تيسر لها ذلك. ولها الخروج لحاجتها على هذه الحال نهارًا. وهذه المدة لغير الحامل. أما الحامل، فعدتها تنتهي بوضع الحمل، ولو كان ذلك يعد لحظة من الوفاة، لقوله تعالى: {وَأُلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). وهذا هو رأي الجمهور. ويرى الإمام علي - وبعض الفقهاء - أن تمام عدتها: أبعد الأجلين. جمعًا بين الآيتين. والجمهور: على الأول. فقد صح أن آية الطلاق، نزلت بعد هذه الآية - كما رواه البخاري وغيره. ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لو ولدت وزوجها على سريره لم يُدفَنْ، لَحَلَّتْ". وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى لسبيعة الأسلمية بذلك. ¬

_ (¬1) الطلاق: 4

والحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا - كما قال بن الأثير - احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظرته - هذه المدة - ظهر إن كان موجودًا. كما جاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُم يُجمَعُ في بطن أُمه أربعين يومًا نُطفةً، ثم يكونُ عَلَقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغةً مثل ذلك، ثم يُبْعَثُ إليه الْمَلَكُ فينفُخُ فيه الروحَ". فهذه أربعينات بأربعة أشهر. والاحتياط بعدها، لما قد ينقص من بعض الشهور، وانتظارًا لِظُهور الحركة بعد نفخ الروح فيه. والله أعلم بأسرار أحكامه. {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: أي: فإذا بلغن أجلهن، واستوفين عدة الوفاة الواجبة عليهن - كاملة دون نقص - واستبان حال الرحم، فلم يكن فيه حمل - فلا جناح عليكم - أيها الأولياء المسلمون - فيما فعلن في أنفسهن من زينة وغيرها، مما مُنِعْنَ عنه إِبَّان فترة العدة، إن كُنَّ قد فعلن ذلك بالمعروف، في حدود الشرع الشريف، بأن لم يخرجن عن حدوده، فإن خرجن عنه، فالإثم عليكم أيها الأولياءُ، لأن مراقبتهن واجبة عليكم. وحداد الزوجة على زوجها - أي ترك الزينة والطيب ونحوه - واجب عليها مدة عدتها التي حددها الله - تعالى - كما ثبت في الصحيحين من غير وجه، من أُم حبيبة وزينب بنت جحش: أُمَّيِ المؤمنين رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر: أن تَحُد على ميت فوق ثلاث، إلى على زوجٍ أربعة أشهر وعشرا". وهذا هو رأي جمهور العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيءٍ، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب. وهذا رأي ضعيف لمخالفته للسنة. ثم ختم الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: أي والله عليم بامتثالكم أمره أو مخالفته، مجازٍ لكم حسب عملكم، فاحذروه.

وبذلك حملت الآية المسلمين - جميعًا - مسئولية حماية الآداب العاملة، حفاظًا على المجتمع الإسلامي الفاضل. ثم أتبع ذلك بيان الطريق المستقيم، لمن أراد الزواج بمن توفى عنها زوجها أو غيرها من المعتدات، فقال: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} المفردات: {عَرَّضْتُم}: التعريض والتلويح: إيهام المقصود بما لم يوضع له، حقيقة أو مجازًا. كقولك: جئتك لأسلم عليك، تلويحًا بأنك جئت لطلب دين أو عطاءٍ ممن تخاطبه. {خِطْبَةِ النِّسَاءِ}: طلبهن للزواج قبل العقد. والمقصود هنا من النساءِ: المعتدات عن وفاة، بقرينة الآية السابقة، فأل فيه للعهد. {أَوْ أَكْنَنتُمْ} أَو أخفيتم. {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}: لا تواعدوهن - في العدة - زواجًا. {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}: ولا تقصدوا قصدًا جازمًا تنفيذ عقده.

التفسير 235 - {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ... } الآية. المعنى: ولا إثم عليكم - أيها المسلمون الذين تريدون خطبة أُولئك المعتدات - أن تُعرِّضوا بخطبة النساءِ، وتشيروا إليها - أثناء عدتهن من وفاة أزواجهن -: بأن يقول الرجل للمرأة قولا تفهم منه عرضًا أنه راغب فيها. وذلك كما رواه البخاري وغيره، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إن أُريد التزوج، وإن لأُحب امرأَة من أمرها وأمرها - يعرض لها بالقول المعروف - وإن النساءَ لمن حاجتي، ولودِدتُ أن اله كتب لي امرأَة صالحة". أما التصريح بخطبتها، فلا يجوز. هكذا حكم المطلقة المعتدة في طلاق بائن. فقد ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس. حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حَفْصٍ آخر ثلاث تطليقات. فقد أمرها بأن تعتد في بيت أُم مكتوم. وقال لها: فإِذا حللت فأْذنيني. فلما حلت، خطبها لأُسامة بن زيد مولاه، فزوجها إياه. أما المطلقة الرجعية، فلا خلاف في أنه لا يجوز في عدتها التصريح ولا التعريض بخطبتها. وكما لا إثم عليكم في التعريض بخطبة المعتدات عن وفاة، فلا إثم عليكم إذا أخفيتم - في قلوبكم - نكاحهن بعد مضي عدتهن، ولم تعرضوا بخطبتهن أثناءَ عدتهن. ثم ذكر حكمة الترخيص بذلك فقال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}: أي علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم، ورخص لكم - فيما ذكر - من التعريض بالخطبة، وكتمان النكاح في أنفسكم.

ثم نهى عن التصريح بخطبتهن فقال: {وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}: هذا استدراك على مقدر. فكأنه قيل: فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرًّا. والمراد بالسرّ هنا: النكاح، وأطلق عليه السرّ لأنه، يخفي وراءَه ما هو سر، وهو المباشرة. أو المعنى: لا تواعدوهن ما هو سرّ في أنفسكم من الزواج بهن. والمقصود: نهيهم عن التصريح بالزواج والوعد به، أثناء العدة. ثم استثنى من ذلك قوله: {إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا}: أي لا تواعدوهن نكاحًا مواعدة ما، إلا مواعدة بقول معروف، وهو ما كان بالتعريض. وهذا تصريح بما فهم من قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم} إلخ، لغرض التأكيد. ثم قال ناهيًا - عن الزواج في العدة بأبلغ وجه -: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}: أي: لا تقصدوا - قصدًا جازمًا - تنفيذ عقد النكاح، حتى ينتهي ما كُتِبَ وفُرِضَ من العدة. وإذا كان قد نهى عن العزم على العقد قبل فراغ العدة - فالنهي عن العقد من باب أولى. ومن المعلوم أن عقد النكاح - في زمن العدة - باطل. والمباشرة - حينئذ - زنى. والتفريق بينهما واجب. ثم ختمت الآية بهذا التحذير: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ}: من جميع الخواطر والعزائم، ومنها الرغبة فيهن، أو الميل إلى مخالفة ما نهاكم الله عنه.

{فَاحْذَرُوهُ}: أي فاحذروا الله وخافوا أن تخالفوا أمره. ثم لم يقنطهم من رحمته ومغفرته، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}: لمن أذنب ثم تاب ورجع. {حَلِيمٌ}: لا يعجل بعقوبتكم إن أذنبتم، لعلكم تثوبون إلى رشدكم، فتتوبوا إلى ربكم. وتكرير {وَاعْلَمُوا} للاعتناء بشأن الحكم. ولا يخفى ما في ختام الآية من سعة رحمة الله تعالى. {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} المفردات: {تَمَسُّوهُنَّ}: المسّ هنا، الجماع. {أَوْ تَفْرِضُوا} أو هنا، بمعنى الواو. {فَرِيضَةً}: الفريضة، المهر. {وَمَتِّعُوهُنَّ}: المتعة، مقدار مالي، تُعطاه المطلقة قبل الدخول، قُصِدَ به أن يكون تعويضًا لها عما فاتها من زوجها، وجبْرًا لها، لما نالها من انكسار النفس. {الْمُوسِعِ}: الغَنِيُّ. {الْمُقْتِرِ}: الفقير. {قَدَرُهُ}: طاقته وسعته.

التفسير 236 - {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ... } الآية. {أَو} في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا} بمعنى الواو، كما في كقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬1) أي وكفورًا. المعنى: لا إثم عليكم أيها الأزواج، إن طلقتم الزوجات قبل الدخول بهن وفرض مهرٍ لهن. أو: لا تبعة عليكم من المال، إن طلقتموهن عند انتفاء مباشرتهن وتقدير مهر لهن. وقيل: {أَو} هنا بمعنى: إلا. والمعنى - على ذلك - ولا تبعة عليكم من المال عند عدم الدخول بهن، إلا أن تفرضوا لهن فريضة من المهر. ولكن {أَوْ} بمعنى الواو، هو الأنسب، لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}: فإن المعنى: ومتعوا المطلقات عندما يجتمع لهن أمران، عدم الدخول بهن، وانتفاءُ تقدير مهر لهن: على الغني ما يقدر عليه، وعلى الفقير ما يقدر عليه. وهذه المتعة، جبر لما أصابهن من الحرمان، وهي واجبة - في هذه الحالة - عند كثير من فقهاء السلف، ومنهم علي بن أبي طالب، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والزهري وغيرهم، وقال بعض الفقهاء: إنها مندوبة. فالآية ظاهرة في الرأي الأول. أما غيرهن من المطلقات: فالمتعة مندوبة في حقهن عند الجمهور. وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوبة في كل مطلقة - وإن دخل بها - إلا في التي لم يدخل بها، وقد فرض لها - فحسبها ما فرض لها، وهو نصف المهر المسمى. ولا متعة لها. ¬

_ (¬1) الإنسان: 24

وليس للمتعة حَدٌّ معروف في الكتاب أو السنة. ولكنها - على ما قال الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}: وقال ابن عمر: أدنى ما يجزيءُ في المتعة ثلاثون درهمًا. {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}: أي تمتيعًا بما عرف حسنه شرعًا ومروءة. {حَقًّا}: ثابتًا على من ينبغي له أن يحسن إلى نفسه - وهو المكلف - بالمسارعة إلى الامتثال. وإطلاق وصف {الْمُحْسِنِينَ} على المكلفين، للترغيب والتحريض. {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} التفسير 237 - {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِ يضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ... } الآية. هذه الآية مسوقة لبيان حكم من سُمِّي لها مهر. والمعنى: وإن طلقتموهن، من قبل الدخول بهن - الحال أنكم قد فرضتم لهن صداقًا معلومًا - فواجب عليكم أن تؤدوا نصف ما فرضتم لهن.

{إِلَّا أَن يَعْفُونَ}: يعني: أن هؤُلاء المطلقات - قبل الدخول، وقد سمى لهن صداق - يجب لهن نصفه إلا في حال عفوهن، وتجاوزهن عنه، أو عن بعضه للزوج الذي أوقع الطلاق. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}: المراد بهذا: الزوج. فهو الذي بيده أمر عقد النكاح، إن شاءَ أبقاه، وإن شاء أبطله بالطلاق. ومعنى عفوه: أن يترك - تكريمًا - ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كله إلى من طلقها، أو يعطيه إليها إن لم يكن أعطاه من قبل. وقيل: المراد بمن بيده عقدة النكاح: هو ولي المرأة المطلقة الذي لا تتزوج إلا بإذنه، فإن له العفو عن نصف مهر البكر إذا طلقت، وإن لم تبلغ الحيض. والتفسير الأول وهو المأْثور. وبه قال جمع من الصحابة. وهو الأَنسب لقوله تعالى: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}: الخطاب هنا للرجال والنساء، على ما رآه ابن عباس. أي وأن تعفو المطلقات عن حقهن في النصف، لأن الأَزواج لم يدخلوا بهن، وأن يعفو الأَزواج بالزيادة على النصف، جبرًا لخاطر المطلقات قبل الدخول - أقرب للتقوى. والباديءُ بالفضل أكرم. فإن إسقاط حق الغير، ليس من التقوى. (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ): أي لا تجعلوا الفضل بينكم كالشيء المنسي، بأن تتركوا التعامل به بينكم. والفضل - كما قال مجاهد - إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: أي بجميع أعمالكم ومجازيكم عليها. ثم عقب هذا، بالأمر بالمحافظة على الصلاة، لأَنها تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، وتوجب العمل بما تقدم من التكاليف.

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} المفردات: {الْوُسْطَى}: تانيث الأَوسط، وهي الفضلى، ووسط الشيءِ: خيره وأعدله. {قَانِتِينَ}: القنوت، الطاعة والعبادة. وأصله الدوام على الشيءِ. ومن هنا سمى المداوم على الطاعة: قانتًا. التفسير 238 - {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}: المعنى: أمر الله بالمحافظة على الصلاة في هذه الآية الكريمة، فأصبح الناس - بهذا الأمر الكريم - مكلفين بتنفيذه: وقتًا فوقتًا. والمحافظة عليها، تقتضي أداؤُها في أوقاتها: مستكملة لأركانها وشروطها: مشتملة على الخشوع والخضوع حين أدائها، تعظيمًا لله - تعالى - الذي يقف المصلي بين يديه، حتى تأتي بالغاية المنشودة التي شرعت من أجلها، وهي أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فإن العبد فيها يناجي ربه، ويقف بين يديه خمس مرات في اليوم والليلة. فإذا كان خاشع القلب فيها - استحيى أن يقف بين يدي مولاه عاصيًا. وأمر أيضًا: بالمحافظة على الصلاة الوسطى. ورجح بعض العلماء أنها صلاة العصر، لما أخرجه مسلم، عن علي - كرم الله وجهه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم نارًا". وخصت بالذكر، لأَنها تقع وقت اشتغال بعض الناس - ولا سيما العرب - أو وقت الراحة والكسل، بالنسبة إلى طائفة أخرى من الناس. وسميت الصلاة الوسطى، لتوسطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل.

وقيل: المراد بالوسطى: المتوسطة كيفية: بين الإفراط والتفريط، حتى لا يمل الناس الصلاة إن أفرطت في الطول، ولا تكون كنقر الغراب إن فرط في كيفيتها. {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}: القيام هنا، مراد منه: الاهتمام والتشمير عن ساعد الجد، من قولهم: قام فلان بالأمر خير قيام، إذا أداه أحسن أداءٍ. أي: شمروا عن ساعد الجد في الصلاة، لأجل الله وحده، بلا رياء ولا سمعة، خاضعين لله خاشعين. {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} المفردات: {خِفْتُمْ}: الخوف، الفزع من أي مصدر يبعث عليه. {فَرِجَالًا}: جمع راجل، أي فَصَلُّوا راجلين. {أَوْ رُكْبَانًا}: جمع راكب، أي راكبين على الإبل وغيرها، مما يركب، كالمصفحات والدبابات وغيرها. التفسير 239 - {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ... } الآية. لما أمر الله - في الآية السابقة - بأداء الصلاة يف حال القنوت، وهو السكينة والخشوع: حيث يكون الأمن والطمأنينة، أتبعه ببيان أدائها حال الخوف الطارئة، للإيذان بأنها لا تسقط عن العبد، بأي حال. والمعنى: هذه الصلاة المبينة في الآية، رخصة لنا في حال الخوف، سواءٌ كان سببه عدوًّا مقاتلا مسايفًا، أو كان سبعًا، أو عدوًّا يتبعه ليسرقه أو يقتله، أو سيلا يخاف الغرق منه، أو نحو ذلك.

ففي كل هذه الأحوال، يصلي الخائف فردًا بلا جماعة، سواءٌ أكان راجلًا أي ماشيًا على قدميه، أم كان راكبًا على أية وسيلة من وسائل الركوب، كالدواب وما استحدثه المخترعون من وسائل الانتقال المختلفة: برًّا وبحرًا وجوًّا، وتكون قبلته حيثما توجه، ويتقلب ويتصرف - بحسب نظره - في نجاة نفسه. ولا يلزمه ركوع ولا سجود إذا كان هذا يضره، ويكفيه عنهما الإيماء بالرأس، بطريقة لا تعرضه للتهلكة. أما الصلاة التي يكون فيها إمام، وينقسم فيها الناس، فهي غير هذه، وسيأْتي بيانها في سورة النساء، في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1). ولا ينقص عدد ركعات صلاة الخوف عن صلاة المسافر، وهي ركعتان في الرباعية، واثنتان في الصبح، وثلاث في المغرب. هكذا قال مالك، والشافعي، وجماعة من العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعةً إيماءً. روى مسلم، عن بكير بن الأخنس عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "فرض الله الصلاة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة". وضعف هذا الرأي، بأن الأخنس انفرد بهذا الحديث، وليس بحجة عند الانفراد. والصلاة أولى ما يحتاط فيه. {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}: أي فإذا زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة، فاذكروا الله بالشكر، لأجل تعليمه إياكم مالم تكونوا تعلمونه، من صلاة الخوف التي وقع بها الإجزاءُ، ولم تفتكم صلاة من الصلوات، فإن صلاة الخوف المذكورة: هي التي لم يكونوا يعلمونها من قبل. وهذا كما يقول لك قائل: اشكر معلمك كما علمك. أي لأجل ما علمك من العلم، فالكاف للتعليل. ¬

_ (¬1) الآية: 103

وقيل إنها للتشبيه: والمعنى: فاذكروه تعالى بأن تشكروه شكرًا يماثل تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع، وكيفية الصلاة: حالتي الأمن والخوف. والمعنى الأول أنسب. ويجوز أن يكون المعنى: فإذا زال خوفكم، فصلُّوا لله صلاة الأمن، كما علمكم من شأنها ما لم تكونوا تعلمون على لسان نبيه، حيث عرفتم كيفيتها منه، ولم يكن لكم بها علم قبل هذا. والكلام جار مجري الامتنان من الله عليهم بذلك، فقد كانوا من قبل يعبدون الأوثان ولا يعرفون هذه العبادة. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} التفسير 240 - {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُ ونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ... } الآية. الربط: بعد أن ذَكَّر الله المؤمنين بوجوب المحافظة على الصلاة: في حالتي الأمن والخوف، عاد إلى ذكر أحكام أُخرى لمن توفى عنهن أزواجهن من النساءِ. وتوسيط الصلاة - بين تلك الأحكام المتجانسة - لأَنها أهم وسيلة في تقوى الله: التي تقتضي تنفيذ هذه الأحكام. المعنى: والذين يتوقَّعون قرب الوفاة منكم أيها المسلمون، ويتركون بعدهم زوجات: كتب الله عليكم أيها الأَزواج - قبل الاحتضار - وصية لهن: بأن يُمتعن بعدكم - بالنفقة

والسكنى - إلى نهاية عام كامل بَعْدُ الوفاة، غير مخرجات من مساكنهن طيلة الحول، أي لا يخرجهن منه أَولياءُ الميت. وسيأتي مزيد بيان لذلك، بعد الفراغ من شرح الآية. {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ}: يعني: فإن خرجن باختيارهن من مسكن عدة الوفاة - قبل تمام الحول - فلا إثم على أحد من ولي أو حاكم أو غيره - فيما فعلن في أنفسهن من معروف لا ينكره الشرع، كالتطيب والتزين للخطَّاب وترك الحداد، أو لا إثم عليكم في ترك منعهن عن الخروج، أو قطع النفقة عنهن. وقد دلت الآية: على أنهن كن مخيرات بين ملازمة المسكن حولا وأخذ النفقة فيه، وبين الخروج وتركها. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي والله قوي غالب على أمره ينتقم ممن خالف شيئًا من هذه الوصايا والأحكام. {حَكِيمٌ}: يرعى مصالح عباده. وقد دلت هذه الآية: على أن المتوفَّى عنها زوجها: تتربص في بيت زوجها عامًا كاملًا، ينفق عليها فيها، من مال المتوفى. وظاهر ذلك: أنها منافية لما سبق تفسيره من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وقد ذهب جماعة في التوفيق بينهما: إلى أن هذه منسوخة بالتي قبلها. فهي - وإن تأخرت تلاوة - فهي متقدمة في النزول على الآية السابقة. وقالوا في كلامهم: إن المتوفى عنها زوجها: كانت تجلس في بيته حولًا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة

عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساءِ. قاله ابن عباس، وقتادة، وغيرهما. وذهب آخرون إلى عدم النسخ، وسلكوا طريقًا آخر في التوفيق بينهما. قال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها. والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرًا. ثم جعل الله لهن وصية منه: سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة - هي تمام الحول - فإن شاءَت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءَت خرجت. وتلك الوصية - على سبيل الإحسان والندب - قائمة لم تنسخ. قال القرطبي: ما ذكره الطبري عن مجاهد، صحيح ثابت. خَرَّج البخاري عن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال: كانت هذه العدة، تُعْتَد عند أهل زوجها واجبًا (¬1) فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {مِن مَّعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية: إن شاءَت سكنت في وصيتها وإن شاءَت خرجت. وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} المفردات: {مَتَاعٌ}: المتاع، ما يمنحه الأَزواج للمطلقات، تطييبًا لنفوسهن. ¬

_ (¬1) أي أمرًا واجبًا.

التفسير 241 - {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ... } الآية. أي لجميع المطلقات - سواءٌ كن مدخولا بهن أم لا - متاع. وينقسم هذا المتاع إلى قسمين: واجب، ويكون للمطلقة قبل الدخول، ولم يكن سمى لها مهر. وقد مرَّ بيانه في الآية (236) من سورة البقرة. ومندوب: في غيرها. وأَوجبه - في الجميع - سعيد بن جبير، وأبو العالية الزهري. وقيل: المراد بالمتاع: نفقة العدة للمعتدات. ومعنى كون هذا المتاع {بِالْمَعْرُوفِ}: أي يكون حسب العرف بين الناس، وبحيث يكون على نحو ما قال الله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (¬1). ثم أكدت الآية الكريمة هذه المتعة فقالت: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}: أي: متاعًا قد حقه الله وأثبته على المتقين لربهم، المسارعين إلى امتثال أمره - تعالى -. والتعبير بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} مع أنه حق على الجميع، قصد منه: الترغيب في البذل والإحسان، وترقيق القلوب: بالإيذان بأنه من الطاعات التي يتحلي بها المتقون، ويحفظون بها أنفسهم من عقاب الله. 242 - {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: مثل هذا البيان الواضح، لأحكام النكاح، والطلاق، والعدة بأنواعها، والمتعة، وغير ذلك - يبين الله لكم آياته - كلها - في شريعته، لكي تدركوا أسرارها، وتعقلوا أغراضها، فتنفذوها عن يقين واقتناع. ¬

_ (¬1) البقرة: 236

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} التفسير 243 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ... } الآية. {أَلَمْ تَرَ}: كلمة تُذكَر لمن يعلم ما بعدها، لتعجيبه وتذكيره، وتقرير موضوع التعجيب بأهل الكتاب، وقراء التاريخ. وتُذكَر - أيضًا - لمن لا يكون له علم بذلك، لتعريفه وتعجيبه، وللتقرير كذلك. وقد اشتهرت في خطاب من لا يعلم، حتى أُجريت فيه مجرى الأمثال، بأن يشبه حال من لم ير الشيءَ بحال من رآه، في: أنه لا ينبغي أن يخفي عليه، وأنه ينبغي أن يتعجب منه. ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأي، قصدًا إلى المبالغة في شهرته. والخطاب فيه هنا، لمن يعلم ولمن لا يعلم ويتأَتى منه العلم، للأَغراض السابقة. والرؤية فيه علمية، وتعدت بإلى في قوله: {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} لتضمينها معنى الوصول والانتهاءِ. والمعنى: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف - وكانوا فوق عشرة آلاف - لأن العشرة فما دونها جمع قلة، فيقال فيها: آلاف، ولا يقال أُلوف، إلا لجمع الكثرة، الذي يزيد على العشرة ..

ولذا، روى عن ابن عباس: أنهم كانوا أربعين ألفًا، كما في بعض الروايات عنه. وكان خروجهم بهذه الكثرة، خوفًا من الموت، حذرًا منه، مع أن الحذر لا يمنع القدر، فإذا جاءَ أجلهم معًا - أو متفرقين - لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. ويرى بعض المفسرين: أَن هذه الآية الكريمة: تنبئنا عن قوم من بني إسرائيل، دُعوا إلى الجهاد في سبيل الله، فخرجوا من ديارهم فرارًا منه، حتى لا يموتوا - مع أنهم كانوا أُلوفا، فلا ينبغي لهم أن يفروا - لأن من عادتهم أن يجبنوا عن القتال، كما حدث عندما أمرهم موسى - عليه السلام - بقتال الجبارين، فقالوا له: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (¬1). فأماتهم الله جميعًا، عقابًا لهم على فرارهم، ثم أحياهم ليبين لهم قدرة الله عليهم، وأنه لا ينفعهم الفرار من القتال، إن كان الموت فيه مكتوبًا عليهم، فقد يموت المرءُ بدون قتال كما حدث لهم. ويقول صاحب هذا الرأي: إنه - تعالى - بعد أن أحياهم، أمرهم بالجهاد بقوله لهم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} (¬2) لعلهم يعتبرون بذلك، فيخلصوا في الجهاد. وقال ابن عطية منكرًا لهذا وأمثاله من القصص: وهذا القصص كله لين الأسانيد. وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا - هم وكل من خَلَفَ من بعدهم - أن الإماتة إنما هي بيد الله - تعالى - لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وقد جعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره للمؤمنين من أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد. هذا قول الطبري. وهو ظاهر معنى الآية. ¬

_ (¬1) المائدة: 24 (¬2) البقرة: 244

ويرى الشيخ محمد عبده: أن هذا مَثَلٌ لا قصة واقعية، وأن الموت هنا مجازي. وخلاصة رأيه: أن هؤلاءِ القوم فروا أمام أعدائهم دون قتال، وتركوا أوطانهم غنيمة للأعداءِ، فعاشواء أذلاءَ مشردين، في حياة أشبه بالموت. فلما عرفوا جنايتهم على أنفسهم - عادو إلى جهاد أعدائهم، وتحرير أوطانهم، فاستردُّوا كرامتهم، وعاشوا حياة كريمة جديرة بالمجاهدين الأبطال. ويرى آخرون: أنها تتحدث عن قوم نزل ببلادهم وباءُ الطاعون، فعمها بأَسباب الموت، فظنوا أن فرارهم من هذا الوباءِ، سيكفل لهم النجاة من الموت، فأَماتهم الله عقابًا لهم، فلكل أجل عن الله كتاب وقدر. وقد فاتهم أنهم سينقلون معهم وباء الطاعون، إلى بلاد خالية منه. وتلك جريمة أُخرى. وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا السُّقم، عُذِّب به الأُمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع - بأرض وأنتم فيها - فلا تخرجوا فرارًا منه ... " إلخ. أخرجه الإمام أحمد عن عمر. ولِلشَّيخين نحْوهُ. وهذا الإرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - مطابق لأحدث النظم الصحية، وهو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي. والتعبير بقوله - تعالى -: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}: إما على ظاهره، وإما مجاز عن تعليق إرادة الله تعالى بموتهم دفعة واحدة. وقيل: هو تمثيل لإماتتهم ميتة نفس واحدة، في أسرع زمان، بأمر مطاع لمأمور مطيع. والله يعلم مقدار المدة التي ظلوا فيها أمواتًا. ولكنها لابد متراخية فترة عن إماتتهم، كما يوحي به العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}: أي ثم أعادهم الله إلى الحياة مرة أُخرى، بعد فترة موت، ليستوفوا آجالهم، وليؤمنوا بقضاء الله وقدره، وليكونوا عبرة يعتبرون بها هم وغيرهم، وليظهر فضل الله الذي عبر عنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}: بما أَنعم به عليهم من نعمة الخلق، ونعمة البقاء والرزق، وبما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، التي تنفعهم في دينهم.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}: فَضْلَ الله عليهم، بالاعتراف بهذه النعم، والعمل بوجبها. هذا وقد تناول الإصحاح السابع والثلاثون، من سفر حزقيا، هذه القصة. فارجع إليه إن شئت. وكذلك راجع هذا التفسير للآية (259) من البقرة. وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأَ من الله إلا إليه، فإن هؤُلاءِ فروا من الموت طلبًا للحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءَهم الموت من حيث لا يشعرون، وظهر لهم أنهم قد فروا من قضاء الله إلى قضاء الله. {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} المفردات: {سَبِيلِ اللهِ}: السبيل، الطريق، يذكَّر ويؤنَث. وإذا أُطلق، انصرف إلى الجهاد. {يُفْرِضُ}: الإقراض، إعطاءُ شخص ما لا لغيره، ليرده إليه بعد حين. {يَقْبِضُ}: يُضيِّق على من يشاءُ في الرزق. {وَيَبْسُطُ}: يُوسِّع على من يشاءُ. التفسير 244 - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: هذه الجملة معطوفة على جملة {أَلَمْ تَرَ} من جهة المعنى، فإن {أَلَمْ تَرَ} بمعنى: انظروا وتفكروا.

وإنك لترى الأمر بالجهاد منثورًا في هذه السورة، ضمن آيات الأحكام، مذكرًا به من آن لآخر، لأنه من أشق التكاليف، وعليه يدور بقاءُ هذا الدين، الذي يتربص به أعداؤُه. فلو لم يجاهدوهم لهلكوا، وضاع دينهم. وقد بدأَ الحديث عن الجهاد - في هذه السورة - بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ} (¬1) حتى وصل إلى هذا التكليف الكريم، ثم ينتهي في آخر السورة: بالحث على الإنفاق في سبيله. والخطاب هنا، لأُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والجهاد في سبيل الله: هو ما كان لإعلاء كلمة الله، فلا يكون الجهاد في سبيل الله، إلا إذا كان همُّ المقاتل ومقصده - إحياء دينه ونشره والدفاع عنه. فإن لم تكن تلك نيته، فإنما يقاتل لأمر دنيوي. ومن كان كذلك، لا يحصل على الثواب العظيم: الذي أعده الله لمن يجاهدون في سبيله. وفي مضمون الآية الكريمة: تحذير لكل مسلم من أن يجبن عن القتالِ حذر الموت، بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: فإن الموت قدر لابد منه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬2). إذ الموت أجل يبلغه المرءُ فيموت: سواءٌ أكان على فراشه، أم كان في حرب ضروس. كما أن فيها رمزًا إلى وعدهم بحسن الجزاء. وكأَنه يقول: واعلموا أنه سميع عليم، فلا يخفى عليه مجاهد أو قاعد. فمن قعد عنه، عوقب أشد العقاب. ومن جاهد، جوزي أعظم الجزاء. ثم حرَّضهم على الإنفاق في سبيل الله بأموالهم، بعد أن أمرهم ببذل أنفسهم، فقال: 245 - {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ... } الآية. ¬

_ (¬1) البقرة: 156 (¬2) الجمعة: 8

بهذا الأسلوب الاستفهامي البليغ، يدفعنا الله - تعالى - دفعًا إلى المشاركة بالمال، في الإعداد للقتال: إعدادًا نرهب به عدو الله وعدو دينه، لتكون كلمة الله دائمًا هي العليا. وقد صورت الآية إعطاءَ الباذل ماله في سبيل الله: يبتغي ثوابه، بصورة تقديم قرض إلى مقترض، للإيذان بأن ثوابه محقق، ولازم لزوم أداءِ الدين .. وفي الآية: لطف من الله بعباده، وتوثيق لثوابه، وأنه لازم الأداء: تفضلًا منه وتحقيقًا لوعده الذي لا يتخلف، حيث جعل نعمته التي أنعم بها على عباده - إذا أنفقوا في سبيل الله - كأَنها قرض يقدمونه له - سبحانه - مباشرة، مع أنه غني عن عباده، فهو الذي يقول: {وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} (¬1). والمراد يكون القرض حسنًا: أن يكون الغرض منه وجهَ الله، لا الرياء والسمعة، وأن يكون حلالًا طيبًا. ومع أن القرض مع الناس يؤَدي بمثله، فإنه - تعالى - بيّن لعباده أن القرضَ معهَ يؤدي مضاعفًا، إذ قال: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}: عوضًا عن هذا القرض الذي قدموه خالصًا لله. وتلك المضاعفة، تكون في وقت تشتد فيه حاجتهم إلى هذا الربح الوفير، وهو يوم القيامة. وقد بيَّن الله هذه المضاعفة في أواخر السورة إذ يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي يضيِّق الرزق على بعض، ويوسعه على بعض، أو يضيقه تارة، ويوسعه أُخرى، حسبما تقتضيه الحكمة. وإذا علمتم أنه - تعالى - واهب الأرزاق، يوسعها ويضيقها كما يشاءُ، وأن ما عندكم هو من بسطه وعطائه، فأنفقوا مما وسع عليكم، ولا تبخلوا بما هو من فضله، فإنه مجازيكم على إنفاقكم جزاءً مضاعفًا، حسبما وعدكم. ¬

_ (¬1) محمد: 38 (¬2) البقرة: 161

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} المفردات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ}: الملأُ من القوم، وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه. سموا بذلك، لأنهم يملأون القلوب مهابة، والعيون حسنًا وبهاءً، والمقصود به هنا - وفي كل القرآن - الرجال: كالقوم، والرهط، والنَّفر. والرؤْية - هنا - علمية كسابقتها: ضمنت معنى الانتهاء. فعديت بحرف الجر {إِلَى}. والاستفهام: للتعجيب والتشويق لهذه القصة. ومعنى {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}: فقد قاربتم عدم القتال إن كتب عليكم كما يتوقع منكم، فعسى للتوقع. والمراد: تقرير أن المتوقع منهم كائن. ولابد من وقوعه. التفسير 246 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَ ائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. كان العبرانيون جيرانًا لبني إسرائيل. وكان يحكمهم ملك يُقَالُ له: جالوت - ولما فسق بنوا إسرائيل، وقتلوا أنبياءَهم - سلطهم الله عليهم، فهزموهم، وظهروا عليهم، وأخذوا كثيرًا من بلادهم، وأسروا من أشرافهم عددًا كبيرًا، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، واستباحوا نساءَهم. فلما رأوا ما حلّ بهم - عادوا إلى رشدهم، وقالوا لنبيهم يوشع - عليه السلام -: أقم علينا ملكًا يضم شتاتنا، وتنصاع له جماعتنا، ونقاتل

تحت لوائه في سبيل الله وشريعته، وفقد كفانا ما لقيناه من ذل الهزيمة والاستعباد. وكان الملك فيهم هو الذي يسير بالجموع. أما النبي، فهو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه، فيطيع الملك أمره كسائر بني إسرائيل. والخطاب في قوله {أَلَمْ تَرَ}: لكل من تتأتي منه الرؤية والعلم. (¬1) {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا}: هل: هنا - للتحقيق فهي بمعنى {قد}، و {عسى} تفيد التوقع، وأُدخلت {هل} عليها لتحقيق ما يتوقعه النبي، و {أَلَّا تُقَاتِلُوا}: خبر {عسى}. والمعنى: قال لهم نبيهم مجيبًا لهم: أتوقع عدم قتالكم، إن كتب عليكم القتال، وذلك التوقع محقق عندي وثابت، وقد بنى توقعه هذا على تاريخهم في الجهاد، وجبنهم طول حياتهم أمام عدوهم، وقولهم لموسى - عليه السلام - حينما دعاهم للجهاد {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ... } (¬2) فأَجابوا نبيهم: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}: والمعنى: وأي شيءٍ يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله، ويصرفنا عنه مع وجود مقتضيه، فقد أخرجنا الأعداءُ من ديارنا، وطغى علينا قومُ جالوت، فاستباحوا أبناءَنا ونساءَنا، وهذه حالٌ تقتضي الجهاد، الذي تركناه طلبًا للعافية والسلامة ففقدناهما، فاسأل ربك ما طلبناه منك: من تنصيب ملك علينا: نقاتل معه، لنستردَّ أرضَنا، وكرامتنا، ومقدساتِنا. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}: أي: فلما فُرض عليهم قتال أعدائهم - بعد ما اختار لهم نبيهم ملكًا كطلبهم وبرزوا لقتاله، وشاهدوا جده في قتالهم - وَلِّوْا فرارًا وَجُبْنًا، إلا نفرا قليلًا منهم: آثروا أُخراهم على دنياهم، طمعًا فيما عند الله، وإيمانًا بأَن آجالهم قد قدرت عليهم، ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه عن مثلها في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} البقرة: 243. (¬2) المائدة: 24

فلا ينجيهم من الموت فرارٌ، إن كان مكتوبًا عليهم، فصبروا مع ملكهم طالوت على قتال عدوهم جالوت. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}: أي جميعًا، ومنهم الذين تركوا القتال من بني إسرائيل، ونافت أعمالُهم أقوالَهم، فهو مجازيهم على ظلمهم، بتوليهم وسائر معاصيهم. وهذه الآية إجمال، يأتي تفصيله في الآيات التالية: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)} المفردات: {أَنَّى يَكُونُ}: كيف يكون؟ {سَعَةً مِنَ الْمَالِ}: بسطة فيه. {التَّابُوتُ}: صندوق فيه ألواح التوراة، وبعض مقدساتهم. {فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَّبِّكُمْ}: في التابون طمأنينة لقلوبكم من ربكم، لما فيه من علوم وشرائع.

التفسير 247 - {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ... }: أي قال لهم نبيهم: إن الله قد اختار لكم طالوت ملكًا يدبر أمركم، وتصدرون عن رأيه في القتال، واسمه في العهد القديم: شاول (¬1)، ولم يكن طالوت من سبط الملك - يهوذا - ولا من سبط (لاوى) الذي فيه الأنبياءُ، ولا من الأغنياء، ولهذا ضاقت نفوسهم به، فاعترضوا على تنصيبه ملكًا عليهم. {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ}: أي قالوا لنبيهم - مستنكرين - كيف يتملك علينا ذلك الرجل وهو لا يستحق الملك في نظرنا، لوجود من هو أحق بالملك منه بيننا، فنحن الملأ من بني إسرائيل {أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}: نَسَبًا وَحسبًا! ولأَنه لم يؤْت سعة من المال، وتلحقه بالأشراف. والملك عندهم، يتوقف على الحسب واليسار. ونسوا أنهم سألوا الله أن يبعث لهم ملكًا يلي أمرهم، ويقودهم في حربهم، وأن الله هو الذي اختاره لهم - لا النبي - ولا مَلِك أَصلح لهم ممن اختاره الله، فلا سبيل إلى تغييره. {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ}: واختاره ملكًا لكم، والله أعلم به منكم، وذكر لهم مزاياه التي ترشحه للملك فقال: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}: أي سعة فيهما. وهاتان الميزتان أصلح للملك من سواهما. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: أي والله وحده صاحب الخيرة: لا يُسأل عَما يَفعل: يؤتى ملكه من يشاءُ من خلقه، بمقتضى حكمته، وينزعه عمن يشاءُ من خلقه. (وَاللَّهُ وَاسِعٌ): فضله، يختص برحمته وحكمته من يشاءُ. {عَلِيمٌ}: بمن يستحق الملك والقيادة ممن لا يستحقه. ¬

_ (¬1) راجع قصة في العهد القديم: سفر صموائيل الأول من الإصحاح الثامن، والحادي عشر.

ثم بين لهم نبيهم علامة تدل على صحة ملك طالوت، وقد طلبوها منه، وذلك ما حكاه الله بقوله: 248 - {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّ بِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَ كَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُ ونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ... } الآية. المعنى: قال لهم نبيهم إن علامة صحة ملك طالوت لكم وأنه من عند الله: أن يأتيكم التابوت ويرجع إليكم على يديه: في إتيانه طمأنينةٌ لكم، أو فيه ما تسكنون وتطمئنون إليه، هو التوراة وغيرها من مقدساتكم. وقيل: إنهم كانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه، في القتال - أمام جيوشهم - فينصرهم الله بسببه. وكانوا يجدون فيه - كلما نظروا إليه - سكينة لقلوبهم، يطمئنون إليها، ويتبركون بها. والآية الكريمة، تصرح: بأن الملائكة تأتيهم بالتابوت حاملة له. والظاهر أن ذلك على الحقيقة، ليروه ويطمئنوا. روى ابن جريج عن ابن عباس: "قال جاءَت الملائكة تحمل التابوت بين السماءِ والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون". وقيل: إن الحمل مجاز عن الإيصال، كما تقول: حمل فلان متاعه إلى مكة، أي أوصله إليها. فلما رأوا ذلك آمنوا بصدق نبيهم، ورضوا بطالوت ملكًا عليهم. وكان ختم الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: أي علامة لكم على صدقي، فيما أمرتكم به من طاعة طالوت. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: أي: مصدقين. وفي التعبير بلفظ {إِنْ} إشارة إلى أصالة الشك في نفوسهم، وأنهم سيتمردون على أمر الله، ولن يطول بهم القرار على الخضوع له، كما سيأتي، فهي تفيد الشك في تحقيق مفهوم خبرها.

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} المفردات: {فَصَلَ}: خرج. {مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}: أي مختبركم به، ليظهر الصادق منكم والكاذب في طاعة الملك، والجهاد في سبيل الله، لإخراج العدو من البلاد التي أخذها منكم. {يَطْعَمْهُ}: يذق طعمه. {اغْتَرَفَ غُرْفَةً}: الغرفة، ما يغرف. {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}: لا قوة لنا على حربه، فضلا عن الانتصار عليه.

{يَظُنُّونَ}: هي هنا بمعنى، يوقنون بالبعث، على حدِّ قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (¬1). {مُلَاقُو اللهِ}: أي مبعوثون إليه. {بَرَزُوا}: ظهروا واصطفوا للقتال، على بارز من الأرض. التفسير 249 - {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ... } الآية. فلما خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس، لقتال أعدائهم، قال لهم: إن الله مختبركم وممتحن مقدار صدقكم - في لقاءِ عدوكم، واستجابتكم لأوامر قائدكم - {بِنَهَرٍ} يعترض طريقكم: أطلب منكم عدم الشرب منه، ليظهر منكم المطيع والعاصي، فإن طاعة القائد شرط أساسي للنصر، فمن غلبته شهوته وشرب من مائه، فليس من أتباعي: لأنه إذا عصاني اليوم، فهو أحرى أن يعصي أمري وقت اشتداد الحرب، فتحدث الهزيمة. ومن لم يذق ماءَه استجابة لهذا الأمر وصبر، لإنه مِنِّي، ضالع معي في لقاء العدوّ، والرغبة في الانتصار عليه. ثم استثنى من القسم الأول وهو: من شرَب من النهر فقال: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) يبلُّ بها ريقه في هذه الفلاة وشدة العطش، فلا بأس عليه في ذلك. قالوا - في حكمة الأمر بالاكتفاء بالغرفة - إنه اختبار لطاعتهم كما تقدم، كما أن فيه سلامة الجندي، فإن الإسراف في الشرب - عند مناجزة العدو - يضر ضررًا بليغًا. {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}: أي: فلم يمتثلوا ما أمرهم به طالوت، بل شربوا منه أكثر مما أمرهم به، إلا قليلًا منهم، نفذوا أمره فاغترف كل واحد منهم لنفسه غرفة واحدة. ¬

_ (¬1) الحاقة: 20

{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}: المعنى: فلما جاوز طالوت النهرن وتركه هو والذين آمنوا معه، وهم القليل الذي نفذ أمره، وصدق إيمانه بربه، ونظروا إلى كثرة عدوهم وهم قليلن فأوجس بعضهم خيفة، وقالوا {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ} بقتال {جَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي: لا قدرة لنا على محاربتهم، فضلًا عن غلبتهم. وهؤلاء - وإن كانوا من المؤمنين معه، المنفذين لأمره في اغتراف الغرفة - إلا أنهم قالوه إظهارًا لواقع الحال، ورجاءَ المعونة من الله، وليس نكوصًا وامتناعًا عن القتال. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ}: أي قال أفضلهم وخلصاؤهم، الذين يتيقنون أنهم ملاقوا جزاء الله يوم القيامة. {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَ ةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}: أي كم من جماعة - قليلة العدد والعُدد - استعصمت بإيمانها بالله، وتوكلت عليه - غلبت فئة كثيرة العدد والعُدد، بإرادة الله ونصره؟ فإن النصر من عند الله، لا بكثرة الجنود. فلا ينبغي لنا أن نستقل أنفسنا فنجبن عن لقاءِ عدونا. ثم ختمت الآية بهذه البشرى: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): أي معهم بالنصر والتأييد. وهذه الجملة إما: من جهته - تعالى - تقريرًا لكلامهم، ودعاء للسامعين إلى مثل حالهم، وإما من كلام هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله، قالوها تشجيعًا وترغيبًا في الصبر. 250 - {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: ولما واجه حزب الإيمان أعداء الله، وصاروا إلى براز الأرض، المتكشف منها، متأهبين لحرب جالوت وجنوده قالوا ذاكرين عبوديتهم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} عظيمًا غامرًا من عندك، يشملنا ويعمنا، ويقوي نفوسنا.

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}: بطمأنينة نفوسنا عند اللقاء، فإن طمأنينة النفس تهب القوة، وتثبت الأقدام. {وَانصُرْنَا}: بفضلك، وأعنا بقوتك {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: الجاحدين لأُلوهيتك ونعمك المتوالية عليهم. 251 - {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ... } الآية. أي: فاستجاب الله دعاءهم، فهزموهم بإرادة الله - تعالى - ونصره لهم، بسبب إيمانهم واعتمادهم عليه، وصبرهم في ملاقاة العدو، واستمساكهم بأسباب النصر، وعدة الحرب {وَقَتَلَ دَاوُدُ}: أحد جنود طالوت {جَالُوتَ}: زعيم العبرانيين، وانتصرت القلة المؤمنة، على الكثرة الكافرة. وفي ذلك ترغيب للمؤمنين في الجهاد، وتحذير من الضعف والفرار حذر الموت. ثم مات طالوت ملك بني إسرائيل، فتولى داود الملك بعد {وَآتَاهُ اللهُ} - بسبب شجاعته وعقله ودينه - الملك، ووهبه الحكمة، وعلمه مما يشآءُ الله تعليمه إياه، من العلم الذي اختصه به عليه السلام. وبذلك دفع الله بداود عن بني إسرائيل معرة الجبن والهزيمة. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ}: وهكذا يدفع الله بالصالحين - من الناس - المفسدين في الأرض، المعطلين مصالح العباد، ولولا ذلك لفسدت الأرض، ووقع الناس في الفوضى. {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}: فيدفع الله بعضهم بقوة بعض، رحمة بهم.

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} التفسير 252 - {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: المعنى: تلك يا محمد، قصص قصصناها عليك، تحكي لك شأن الجهاد والمجاهدين والعاصين والمنافقين، من بني إسرائيل. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}: الثابت، لتكون حجة لك على الناس، ودليلًا واضحًا على صدق نبوتك. {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}: بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية: من غير مطالعة كتاب، ولا اجتماع بأحد يخبرك عنها، ويدارسك بها. هذا، وقد وردت هذه القصة مفصلة في سفر صموائيل الأول - من الإصحاح الثامن إلى آخر الإصحاح الحادي عشر - والنبي فيها هو صموائيل، وطالوت هو - شارل - وجالوت هو - جليات - والله أعلم.

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} المفردات: {تِلْكَ}: يشار بها إلى المؤنث، ويعامل جمع الذكور معاملة المؤنث بتأويله بالجماعة لهذا أُنث اسم الإشارة هنا. أي تلك جماعة الرسل. {مَن كَلَّمَ اللهُ}: أي كلَّمه بلا وساطة، ومن غير سفير، وهو موسى - عليه السلام -. {الْبَيِّنَاتِ}: الحجج والأدلة. {بِرُوحِ الْقُدُسِ}: أي بالروح المقدس. أي المطهر، وهو جبريل عليه السلام. التفسير 253 - {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضِ ... } الآية. لما ذكر الله قبل هذه الآية مباشرة قوله عز من قائل: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. عقبه بتفصيل الحديث من شأن هؤُلاء الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام -. ومعنى الآية: هؤلاء الرسل الكرام - الذين بعثهم الله تعالى إلى الناس برسالاته وهداه في مختلف البقاع والأزمان - فضل الله تعالى، بعضهم على بعض: في المكانة والمعجزات. وإن كانوا جميعًا، قد تآخوا في شرف النبوة والرسالة.

{مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ}: أي منهم من فضله الله بتكليمه مباشرة ودون وسيط مثل: موسى - عليه السلام - ومثل محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ليلة الإسراء والمعراج، كما سيرد في تفسير أول سورة الإسراء. ومنهم من كلمه بغير ذلك كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ... } (¬1). {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: فمنهم أُولو العزم، ومنهم خليل الله، ومنهم كليمه، إلى غير ذلك مما يمتاز به بعض الرسل عن بعض. وعلينا أن نكف عن الموازنة بينهم، تكريمًا لهم عن أن يكونوا مجالًا للمناقشة والجدال، والتعصب الجنسي أو الديني، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... } (¬2) الآية. والإجماع منعقد على أن أفضل الرسل جميعًا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن رسالته عامة للبشرية جمعاء، ممتدة من عصره إلى آخر الزمان. أما كل منهم فرسالته محصورة في قوم، وتنتهي رسالته ببعثه خلفه، ولأن الله تعالى أخذ عليهم العهد - جميعًا - بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبرسالته، ومناصرته إذا أدركوا بعثته. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُ نَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنا سَيِّدُ وَلدِ آدمَ يومَ القيامةِ، وأول من ينشقُّ عنه القبرُ، وأَوَّلُ شَافِع، وأَوَّلُ مُشَفَّع" (¬4). وقال صلوات الله وسلامه عليه: "أنا سَيَّدُ وَلَدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فَخرَ. وما من نَبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أَوَّلُ شافَعٍ، وأولُ مُشَفَّعٍ ولَا فَخْر" (¬5). ¬

_ (¬1) الشورى: من الآية 51 (¬2) البقرة: من الآية 285 (¬3) آل عمران: الآية 81 (¬4) رواه مسلم وأبو داود (¬5) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه

أما ما رواه الشيخان من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا تُفضِّلوني على الأنبياء .. " فإن ذلك من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء إخوة في الرسالة، والأخ لا يُفَضِّلُ نفسه على أخيه، ولأن اللجاج والخصام في هذا التفضيل قد يقود المتخاصمين إلى النيل من بعض الأنبياء، وفي هذا كفر صريح. ومردُّ التفضيل - بعد هذا كله - إل الله وحده. ومع أن الإجماع منعقد على أفضلية محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن الواجب على المسلمين: ألَّا يخوضوا في الجدال حول تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، تمسكًا بآداب القرآن. {وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}: أعطينا عيسى بن مريم - عليه السلام - الآيات الواضحة الدالة على نبوته. وهي: المعجزات التي أجراها الله على يديه: كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله - تعالى - وقوَّاه الله كذلك على دفع أذى أعدائه بروح القدس. وهو جبريل - عليه السلام - قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ... } (1). وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى صفته، أي الروح المطهر. ولما كانت هذه الآية واردة عقب قصة بني إسرائيل مع طالوت، ومخالفتهم لأمره - خص الله عيسى بالذكر من بين الرسل، بالتنبيه على بعض معجزاته، للرد عليهم إذ كذبوه ووصفوه وأمه بأوصاف فيها بهتان عظيم. كما قال تعالى: " {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (2). {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا}: ولما كان جوهر الديانات السماوية واحدًا، وهدفها واحدًا، فلذا كان الواجب على أتباع كل رسول: أن يؤمنوا بالرسول الذي جاء بعده، وألا يختلفوا معه ولا مع أتباعه. ولكنهم تفرقوا واختلفوا، واقتتلوا، من بعد ما جاءتهم البينات، والآيات المؤيدة لرسالته. ولو أراد الله

ألا يحدث ذلك ما حصل. ولكنه ابتلاهم، ليميز الخبيث من الطيبن والمؤمن من الكافر. وهذا ما قاله الله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَن وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مضا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}: أي: فانقسموا بالابتلاء إلى فريقين: فمنهم من آمن لطيب سريرته، وحسن اختياره. منهم من كفر لخبث نيته، وسوء رأيه. ولو شاء الله لآمنوا جميعًا، ولم يقتتلوا. ولكن الله يفعل ما يريد من ترك عباده لاختيارهم، وحتى يتبين الخبيث من الطيب، ويدفع المؤمنون شر الكافرين وفسادهم، ثم يجزي كلا على حسب عمله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ... } (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} المفردات: {خُلَّةٌ}: الخلة، الصداقة والمحبة للقرابة أو غيرها. {شَفَاعَةٌ}: الشفاعة، طلب التجاوز عن السيئة. التفسير 254 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ... } الآية. هذه الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها، فقد دلت الآية السابقة: على أن القتال بين أهل الحق وأهل الباطل، من سنن الله - تبارك وتعالى - فلهذا ناسب أن يعقب تلك الآية بمناشدة أهل الحق: أن يجاهدوهم بأموالهم التي رزقهم الله إياها من فضله. والمعنى: ينادي الله عباده الذين آمنوا به وبكتابه وهدي رسوله، ويأمرهم: بأن ينفقوا - في سبيل الله ووجوه الخير - بعض ما آتاهم الله من فضله، وأنعم به عليهم من رزق حلال ¬

_ (¬1) البقرة: من الآية 251

طيب، ما كانوا عليه بقادرين لولا فضل الله وتوفيقه، وذلك بأن يُعطوا الزكاة الواجبة عليهم إلى مستحقيها، ويتطوعوا بالتصدُّق عليهم بما يستطيعونه فوق الزكاة الواجبة، ويأمرهم بالمسارعة إلى ذلك، قبل أن ينتهي الأجل المجهول لديهم، ويقبل عليهم يوم الحساب بالثواب أو العقاب، وهو يوم القيامة، الذي لن يجدوا فيه ما يتقربون به حينئذ إلى الله تعالى، أو يتداركون به ما فاتهم. فلن يجدوا فيه بيعًا لحسنات ترجح بها موازينهم، ولن تنفع فيه صداقة مهما قويت. ولن تجدي فيه شفاعة شفيع إلا بإذن الله ورحمته. وإنما يأذن الله في ذلك للمستحقين بعلمه وحكمته. (¬1) {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: والذين كفروا بالله - جل جلاله - هم الظالمون لأنفسهم وللمجتمع. فكافحوهم بالقتال: بالأنفس والأموال التي أمركم الله بإنفاقها في سبيله. {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} المفردات: {الْحَيٌّ}: الباقي، الدائم البقاء، الذي لا يناله الفناء. {الْقَيُّومُ}: الدائم القيام بتدبير الخلائق وحفظهم. {سِنَةٌ}: ما يكون قُبيل النوم من فتور يشبه النوم. والوسنان: هو من يكون بين النائم واليقظان. ¬

_ (¬1) راجع في موضوع الشفاعة تفسير الآية 48 من البقرة.

{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: المراد منه، الدنيا، أو ما كان قبلهم، أو المستقبل. {وَمَا خَلْفَهُمْ}: الآخرة. أو ما يكون بعدهم. أو الماضي. {كُرْسِيُّهُ}: الكرسي، علم - تعالى - أو عرشه. وقيل: هو تمثيل لِمُلكِ الله تعالى وسلطانه، وقيل: هو فلك يحيط بالسماء والأرض. {وَلَا يَؤُودُهُ}: أي ولا يثقله، ولا يشق عليه. التفسير 255 - {اللَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... } الآية. دعت الآية السابقة إلى الإنفاق في سبيل الله - سبحانه وتعالى - من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، ولا تنفع فيه صداقة ولا شفاعة. وإنما ينفع الإنسان عمله، ومرضاته لربه. وهذه الآية بينت لهم: أن الله الذي دعاهم إلى الإنفاق: هو الإله الواحد، القيم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شيء علمًا، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه. وتُعْرَفُ هذه الآية بين المسلمين، باسم: آية الكرسي، لأن ذكره ورد فيها. وقد بدأت الآية الكريمة هذه باسم {الله} جل جلاله، وأخبرت أنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأنه {الْحَيُّ}: أي الذي له الحياة الكاملة الأزلية، فلا أول لها، الباقية فلا آخر لها، وهو {الْقَيُّومُ}: أي الدائم القيام بتدبير شئون الخلائق وحفظهم. {لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}: لا تعتريه غفلة ولا نوم عن خلقه، فذلك شأن الحادث الضعيف، الذي يحتاج إليهما، ليسترد قُوَّتَه ونشاطه. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: له - سبحانه - كل ما في السموات، وكل ما في الأرض من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، وكل كائن. {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد عند الله تعالى، إلا إذا أذن الله له. وإنما يأذن بعلمٍ

وقد نص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، على أن الله لا يأذن بالشفاعة إلا لمن ارتضى من عباده كالملائكة. وعلى أن الشفاعة العظمى لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وجملة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: فيها رد على المشركين، حين قالوا عن الأوثان: { ... هَؤلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ .. } (¬2). وفيها وعيد للمستخفين بأوامر الله تعالى، المُصِرِّين على المعصية، اتكالا منهم على أنه سيُشفع لهم، وذلك بإقناطهم من قبول الله لشفاعة أحد عنهم. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}: والله تعالى يعلم أمور الدنيا والآخرة: ظاهرة كانت أو خفية. فاحذروا أن تقعوا في المعاصي التي لا تغني فيها شفاعة الشافعين. {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}: أي أن الخلق لا يعرفون أي شيء من معلومات الله - سبحانه - إلا ما يشاء لهم أن يعرفوه: بفضله وتوفيقه. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: سعة الكرسي للسموات والأرض: كناية عن نفوذ سلطان الله تعالى فيهما، وسعة علمه لهما، ولجميع ما فيهما. فإنه تعالى أحاط بكل شيءِ علما. فإن أُريد بالكرسي: الفلك المحيط بالسموات والأرض - كما قال بعض العلماء - فسعته لهما، على الحقيقة. وقد أَخذوا ذلك من ظاهر النص، ومن حديث رواه ابن مردويه عن أبي ذَرّ قال: قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، ما السموات السبع، والأَرضون السبع عند الكرسي إلا كحَلْقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحَلْقة" (¬3) ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية 48 من سورة البقرة. (¬2) يونس من الآية: 18 (¬3) الحديث المذكور أورده ابن كثير في تفسيره: 1 - 310 وقد عزاه إلى أبي بكر بن مردويه بسنده إلى أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث.

وهذا يدل على أن العرض غير الكرسي، وأنه أعظم منه. {وَلَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا}: ولا يثقله سبحانه حفظ السموات والأرض. وهذا ناطق بدوام حفظه وتدبيره لهما، لا يتخلى عن ذلك طرفة عين. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: وهو سبحانه الذي يتعالى عن الشبيه والنظير. ويتعالى عن النقص والعجز، وهو العظيم قدرًا وشرفًا. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} المفردات: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: لا إجبار، ولا قسر على الإيمان. {الرُّشْدُ}: الصواب، أو الهدى، أو الحق. {الْغَيِّ}: الخطإ، أو الضلال، أو الباطل. {بِالَّطاغُوتِ}: الشيطان، أو كل ذي طغيان، أو كل معبود سوى الله تعالى. {بِالْعُرْوَةِ الْوثْقى}: العروة: ما يُتعلق به، كالمقبض. والوثقى، مؤَنث الأوثق، وهو الأَشد الأحكم. {لَا انفِصَامَ لَهَا}: لا انقطاع لها.

التفسير 256 - {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... } الآية. ذكرت الآية السابقة صفات الله السامية، المقتضية لتفرده بالأولوهية واستحقاق العبادة. ولم يعد - بعد ما جاء فيها - مجال للمكابرة أو الإنكار، أو إكراه أحد على الإيمان، لأن أدلتها القوية تدعو إليه، دون قسر أو إكراه، فلا يحتاج العاقل إلى الإكراه أو الإلزام، بل يختار الدين الحق من غير تردد .. ولذا قال تعالى عقبها: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: أي لا ينبغي أن يحتاج عاقل إلى الإكراه على دين الإسلام، لوضوح أدلته، فعليه أن يتجه إليه باختياره. ويجوز أن يكون النفي بمعنى النهي للمسلمين عن إكراه أحد على الدِّين. ولذا قال تعالى: { ... أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬1). وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ... } (¬2). وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ... } (¬3). إلى غير ذلك من الآيات. والمعنى: لا تكرهوا - معشر المسلمين - أحدا على الإسلام، لأن الحق فيه واضح بَيِّن، لا يحتاج إلى إكراه أحد عليه. {قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}: تعليل للحكم السابق مقرون بكلمة التحقيق {قَدْ}، لتأكيد مضمونه أي: قد تبين الرشد والحق في دين الإسلام، كما تبين الغي والضلال فيما عداه. فلا حاجة للإكراه على الإسلام. ¬

_ (¬1) يونس: من الآية 99 (¬2) البقرة: من الآية 272 (¬3) المائدة: من الآية 99

{فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ}: أي فمن يكفر بما يعبد من دون الله، ويؤمن بالله وحده - بعد ما تبين له الحق من الباطل بالحجج الواضحة -. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: فقد صار ممسكا بالسبب الأوثق الذي يصله بالحق. {لَا انفِصَامَ لَهَا}: أي لا انقطاع لهذه الصلة القوية. وبذلك يكون آمنا من التهلكة ومن كل مكرُوه. {وَاللهُ سَمِيعٌ}: أي شامل السمع، لا يغيب عن سمعه شيءٌ. {عَلِيمٌ}: واسع العلم: يحيط علمه بكل شيء. وهذه الآية الكريمة: تنزه الإسلام عما زعمه أَعداؤُه من قيامه على القتال. فما كانت حروب المسلمين إلا دفاعية أو وقائية. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ... } (¬1). وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... } (¬2). فإن جنح أعداء الإسلام إلى السلام سالمناهم. قال جل شأنُه: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ... } (¬3). وأَساليب الدعوة الإسلامية، تقوم: على الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الرقيق. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 190 (¬2) الحج: 39 (¬3) الأنفال: 61 (¬4) النحل:125

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} {وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}: متولي أُمورهم، يهديهم ويعينهم. {الطَّاغُوتُ}: المراد به، الشياطين. {يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}: يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الكفر. التفسير 257 - {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ... } الآية. الله - جل جلاله - هو معين المؤمنين الطائعين، ومتوليهم بتوفيقه وتأييده وهدايته إلى طريق الحق، فيخرجهم - بلطفه ورحمته - من ظلمات الحيرة والضلال والكفر، إلى نور الاستقرار والهداية والإيمان. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}: والذين كفروا بالله - جل جلاله - وأنكروا رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، أولياؤهم الشياطين: يوسوسون لهم، ويضلونهم عن صراط ربهم، ويبعدونهم عن طريق الهدى، ويوقعونهم في ظلمات الضلال والشر، ويحجبونهم عن فطرة الإيمان في نفوسهم. فكأَنهم يبعدونهم عن طريق مضيء منير، ويوقعونهم في طرق كثيرة الظلمات، فلا يهتدون سبيلا. وعبر عن دين الإسلام بالنور، تشبيهًا له به، لأنه يهدي إلى الحق والسعادة. كما يهدي النور إلى طريق السلامة. والتعبير عن الشرك بالظلمات: تشبيه له بها، لأنه يُضِل عن الحق والسعادة، كما يُضِل الظلام عن طريق السلامة.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أولئك الضالون، هم الذين يستحقون عذاب النار لا يفارقونها. بل يستقرون فيها، ويدوم عليهم عذابها. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} المفردات: {أَلَمْ تَرَ}: عبارة استفهامية لطلب التعجب. {حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ}: خاصمه وجادله في شأن ربه. {فَبُهِتَ}: فتحير وانقطعت حجته. التفسير 258 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ... } الآية. اتضح مما سبق: أن الرشد قد تبين من الغي، وأن الله يتولى المؤمنين فيهديهم، وأن الشيطان يتولى الكفار فيضلهم. لتوضيح هذه المعاني، ذكرت هذه الآية - وما بعدها - ثلاث قصص واقعية، تدور حول الموت والحياة، وإبراز قدرة الله: الأولى: قصة رجل كافر تبين له الحق، ولكنه أصرَّ على كفره. الثانية: قصة رجل تبين له الحق فاقتنع به، واعترف بأن الله على كل شيءٍ قدير.

الثالثة: قصة نبي أظهره الله على بعض آياته، فازداد إيمانًا وتثبيتًا. وفيما يلي بيان القصة الأُولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}: أي هل رأيت في الضلال مثل ذلك الملك الطاغية الكافر، الذي جادل إبراهيم - عليه السلام - تجبرا منه وطغيانا بسبب ما أعطاه الله من سعة الملك، وقوة السلطان. {إِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}: كانت المحاجة، حينما أعلن إبراهيم: أن ربه هو الذي يحيي ويميت، لأنه هو الإله الخالق القادر على كل شيء دون سواه: فأجابه الطاغية - وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا - قائلا: أنا أُحيي بالعفو عن محكوم عليه بالموت، وأُميت بقتل إنسان حي. ظانا بجهله أن قتله الإنسان إماتة، وعفوه عنه إحياءٌ. فاقتضت حكمة إبراهيم أن يغلق باب الجدل ويجابهه بما لا يستطيع أن يجادله فيه. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}: قال إبراهيم: إن الله تعالى، يظهر الشمس في أول النهار من جهة المشرق، فإن استطعت فأظهرها من جهة المغرب، لتعود إلى الإشراق والإضاءَة، وينعكس بذلك نظامها. فيكون شروقها من جهة المغرب، وغروبها من جهة المشرق!! {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}: فانقطعت حجة الطاغية، وسكت متحيرا، ولم يستطع الاستمرار في التمويه. فظهر الحق، واندحر الباطل، عن طريق محاورة إبراهيم النافعة، التي كشفت الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب؟! {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: والله العادل، لا يعطي الهداية لغير مستحقيها من أُولئك الكافرين المعاندين، فهم ظالمون. والله تعالى لا يهدي القوم الظالمين، أي لا يوفقهم إلى حجة يغلبون بها أَهل الحق.

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} المفردات: {أَوْ}: للتخيير والتنويع في التعجيب بين ما جاء في هذه الآية والتي قبلها من العجائب. والكاف بمعنى اسم بمعنى: مثل. مفعول لفعل محذوف دل عليه {أَلَمْ تَرَ} السابق. والتقدير: أوَ رأيت مثل الذي مر على قرية. والجملة معطوفة بلفظ {أَوْ} على جملة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} {قَرْيَةٍ}: اسم للموضع الذي يسكن فيه الناس ولو كبيرا، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ... } (¬1) وقوله: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ... } (¬2). {خَاوِيَةٌ}: أي ساقطة من: خوت الدار، إذا سقط بنيانها. {عَلَى عُرُوشِهَا}: العرش، السقف. والمراد: أنها متهدمة أو {خَاوِيَةٌ} بمعنى خالية. والمراد حينئذ: أن القرية خالية من أهلها - مع بقائها، قائمة سليمة العروش - لموت أَهلها. {نُنشزُهَا}: مضارع أنشز، أي نركب بعضها فوق بعض وننشئها. وقريءَ {نَنْشُرُهَا} بالراء بمعنى: نبعثها إلى الحياة من جديد، من النشر. وهو إعادة الحياة بعد الموت. ¬

_ (¬1) يوسف: من الاية 82 (¬2) الشورى: من الآية 7

التفسير 259 - {أَوْكَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ... } الآية. تناولت هذه الآية القصة الثانية عن الموت والحياة. فقالت ما معناه: أرأيت يا محمد مثل ذلك الرجل الذي مَرَّ على قرية مات أهلها، وسقطت على سقفها: بأن سقطت العروش أولا، ثم الحيطان عليها! أو المعنى: أنه مر عليها - وهي خالية من أهلها مع بقائها قائمة على عروشها لم تنهدم ولم تسقط - فقال في نفسه متعجبًا، أو بلسان حاله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}: على معنى: كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم؟. أو كيف يرد الحياة إلى أهل هذه القرية، بعد الخراب الشامل؟! والسؤال هنا عن كيفية الإحياء، لا عن وقوعه. لم يَرِد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ما يعيِّن صاحب هذه القصة، ولا اسم القرية التي مرّ عليها ذلك الرجل، لأن العبرة هنا، في إحياءِ موتاها، لا في اسمها واسم من مرَّ عليها. وإن كان بعض المفسرين قد ذهب إلى أن هذا الرجل نبي، وأنه: عزير بن شرخيا، كما ذهب إلى أن هذه القرية هي التي وردت في قصتها في الآية الكريمة: {أَلِمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ... } (¬1). ولعلهم قد استندوا في ذلك إلى ماجاءَ في: العهد القديم. عن هذه القصة، فقد وردت في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر حزقيا، على نحو قريب مما جاءَ في الآية المذكورة. وقيل: هي المؤْتفكة. وقيل: غيرها. ونحن نفوض الأمر في علمها - وعلم أهلها - إلى علَّام الغيوب، ونسكت عما سكت عنه القرآن الكريم، ولم تشر إليه السنة النبوية المطهرة. ¬

_ (¬1) البقرة: من الآية 243

قال تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}: جعله الله ميتا مائة سنة، ثم ردَّ إليه الروح، فعادت إليه الحياة بعد تلك المدة الطويلة، وقد أعاده إلى الحياة مهيَّأً للتفكير والتدبر، بدليل هذا الحوار، وطلب منه النظر. ولم تذكر الآية ما حدث لجثته أثناءَ هذه الفترة. أَبُلِيَتْ وتحللت. أم ظلت محتفظة بتكوينها؟ {قَالَ} له الله تعالى: {كَمْ لَبِثْتَ}؟: كم مكثت في رقدتك؟ والله يعلم كيف كانت هذه المساءلة. أكانت على لسان ملك جاءَ في صورة بشر، أم كانت على لسان نبي ذلك الزمان، أم كانت إلهامًا نفسيًا، كما حصل لأُم موسى - عليه السلام - أم كان ذلك الرجل نبيًا؟ والسؤَال لم يكن من الله لهذا الرجل مباشرة، لأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْيُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ... } (¬1). وإنما سأله الله هذا السؤال - وهو عالم بجوابه - ليظهر عجزه التام عن الإحاطة بشئون الله تعالى. بل بشئون نفسه هو، وليبين له قدرته تعالى على إحياءِ خلقه. وقد أجاب ذلك الرجل: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: مكثت في رقدتي هذه يومًا أو بعض يوم. ولعله قال ذلك، لأَنه لم يشاهد في نفسه، ولا في طعامه تغيرا، حتى يظن أنه مكث مدة طويلة. ولعله ظن أنه كان نائما فقدر زمنين متقاربين، من المحتمل أن يستغرق الإنسان أحدهما في نومه. {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}: أي لم تلبث هذا القدر اليسير الذي ظننته. بل مكثت - ميتا - مائة عام، ليظهر الله لك قدرته على ما سألت. ¬

_ (¬1) الشورى: منت الآية 51

ولهذا أمره الله أن يتدبر ويفكر، فقال: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}: والفاءُ في قوله تعالى: {فَانظُرْ} للإفصاح، لأَنها أفصحت عن شرط مقدر ... بمعنى: إذا علمت أنك مكثت مائة عام ميتًا، ثم بعثت - فانظر إلى هذه الآيات البينات، وتبصر فيها. وقد أمره الله أن ينظر إلى طعامه وشرابه اللذين كانا معه لزاده - وقد مر عليهما مائة عام - ومازالا صالحين للتناول، لم يلحقهما أي تغيير، مع أن شأنهما المعتاد هو سرعة التغيير والفساد. وذلك دليل على أن المؤثر هو الله تعالى، لا الأسباب بذاتها، ولذا تخلف تأثيرها في الطعام والشراب، اللذين مكثا مائة عام، لم يتغير فيهما شيءٌ منهما. وهذا هو موضع الاعتبار الأول. وقد أفرد الضمير المستتر في قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} مع أنه راجع إلى الطعام والشراب، لاعتبارهما غذاءً واحدًا، لتلازمهما. {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}: وأمره الله أن ينظر إلى حماره، كيف نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله. على حين بقى الطعام والشراب على حالهما لم يتغير فيهما شيٌ؟ وذلك هو موضع الاعتبار الثاني، الناطق بقدرة الله على الإحياءِ والبعث. وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ}: معطوف على مقدر يقتضيه المقام. أي: فعلنا ذلك من إحيائك، وحفظ طعامك وشرابك، وبِلَى عظَام حمارك، لتدرك صدق إخبارنا: أنك بقيت ميتًا مائة عام، ولنجعلك - أنت وهذه الأُمور - آية وعلامة يستدل بها الناس الموجودون - وقت بعثك - على عظيم قدرتنا على البعث، وإحياء الموتى. ويستدل على ذلك أيضًا - مَنْ يأتي بعدهم ممن يؤْمن بالوحي السماوي، الذي يروي هذه القصة.

ثم أمره أن ينظر نظرًا ثالثًا، فقال: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}: المراد من العظام: عظام حماره البالية المتفرقة .. طلب إليه أن ينظر كيف يعيد الله تركيبها كما كانت عليه، بعد إعادة الصلاحية لها، بأَن يرفع بعضها فوق بعض على الشكل الذي كانت عليه، قبل موت ذلك الحمار. ثم يكسوها لحما، ثم ينفخ فيه الروح فيعود كما كان جسمًا وصورة وحركة وصوتًا، ليعرف - بالمشاهدة - قدرة الله على إحياء هذه القري، التي سأل عنها متعجبًا: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}!! ويرى بعض المفسرين: أن الحمار بقي حيًا لم يمت، على الرغم من مرور هذا الزمن الطويل، دون أن يأكل الحمار أو يشرب: حفظه الله حيًا كما حفظ الطعام غضًّا، والشراب سائغًا هنيئًا. وأن العظام - التي أُمر أن ينظر إلى إعادتها وكسوتها باللحم - هي عظام أهل هذه القرية التي مر عليها، وهي خاوية على عروشها، لأن التعجب الصادر منه، كان بشأن كيفية إعادة سكانها إلى الحياة! وقيل: هو منظر عظام الأجنة، وكيفية تكوينها، ثم إكسائها باللحم، ثم سريان الحياة فيها بعد هذا التكوين. وفي قراءة: {نَنشُرُهَا} بالراءِ أي: نبعثها، ونحييها بعد الموت. والمؤَدَّى في القراءتين واحد. فأمر الإحياء - على الصورة السابقة - يصدق فيه الانشاز والنشر. فكلاهما فيه إحياء بعد موت!. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: والمعنى: فلما ظهرت أمامه هذه الآيات الثلاث، واتضح له - بالمشاهدة - كيفية إحياء الله أهل هذه القرية بعد موتهم، قرر - في ثقة وإيمان - علمه بأَن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه على كل شيء قدير، وفي جملته: إحياءُ هذه القرية بعد موتها!!

قال الآلوسي: والإتيان بصيغة المضارع {أَعْلَمُ}، للدلالة على أن علمه بقدرة الله على كل شيء مستمر، لأَن أَصله لم يتغير. بل تبدل وصفه بالعيان. فالآلوسي يرى: أن هذا السائل، كان مؤمنا بقدرة ربه على كل شيءٍ. ومن جملته: إحياءُ هذه القرية بعد موتها. وأن المعاينة لم تنشيء عنده علما جديدًا بذلك. ولهذا عبَّر بصيغة المضارع المفيد للاستمرار. وأن الذي تغيّر عنده هو وصف العلم. فبعد أن كان علما ناشئا عن استدلال، انتقل إلى علم ناشيء عن المشاهدة والعيان. فسؤَال هذا الرجل، لا يقتضي أن يكون كافرًا، لأن يقول: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}! أي كيف يحييها؟ وذلك يشعر بعجزه عن معرفة طريقة إحياء الله تعالى للموتى بعد فناء لحومهم، وبِلَى عظامهم، وأن يبغي معرفة كيفية إحيائها. وذلك لا يدل على أنه كان كافرًا. بل الظاهر أنه مؤمن بالله. فقد نطق باسمه الكريم: فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}؟ وإنما سأل عن كيفية الإحياء، ليراها فيزداد يقينًا بقدرة الله على رد الحياة بعد اليأس. على حدِّ قول إبراهيم - عليه السلام - لربه: { ... رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... } (¬1). ولعل اقتران القصتين، كان من أجل اشتراكهما في هذا الغرض. أما القول بأنه كان كافرًا، فلا دليل عليه .. بل ما جرى منه في القصة، يبعد أن يجري على لسان الكافر. ففي تحريه الصدق بقوله: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْبَعْضَ يَوْمٍ}. ثم قوله بعد ذلك: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ما يرجح إيمانه. هذا، ومغزى القصة: أن هذا الرجل تولاه الله، فبين له الرشد من الغي، فاستجاب لهذا التوجيه، وازداد إيمانه، ولم يركب رأسه عنادًا كالكافر المذكور في القصة السابقة. ¬

_ (¬1) البقرة من الآية: 260

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} المفرادت: {بَلَى}: إيجاب لما بعد النفي السابق. والمراد: نعم، آمنت. {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: ليزداد يقينًا بالقيامة، بعد خبر الوَحْي والبرهان. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}: أَمِلْهن واضممهن إليك. التفسير 260 - {وَإِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ... } الآية. هذه هي القصة الثالثة عن الموت والحياة. وهي القصة الثانية: عن إبراهيم عليه السلام. وقد جاء ترتيب النصوص الثلاث في تناسق تصاعدي. فالأولى: قصة كافر تبيَّنَ له الرشد من الغيِّ، فأَصَرَّ على الكفر. والثانية: قصة رجل التمس معرفة كيفية البعث، فلما بينها الله له أقر بعلمه بقدرة الله تعالى. والثالثة: قصة نبي زاده الحق إيمانًا وتثبيتًا. والعبرة بأغراض القصص الثلاث، لا بالتتابع التاريخي أو الزمني.

ولهذا ذكرت القصة الثانية بين قصتي إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: {وَإِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}:؟ والمعنى: واذكر يا محمد، حين نادى إبراهيم - عليه السلام - ربه، طالبا منه أن يريه - عمليًا - كيفية إحياء الموتى. والسؤال يدل على أنه يؤمن بإحياء الموتى، ولكنه يطلب رؤية طريقة الإحياءِ عمليًا، ليزداد إيمانًا ويقينًا. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}:؟ أي لقد آمنت .. فلماذا تسأل هذا السؤال؟. {قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: اعْلَمْ أن الله تعالى عليم بإيمان نبيه وخليله إبراهيم، وليس بحاجة إلى استفهام عنه. لكن الحكمة في ذلك: أن يعلن إبراهيم إيمانه العميق بقدرة الله، حتى لا يتطرق إلى الأذهان، أن إبراهيم حين سأل ذلك - خطر له أي شك في الله. فالسؤال في الحقيقة: سؤال تقرير. ولهذا أجابه إبراهيم مؤكدا إيمانه، نافيًا عن نفسه أية خاطرة من الشك أو الارتياب. فقال: بلى. آمنت. ثم علل سؤاله لربه بحرصه على الاطمئنان القلبي - عن طريق المشاهدة والعيان، إلى جانب طريق الوحي والبرهان - ليزداد ثباتًا فوق ثبات. والله يثبت إيمان أنبيائه وأوليائه دائمًا فيقول: { ... كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (¬1). ¬

_ (¬1) الفرقان: من الآية 32

ويقول جل شأنه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ... } (¬1). ولهذا، ثبت الله إيمان إبراهيم وطمأنه، فأراه كيف يحيي الموتى، كما سيأْتي بيانه. {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}: أمره الله سبحانه، أن يأخذ أربعةً من الطير، وأن يضمهن إليه، ليتأمل في كل منها فيعرف - معرفة يقينية - مميزات كل طائر عن غيره، حتى إذا ذبحها وفرق أجزائها - مختلطة على الجبال التي حوله - ضَمَّ الله أجزاء كل طائر، وأعاده إلى ما كان عليه: جسمًا وصورة وحركة. ويروي: أن كل طير كان من نوع يخالف نوع الآخر. وقال أبو السعود: وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل، ويُمْنِ الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، حيث أراه الله تعالى ما سأل - في الحال - على أيسر ما يكون من الوجوه. ا. هـ. ولما كانت هذه القصص الثلاث، مسوقة للدلالة على قدرة الله على بعث الموتى وإحيائهم للحساب والجزاء - ختمها مخاطبًا كل مكلف بقوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أي واعلم أيها المكلف - بعد تلك الحجج القاطعة - أن الله تعالى غالب لا يعجزه شيٌ أراده. حكيم في أفعاله. وإذا كان الأمر كذلك، وجب الإيمان بالبعث، وإدراك الحكمة فيه، وهي: أن يجزي الله المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ¬

_ (¬1) إبراهيم: من الآية 27

سبب النزول

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} المفردات: {فِي سَبِيلِ اللهِ}: أي في طريقه الموصل إلى مرضاته، والمراد منه: الجهاد، وأعمال البر المتنوعة. {سَنَابِلَ}: جمع سنبلة وهي: ما يتكون فيه الحب. {يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}: يزيد الأجر لمن يشاءُ من أهل الإحسان، على النحو الذي يشاؤُه من الزيادة. كسبعمائة وما دونها، وأكثر منها. والضعف: المثل. {وَاسِعٌ}: جزيل الثواب. التفسير 261 - {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ... } الآية. لما قص الله ما في القصص السابقة من البراهين على البعث، حث على الإنفاق في سبيل الله، لينال المنفقون ثوابهم بعد البعث الذي أثبته الله لهم بتلك البراهين. فقال جل ثناؤه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ ... } الآية. سبب النزول: رُوي أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفا، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حث الناس على الصدقة - حين أراد

الخروج إلى غزوة تبوك - جاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقال: أقرضتها لربي .. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت". وقال عثمان: يا رسول الله، عليَّ جهازُ مَنْلا جهاز له. فنزلت الآية فيهما. وقيل: نزلت في نفقة التطوع. والمعنى: أراد الله - تعالى - أن يصور لعباده الثواب العظيم، الذي ينالونه على الإنفاق في سبيل الله، الشامل للجهاد ووجوه البر المتنوعة، فضرب لهم في ذلك مثلًا مشاهدًا، ليحثهم، ويحرضهم على مواصلة الإنفاق فيه، فَشَبَّه لهم الذين ينفقون أموالهم لوجه الله سبحانه - بالزارع المفلح الناجح، الذي يضع الحبة في الأرض الطيبة فتنبت نباتًا حسنًا، ويتضاعف خيرها وثمرها، فيخرج منها سبع سنابل، في كل سنبلة منها مائة حبة، فيكون المجموع سبعمائة حبة. ثم عقب لله بقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}: أي يضاعف تلك المضاعفة، أو دونها أو فوقها لمن يشاءُ، حسب حال المنفق، من إخلاصه وتعبه. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ}: كثير الجود، فلا يضيق بهذه المضاعفة. {عَلِيمٌ}: بِنِيَّةِ المنفق، ومصدر ما ينفقه، ومقداره، فيجازيه حسب حاله. روي مسلم، وأحمد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله ... " الحديث. والمقصود من العدد هنا: الدلالة على الكثرة، لا التحديد.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}. المفردات: {مَنًّا}: المن، أن يذكر المنفق لمن أحسن إليه فضله، مستوجبًا به حقه عليه. {أَذًى} الأذى هنا، أن يتطاول المنفق على آخذ الصدقة بالقول أو العمل. التفسير 262 - {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ... } الآية. هذه الآية مستأنفة، جيء بها لبيان كيفية الإنفاق المستتبع لمضاعفة الثواب، التي مرت في الآية السابقة. ومعنى الآية: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، من جهاد وغيره من وجوه البر، ابتغاء مرضاته تعالى، ثم لا يُتبعون ما أنفقوا منًّا على ما أنفقوا عليهم: بأن يَذْكُرُوا لهم إحسانهم ويعتدوا به عليهم ولا يفهمونهم أنهم أوجبوا به حقًّا عليهم، ولا يتبعونه أذى لهم بالقول، أو بالفعل - هؤلاء: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ}: الذي سبق بيانه في الآية السابقة. {عِندَ رَبِّهِمْ}: في دار الكرامة والمثوبة.

{وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: في الدارين من لحوق مكروه بهم. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: على فوت مطلوب لهم، فمطالبهم حاضرة بين أيديهم، ومسراتهم دائمة بين جوانحهم. {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} المفردات: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}: المعروف، اسم لكل فعل يُعرف حسنه. والمراد بالقول المعروف هنا. القول الجميل، للسائل. {ومَغْفِرَةٌ}: المغفرة، عدم العقوبة. {حَلِيمٌ}: لا يعاجل بالعقوبة. التفسير 263 - {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ... } الآية. القول المعروف: أن يردَّ المسئول على من يسألة الصدقة بالقول الجميل، الذي تقبله النفوس ولا تنكره ولا تتأذى منه، كأن يعتذر إليه بعدم استطاعته، أو يَعِدَه بالمعاونة في المستقبل، أو يدعوَ له بالتيسير والفرج، والمغفرة له: هي العفو عنه إذا وجد منه إلحاحًا في الطلب، أو ثقلا في السؤَال. والآية الكريمة تفيد: أن المسئول إذا سلك مع السائل هذا المسلك، فإنه يكون أحسن وأفضل من أن يعطيه صدقة، ثم يتبعها تطاوله عليه، أو إيذاءَه له بقول أو عمل.

{وَاللَّهُ غَنِيٌّ}: فلا يحوج الفقراء إلى تحمل مئونة المن والأذى، بل يرزقهم من جهة أُخرى. {حَلِيمٌ}: لا يعجل بالعقوبة لأصحاب المن والأَذى، لعلهم يتوبون. فعلى الغَنِيِّ المسلم: أن يتعظ بهذا التذكير، فيعطي بلا مَنَّ ولا إيذاءٍ، أو يرد السائل ردًّا جميلا، مع حسن الاحتمال لما يثقل من السائل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} المفردات: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم}: لا تبطلوا ثوابها بالمنّ أَو الأَذى. {رِئَاءَ النَّاسِ}: مراءَاة للناس. {صَفْوَانٍ}: الصفوان، الحجر الأَملس. {وَابِلٌ}: الوابل، أشد المطر، أو المطر العظيم القَطْر. {صَلْدًا}: الصلد، الحجر الصُّلب.

التفسير 264 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ... } الآية. يا أيها الذين آمنوا لا تضيعوا على أنفسكم ثواب صدقاتكم بالفخر على الفقراءِ، الذين تدفعونها إليهم، أو بالتطاول عليهم، وإيذائهم بالقول أو الفعل. {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: شبهت الآية الكريمة المتصدق الذي يُتْبِعُ صدقاته بالمن والأذى، بالذي يتصدق بالأموال، ليرائي بها الناس، وهو - مع هذا - لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. فهو لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا من الله، بل يلتمس بصدقته رضوان الناس، لا رضوان الله. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}: شبه الله المرائي ونفقته التي لا ثواب لها، بحجر أملس عليه تراب، هطل عليه وابل أي مطر شديد ضخم القطر، فأزال عنه التراب، وتركه ناعمًا أملس خاليًا من التراب. والغرض من هذا التشبيه: أن المرائي بنفقته، الذي بالله واليوم الآخر: لا ثواب له كما سيأتي التصريح به. {لَّا يَقْدِرُ ونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا}: أي هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس، ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لا يقدرون يوم القيامة على نيل ثواب شيءٍ مما بذلوه في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة. وإذا كان هذا الضياعُ مآل أُولئك المرائين، فكذلك مآل من يشبههم، وهم الذين يبطلون ثواب ما أنفقوا بالمن والأذى. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}: والله سبحانه وتعالى لا يوفق هؤلاء الكفار لإصابة الحق في نفقاتهم، لأنهم آثروا الرياءَ على ابتغاء مرضاة الله، فتركهم في ضلالهم يعمهون.

وقد نهى الله المؤمنين - بهذا التشبيه - عن أن ينزلقوا فيما انزلق فيه هؤلاء الكفار. فإن في الآية تعريضًا بأن كُلًّا من: الرياءِ، والمن والأذى، من خصائص الكفار، ولابد للمؤنين أن يجتنبوها. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} المفردات: {ابْتِغَآءَ مَرْضَاةِ اللهِ}: طلبًا لرضا الله سبحانه. {وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ}: أي وتثبيتًا للبذل والإنفاق في أنفسهم، حتى يكون ذلك عادة لهان فلا تترد فيه. {جَنَّةٍ}: الجنة، البستان. {بِرَبْوَةٍ}: الربوة، المكان المرتفع عن الأرض. {فَآتَتْ أُكُلَهَا}: أَعطت مأكُولها وثمرها. {ضِعْفَيْنِ}: مثلين. أي مثلَىْ ما كان يعهد منها، أَو مثَلي ما يعطيه غيرها عادة. {وَابِلٌ}: مطر عظيم القطر. {فَطَلٌّ}: مطر خفيف، صغير القطر، وهو الرذاذ.

التفسير 265 - {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْأَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْيُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ... } الآية. لما نهى الله المؤمنين - في الآية السابقة - عن أن يبطلوا صدقاتهم بالمن بها على من أعطوهم، وزجرهم عن أن يؤذوهم بتعدادها والفخر بها عليهم، وحذرهم من مشابهة المرائين بالنفقاتن فإن الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين - أتبع ذلك بيان جزاء الإنفاق في سبيل الله، ومعناه: ومثل إنفاق المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في وجوه البِرِّ، طلبا لمرضاة الله تعالى، وتثبيتًا للبذل من أنفسهم، حتى يصبح الإنفاق في سبيل الله عادة لنفوسهم، وطبيعة فطرية لها، فلا يترددوا في وضع صدقاتهم في مواضعها الجديرة بها كلما دعا داع إلى ذلك - مثل هذا الإنفاق، كمثل بستان بمكان مرتفع من الأرض تجود فيه الأشجار، وتزكو الثمار: أنعم الله عليه بالماء الغزير، فزاد ذلك في خصبه، وضاعف من ثماره، فأعطى أصحابه من الثمار ضعفين، لطيب تربته، وغزارة مائه. ثم يقول الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} فرذاذ يكفيها، لتجود بثمرها، فهي - في كلتا الحالتين - مثمرة نافعة. وهذا مثل ضربه الله - تعالى - للطائعين المنفقين في سبيل الله بحسب نياتهم ونفقاتهم، فكلما حسنت نياتهم، وزاد بذلهم في نفقاتهم في سبيل الله - تضاعف ثوابهم كما يتضاعف ثم البستان المرتفع: الطيب التوبة، الغزير المطر. وإن حسنت نياتهم وقَلَّ بذلهم وإنفاقهم في سبيل الله وعندهم الكثير، أثيبُوا كذلك على قدر بذلهم ونياتهم، كما يثمر البستان المرتفع الخصب: الذي يصيبه الطل ويسقى نباته المطر القليل. قال الآلوسي: وخلاصة هذا التشبيه: أن نفقات هؤلاءِ زاكية عند الله، لا تضيع بحال، وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يوازنها من الإخلاص والتعب وحب المال، والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك.

ثم ختمت الآية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: للإيذان بأنه مطلع على أعمالهم، فيعلم قلتها وكثرتها، وإخلاصهم فيها إن أخلصوا، ودرجة هذا الإخلاص، ويعلم رياءَهم فيها إن لم يخلصوا، ودرجة هذا الرياءِ، وأنه يجازي كلًّا على حسب حاله. ففي هذه الجملة: ترغيب للمنفقين في الإِخلاص، ووعيد للمرائين، وتحذير لهم من عاقبة الرياء. وفي الحديث القدسي: "أَنا أَغنى الشُّركاء عَنِ الشِّرْك، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشَرِيكَهُ". {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} المفردات: {إِعْصَارٌ}: الإعصار، الريح التي تهب بشدة فتحتاج ما أمامها. التفسير 266 - {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ... } الآية.

الاستفهام هنا، للنفي. والمعنى: لا يحب أحد أن يحدث له ما أوردته الآية الكريمة، وهو: أن يكون له بستان فيه نخيل وأعناب - وهما من أنفس أشجار الفواكه المعروفة وأكثرها نفعًا - والأنهار تتخلل هذه الأشجار، ويملك في هذا البستان - إلى جانب النوعين السابقين - جميع أنواع الأشجار المثمرة، ثم يصيبه التلف.؟! على ما سيأتي بيانه في بقية الآية. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ}: أي وتقدمت السن بصاحب هذا البستان، فصار شيخًا كبيرًا، عاجزًا عن الكسب، على حين أن له أولادًا ضعافًا لا يقدرون على الكسب .. وهذه الحديقة هي مصدر أرزاقهم ومعاشهم. {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}: فأصابت الحديقَةَ - بغنة - ريحٌ عاصفة مدمرة: فيها نار شديدة، فاحترقت. يروي: أن عُمَرَ سأَل عن هذه بعض الصحابة، فقالوا: الله أعلم. فقال عُمَرُ: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أميرَ المؤْمنين. فقال عمرُ: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس: ضُربَتُ مثلا لعمل. فقال عمرُ: لأَي عمل؟ فقال ابن عباس: لرجل غنيٍّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق - أو أحرق - أعماله كلَّها. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: أي مثل ذلك البيان الواضح، يوضح الله لكم الآيات، لكي تتفكروا وتعتبروا بما فيها من العظات وتعملوا بموجبها.

سبب النزول

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} المفردات: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}: مِن حلال ما كسبتم وخياره. {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ}: أي ومن طيبات ما أخرجناه لكم من باطن الأَرض من النبات والحبوب والثمار والمعادن وغيرها. {وَلَا تَيَمِّمُوا الْخَبِيثَ}: لا تقصدوا - بما تنفقون - الرديءَ والحرام. والتيمم في اللغة: القصد. {أَن تُغْمِضُوا فِيهِ}: الإغماض في اللغة، غض البصر. مأْخوذ من الغموض، وهو الخفاءُ. والمراد هنا: أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه. {حَمِيدٌ}: محمود على نعمه، أو حامد أي مكافيءٌ لمن أنفق في سبيله من الطيبات. التفسير 267 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ... } الآية. سبب النزول: روى الحاكم في المستدرك - وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر، فجاءَ رجل بتمر رديءٍ، فنزلت الآية. وروى ابن أبي حاتم والترمذي، عن البراء بن عازب - في الآية - قال: "نزلت فينا معشرَ الأنصار: كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأْتي من نخله على

قدر كثرته وقلته. وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين (¬1)، فيعلقه بالمسجد. وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو، فضربه بعصاه، فيسقط البسر والتمر فيأْكل. وكان ناس ممكن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف - والشيص: رديُّ التمر. والحسف: أَردأُ التمر - وبالقنو قد انكسر فيعلقه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ}: قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أَعْطَى، لم ياخُذْه إلا على إغماض أو حياءٍ، قال: فكنا بعد ذلك، يأتي أحدنا بصالح ما عنده". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من جيِّد ما كسبتم وحلاله، وأنفقوا من طيبات ما أخرجه الله لكم من جوف الأرض، سواء كان من النبات، أم المعادن، أم غير ذلك. ولا تقصدوا بالرديء من أموالكم، أو الحرام منها لتُنْفِقُوا منه. {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ}: أي أنكم لو أعطاكم أحد من هذا الصنف، ما قبلتموه ولا أخذتموه إلا تساهلا في بعض حقكم. فأعطوا الناس مثل ما تحبون أن تأخذوه. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}: فلا يدعوكم إلى الإنفاق في سبيله لحاجة أو عوز، ولكنه يأمركم به لمنفعتكم. وأنه مستحق للحمد لأنه هو الذي يرزقكم هذه الأموال، ويثيبكم على ما أنفقتموه منها. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}. المفردات: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ}: يخوفكم من الفقر إذا أنفقتم شيئا من الأموال أو الثمرات. ¬

_ (¬1) القنو في التمر، بمنزلة العنقود في العنب.

والوعد: يستعمل في الخير أكثر من الشر، وهو هنا، مستعمل في الشر، كما في قوله تعالى: {النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). {وَيَامُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ}: أي ويحضكم على البخل بالصدقات. فالمراد بالفحشاء هنا: البخل. والعرب تطلق كلمة الفاحش: على البخيل. ومنه قول طرفة بن العبد: أرى الموتَ يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد (¬2) وقيل: المراد بالفحشاء، جميع المعاصي. {وَفَضْلًا}: أي زيادة في الرزق، أو ثوابا في الآخرة، أو الأمرين جميعا. {وَاسعٌ}: أي صاحب سعة. والمراد بها هنا: سعة النعمة والمغفرة. التفسير 268 - {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ... } الآية. لما رغَّب الله تعالى عباده في الإنفاق من أجود ما يملكون، حذَّرهم بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}: أي يقول لكم إن تصدقتم افتقرتم. {وَيَامُرُ كُم بِالْفَحْشَاءِ}: أي يحضكم على البخل بأموالكم وحبسها عن وجوه البر، لتبقى لكم، فتظلوا أغنياء، ويعرضكم بوساوسه هذه للبعد عن رضا الله ورحمته. {وَاللهُ يَعِدُكُمْ}: على الإنفاق في سبيله. {مَغْفِرَةً مِّنْهُ}: لذنوبكم. {وَفَضْلًا}: أي زيادة في الخير لكم بالبركة في المال، والسعة في الرزق، والثواب في الآخرة. فلا تثقوا بوعد الشيطان، ولا يغرنكم بالله الغرور، فإنه عدوٌّ لكم، وثقوا بوعد الله فإنه ربكم وهو أرحم بكم، وأعلم بما فيه صلاحكم. {وَاللهُ وَاسِعٌ}: يسع بمغفرته وفضله من أطاعوه فيما أمر، وانتهوا عما حذر منه وأنذر. {عَلِيمٌ}: بكل شيءٍ، فلا يخفى عليه من أطاع شيطانه وهواه، ومن امتثل أوامر مولاه. ¬

_ (¬1) الحج: من الآية 72 (¬2) يمتام: بمعنى يختار. عقيلة مال: أي خيره. المتشدد: الشديد البخل.

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} المفردات: {الْحِكْمَةَ}: هي إصابة الحق، في قول أو فعل أو راي. وهي من الملكات النفسية العليا، التي يمنحها الله من هو أهل لها. التفسير 269 - {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ... } الآية. أي: يعطي الله فضل التمييز بين الحق والباطل، من يشاء من عباده الأخيار، فيختار الحق ويعمل بمقتضاه، ويذر الباطل ويبعد عن طريقه. {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}: ومن يعطه الله نعمة التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطإ يبعده عن المعاطب، ويصل به إلى السلامة والنجاة. {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}: وما يتفكر كما يتفكر أهل الحكمة، أو يتعظ اتعاظهم، إلا أصحاب العقول الخالصة، مِن شوائب الغباء والجهل، ومتابعة الهوى، ووساوس الشيطان. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} المفردات: {مِن نَّفَقَةٍ}: النفقة، ما ينفقه الإِنسان من المال في خير أو شر.

{مِن نَّذْرٍ}: النذر، هو ما يوجبه الإنسان على نفسه، من غير أن يلزمه الله به قبل نذره، ثم يصير - بالنذر - واجب الأداءِ شرعًا. التفسير 270 - {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْنَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ... } الآية. هذه الآية مسوقة للحث على تنقية النفقات والنذور، وتخليصهما من شوائب الشر. ومعناها: وما أنفقتم - أيها المكلفون - من نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة، أو نذرتم من نذر هَانَ أو عظُم، فإن الله يعلمه بجميع أحواله وأوصافه، من طيِّب أو خبيث، قلّة أو كثرة، ابتغاءَ وجه الله به، أو ابتغاء وجه سواه، وتوجيهه إلى ما يرضى الله أو ما يغضبه، ويجازيكم عليه. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ}: الذين يضعون الأُمور في غير مواضعها، ويبذلون المال في غير وجوهه المشروعة، ويضنون به على مستحقيه. {مِنْ أَنصَارٍ}: يمنعونهم من عذاب الله على ظلمهم. {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} المفردات: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}: إن تظهروها بحيث يراهم الناس لقتدوا بكم. {فَنِعِمَّا هِيَ}: فنعم شيئا هذه الصدقات التي أبديتموها. وفي الكلام مضاف مقدر، أي: فنعما إظهارُها.

التفسير 271 - {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ... } الآية. أي إن تظهروا الصدقات المفروضة أو المقطوع بها - وأنتم تدفعونها لمستحقيها من المحتاجين - فنعم شيئًا إظهارها، لما فيه من نفي تهمة البخل عنكم، وحمل الغير على الاقتداء في التصدق بكم. {وَإِن تُخْفُوهَا}: أي تسترونها عن أعين الناس، ابتعادًا عن مظنّة الرياء والنفاق، وحماية لآخذيها من موقف الذلّ والهوان أمام الناس. {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}: أي تعطوها من يستحقها من الفقراء، بعد التأكد من فقرهم بالتحري عنهم، لتقع الموقع الشرعي المطلوب. {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}: فالإخفاء خير لكم وأفضل عند الله من الإظهار. {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ}: {مِنْ}: بمعنى بعض. أي والله يكفر عنكم بعض ذنوبكم، فإن الصدقات يُكفِّرُ بها بعض السيئات، لا جميعها. وقد دلت هذه الآية، على أن الصدقة سرًا، أفضل من الصدقة علَنًا. قال الآلوسي: والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان - كل من صدقني السر والعلانية - تطوعًا مِمَّنْ لم يعرف بمال "أي لم يعرف بغنى" وإلا فإبداءُ الفرض لغيره "أي لغير المتطوع المذكور" أفضل لنفي التهمة، وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وَأَمِنَ نَفْسَه. انتهى. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - "صدقةُ السِّر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفًا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها" انتهى.

وفضل صدقة السر على صدقة العلانية، يؤيدها ما رواه الشيخان مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يُظِلُّهم الله تعالى في ظلِّهِ يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عَدْل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أَخافُ الله، ورجلٌ تَصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمَالُه ما تنفقُ يمينهُ، ورجلٌ ذكر اللهَ خاليا ففاضَتْ عَيْناه" (¬1). وأخرج الطبراني مرفوعًا: "إنَّ صدقَةَ السِّرِّ تُطفِيءُ غَضَبَ الرَّبّ". {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: فهو يعلم جميع أعمالكم سرها وجهرها، ويعلم صدقاتكم ودوافعها. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} المفردات: {هُدَاهُمْ}: الهدى لغة: الدلالة والإرشاد، وقد يطلق على الاهتداءِ والرشاد، وهو المراد هنا. تقول: هديته فهدى واهتدى أَي أرشدته ودللته فرشد واهتدى. {ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللهِ}: طلبا لوجهه سبحانه، والمراد بوجه الله: ذاته، أو جهته. التفسير 272 - {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ... } الآية. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على أن يهتدي الناس لما هداهم إليه. وكان يبذل في ذلك أشد الجهد، ويتحمل في سبيله عبئا نفسيًا شديدًا. ¬

_ (¬1) النص للبخاري في باب الصدقة باليمين.

فأنزل الله عليه هذه الآية، ليخفف عنه أعباءَه النفسية، ببيان أنه ليس عليه سوى التبليغ. وأَما الاهتداءُ، فمن الله. وأن من أحسن فلنفسه. والآية متوسطة بين آيات الحث على الإنفاق، مبالغة في حمل المخاطبين على الامتثال. وإلى هذا ذهب الحسن وأبو على الجبائي. والمعنى: ليس واجبًا عليك يا محمد، أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن، المنهيين عن أضدادها - مهتدين إليها عاملين بها فعلًا، فذلك ليس من شأْنك، ولست مكلفًا به، ولكنه شأْن الله الذي يهدي من يشاءُ إلى الخير، وهم أُولئك الذين اتجهوا باختيارهم إليه، فيعينهم ويوفقهم ويهديهم. واتجه بعض المفسرين إلى أن الضمير في {هُدَاهُمْ} لا يرجع إلى من أُمروا بالنفقة في الآيات السابقة واللاحقة، بل يرجع إلى الكفار، وإن لم يُذْكَروا، مراعاة لسبب النزول. فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أَلَّا نتصدق إلى على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير عنه قال: {كان أُناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة. وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا .. فنزلت}. وأخرج ابن أبي شيبة، عن سعيد بن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَصَدَّقُوا إلَّا على أَهْلِ دِينِكم" فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}. والمعنى على هذا الرأي: ليس واجبًا عليك أن تُلْجِيءَ هؤُلاء الكافرين إلى الإسلام، إن عليك إلا البلاغ، وقد فعلت، فلا تجعل التصدق عليهم منوطًا بإسلامهم. والآية على هذا، لا تعتبر بعيدة عما قبلها وما بعدها من آيات الإنفاق، إذ هي لإباحة الإنفاق على من خالفنا في الدين. {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}: أي وما تنفقوا في الوجوه المشروعة من مال طيب.

{فَلِأَنفُسِكُمْ}: لا يعود نفعه إلا عليكم، فلا تنفقوا من الخبيث، ولا تبطلوه بالمَنِّ والأذى، ومراءَة الناس. أو، فلا تمنعوه عن الفقراء من الكفار، فإن نفعكم به ديني، ونفع الكافرين به دنيوي، فلا يُصَدُّ عنهم، لأن الإسلام لا يمنع البِرَّ عن الناس، مهما كان دينهم. {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}: الجملة معطوفة على ما قبلها، أو حال. والمعنى: وما تنفقون من الخير - لسبب من الأسباب - إلا ابتغاء وجه الله، وطلبا لرضاه. وإذا كان أمركم كذلك، فلا يضيركم أن تعطوا منه الفقراء الكفار، فلا تمنعوهم إياه، فإن لكم ثوابه. ويجوز أن يكون النفي فيها بمعنى النهي، أي لا تنفقوا الخير إلا لوجهه تعالى، لا رياءً ولا لغرض من الأغراض الدنيوية. (¬1). {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} التوفية: إكمال الشيء. أي وما تنفقوا من خير تُعْطَوْن جزاءَه وافرًا وافيًا، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، على أن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. وقيل: المعنى: يوف إليكم خلفه في الدنيا، ولا ينقص به من مالكم شيء. نقول: ولا يمنع هذا الثواب الآخرة. {وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}: أي لا تنقصون شيئا مما وُعدتم به من الثواب. ¬

_ (¬1) وبما أنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمراد بوجه الله: ذاته أو جهته. وعلى كل، فالمقصود من التعبير به في العرف القوي: الإخلاص وعدم الإشراك. أي ما تنفقون إلا ابتغاء الله تعالى، دون أن يكون لكم مأرب آخر سوى رضاه سبحانه. وإذا كانت الجملة خبرية، ففيها شهادة من الله تعالى لأصحاب رسوله، وثناء عليهم بأنهم مخلصون في إنفاقهم، فلا يبتغون به سواه سبحانه.

وفي الآية: دليل على جواز دفع صدقة التطوع للكافر. أما الصدقة المفروضة في المال والزرع ونحوها -أي الزكاة- فلا يجوز دفعها له. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}. المفردات: {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}: حبسوا في سبيله تعالى بالجهاد، أو العمل في مرضاته. {ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}: سَعيا فيها للتكسب. {مِنَ التَّعَفُّفِ}: من أجل تعففهم وامتناعهم عن السؤال. {تَعْرِفُهُم بِسِمَاهُمْ}: أي بعلامتهم كرِقَّةِ الحال، أَو صُفْرَةِ الوجه أَو نحوهما. {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}: لا يسألونهم -ملحين في السؤال- حتى يعطوا. التفسير 273 - {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ... } الآية. سبب النزول: نزلت في أهل الصفة، وكانوا نحو ثلاثمائة من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة مسجد المدينة، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قاله ابن عباس ومحمد بن كعب القُرَظي.

وعن سعيد بن جبير: هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله، فصاروا زَمْنَى، فجعل الله لهم في أموال المسلمين حقًّا. نقول: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من كان على مثل حالهم، يستحق الصدقة. وكذا. كل من كان كسبه لا يكفيه. {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ}: أي اجعلوا صدقاتكم للفقراء الذين حبسهم عن التكسب العملُ في سبيل الله، كالجهاد وطلب العلم؛ لأنهم بسبب ذلك - لا يستطيعون سعيًا في الأرض للتكسب وجلب الرزق. {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}: أي يظنهم من لا يعرف حالهم - أغنياء: لا يستحقون الصدقة من أجل تعففهم، وامتناعهم عن السؤال. {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}: أي تعرف فقرهم بعلامتهم الملازمة لهم، المنبهة لفقرهم. وهي صفرة الوجوه، والجهد والانكسار ونحو ذلك. والخطاب في {تَعْرِفُهُمْ} عام للرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره ممن يَنْظُر حالهم. {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}: أي لا يسألون الناس مُلِحِّين في السؤَال، كعادة الفقراء. والمراد: أنهم لا يسألون الناس أصلا، كما قاله ابن عباس. ومن أجل ذلك جُهِل حالهم، ولم يُعْرَفوا إلا استنباطا من علاماتهم. فالنفي هنا موجه، للأمرين جميعًا: السؤال، والإلحاح. وإلى هذا ذهب الفراءُ، والزجاج، وأكثر المفسرين. وقيل المراد، أنهم لا يسألون، وإن سألوا عن ضرورة - لم يلحوا. والأول هو الراجح.

{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}: فيجازيكم عليه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، وهو ترغيب في الإنفاق عمومًا، وعلى هؤلاء خصوصًا. أخرج البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ المسكين الَّذي تردُّهُ التمرةُ والتَّمرتان، واللُّقمةُ واللُّقمتان، إنما المسكين الذي يَتعفَّفُ، واقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُون النَّاسَ إِلْحَافًا}. ... {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}. التفسير 274 - {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ... } الآية. لما بين الله في الآية السابقة أَوْلَى الناس بالصدقة، بيَّن في هذه أَكْملَ وجوه الإنفاق. سبب النزول: أخرج ابن المنذر، عن ابن المسيب: أن الآية نزلت في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، في نفقتهم في جيش العسرة. وَرُوِيَ غَيْرُ ذلك.

والآية عامة الحكم، وإن نزلت بسبب خاص. (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ): أي في جميع الأوقات، فلا يخصون وقتا دون وقت. (سِرًّا وَعَلَانِيَةً): أي في جميع الأحوال، فلا يلتزمون حالا معيَّنَةً. (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ): اللائق بهم. (عِندَ رَبِّهِمْ): في دار كرامته. (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): من لحوق مكروه بهم. (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): على فوت شيءٍ من مطالبهم. وفي تقديم: الليل على النهار، والسر على العلانية، إشعار بأن إخفاء الصدقة أولى من إظهارها. وفي الآية: حثٌّ لأهل الغني واليسار، على الإنفاق في جميع الأوقات والأحوال، وترغيبٌ لهم -في ذلك- بما وعدهم الله من الأجر العظيم عنده في دار كرامته. كما أن فيها إشعارا -عن طريق المفهوم- بأن البخلاء محرومون من هذا الأجر الجزيل، وأنهم عرضة للخوف والحزن. روى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه، لما استُخْلِفَ - خطب الناس فَحمِدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس: إن بعضَ الطمعِ فقرٌ، وإن بعضَ اليأسِ غنى، وإنكم تَجمعونَ ما لَا تأكلونَ، وتُؤمِّلُونَ ما لا تُدرِكونَ، واعلموا أَنَّ بعضا من الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرًا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد تفسيرها.

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}. المفردات: (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا): المراد بأكله، الانتفاع به، عبر به عنه لأنه أهم ما قصد به. والربا لغة: الزيادة. وشرعا: مال زائد في معاوضة -مبادلة- مالية ليس له ما يقابله. (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ): يمسه بالأذى -قاله صاحب القاموس- وهو كما قال الآلوسي: ضربات متوالية على أنحاء مختلفة. ثم تُجَوِّزَ به عن كل ضرب غير محمود. (فَانتَهَى): أي كَفَّ عن الربا. (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا): يذهبه ويهلكه - أو المعنى يهلك المال والربح الحرام. (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): أي يزيد ثوابها، أو يزيد المال الذي أُخرجت عنه. (كُلَّ كَفَّارٍ): كل مبالغ في الكفر بإقامته عليه. (أَثِيمٍ): منهمك في ارتكابه الإثم. التفسير 275 - {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... } الآية. بعد أن بين الله فضل الإنفاق، ومدِّ يد المعونة إلى الفقراء والمحرومين - أتبعه ذم أهل الربا: الذين يمتصون دماء الناس بدلاً من معاونتهم والإشفاق عليهم.

والمعنى: الذين يأخذون الربا ويتصرفون فيه: بأي وجه من وجوه التصرف: أكلاً أو غيره مثلهم - في جشعهم وحرصهم على تشمير أموالهم، وشدة تفكيرهم فيها وتحركهم في اكتسابها، والكَلَبِ عليها - كمثل الذي يتخبطه الشيطان، ويصرعه بسبب مَسِّهِ له، فهو دائم الحركة كالمسعور والمجنون. وتأويل الآية بهذا الوجه، هو رأي ابن عطية. وعلى هذا النحو. يقول الناس فيمن يسرع بحركات مختلفة: فلان كالمجنون. ويرى غير ابن عطية أن الآية على معنى: أن من يأكلون الربا لا يقومون من قبورهم -يوم القيامة- إلى كالمجانين الذين يتخبطهم الشيطان من المس. مُستدلين بنحو ما أخرجه الطبراني عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياك والذنوب التي لا تُغفَر: الغُلولَ .. فَمَن غلَّ شيئا أتَى به يوم القيامة، وأَكْلَ الربا، فمن أَكَلَ الربا بُعِثَ يوم القيامة مجنونا يتخبط" ثم قرأ الآية، قالوا: ولعل ذلك جعل علامة له يعرف بها في ذلك اليوم الرهيب. وممن نسب إليه القول بذلك ابن عباس، وابن مسعود وقتادة، واختاره الزجاج. ومس الشيطان الذي يحدث به التخبط يحتمل أن يكون الوسوسة الدائمة، فإنها تنتهي إلى الجنون، ومن إطلاقه على الوسوسة قوله تعالى: " ... إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (¬1) أو أن يكون ضربًا من اللقاء الجسدي بينه وبين من يمسه من الإنس، يحدث به الاختلاط والجنون، كما يقوله المعنيون بهذا الضرب من العلم. والمعنى الأخير، هو المعروف عند العرب، ومن ذلك ما قالته قريش فيما عرضوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكف عن التعرض لآلهتهم وتسفيه أحلامهم "وإن كان الذي يأتيك رئيًّا أي -جنيًّا- قد غلب عليك، بَذَلنا أموالنا في طلب الطب لك، حتى نُبْرئَكَ أَو نُعْذَرَ فيك". (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا): الإشارة في (ذَلِكَ) راجعة إلى أكلهم الربا، يعني أنهم استحلوا الربا وأكلوا وانتفعوا به، بسبب أنهم جعلوه مثل البيع في الحل؛ لاتفاقها في المعارضة والزيادة من أحد الجانبين. فكما أنه يحل ببيع ما قيمته أربعة دراهم بخمسة، فكذلك يحل ببيع أربعة ¬

_ (¬1) الأعراف: من الآية 201.

دراهم بخمسة، وقد أخطأوا في الحكم تبعًا لخطئهم في القياس، على ما سنبينه. وإنما قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ولم يقولوا: إنما الربا مثل البيع، لإرادة المبالغة، كأنهم جعلوا الربا أَصْلا للحِل، وشبَّهُوا البيع به في الحكم كما في قول الشاعر: ومَهمَه مُغبَّرةٍ أرجاؤه ... كأن لونَ أَرضه سماؤه (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا): هذه جملة مستأنفة للرد عليهم، والمعنى: وأحل اللهُ البيع وحرم الربا بالنص، ولا يصح القياس مع وجود النص ممن له حق التشريع. وهو الله سبحانه وتعالى. والفرق بينهما في الحكم، تابع للفرق بينهما في المقتضى للحكم، فإن من باع ثوبًا قيمته أربعة دراهم بخمسة، فقد جعل الثوب كله في مقابل هذه الخمسة، فلا شيءَ منه إلا وهو مقابل لجزءٍ من الدراهم الخمسة، أما من باع أربعة دراهم بخمسة، فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال في مقابلته، لأن الإمهال ليس بِمَال حتى يكون في مقابلة المال. فضلاً عن أن الربا يمنع أصحابه عن الاشتغال بالتجارة والصناعة ذات المنافع العامة، ويفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس، فتضيق الحياة عليهم. فلو أن اللهَ أحلَّه كالبيع، لاستَغَلَّ المرابي حاجةَ الناس، وأَكَلَ أموالهم بالباطل، وسدَّ عليهم أبواب الفرج والرحمة. فلذا كان من رحمة الله بأصحاب الحاجات، أن حَرَّم الربا على أصحاب الأموال، حتى يسود التراحم بين الناس ... وتلك سنة الإسلام في التشريع. (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ): أي فمن بلغه موعظة وتذكير في شأن الربا من ربه ومالك أمره، فانتهى عنه، وامتنع من الاستمرار في التعامل به، فله ما تقدم من المال الربوي لا يُسْتَرَدُّ منه، ولا يُقْهرُ على رده. وهذا مذهب الباقر وسعيد بن جبير، في فهم الآية. وقال السدي وغيره، معناها: لا مؤَاخذة على ما أخذه (¬1)، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وقال القرطبي: هذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف، ومن كان يَتَّجِر هنالك. ¬

_ (¬1) أي ما أخذه قبل أن يبلغه التحريم.

ونقول: إن غيرهم ممن أسلم، وكان في كفره مرابيًا، له هذا الحكم أيضًا. (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ): أي وأمر المنتهي عن الربا إلى الله تعالى: إن شاء ثبَّته على الانتهاء عن الربا لصدق نيته، وإن شاء خذله لعدم الجِدِّ في انتهائه وخور عزيمته. ويجوز أن يكون المعنى: وأمره متجه إلى طاعة الله، كما تقول: وأمره في نُمُوٍّ وإقبال إلى الله وطاعته. وأجاز بعضهم عود الضمير على الربا، أي وأمر الربا إلى الله تعالى في العفو عنه، وإسقاط التَّبِعَة عليه. (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ): أي ومن عاد إلى الربا مستحلاً له، قائلاً: إن الربا مثل البيع في الحل، لأنه عَمَلٌ تجاري مثله، فأُولئك العائدون المستحلون أصحاب النار، الملازمون لها، هم فيها خالدون لا يخرجون منها أبدًا؛ لأن من استحل ما حرمه الله نَصًّا ومدلولاً. فهو كافر بالإجماع. والكافر خالد في النار أبدًا. وإن جعلنا الآية في مسلم يقول بحرمة الربا، ولكنه يعصي ربه باستدامة التعامل به بعد التوبة -فالمراد بالخلود هنا: المكث الطويل، كما تقول العرب "خَلَّد اللهُ ملكك" أي أبقاك أمدًا طويلًا. 276 - {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ... }: أراد الله أن يوقف سيل الطمع في نُمُوِّ المال عن طريق الربا، وأن يفتح القلوب على الصدقات، فبين عاقبة كليهما، فقال ما معناه: ينقص الله الربا، فَيُذهِب البركةَ من ماله في الدنيا وإن كان كثيرًا، ويجعل عاقبته في الآخرة خسرانًا وعقابًا، ويزيد الصدقات، وينميها في الدنيا بالبركة في مالها، وفي الآخرة بمضاعة الأجر عليها. روى ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الربا وإن كَثُرَ فعاقِبَتُهُ إلى قُلٍّ (¬1) ". وروى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وابن جرير، والحاكم وصححه.

"من تَصدَّق بِعِدْل تَمْرة من كسب طيب -ولا يقبل الله تعالى إلا طيبًا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يُرْبيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَه (¬1) حتى تكون مثل الجبل". وفي الآية لطيفة فائقة، وخلاصتها: أن المرابي إنما يطلب في الربا زيادة المال، ومانع الصدقة إنما يمنعها طلبًا لزيادة المال أيضًا، فبين الله تعالى أن الربا سبب لنقصانه، وأن الصدقة سبب لنمائه، فلذا عقبت آيات الإنفاق بآيات النهي عن الربا وبيان ضرره. (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ): أي والله لا يرضى عن كل مقيم على الكفر، بليغ الإثم، بِجَعْلِه البيع مثل الربا في الحل، أو بغير ذلك من ألوان الكفر. وإنما حرم الربا لما فيه من التضييق على الناس وتخريب البيوت، كما هو مشاهد فيمن يتعاملون به بخلاف التجارة، فإنها مورد للأرزاق سائغ، ولا ضرر فيه على الناس، فلذا أحلها الله تعالى ما دامت في الحدود المشروعة. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. التفسير 277 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: لما بين الله تعالى ضرر الربا، وفضل الصدقة في الدنيا والآخرة، عقب ذلك ببيان فضل الإيمان والعمل الصالح بصفة عامة. فقال الآية. ¬

_ (¬1) أي مُهره.

والمعنى: إن الذين صدقوا بالله ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصالحات التي اشتمل عليها كتاب الله وسنة رسوله، وخصُّوا الصلاة والزكاة بعناية خاصة، فأدَّوُا الصلاة في أوقاتها: بأركانها وشروطها، والخشوع اللائق بها، وأَعطَوا الزكاة لمستحقيها. وداوموا على ذلك - لهم أجرهم الموعود في الكتاب والسنة عند ربهم في الآخرة، إذ ينعمون بجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا خوف عليهم من مكروه يصيبهم، ولا هم يحزنون على فوت مرغوب لهم، فهم في طمأنينة دائمة ونعيم مقيم. وخص الصلاة والزكاة بالذكر -مع دخولهما في العمل الصالح- تنبيهًا على فضلهما على غيرهما من العبادات. فالصلاة رأس الأعمال البدنية والروحية. والزكاة رأس الأعمال المالية. فلذا ينبغي أن يخصا بعناية خاصة. كما خصهما الله بالذكر من بين الأعمال الصالحة التي ذكرها عامة. المفردات: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا): واتركوا ما بقي لكم منه عند الناس. (فَائْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ): فأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وبذلك قرأ الحسن. التفسير 278 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}:

سبب النزول: قال السدي: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، وكانا يتعاملان بالربا مع ناس من ثقيف، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة عندهم، فتركوها حين نزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير، وهم الطالبون، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم، وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - صالَحَ ثقيفًا، فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة، وكان مالاً عظيمًا. فقال بنوا المغيرة: والله لا يعطي الربا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين، فعرَّفوا شأنهم معاذ بن جبل، يقال عَتّاب بن أسيد، فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن بني عمرو يطلبون رباهم عند بني المغيرة، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) الخ فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ ابن جبل "أن اعرض عليهم هذه الآية، فإن فعلوا فلهم رءوس أموالهم، وإن أَبَوْا فآذِنْهُم بحرب الله ورسوله" ذكره الآلوسي. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، قوا أنفسكم واحفظوها من عقاب الله، واتركوا ما بقي لكم على الناس من مال الربا إن كنتم مؤمنين صادقين، فإن من شأن الإيمان الحقيقي، أن يكف أصحابه عن عصيان أوامر الله تعالى، وبخاصة ما كان متعلقًا بحقوق الآدميين. 279 - {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } الآية. أي فإن لم تفعلوا ما أُمرتم به، فأيقنوا بحرب من اللهِ ورسولِه، وإن تبتم عن الربا، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون غرماءِكم بأخذ مال الربا عليها، ولا تُظلمون منهم بالنقص منها، أو المطل في أدائها، فإن النقص منها حرام وظلم، وكذا المطل والتأخير في أدائها مع الغنى والسعة. والمراد بحرب الله ورسوله: إهدار دم المرابي. كما قال ابن عباس. فقد ورد عنه أنه

قال: من كان مقيمًا على الربا لا يَنْزِع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نَزَع (¬1) وإلَّا ضرب عُنُقَه. وقال قتادة: أوعد الله أهل الربا بالقتل، فجعلهم بَهْرَجًا -أي شيئًا مباحًا- أينما ثقفوا. وقيل: المعنى: إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي أعداء. وقال ابن خُوَيْبِزِمنْداد: وَلَوْ أَن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالًا كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الرِّدة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالًا، جاز للإمام محاربتهم. وكما شدد القرآن في تحريم الربا شددت السنة. روى البخاري عن أبي جحيفة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الدم (أي أجر الحجامة) وثمن الكلب، وكسب البَغِيِّ، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة، والمستوشمة (¬2) والمصوِّر". وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر فيها آكل الربا. وروى أبو داود عن ابن مسعود قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهده". وقد تنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بانتشاره، فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا. ومن لم يأكل الربا أصابه غباره" صدق رسول الله. فهذا ما نشاهده في جيلنا ... يرحمنا الله. قال القرطبي: قال علماؤنا: وكيف يتوب المرءُ عن المال الحرام؟. إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام - إن كانت من ربا فليردها على من أربى عليه، ويطلبه ¬

_ (¬1) أي أقلع عن الربا وتركه. (¬2) الواشمة: التي تفعل الوشم، وهو غرز بالإبرة في البدن، ووضع مادة زرقاء في مكان الوشم واسمها (النيلج) وتسميها العامة النيلة، والمستوشمة هي طالبة الوشم.

إن لم يكن حاضرًا، فإن آيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه، وإن أخذه بظلم، فليفعل كذلك في أمر من ظلمه، فإن التبس عليه الأمر، ولم يَدْرِ كَمَّ (¬1) الحرام من الحلال مما بيده، فإنه يتحرى قدر ما بيده، مما يجب عليه رده، حتى لا يشك في أن ما يبقى قد خلص له، فيرد مِنْ ذلك الذي أزال عن يده، إلى من عرف ممن ظلمه، أو أربى عليه. فإن آيس من وجوده، تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته، وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءَه أبدًا لكثرته، فتوبته: أن يزيل ما بيده أجمع: إما إلى المساكين، وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين، حتى لا يبقى في يده إلا أقل ما يجزئه في الصلاة من اللباس -وهو ما يستر العورة، وهو من سرته إلى ركبته- وقوت يومه، لأنه هو الذي يجب له أن يأخذه من مال غيره إن اضطر إليه، وإن كره ذلك من يأخذه منه - الخ ما قال: راجع القرطبي في الآية ففيها معلومات نفيسة. المفردات: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ): العسرة: ضيق الحال، وقلة المال: أي وإن كان ذو ضيق وعسر مال مدينًا لكم. (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ): أي فيجب إنظاره وإمهاله إلى ميسرة، وسعة في المال. التفسير 280 - {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}: لما حكم الله - تعالى - لأرباب الربا برءوس أموالهم عند ذوي اليسار، حكم في ذوي العسرة مع ذلك، بوجوب إمهالهم إلى حال اليسار والسعة. ¬

_ (¬1) الكم: المقدار.

سبب النزول: روى أن ثقيفًا لما طلبوا أموالهم من بني المغيرة، شكا بنو المغيرة العسرة. وقالوا: ليس لدينا مال ندفعه لكم، فأمهلونا إلى وقت طيب الثمار، فأبوا أن يمهلوهم، فنزلت الآية بوجوب إنظار المعسر. المعنى: وإن كان ذو ضيق وعسر مالي مدينًا لكم، فيجب عليكم إنظاره وإمهاله إلى ميسرة بحقكم فلا تضيقوا عليه بالمطالبة في عسرته، وانتظروا وقت الفرج فطالبوه. ما يستنبط من الأحكام: استنبط العلماءُ من هذه الآية: وجوب إنظار المعسر حتى ييسر الله عليه، سواء أكان مدينًا في دين ربا أو غيره، لأن الآية برفع (ذُو عُسْرَةٍ) معناها: وإن وقع وحدث ذو عسرة من الناس أجمعين. ولو كان في الربا خاصة، لقيل في الآية: وإن كان ذا عسرَةَ بالنصب، إذ يكون المعنى حينئذ، وإن كان الذي عليه الربا ذا عسرة. وبهذا الرأي أخذ عطاءٌ والضحاك، والربيع بن خيثم، والحسن، وابن عباس في رواية عنه. وقيل: لا يجب إنظار المعسر إلا في دين الربا خاصة، واستدلوا بقراءة النصب؛ (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) وحملوا عليها قراءة الرفع، وتقدير الكلام على هذا الوجه في قراءة الرفع: وإن كان ذو عسرة مدينًا لكم يا أصحاب الربا. وفي قراءة النصب: وإن كان المدين لكم أيها المرابون ذا عسرة فأمهلوه إلى ميسرة: وعلى هذا الرأي شريح وإبراهيم النخعي، وابن عباس في رواية أخرى عنه، ومما احتجوا به قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" (¬1). ويقول أصحاب هذا الرأي: إن المدين في غير دين الربا، لا يقبل منه القول بالإعسار بل يحبس حتى يؤَديَ ما عليه، قال ابن عطية: ومحل هذا: إذا لم يكن فقر مدقع. وأما مع العُدْم والفقر الصريح، فالحكم هو النَّظِرَةُ ضرورة (¬2). ¬

_ (¬1) النساء من الآية: 58. (¬2) أي فالحكم هو الإمهال بحكم الضرورة، أي أنه واجب لعدم الاستطاعة.

والراجح أن لا يحبس المعسر، لما رواه أهل الحديث واللفظ لمسلم، عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: "أُصيب رجلٌ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تصدقوا عليه". فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينِه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". وعند أبي داود: "فلم يزد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرماءَه على أن خلع لهم ماله". أي أعطاهم ما عنده. فقد دل هذا الحديث على أن الرسول لم يأمر بحبس هذا المدين المعسر، وهو معاذ بن جبل، كما قال شريح، إذ الحبس لا فائدة منه للدائن، كما لم يأمره أن يكتسب ليسد دينه. ومن لم يتبين عسره وشُك في يسره، يحبسه القاضي حتى يتبين عُدمه وفقره، قال بذلك: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، فإن صح عسرهُ، فلا يحبس. وقد استفيد من هذا الحديث: أن من كثرت ديونه وطلب غرماؤُه مالهم، فللحاكم أن يخلعه من كل ماله، ولكن يترك له ما كان ضروريًا له، روى نافع عن مالك: أنه لا يترك له إلا ما يواريه. والمشهور -كما قال القرطبي- أن يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن له فيها فضل، ولا ينزع عنه رِدَاؤُه إن كان ذلك مُزْرِيًا به، ولا يترك له مسكن ولا خادم، ولا ثوب جمعة، ما لم تقل قيمتها، وعند هذا يحرم حبسه (¬1). (وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): المعنى: وأن تتصدقوا على المعسر بكل مالكم عليه أو يبغضه، خير وأكثر ثوابًا لكم من إنظاره، إن كنتم تعلمون ذلك فافعلوه، فإن المعسر بحاجة إلى البر والمعونة أكثر من الإمهال، ليسد عوزه ويطعم أهله من جوع، ويكسوهم من عُرْي. وفي قوله تعالى: (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) حض لهم على الصدقة بعظم أثرها. ¬

_ (¬1) (قرطبي جـ 3 ص 1180 طبع بمطبعة الشعب) في شرح قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة).

روى مسلم في ذلك عن أبي مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُوسِبَ رجلٌ مِمَّن كانَ قَبلكم، فلم يُوجَدْ لهُ مِن الخَيرِ شَيءٌ، إلا أنه كانَ يُخَالِطُ الناسَ وكان موسرًا، فكان يأمر غلمانَهُ أن يَتَجاوزُوا عَنِ المعسِرِ، قال: قال اللهُ - عز وجل -: "نَحن أَحَقُّ بذلك منهُ .. تَجَاوزُوا عنْهُ". وروى مسلم عن أبي قتادة "أنه طلب غريمًا له، فتوارى عنه، ثم وجده فقال: إني معسر. فقال: الله (¬1). قال: الله، قال: فإني سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سرَّه أن ينجيَهُ اللهُ من كرْبِ يومِ القيامةِ، فَلْيُنَفِّسْ عن مُعْسِرٍ، أَو يَضَع عنْهُ". وجاءَ في حديث أبي اليسر -كعب بن عُمْرو- عن مسلم "أنه محا عن غريمه الصحيفة، وقال له: إن وجدتَ قضاءً فاقْضِ، وإلَّا فأَنتَ فِي حِلّ" (¬2). التفسير 281 - {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: خاطب الله في هذه الآية جميع المكلفين -وفيهم المرابون السابقون- بأن يتقوا يوم القيامة: الذي يرجعون فيه بالبعث إلى حكم الله وجزائه، ثم تعطَى فيه كل نفس جزاءَ ما كسبته - وافيًا كاملًا - وهم لا يظلمون بنقص ثواب، أو زيادة عقاب على ما اكتسبوه. واتقاءُ هذا اليوم، هو اتخاذ الوقاية من عذابه بفعل الواجبات، وترك المنهيات. وفي الآية، رد على الجبرية الذين ينكرون كسب العبد. ويعتقدون أنه مجبور على ما يفعل من خير أو شر، وأنه كالريشة في مهب الريح، فقد أثبتت للعبد كسبًا، وأنه مجزيٌّ خيرًا كان أو شرًا. ¬

_ (¬1) مجرور بحرف قسم مقدار، أي والله. (¬2) راجع صحيح مسلم ص 2 ص 394 طبعة بولاق.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} المفردات: (كَاتِبٌ بالْعَدْلِ): كاتب أمين فقيه. (وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ): أي ولا يمتنع كاتب عن الكتابة. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقٌّ): وليكن المدين الذي عليه الحق: هو الْمُلَقِّن والمُمْلي على الكاتب ما يكتبه، فإن الدَّيْن عليه، وهو المسئول عنه.

(وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا): ولا ينقص مَنْ عليه الحق شيئًا مما عليه من الدَّين، وإن كان صغيرًا. (سَفِيهًا): أي مُبَذِّرًا لماله. (أَوْ ضَعِيفًا): بأن كان صبيًا أو شيخًا خَرِفا. (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ): أو لا يقدر على التلقين، لخرس أو غيره من العوارض. (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ): فليلقن الكاتِبَ المتولَّي لأمر المدين بالعدل بينه وبين دائنه. (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى): أي شرع لكم شهادة المرأتين، بدلاً من الرجل الواحد في الدَّيْن؛ إرادة أن تُذكِّر إحداهما الأُخرى إن غاب عنها شيء مما تشهد عليه. (وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا): ولا يمتنع الشهود عن الشهادة إذا دعوا إليها، و (ما) للتوكيد، وليست للنفي. وكثيرًا ما ترد بعد إذا. (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ): ولا تملوا وتضجروا من كتابة الدَّيْن إلى وقت حلوله، صغيرًا كان الدَّيْن أو كبيرًا. (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ): أي أعدل عنده تعالى. (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ): وأعون على أدائها. (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا): وأقرب إلى انتفاء رَيبكم وَشَكِّكُم. (تِجَارةً حَاضِرَةً): أي لا أَجَلَ فيها. والتجارة: تَصرُّفٌ في المال بِعَوَضٍ لقصد الربح، سواءٌ أكان المال حاضرًا أم في الذمة. (تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ): تتصرفون فيها يَدًا بيد، بلا تأجيل. (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا): أي لا حرج ولا إثم عليكم، أو لا مضرة في عدم كتابتها. (وإِن تَفْعَلُوا): ما نهيتم عنه. (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ): أي فإنه خروج عن الطاعة متلبس بكم.

التفسير 282 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... } الآية. لما أمر الله سبحانه، بإنظار المعسر وتأجيله، أتبعه بيان الحقوق المؤَجلة، وعقود المداينة. فذكر هذه الآية الكريمة. المعنى والأحكام: الدَّيْن - كما قال القرطبي -: كل معاملة كان أحد العوضين فيها نَقْدًا، والآخر في الذمة، نسيئة أي مؤَجلاً، فإن الْعَيْنَ عند العرب ما كان حاضرًا، والدَّينَ ما كان غائبًا. وقد بين الله هذا المعنى بقوله (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). وهذه الآية نزلت في بيع السَّلم خاصة، كما قال ابن عباس، فقد أخرج البخاري، عن ابن عباس أنه قال: "أشهد أن السلفَ المضمونَ إلى أجل مسمى - أن الله تعالى أحلَّه وأَذِنَ فيه. ثم قرأ الآية" اهـ. والسلف المضمون هو السلَم، فإنه مضمون بالثمار والحبوب المؤَجلَّة المتعاقد عليها. ومع ذلك، فالآية عامة في كل دين. والسلم بيع من البيوع الجائزة باتفاق، وهو أن يسلم رجل إلى آخر عِوَضًا كالدراهم والدنانير ونحوها، في مقابل حبوب، أو ثمار غير موجودة عنده، في وقت البيع ولكنها مؤَجلة إلى أجل معلوم، ومحددة الأوصاف والمقادير ومكان التسليم. والشارع وإن كان نهى عن بيع ما ليس عندك لأنه غير مقدور عليه؛ ولأنه يفضي إلى الشقاق -فقد رخص مع ذلك في بيع السَّلَم رَفْعًا للحرج بين الناس- فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشتري الثمرة، وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل ظهورها، لينفقه عليها. ولذا سماه الفقهاءُ: بيع المحاديج (¬1). ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ورأى أهلها يستلفون في الثمار السنتين والثلاث، أقرهم على ذلك، بعد أن شرع لهم قواعده، ¬

_ (¬1) وهي التي فيها الحدجُ، أي الغبن في البيع، ورخص فيه للحاجة إليه.

وصحَّح أوضاعه، فقال: "من أَسْلَفَ في تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلوم، وَوَزْنٍ مَعْلومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلوم". رواه ابن عباس، وأخرجه البخاري ومسلم، وغيرهما. وعَرَّف علماءُ المالكية السَّلم بقولهم: "هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة بعين حاضرة، أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم". والمقصود بالمعلوم في الذمة: أن يكون البيع محدودًا بأوصاف معينة، ترفع الخلاف عليه عند التسليم. والمقصود من حصره بالصفة: ألا يحصره بعينه .. مثل: الذين كانوا يستلفون في المدينة على ثمار نَخْل بأعيانها، حين قدم رسول الله إليها فقد نهوا عند ذلك لما فيه من الغرر -أي الخطر- إذ قد تُخْلف تلك الأشجار فلا تثمر شيئًا. وقوله: أو ما في حكمها، ليدخل رأس المال المؤَجل يومين أو ثلاثة، فإن السلم به جائز عند المالكية. إذ هو معتبر في حكم العين الحاضرة عندهم. ولا يجيز ذلك الشافعي، الكوفيون، فرأس المال عندهم لابد من دفعه قبل الافتراق من المجلس. والأجل المسمى: هو المعين بالأيام أو الأشهر أو نحوهما، مما يميز وقت التسليم تمييزًا دقيقًا، لا مجال للخلاف فيه. أما التأجيل لنحو الحصاد والجذاذ، ففيه خلاف: فالمالكية: يجيزونه، فهو عندهم في حكم محدود الأجل. وغيرهم لا يعتبره كذلك، فيمنع حل السلم به، لأنه يورث الخلاف. وخلاصة المعنى: يأيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا دَاين بعضُكم بعضا بدين، إلى أجل معين، تعيينًا لا يستتبع خلافًا، فاكتبوه بأجله. وسيأتي الأمر بالإشهاد على الدَّيْن المكتوب. والأمر في قوله: (فَاكْتُبُوهُ) لإيجاب كتابة الدَّيْن مطلقًا، سواءٌ أكان في بيع أم غيره، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود أو خلاف. واختار هذا الرأي جماعة منهم: الطبري. ومقتضاه: إثم من لم يكتب الدَّيْن.

وقال الجمهور: كتابة الدَّيْن ليست واجبة، بل مندوبة. وقد صَرَف الأَمرَ هنا عن الوجوب: أن الله أجاز لصاحب المال أن يهب ماله، فإذا كان ذلك جائزًا له، فإنه يجوز له أن يترك الكتابة ائتمانًا للمدين، ولا يعتبر آثمًا في ذلك. ولهذا قال الله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ): وسواءٌ قلنا بالوجوب أو الندب فكتابة الدَّيْن من باب الحزم؛ خوفًا من حدوث إنكار من المدين. وحاجة الدائن إلى ماله تمنعه من التنازل عن دينه عند الجحود. (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ): بعد أن أمر الله سبحانه بكتابة الدَّيْن منعًا للجحود، عَيَّن هنا من يتولى الكتابة، إذ طلب من المتداينين أن يتولاها بينهم كاتب عدل، متمسك بالدِّين، فقيه، حتى يكون ما يكتبه جاريًا على مقتضى الشريعة والعدل، فإِنَّ غير الفقيه لا يستطيع أن يقيم العدل الشرعي بينهما. وقد أفاد الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَكْتُبْ) وجوب الكتابة على من يُدْعَى لها من الكُتاب، كما قاله عطاءُ وغيره. وقال السدي بوجوبها عليه مع الفراغ لها، وقيل بوجوبها إذا لم يوجد غيره. وبه قال الحسن. واستبعد القرطبي أن يكون الأمر بالكتابة للوجوب على الكاتب، وقال: لو كانت الكتابة واجبة لما صح الاستئجار بها، لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يختلف العلماءُ في جواز أخذ الأُجرة على كَتْب الوثيقة. والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذَ حقَّه. اهـ. والتعبير بقوله: (بَيْنَكُمْ) بدل (أحدكم) للإيذان بأنه ينبغي أن يكون الكاتب غير المتعاقدين، ليكون عدلا بينهما، وشاهدًا عليهما، فإن المدين لا يطمئن لكتابة الدائن،

ولا الدائن يطمئن لكتابة المدين. وقد أُمر الكاتب أن يحقق المقصود من كونه بينهما، بأن يكتب بالْعَدْلِ، فلا يميل إلى أحدهما فيما يكتبه، بل يكون بينهما قَوامًا. وإذا علقنا الباء في قوله: (بِالْعَدْلِ) بقوله: (فَلْيَكْتُبْ) صح أن يكتب الوثيقة صَبِيٌّ أو عبد أو متحوط غير عادل إذا أقام فقهها وضبطها نحو العدل الإلهي. وبذلك أخذ بعض الفقهاء. أما الإمام مالك، فقد جعل (بِالْعَدْلِ) متعلقًا بكاتب. ولذلك اشترط في كاتب الوثائق أن يكون عادلًا، عارفًا بها دارسًا لأساليبها، إذ قال رحمه الله: "لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى: (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) نقله القرطبي. وقال الآلوسي: "ومن لم يكتب كذلك يجب على الإمام، أو نائبه منعه؛ لئلا يقع الفساد، أو يكثر النزاع". (وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ): المعنى: ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للناس وثائقهم وعقودهم لأجل تعليم الله له وتميزه بالكتابة، فإنَّ تفضُّل الله عليه بعلم الكتابة، يبعثه ويدعوه إلى أن يتفضل بها على الناس؛ ليؤَديَ حق الله عليه، على حد قوله تعالى: "وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ" (¬1) أي لأجل إحسان الله إليك وذلك حسب القاعدة التي قررها قوله تعالى "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (¬2). ويصح أن يكون المعنى: ولا يمتنع كاتب أن يكتب بالعدل، كما علمه الله بقوله: (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) والكاف على هذا بمعنى مثل، نعت لمصدر مقدر. والتقدير: أن يكتب كَتْبًا مثل الذي علمه الله إياه. (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): لم يكتف الله بنهي الكاتب العدل الفقيه عن الامتناع عن الكتابة، بل أمره بها أمرًا صريحًا، بقوله تعالى: (فَلْيَكْتُبْ) وذلك مؤذن بأن كتابته للوثائق حق عليه للمجتمع، لا يحق له أن يتخلى عنها، ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى أنها من فروض الكفايات (¬3). إن وجد عدد من الكتاب، وإلا فهي فرض عين عليه، وقد أعطى الله الحق في إملاء الكاتب ¬

_ (¬1) القصص: من الآية 77. (¬2) الرحمن: الآية 60. (¬3) وهي التي يسقط فيها الطلب إن أداها بعض من وجبت عليهم.

للمدين، الذي عليه الحق بقوله: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): والإملال والإملاء بمعنى واحد، وهو التلقين. وإنما أعطى حق الإملاء للمدين، لأنه هو المشهور. وعليه، فلابد من أن يكون هو المقر لا غيره، حتى لا يقع عليه غبن. (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا): هذا يصلح أن يكون أمرًا للمدين الذي عليه الحق، وهو ما ذهب إليه سعيد بن جبير، وأن يكون أمرًا للكاتب. فعلى الأول، يكون المعنى: وليتق اللهَ المدينُ، الذي عليه الحق، ولا ينقص من الدين حين الإملاء شيئًا، ولم كان حقيرًا، بل يعترف به، كما اتفق عليه مع الدائن؛ منعًا للنزاع بينهما. وعلى الثاني، يكون المعنى: وليتق الله الكاتب، ولا ينقص من حق كل من الدائن والمدين شيئًا، بل يثبت لكل منهما حقَّهُ كاملاً، فلا ينحاز إلى أحدهما، ولا يضيع شيئًا على أي منهما. كما هو الشأن في العدل بين الناس. وقد علمت مما مضى: أن الله جعل للمدين الحق في إملاء الكاتب، ليكون مُقِرًا بدينه؛ حتى تأتي الشهادة صحيحة على إقراره. وبما أن المدين قد لا يحسن الإملاء على الكاتب، فلذلك أعطى الله حق الإملاء لوليه، فقال سبحانه: (فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ): والسفيه هو: المبذر لماله، المفسد لِدَيْنِهِ كما قال الشافعي. وفسره القرطبي بأنه: "المهلهل الرأي في المال (¬1)، الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء منها" راجع جـ 3 في الآية. ¬

_ (¬1) تشبيهًا بالثوب السفيه، وهو الخفيف النسج.

والضعيف لا يقدر على الإملاء؛ لكونه صبيًا، أو شيخًا خرفًا، أو مريضًا، ومن لا يستطيع الإملاء نحو الأخرس. فهؤلاء أربعة أصناف: لا يملي على الكاتب سوى أولهم. أما الباقون، فيملي على الكاتب، عنهم أولياؤهم بالعدل. والمقصود بالولي: من يتولى أُموره، وإن لم يكن وليه الشرعي. فيدخل فيه: القيم، والوكيل، والمترجم. والمرادُ من عدالة الولي في الإملاء: أن لا يزيد ولا ينقص عن الحق شيئًا. واستُدِلّ بوصف العدالة في الولي - على أنه لا يصح أن يكون ذميًا ولا فاسقًا؛ لأنه لا عدالة فيهما. كما استدل بالآية. على أن إقرار الولي العادل على يتيمه، صحيح. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ): لم يكتف الله تعالى في توثيق الدين بكتابته، بل أمر المسلمين أن يطلبوا -من رجالهم المؤمنين- شهيدين يَشهدان على ما يجري عند التعاقد؛ تثبيتًا للحق ومنعًا لإنكاره أو سوء تأويل النص. وعبر عن الشاهدين بصيغة المبالغة (شَهِيدَيْنِ) للإشارة إلى أنه ينبغي طلب من تكررت منه الشهادة، فهو عالم بمنزلتها، دقيق في أدائها، قادر على القيام بها. كما أن فيه رَمْزًا إلى عدالتهما، لأنهما لا تتكرر شهادتهما عند الحكام، إلا إذا كانا مقبولين عندهم. كما أنه لم يقل: رجلين، بل قال: (مِن رِّجَالِكُمْ) للإيذان بأن الشاهدين من رجال المؤمنين المعروفين بالكمال والعدل. والأمر بالاستشهاد المذكور، قيل: للندب. وقيل: للوجوب. وفي إضافة الرجال إلى ضمير المؤمنين المخاطبين، دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ، مع الذكورة في الشهود، وكذا الحرية، لأن المقصود من الرجال: الكاملون في التصرف. ويدل لذلك، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ). وساق الخطاب إلى قوله (مِن رِّجَالِكُمْ) فظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون التداين بدون إذن السادة. وهذا هو رأي الجمهور.

وقال شريح، وعثمان العُتْبي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: شهادة العبد جائزة، إذا كان مسلمًا عادلًا. وأجازها الشعبي، والنخعي في الشيء اليسير، ورأي الجمهور هو الصحيح، كما قاله القرطبي؛ لما ذكرناه. ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض. وأجازه -قياسًا- الإمامُ أبو حنيفة، وإن اختلفت مللهم. واستدل بعض العلماء بعموم (رجَالِكُمْ) على قبول شهادة الأعمى، بشرط أن يعلم - يقينًا - ما يشهد عليه. فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة، فقال: "ترى هذه الشمس .. فاشهد على مثلها أَوْ دَعْ". ومنهم من قبل شهادته على الصوت إذا تحقق منه، وبذلك أفتى مالك. قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالرجل يسمع جاره من وراء الحائظ ولا يراه، يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه وقد عرف صوته؟ قال مالك: شهادته جائزة. (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ): أي فإن لم يشهد رجلان، لعذر أو لعدم الرغبة فيهما، فليشهد رجل وامرأتان. وشهادتهما مع الرجل تصح -عند الشافعية- في الأموال الخاصة. وعند الحنفية، فيما عدا الحدود والقصاص. وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك -أي الرجل مع المرأتين- في الحدود، ولا القصاص، ولا الولاء، ولا الإحصان. وتجوز في الوكالة والوصية، إذا لم يكن فيها عتق وسائر شئون الأموال. قال القرطبي: قال مالك في الموطإ: وإنما يكون ذلك في الأموال الخاصة. واعلم أن الآية نصت على جواز قبول شهادة المرأتين مع الرجل في الدين خاصة، وذلك موضع اتفاق بين العلماء، ولا يشمل ذلك الشهادة على دين المهر، والصلح على دم العمد. فالشهادة عليهما، ليست شهادة على دين، بل على نكاح في الأولى، وعلى دم في الثانية، والنساء لا يشهدن في ذلك. وأجاز العلماء شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن، للضرورة: كالشهادة في الولادة والبكارة، وحياة الصبي عند الولادة. وما يجري مجرى ذلك، مما بُيِّن في كتب الفقه.

(مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ): أي فرجل وامرأتان موصوفون جميعًا، بأنهم مرتضون عندكم أيها المسلمون أو الحكام. أي صالحون للشهادة، لعدالتهم وأمانتهم. وَعُلِمَ من وصف الرجل والمرأتين بذلك، وجوب أن يكون الرجلان إذا شهدا متصفين بهذا الوصف. وإنما لم يُذكر هناك، اكتفاء بذكره في أحد النظيرين هنا، ليعلم منه حكم النظير الآخر. وقال أبو حيان: إن قوله: (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) متعلق باستشهدوا؛ ليكون قيدًا في الجميع. (أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى): الضلال هنا: مجاز عن النسيان. وخلاصة المعنى: شرع الله لكم شهادة المرأتين مع رجل، بدلاً من الرجل الثاني، لإرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن نسيت. وأصلى المعنى -حسب النص- شرع لكم شهادة المرأتين بدل رجل، خشية أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى. نقول: وذلك لأن النسيان غالب على طبع النساء فيما ليس من شأنهن ممارسته: (وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا): أي ولا يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة أمام الحاكم إذا دعوا إليها. وهذا تفسير مجاهد، وابن جبير. وقيل: إن الآية نزلت في تحميل الشهادة وأدائها، وتسمية من يدعي لتحمل الشهادة شاهدًا -وهو لم يشهد بعد- على سبيل المجاز؛ لأنه مشارف لتحملها، وعلى هذا الرأي ابن عباس والحسن. قال الحسن: جمعت الآية أمرين على جهة الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإن كانت الفُسْحَةُ لكثرة الشهود والأمن من تعطيل الحق، فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر، وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه، ولا ثواب له. وإذا كانت الضرورة -وخيف من تعطيل الحق أدنى خوف - قَوِيَ الندب، وقرب من الوجوب. وإذا علم أن الحق يذهب، فقد وجب عليه أن يشهد، لأنها أمانة تقتضي الأداء .. انتهى باختصار.

روى عن الربيع: أن الآية نزلت، حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير، فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم - أن نزلت للحث على تحمل الشهادة. (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ): أي ولا تملوا -لكثرة مدايناتكم أو غيرها- أن تكتبوا الدين أو الحق، صغيرًا أو كبيرًا، قليلاً أو كثيرًا، مجملًا أو مفصلاً، مستقرًا في ذمة الذي عليه الحق، إلى وقت حلوله الذي أقر به. (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا): أي ذلكم الذي تقدم من الكتابة والإشهاد على الحق، أعدل في حكم الله، وأعون في أداء الشهادة على وجهها، وأقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك. (إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا): استثناء من الأمر بالكتابة، فقوله تعالى: (وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى هنا أحكام متوسطة بين المستثنى والمستثنى منه. متعلقة بالأمر بكتابة الدين، ولبعد ما بينهما نص على المطلوب بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا). وتقدير الارتباط بين المستثنى والمستثنى منه هكذا: يا أيها الذين آمنوا، إذا تداينتم بدين فاكتبوه، لكن وقت كون المعاملة تجارة حاضرة بحضور الثمن والمثمن تديرونها بينكم بتعاطي الثمن والْمُثْمَن يدًا بيد - فليس عليكم ضرر أو إثم في عدم كتابتكم لها، لِبُعْد ذلك عن التنازع والنسيان. وعدم الكتابة في التجارة الحاضرة مقصور على القليل، كما قال القرطبي، كالمطعوم ونحوه، دون الكثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي والضحاك: هذا فيما كان يدًا بيد. اهـ. وذلك حق، فإن الكثير الحاضر، عرضه للإنكار والجحود والمنازعات. فكتابته والإشهاد عليه، مطلوبان، منعًا للتنازع بين الناس.

(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ): أي وأشهدوا على تجارتكم الحاضرة إذا تبايعتم، أو أشهدوا على كل بيع تجارة حاضرة أو غيرها، لأنه أحوط. ورأى بعض الفقهاء: وجوب الإشهاد على البيع، ولو كان المبيع حزمة بقل. وممن ذهب إلى ذلك الطبري، إذ قال: لا يحل لمسلم إذا باع واشترى، إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفًا لكتاب الله عز وجل. وذهب الشعبي والحسن: إلى أن ذلك مندوب. وهذا قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. وذكر القرطبي أن النبي - صالى الله عليه وسلم - باع واشترى، ورهن ولم يشهد. ولو كان الإشهاد واجبًا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة. ونحن نقول: إن الناس تغيرت أخلاقهم، فالإشهاد - في هذا الزمان - واجب، لمنع الخلاف والنزاع. (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ): نهي عن المضارة، والفعل يحتمل البناء للفاعل. والدليل عليه قراءة عمر - رضي الله عنه - (وَلَا يُضَارِرْ) بفك الإدغام، وكسر الراء الأولى، ويحتمل البناء للمفعول، والدليل عليه قراءة ابن عباس: (وَلَا يُضَارَرْ) بفتح الراء الأولى. والمعنى على الأول: نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان. فإن ذلك كله مضارة للمتداينين. والمعنى على الثاني: نهي المتعاملين من الضرار بالكاتب والشهيد: بأن يعطلاهما عن مهم لهما، أو لا يعطيا الكاتب أجره على الكتابة، أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلده. ويؤيد هذا المعنى، ما أخرجه ابن جرير، عن الربيع، قال: لما نزلت هذه الآية: (وَلَا يَابَ كَاتِبٌ ... ) الخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول أو لي حاجة، فانطلق إلى غيري، فيلزمه ويقول: إنك قد أُمِرْتَ أن تكتب لي، فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره. فأنزل الله تعالى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).

(وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ): أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من المضارة، فإن فعلكم هذا فسوق وخروج عن طاعة الله متلبس بكم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ): واجعلوا أنفسكم في وقاية وحرز من عقاب الله: بامتثالكم ما أمركم به أو نهاكم عنه. ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): فلا يخفى عليه حالكم، فيجازيكم حسب استحقاقكم. وتكرير لفظ الجلالة في الجمل الثلاث، لقصد التعظيم، وتربيه المهابة، وتعليل الحكم. وفي الآية توجيه لتعليم القراءة والكتابة، لحاجة المسلمين إليها في وثائقهم. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)} المفردات: (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ): أي مسافرين فعلا، ولذا عَبَّر بقوله: (عَلَى سَفَرٍ) إشعاراً بمباشرتهم له، وتمكنهم منه تمكن الراكب مما يركبه. (فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ): الرهان جمع رهن، وهو ما يأخذه الدائن من الأعيان ذات القيمة ضمانًا لدينه، وهو في الأصل مصدر، وشاع استعماله في العين المرهونة، حتى أصبح فيها حقيقة عرفية.

التفسير 283 - {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ... } الآية. بين الله تعالى في الآية السابقة: أن على من تداينوا أن يكتبوا الدَّيْنَ، وأن يقوم بكتابته بينهم كاتب بالعدل، لتكون الوثيقة حرزًا من النسيان أو الإنكار. وذكر من أحكام ذلك ما شرحناه. وفي هذه الآية، يبين لنا ما ينبغي عمله عند فقد الكاتب في حالة السفر لأجل الاستيثاق من الدين، فيقول ما معناه: وإن كنتم - أيها المتداينون - مسافرين، ولم تجدوا كاتبًا يكتب بينكم الدين، فالذي يستوثق به حينئذ، رهان يقبضها الدائنون، وتبقى عندهم حتى أداء الدين، فترد إلى المدينين. وأخذ مجاهد بظاهر الآية، فلم يجز الرهن إلا في السفر. وقيده الضحاك في السفر بفقدان الكاتب. ولكن الراجح: جواز الرهن سفرًا وحاضرًا. فقد روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رهن درعه في المدينة عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير" (¬1) ولم تتعرض الآية للشاهد، لأن حكم الكاتب يسري عليه وجودًا وفقدانًا. وفي التعبير بقوله: (مَقْبُوضَةٌ) دون تقبضونها، إشارة إلى الاكتفاء بقبض الوكيل. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ): بعد أن بين الله - فيما مضى - طريقي الاستيثاق من الدَّيْنِ - وهما الكتابة والإشهاد أو الرهن - ذكر أُسلوبًا آخر في التعامل، هو أسلوب الاستئمان والثقة، فقال ما معناه: فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين - في حضر أو سفر بسبب حسن الظن والثقة، فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن - فليؤَد المدين الذي ائتمنه الدائن أمانة صاحب الدين، أي دينه الذي له عليه. ¬

_ (¬1) هكذا يتعامل اليهود دائمًا. فلا يقبلون أن يكون لهم دين على أحد إلا برهن، ولو كان أشرف الشرفاء. فالمال معبودهم الأول. وإنزال الناس منازلهم، ليس من القيم المعتبرة عندهم.

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ): فلا يخونه بإنكار كل حقه أو بعضه، فإنه تعالى رقيب حسيب، شديد العقاب للخائنين. وبهذا تضمنت الآية الكريمة ثلاثة أصناف من البيع: أحدها يبيع بكتاب وشهود، وثانيها بيع برهن، وثالثها بيع بأمانة. (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ): هذا خطاب للشهود المؤمنين، كما قاله سعيد بن جبير وغيره. والمعنى عليه: ولا تخفوا الشهادة بما علمتم إذا دعيتم إلى لأدائها. والآية وإن نزلت في الدَّيْنِ إلا أنها عامة - توجب أداء الشهادة على وجهها في كل حال. وقيل: هو خطاب للمدينين على معنى: ولا تكتموا شهادتكم على أنفسكم، بل أقروا بالحق، ولا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه أمام القضاء. (وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ): أي ومن يكتم الشهادة بالحق، فإنه آثم قلبه. وإسناد الإثم إلى القلب، لأن الكلام فيمن كتم ما يعلمه، وهو بذلك يكون قاصدًا إخفاء الحق. وذلك من عمل القلب، فلذا أسند الإثم إليه. وإذا أثم القلب أثم صاحبه، لأن العبرة بأفعال القلوب. ولذا رفعت المؤاخذة عمن يفعل المعصية ناسيًا، لأنه لا قصد له فيها. كما أن الآية تشير بذلك، إلى أن أثر المعصية بالكتمان يبقى في قلبه، إذ يستتبع فيه سوادًا. روى الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والحاكم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَتْ في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (¬1). وجاء في الحديث الصحيح "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه الشيخان. ¬

_ (¬1) المطففين: الآية 14.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ): ختم الله الآية بذلك، تحذيرًا للكاتمين، وتنبيهًا للغافلين، وإنذارًا للجاحدين، وتبشيرًا لأهل الأمانة والوفاء. أي والله بما تعملون من خير وشر، بليغ العلم، فيجازي كلًا على حسب عمله: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} المفردات: (تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ): تظهروه. (يُحَاسِبْكُم بِهِ): أي يبينه لكم، ويجازيكم عليه. التفسير 284 - {لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... } الآية. حذر الله - سبحانه - في الآية السابقة من كتمان الشهادة، وجعل من يكتمها آثمًا عاصيًا، وبين هنا، أنه سبحانه وتعالى بكل ما يعملون عليم، فلا يخفى عليه ما كتموه، وما يظهرون، فيغفر لمن يشاءُ، ويعذب من يشاءُ. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): وبذلك استكملت صورة التحذير من مخالفة ما أمرهم به جَلَّ وعلا. والمعنى: لله ما في السموات وما في الأرض من أجزائهما، وما استقر فيهما، لا يشاركه في خلقها أو ملكها، أو التصرف فيها شريك، فله أن يلزمكم أيها العباد بما يشاءُ من التكاليف،

الأحكام

وعليكم أن تطيعوه، ولا تعصوه .. وإن تظهروا ما في أنفسكم من المعاصي أمام الناس، فلا تبالوا بإظهاره أو تخفوه عنهم تقية أو أنفة، فإن الله تعالى يعلمه ويجازيكم به، فإنه يعلم السر، كما يعلم العلن. (فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): أي فيغفر بفضله لمن يشاءُ أن يغفر له، ويعذب بعدله من يشاءُ أن يعذبه، والله على كل شيء قدير. ومن كان كذلك فهو قادر على حساب أهل العصيان، ومنح الغفران لمن يشاءُ، وحرمانه من يشاءُ، لا راد لفضله وعدله. الأحكام دلت الآية على أن الله - تعالى - عالم بما يعمله عباده. من أعمال: ظاهرة، أو مستورة عن العيون، أو مضمرة في القلوب، وأنه يحاسبهم عليها. فكل ذلك داخل تحت قوله تعالى: (إِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ). كما دلت الآية على أنه تعالى يغفر لمن يشاء من المؤمنين، ويعذب من يشاء من المذنبين. ومن الأعمال القلبية التي يحاسب الله عليها: النفاق: بالإيمان، وبالعمل، وسوء الظن بالمسلمين، والحقد والحسد ونحو ذلك. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان ويحاسب عليه الوساوس، وحديث النفس، لأن ذلك ليس في وسع الإنسان اجتنابه، والله تعالى يقول: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (¬1). وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت بها نفسها، ما لم تتكلم، أو تعمل". بل إن المؤمن لو تجاوز حديث النفس إلى الهَمِّ بالمعصية، ثم عدل عن فعلها فلا تكتب عليه. وفي ذلك يروي الشيخان (¬2)، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله ¬

_ (¬1) البقرة: من الآية الأخيرة. (¬2) واللفظ لمسلم.

عليه وسلم -: "قال الله: إذا هَمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها، فاكتبوها سيئة، وإذا هَمَّ عبدي بحسنة فلم يعملها، فاكتبوها حسنة، فإن عملها، فاكتبوها عشرًا". وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على السيئات القلبية: كالحقد، والحسد، والنفاق. كما تقدم. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} المفردات: (وَمَلَائِكَتِهِ): الملائكة، أجسام نورانية قادرة على التشكل، خلقوا للطاعة: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمَرون. (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ): أحد؛ همزته أصلية. وهو اسم يطلق على الواحد والمثنى والجمع، مذكرًا كان أو مؤنثًا. ولذا صح دخول: بين، عليه، كأنه قيل بينهم. ومنه ما في قوله تعالى: "فَمَا مِنكُم مِّن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (¬1). التفسير 285 - {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ... } الآية. قال الزجاج: لما ذكر اله تعالى - عز وجل - في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والطلاق والحيض، والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والدَّيْن والربا، ختمها بهذا تعظيمًا لنبيه وأتباعه، وتأكيدًا وجمعًا لما ذكر من قبل ... اهـ بتصرف يسير. ¬

_ (¬1) الحاقة: الآية 47.

والمعنى: آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه - في هذه السورة وغيرها - إجمالًا وتفصيلًا، وآمن المؤمنون به كذلك. والفرق بين الإيمانين، أن إيمان الرسول مبني على المشاهدة والوحي، وإيمان المؤمنين ناشيءٌ عن الحجة والبرهان. (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ): هذه الجملة مستأنفة لتقرير الإيمان المذكور وتفصيله، أي كل من النبي وأفراد المؤمنين، صدَّق بالله وما يتصف به من كل كمال، وما يتنزه عنه من كل نقص، وصدق بملائكته وطهارتهم من المعاصي، وأنهم منفذون لأوامر الله تعالى، وأن بعضهم سُفَراءُ بينه تعالى وبين رسله الأكرمين، وآمن بكتبه التي أنزلها على رسله متعبدًا بها عباده، وآمن برسله من حيث إنهم مبلغون لكتبه وشرائعه إلى خلقه. (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ): أي كُلٌّ آمن قائلاً: لا نفرق بين رسله. فلا نقول: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعل أهل التوراة والإنجيل، بل نُؤْمِنُ بهم جميعًا، فهم رسل الله إلى خلقه، فمن كفر بأحدهم، فهو كافر بهم جميعًا، فلا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا. (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): جملة: قالوا سمعنا ... إلخ معطوفة على (آمَنَ)، وهذه الجملة من الآية، حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم. والمراد من سمعهم: إجابتهم وامتثالهم. والمراد من إطاعتهم: قبولهم ما كلفوه - طواعية واختيارًا - دون إكراه. ولما كان المكلف لا يخلو من تقصير قالوا: غفرانك ربنا لما قصرنا فيه. ثم ختموا كلامهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت، فقالوا: وإليك المصير والانتهاءُ: لا إلى غيرك.

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} المفردات: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا): التكليف، الأمر بما يشق. والوسع: الطاقة. (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ): الكسب والاكتساب. بمعنى واحد: وهو التحصيل. (نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا): المراد من النسيان، ترك الواجبات، ومن الخطأ: فعل المنهيات. (وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا): الإصر؛ معناه - هنا - العبءُ الثقيل، مأخوذ من أصره يَأصِرُه أي حبسه، والمراد به: التكاليف الشاقة. (مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ): ما لا قدرة لنا على تحمله من العقوبات. التفسير 286 - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... } الآية. هذه جملة مستأنفة: بيَّن فيها الله - سبحانه وتعالى - يُسْرَ التكاليف على عباده، فقد ذكرها سبحانه بعد تلقي عباده لتكاليفه بالطاعة والقبول. والمعنى: أنه تعالى، جرت سنته: ألا يكلف نفسًا من النفوس، إلا ما تطيقه وتتسع له قدرتها. بل هو في الحقيقة دون وسعها وطاقتها. فالصلاة: كلفنا منها خمسًا في اليوم والليلة، والطاقة تتسع لأكثر منها.

والصيام: كلفنا منه شهر رمضان، والطاقة البشرية تتسع لأكثر منه. وهكذا. وإذا كانت سنته - تعالى - ألا يكلفنا إلا ما نطيقه، فإن ذلك يدل على أنه لا ي4كلف بالمحال: فضلا منه وكرم، وحكمة ورحمة. (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ): بعد أن بين الله - تعالى - أن تكاليفه دائمًا في وسعنا، وبقدر طاقتنا، عقب ذلك ببيان أن فعلها، تعود منفعته على فاعليها، وأن تركها تعود مضرته على تاركيها دون غيرهم، ترغيبًا للمكلفين في المحافظة عليها، وتحذيرًا لهم من الإخلال بها، أن للنفس ثواب ما كسبت من الطاعات، وعليها عقاب ما اكتسبت من المعاصي. وعبر بالكسب مع الطاعة، والاكتساب مع المعصية، من باب التلوين في نمط الكلام، كما في قوله تعالى: "فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا" (¬1). (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا): شروع في بقية دعوات العباد، بعد أن تخللها بيان أن الله لا يكلفهم إلا بما يطيقون. والمعنى: هذا الدعاء من إرشاد الله بعباده، فهو على تقدير الأمر منه - سبحانه - كما نقله أبو حيان في البحر، عن الحسن: أي: قولوا في دعائكم: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا): وظاهر الآية يفيد: أن من ترك واجبًا، أو فَعَلَ محرمًا، نسيانًا، أو خطأً، أي جهلاً بالحكم الشرعي، يؤَاخذ عليه، ولهذا يعلمنا الله - تعالى - أن ندعوه ألا يؤَاخذنا على ذلك، ولكن هذا يخالف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2). كما أننا لو أُوخذنا بما نسينا أو أخطأنا، لكنا مكلفين وقت النسيان أو الخطأ، وذلك لا يصح، لأنه تكليف بما ليس في وسعنا، والله تعالى يقول: ¬

_ (¬1) الطارق: 17. (¬2) أخرجه ابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن حبان في صحيحه، والطبراني، واللفظ للأخيرين.

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا): والمخرج من هذا، أن يفسر النسيان بالترك عمدًا، فهو من معانيه اللغوية. ومنه قول الشاعر: ولم أك عند الجود للجود قاليا ... ولا كنت يوم الروع للطاغين ناسيا ويفسر الخطأُ بفعل أو ترك الصواب من الواجبات - أو المنهيات - كسلا أو غواية، أو انحرافًا، فإن فسر بذلك، استقام الدعاء بعدم المؤاخذة عليهما. وقال الزمخشري: ذُكِر الخطأُ والنسيان. والمراد ما هما سببان عنه من التفريط والإغفال. اهـ. ومقتضى هذا: أن الذي يعرف عن نفسه النسيان يجب عليه أن يحتاط بما يُذَكِّرُهُ، وإلا كان آثمًا. وكذا المخطيء إذا لم يجتهد في تجنب الخطأ بسؤال أهل العلم. (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا): أي ربنا ولا تحمل علينا عبئا ثقيلا، كما حملته على الذين من قبلنا. والمقصود منه - كما قال ابن زيد - الذنب الذي ليس له توبة ولا كفارة. وقيل: هو ما كلفه الله بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة، أو في القصاص، لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم، وقطع موضع النجاسة من الثوب ونحوه، وصرف ربح مال الزكاة. وما إلى ذلك. (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ): يعلمنا الله بذلك: أن نستعفيه من العقوبات التي لا تطاق، بعد أن علمنا الاستعفاء مما يؤدي إليها. ويجوز أن يكون المراد مما لا طاقة لنا به من المحن والبلايا، التي لا نطيق تحملها، كالأمراض الجسدية والنفسية، والعسر بعد اليسر، والمشكلات التي لا نجد لها حلاً ونحو ذلك.

(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا): أي وامح آثار ذنوبنا بترك عقوبتنا عليها، واغفر لنا بستر القبيح، وإظهار الجميل، وتعطف علينا بكرمك وفضلك، رحمة منك. قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ: ربنا، لأنها نتائج الجمل التي تقدمت، فجاء: (وَاعْفُ عَنَّا) مقابل: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا). وجاءَ (وَاغْفِرْ لَنَا) مقابل: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا). وجاء (وَارْحَمْنَا) مقابل: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ). إلى آخر ما قال. (أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ): أي أنت مالكنا وسيدنا ومتولى أُمورنا. وإذ كنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين الذين يريدون المكروه بنا، فمن كنت مولاء لا يضام. روى عن معاذ بن جبل: أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال (آمين). قال ابن عطية: هذا يظن أنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كان ذلك فكمال، وإن كان بقياس على سورة الحمد، من حيث أن هنالك دعاء وهنا دعاء، فحسن. وقال على بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه: ما أظن أن أحدًا عقل وأدرك الإسلام، ينام حتى يقرأهما. وروى مسلم في هذا المعنى، عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". قيل: مَعْناه كفتاه من قيام الليل. كما روى عن ابن عمر. وقيل: كفتاه من شر الشيطان، فلا يكون له عليه سلطان، كما روى عن حذيفة بن اليمان. والله أعلم.

سورة آل عمران

سورة آل عمران: مدنية وآياتها: مائتان نزلت بعد الأنفال أهم مقاصدها: 1 - بدأ الله تعالى هذه السورة بتوحيده، وذكر بعض أسمائه الحسنى، وأنه سبحانه أنزل القرآن: مصدقًا لما سبقه من الكتب السماوية. وذكر أن من آياته: المحكم؛ الذي يتمسك به المؤمنون، ومنها المتشابه الخفي، الذي يؤَوِّله الكافرون حسب أهوائهم. 2 - ثم ذكر أن اللذائذ الدنيوية زائلة، وأن الآخرة خير وأبقى، وما فيها إنما هو للمؤمنين الذين أيقنوا أن الدين الحق: هو الإسلام. 3 - ثم علَّم الرسول ما يقوله عند محاجة الكفار. وأبان أن أهل الكتاب بعضهم مهتد وبعضهم كافر: يقتلون الأنبياء، ويدَّعون أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا قلائل. وأمر المؤمنين أن لا يتخذوهم أولياءَ. 4 - وأعلم أن محبته سبحانه لا تَتِمُّ إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. 5 - وذكر قصص بعض المصطفين الأخيار: كمريم، وزكريا، ويحيى، وعيسى - عليهم السلام - وما جرى لعيسى من المعجزات، وردَّ على ما اعتقده النصارى فيه من أنه ابن الله. 6 - وأمر النبي، أن يدعو أهل الكتاب إلى المباهلة والدعاء، بأن ينزل الله لعنته على الكافرين. 7 - ورَدَّ على اليهود الذين قالوا: إن إبراهيم كان على ديننا. وذكر أن أَوْلَى الناس بإبراهيم: الذين اتبعوه، والنبي والمسلمون.

8 - ونبه المؤمنين ألا يغتُّروا بكلام اليهود - الذين من عادتهم إلقاء الشبهات، وإظهار الإيمان في بعض الأوقات، وإصرارهم على الخيانة، وتحّريفهم التوراة. 9 - وأبان أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء: أنهم يؤمنون بجميع الرسل، وأنه من صفة محمد كونه مصدقًا لما معهم. 10 - وأظهر أن من مات على الكفر لا يُقبل منه مال ولا ولد فداء له. وعلم المؤمنين كيفية الإنفاق. 11 - وكذَّب اليهود الذين ادعوا أن كل شيء يحرمونه كان محرمًا على نوح وإبراهيم!!. 12 - وأمر النبي أن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقوله صلى الله عليه وسلم، وأن يدعوهم إلى اتباع دين الإسلام. 13 - ثم ذكر أفضلية البيت الحرام على غيره، وأن حجه واجب على المستطيع. 14 - وحذَّرَ فريقًا من المسلمين من استماع كلام الكافرين. وطلب إلى المسلمين جميعًا، أن يكونوا دعاة إلى الإيمان والعمل الصالح. 15 - وأبان أحوال الناس يوم القيامة. وبشَّرَ المؤمنين بالنصر. والكافرين بالعذاب. 16 - ونَهَى المؤمنين أن يتخذوا بطانة من الكفار، وحثَّهم على أن يخاطبوهم خطاب الأعداء ويعلموهم أن الله مطلع على ما في قلوبهم من: الحقد والبغض للمؤمنين ... ودعا المسلمين إلى الصبر، ووعدهم بالحفظ من كيد الكافرين. 17 - وذَكر قصة بَدْر، ونصْرَ الله للمسلمين. 18 - ونهى - سبحانه وتعالى - عن أكل الربا. 19 - وذكر صفات أهل الجنة. 20 - وأخبر - عز وجل - أن رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قد نسخَتِ الشرائع السابقة.

21 - وذكر غزوة "أُحد" وقرر أن طريق الجنة: الجهاد والعمل الصالح، وأن كثيرا من الأمم حاربت مع أنبيائها. وكرر زجر المؤمنين عن متابعة الكفار. وكرر تبشيرهم بالنصر. وذم المنهزمين الفارين. 22 - وأبان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رحيم بأمته وأنه لو كان سيء الأخلاق، لابتعد الناس عنه. وحثه على مشاورة أصحابه والعزم والتوكل على الله. وأبان أنه سبحانه تفضل على الخلق، برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 23 - وبين حال الشهداء وفضلهم، ومنزلتهم السامية عند الله. 24 - وذكر أن الشيطان وأولياءه يثبطون الهمم، وأن شأن المؤمنين الالتجاء إلى الله لينجيه منهم، وأنه سبحانه سيميز المنافقين من المخلصين. 25 - ونَفَّر من البُخْلِ. وأبان أن اليهود يدعون أن الله فقير وأنهم أغنياءُ. وتوعدهم على هذا القول الفاجر. 26 - وسلَّى نبيه بأنه - تعالى - سيحاسب الجميع بعد الموت، وأنه - سبحانه - يختبر عباده، وأن من صبر، فله الأجر. 27 - وبيَّنَ أن اليهود كتموا ما أنزل الله. وكذَّبُوا الرسول وهم يعلمون صدقه. 28 - وقرَّر أنه يَبْتَلِي المؤمنين ليمحصهم ويرفع درجاتهم، ودعاهم إلى الصبر والتقوى. 29 - ودعا الناس إلى استعمال عقولهم، ليصلوا إلى معرفة الله، ووصف أصحاب العقول بالصفات الطيبة. 30 - وأبان أن أعداء الله - وإن كانوا في صولة الدنيا - لا ينبغي أن يغتر المؤمنون بما نالوه، فمصيرهم إلى جهنم. وَطَيَّبَ خاطرَ المؤمنين، بأنه أعدَّ لهم الثواب والنعيم. 31 - وأبان أن بعض أهل الكتاب آمنوا، وطلب إلى المؤمنين الصبر والمرابطة والتقوى والتمسك بالوحدانية المطلقة والعمل الصالح رجاء الظفر بقربه تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)} المفردات: (الم): سبق الحديث عنها في أول سورة البقرة. (الْقَيُّومُ): القائم بذاته، أو عظيم القيام على تدبير خلقه. (الْفُرْقَانَ): القرآن، أو جميع الكتب السماوية، لأنها تفرق بين الحقِّ والباطل. (ذُو انتِقَامٍ): ذو عقوبة شديدة لمن عصاه. لا يقدر على العقاب بمثلها أحد. التفسير 1 - {الم}: 2 - {اللَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: سبب النزول: نزلت في وفد نجران، حين قدموا إلى المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحاجونه في شأن عيسى بن مريم. روى ابن جرير، عن الربيع عن أنس، قال: "إن النصارى أَتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاصموه في عيسى بن مريم، وقالوا له: من أبوه؟، وقالوا على الله الكذب والبهتان. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء: يَكْلؤُه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل عيسى يملك من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السما؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا صَوَّر عيسى في الرحم كيف شاءَ، وأن ربنا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّيَ كما يغذي الصبي، ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا .. فأنزل الله: (الم. اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ): المعنى: ذهب بعض المفسرين: إلى أن (الم) وأمثالها، من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. وقال آخرون: إنها أسماء حروف هجائية: ترمز إلى تحدي العرب بأن القرآن مؤلف من كلمات ذات حروف كهذه، فأتوا بمثله إن صح زعمكم أن محمدا افتراه، فإذا عجزتم، فمحمد مثلكم لا يستطيع أن يأتي بمثله، فيجب الإيمان بأنه من عند الله تعالى [ارجع إلى ما قيل فيها في صدر سورة البقرة]: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): (اللهُ): هو الإله، المنفرد بالأُلوهية، المستحق وحده للعبادة، فالأُولوهية مقصورة عليه، ثابتة له، منفية عن غيره، وبذلك نفى الشريك كما تزعم النصارى في عيسى، وكما تزعم اليهود في عُزَيْر، فإن اعتقاد البنوة شرك. كما نَفَى أن يكون هناك إله غيره، كما يزعم المشركون. كما أن الآية تنفي أن يكون الكون بغير إله خالق، كما يقول الدهريون.

(الْحَيُّ): المراد بالحي: الدائم الحياة، الذي لا يموت أبدًا. (الْقَيُّومُ): الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. والوصفان، كالدليل على استحقاق الله للتفرد بالأُولوهية. 3، 4 - {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ ... } الآيتان. أي نزل عليك القرآن. وعبر عنه بالكتاب، للإيذان بأنه هو الكتاب المتميز، الذي ينصرف إليه هذا الاسم عند الإطلاق (¬1)، أو للإشارة إلى أنه مشتمل على ما فيه غيره من الكتب السماوية من المقاصد المشتركة بين الأديان فكأنه جنس الكتب السماوية (¬2). وعبر في جانب القرآن بالتنزيل، وفي جانب التوراة والإنجيل بالإنزال - كما سيجيء - لأن التنزيل للتكثير، والله نزل القرآن مفرقًا حسب الوقائع شاملًا لجميع شئون الحياة، فكان معنى التكثير حاصلا فيه. وأما التوراة والإنجيل فإنه - تعالى - عالج فيهما بعض شئون الحياة. ومعنى تنزيل القرآن على الرسول بالحق، أنه - تعالى - نزله عليه ملتبسًا بالحق في جميع صوره: من توحيد لله وتنزيهه عن الصاحب والولد، وإخباره عن أحوال الأُمم السابقة مع رسلهم، وشهادته بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإخباره بأن أهل الكتاب يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بأوصافه المميزه له، وما جاء به من العبادات والمعاملات والأخلاق، وأحوال الآخرة، فكل هذه الصور من الحق، جاء بها القرآن العظيم. وكما نزله الله على رسوله بأنواع الحق التي ذكرناها، فقد نزله مصدقًا لما بين يديه، أي لما سبقه من الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - أي موافقًا لها فيما اشتملت عليه من العقائد، وأُصول الأحكام. فكل ما يوجد في التوراة والإنجيل مخالفًا لما جاء فيه - كجعلهم لله صاحبة أو ولدًا أو غير ذلك، من العقائد وأُصول الأحكام - فهو من تحريف أهل الكتاب، وهو مردود على أصحابه. ¬

_ (¬1) فأل فيه على هذا للعهد. (¬2) فأل فيه على هذا للجنس.

فالغرض من هذين الوصفين، رد ما عليه أهل الكتاب، وإيذان بأن ما هم عليه، إنما هو مخالف للحق، ولما جاء في التوراة والإنجيل النازلين من عند الله - تعالى - وبيان أن الحق - الموافق لسائر الكتب السماوية - هو ما جاء في القرآن المجيد. ولذا عقبه بقوله: (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ): أي فأنزل التوراة والإنجيل من قبل القرآن، لأجل هداية الناس حين أنزلهما على موسى وعيسى، فلم يكن فيهما شيء من الضلال، الذي يشتملان عليه الآن. (وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ): أي وأنزل القرآن بعدهما: فارقًا بين الحق الذي كانت عليه الكتب السماوية، وبين الباطل الذي عليه أهل الكتابين الآن، وسائر أصحاب الملل والنحل. فقد بين الحق في أمر عُزَيْر وعيسى، ونفى أنهما وَلَدَان لله. وأحل الحلال، وحرَّم الحرام، وفرض الفرائض، وشرع الشرائع، وسنّ الأخلاق الرفيعة، وأوجب توحيد الله في العبادة، ونفى عنه الشركاء، وأخبر عن يوم القيامة الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت من خير أو شر، وأقام الأدلة على ثبوته. فمن استحب العمى على الهدى - بعد هذا الفرقان - فأُولئك هم الظالمون. "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ" (¬1). أخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير: أنه - أي القرآن - الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى - عليه السلام - وغيره. وأيد هذا، بأن صدر السورة نزلت في محاجة النصارى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر أخيه عيسى. ولما ذكر الله ما يتعلق بمعرفة الإله، وتقرير النبوة، أتبعه الوعيد للكافرين المعرضين عن هذا الحق فقال: ¬

_ (¬1) الشعراء من الآية: 227.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ): المراد بالكافرين: النصارى الذين نزل صدر السورة بسببهم، أو كل كافر، فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوليًا. والمراد بآيات الله: الكتب المنزلة على الرسل، أو ما يعمها وغيرها. كالآيات الكونية والمعجزات، وإضافة الآيات إلى اسم الله - تعالى - تهويل لفظاعة تكذيبها، وتأكيد لاستحقاقهم العذاب، وتنكير (عَذَابٌ) لتعظيم أمره. أي أنه عظيم لا يُقَدَّر قدره. (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ): العزيز: الغالب الذي لا يُغلب. والانتقام: العقوبة. وكلمة (عَزِيزٌ): للإشارة إلى القدرة التامة على العقاب. والجملة سيقت لتقرير الوعيد السابق عليها. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} المفردات: (لَا يَخْفَى): لا يغيب. (يُصَوِّرُكُمْ): يخلقكم على ما يشاء من صورة. (الْأَرْحَامِ): جمع رحم. وهي مكان الحمل. مشتق من الرحمة.

التفسير 5 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}: إن الله واسع العلم، لا يخفى عليه شيءٌ كائن في الأرض ولا في السماء، لعلمه بما يقع في العالم من كُلِيٍّ أو جُزْئِيٍّ، فهو العالم بما كان وما يكون، وهو مطلع على كُفْر مَنْ كَفَرَ بآيات الله، وإيمان من آمن بها. وهو مجازيهم عليه، والمسيحيون يؤمنون بألوهية عيسى غافلين عن أنه بشر محدود المعرفة فكيف يكون إلها؟ وعبر عن علمه - تعالى - بذلك، إيذانًا بأن علمه - سبحانه - بالكائنات - ولو كانت في أقصى غايات الخفاء - ليس من شأنه أن يكون فيه شائبة خفاء بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الوضوح والجلاء. 6 - {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ... } الآية. أي يخلقكم على الصورة التي يريدوها. والآيتان رَدٌّ على نصارى نجران في دعواهم أُلوهية عيسى. ووجه الرد: أن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيٌ ما: في الأرض ولا في السماء. وعيسى - كخلق الله - يخفى عليه ما لم يُعْلِمْهُ اللهُ إياه. فلا يصلح أن يكون إلها. والله هو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاءُ. وعيسى لا يقدر على ذلك. بل صَوَّره الله في رحم أمه كسائر خلقه فهو مخلوق لا خالق. ومن كان كذلك - لا يصلح أن يكون إلها. كما أن الآية الثانية كالدليل على أن الله لا يخفى شيءٌ في الأرض ولا في السماء. فإن من صور الأجنة في الأرحام، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، فمفهوم هذه الجملة كالنتيجة لما قبلها. فكأنه قيل: ومن كان لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء - وجب أن ينفرد بالألوهية، فلا يشاركه فيها وَلَدٌ أوْ غيره. وأن يكون هو العزيز الذي يغلِب ولا يُغلَب، الحكيم في صنعه وتدبيره.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} المفردات: (مُّحْكَمَاتٌ): واضحة الدلالة على معانيها. (مُتَشَابِهَاتٌ): محتملات لعدة معان لا يتضح مقصودها، فاشتبه أمرها على الناس. (زَيْغٌ): ميل عن الحق إلى الباطل. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ): طلبًا لها. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ): الثابتون فيه. (الْأَلْبَابِ): العقول الخالصة. التفسير 7 - {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ... } الآية. بعد أن بين الله: أن القرآن نزَّله الله مصدقًا للكتب السماوية التي سبقته، وأنه فارقٌ بين الحق والباطل، وتوَعَّد مَن كَفر به، وأكد الوعيد بذكر أنه لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء - عاد إلى الحديث عنه في هذه الآية، على ما سنشرحه.

والمعنى: الله الذي تقدم بيان صفاته الجليلة، هو الذي أنزل عليك - يا محمد - القرآن فيه آيات محكمات: أي واضحة الدلالة على معانيها. وقد وصف الله هذه الآيات المحكمات بأنها: أُم الكتاب. أي مرجع أحكامه، وأصل معانيه. وسنوضح ذلك في الكلام على المتشابهات. (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ): أي وفيه آيات أُخرى متشابهات، أي غير واضحة الدلالة على معانيها بنفسها. فهذه ترجع - في أحكامها ومعانيها - إلى ما تقرر في المحكمات التي جعلت أصلا ومرجعًا لأحكام القرآن ومعانيه المتشابهة. فأطلق عليها: أُم الكتاب، من أجل ذلك. فكما أن الولد يرجع إلى منبته وأصله وهي أُمه - فكذلك المتشابهات، ترجع إلى المحكمات، فهي أصلها وأُمها ومآلها. ومن ذلك قوله تعالى: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ" (¬1)، وقوله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (¬2)، فتُحمل الأولى على معنى: لا تحيط به الأبصار، وتُحمل الثانية على معنى أنها تنظر إليه من غير إحاطة .. برَدِّها إلى المحكم وهو قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (¬3)، فإنها تقتضي أن النظر إليه - سبحانه - لا يصح أن يكون فيه إحاطة به، حتى لا يماثل مخلوقاته في ذلك، وليتفق هذا التأويل مع نفي إدراكه الذي اشتملت عليه الآية الأولى. وهكذا كل ما يكون متشابهًا في القرآن، يحمل على محكمه. قال الزمخشري: فإن قلت: فَهَلَّا كان القرآن كله محكمًا؟ قلت: لو كان كله محكمًا لتعلق الناس به، لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك، لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به (¬4). ولما في التشابه من الابتلاء، والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعاب القرائح - في استخراج معانيه ورده إلى المحكم - من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله. ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في ¬

_ (¬1) الأنعام من الآية: 103. (¬2) القيامة الآيتان: 22 و 23. (¬3) الشورى من الآية: 11. (¬4) وهو التفكر العقلي والتدبر في الآيات.

كلام الله، ولا اختلاف فيه - إذا رأي فيه ما يناقض ظاهره - وأَهمَّهُ طلبُ ما يوفقُ بينه ويجريه على سَنَن واحد، ففَكَّر وراجع نفسه وغيره، وففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه للمحكم - ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوة في إيمانه ... اهـ والله أعلم. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ): لَمَّا بين الله أن في الكتاب: محكمًا ومتشابهًا، فرَّع على ذلك موقف أهل الزيغ من المتشابه. وأهل الزيغ: هم المائلون عن الحق إلى الأهواء الباطلة، فيدخل فيهم نصارى نجران، الذين نزل صدر الصورة بسببهم. (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ): أي فيتعلقون بذلك المتشابه وحده، ولا ينظرون إلى المحكم ليردوه إليه، بل يأخذون بأحد الاحتمالات الباطلة التي توافق أغراضهم الفاسدة، ومذاهبهم الباطلة، إلحادًا وكفرًا. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ): أي طلب فتنة الناس عن دينهم؛ بالتشكيك في كونه من عند الله، بزعم تناقضه، وطلب تأويله إلى معان توافق مذاهبهم المبتدعة في الدين، ليحدثوا فِرَقا تشق وحدة المسلمين، كتلك الفرق التي ظهرت، مثل النصيرية والقاديانية والبهائية. والذين يتبعون المتشابه فريقان: فريق من الكفار صرحاء مجاهرون، يريدون هدم الدِّين بزعمهم تناقضه (¬1)، وفريق منافقون ملحدون منحرفون عن جماعة المسلمين. (وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ): أي وما يعمل تأويل المتشابه - حسبما ينبغي له - إلا الله. ولذا أَوَّله وفسَّره بآياته المحكمات، التي (هُنَّ أَمُّ الْكِتَابِ)، ومرجع المتشابه فيه. ¬

_ (¬1) كما فعل النصارى في شأن عيسى، حيث زعموا تناقض القرآن حين نفى بنوة عيسى لله تارة، وأثبتها أخرى حين ذكر أنه روح منه. وهذا زيغ منهم يبتغون به الفتنة، فإن المراد من قوله: "وروح منه" أنه صادر من الله، فكما أن كل شيء صادر من الله بالخلق والإبداع، فكذلك روح عيسى، وصدق الله إذ يقول: "لَمْ يَلِدُ وَلَمْ يُولَدْ".

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا): يحتمل أن يكون الكلام قد تمَّ، عند قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) وابتداء كلامًا جديدًا بقوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) والمعنى عليه: أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله. أما الراسخون في العلم، فلا يزيغون كما زاغ أهل الفتنة، بل يقولون آمنا بالمتشابه، فكل من المتشابه والمحكم صادر من عند ربنا، فهم بذلك يمسكون عن تأويله، مفوضين العلم بمعناه إلى من أنزله - سبحانه - ويحتمل أن يكون: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) معطوفًا على لفظ الجلالة في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) والمعنى عليه: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أيضًا. فهم يعلمون تأويله برده إلى المحكم الذي هو أُمُّ للمتشابه. ومع حسن تأويلهم له طبقًا للمحكم فهم يقولون: آمنا به: كل - من المتشابه ومن المحكم - من عند ربنا. ويشهد لصحة هذا الرأي أمران: أحدهما أن الله - تعالى - ما أنزل القرآن إلا لِيُعْمَلَ به. فلا ينبغي أن يكون فيه ألغاز ومعميات لا يمكن فهمها وإدراكها. فمتشابهه يجب أن يرد إلى محكمه .. كما قال الله في الآيات المحكمات: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ): أي مرجعه عند الاشتباه. وثانيهما: في أن الله تعالى أثنى على الراسخين بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ففي وصفهم بأنهم أصحاب العقول الخالصة المتذكرة، دليل على أنهم استعملوها في كشف المتشابهات والتذكر بها. والراسخون في العلم: هم الثابتون في العلم الشرعي، الذين استناروا بمشكاة الكتاب والسنة، ومنّ الله عليهم بالفقه في الدين. روى الشيخان وأحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرا يفقهه في الدين".

(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ): أي وما يتدبر القرآن فلا يزيغ في تفسير المتشابه منه، إلا الراسخون في العلم، الذين قالوا: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) فهم أصحاب العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائفة. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} المفردات: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا): لَا تُمِلْهَا عن الحق. (مِن لَّدُنكَ): من عندك. (لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ): ليوم لا يصح أن يشك فيه، وهو يوم القيامة. التفسير 8 - {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... } الآية. يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام الراسخين، ويحتمل أن يكون تعليمًا من الله لهم، أي: قولوا ذلك وادعوا به، لأن القلوب تتقلب. والمعنى: لا تُمِلْ قلوبنا - يا ربنا - عن نهج الحق بتأويل المتشابه تأويلاً لا ترتضيه، كما أزغت قلوب أولئك. أو: لا تَفتِنَّا ولَا تَبْلُنَا ببلايا تَزيغ فيها قلوبُنا. (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً): الرحمة المطلوبة لهم: إمَّا الإحسان والإنعام مطلقًا، وإمَّا الإحسان بالتوفيق للثبات على الحق، كما يُشْعِر به ما قبله. والمعنى على الثاني: وهب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا على الحق: رحمة منك وفضلا.

(إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ): أي كثير الهبات والعطايا، وهذا تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسئول، أي أنك - أنت وحدك - الوهاب لكل موهوب. وفيه دلالة على أن الهُدَى بتوفيق الله، والضلال بعدم الإعانه منه، لتقصير العبد في سلوك سبيله، وأنه متفضل بما ينعم به على عباده، من غير أن يجب عليه شيء. 9 - {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ... } الآية. أي: أنت يا ربنا، جامع المهتدين والزائغين، لحسابهم وجزائهم في يوم لا ينبغي أي يُرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والنشر والجزاء. ومقصود الراسخين في العلم من هذا الدعاء، عرض افتقارهم إلى الرحمة، وأنها المقصد الأسنى عندهم، وتأكيد إظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة، لمزيد من الرغبة في استنزال الإجابة. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ): هو كلام الله - عز وجل - بعد أن تم كلام الراسخين عند قولهم (لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ) كأن القوم لما قالوا: (إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ) صدقهم الله في ذلك، وأَيَّد كلامهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ). وقيل: هو من كلام الراسخين. والمعنى على هذا: إنك لا تخلف وعدك للمسلمين والكافرين بالثواب والعقاب، أو وعدك بمجيء يوم لا ريب فيه. فهذه الجملة تعليل لمضمون الجملة السابقة المؤكدة لانتفاء الريب في مجيئه. وإظهار الاسم الجليل - الله - لإبراز كمال التعظيم والإجلال. وللإشعار بعلة الحكم، فإن الأُولوهية منافية للإخلاف في الوعد. والتأكيد بإِنَّ، وإظهار لفظ الجلالة بدلا من الضمير: يفيد - إلى ما سبق - تأكيد نفي الريب، كما يفيد تأكيد قيام الساعة تأكيدًا حاسمًا.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} المفردات: (وَقُودُ النَّارِ): وقود النار - بالفتح - ما توقد به. وبالضم: الاشتعال. (كَدَأبِ): الدأب، العادة. (الْمِهَادُ): الفراش. التفسير 10 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ... } الآية. المراد بالذين كفروا بجميع الكافرين. وفي جملتهم وفد نجران. الذين نزل صدر السورة بسببهم. والمعنى: إن الذين كفروا جميعًا، لا تنفعهم - في يوم لا ريب فيه - أموالهم التي أعدوها ليبذلوها في جلب المنافع ودفع الأذى، ولا أولادهم الذين بهم يتناصرون، وعليهم في دفع الخطوب المدلهمة يعتمدون. فكل ذلك لا يغني عنهم من الله وعذابه شيئا من الإغناء .. أو لن تغني عنهم بدل رحمة الله وطاعته.

(وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ): أي وأولئك المتصفون بالكفر، حطب النار التي تشتعل بهم، لكفرهم. وفي الآية: إشارة إلى أن الكفار أَلْهَتْهُم أموالهم وأولادهم عن الله، والنظر فيما ينبغي له، حتى كأنهم يعتقدون أنها تغنيهم عن رحمة الله وطاعته، وتدفع عنهم عذابه. 11 - {كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... } الآية. المعنى: لن تغني عن هؤلاء الكفار أموالهم ولا أولادهم، شأنهم في هذا، شأن آل فرعون، حيث لم يُغن عنهم ما ملكون من أموال طائلة، وما أنجبوه من أبناء عديدين، فأُغرفوا وأُدخلوا نارا، بسبب كفرهم. فكما نزل بما تقدم العذاب المعجل بالاستئصال، فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من القتل والسبي والإجلاء وغنيمة الأموال. وكما دخلوا النار لكفرهم، فستدخلونها أنتم لذلك. وفي ذلك يقول الله تعالى بعد هذه الآية: "قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ". والمراد بمن قبلهم: الأُمم الكافرة التي كذبت الرسل، ثم فسر ذلك فقال: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): الآيات: المعجزات والبراهين التي أُيد بها الرسل، أو الأدلة على وجود الله ووحدانيته، أو هما معًا. (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ): استعمل الأخذ؛ لأن من ينزل به العقاب، يصير كالمأخوذ المأسور، الذي لا يقدر على التخلص. والمعنى: فأخذهم الله وعاقبهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصًا، وذلك بسبب ذنوبهم التي أصرُّوا عليها ولم يقلعوا عنها. (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ): أي لمن كفر، وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ للجميع، وتكمله له.

12 - {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: سبب النزول: أخرج ابن جرير، وابن إسحاق، والبيهقي، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصاب ما أصاب من "بدر" ورجع إلى المدينة - جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قَتَلتَ نفرا من قريش: كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك - والله - لو قاتلتنا، لعرفْتَ أنا نحن الناس، وأنك لم تكن مثلنا .. فأنزل الله: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) إلى قوله: (لِأُولِي الْأَبْصَارِ). وحكم الآية يعم جميع الكافرين، وإن نزلت بسبب اليهود، فسيغلب المؤمنون الكفار جميعا، ويُنْصرون عليهم، كما قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" (¬1)، وقال: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (¬2). المعنى: قل يا محمد، لهؤلاء الكفار: ستغلبون - ألبتة - عن قريب، وستحشرون - بعد موتكم ثم بعثكم - إلى جهنم: مستقركم الدائم وبئس الفراش: جهنم، التي مهدتموها لأنفسكم بذنوبكم وآثامكم. والتعبير عن جهنم بالمهاد، للتهكم بهم. فإن المهاد هو الفراش الذي يمهد ليستراح عليه، ولا مهاد ولا راحة في السعير. وقد تحقق وعيد الله لهم بأنهم سيغلبون، ذلك بقتل يهود بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم .. فكان الإخبار عن ذلك - قبل وقوعه ثم تحققه بعد ذلك - معجزة للرسول. وفي الآية دليل على حصول البعث بعد الموت، وحصول الحشر والنشر، وأن مرد الكافرين إلى النار. فكما تحقق الوعيد الأول، يتحقق الوعيد الثاني يوم الحساب. ¬

_ (¬1) الصف: 9. (¬2) الروم: 47.

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} المفردات: (آيَةٌ): الآية هنا، العبرة والعظة. (فِئَةٌ): الفئة، الطائفة من الناس. (الْأَبْصَارِ): البصائر والعقول. التفسير 13 - {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ... } الآية. الخطاب لليهود الذين اغتروا بأنفسهم، أي قد كان لكم - أيها اليهود - علامة عظيمة دالة على تحقق ما توعدتكم به، وهو أنكم ستُغلبون قريبًا، وهذه العلامة والآية: في جماعتين التقتا في القتال: يوم بدر، وهم جيش رسول الله وأصحابه وجيش مشركي مكة. ولا شك أن في غلبة المسلمين - للكفار مع كثرتهم وعظيم عدتهم - آية بينة على صدق وعيد الله لهؤلاء الكافرين، ووعده بنصر المؤمنين. مع العلم بأن المشركين خرجوا مستعدين للقتال أتم استعداد. بعكس المسلمين. (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ): أي فئة مؤمنة في أعلى درجات الإيمان: تجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمته. وهم أصحاب "بدر".

(وَأُخْرَى كَافِرَةٌ): أي وفئة أخرى كافرة. والمراد بها: كفار قريش. ولم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الأولى بأن يقال: إنهم يقاتلون في سبيل الشيطان؛ إسقاطًا عن درجة الاعتبار، وإيذانا بأنهم لم يتصدوا للقتال حسب استعدادهم، لما اعتراهم من الرعب والهيبة. (يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ): الرَّاءُون: المشركون، والمرئيون: المؤمنون. والمعنى: أن المشركين كانوا يرون المؤمنين مِثْلَيْ عدد المشركين، أو مثلى عدد المسلمين. والمراد من الرؤية: الظن والحسبان. وقد كثَّر الله المسلمين في أعين المشركين - مع قلتهم - ليهابوهم، فيحترزوا عن قتالهم، أو أن الله أنزل الملائكة حتى صار عدد المسلمين كثيرًا في نظر المشركين، فكانوا يرونهم مثلين (رَأيَ الْعَيْنِ): أي رؤية ظاهرة لا لبس فيها. روى محمد بن الفرات، عن سعيد بن أوس، أنه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر. قال: ما كنا نراكم إلا تُضْعِفُون علينا - وأرادوا أنهم كانوا ألفا وتسعمائة وهو المراد من (يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ). وقد يقال: إن هذه الآية تناقض آية الأنفال التي تقول: "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِم" (¬1). فإن تلك الآية تقتضي أن كلا من الفريقين قُلِّل في أعين الآخر، وهذه الآية تقتضي أن المسلمين ضاعفهم الله في أعين الكافرين؟ والحق ألا تناقض بينهما، إذ المراد بآية الأنفال "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ" أيها المؤمنون "إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا" إنما كانت هذه الرؤية قبل الالتحام لتقدموا عليهم "وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهم" ليقدموا عليكم. ولا يجبنوا عن القتال، فلما التحم الفريقان، أرى الله المشركين المسلمين مثلين، فكثر عدد المسلمين في أعين الكفار، ليهابوهم وتتزلزل أقدامهم، فيفشلوا وينهزموا، وكان عدد المسلمين الحقيقي في بدر، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وعددُ المشركين الحقيقي تسعمائة وخمسين رجلا. ¬

_ (¬1) الأنفال: 44.

(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ): والله يقوي بنصره وبعونه من يشاء من عباده. فالنصر والظفر، إنما يحصلان بتأييد الله ونصره، لا بكثرة العدد، ولا بقوة الشوكة، ولا بقوة السلاح: وقد تقف بعض العقبات في طريق النصر، ولكن العاقبة دائمًا للمتقين. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الْأَبْصَارِ): الإشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرًا، المستتبعة لغلبة القليل وعديم العدة على الكثير وافر العتاد والسلاح. والعبرة: الاعتبار والاتعاظ، وأُولوا الأبصار: أصحاب البصائر أي العقول كما يقال لفلان بَصَرٌ بهذا الأمر، أي علم ومعرفة. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} المفردات: (حُبُّ الشَّهَوَاتِ): حب المشتهيات للنفس. (الْمُقَنطَرَةِ): المجمعة أو المضَعَّفة. (الْمُسَوَّمَةِ): الراعية في المرعى. مأخوذ من: سوَّم خيله، إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان. (وَالْأَنْعَامِ): الإبل والبقر، والغنم والمعز. (وَالْحَرْثِ): مصدر مراد به: المزروع.

التفسير 14 - {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ... } الآية. بعد أن توعد الله الكافرين بالهزيمة من المؤمنين، وآذنهم بوجوب الاعتبار بما أصاب المشركين يوم بدر، بسبب كفرهم - مع كثرة ووفرة عدتهم من المؤمنين مع قلتهم وضعف استعدادهم أتبعه التنفير من زينة الدنيا الفانية - إذا صرفت عن الله - والحثَّ على العمل للآخرة، فإنها خير وأبقى. فذكر الله - سبحانه - هذه الآية الكريمة. والمزَيِّن لحب الشهوات، هو الله تعالى كما روى عن عمر بن الخطاب. والمراد من تزيين الله حب المشتهيات الدنيوية: أن جعلها حسناء، ترغب فيها النفوس لحسنها، وتميل لحيازتها والتمتع بها. ولذا، أحب الرجال النساء ليتزوجوهن، وأحبوا البنين ليعاونوهم ويرثوهم، وأحبوا المال لأَنَّ به قضاءَ المصالح، وأحبوا الخيل والأنعام للزينة وحمل المتاع وغير ذلك. ولولا أن الله أعطى هذه الحياة الدنيا: أسباب الحسن والجمال وجعلها أساسًا للمنافع - لما تزينت ولما تحسنت لهم، ولأعرضوا عنها، كما يعرضون عما ليس فيه جمال ولا منفعة، كالحيوانات الضارة، أو ضئيلة النفع. وكما زيَّنها وحسَّنها لهم، حذرهم من فتنتها، والركون إليها، والاغترار بها. كما يشير إليه آخر الآية، وكقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬1). وغير ذلك. وقيل المزيِّن: الشيطان. وتزيينه حب الشهوات: حضه على الرغبة في ارتكاب المحرمات منها. ويؤيد هذا قوله تعالى: "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ" (¬2). وقيل غير ذلك: ¬

_ (¬1) التوبة: من الآية 24. (¬2) النحل: من الآية 24.

والشهوات: جمع شهوة وهي: توقان النفس إلى الشيء. وفي تسميته المشتهيات بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات، مبالغة في كونها مشتهاة، محروصا على الاستمتاع بها. وثانيهما: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهدة على نفسه بالبهيمية. فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها. ولقد عدد الله هنا سبعة أنواع من المشتهيات إذ قال: (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ). والمراد من النساء ما يشمل الإماء، وقدَّمهن على الكل، لأن التمتع بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم. (وَالْبَنِينَ): أي الأولاد الذكور. وخصهم لأن حب الولد الذكر، أكثر من حب الأنثى. ووجه التمتع بهم: السرور والتكاثر بهم، إذ هم المعدون للدفاع. وثنى البنين، لأنهم من ثمرات النساء. وقيل: المراد بالبنين الأولاد مطلقا. والتذكير للتغليب. (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ): القناطير جمع قنطار، ويطلق أحيانا على المال الكثير بغير عدد، وهو المراد هنا. كما أخرجه ابن جرير عن الضَّحَّاك. وقد يستعمل في مقدار كثير معين من المال. كما أخرجه أحمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القنطار اثنا عشر ألف أُوقية" كما يستعمل في وزن محدود، وهو مائة رطل. ففي القاموس: القنطار مائة رطل من ذهب أو فضة. ووصف القناطير بالمقنطرة، للمبالغة .. فمن عادة العرب: أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة، كظل ظليل.

وقيل معناه: المحصَّنة. من قَنْطَرتُ الشيء. إذا عقدته وأحكمته. وإنما كان الذهب والفضة محبوبين، لأنهما سبب للحصول على كل محبوب. (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ): المسوَّمة: بمعنى الراعية. ووصفت الخيل بذلك، لأنها إذا رعت ازدادت حسنا. وقيلَ: المسومة، بمعنى المطهمة الحسان. مأخوذة من السيما وهي الحسن. أو هي المعلمة ذات الغرة والتحجيل. من السمة وهي العلامة. (وَالْأَنْعَامِ): هي: الإبل والبقر والغنم والمعز. (وَالْحَرْثِ): أي الزرع من حبوب وبقل وتمر. (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): الإشارة إلى ما ذكر من الأصناف التي زُيَّن للناس حبها. والمتاع: ما يتمتع به في الدنيا زمنًا قليلا، لأن الآجال مهما طالت فهي قصيرة. (وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ): المآب: المرجع، وإضافة حسن إلى المآب من إضافة الصفة إلى موصوفها، أي المآب الحسن وهو الجنة. وليس المراد من الآية الكريمة الصرف عن التمتع بزينة الحياة الدنيا، فإن التمتع بها حلال، كما قال - تعالى - في سورة الأعراف: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1) أي خالصة من العقاب عليها يوم القيامة. ولكن المراد: ألا يشتغل المؤمنون بها عن الله تعالى، ولا يغتَرُّوا بمفاتنها، وأن يجعلوها وسيلة لحسن المآب، بصرفها في طاعة الله ومرضاته، إلى جانب تمتعهم الحلال بها. ¬

_ (¬1) الأعراف: 32.

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} المفردات: (أَؤُنَبِّئُكُم): الهمزة للاستفهام. والمراد منه: التنبيه والتشويق إلى ما ينبئهم به. والإنباء: الإخبار. فكأنه يقول: إني مخبركم بخبر يسترعى انتباهكم وشوقكم إلى سماعه، فاستمعوا إليه. (وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ): وزوجات مطهرات من الأدناس: حسية ومعنوية. (وَالْقَانِتِينَ): والمطيعين لله، الخاضعين له، المقرِّين بعبوديتهم له. (بِالْأَسْحَارِ): الأسحار جمع سحر. هو آخر الليل قبيل الفجر. (وَرِضْوَانٌ): الرضوان: الرضا العظيم. التفسير 15 - {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } الآية. لما ذكر الله في الآية السابقة، أنه قد زَيَّن للناس مشتهيات الدنيا من النساء والبنين، والكثير من الذهب والفضة، والخيل الحسان المطهمة، والأنعام والزرع، ونبَّهَهُم إلى أنها

متاع الحياة الدنيا، وأن لديه (حُسْنُ الْمَآبِ) - أتبع ذلك بيان حسن المآب، وأنه خير من هذا المتاع الذي يغتر به قصارُ النظر، وأن الذي يحظى به هم: المتقون. فقال جَلَّ ثناؤُه: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم ... ) الآية. والمعنى: قل يا محمد، لهؤلاء الذين يُخدعون بزنية الحياة وما فيها من جمال وحسن، فيحبون مشتهياتها ولذاتها: هل أُخبركم بخير من ذلكم الذي تحبونه، وتميلون إليه من متاع الحياة الدنيا؟ ثم أجابهم عن هذا الاستفهام المشوق ومعناه: للذين اتَّقَوْا عقاب ربهم فخافوه ولم يعصوه، وأعرضوا عما سواه فلم يُفتنوا به، وكانوا بذلك في وقاية من غضبه وعذابه. لِهؤلاء: بساتين عظيمة الحسن، تجري من تحتها الأنهار، فيتضاعف بذلك حسنها، ويكمل به التمتع بمباهجها وقطوفها، وهي -لهم حال كونهم خالدين فيها- لا يبرحونها، ولهم مع ذلك زوجات مطهرات من الأدناس الحسية والخُلُقية، فلا يرون فيهن ما يتوهم من عوارض تغض عن جمالهن وطهرهن، وبذلك تكتمل البهجة النفسية، ولهم -فوق ذلك- رضا عظيم صادر من الله ينعمون به، وهم يتقلبون في هذه العطايا فلا يسخط عليهم بعد ذلك أبدًا. وهذا الرضا أكبر من تلك النعم .. كما صرح به في قوله تعالى: "وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ" (¬1). والله خبير بجميع العباد، يعلم أعمالهم وأقوالهم وخواطرهم النفسية، فيثيب المحسن فضلا وكرمًا، ويعاقب المسيء عدلا لا يشوبه حيف. والتعبير عن الجنات بأنها (عِندَ رَبِّهِمْ): للإشارة إلى علو رتبتها، وسمو شرفها، وفي التعريض لعنوان الربوبية - مع الإضافة إلى ضمير المتقين - تلطف بهم، وتشريف وتكريم لهم. وقد بدأ الله - سبحانه - في هذه الآية بذكر الجزاء المقرر وهو الجنات، ثم ثنَّى بذكر ما يحصل به الأُنس التَّام وهو الأزواج المطهرة، ثم ذكر ما هو أعظم وأفخم وهو رضا الله الذي يسعى إليه الحبيب الواله .. نسأله تعالى ألا يحرمنا رضاه. ¬

_ (¬1) التوبة: 72.

16 - {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: المعنى: هؤلاء المتقون الذين ينعمون بهذا النعيم، هم الذين يقولون - بإخلاص ويقين - ربنا إننا صدقنا بالذي أنزلته على رسولك محمد وسائر من سبقه من الرسل، فاغفر لنا - ببركة هذا اليقين الثابت - ذنوبنا: صغائرها وكبائرها، واحفظنا من عذاب النار التي لا طوْق لأحد بقليلها، فكيف يطيق سعيرها! 17 - {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}: هذه الأوصاف الكريمة، هي بقية أوصاف المتقين، الذين وعدوا بالجنات وما فيها من نعيم مقيم. والمعنى: الصابرين على مشاق الطاعات والنوائب، وعن مغريات المعاصي من مُتَع الحياة الدنيا. والصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم. والخاضعين المطيعين لتكاليف ربهم. والمنفقين لأموالهم: في حقوق الله تعالى وحقوق ذويهم، وفي أنواع البر التي ندبهم الله ورسوله إليها. والمستغفرين ربهم في أواخر الليل والناس نيام. فهم ينهضون من لذيذ المنام، وينتزعون أنفسهم من فراش الراحة والغفلة، ويطلبون غفران ربهم لما عسى أن يكون قد فَرَط منهم من ذنوب. وهم قائمون في محاريبهم، أو جالسون بين يدي مولاهم، إيثارًا لطاعة ربهم على هوى نفوسهم. وقد جاء في فضل الطاعة في الأسحار آثار عديدة: منها ما رواه النسائي بسند صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله سبحانه يُمهل حتى يمضيَ شطرُ الليل الأول، ثم يأمر مناديًا فيقول: هل مِنْ دَاعٍ يستجاب له؟ هل من مستغفر يُغْفَرُ له؟ هل من سائل يُعطَى؟ ". وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "مِنْ كُلِّ اللِّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحَر".

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} المفردات: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): أي بَيَّنَ لعباده ذلك بالأدلة الواضحة. فكأن ذلك منه شهادة وأي شهادة. أما شهادة الملائكة وأُولي العلم فهي: إقرارهم بذلك. (قَائِمًا بِالْقِسْطِ): أي قائمًا بالعدل في تدبير الكون .. التفسير 18 - {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ... } الآية. لما ذكر الله في الآية السابقة أن الذين استحقوا حسن المآب هم الذين قالوا: ربَّنا إننا آمنا أتبع ذلك ببيان ما آمنوا به، وهو توحيد الله الذي شهدت به آياته القرآنية والكونية، وأقرت به الملائكة وأُولو العلم. المعنى: هذه الشهادة موجهة إلى أهل نجران، الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أمر عيسى عليه السلام، ونزل بسببهم صدر هذه السورة. وإلى هذا يميل محمد بن جعفر بن الزُّبَيْر. وشهادة الله، المراد بها هنا: تقرير وحدانيته تعالى؛ بما أقامه من الأدلة في الأنفس والآفاق، وبما جاءَ في الكتب السماوية من البراهين، كقوله تعالى في القرآن: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" (¬1) وبما أثبته فيها من عبارات التوحيد كقوله: "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ" (¬2). وقوله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" (¬3). وكما شهد بأنه لا إله إلا هو، فقد شهد بذلك الملائكة الذين "لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (¬4). وكذلك أصحاب العلم والفكر السديد من الأنبياء والمرسلين، ومن آمن بهم، وكل من فكر في آيات الله الكونية فآمن به. هؤُلاء - جميعًا - ¬

_ (¬1) الأنبياء من الآية: 22. (¬2) الإخلاص: 1. (¬3) محمد: 19. (¬4) التحريم: 6.

شهدوا لله بالوحدانية، حال كونه قائمًا بالقسط والعدل في تدبيره للكون، فَبِعَدْلِهِ قامت السموات والأرض. والعدل هنا، هو: الحكمة في التدبير، الذي استقامت به أُمور الكون .. ويختم الله هذه الآية فيقول: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): فيؤَكد - بهذه الخاتمة - وحدانيته ويقررها، ويضيف إليها وصف العزة - وهي الغلبة والقهر - وكذا وصف الحكمة - وهي فعل ما به صلاح الكون - ولولا أنه واحد عزيز حكيم، لما وُجد هذا الكون، ولما تم له هذا الكمال. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} المفردات: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ): ظلمًا قائمًا فيهم، وحسدًا موجودًا في بيئتهم. (فَإِنْ حَاجُّوكَ): أي جادلوك. (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ): أخلصت ذاتي ونفسي له تعالى. (وَالْأُمِّيِّينَ): المراد بهم؛ من لا يكتبون من مشركي العرب من غير الكتابيين، لشيوع الأُمية فيهم.

التفسير 19 - {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ... } الآية. المعنى: إن المِلَّةَ المرضية عند الله - هي الإسلام .. فلا يُقبل من أحد دينٌ غيره "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ" (¬1). فليس لأَحد من أهل الكتاب أن يتمسك بملته بعد ما أنزل الله دستوره القرآن ناسخًا لما قبله من الأديان والشرائع، كما أنه ليس للمشركين أن يتمسكوا بشركهم: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (¬2) فلا يرضاه الله لأَحد دينًا. وكما أن الإسلام هو دين هذه الأُمة الذي رضيه الله لها، فهو دين جميع الأنبياء والمرسلين وأُممهم من قبل محمد، فهو دين الله دائمًا في جميع الأزمان، لاشتماله على توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والولد، واحتوائه على أُصول الشرائع المشتركة بينهما .. أما الفروع، فإنها مختلفة، تبعًا لاختلاف الأُمم. قال تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" (¬3)، فإن ما يصلح منها لأُمة، لا يصلح لأُمة أخرى. فالصيام مشروع في جميع الأديان، ولكن كيفيته تختلف باختلاف الأُمم. والميراث مشروع في جميع الشرائع، ولكن كيفيته تختلف باختلاف الأُمم. وهكذا الأمر بالنسبة لباقي الأحكام. وبالجملة، فالأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء إخوة لعلات (¬4) أُمهاتهم شتى، ودينهم واحد" والمعنى: أنهم إخوة في الدين، وإن تفرقت الأُمهات. ولعله يقصد الأُمهات: الأُمم التي بعثوا فيها. ويدل لذلك قوله تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" (¬5). (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ): المعنى: كان أهل الكتاب مجمعين - فيما بينهم - على الإسلام إذا جاءَهم رسوله الموعود به في كتبهم. وكان فريق منهم - وهم اليهود - يعادون مشركي المدينة .. وكانت تتحدث بينهم حروب، ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 85. (¬2) لقمان من الآية: 13. (¬3) المائدة من الآية: 48. (¬4) أي: إخوة لضرات. حديث رواه الشيخان وأوله: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ... ". (¬5) الشورى: 13.

فيقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان. ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أَظلَّ زمانُ نَبِيٍّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عادٍ وإِرَم. وكان هذا حالهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الإسلام: الذي جاءَ به مصححا للأخطاء المتعمدة التي اقترفوها في دينهم، كدعواهم بُنُوَّةَ عُزير وعيسى، لله تعالى .. فحسدوه صلى الله عليه وسلم، لأنه من ولد إسماعيل، وليس من ولد إسحاق عليهما السلام. واختلفوا في أمر الإسلام: فمنهم من آمن به كعبد الله بن سلام، وزيد بن سعنة، من أحبار اليهود وغيرهما. ومنهم من كفر به وهم أكثرهم. وكان كفرهم هذا من بعد ما جاءَهم العلم اليقيني بأنه الحق، إذ أتاهم على وفق أوصافه ونعوته في كتابهم. وكان هذا أقبح القبح منهم. وإن الجحود - بعد العلم - أشنع من الكفر عن غفلة أَو جهالة. وكان اختلافهم فيه - بعد ما أتاهم العلم - إلا بغيا وحسدا فاشيا بينهم، لا لشبهة تقتضيه .. وصدق الله إذ يقول: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (¬1). (وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): ختم الله الآية بهذا الوعيد. والمعنى: ومن يجحد آيات الله - الشاهدة بأن الإسلام هو الدين عند الله فلا يؤمن به - يعاقبه الله عن قريب، فإنه سريع الحساب ومن كان سريع الحساب، كان سريع العقاب، قريب الجزاء. وقد نفذ الله وعيده فيهم، فقُتلوا، وأُخرجوا من ديارهم حول المدينة ... وما ينتظرهم من الجزاءِ في الآخرة أعظم. 20 - {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ... } الآية. ¬

_ (¬1) النساء: 54.

المعنى: فإن جادلك أهل الكتاب، أو جميع الناس في الدين بعد ما جاءَهم العلم به، وظهرت لهم براهينه، فقل لهم: أسلمت وجهي لله، أي أخلصت ذاتي ونفسي له، ومَنْ آمن معي أخلصوا له أنفسهم كذلك. وإطلاق الوجه على الذات كلها، لأنه ترجمان النفس، وعليه تظهر آثارها، وهو من إطلاق اسم الجزءِ على الكلِّ لأَهميته. والمراد من الآية: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول لأهل الكتاب ذلك، ليعلموا أنه ليس مسئولا عن انحرافهم وكفرهم، وأن تبعة ذلك عليهم وحدهم، وأنه سائر في طريق عبادة الله وحده هو وأتباعه، دون اكتراث بضلالهم، لأن المحاجة والجدل معهم - لا فائدة فيهما، بعد ما جاءَهم العلم بأن ما عليه هو الحق. (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): المعنى: وقل يا محمد - لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وللأُميين - وهم مشركو العرب: الذين عُرفوا بهذا الوصف، لعدم معرفة سوادهم الأعظم القراءَة والكتابة - قل لهم - بعد ما أعلمتهم بترك المحاجة معهم وبإسلام وجهك وتابعيك لله تعالى - هل أَجْدَى معكم هذا وأسلمتم متبعين لي كما فعل المؤمنون، فإنه قد جاءَكم من الآيات ما يقتضي الإسلام، أَو أَنتم لا تزالون مصرين على العناد والكفر؟. وهذا كما تقول - إذا لَخَّصْتَ لسائل مسأَلة بعد ما بينتها له بسعة وإفاضة - هل فهمت ما قلته لك؟ وذلك على نظام قوله تعالى: "فَهَلْ أَنتمُ مُّنتَهُونَ" (¬1) بعد تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم الله تعالى. وفي ذلك توبيخ واتهام لهم بالبلادة وجمود القريحة. فإن أسلموا متأثرين بذلك، فقد اهتدوا إلى الحق بإسلامهم، وخرجوا مما كانوا فيه من ضلال. وإن أعرضوا عن الإسلام فلا يضرك إعراضهم، فما عليك إلا تبليغهم، وقد فعلت، فخلصت بذلك من التبعية. (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): ¬

_ (¬1) المائدة من الآية: 91.

عليم بأحوالهم، فلا تخفى عليه أعمالهم، فيجزي من أسلم بإسلامه، ويعاقب من تولى وأعرض بتوليه وإعراضه. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} المفردات: (يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ): القسط، العدل. (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ): التبشير هنا، بمعنى الإنذار. استعمل فيه، على سبيل التهكم. (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): بطلت أعمالهم الحسنة، فضاع ثوابها. التفسير 21 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: بعد ما توعد الله الكافرين بسرعة الحساب وأليم العقاب. وبعد أن بين لرسوله أنه ليس عليه سوى البلاغ، فإن أسلموا قُبل منهم، وإن أعرضوا أعرض عنهم وترك محاجتهم وأسلم وجهه مع من تبعه إلى ربه - أتبع ذلك بيان العقوبة التي يستحقها الكافرون بآيات الله، القاتلون للأنبياء ولمن يأمر بالعدل من الناس. المعنى: المراد من الذين يكفرون بآيات الله، كل من جحد براهينه تعالى، وحججه، فلم يؤمن بما أنزله على رسله. ويدخل فيهم: أهل الكتاب المعاصرون للنبي من اليهود والنصارى، الذين كفروا بما أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم بأنهم قتلوا

الأنبياءَ بغير حق، مع أن قاتليهم هم آباؤهم، لأن فعل الآباء، ينسب إلى الأبناء إذا كانوا موافقين عليه أو لم ينكروه. أَو أنهم وصفوا بذلك، للإيذان بأن هذا شأنهم، وأنه متغلغل في دمهم، وأنهم لو وجدوا أنبياءَهم لقتلوهم، كما فعل آباؤهم. ووصف قتلهم الأنبياء بأنه بغير حق، ليسَ للتقييد، بل للإيذان بأنه - دائِمًا - يكون بغير حق. فإن الأنبياء لا يرتكبون ما يوجبه أصلا، إذ هم معصومون من المعاصي مطلقا، فضلا عن عصمتهم عما يقتضي أن يقتلوا به. والذين يأمرون بالقسط من الناس، هم أهل الحق من بينهم: الذين كانوا يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. ولما كان هذا لا يرضيهم؛ لتأصل العصيان في نفوسهم - قتلوهم كما قتلوا أنبياءَهم، ليستريحوا من وعظهم وتذكيرهم ولومهم، وليخلُوَا لهم جو الفحشاء والمنكر. روى ابن جرير عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: "قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابًا يوم القيامة؟. قال: رجلٌ قتل نبيًّا، أو رجلًا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر" ثم قرأ الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ... ). وتبشيرهم بعذاب أليم: إخبارهم بعذاب شديد الإيلام. ولما كان الإخبار بوعيد مؤلم يسمى إنذارًا، والإخبار بوعد سار يسمى تبشيرا، فإطلاق التبشير على ما هو إنذار، من باب التهكم والسخرية بأُولئك المجرمين الذين لا يعقلون. وخلاصة المعنى: إن الذين ينكرون آيات الله تعالى، فيكفرون بما يجب الإيمان به، ويقتلون أنبياءَهم بغير جريمة تقتضي القتل - والأنبياء معصومون من كل جريمة تقتضيه - ويقتلون الواعظين المذكّرين الذين يأمرونهم بالعدل من صفوة الناس، فأنذرهم - يا محمد - بعذاب شديد الإيلام. 22 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}: المعنى: أُولئك الموصوفون بالكفر، وقتل الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس - هم الذين بطلت في الدنيا أعمالهم الصالحة: كالصدقة وصلة الرحم، فلم تستتبع آثارها المرجوة، حيث لم تحقن بها دماؤهم، ولم تحفظ بها أموالهم، ولم يستحقوا بها مدحا ولا ثناءً، ولم يكن لها حظ الاعتبار في الآخرة.

وصدق الله تعالى إذ يقول: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا" (¬1). (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ): مانعين من العذاب. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} المفردات: (أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ): أُعطوا حظًا منه. والكتاب: اسم جنس لكل كتاب سماوي. والمقصود من النصيب: التوراة والإنجيل. (وَهُم مُّعْرِضُونَ): وهم منصرفون. (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ): يقصدون بها أيام عبادتهم للعجل. (وَغَرَّهُمْ): وأطمعهم. (مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ): ما كانوا يكذبون من أن النار لن تمسهم، إلا أياما معدودات. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ): وأُعطيت كل نفس جزاءَ ما عملته - من خير أو شرٍّ - وافيًا. ¬

_ (¬1) الفرقان: 23.

التفسير 23 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ}: المعنى: الخطاب في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ) لكل من تتأَتى منه الرؤية. والاستفهام، للتعجيب من حال الذين أُوتوا نصيبًا وحظًّا من كتب الله تعالى: التي أَنزلها على رسله. وخص اليهود منهم بالنصيب الأَوفر. وذلك أنهم دعوا إلى كتاب الله - وهو التوراة على ما ذهب إليه ابن عباس - ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن إسحاق وجماعة عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله تعالى، فقال نُعَيْمُ بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه. قالا: فإن إبراهيم كان يهوديًا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهَلُمَّا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم. فأَبيا، فأنزل الله تعالى الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ ... ). فلما دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، تولى فريق منهم وأعرض عما دعو إليه. وهم قوم عادتهم: الإعراض والتولي عن الحق. مع أن ما بأيديهم من الكتاب، ينبغي أن يجذبهم إلى الإقبال عليه. والمقصود من الفريق الذي تولى منهم: علماؤُهم. فهم الذين كانوا يقولون الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم. 24 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: المعنى: ذلك الإعراض والتولي، من الذين أُوتوا نصيبًا من الكتاب - وهم اليهود - هو بسبب أنهم قالوا: لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات، معتقدين صحة ما يقولون، مُهَوِّنين بذلك كفرهم بالحق، وجرائمهم، ومعاصيهم على أنفسهم، زاعمين - بذلك - أنهم لا يعاقبون عليها.

والمراد بالأيام المعدودات: أيام عبادتهم العجل، في غيبة موسى عليه السلام، لتلقى ألواح التوراة. أو أنهم يريدون بمقالتهم هذه: أنهم لا يُعذبون إلا مدة قليلة، لزعمهم أنهم أبناءُ الله وأحباؤُه. وخدعهم في دينهم ما كانوا يفترونه عليه من هذا الزعم، الذي لا نصيب له من الصحة. 25 - {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: المعنى: فكيف يصنعون وقت أن نجمعهم للحساب والجزاء على جرائمهم وأكاذيبهم، في يوم القيامة الذي لا يصح أن يشك في مجيئه أحد، وحينئذ تعطى كل نفس جزاء ما عملته من خير أو شرٍّ وافيا، وهم لا يظلمون بنقص ثواب أو زيادة عقاب: فهل يجديهم - يومئذ - ما افتروه: من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات؟! "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا" (¬1). {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} المفردات: (اللَّهُمَّ): أصله، يا الله. فحذف "يا" وعوض عنها الميم وشددت، لكونها عوضا عن حرفين. ولا تجمع الميم مع "يا" إلا شذوذا. كقول الشاعر: إني إذا ما حَدَثٌ أَلمَّا ... أقول يا اللهُمِّ يا اللهما ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 30.

(مَالِكَ الْمُلْكِ): المُلك - بضم الميم وفتحها وكسرها - معناه: الاحتواءُ. أي الحيازة مع القدرة على التصرف. مأخوذ من: مَلَكَ الشيءَ يملكه: احتواه قادرا على حرية التصرف فيه. وهو بهذا المعنى - يطلق على: ملك الله وملك غيره. ومعنى (مَالِكَ الْمُلْكِ): صاحب السلطان والتصرف المطلق. وسيأتي لذلك مزيد بيان. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ): بقدرتك مَنْحُ الخير ومنعه. (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ): تدخله فيه، بأن يأخذ من زمن النهار فيطول. (وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) معناه: عكس المعنى السابق. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ): أي وتكوِّن الأحياءَ من المواد الأولية التي لا حياة فيها: كالهواء والماء، والغذاء والتراب. (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): وتجعل الحي يموت. فتخرجه بذلك من جنس الأحياء. التفسير 26 - {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: لما بين الله - فيما تقدم - أن الدين عند الله الإسلام، وأن أهل الكتاب كانوا متفقين على أن يؤمنوا برسوله، حين يبعثه الله داعيًا إليه، لِمَا كانوا يجدونه في كتبهم من الدعوة إلى الإيمان به حين يبعث، ومن بيان أماراته التي تدل عليه، وأنهم ما اختلفوا - في شأنه - إلا بعد بعثته ودعوتهم إلى الإيمان به. وكان ذلك بغيًا منهم وحسدا - أتبع ذلك بيانَ أن الملك لله: يعز من يشاءُ ويذل من يشاء، ليكفوا عن حسد من أعزه الله بالنبوة، ويؤمنوا بدينه الذي هو دين مَنْ بيده الملك. سبب النزول: رَوَى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك: أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أُمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات: من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك. ألم يكف محمدا مكةُ والمدينةُ، حتى يطمع في ملك فارس والروم؟. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى غير ذلك في سبب النزول.

المُلك - بضم الميم - في حق الله تعالى، هو - على ما قاله المحققون - صفة قائمة بذاته تعالى، متعلقة بما سواه، تعلق التصرف التام، المقتضى استغناء المتصرِّف وافتقار المتصرَّف فيه. ولا يصح إطلاقه - بهذا المعنى - على غير الله تعالى. وهو أخص من المِلك - بكسر الميم - فإنه صفة تقتضي الاستيلاء والتسلط على شيءٍ بطريق مشروع، وتجعله صاحب الحق في التصرف فيه، من غير نظر إلى استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه. ولهذا، يصح إطلاقه على غير الله تعالى. ومعنى الآية: قل يا محمد، ذاكرا وشاكرا لربك أن آتاك نعمة الرياسة والنبوة اللتين نزعهما عن بني إسرائيل، أهل الحقد والحسد: اللهم يا صاحب صفة التصرف التام في جميع الكون، بلا شريك ولا ممانع: تعطي السلطان والرياسة من تشاءُ، وقد تفضلت فأعطيتني السلطان والرياسة على أُمتى. وتمنع السلطان والرياسة من تشاءُ، وقد منعتهما بني إسرائيل الذين غرهم بالله الغرور. وتعز من تشاءُ في الدنيا والآخرة، بأسباب العزة والكرامة، وقد تفضلت عليَّ بالنبوة والعلم بك وبشريعتك فأعززتني. وتذل من تشاء وقد أذللت بني إسرائيل المتغطرسين، بتحويل النبوة عنهم إلى العرب بقدرتك الخير كله. تتصرف فيه أنت وحدك، حسب مشيئتك مَنْحًا ومنعا لا يملكه أحد سواك. إنك على كل شيء قدير. فلا يليق بأحد أن يحقد على خير قَسَمه الله لبعض عباده، فإنه مِن عطاءِ مَن له الملك، وبيده الخير. وهو على كل شيء قدير. ومن كان كذلك، فهو الحكيم الذي يجب التسليم بما أعطى ووهب، والرضا به من أعماق النفس دون حقد أو اعتراض. وإنما خص الخير بالذكر، تعليما لحسن الأدب، ومراعاة لسبب النزول. وإلا فالشر أيضًا بيد الله. ويدل لذلك قوله تعالى: (وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ). كما يدل عليه التعميم في قوله: (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). كما أن في القرآن آياتٍ كثيرةٌ تدل على ذلك: كقوله تعالى: "مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) النساء: من الآية 78.

واعلم أن الشر الذي يكتبه الله على عباده ليس شرًّا محضا، بل هو مشوب بخير دائمًا. ففي نقل الرياسة من إسرائيل للعرب، شرٌّ على بني إسرائيل، ولكنه خير للعرب، وخير للناس أجمعين، لأن بني إسرائيل لا يصلحون لزعامة العالم - دينيا ودنيويا - في رسالة عامة كالتي كلف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم: قوم غلاة مستكبرون مغترُّون. فلو كُلف أحد منهم بمثل هذه الرسالة لكان ذلك نكبة على العالم. وحسبك ما نعلمه من تاريخهم - في ماضيهم وحاضرهم - من الظلم والطغيان والجبروت!! فلما نقلت الرسالة منهم إلى العرب، وكلف بها سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المنعوت بقوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (¬1) - عَمَّ العالَمَ العدلُ والرحمة والبركة. وكذلك شأن الله في كل بلاء كتبه، فإنه لحكمة إلهية، كشرب الدواء الكريه، والحجامة والفصد، وقطع العضو الذي يخشى من انتقال مرضه إلى سواه، ونحو ذلك من الأُمور المؤلمة، فإنها - مع كراهتها - تستعقب الصحة والعافية. وهي خير. كما أن الصبر عليها يورث حسن الجزاءِ. ثم إن فيها تمحيصا "لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" (¬2). ولا شك أن الشرَّ إذا استتبع خيرا كثيرا كان تقديره مصلحة وحكمة. 27 - {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: هذه الآية مقرِّرة لما قبلها من أن الملك لله: يعز من يشاءُ ويذل من يشاءُ، وأن بيده الخير، وأنه على كل شيء قدير. فإن من أَولج الليل في النهار والنهار في الليل، وأَخرج الحيَّ من الميت والميتَ من الحي، ورزق من شاء بغير حساب، لابد من أن يكون متصفا بالصفات الكريمة، التي اشتملت عليها الآية السابقة. والليل لا يدخل في النهار، ولا النهار في الليل على الحقيقة. ولكنه مستعار لزيادة زمان الليل وقتما يقصر النهار، ولزيادة زمان النهار وقتما يقصر الليل. ¬

_ (¬1) القلم من الآية: 4. (¬2) الأحزاب من الآية: 24.

ولما كانت زيادة الزمان في في كل منهما على حساب النقص في الآخر، جعل ذلك إدخالا لأحدهما في الآخر على سبيل الاستعارة. أما إخراج الحي من الميت، فالمراد منه تكوينه من المواد الأولية التي تبني الأجساد، كالماء والهواء، وأشعة الشمس والغذاء الذي فقد الحياة بنزعه من أصله. فمن هذه المواد الميتة تتكون المنطقة المملوءَة بالحياة. ومن النطفة يتكون الجنين الحي. وكما أن منشأ الحيوان ما ذكر، فكذلك منشأُ النبات الحي: الماءُ والهواءُ، وأشعة الشمس والغذاء. وغذاءُ النبات تربة الأرض. وكل ذلك من قبيل الميت. وبذلك اتضح قوله تعالى: "يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ" (¬1). ولا ينبغي أن يفهم أحد أن النبات ليس مقصودا من الآية، بزعمه أن النبات ليس فيه حياة. كلا .. لا ينبغي له ذلك .. فإن النبات إذا فقد أسباب الحياة ذبل وتلاشى، ولم يؤْت ثمرا ولا حَبًّا. فهو - لذلك - داخل في الآية قطعا. وأمَّا إخراج الميت من الحي، فالمراد منه إبطال الحياة من الحي بأي سبب أراده الله. فتبطل آثارها، ويعود الجسم إلى أصله الميت، وهو الماءُ والتراب، بعد التحلل والتفاعل مع العوامل التي تنتهي به إلى ذلك. ومعنى الآية: يطيل الله الليل في بعض فصول السنة، بإضافة جزء من النهار إليه. ويطيل النهار في بعض فصولها، بزيادة جزءٍ من زمان الليل فيه. ويخرج الحيَّ من المواد الأولية الميتة التي خلق منها، كالماء والتراب وبعض عناصر الهواءِ. ويخرج الميت منَ الحيِّ بأن يُفقده أسباب الحياة، فيموت ويعود إلى أصله. ويرزق من يشاءُ رزقه بغير حساب. أي رزقا واسعا، بغير تضييق عليه. وكما يرزق من يشاءُ بغير حساب، يضيقه على من يشاءُ لحكمة تقتضيه. ولم يذكر ذلك في الآية لعلمه من أمثاله فيما سبق، ولأن من يملك الإعطاءَ يملك المنع. ويرى بعض المفسرين: أن إخراج الحي من الميت، معناه: إخراج الجنين من النطفة أو الفرخ من البيضة. وأن إخراج الميت من الحي، معناه: إخراج النطفة من الحيوان أو البيضة من الدجاجة. ولكن هذا الرأي لا يقبل إلا على سبيل التشبيه، يجعل النطفة - أو البيضة بجانب الحيوان الذي يتكون منها - كالشيء الميت، لعظم الفرق بينهما. أما على الحقيقة فلا، ¬

_ (¬1) الروم من الآية: 19.

لأن النطفة مليئة بالكائنات الحية المتحركة، كما يتبين ذلك تحت آلة التكبير - المجهر - ومثلها البيضة. وكذا القول بأن المراد من الميت الذي يخرج من الحي: النطفة أو البيضة التي يخرجها الله من الحيوان، لا يصح أن يقبل إلا على سبيل المجاز، لما قدمناه. وقال الحسن في معنى الآية: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فحمل الحياة والموت على المجاز. وروى هذا التفسير عن أئمة أهل البيت. ويمكن تفسيرها مجازًا بمعنى: يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والذكيّ من البليد، والبليد من الذكيّ، إلى غير ذلك. ولا تغفل عما قلناه في موضوع النطفة من أن اعتبار النطفة ونموها كالبيضة ميتة، إنما هو على سبيل التشبيه بها، عند مقارنتها بالحيوان الذي يتخلق منها، وليس على سبيل الحقيقة، ففي النطفة - وما ماثلها - حياة. كما تقدم. {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} المفردات: (أَوْلِيَاءَ) أصدقاء، أو أنصارا. (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ): متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين. (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ): فليس في دين الله من شيء. (إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً): إلا أن لِتَقُوا أنفسكم وتحفظوها مما يُتَّقى ويحذر منهم. (الْمَصِيرُ): المرجع. التفسير 28 - {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... } الآية.

سب النزول: روى عن ابن عباس، قال: كان الحجاج بن عمرو، وكهمسُ بن أبي الحقيق، وقيس بن زيد - والكل من اليهود - يباطنون نفرا من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم. فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأُولئك النفر: اجتنبوا هؤُلاء اليهود واحذروا مباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم. فأَبى أُولئك النفر، إلا مباطنتهم وملازمتهم. فأنزل الله هذه الآية. وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري. وكان بدريا نقيبا. وكان له حِلْفٌ من اليهود. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الأحزاب. قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأَيت أن يخرجوا معي؛ فأَستظهر بهم على العدو. فأنزل الله تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ ... ) الآية. الربط: بعد أن أشار الله إلى إعزاز المؤمنين، وإذلاله الكافرين، وذكر أن بيده الخير، وأنه على كل شيء قدير، وأنه يولج الليل في النهار، والنهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ويزرق من يشاء بغير حساب، ليعلم المؤمنون أنهم يأوون من الله إلى ركن شديد - بعد أن ذكر الله تعالى ذلك - أتبعه تحذيرهم من اتخاذ الكافرين أولياءَ بعد أن أذلهم بإعلائهم عليهم، فإن الموْتور لا تخمد في نفسه جذوة الحقد على من وتَر، ولا يبغي لواتره سوى الشر، فحسبهم تأييد الله وولايته لهم. المعنى: تقرر الآية: أن موالاة الكافر خطر على من والاه، وأنها لا تكون إلا عند الضرورة، لاتقاء ضرر يكون من ناحيته، على ألا تبلغ الموالاة درجة المباطنة بخفايا المؤمنين. والموالاة تطلق لغة: على الحب والصداقة والمباطنة بالأسرار. وتطلق: على النصرة. وكلا المعنين تصح إرادته في الآية. ولهذا، لا يحل للمؤمنين أن يوالوا الكافرين، بأي معنى من معاني الموالاة. ومن يفعل ذلك فليس من دين الله في شيء. وقد ذكر ذلك صريحا في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" (¬1). ¬

_ (¬1) المائدة من الآية: 51.

وقد تكرر النهي - عن موالاة المؤمنين للكافرين - في عديد من آي القرآن، لخطورتها على كيانهم. فهم - دائما - يتربصون بهم الدوائر، ويبغونهم الفتنة. وفي المسلمين سماعون لهم، وهم المنافقون، وضعاف النفوس. فيمن الآيات الناهية عن موالاتهم، قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ" إلى قوله تعالى: "يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" (¬1). وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا" (¬2). فعلى المؤمنين أن يحذروا موالاتهم، حتى يأمنوا شرهم، ويكونوا بذلك أهلا لتأييد ربهم مالك الملك، وصاحب العز والسلطان. وعليهم أن يقصروا موالاتهم على المؤمنين: لا يتجاوزونهم إلى الكافرين لغرض من الأغراض، إلا لأن يتقوا أو يحفظوا أنفسهم من ضرر شأنه أن يتقي ويُحذر .. فإذا اضطر المسلمون لموالاتهم دفاعا عن الوطن، أو المال، أو العرض، فلهم ذلك ... في حدود الضرورة. وأجاز المحققون من العلماء: الاستعانة بالكفار، بشرط الحاجة الوثوق .. أما بدونهما، فلا تجوز. واستدل لذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم، استعان بيهود بني قينقاع ورَضَخَ لهم (¬3) .. واستعان بصفوان بن أُمية في هوازن. على أن بعضهم ذكر أن الاستعانة المنهي عنها، هي استعانة الذليل بالعزيز. أما غيرها فلا. وفي فتاوى ابن حجر: جواز القيام في المجلس لأهل الذمة. وَعَدَّ ذلك من باب البر وحسن المعاملة المأذون به في قوله تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (¬4). ثم ختم الله الآية بهذا التحذير الخطير، فقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ): أي يحذركم اللهُ - أيها المؤمنون - عقابَ نفسه، إن واليتموهم في غير ما أُبيح لكم .. واعلموا أن إلى الله المرجع، فسوف يجازى كل امريء بما كسب. وفي إضافة تحذيرهم إلى نفسه وإلى ذاته العلية، إيذان ببلوغ المنهي عنه منتهى الخطورة. ¬

_ (¬1) الممتحنة: 1. (¬2) النساء: 144. (¬3) أي أعطاهم مالا قليلا في مقابل معونتهم. (¬4) الممتحنة: 8.

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} المفردات: (مُحْضَرًا): يُحْضِرُه ملائكة الله في الصحف. (أَمَدًا بَعِيدًا): غاية أو مسافة بعيدة. التفسير 29 - {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذه الآية - والتي تليها - واضحتا الارتباط بالآية التي قبلهما، فإنهما مثلها: في تحذير المؤمنين من موالاة الكافرين، وإن كان التحذير فيهما أشمل وأوسع، لعمومه لجميع المنهيات. والمعنى: قل يا محمد، للمؤمنين: إن تُسِرُّوا ما في نفوسكم من الضمائر المنهي عنها، التي من جملتها ولاية الكفار، أو تظهروه - يعلمه الله فيؤَاخذكم به عند مصيركم إليه، ويعلم ما في السموات وما في الأرض، فوق علمه بما في صدوركم. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): ومن كان كذلك، فهو قادر على عقابكم، فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه. 30 - {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ... } الآية المعنى: واذكر لهم - يا محمد - يوم تجد كل نفس من نفوس المكلفين، ما عملته من خير

- وإن قل - محضرا أمامها في صحائفها، لتنعم به، "فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (¬1). وتجد كل نفس أيضا: ما عملته من سوءٍ وشرٍّ في الدنيا، محضرًا يوم القيامة في صحائفها لتساءَ به، وتتمنى حين تراه لو أن بينها وبين ذلك اليوم - أو بينها وبين ما عملته من سوءٍ - أمدًا بعيدًا. والأمد: الغاية والمنتهى. أي تود لو أن بينها وبين يوم القيامة - أو بينها وبين عملها السيء - غاية ونهاية بعيدة. وذهب بعض العلماء، إلى أن المراد به: المسافة البعيدة. واستظهر ذلك حملا لهذه الآية على قوله تعالى: "يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ... " (¬2). ثم ختم الله الآية، مكررًا ما سبق من التحذير، وواصفًا نفسه الكريمة بالرأفة، فقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): أي ويخوفكم الله من نفسه إن خالفتم ما كلفكم به. والله عظيم الرحمة بالعباد، حين نهاهم عن موالاة الكافرين، وحذرهم من عقابه إذا خالفوا أمره، فإنَّ بُعدَهم عن موالاة الكافرين، فيه السلامة لهم، وتحذيرهم من عقابه تعالى، يدفعهم إلى طلب رضاه، واجتناب سخطه .. وكل ذلك رأفة بهم، ورحمة بالغة نافعة لهم. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} التفسير 31 - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: سبب النزول والربط: قال القرطبي: رُوي: أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنُحِبُّ ربنا .. فأنزل الله عز وجل "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ". ¬

_ (¬1) الحاقة: 21 - 22. (¬2) الزخرف: 38.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير: "نزلت في نصارى نجران. وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده، حبًا لله تعالى وتعظيمًا له. فأنزل هذه الآية ردًا عليهم" رواه محمد بن إسحق. وسياق الآيات من قبل، يرجع الأول. فقد نُهيَ فيها المؤمنون عن اتخاذ الكافرين أولياءَ، وتوالي تحذيرهم بعد ذلك من المخالفة، حتى اتصل الكلام هنا بحضهم على اتباع رسول الله وطاعته: فيما يأمرهم به وينهاهم عنه. وسواءٌ كان السبب هذا أو ذاك، فالآية صالحة لخطاب الجميع. والمعنى: قل يا محمد: لِمَنْ يدعي حُبَّ الله: إن كنتم تحبون الله كما تقولون، فاتبعوني فيما بلَّغتكم عن الله تعالى، وبَرْهِنُوا - بهذا الاتباع - على صدق محبَّتكم لله تعالى، فإن المحبة ليست ادعاء، ولكنها اتباع لما يرضى المحبُوب. فمن أَحبَّ اللهَ فلْيتبع حبيبه ومصطفاه، ولْيتأدب بِمَا دعا إليه من فضائل وآداب. وإلا فهو كاذب في دعواه. وثمرة هذا الاتباع، لا غاية وراءها لكم وهي حبُّ الله، وغفران ما عسى أن تقترفوه من ذنوب .. ولا شيءَ أسمى من ذلك تطمح إليه قلوب المحبين. وليس الفضل في أن تقول: إني أُحب. ولكن الفضل في أن تفعل ما تكون به محبوبًا عند حبيبك. وقد ختم الله الآية، بما اتصف به دائمًا، من صفتي الغفران والرحمة فقال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): ولا يتمتع ببركة هذين الوصفين، إلا من لازم اتباع الرسول فيا أمر به ونهى عنه. قال ابن كثير: هذه الآية، حاكمة على كل من ادّعى محبة الله - وليس هو على الطريقة المحمدية - بأنه كاذب في دعواه، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله. كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" اهـ. وقال الحسن البصري: زعم قوم: أنهم يحبون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ): والحسن البصري: من كبارة أساتذة التصوف. وهو إذ يقول ذلك، يعلمنا ألا نحفل بمن يزعم أنه من المتصوفة المحبين ربهم، وهو في وادٍ واتباع الرسول في وادٍ آخر. فلا ولاية

ولا حب لله، إلا باتباع كتاب الله وسنة رسوله، عملا بهذه الآية وبقوله تعالى: "وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" (¬1). وأعلى درجات الحب لله: أن يحبه تعالى لذاته، ويتفانى في طاعته .. أما حبه لثوابه، لدرجته نازلة عن هذه المنزلة. وإذا كافأَ الله عبدًا بحبه، عُرِف ذلك من حب عباده له. ففي صحيح مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحبَّ عبدًا دعا جِبريلَ فقالَ: إِنِّي أَحِبُّ فلانًا فأَحبَّهُ. قال: فَيُحِبُّهُ جِبريلُ. ثم ينادِي في السماءِ فيقولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فلانًا فأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّماءِ. قال: ثمَّ يوضَعُ له القَبولُ في الأرض. وِإذا أَبْغَضَ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إِني أُبْغِضُ فلانًا فأَبْغِضْه. قال: فيُبْغِضُهُ جِبريلُ. ثم يُنادي في أَهْلِ السَّماءِ: إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلانًا فأَبْغِضُوهُ. قالَ: فيُبْغضُونَهُ، ثَمَّ تُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرضِ". 32 - {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}: المعنى: قل لهم يا محمد، أطيعوا الله والرسول في جميع الأوامر والنواهي، فإن أعرضوا عن ذلك، فإن الله يبغضهم ولا يحبهم، لتوليهم وإعراضهم عن طاعة الله ورسوله. وإطلاق وصف الكافرين على المعرضين عن طاعة الله ورسوله - لأن من تولى وأعرض بقلبه، فهو نافر من شرع الله كاره له. فيكون بذلك كافرا، والعياذ بالله تعالى. أما لو كان تَولِّيه وإعراضه مجرد ترك لما أُمر به، اتباعا لشهواته - مع اعتقاده أن ذلك حرام، وأنه مذنب فيما يفعل، ومقصر في حقه تعالى - فإن الكفر بالنسبة له كفر للنعمة، وعدم قيام بشكرها. أو هو من باب التنفير من المعصية. وفي كلتا الحالتين، يكون تارك الاتباع محروما من حب الله تعالى، لأن الله سبحانه لا يحب من عصاه بكفر أو فجور. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} ¬

_ (¬1) الأعراف: 196.

المفردات: (اصْطَفَى): اختار. (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ): المراد بالآل فيهما: من كان من ذريتهم من الأنبياء. وسيأتي شرح ذلك. (ذُرِّيَّةً): الذرية النَّسْل. يطلق على الواحد وغيره. التفسير 33 - {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}: قال الآلوسي: قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في وجه المناسبة: لما بيّن الله سبحانه: أن الدين عند الله الإسلام. وأن اختلاف أهل الكتابين إنما هو للبغي والحسد .. وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته، منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم - شرع في تحقيق رسالته، وأنه من أهل بيت النبوة القديمة، ممهدا إلى ذلك: بذكر جلالة أقدار الرسل، ومنتهيا إلى تنزيه ساحته، عما هم عليه من اليهودية والنصرانية المبدلتين. وأن الأُمم - قاطبة - مأمورون بالإيمان بمن هو مصدِّق لرسالات الرسل، تحقيقا لوجوب الإيمان بالرسول وطاعته .. اهـ. ملخصا. الشرح: ذكر الله، أنه اصطفى طائفة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وبدأ بآدم أبي البشر الأول. وثنى بنوح الأب الثاني لهم بعد الطوفان. وعقبه بآل إبراهيم أبي الأنبياء وواسطة عقدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر آل عمران - مع دخولهم في آل إبراهيم - اعتناءً بأمر عيسى الذي اختلفوا في شأنه. والمراد بآل إبراهيم: ذريته من الأنبياء، والمراد بعمران: والد مريم، وهو ابن ماثان. وآله: ابنته مريم وابنها عيسى، عليهما السلام. وقيل: عمران هنا، هو عمران بن يصهر أبو موسى. وآله: هم موسى وهارون. والظاهر الأول، فإن السورة تسمى: سورة آل عمران. ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شروحها هنا .. أما قصة موسى وهارون فلم يذكر منها هنا شيءٌ. والمراد من العالمين الذين اختارهم وفضلهم عليهم: عالمو زمانهم. وقد فضلهم الله عليهم، بما آتاهم من النبوة والكتاب في معظمهم. وفي مريم: يحملها وولادتها من غير مماسة بشر، مع طهارتها وانقطاعها لعبادة ربها، وإمدادها في مصلاها برزق الله في غير أوانه، واختيارها لتكون أُمًّا لعيسى: الذي شاءَ له مولاه أن يكون بغير أب.

34 - {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: المعنى: اصطفى الله آل إبراهيم وآل عمران. حال كونهم ذرية بعضها من بعض في النسب، فالمتأخرون منهم سلالة المتقدمين. وقال قتادة في معناها: بعضها من بعض في النية والعمل الصالح، والإخلاص والتوحيد. وقد أثبتت الدراسات الحديثة، آثار الوراثة في التكوين الخلقي، والعقلي، والجسماني. وإلى هذا أشار الحديث الشريف "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُم، فأَنكِحُوا الأَكْفاءَ وانكحوا إليهم" رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي. ويختم الله الآية بقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ليشير بذلك، إلى أنه اختارهم واصطفاهم، لصلاحيتهم وأهليتهم التامة للاختبار: في أقوالهم التي يسمعها، وأفعالهم ونياتهم التي يعلمها، فإنه سميع بكل قول، عليم بكل حال وفعل ونية. {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)} المفردات: (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي): أوجبت على نفسي: أن يكون ما في بطني لك، لخدمة بيتك. (مُحَرَّرًا): خالصا. (أُعِيذُهَا بِكَ): أُجيرها بك. (الرَّجِيمِ): المطرود.

35 - {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: امرأة عمران، هي: حَنَّةُ بنت فاقُوذا، كما رواه إسحق بن بشر، عن ابن عباس والحاكم، عن أبي هريرة، وهي جدة عيسى عليه السلام لأُمه. وكانت هذه السيدة عاقرًا لا تلد. وكانوا أهل بيت من الله بمكان. فتحركت نفسها يومًا لأن تكون أُمًا. فلاذت بربها ودعته - بضراعة - أن يهب لها ولدا، ونذرت إن حقق الله أُمنيتها: أن تجعل ولدها محرَّرًا: أي خالصًا للعبادة وخدمة بيت المقدس، عتيقا من سوى ذلك. وكان ذلك جائزا في شريعتهم. وكان على أولادهم أن يطيعوهم فيما نذروا. وكانت خدمة البيت والإقامة فيه للعبادة، قاصرة على الغلمان. فلما تحقق حملها، قال لها زوجها: أرأيت إن كان ما في بطنك أُنثى - والأُنثى عورة - فكيف تصنعين؟. فقالت عند ذلك (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): تريد بهذه الضراعة: التماس الولد الذكر، لعدم قبول الأُنثى في خدمة البيت. فكأنها تقول: رب إني نذرت ما في بطني، فاجعله ذكرا، لأستطيع تحقيق نذري. وجعله بعض الأئمِة تأكيدا لنذرها، وإخراجا له عن صورة التعليق، إلى هيئة التنجيز. ومعنى (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي): نذرته لأجلك. وهي تريد بذلك: أنها نذرته لخدمة بيته وعبادته فيه. وتقصد بقولها: (مُحَرَّرًا) أنها ستخلصه لذلك، فلا تصرفه في حوائجها. مأخوذ من التحرر. وهو: التخليص من الشوائب. وختمت ضراعتها بقولها: (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وهو تعليل لاستدعاء القبول، أي إنك السميع بكل المسموعات فتسمع دعائي، العليم بكل المعلومات، فتعلم نيتي وإخلاصي فَتَفَضَّلْ من أجل ذلك بقبول التماسي. 36 - {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى ... } الآية. ضمير الغائبة في (وَضَعَتْهَا) عائد على ما في بطنها، وتأنيثه باعتبار الواقع. والمعنى فلما وضعت أُنثى - على خلاف ما كانت تأمله - قالت متحسرة حزينة على فوات

رجائها، رب إني وضعتها أُنثى. قالت ذلك وهي لا تعلم بمكانة ما وضعته، والله وحده الذي يعلم بشأنها، وما علق بها من عظائم الأُمور ودقائق الأسرار. وقالت في تحسرها: وليس الذكر كالأُنثى في خدمة المسجد الأقصى، فإنها مقصورة على الغلمان دون الإناث فكأنها تقول: فماذا أصنع في نذري يا رب؟ ثم عطف على ذلك قولها: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ): دل هذا الكلام: على أنها - لما وضعتها - قالت ما تقدم. وأطلقت عليها اسم مريم في اليوم الذي وضعتها فيه. وهي السنّة في شريعتنا أيضا. فقد أخرج الشيخان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "وُلِدَ لِيَ الليلةَ ولدُ سمّيته باسم أبي إبراهيمَ" وأخرجا أيضا، عن أنس بن مالك: "أنه ذهب بأخيه حين ولدته أُمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنَّكه وسماه عبد الله". لم تشأ أُم مريم أن ترجع في نذرها حَمْلها لخدمة البيت وبعادة الله فيه، بعد أن تحقق أنه أُنثى. وكان أول شيء اتجهت إليه - في هذا الصدد - أن تسميها بالاسم المناسب لما أرادته في نذرها وهو مريم. فإن معناه: العابدة، في لغتها. وعقَّبت ذلك بضراعتها إلى الله: أن يعصمها ويحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم، المطرود من رحمة الله. بحيث يكونون - جميعًا - في مرضاة الله وعبادته. هذا، وقد قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن مريم معرب مارية بمعنى جارية. {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}

المفردات: (فَتَقَبَّلَهَا): أي قبل مريم - في النذر - مكان الذكر. (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا): وربَّاها تربية طيبة .. حيث نشأت في طاعة الله. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيا): أي جعله كافلا وضامنا لها. (الْمِحْرَابَ): غرفة عالية، بنيت لها، أو هو المسجد. (أَنَّى لَكِ هَذَا): من أَيْنَ لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاقنا؟ التفسير 37 - {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ... } الآية. قلنا: إن أُم مريم، مضت في نذرها مع وليدتها الأُنثى، مخالفة بذلك مألوف قومها: من أن خادم بيت المقدس يكون من الذكران. وهنا، تصريح الآية: أنه تعالى، تفضل فقبل منها مريم قبولاً حسنًا، وفاءً بنذرها، لما تعلقت به مشيئته من أُمور عظيمة، ترتبط بوليدتها الأُنثى. والقبول الحسن منه تعالى: أنه اختصها - دون سواها - بإقامتها مُقَام الذكر في خدمة بيت المقدس. وكما تقبل الله مريم في خدمة البيت لأَمر يعلمه، أنبتها ورباها تربية حسنة، إذ نشأت على طاعة الله تعالى. وقد ساعد على ذلك: أنه تعالى، جعل زكريا - عليه السلام - كافلا لها؛ لتقتبس منه العلوم والمعارف، ولتمضِيَ على سنته من الصلاح والتقوى. وكان زَوْجَ أُختها، كما ورد في الصحيح "فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة" ويحيى: ابن زكريا عليهما السلام. وهكذا تهيأَت لها البيئة الصالحة، كما تهيأَت لها الوراثة الصالحة. فكانت سيّدة نساءِ العالمين. وذكر ابن اسحق وابن جرير: أن زكريا، كان متزوجا خالة مريم. ويجمع بينهما، بأن خالة الأُم لولدها. والسبب في كفالته لها: أن أباها كان متوفيا. أو أن السَّنةَ كانت جدباء ذكر ذلك ابن اسحق.

(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ): كان زكريا يأتي مريم بطعامها، بمقتضى كفالته لها. ولكنه كان - حين يأتيها - يجد عندها رزقا جميلا، وطعاما وفيرا. فيعجب لذلك، ويقول لها: من أين لك هذا؟! يقول لها ذلك متعجبا من وجود رزق عندها، ولا كافل لها سواه. فتجيبه قائلة: (هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ) رزقا واسعا (بِغَيْرِ حِسَابٍ). ويحتمل أن تكون جملة (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) من كلام الله تعالى، وليس من كلامها، سيقت: للإيذان بأنه لا ينبغي أن تعجب من هذا الرزق، فإن الله يرزق من يشاءُ بغير حساب. والمحراب الذي كانت فيه، قيل: إنه غرفة بنيت لها في بيت المقدس، لا يصعد إليها إلا بسلم. وقيل: إنه ذات المسجد، وكانت مساجدهم تسمى: محاريب. والحق، أن المحراب لغة: يطلق على الغرفة، وهي الحجرة العالية. وعلى صدر البيت وأكرم مواضعه. وإطلاقه على المسجد - أو على مكان الإمام فيه - لرفعة شأنه. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}

المفردات: (هُنَالِكَ): أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، أو في هذا الوقت الذي رأي فيه من الكرامات ما رأى، على غير المألوف. وهنالك: يشار به إلى المكان والزمان. (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ): المراد بكلمة الله، عيسى عليه السلام، حيث جاءَ بقوله تعالى: (كُنْ) من غير توسط أب. (وَحَصُورًا): الحصور، الذي لا يباشر النساء. أو هو الذي يمنع نفسه من المعاصي. (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ): أدركتني الشيخوخة. (وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ): عقيم لا تلد، من العَقْر وهو القطع، لقطع أولادها. (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ): أي لا تقدر على كلامهم من غير آفة. (إِلَّا رَمْزًا): إلا إشارة. (بِالْعَشِيِّ): هو من الزوال إلى الغروب. وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل. (وَالْإِبْكَارِ): أي وقت الإبكار وهو من الفجر إلى الضحى. التفسير 38 - {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}: هذه قصة مستقلة. سيقت في أثناء قصة مريم، لأنها - مع ارتباطها بها - مقررة لها، بما فيها من عجيب قدرة الله مثلها. والمعنى: أن زكريا، لما وجد عند مريم رزقًا عظيمًا، وتحقق أنه من عند الله تعالى: لا يأتيها به أحد من الناس - قال في نفسه: إن الذي جاءَ مريم بذلك الرزق، لَقَادِرٌ على أن يصلح لي زوجتي، ويرزقني منها ذرية .. فعند ذلك، قام في المحراب وابتهل إلى الله تعالى قائلا: رب هب لي من عندك ذرية طيبة مباركة صالحة، إنك كثير الإجابة لمن يدعوك. وهنالك: وإن كان يشار به إلى المكان البعيد، إلا أنه قد يستعمل بمعنى: في تلك الحال مجازا، كما تقول: من هنالك، قلنا: كذا. أي في تلك الحال كذا. ومن هذه الجهة، قلت: كذا. ذكره الزجاج. وقد علل زكريا طلبه بقوله: (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ): وأصله بمعنى: كثير السمع للدعاء، ولكنه أُريد منه هنا مجازا: إنك كثير الإجابة لمن يدعوك. فهذا هو الأكثر مناسبة للتعليل. 39 - {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}:

أكرم الله زكريا فَأجاب دعاءَه، وبعث إليه بالملائكة يبشرونه بذلك، فنادوه - وهو قائم يصلي في المسجد - أن الله تعالى يبشرك بولد ذَكَر سماه الله يحيى: مصدقًا بعيسى عليه السلام، الذي سُمِّيَ كلمة الله، لأنه خلقه بقوله: (كُنْ) فكان. ومعنى تصديقه به: إيمانه بأنه رسول الله. وهو بذلك، يكون أول من آمن به. ويحيى أكبر من عيسى. فهذه البشارة كانت قبل أن تحمل مريم بعيسى، أو - على الأقل - قبل أن تلده. وذكر هذا التصديق، لتسفيه رأي اليهود في عيسى عليه السلام. وقال أبو عبيدة: المراد بالكلمة هنا، الكتاب أو الوحي. وقد وصف الله يحيى على لسان ملائكته المبشرين، بأنه سيكون سيدًا. والسيد: من يسود قومه. ثم أُطْلِق على كل فائق في الدين أو الدنيا. كما قاله بعض المحققين. ويمكن أن يجتمع فيه الأمران: الرياسة في قومه، والتفوق في الدين. فإنه نبي الله، ومن الصالحين. كما سيأتي نَعْتُه بذلك. ووصفته الملائكة أيضًا بأنه حصور .. وفسره ابن عباس: بأنه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. ولعل هذا، لأن انهماكه في العبادة، شغله عنهن. والمدح بذلك، كناية عن مدحه باشتغاله بالعبادة عن متع الحياة الدنيا. وليس معناه أن ذلك في أفضل من الزواج مع الاشتغال بالعبادة. فإن الزواج من سنن الله في الأنبياء. ومن سننه في الجنس البشري، ليبقى خليفة عن الله تعالى في عمارة أرضه. وقد كان - على سنة يحيى - في ذلك - عيسى، عليهما السلام. وفَسَّر الحصورَ بعضُ المفسرين: لأنه المبالغ في الحصر النفس، وحبسها عن المعاصي والشهوات، وكان ضمن بشارة الملائكة لزكريا عن ولده يحيى: أنه سيكون نبيًّا ناشئًا من الأُصول الصالحين، أو معدودًا في عدادهم. والمراد من الصلاح: ما فوق الصلاح الذي لابد منه في منصب النبوة، بأن يكون في أقصى مراتبه، حتى يكون للوصف به بعد النبوة فائدة. وتأنيث الفعل (قَالَتْ) عند إسناده إلى الملائكة، لجواز ذلك عند إسناده إلى الجماعة. فالملائكة ليسوا إناثا. ولهذا رَدَّ اللهُ على المشركين حين ادعوا ذلك فقال: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ" (¬1). وقد ¬

_ (¬1) الزخرف: 19.

جاء تذكير الفعل معهم بتأويل الجمع، كقوله تعالى: "وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ" (¬1). ويحيى هذا، هو المسمى عند المسيحيين: يوحنا المعمدان. 40 - {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: لَمَّا بشرته الملائكة بذلك، وتحقق من البشارة، تعجب من وقوع ذلك مع وجود الموانع، فقال: يا رب، من أين يكون لي غلام، وقد أدركتني الشيخوخة - فقد كانت سِنُّهُ - على ما روى عن ابن عباس - مائة وعشرين سنة - وامرأتي عاقر لا تلد! وقد كانت هي الأُخرى متقدمة في السن، إذ بلغت ثمان وتسعين سنة، على ما روى عن ابن عباس. وإنما خاطب بذلك ربه ولم يخاطب الملائكة الذين بشروه، مبالغة في التضرع إلى الله تعالى. وحينئذ أجابه المولى قائلا: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي: الله يفعل ما يشاءُ، مثل ذلك من الأفعال الخارقة للعادة، الخارجة عن القياس. 41 - {قَالَ رَبِّ اجْعَل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ... } الآية. قال زكريا - لما سمع هذا الجواب الحاسم من الله رب العالمين - اجعل لي علامة أستدل بها على حمل امرأتي. قال الله له: علامتك، ألا تقدر على مكالمة الناس، ثلاثة أيام متوالية من غير آفة. وتقييد عدم الكلام بالناس، مؤْذن بأَنه كان غير محبوس عن ذكر الله تعالى. وكان حديثه مع الناس - في هذه المدة - رمزًا. كما قال تعالى: (إِلَّا رَمْزًا) والرمز: الإشارة باليد أو الرأس أو نحوهما. ثم أمره الله أن يذكر سبحانه، في وقت لا يحتبس فيه لسانه عن الناس، فقال: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) يعني: واذكر ربك ذكرا كثيرا، ونزهه عما لا يليق به: في وقت العشي - من الزوال إلى الغروب - أو من العصر إلى أَن يذهب صدر الليل، واصنع مثل ذلك في وقت الإبكار - من الفجر إلى الضحى. والمراد من العشي والإبكار. جميع الأوقات. والذكر: يتناول ما كان باللسان والقلب. ¬

_ (¬1) الرعد: 23.

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} المفردات: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ): اختارك لخدمة بيته لصلاحك. (وَطَهَّرَكِ): من الأدناس أو طهرك بالإيمان عن الكفر، وبالطاعة عن العصيان. (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ): اختارك عليهن: بأن تكوني أُمًّا لعيسى من غير أب. وجعلك وإياه آية للعالمين. ولم يكن ذلك لأحد من النساء. (اقْنُتِي لِرَبِّكِ): دومي على طاعته. (وَاسْجُدِي): واخضعي. (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ): وصلى مع المصلين. (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ): وما كنت عند المتنازعين في كفالتها، حين يلقون أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، أو سِهَامَهُمْ عند الاقتراع على كفالتها في طفولتها. (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): أي إذ يتنازعون في ذلك. التفسير 42 - {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ... } الآية.

هذا عود إلى قصدة السيدة مريم عليها السلام - بعد أَنْ توسطتها قصة ولادة يحيى لزكريا، بعد أن بلغ من الكبر عتيًّا، من زوجته المسنة العاقر - للتشويق إلى باقي قصتها، ولتقرير ما فيها من عجائب صنع الله، المخالفة للنواميس المألوفة، ولتقرير اصطفاء مريم. والملائكة هنا، كالملائكة في قصة زكريا، يجوز أن يكونوا جماعة، أو أن يكون المراد منهم الجنس الصادق بواحد. والمقصود به جبريل، لأنه هو الذي يبلغ رسالات الله إلى المصطفين من خلقه عادة. والمعنى: واذكر يا محمد، من شواهد اصطفاه الله لأُولئك الكرام، وقت قول الملائكة: يا مريم، إن الله اختارك لخدمة بيته، ولم يكن يخدمه قبلك إلا الرجال. وطهرك من الأدناس: حسِّية كانت أو خُلُقية أو اعتقادية. واختارك على نساء العالمين، ليهب لك عيسى من غير أب، فكنت فريدة في ذلك بين نساء العالمين، لطهرك وفضلك! وظاهر النص: يقتضي أن كلام الملائكة لها، كان مشافهة. ويجوز أن يكون إلهامًا. 43 - {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}: المعنى: وقالت الملائكة لمريم - بعد أن أخبروها بعلوِّ درجاتها وكمال قُرْبها إلى الله - يا مريم: دومي على طاعة ربك الذي رباك بنعمه، واخضعي له، وصَلِّي مع المصلين. وقد أمرها الله بذلك، حتى لا يحدث لها فتورٌ أو غفلة، بعد ما علمت مكانتها عند الله تعالى. وإذا كان الله يذكِّر مريم بذلك - وهي من جلالة الشأن على ما وصف الله - فالأجدر بمن هم دونها: أن يعلموا أن الله تعالى لا يغفل عن حقوقه لديهم؛ ليشمروا عن ساعد الجد، حتى لا يفوتهم ركب النجاة. 44 - {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... } الآية. المعنى: ذلك الذي تقدم من أخبار الغيب، ذات الوقائع الدقيقة المفصلة، نعلمك بها عن طريق الوحي. وقد سبقت عهدك بقرون عديدة: ما كنت تعلمها أنت ولا قومك. ولولاه لما وصل إلى علمك. وصدق الله إذ يقول: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (¬1). كما أنه لم يُعرف عنك مجالسة أهل الكتاب حتى تعرفه منهم. ¬

_ (¬1) العنكبوت: 48.

ثم أَعلمه الله بغيب آخر فقال: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): الأصل في الكفالة أن تكون للوالد، فلا يقوم غيره بها إلا عند فقده، أو عند الضيق، كما كفل النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا. وكفل العباس جعفرًا، عن أبي طالب والدهما، لكثرة عياله وشدة الحال عليه. وخصام بني إسرائيل على كفالة مريم، لا يكون إلا لواحد من هذين السببين. وقد دلت الآية: على أن بني إسرائيل تنازعوا: أيهم يكفل مريم ويقوم بتربيتها؟ ودلت الأخبار: على أن القراء منهم تنافسوا - مع زوج خالتها زكريا - في كفالتها. فكان زكريا يريدها، لأن خالتها معه، ولأنه كان رئيس الأحبار. ويرى أنه أحق بها لذلك. وكان كل واحد من القراء يريدها، لأنها ابنة عالمهم. فاقترحوا حلًّا لهذه المشكلة أن يقترعوا. وكانت وسيلتهم إلى القرعة أقلامهم، كما قال القرآن الكريم. واختلف في هذه الأقلام فقيل: إنها الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة. وقيل: هي سهام جعل منها سهم معين لمن يأخذه. وطريقة الاقتراع لم يَرِدْ بها خبر صحيح. ولعلهم وضعوا الأقلام في كيس أو نحوه. فإن كانت أقلام الكتابة، كان إخراج أي قلم منها يدل على صاحبه، وعلى أنه هو الذي يكفل مريم. وإن كانت السهام، كان السهم المعين لمريم، إذا أخذه أي واحد منهم يكون هو الكفيل. وكانت هذه القرعة سبيلا إلى فوز زكريا عليه السلام بكفالتها. وفي هذه الآية دليل على أن القرعة سبيل مشروع لتمييز الحقوق. والاستهام (¬1) ورد في القرآن في موضعين: هذا الموضع، وقوله تعالى: "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" (¬2). وكان صلى الله عليه وسلم "إذا أراد سَفرًا أقرع بين نسائه" (¬3) وقال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يعْلَم النَّاس مَا فِي النِّداء والصَّفِّ الأَوَّل ثمَّ لم يجدوا إلَّا أن يستهموا عليه لاستهموا" (¬4). وإنباءُ القرآن بما وقع في كفالة مريم من نزاع وخصام، ولجوء المتنازعين إلى القرعة، دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك لا يُعلم إلا عن طريق الوحي. ¬

_ (¬1) الاستهام: إجراء القرعة. (¬2) الصافات: 141. (¬3) رواه الشيخان. (¬4) رواه الشيخان.

ولذا، أشار الله إلى هذه المعجزة بقوله: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): أي ما كنت عندهم في الحالين، حتى تعلم أمرها. وإنما أعلمك الله بوحيه. {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} المفردات: (يُبَشِّرُكِ): التبشير، الإخبار بالبشارة وهي الخبر السَّار. وأُطلق عليه ذلك، لظهور أثره على البشرة. (وَجِيهًا): صاحب جاهٍ وشرفٍ. (فِي الْمَهْدِ): المهد هنا، فراش الطفل الرضيع. (وَكَهْلًا): الكهل، مَنْ وَخَطَهُ الشيب في جلال ووقار. وهو بين حالي الغلومة والشيخوخة. ومنه: اكتهلت الروضة إذا عمَّها النُّوَّار. وقيل: من جاوز ثلاثين إلى إحدى وخمسين سنة. (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ): المسّ هنا، كناية عن الجماع. التفسير 45 - {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}:

هذه الآية - وما يليها من آيات - تحكي قصة عيسى بن مريم عليهما السلام. والمراد بالملائكة هنا: الجنس. والمقصود منه جبريل عليه السلام، على المشهور. والقول من الملائكة لمريم، كان مشافهة. كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة. وإطلاق لفظ: (كلمة) على عيسى عليه السلام، لأنه لم يجر على نسق البشر. إذ خلق بغير أب .. متأثرا بقوله تعالى في شأنه: (كُن) كما قال تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (¬1). وبما أن (كُنْ) كلمة، فلذا سُمِّيَ: (كلمة). والمسيح: لقب لعيسى عليه السلام. وهو من الألقاب ذات الشرف. كالفارق لعمر. وهو لقب عبري. ومعناه: القائم على عبادة الله. ومع كونه لقبا، فقد صرحت الآية بأنه اسم له. والألقاب إذا اشتهرت، صارت أسماء. ووجاهته في الدنيا: شرفه وقدره العظيم، بقبول دعائه: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك، مما أكرمه الله به. وقيل: وجاهته فيها: براءَته من العيوب التي افتراها عليه اليهود. أما وجاهته في الآخرة: فهي بقبول شفاعته، وعلو درجته، وظهور كذب اليهود فيما افتروه عليه، وعقابهم على ما افتروه. والمراد من كونه (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ): أنه ممن علت مكانتهم عند الله تعالى وعند الناس. وخلاصة المعنى: اذكر يا محمد، حين قالت الملائكة لمريم - يا مريم: إن الله يخبرك بخبر يسرك. هو: أنه سيمن عليك بغلاف اسمه المسيح عيسى بن مريم: ذا جاه وشرف في الدنيا، بما يظهره الله على يديه من المعجزات، وبما اتصف به من الصلاح والتقوى. وذا جاه في الآخرة: بقبول شفاعته، وظهور صدقه وعلو درجته. ومن المقربين إلى الله والناس، المحبوبين لديهم. ¬

_ (¬1) آل عمران: 59.

وبما أن الولد عادة يُنسب إلى أبيه، فإضافة عيسى بالبنوة إلى أُمه، فيه إشعار لها - حين البشارة - بأنه سيكون بغير أب ... قبل التصريح لها بذلك. وسيأتي بعد. 46 - {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}: وبشرتها الملائكة أيضا: بأن ولدها عيسى عليه السلام، سيكون ذا شأن عظيم، وذلك أنه يكلم الناس وهو طفل يلازم فراش الطفولة، مثلما يكلمهم وهو رجل ذو جلال ووقات. فكلامه في الحالتين، كلام رصين، مفيد نافع، ينفي الريب ويزيل الشكوك، ويحق الحق. ومن كلامه في طفولته. أنه قال لقومه، حين أشارت أُمه إليه ليدافع عن عرضها: "إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نِبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا" (¬1). وذلك حين جاءَت به قومها تحمله، بعد أن وضعته فلما رأَوْا ذلك: "قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" (¬2). أما كلامه في كهولته، فهو كلام الوحي والرسالة. وكما بَشَّرتها الملائكة بوجاهة ولدها في الدنيا والآخرة، وأنه سيكلم الناس في المهد وكهلا، بَشَّرتها أيضا: بأنه سيكون في عداد الكاملين في الصلاح والتقوى. 47 - {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}: قالت السيدة مريم - متعجبة من تبشيرها بالولد وهي غير متزوجة - يا إلهي. مِنْ أين يكون لي ولد ولم يتصل بي بشر، والعادة جارية على خلاف ذلك؟ قال الله تعالى - بلسان الملائكة وتبليغهم، ردًّا على استغرابها - الله يفعل ما يشاءُ، ولو خالف القياس، بدون معاناة ولا صعوبة. ولا يحتاج تحقيق المراد إلى قوله تعالى (كُنْ) بل يكفي أن يريده الله، فيتحقق في الحين الذي أراده سبحانه فيه. والأمر بكُن محمول - عند الأكثرين - على أنه تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده: بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به، من غير امتناع ولا توقف. وأجاز بعضهم: أن يكون ذلك على الحقيقة، بأن يتعلق كلام الله النفسي: الذي هو بمعنى: كن، على ما أراد الله تكوينه، فيكون ويحدث. ¬

_ (¬1) مريم: 30، 31. (¬2) مريم: 27، 28.

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} المفردات: (الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ): الأكمه؛ من ولد أعمى. والأبرص: من بجلده بقع بيضاء تخالف لون سائره. التفسير 48 - {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}: في جملة ما بشرت به الملائكة مريم، عن ولدها عيسى المنتظر: أن الله تعالى: يعلمه الكتاب. والمراد به: الكتابة بالقلم. كما قاله ابن عباس وابن جريج. أو هو بعض الكتب الإلهية التي أنزلها الله على أنبيائه، سوى التوراة والإنجيل اللذين سيذكران بعد. وهذا رأي أبي علي الجبائي. والأول أظهر. وكما يعلمه الكتاب، يعلمه الحكمة. وهي إصابة الحق في القول والعمل، ويعلمه التوراة التي أنزلها موسى من قبله، والإنجيل الذي سينزله الله عليه. وقد كان عليه السلام، يحفظ هذا وذاك.

وتعليمه ما تقدم: صالح لأن يكون موهبة إلهية، وأن يكون بمعلم. روى أنه لما ترعرع أسلمته أُمه إلى المعلم. ولكن لا ندري ماذا علمه المعلم. ولعله علمه ما تضمنته الآية من الكتابة والتوراة. أما الإنجيل، فقد أنزله الله عليه. 49 - {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ... } الآية. أي: ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل، يخبرهم: أني قد جئتكم ببرهان من ربكم على نبوتي. هو أني أُنشيء لكم من الطين تمثالا كهيئة الطيب وشكله، فأنفخ فيه فيكون بعد النفخ طيرا بأمر الله الذي جعل ذلك معجزة وبرهانا على أنه أرسلني إليكم. فإن مثل ذلك لا يقدر عليه البشر، لأنه مما اختص الله به، فإذا أمكن الله بعض عباده من ذلك، فذلك يعتبر تأييدا من الله له في دعوى الرسالة. والتعبير بقوله: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) للإيذان بخصوص بعثته إليهم. أما الرسالة العام، فهي لمحمد صلى الله عليه وسلم: لا يشركه فيها أحد سواه. قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... " (¬1). وقد انقسمت بنو إسرائيل فيه إلى فرقتين: فرقة ترميه بأفحش ما رمت به أُمة نبيَّها، وهم الأكثرون من اليهود. وأُخرى تصدقه في مواعظه وإرشاداته. وتقول: إنه لم يخالف التوراة، بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل فرقة أخرى تسمي الأتقياء ينفون رسالته ونبوته، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه: حيث كذبوه أولا، ولم يعرفوا مدعاه. وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرماه ومغزاه. وهذه الفرقة تسمى: العنانية. أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت. ذكر ذلك الآلوسي ناقلا عن بعض المصادر المشهورة ولم يسمه. (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ): وأشفي الأكمه الذي ولدته أُمه أعمى، فيصير بصيرا. وأشفي مَنْ بجلده برص. وهو بياض يخالف لون سائر الجلد. وهاتان العلتان أعجزتا الأطباءَ. ولهذا أراهم الله المعجزة على يد عيسى من جنس الطب. كما أرى قوم موسى المعجزة بالعصا واليد البيضاء، حيث كان ¬

_ (¬1) سبأ: 28.

الغالب عليهم السحر. وأرى العرب معجزة القرآن. حيث كان الغالب عليهم في عصر الرسول: الفصاحة والبلاغة. والاقتصار على هذين المرضين، لا ينفي قدرته على شفاء غيرهما بإذن الله. وكما كان يقدر على شفاء المرضى، كان يحي الموتى بإذن الله. وفي كل هذه المعجزات كان يلجأ إلى الله ويدعوه، فيحقق الله دعاءَه. دون ممارسة الوسائل الطبية. (وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ): وأُخبركم بما تأكلونه في بيوتكم ولم أُشاهده، وما تدخرونه للمستقبل من مال وطعام لا سبيل لي إلى علمه. والمراد: الإخبار بهذين النوعين بخصوصهما. وقيل: المراد أنه يخبرهم بالمغيبات. واقتصر على هذين الأمرين، لحضورهما لديهم. فلا يبقى لهم شبهة. ولا شك أن صدقه فيما أخبر به شاهد على صدقه في دعواه الرسالة إليهم. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): هذه الجملة من كلام عيسى حكاها الله تعالى، أو من كلام الله، سبقت للتوبيخ. والمعنى: إن في ذلك لعلامة لكم على صحة رسالة عيسى، أو أن رسالة محمد الذي أخبر بما لم يعاصره، من غير معالجة أسباب توصله إلى علمه، كما يفعل المنجمون. أما ما يفعله علماءُ الفلك، من الإخبار عن بعض المغيبات، فناشيء عن قوانين وضوابط، لولاها لما عرفوا ما أخبروا به .. فلا يقال: إنهم أخبروا بالمغيبات. على أن ما يخبرون به لا يصل إلى درجة العلم المقابل للظن. بل أقصى ما يحصل به هو الظن الغالب -وقد يخطئون- وبينه وبين علم الغيب بَوْنٌ بعيد، بخلاف ما يخبر به المرسلون، فهو من باب العلم الذي لا شك فيه، لأنه إخبار عن الله تعالى. ولذا لا يقع فيه خطأ. وأما التنبؤ في شئون التجارة والحروب والحظوظ ونحو ذلك، فهو إهدار لكرامة العقل، ومخالف للشرع. ثم ختم الآية بقوله تعالى: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): أي: إن كنتم مريدين الإيمان أو موفقين إليه: فذلك الذي تقدم آية لكم تعينكم على تحقيقه.

50 - {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ... } الآية. أي: جئتكم بآية من ربكم، ومصدقا لما تقدمني من التوراة النازلة على موسى: مؤمنا بما جاءَ فيها، وأنها نازلة من عند الله تعالى. وجئتكم لأُحل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم. واختلف العلماءُ في المراد من قوله: (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ): فمنهم من قال: المراد منه: أن عيسى عليه السلام، أَحَلَّ لهم بعض ما حرم الله عليهم في التوراة، تخفيفا عليهم. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: "كان الذي جاء به عيسى ألْيَسَ مما جاء به موسى عليه السلام". ومنهم من قال: المراد منه: أنه أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطأوا، فكشف لهم من ذلك ما كان مغطى .. لقوله تعالى: "وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ" (¬1). (وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ): وَحَّدَ الآية - مع أنها من آيات عديدة - لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته. وقد جاءت هذه الجملة في آخر كلامه - مع أنها جاءَت في أوله - لتكون كنتيجة لِسَرْد هذه المعجزات التي تقدمت؛ وليرتب عليها قوله لهم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ): وكأنه يقول لهم: وإذا كنت قد جئتكم بهذه الآيات والمعجزات، فاتقوا الله وخافوه، وأطيعون فيما آمركم به عنه سبحانه وتعالى. فإن ذلك يجب عليكم، عند ظهور الحق فيما أدعوكم إليه. 51 - {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}: بعد أن أمرهم بتقوى الله وطاعته، علل ذلك بقوله: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ): يعني ومن كان كذلك، وجب أن يُتَّقَى ويُطَاعَ رسولُه فيما كلفهم به من تكاليفه تعالى. ورتب على ذلك: ما هو تفسير للتقوى والطاعة، وما هو فرع وأثر لربوبيته تعالى، فقال: (فَاعْبُدُوهُ): أي: اجعلوا عبادتكم له وحده، لأنه ربكم دون سواه. ¬

_ (¬1) الزخرف: 63.

وأرشدهم إلى استقامة هذا المنهج فقال: (هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ): فإنه يجمع بين الاعتقاد السليم، والعمل القويم. قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} المفردات: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ): أصل الإحساس، الإدراك بإحدى الحواس. ويستعار للعلم بلا شبهة. أي: فلما علم منهم المداومة على الكفر علما لا شبهة فيه. (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ): أي من أنصاري متجها إلى الله؟ وحاصل المعنى: من ينصرني حال كوني متجها إلى الله ملتجئا إليه؟ والأنصار: جمع نصير. وهو من يؤَيدك وينصرك. (الْحَوَارِيُّونَ): جمع حواري. وهو الصَّفِيُّ والناصر. يقال: فلا حواريُّ فلان، أي خاصته من أصحابه وناصره. التفسير 52 - {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ... } الآية. بعد أن بين الله في الآيات السابقة، ما يؤَكد رسالة عيسى عليه السلام، ويدعو إلى تصديقه والإيمان بنبوته، عقَّبها بتلك الآيات التي أوضح فيها: كفر بني إسرائيل ومكرهم به، وإنجاء الله له من مكرهم، ووقوف أهل الحق معه، وسائر قَصصِه الحق الذي زيفه أهل الكتاب. فقال جل ثناؤُه: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ ... ) الآية.

والمعنى: فلما استيقن عيسى مداومتهم على الكفر، وعدم استجابتهم لدعوته، اتجه إلى من خلصت نيتهم من قومه، مخاطبا لهم بقوله: من ينصرني ويؤيدني وأنا متجه إلى الله داعيا لدينه، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يمنعه مانع؟ فاستجاب لندائه عليه السلام، صفوته وخاصته من قومه .. وقد حكى الله استجابتهم بقوله: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ): أي: قال المخلصون له من قومه: نحن أنصار دين الله: ننضم معك في نصرته، وفي تبليغ دعوته، وتوضيح رسالتك، لأننا آمنا بالله. ومن يؤمن به سبحانه، فعليه أن ينصر دينه. واشهد علينا يا رسول الله، بأننا منقادون لما يريده الله منا. ثم توجهوا إلى الله مؤكدين ما خطبوا به عيسى عليه السلام، فقالوا: 53 - {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}: المعنى: أَكَّد الحواريون إيمانهم الذي أشهدوا عليه عيسى - متجهين به إلى ربهم - قائلين: ربنا آمنا بما أنزلته على جميع رسلك، واتبعنا الرسول عليه السلام، فاكتبنا عندك - ببركة هذا الإيمان - مع الشاهدين من جميع الأُمم: بصدق الأنبياء والمرسلين. ولا تجعلنا من المعاندين المكابرين، الذين ينكرون الحق مع وضوح دليله. وعن ابن عباس معناه: واكتبنا مع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم، الشاهدين للرسل بالتبليغ. ثم حكى الله تدبير بني إسرائيل اغتيال عيسى وإحباط الله لكيدهم فقال: 54 - {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: المعنى: قال ابن عباس في تفسيرها: لما أراد مَلِكُ بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام، دخل - أي عيسى - خوخة فيها كوة، فرفعه جبريل عليه السلام، من الكوة إلى السماء. فقال الملك لرجل خبيث منهم: ادخل عليه فاقتله. فدخل الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت. فقتلوه وصلبوه، ظنا منهم أنه عيسى. وقد جاء في إنجيل "برنابا" ما يصدق هذا المروي عن ابن عباس. وزاد على ذلك: أن هذا

الخبيث هو يهوذا. وكان من الحواريين المنافقين. وهو الذي دلَّهم على مكانه. وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة. وأوصاهم وقال: ليكفرن بي أحدكم. فذهب يهوذا إلى ملك اليهود وأخبره بمكانه، ومكان حوارييه. فلما توجه إليه الملك برجاله ودخلوا عليه البيت، لم يجدوه، فقد رفعه الله إليه. وألقى شبه عيسى على يهوذا. فأمر الملك بقتله. فقال له: أنا يهوذا. فقال الملك: إن كنت يهوذا فأين عيسى؟ فقال يهوذا: إن كنت عيسى فأين يهوذا؟ فلم يعبأ الملك بهذه المعارضة، وصلبه لشبهه بعيسى. ومن العجيب أن النصارى لا يعترفون بهذا الإنجيل، مع أنه وجد بمكتبه باب روما، وترجم إلى اللغة الإيطالية، ثم إلى الإنجليزية، وغيرها من لغات العالم. ولم يوجد بالعربية إلا بعد ترجمته من الإنجليزية أخيرا!! بل من الأعجب أن النصارى لا يعترفون بهذا الإنجيل لمجرد مخالفته لا هو عليه من الأناجيل الأُخرى .. وليس ما عندهم من تلك الأناجيل ما هو أولى بالتصديق منه، لأنها ليس فيها ما يرجحها عليه، بل إن العكس هو الصحيح. هذا هو مكر بني إسرائيل بعيسى، وإكرام الله له بإنجائه من مكرهم، وعقابه المنافق بقتله، بعد إلقاء شبه عيسى عليه!! والمكر لغة: هو تدبير خفي، يقصد به إضرار لمن يُمكر به، ولا يطلق على الله إلا بأسلوب المشاكلة المعروف في علم المعاني. وهو التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. وقد أُطلق هنا على إنجاء الله لعيسى. وانتقامه من المنافق، لوقوعه في صحبة مكرهم. هكذا قالت طائفة من العلماء. وقال غير واحد: المكر هو التدبير المحكم. وهو ليس بممتنع على الله تعالى؛ وفي الحديث الشريف: "رَبِّ أَعِنَّي ولَا تُعِنْ عَلَيَّ ... وامكُرْ لي ولا تمكر علي (¬1) ". ثم ختم الله الآية بقوله: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ): أي أقواهم، وأشدهم مكرا. أو أنه أحسنهم مكرا، لبعد تدبيره عن الظلم. ¬

_ (¬1) من حديث رواه: أحمد، والحاكم، والترمذي، وغيرهم.

ثم فصل هذا التدبير المحكم بقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} المفردات: (مُتَوَفِّيكَ): أي مستوفيك وآخذك إليَّ. مأخوذ من قولهم: توفيت ديني على فلان. أي استوفيته وأخذته. ويعتبر قوله عقبه (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): تفسيرا له. (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا): أي مطهرك منهم بإبعادك عنهم بالرفع، فقد دنَّسهم الكفر. (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ): بتصديق ما جئت به. ومنه: أنه يأتي من بعدك نبي اسمه أحمد: يجب الإيمان به. (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا): بذلك. (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ): ومن لم يؤمن منهم بمحمد. فقد كفر بعيسى. فتسلب منه هذه الأفضلية.

(مِنَ الْآيَاتِ): من الحجج الدالة على صدقك. (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ): والقرآن المحكم المتقن. أو المنصف بالحكمة. التفسير 55 - {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } الآية. اختلف المفسرون في المراد من التوفي هنا. فمن العلماء من قال: إنه على حقيقته المعروفة. وإنه مرتبط بالآية السابقة. والمعنى: ومكر اليهود بعيسى يريدون قتله. ومكر الله فأحبط تدبيرهم. والله خَيْرُ الحاكمين. فقد قال الله لعيسى: إني متوفيك حين يأتي أجلك. ولن أسلطهم عليك ليقتلوك. وقد حقق الله وعده إذ ألقى شبهه على يهوذا فقتلوه، وأنجى عيسى ورفعه إليه. وسيبقى إلى آخر الزمان ليبلغ شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس. ثم يتوفاه بعد ذلك. كما ورد في السنة الصحيحة على ما سنبينه. فالآية على هذا كناية عن عصمته من الأعداء، مشفوعة بالبشارة برفعته. وقال آخرون: معناه: إني مستوفيك، أي آخذك من الأرض. مأخوذ من قول العرب: توفيت ما لي على فلان، أي أخذته. وعلى هذا يكون قوله: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) تفسيرا للتَّوفي. ونقل الحافظ ابن كثير، عن ابن عباس (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي مميتك. ولكن هذا النقل معارض بما سنذكره من الأحاديث الدالة على بقائه إلى آخر الزمان، وبقوله تعالى: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" (¬1). وهذا الوعد لم يتحقق إلى الآن، فإن اليهود - وأكثر الناس - لم يؤمنوا به. وذلك يدل على أنه لا يزال حيًا. وسيظل كذلك. حتى يؤمن به جميع الناس قبل موته، تحقيقًا لوعد الله تعالى. وسيكون ذلك آخر الزمان. كما أنه معارض بما صح نقله عن ابن عباس من أنه رفع من غير وفاة. وعلى هذا يكون قوله تعالى: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) مرادا منه: رافعك حيًّا بدون وفاة .. ¬

_ (¬1) النساء: 159.

ويشهد له - ولنزوله آخر الزمان - ما رواه الإمام مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ، لينزلنّ ابن مريم حكما عادلا فليكسرَنَّ الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولَتُترَكَنَّ القلاص (¬1)، فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناءُ والتباغض والتحاسد، ولَيُدْعَوُنَّ إلى المال فلا يقبله أحد". ولا ينزل عيسى بشرع جديد ينسخ شريعتنا، بل ينزل مجددا لما درس منها، ومتَّبعا لها، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كيف أنتم إذا أُنزل فيكم ابن مريم وإمامُكم منكم"! وبما أنه سينزل آخر الزمان، فلابد أنه يبقى حيا إلى حين ينزل ويبلغ شرع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو مات قبل ذلك، لكان نزوله هذا بعثا له في الدنيا. ولا بعث إلا في الآخرة. كما دل عليه الكتاب والسنة. والمراد من قوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أنه تعالى، يبعده عنهم بالرفع، حتى لا يبقى بين من دنسوا أنفسهم بالكفر، تنزيها له عن دنسهم. أو أنه يُبْعِد أَيديَهُم عنه، فلا تمسه بأذى .. فهم أنجاس لكفرهم. ويصح أن يكون هذا وعدا من الله له، بأنه - في آخر الزمان - يزيل من طريقه الكافرين، فلا يستطيعون صده عن الهدى كما كانوا يفعلون قبل رفعه. (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ): لا يقال للأُمة: إنها اتبعت رسولها إلا إذا كانت تنفذ ما جاءَ به: اعتقادا وقولا وعملا. والنصارى - بعد أن رفع الله عيسى - انقسموا فرقا وشيعا: فمنهم من آمن به، على أنه عبد الله ورسوله وابن أَمَتِهِ. ومنهم من غلا فيه فيجعله ابن الله. ومنهم من قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. ¬

_ (¬1) القلاص جمع قلوص. وهي الناقة الشابة.

وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على من عدا الفرقة الأُولى، التي تعتبر متبعة لرسولها، في تنزيه الله عن الصاحبة والولد والشريك. وهذه هي العقيدة السليمة التي جاءَ بها المرسلون جميعا. وكل من دان بها، فهو تابع لرسوله. كما هو تابع لجميع المرسلين وأصحابهم هم المؤمنون. ومن عداهم فهم كافرون. وقد وعد الله - في هذه الآية - أنه جاعل من اتبع عيسى عليه السلام، فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، أي أنهم يكونون أعلى منهم. والعلو المقصود من الآية: يحتمل أن يكون علوًّا في الدرجة والمنزلة عنده تعالى. فالمتبعون له - في حكم الله وقضائه - في أعلى الدرجات إلى يوم القيامة. ولا مكانة ولا منزلة عنده - جلَّ وعلا - لِمَنْ لم يتبع عيسى: بأن كفر به، أو آمن به ولكنه جعله إلها أو ابن الله. تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. ويحتمل أن يكون العلو بمعنى الغلبة والقهر. وذلك إما بالحجة والبرهان - ولا شك أن أهل الحق منهم، أقوى حجة على أهل الباطل منهم ومن غيرهم، كاليهود والمشركين - وإما بالقتل والأسر. وقد حدث ذلك بعد رفع عيسى. وفي ذلك يقول الله تعالى: "قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ" (¬1). ولعله حدث في أوقات أُخرى مثل ذلك. وقد انقرض المؤمنون المتبعون لما جاءَ به عيسى عليه السلام. وأصبح جميع النصارى قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يؤَلهون عيسى. ويقولون: هو ابن الله. أو هو الله. أو هو ثالث ثلاثة. وعلى أي حال كانت عقيدة النصارى في عيسى، فإنهم - منذ البعثة المحمدية - لا يعتبرون متبعين لعيسى عليه السلام، إن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) آخر سورة الصف.

فقد بشر به عيسى، وأوجب عليهم تصديقه. فإذا زال عنهم وصف اتباعهم لعيسى عليه السلام - بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو عدم دخولهم في الإسلام - فقد زال استحقاقهم لوعد الله، بأن يجعل من يتبع عيسى، فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة لسببين: أحدهما: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبدينه. وثانيهما: عقيدتهم الباطلة في عيسى. وكلا السببين: مخرج لهم عن اتباعهم لعيسى عليه السلام، مستوجب لحرمانهم من وعد الله أن يكون متبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. فإنهم -بما جَنَوْا- أصبحوا كافرين. فانتقل وعد الله لعيسى: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) من النصارى إلى المحمديين، الذين هم - باتباعهم محمدًا عليه الصلاة والسلام - يعتبرون متبعين لعيسى أيضًا: فيما جاءَ به من التوحيد وأُمهات الشرائع والأحكام، التي يشترك فيها جميع المرسلين. ولهذا، ترى المسلمين ظهروا على من عداهم: - بالحجة التي لا ترد، والبرهان الذي لا يقهر. كما تراهم ظهروا عليهم، في الجهاد والاستيلاء على الأقطار والبلاد - فقد فتحوا بلاد كسرى وقيصر. وتجاوزوها إلى الصين والهند شرقا، وإلى غرب أُوروبا وشمال إفريقيا وجنوبها. ولا تجد قارة من القارات، ولا قطر من الأقطار، إلا وفيه الكثير من المسلمين. ولا يزال أمر هذا الدين مستقيما حتى تقوم الساعة كما قال - صلى الله عليه وسلم (¬1) - وصدق الله في وعده إذ يقول: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا" (¬2). (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ): المعنى: ثم إلى حُكْمِي وقضائي: مَرجِعُكم ومصيركم، أيها المختلفون في أمر عيسى عليه السلام، فأقضى بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أَمره وأمر دينه. ثم فصل قضاءَه فيهم فقال: ¬

_ (¬1) مأخوذ من الحديث الشريف "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" رواه الحاكم. (¬2) النور: 55.

56 - {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}: المعنى: فأَما الذين كفروا بأن جحدوا نبوته وجعلوه إلها، أو ابنا له تعالى، فيعذبهم الله عذابًا شديدًا: في الدنيا بالقتل والأسر، حتى يخضعوا أو يعطوا الجزية، في مقابل رعايتهم والدفاع عنهم. وفي الآخرة حيث يخلدون في النار، وما لهم من ناصرين يدفعون عنهم عذاب الله. 57 - {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: المعنى: وأما الذين صدقوا بنبوتك يا عيسى، وصدقوا بجميع الرسالات، وعملوا الصالحات: في دينهم ودنياهم - فيعطيهم أُجورهم وافية وافرة. والله لا يحب الظالمين بالكفر والمعاصي، ولا يرضى عنهم بل يبغضهم ولا يرحمهم. فلذلك يعاقبهم في الدنيا والآخرة. 58 - {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}: المعنى: هذا الذي نتلوه عليك يا محمد، من أمر عيسى مع قومه، هو من البراهين الشاهدة بنبوتك. فإن ذلك مما لا يعلمه سوى أهل الكتاب - وأنت أُمي ولا صحبة لك مع أهل الإنجيل حتى تعلمه منهم - فلم يبق إلا أنك عرفته من الوحي. وكما أنه من الآيات، فهو من القرآن الحكيم. أي المحكم المتقن المصون من الباطل. أو صاحب الحكمة وهي إصابة الحق. والتعبير بالمضارع (نَتْلُوهُ) بدل الماضي - تلوناه - استحضار للصورة التي حصلت؛ للاعتناء بها. ويمكن حمل المضارع على ظاهره - وهو الحال - لأن قصة عيسى لم يفرغ منها بعد.

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} المفردات: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ): المثل هنا؛ بمعنى الحال والصفة العجيبة. (كُن فَيَكُونُ): أي صِرْ بَشَرًا، فصار بشرا. والتعبير بالمضارع (فَيَكُونُ) بدل الماضي - فكان - لتصويره بصورة الحاضر المشاهد، إيذانًا بغرابته. (فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ): من الشاكِّين. أو من المجادلين في شأنه بعد وضوح الحق. والخطاب لكل مكلف. (حَاجَّكَ): أي جادلك. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ): أي ثم ندع الله: مضارع. من الابتهال وهو الدعاءُ. (وَمَا مِنْ إِلَهٍ): ما: نافية. ومن: لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية. وهي كلمة (إِلَهٍ) قاله الشهاب.

التفسير 59 - {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}: سبب النزول: نزلت هذه الآية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند حضور وفد نجران. وكان من جملة شبههم: أن قالوا: يا محمد لَمَّا سلمت أنه لا أب له من البشر، وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى. فقال: "إن آدم ما كان له أب ولا أُم .. ولم يلزمه أن يكون ابنا لله تعالى، فكذا القول في عيسى" عليه السلام. تلك خلاصة ما دار بين وفد نجران، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحوار في دعواهم أن عيسى ابن الله. والمعنى: إِن حَال عيسى - وصفته العجيبة في خلقه دون أب - كحال آدم أبي البشر، عليه السلام، أراد الله خلقه من تراب، ثم قال له - عند تعلق إرادته تعالى بتنفيذ خلقه - صرْ وكن بأمري بشرًا سويًّا: ذا لحم ودم، وعظام وأعصاب، وعقل وإرادة .. فصار بشرًا، كما أراده الله. وتم بذلك خلقه من تراب دون أب أو أُم، فكان بذلك أعجب من خلق عيسى من أُم دون أب!! وإذا كنتم أيها النصارى، لا تقولون بأُلوهية آدم، ولا ببنوته لله - مع أن خلقه عجب من خلق عيسى - فكيف تقولون بألوهية عيسى، أو بُنُوته لله، وهو دون آدم في غرابة خلقه!! والآية دليل على صحة القياس، وشرعية النظر والاستدلال. فقد احتج الله على فساد ادعائهم الأُلوهية لعيسى محتجين بأنه ولد بغير أب .. احتج عليهم بخلق آدم بلا أب ولا أُم. فحيث لم يقولوا بأُلوهية من هو أعجب منه خلقا، وجب القول بعدم أُلوهية عيسى من باب أولى.

ولما كان هذا الاحتجاج واضح الدلالة على بطلان زعم النصارى في عيسان أتبعه قوله: 60 - {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ}: لما كان الامتراءُ - هنا - بمعنى الشك، فلذا لا يصح أن يكون الخطاب في الآية للرسول، بل لمن يجادله في شأن عيسى، ولكل من يخالجه شك في أمره عليه السلام. والمعنى: الحق في شأن عيسى، نازل من ربك أيها المجادل في شأنه. فلا تكونن من الشاكين في أمره، بعدما أسفر الصبح - لذي عينين - بهذه الحجة القاطعة لكل ريب. ويصح أن يكون الامتراءُ بمعنى المجادلة بالباطل. أي فلا تكونن بعد هذا الحق النازل من ربك، من المجادلين المحاجين فيه بالباطل. والخطاب فيه - كسابقه، لغير الرسول، فإن الرسول لا يجادل بالباطل. 61 - {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}: أما الخطاب هنا، فللرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: فمن جادلك في شأن عيسى - من بعد ما جاءَك من أدلة العلم - بأنه بشر لا يستحق الأُلوهية، كما هو شأن آدم الذي هو أعجب منه خلقًا، فاترك مجادلتهم فهم مقلدون معاندون: معرضون عن الحق بعد وضوحه. وأفحمهم فقل لهم: تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءَكم، ونساءَنا ونساءَكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم يَبْتَهل كل منا إلى الله تعالى ويدعوه، أن يجعل لعنته على الكاذبين منا. وقد حدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية أخبر وفد نجران بها، ودعاهم إلى الغدو في اليوم التالي، ومعهم نساؤُهم وأبناؤُهم. وحضر الرسول في الموعد، ومعه الحسن والحسين، وفاطمة وعلي، فلم يجدهم. فقد تشاوروا فيما بينهم، فقالوا للعاقب وكان صاحب رأيهم: يا عبد المسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله، يا معشر النصارى، لقد عرفتم: أن محمدًا لنبي مرسل. ولقد جاءَكم بالفصل من خبر صاحبكم. ولقد علمتم أنه ما لاعَنَ قوم نبيا قط فبقى كبيرهم، ولا نبت صغيرهم. وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم. فإن كنتم أبيتم إلا إِلْفَ دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك، وأن نرجع على ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا:

يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا. فإنكم عندنا رضا. فأمر أبا عبيدة أن يخرج معهم، ويقضي بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه - أفاده القرطبي. وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن الضحاك وابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم على الجزية، ومقدارها ألف حلة في صَفَر، ومثلها في رجب، ودَرَاهم. وذلك بعد أن أشار عليهم يهود المدينة بالصلح وعدم الملاعنة وقالوا لهم: هو النبي الذي نجده في التوراة. قد يقول قائل: إن الجزية فرضت بعد فتح مكة. ووفد نجران جاء قبلها. فكيف يقال: إن الرسول صالحهم على الجزية؟ والجواب: أن ذلك من باب المصالحة على ترك المباهلة. وجاء فرض الجزية - بعد ذلك - على وفق ما صنعه رسول الله. وقد أُجيب بأجوبة أخرى، فارجع إليها - إن شئت - في تفسير ابن كثير. وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد: صاحبا نجران، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه (¬1). قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل. فو الله، إن كان نبيا فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إن نعطيك ما سأَلْتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: "لأبعثن معكم رجلا أمينا حَقَّ أمينٍ. فاستَشْرَفَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأُمة". 62 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: المعنى: إن هذا الذي قصصناه عليك - يا محمد - في شأن عيسى، لهو القصص المطابق للواقع: الذي لا يصح العدول عنه إلى ما عليه النصارى في شأنه: من أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ): فلا شريك له في ملكه، بأي وجه من الوجوه. ولا معبود بحق سواه. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ): أي الغالب الذي يَقْهَرُ ولا يُقْهَرُ. أو العزيز بمعنى: من لا نظير له. (الْحَكِيمُ): المتقن لما يصنعه وما يدبره. 63 - {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}: ¬

_ (¬1) أي يستجيبا إلى طلبه عليه السلام ملاعنتهم.

فإن أعرض هؤُلاء النصارى عن الاعتراف بالحق في شأن عيسى، وعن اتباعك في دينك - بعد ما تبين لهم الحق - فإن الله عليم بهؤلاء المفسدين، فيعاقبهم على إفسادهم لعقائدهم وعقائد غيرهم. وأظهر في مكان الإضمار، فلم يقل: عليم بهم. بل قال: (عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) لإظهار فسادهم واستحقاقهم للعقوبة. وفي هذا تهديد بليغ لهم. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} المفردات: (تَعَالَوْا): أَقبِلوا. (إِلَى كَلِمَةٍ): إلى العمل بكلمة. والمراد بها هنا: الكلام الآتي بيانه في الآية الكريمة. (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ): مستوية عادلة نعمل بها جميعا، ولا نختلف فيها. (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ): أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وأهمها الشرك .. فإن طاعتهم في ذلك كاتخاذهم أربابا. وهذه الجملة بالنسبة لما قبلها تعميم بعد تخصيص. وسيأتي بيان ذلك في المعنى. التفسير 64 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ... } الآية. نزلت هذه الآية في وفد نجران كما قاله: الحسن، والسدي وغيرهما.

وقال الجبائي: نزلت في اليهود والنصارى. ورجحه بعض المحققين، لعموم الخطاب لهما. وإن كان السياق مع الرأي الأول. والمعنى: قل يا محمد لأهل الكتاب: أقبلوا إلى منهج موحد في العبادة: يستوي فيه المسلمون والنصارى واليهود. تسلكه جميعا. ولا نعدل عنه إلى سواه. وهذا المنهج هو: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) لا صنما ولا كوكبا ولا نارا ولا ملائكة ولا غير ذلك. (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ): فلا يتخذ اليهود عزيرا ابنًا لله. ولا يتخذ النصارى المسيح ابنًا لله. ولا يقولوا: إنه ثالث ثلاثة، لتستووا بذلك مع المسلمين الذين لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فإن هذا المنهج التوحيدي - كما دعا إليه القرآن - دعت إليه التوراة والإنجيل قبل تبديلهما. ولا تزال فيهما نصوص كثيرة تدعو إلى التوحيد: تركتموها وعملتم بنصوص أُخرى: اصطنعتموها، أَوْ أَسأَتم تَأويلها. وكما دعت إلى التوحيد هذه الكتب الثلاثة - دعا إليه جميع الرسل. قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (¬1) فهو مبدأ مشترك بين جميع الأديان: قامت عليه الأدلة العقلية، إلى جانب الأدلة النقلية. ومن اتخاذ البشر أربابًا: أن يأخذ تابعوهم بآراء متبوعيهم في تحليل أو تحريم، دون استناد إلى نص إلهي. أخرج الترمذي - وحسنه - من حديث عدي بن حاتم: أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما كانوا يحللِّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم". قال: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك". وإلى هذا المعنى، أشار قوله تعالى: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" (¬2). وقد جاء في أسفار العهد القديم: نصوص عديدة .. ناطقة بتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك (¬3). ¬

_ (¬1) الأنبياء: 25. (¬2) التوبة: 31. (¬3) راجع سفر الخروج فقرة (6) وفقرة (16) وفقرة (9) من سفر أشعيا.

ثم قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ): أي فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه: من توحيد الله، وعدم إشراك غيره معه في العبادة - مع أن ذلك أمر مجمع عليه في جميع الرسالات - فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة، ولكنهم أبَوا الحقَّ عنادًا، فقولوا لهم: أنصفونا واشهدوا معترفين لنا بأننا مسلمون مخلصون لربنا. وفي هذا الطلب، تعريض لهم بأنهم لا إسلام لهم - أي لا إخلاص منهم لربهم - حين اعتقدوا في عيسى وعزير ما اعتقدوه فيهما. كما أنه يؤذن بأن من قاله واثق بعقيدته في ربه، مطمئن إلى الأدلة التي أيقن بها. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} المفردات: (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ): أي لِمَ تجادلون فيه؟ فيقول كل منكم: إنه كان على دينه. (حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ): كأمر موسى وعيسى عليهما السلام. (فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ): هو أمر إبراهيم عليه السلام.

(حَنِيفًا): مائلا عن الأديان الزائفة، من الحنف. وهو الميل. (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ): إن أحق الناس بالانتساب إليه، هم الذين اتبعوه في شريعته، ممن أُرسل إليهم. (وَهَذَا النَّبِيُّ): محمد، لأن دينه التوحيد، كدين إبراهيم عليهما السلام. (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ): مجتبيهم ومحب لهم، فلهذا ينصرهم ويحسن جزاءَهم. التفسير 65 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: سبب النزول: روى عن ابن عباس أنه قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار اليهود، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده. فقال الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا. فأنزل الله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ ... ) الآية. ذكره ابن كثير. والمعنى: يا أهل الكتاب لما تُجادلون في إبراهيم، فينسبه كل منكم إلى دينه، والحال أنه ما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده بأَزمان بعيدة؟ فكيف يكون يهوديًا على شريعة موسى، أو نصرانيا على شريعة عيسى وهو سابق عليهما؟! كما أن كلتا الديانتين دخلهما التبديل، وزال ما بهما من العقائد السليمة والأحكام الصحيحة. فلا يشبهان ما كان عليه إبراهيم عليه السلام، من التوحيد والأحكام الشرعية الإلهية السليمة من التبديل. فكيف تقولون: إنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ أتحاجون في ذلك؟ فهل تتعقلون؟ فإن قيل: لماذا ينكر الله على اليهود والنصارى ما قالوا؟ ويدلل على جهلهم وعدم تعقلهم، بتقدم زمان إبراهيم على كتابيهم - مع أن القرآن قال مثل ما قالوا في حقه: "وَلكِن كَانِ حَنِيفًا مُّسْلِمًا" كما سيأتي - فكيف يكون مسلما وهو سابق على الإسلام؟ ولماذا صح هذا عن إبراهيم بالنسبة إلى الإسلام، ولم يصح عنه بالنسبة إلى اليهودية أو النصرانية؟

فالجواب: أن المراد من كونه مسلما: أن دينه يتفق مع الإسلام: في الخضوع والاستسلام لله وحده دون شريك، وفي تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد. كما أنه يتفق معه في سائر أُصول العقائد والأحكام. كشأن جميع الأديان السماوية. أما ما عليه اليهود والنصارى، فمخالف للأديان السماوية، حيث بدَّلوا التوراة والإنجيل، وحرَّفوهما عن أصليهما النازلين من عند الله، تحريفا يتصل بالنص وبالتأويل. فإذا نفى القرآن عن إبراهيم: أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا بقوله: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا" فمعناه: أنه لم يكن على ما جاءَ فيهما من العقائد الخاطئة: كالبنوة لله والتثليث، وكذلك الأحكام المحرفة التي لا يمكن أن تكون شرعًا لله في أي زمان. وإذا أثبت له أنه كان حنيفا مسلما بقوله: "وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا" فمعناه: أنه كان مائلا عن الأديان الباطلة - ومنها ما عليه اليهود والنصارى - ومنصرفا إلى الحق الذي جاء به الإسلام، فإنه هو الدين السماوي النظيف من تحريف البشر: المشتمل على المعارف والأحكام الإلهية الرئيسية: التي اشتركت فيها جميع الأديان السماوية، وإن اختلفت في كيفية تلك الأحكام المشتركة وطريقة أدائها. 66 - {هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: المعنى: ها أنتم هؤُلاء حاججتم فيما لكم به علم من أمر موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. فعندكم التوراة والإنجيل تعرفوا منهما أمرهم، وإن كنتم غيرتم فيهما وبدلتم. فلماذا تحاجون في أمر دين إبراهيمن وأنتم لا علم لكم بتفاصيله ولا بما جاء في صحفه؟ (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ): فلهذا جهلكم ورماكم بأنكم لا تعقلون. 67 - {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: المعنى: ما كان إبراهيم يهوديا كما ادعى اليهود، ولا نصرانيا كما ادعى النصارى. ولكن كان حنيفًا: أي مائلا عن الأديان الباطلة. مسلما: أي على طريقة الإسلام من التوحيد

وتنزيه عما لا يليق، والمحافظة على أحكام الله دون تبديل. فلم يقل: إن الله اتخذ له ولدا كما قالوا. ولم يقل: إن له شريكا في الأُلوهية والعبادة كما زعموا. 68 - {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}: سبب النزول: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رؤَساءُ اليهود: والله يا محمد، لقد أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهوديا. وما بك إلا الحسد. فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى: إن أحق الناس بإبراهيم وأولاهم بالانتماء إلى دينه، هم هؤُلاء الذين اتبعوه من أُمته التي بعث إليها، وهذا النبي محمد والمؤمنون معه من أُمته، فإن دينهم الإسلام، وهو يقوم على توحيد الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد، ودين إبراهيم كذلك، أما أنتم، فقد جعلتم عزيرا ابن الله، وجعلتم الله مجسما يمكن النظر إليه، وغيرتم في دينكم، وحرفتم في كتابكم، وكذبتم على أنبيائكم، ونسبتم إليهم الموبقات. فكيف تقولون: إنكم أَوْلى منا؟ ثم ختم الآية بقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ): أي ناصرهم ومجازيهم أحسن الجزاء. {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}

المفردات: (وَدَّتْ): أحبت. (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ): لو، بمعنى: أن. أي أن يضلوكم. (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ): الإضلال هنا بمعنى: الإهلاك مجازا. فالمعنى: وما يهلكون إلا أنفسهم بتمني إضلالكم. أو بمعنى: الإخراج عن الهدى. فالمعنى: وما تعود عاقبة الإضلال إلا على أنفسهم. أو بمعنى: الخداع. فهم يخدعونكم، وما يخدعون إلا أنفسهم في الحقيقة. (وَمَا يَشْعُرُونَ): وما يفطنون لذلك. (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ): أي وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها من التوراة والإنجيل. (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ): أي لماذا تسترونه أو تخلطونه به؟ التفسير 69 - {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}: سبب النزول: دعا اليهود حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية. فنزلت الآية. وقيل: نزلت في اليهود وفي النصارى، وعلى كل، فهي لبيان إضلالهم لغيرهم، إثر بيان ضلالهم في أنفسهم، والإضلال هنا: بمعنى الرد إلى الكفر. كما قاله ابن عباس. أو الإهلاك: كما قاله ابن جرير الطبري. والمعنى: أحبت جماعة من أهل الكتاب أن يوقعوكم في الضلال والكفر الذي تَرَدَّوْا فيه - بعد أن من الله عليكم بالهدى، وشرفكم بالإسلام - وما تعود عاقبة الإضلال لغيرهم ووباله إلا على أنفسهم، وما يفطنون لذلك، لما اعترى قلوبهم من الغشاوة وزعمهم أنهم على الحق. ويجوز أن يكون المعنى: أحبت طائفة من أهل الكتاب أن يهلكوهم: بالتكفير والإخراج عن الإيمان، وما يهلكون إلا أنفسهم بما يفعلون. وما يفطنون لذلك، لزعمهم أنهم على الحق.

وحاصل المعنى في كليهما: أن محاولتهم إضلال المؤمنين غير مجدية. فقد عصمهم الله بقوة الإيمان. فلا فائدة تُرجى مما يفعلون. بل الأمر بالعكس. فإن ما أرادوه سينقلب وباله عليهم وهم لا يفطنون لذلك. 70 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}: المعنى: يا أهل الكتاب، لماذا تكفرون بآيات القرآن النازل من عند الله وأنتم تعلمون - التوراة والإنجيل - ما يدل على صحتها، ووجوب الاعتراف بها؟ أو: لماذا تكفرون بآيات التوراة والإنجيل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون صدقها عليه، وموافقة أوصافه لما جاء فيها؟ أو: لماذا تكفرون بآيات الله الشاهدة بوحدانيته، وأنتم تعلمون ذلك بلا شبهة، فإنكم تشاهدون دلالتها على ذلك في كل حين؟ فكيف جعلتم له ولدا وهو غني عن الولد؟ وكيف قلتم إنه ثالث ثلاثة؟! 71 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}: المعنى: يا أهل الكتاب، لماذا تسترون الحق بالباطل أو تخلطونه به، وذلك بتحريفكم آيات التوراة والإنجيل وسوءِ تأويلكم لها؟ ولماذا تكتمون الحق في شأن محمد وبشاراته الموجودة في كتبكم، وأنتم تعلمون أنه حق، وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى؟ {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}

المفردات: (وَجْهَ النَّهَارِ): أوله سمى وجها، لأنه أول ما يواجهك منه. (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ): أي كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أُوتيتم. (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ): أي يحاجوكم به عند كتاب ربكم: بالتحاكم إليه. التفسير 72 - {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: سبب النزول: قال الحسن والسدي: تواطأَ اثنا عشر رجلا: من أحبار يهود خيبر وقرى عُرَيْنَة. وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار - باللسان دون الاعتقاد - واكفروا آخره، وقولوا: إننا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءَنا فوجدنا محمدًا ليس بذاك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه. فإذا فعلتم ذلك، شك أصحابه في دينهم. وقالوا: إنهم أهل كتاب. وهم أعلم به. فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ... انتهى. دبر اليهود هذه المكيدة: التي حكاها سبب النزول، على عادتهم في تدبير الكيد لمن عداهم. وأنت ترى أنها مكيدة خبيثة. ولكن الله يحفظ منها أولياءَه فإنه سبحانه: " ... لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ" (¬1) "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (¬2) فقد فضحهم المولى تبارك وتعالى. فأنزل هذه الآية تنبيها لرسوله وللمؤمنين. وحفظ الله الإسلام من هذه المكيدة الشنعاء: "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (¬3). والمعنى: وقالت طائفة من أهل الكتاب - وهم أحبار اليهود - لآخرين من قومهم: آمِنُوا ظاهرا بالقرآن الذي أُنزل على المؤمنين أول النهار، واكفروا آخره .. لعل هؤلاء ¬

_ (¬1) يوسف: 52. (¬2) آل عمران: 54. (¬3) التوبة: 32.

المؤمنين يرجعون عن دينهم، حين يرونكم - وأنتم أهل الكتاب - بعد أن خالطتم المؤمنين - كفرتم به، ودرستهم دينهم - وإنما قالوا: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) مع أنهم لا يعترفون بأنه أُنزل عليهم من كل شيءٌ - من باب المجاراة لما يقوله المؤمنون. 73 - {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: أشارت الآية السابقة، إلى أن رؤَساء اليهود، قالوا لأتباعهم: أظهرو الإيمان أول النهار بما أُنزل على المسلمين، واكفروا آخره، ليرجعوا عن دينهم إذا رأوكم - وأنتم أهل الكتاب - رجعتم عنه وكفرتم به. وإتماما لهذه المؤَامرة الشيطانية: أوصوا هؤُلاء الأتباع ألا يطلعوا المسلمين على شيء من أسرار كتابهم: كالبشارة بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأماراته .. فقالوا لهم: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ): من معاني الإيمان في اللغة: الثقة والطمأنينة. وهو المراد من قولهم: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ): والمعنى: ولا تثقوا إلا بأبناء ملتكم من اليهود. ولا تطمئنوا إلا إليهم. فلا تذيعوا أسرارنا إلى المسلمين، فإن ذلك يفسد علينا تدبيرنا، ويجعلهم يتمسكون بدينهم أكثر مما هم متمسكون به، ويجعلهم أيضا، يحاجوننا بما تخبرونهم به. وقد انتهى كلام اليهود عند قولهم: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ) كما رجحه الفراءُ. وبعد أن بين الله لرسوله مؤَامرتهم هذه، وفضحهم بهذا البيان أتبعه هذا التكليف: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) أي قل يا محمد لهؤُلاء المتآمرين، توبيخا لهم: إن الهدى هدى الله. فلا يتوقف على إظهاركم ما عندكم من البشائر بنبوة محمد، والعلامات الدالة عليه، ولا يزيله كفركم آخر النهار بعد إيمانكم أوله، فمن أراد الله هداه، أقنعه

بما أيد به رسوله من الآيات البينات، وأورثه الطمأنينة التامة في قلبه، وحفظه من كيد الكائدين، وكشف له دسائسهم ومؤَامراتهم. وأما قوله تعالى: (أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ) فهو مما أمر الله رسوله أن يقوله لليهود. وفي الكلام جملة مقدرة يقتضيها المقام. والتقدير: أتكيدون هذا الكيد كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أُوتيتم، أو يحاجوكم به عند ربكم؟! والمعنى على هذا: قل لهم يا محمد: إن الهدى هدى الله. أتفعلون ما تقدم من أمركم أتباعكم بالإيمان أول النهار والكفر آخره، وألَّا يُذيعوا للمسلمين نعت محمد في كتابكم، كراهة أن يُعطَى أحد مثل ما أُعطيتم من النبوة والكتاب، أو أن يحاجوكم بما أُوتيتم من كتاب عِندَ ربكم، بأن يقولوا لكم: تعالَوْا نَحْتَكِمْ إلى الله تعالى بقراءة كتابه الذي أنزله على موسى، ليظهر ما كتمتموه من نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وليَعْلُوَا بذلك حقهم على باطلكم، فقد جاءَت فيه بشاراته فأخفيتموها حقدا وحسدا؟! قل لهم يا محمد، إن الفضل بيد الله: يمنحه من يشاءُ. فلماذا تحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وتخصون بني إسرائيل وحدهم بفضله، والله واسع الفضل فلا يضيق على أحد من أهل الاستحقاق، بليغ العلم فهو أعلم حيث يجعل رسالته؟! وقد حكت سورة البقرة عنهم مثل تلك المؤامرة. فقد زَجُّوا جماعة منهم لينافقوا بالإيمان، وحذروهم من أن يخبروا المؤمنين بشيءٍ من صفات الرسول في التوراة، حتى لا يحاجوهم به، فلما أخبروهم بها، أنكروا عليهم ما فعلوا، وذلك ما حكاه الله فيها بقوله: "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (¬1). ويرى بعض المفسرين: أن الآية - كلها - يمكن أن تكون خطابًا من الله للمؤمنين على جهة التثبيت لقلوبهم وتنوير بصائرهم، وحفظهم من تشكيك اليهود، وتزويرهم في دينهم. ¬

_ (¬1) البقرة الآية: 76: فارجع إلى تفسيرها إن شئت.

والمعنى: ولا تصدقوا - يا معشر المؤمنين - إلا من تبع دينكم. أما غيرهم فاحذروهم. قل لهم يا محمد: إن الهدى هدى الله الذي أنزله على محمد. أما ما يقوله أعداءُ الإسلام فهو من تزويرهم، فلا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أُوتيتم من الهدى والحق ولا أن يحاجوكم بما لديهم من دينهم عند ربكم. فلا قدرة لهم على ذلك. قل: إن الفضل بيد الله ... إلخ. وفي الآية تفسيرات أُخرى: لا تخلوا من مآخذ - فلذا تركناها. 74 - {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}: يختص بنبوته من يشاءُ من أهل الجدارة والاستحقاق، ويمنح فضله من هو جدير به. والله ذو الفضل العظيم. فلا يمنعه عن أهل الفضل ومستحقيه. {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} المفردات: (بِقِنطَارٍ): المراد به هنا، المال الكثير. وقد تقدم الكلام عليه في قوله تعالى: "وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" (¬1). (بِدِينَارٍ): هو عملة ذهبية مستعملة في الجاهلية والإسلام. ¬

_ (¬1) آل عمران: 14.

(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ): يعنون بالأُميين: العرب؛ لجهلهم وقتئذ بالكتابة والقراءة: ومعنى كلامهم: ليس علينا فيما نأخذه من أموالهم مأخذ ولا حساب. التفسير 75 - {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: لا يزال الكلام موصولا في أهل الكتاب، وبيان أحوالهم. ففي هذه الآية: يبين الله أن أهل الكتاب لم يكونوا - في المعاملة المالية مع العرب - على خلق واحد. فمنهم أُمناء يؤَدون الحق إلى من استأمنهم عليه ولو كان مالا كثيرًا، كعبد الله بن سلام، استودعه عربي قرشي ألفًا ومائتي أُوقية ذهبًا - حين كان ابن سلام على يهوديته - فلما طلبها القرشي، أداها إليه كاملة. ومنهم خَوَنَةٌ يجحدون أمانات العرب التس استأمنوهم عليها - ولو كانت مالا قليلا - ولا يؤَدونها إلا بتكرار المواجهة والمطالبة. زاعمين: أن الله أحل لهم سلب أموال الأُميين، إذ يقولون: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ): أي ليس علينا إثم في أكل أموالهم. فلا حساب ولا عقاب من الله تعالى لهم. وهم - إذ يقولون هذا - يكذبون على الله تعالى، عن عمد وعلم بأنهم كاذبون. ومن هؤُلاء - رجل اسمه فنحاص بن عازوراءَ استودعه قرشي آخر دينارًا فجحده. وقد استفيد من الآية: أن الخيانة في الأمانة من أخلاق هؤُلاء، ولهذا يجب أن يتنزه عنها المؤمنون: امتثالا للمنهج الكريم الذي أوجب الله علينا نهجه وسلوكه: "إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... " (¬1). فلا يحل لمسلم أن يخون أحدًا ولو خالفه في الدين .. ¬

_ (¬1) النساء: 58.

قال رجل لابن عباس: "إنا نصيب - في العمد من أموال أهل الذمة - الدجاجة والشاة، ونقول: ليس علينا في ذلك بأس .. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم". اهـ. كما لا يصح لمسلم أيضًا: أن يتصف بالخيانة مع من خانه. قال صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمانةَ إِلَى مَنِ ائتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك" (¬1). والله تعالى يقول: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا" (¬2). قال القرطبي: في الآية رد على الكفرة: الذين يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ غير تحريم الله وتحليله، ويجعلون ذلك في الشرع. واستدل أبو حنيفة بالآية، على ما ذهب إليه من مشروعية ملازمة الغريم بقوله تعالى: (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا): واعلم أن الآية جاءَت مثالا للإنصاف. فلم ترم اليهود جميعًا بالخيانة. بل ذكرت أن فيهم بعض الأُمناء، إحقاقًا للحق. 76 - {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}: هذه الآية ردُّ لقولهم: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وإيجاب للوفاء بالحقوق، وبيان لمحبة الله لأهل الوفاء. والمعنى: بلى .. عليهم سبيل ومؤَاخذة في عدم رد الأمانات إلى أهلها: من أَوفى بعهده فأدى الحقوق لذويها، واتقى الله في أمره كله، فلم يخن الأمانة، ولم يكذب على الله، ولم يفعل سوءًا - فإن الله يحبهم لتقواهم ووفائهم، ويترتب على حبه لهم، منحهم أجزل الثواب. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في التاريخ. كما رواه أبو داود والترمذي والحاكم والطبراني. (¬2) المائدة: 8.

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} المفردات: (يَشْتَرُونَ): يستبدلون. (بِعَهْدِ اللَّهِ): بأمر الله المؤَكد. (ثَمَنًا قَلِيلًا): عوضًا قليلا. (لَا خَلَاقَ لَهُمْ): لا نصيب لهم. (وَلَا يُزَكِّيهِمْ): ولا يطهرهم. التفسير 77 - {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ... } الآية. سبب النزول: ذكرت لهذه الآية أسباب نزول عديدة. نذكر منها: ما أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها حقَّ امريءٍ مسلم لَقِيَ الله وهو عليه غضبان". فقال الأشعث بن قيس: فِيّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ قلت: لا. فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله، إذ يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ... ) الآية. وما أخرجه ابن جرير، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن الأخطب: حرّفوا التوراة، وبدّلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الأمانات وغيرهما، وأخذوا على ذلك الرشوة. والمعنى: إن الذين يستبدلون بما عاهدهم الله عليه، من بيان نعت محمد وعدم كتمانه، ويعتاضون عن أيمانهم الكاذبة الفاجرة، بالأثمان القليلة من أعراض الدنيا الزائلة - مهما عظمت - أُولئك لا نصيب لهم في ثواب الآخرة، ولا حَظَّ لهم في نعيمها. (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ): كلامًا فيه لطف بهم. (وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): بعين رحمته تعالى. (وَلَا يُزَكِّيهِمْ): أي لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة. بل يأمر بهم إلى النار. ولهم عذاب أليم على الكتمان، واستبدالهم عهد الله، والحلف زورًا، واستحلالهم أخذ المقابل على التزوير. قال القرطبي: وقد دلت هذه الآية والأحاديث على أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر، إذا علم المحكوم له بطلانه. وفي الحديث الصحيح عن أُم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلىَّ، وإنما أنا بشر، ولَعَلَّ بعضَكُم أن يكونَ أَلْحَنَ بحجتِه مِن بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار .. فليأخذها أو ليتركها" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الشيخان وأحمد.

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} المفردات: (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ): يميلونها بالكتاب؛ عدولا به عن الحق تحريفًا أو تأويلا. والَّليُّ: الميل. يقال: لوى برأسه إذ أماله. والكتاب: التوراة والإنجيل. التفسير 78 - {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: روى الضحاك عن ابن عباس: أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا. وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل، وألحقوا بكتاب الله تعالى، ما ليس منه. والمعنى: وإن من أهل الكتاب الخائنين، جماعة من علمائهم: يحرفون كلام الله، ويميلون به عن القصد، لتظنوا - أيها المسلمون - حينما تسمعونهم: أن ما حرفوه هو من صميم كتابهم الذي أنزله الله على رسولهم. وما هو - في الحقيقة - من الكتاب، بل من كلامهم. ويؤَكدون نسبته إلى الكتاب بقولهم: هو من عند الله، وما هو من عند الله. بل من عند أنفسهم. ويقولون على الله الكذب بنسبته إليه، وهم يعلمون أنهم عليه - سبحانه - يكذبون. وكما وقع التحريف في القراءَة، وقع في تأويل النصوص في الكتابة. ولهذا ترى التناقض والتكاذب والتهافت بين نسخها .. فمن يقرأُ الأناجيل الأربعة، يجد الاختلاف بينها واسع النطاق. وبخاصة: فيما تورده عن صلب المسيح عليه السلام (¬1)، وكذلك التوراة!! ¬

_ (¬1) انظر إنجيل متى: إصحاح 27/ 22 - 24، وإنجيل يوحنا: الإصحاح 19/ 1 - 12.

وأما احتجاج الرسول بقوله: "فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (¬1). فيُحمل على أن الرسول كان يعلم ببقاء بعض ما يفي بالغرض سالمًا عن التغيير. فإنهم لم يغيروا جميع ما في التوراة: إما لجهلهم بدلالة ما بقي على المقصود، أو لصرف الله إياهم عن تغييره. {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} المفردات: (وَالْحُكْمَ): أي الحكمة. وهي إصابة الحق. (رَبَّانِيِّينَ): منسوبين إلى الرب سبحانه. والألف والنون يُزادان للمبالغة كثيرًا كَلِحْيانيٍّ لعظيم اللحية، وَرَقَبَانِيٍّ لغليظ الرقبة. والمراد من الرباني: العالم الفقيه، الراسخ في علوم الدين. وقيل: الحكيم التقي. (بعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ): منقادون مستعدون للدين الحق. التفسير 79 - {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}: ¬

_ (¬1) آل عمران: 93.

لا يزال الكلام متصلا مع وفد نجران، فإنه روى: أن السورة - كلها - إلى قوله: "وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ... " نزلت بسببهم .. ذكره القرطبي. وَرَوَى ابن إسحق وغيره، عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: قال أبو رافع القُرظي - حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام - أتريد يا محمد، أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران يُقال له: الرئيس: أوذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره. ما بذلك بعثني، وما بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى الآية. وأخرج ابن أبي حاتم قال: كان ناس من يهود: يتعبدون الناس - من دون ربهم - بتحريفهم كتاب الله عن موضعه. فقال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ ... ) الآية. وأي كان سبب النزول، فمعنى الآية: ما صح وما استقام لِبَشر اصطفاه ربه لتبليغ الرسالة إلى خلقه، وأعطاه الكتاب الذي يرشد الناس إلى عبادة ربهم، وأعطاه الحكمة - أي حسن التصرف في الأُمور - وأعطاه النبوة العاصمة من الخطأ، ثم يتنكر لربه الذي الذي اختاره لهداية خلقه، فيقول للناس: كونوا عبادًا لي إشراكًا مع الله أو إفرادًا: متجاوزين توحيد الله إلى ما طلبته منكم. ولكن يقول لهم: كونوا علماء عاملين، كاملين في العلم والعمل، لأنكم تعلمون الناس الكتاب وتدرسونه. فأولى بكم أن تتبعوه ولا تحيدوا عنه. والتعبير بلفظ (ثم) لاستبعاد حصول ذلك القول من الرسول. وإذا كان لا يصح لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة: أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه، فلا يصح له أن يدعوهم إلى عبادة غيره من باب أولى. وبهذه الآية حصل الرد البليغ من الله تعالى على النصارى الذي أَلَّهوا المسيح وعبدوه، وعلى اليهود الذين أَلَّهو عزيرًا وقدسوه، وعلى من زعم أن محمدًا عليه الصلاة والسلام،

يقصد بنبوته: أن يدعو الناس إلى عبادته، وعلى الأحبار الذين يتعبدون الناس من دون ربهم: بتحريفهم كتاب الله عن موضعه لمصلحتهم. وخلاصة الرد: أن رُسُلَ الله برآءُ مما يصنعه أتباعهم. فإنه لا يعقل أن يأمروهم بهذا الكفر. وذلك هو ما يقوله عيسى عليه السلام، لربه لما يسأله: "أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ" إذ أجاب: "سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" ثم قال "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (¬1). والآية توجب على أهل العلم أن يقرنوه بالعمل، حتى لا تَزِلَّ قدم بعد ثبوتها. 80 - {وَلَا يَأمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ... } الآية. (وَلَا يَأمُرَكُمْ): بالنصب، معطوف على "يَقُولَ" في الآية السابقة، داخل معه في حيز ما لا يجوز على الرسل. والمعنى: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله، ولا أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا .. أيليق به - وهو رسول الله - أن يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مخلصون منقادون لربكم!! ومن قرأ: (وَلَا يَأمُرُكُمْ) بالرفع، فعلى الاستئناف. والمقصود من القراءَتين واحد. وهو استحالة حدوث ذلك من الرسول. وإذا كان سبب النزول وفد نجران، فلا إشكال في قوله تعالى لهم: (بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) فإن الإسلام يُراد منه حينئذ، الاستعداد للدين الحق، إرخاءً للعنان ومجاراة لهم. ¬

_ (¬1) المائدة: 116، 117.

وقيل إن سبب نزول الآيتين، ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض؟ أفلا نسجد لك، قال: "لا. ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله. فإنه لا ينبغي أن يُسْجَدَ لأحد من دون الله تعالى". وعلى هذا، فالإسلام على ظاهره. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} المفردات: (مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ): الميثاق، العهد الموثق المؤكد. (لَمَا آتَيْتُكُم): اللام موطئة للقسم. وما: بمعنى الذي. كما نقله سيبويه عن الخليل. أي للذي آتيتكموه. وقيل: إن ما شرطية بمعنى إن. وهو الظاهر. (وَحِكْمَةٍ): أي نبوة. سميت حكمة، لأنها منبعها. (إِصْرِي): عهدي وميثاقي. التفسير 81 - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ... } الآية.

واذكر يا محمد، لأهل الكتاب، كيف أخذ الله العهد على النبيين جميعًا: لئن آتيتكم من كتاب تبلغونه لأُممكم، وحكمة - أي نبوة ورسالة إليهم - ثم جاءَكم رسول مصدق لما معكم لتصدقُنَّ بأنه مرسل من عندي إلى الناس، ولتنصرنه بالتبشير به، وحض أُممكم على أن تؤمن به، إذا بُعِث إليهم، وتنصره وتؤَيده فيما جاءَ به؟ قال تعالى لهم بعد أخذ الميثاق عليهم: هل أقررتم بالإيمان به ونصرته وأخذتم على ذلكم عهدي وقبلتموه لتنفذوه وتعملوا به؟ قالوا: أقررنا ووافقنا. قال الله تعالى: فليشهد بعضكم على بعض بهذا الإقرار، وأنا معكم من الشاهدين على إقراركم، وشهادة بعضكم على بعض. والمراد من الرسول الذي يجيئهم مصدقًا لما معهم: كل رسول يعاصرهم أو يأتي بعدهم. فالآية الكريمة، تفيد: أن الله تعالى، أخذ الميثاق على الأنبياء: أن يصدق بعضهم بعضا ويؤيده ولا يعارضه، ويوصى باتباعه. فإن دين الجميع واحد. قال صلى الله عليه وسلم: "الأَنبِيَاءُ بَنُو عَلَّاتٍ (¬1) أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ". وبعموم الرسول، أخذ سعيد بن جبير وقتادة وطاووس والسدي والحسن. وهو ظاهر الآية. قال طاووس: أخذ الله ميثاق الأَوّل من الأنبياء: أن يؤمن بما جاءَ به الآخر. ومن العلماء قال: المراد من الرسول، هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأرجح، وبه قال الإمام عليّ رضي الله عنه. فقد أخرج عنه ابن جرير قال: "لم يبعث الله تعالى نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: لئن بعث - وهو حي - ليؤمن به ولينصرنه. ويأمره فيأخذ العهد على قومه" ثم تلا الآية. وسواءٌ أكانت الآية عامة في تأييد جميع الرسل بعضهم لبعض، وحث أُممهم على اتباعهم، أم خاصة بتأييدهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرته بحَثِّ أُممهم على تأييده إن بعث - فالغرض من الآية: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وقد أيده الله بالمعجزات المحققة لرسالته، وجاء مصدقا لما مع الأنبياء قبله، فهو مؤَيد من المرسلين قبله. وأن على أهل الكتاب المعاصرين له: أن يؤمنوا به، امتثالا لما جاءَ عنه في كتب رسلهم. فإن كتب المرسلين توصي بالإيمان بكل رسول. ¬

_ (¬1) أي بنو ضرات، رواه الشيخان من حديث أوله: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ... ".

والقرآن الكريم جرى على هذا النهج، قال تعالى: "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (¬1). 82 - {فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: أي فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الميثاق والإقرار والشهادة - فَأُولَئِكَ هُمُ الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه: المستحقون لأشد العقاب. ولما كان دين الأنبياء واحدًا، ودين محمد هو دين الأنبياء جميعا - أتبع هذا التهديد قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)} المفردات: (أَسْلَمَ): دان بالإسلام. أو انقاد وخضع. (وَالْأَسْبَاطِ): الأسباط، الحفدة. والمراد بهم هنا: ذرية يعقوب عليه السلام. فهم حفدة لأبيه إسحاق وجده إبراهيم. (وَمَن يَبْتَغِ): ومن يطلب. ¬

_ (¬1) البقرة: 136.

التفسير 83 - {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}: سبب النزول: ذكر الواحدي في سبب النزول، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام: كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه. فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم" فغضبوا. وقالوا: والله ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك. فأنزل الله هذه الآية. وعلى أي حال كان سبب النزول، فالكلام - في هذه الآية - مع أهل الكتاب الذين استمسكوا بدينهم، ونازعوا في الإسلام، وأعرضوا عنه .. فبعد أن أخبرهم الله تعالى، أنه أوصى الأنبياءَ بتأييده ونصرته، وأنذر من تولى عنه، ووبخهم الله على إعراضهم، وأنكره عليهم - قال ما معناه: أيتولى هؤُلاء عن الإسلام إلى أديانهم المحرفة المنسوخة، فيبغون بذلك دينا غير دين الله!! كيف يطلبون غير دينه سبحانه وتعالى، وقد استسلم وخضع له من في السموات والأرض طائعين وكارهين! فمشيئة الله نافذة فيهم، وَقَدَرُهُ جارٍ عليهم، أحبوا ذلك أم كرهوا. فالصحيح مستسلم لقدر الله، محبٌّ لما وهبه الله من صحة. والعليل منقاد لقدر الله بمرضه طوعا أو كرها .. وهكذا كل أقدار الله تجري في خلقه، فيخضعون لها، وإن جرت على غير ما يحبون ويشتهون. فما شاءَه الله كان، وما لم يشأه لم يكن. فكيف يتمرد أهل الكتاب على دين هذا الإله القوي الفعال، ويكفرون به، مع أنهم إليه يُرجعون مقهورين، فيحاسبهم على طغيانهم وكفرهم!

ويحتمل أن يكون المراد به: ما يشمل العقلاء وغيرهم، ويكون المعنى: ولمشيئته تعالى، خضع وانقاد جميع الكائنات في السموات والأرض: طائعة أو مسخرة. كما في قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ... " (¬1) الآية. 84 - {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: لَمَّا بين الله تعالى: أنه أخذ الميثاق على كل نبي: أن يؤمن بغيره من الأنبياء، وأنه لا يصح لأهل الكتاب أن يكفروا بدين الله الذي أنزله على محمد - وهو ممن أخذ الله الميثاق على الإيمان بهم وبدينهم - لَمَّا بين الله هذا كله - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، أن يؤمن بمن سبقه من الأنبياء، وألا يفرق في الإيمان بين أحد من رسله، ليكون في الإيمان بهم، كما كانوا في شأن إخوانهم الأنبياء، وهو خاتمهم. والمعنى: قل يا محمد، معبرا عن نفسك، وعن المؤمنين: آمنا بالله تعالى، وبما أُنزل علينا من القرآن العظيم، وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأنبياء من أبنائه الأسباط، من كتب. وما أُوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل، وما أُعطي سائر الأنبياء من ربهم من مختلف الكتب: لا نفرق بينهم، فلا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما فعل اليهود، إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكما فعل النصارى إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونحن له منقادون: نطيعه فيما أمرنا به، وننتهي عما نهانا عنه. 85 - {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: ومن يطلب دينا غير دين الإسلام يتدين به: عقيدة وعملا، فلن يقبله الله منه، لأنه غير ما شرعه الله لخلقه. وإذا كان الله لا يقبل دينا غير الإسلام - فكل من دان بغيره، يكون في الآخرة من الخاسرين، لأنه محروم من الثواب، خالد في العقاب. ¬

_ (¬1) الحج: 18.

روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسه بيده، لو أصبح فيكم موسى بن عمران، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم". وروى أبو يعلى، والبزار، وأورده ابن كثير: "لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي" وفي رواية: "لو كان موسى وعيسى حَيَّيْينِ لما وسعهما إلا اتباعي". {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}. المفردات: (لَعْنَةَ اللهِ): أي الطرد من رحمته. (وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ): أي ولا هم يمهلون. فعذابهم موصول مستمر. أو لا يُنظَر إليهم، ولا يعتد بهم. التفسير 86 - {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}: سبب النزول: أخرج عبد بن حميد وغيره، عن الحسن: أنهم - أي أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى - رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم، في كتابهم، وأقروا وشهدوا أنه حق. فلما بُعث من غيرهم، حسدوا العرب على ذلك. فأنكروه. وكفروا بعد إقرارهم.

والمعنى: أي سبيل لأن يهدي الله قوما كفروا بمحمد، بعد ما آمنوا به قبل مبعثه، امتثالا لما جاء في كتبهم، وعلموا أن الرسول محمدًا حق حينما رأوه - بعد مبعثه - مطابقا لما جاءَ عنه في كتبهم، وجاءتهم الآيات الواضحات والمعجزات الشاهدات بصدقه!! والله لا يهدي القوم الظالمين لأنفسهم بكفرهم، ما داموا مُصِرِّين على عنادهم وحسدهم للرسول، على ما آتاه الله من فضله. 87، 88 - {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}: بعد أن بين الله شناعة الكفر بعد الإيمان، ووضع أن شريعة الرسول حق بما أيده الله به من الآيات، أتبعه عقاب أُولئك الكافرين. وذكر أن: أولئك الذين كفروا - بعد ما جاءَهم الرسول مؤَيدا بالآيات والمعجزات بعد ما عقدوا العزم على الإيمان به حين يبعث - يلعنهم الله، ويطردهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة، وتطلب لهم الطرد من رحمة الله، ويلعنهم الناس أجمعون، من أهل الإيمان أتباع الحق، خالدين في اللعنة - أو في جهنم - التي هي مقر الملعونين: لا يخفف عنهم عذاب الله، ولا هم يُمهلون بأن يؤَخر عنهم العذاب من وقت لآخر، بل العذاب موصول مستمر. ويجوز أن يكون معنى: (وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) ولا ينظر الله إليهم نظر رحمة، ولا يعتد بهم. فهم مهملون متروكون في عذابهم. وهذه الآية وما قبلها وما بعدها إلى قوله تعالى: (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) - وإن نزلت في أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد مبعثه، مع أنهم كانوا مجمعين على الإيمان به حين يُبعث - لكنها عامة الحكم في كل من يكفر بعد الإيمان، فتشمل المرتدين بعد الإسلام.

89 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}: يعني: أن من تابوا من بعد كفرهم، وأصلحوا ما أفسدوه بالندم والإقبال على الطاعة بعد الإدبار عنها، فإن الله يغفر لهم ويرحمهم، لأن الله عظيم الغفران، بليغ الرحمة، وذلك من عظيم كرمه، ووافر رحمته. وقيل: معنى أصلحوا: دخلوا في الصلاح. كما يقال: أصبحوا: دخلوا في الصباح. وعلى هذا يكون الفعل لازما غير متعد، بخلافه على المعنى السابق فهو متعد. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}. المفردات: (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ): الذين أَخطأُوا طريق النجاة. (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ): معطوف على شرط مقدر يقتضيه المقام. والتقدير: لو أنفقه فيما يراه خيرا في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة. (لَن تَنَالُوا): لن تُصيبوا ولن تدركوا. (الْبِرَّ): الخير والإحسان. (مِمَّا تُحِبُّونَ): بعض ما تحبون فلا ينفقونه كله.

التفسير 90 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}: سبب النزول: لا يزال الكلام موصولا في أهل الكتاب. فقد نزلت هذه الآية في اليهود، كما قال قتادة وعطاء والحسن - واختاره الطبري - كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن وبالذنوب التي اكتسبوها. أو نزلت في اليهود والنصارى، كما قال أبو العالية: كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعد إيمانهم بنَعْتِه وصفتِه. ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم. وسواء أكان سبب النزول، اليهودَ وحدهم أم اليهود مع النصارى، فالآية - بعمومها - تشمل كل من كفر بعد إيمان. فيدخل في حكمها: من ارتد عن الإسلام. والمعنى: إن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما يجب الإيمان به بعد ما كانوا مؤمنين، ثم ازدادوا كفرا بتماديهم في الكفر والمعاصي - لن يقبل الله توبتهم إن تابوا بعد فوات الأوان. وذلك حين يحضرهم الموت. (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ): عن طريق الحق، المخطئون سبيل النجاة. فإن قيل: إن قبول التوبة مطلق في قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ" (¬1) فكيف قيد قبولها هنا بكونها قبل حضور الموت؟ قلنا: إن ذلك راجع إلى تقييدها بذلك في قوله تعالى: "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ... " (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لم يُغَرْغِرْ (¬3) ". ¬

_ (¬1) الشورى: 25. (¬2) النساء: 18. (¬3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.

91 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ... } الآية. المعنى: إن الذين كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وماتوا وهم كفار دون أن توقظهم الآيات، وتلفتهم النذر، فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبا لو أنفقه - قبل أن يموت - في المبرات والخيرات. وكذا لو اقتدى به يوم القيامة. لو فرض أن له مالا يومئذ وأن الفداء بالمال ينفع .. قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (¬1). والغرض من قوله تعالى: (وَلَو افْتَدَى بِهِ) تعميق اليأس في نفوس الكافرين المصرين على كفرهم، حتى يعلموا أنهم لا نجاة لهم بغير الإيمان. (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ): أُولئك المصِرُّون على الكفر حتى ماتوا، لهم عذاب شديد الإيلام. وما لهم من ناصرين ينقذونهم من ذلك الجزاء الخالد. 92 - {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}: هذا كلام مستأنف، لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم، إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم. المعنى: اختلف في تفسير البِرِّ الوارد في الآية. فابن عباس وابن مسعود وغيرهما، فسروه بالجنة. وقيل: هو العمل الصالح. فقد جاءَ في الحديث الصحيح: "عَلَيْكُم بالصِّدْق، فإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ. وإِنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة .. " رواه مسلم والبخاري وأحمد والترمذي. وقيل غير ذلك، مما يدور حول هذين المعنيين. ¬

_ (¬1) المائدة: 36.

والأنسب تعميمه في كل خير وإحسان في الدنيا والآخرة: يمنحه الله تعالى لعباده (¬1). والمراد من الإنفاق: ما يشمل الزكاة، وصدقة التطوع، والأوقاف الخيرية، والهبات، وسائر وجوه الإنفاق في سبيل الله. ومعنى الآية: لن تدركوا برِّيَ الوافر، وتصيبوا إحساني الغزير في الدنيا والآخرة - حتى تنفقوا - في وجوه الخير التي شرعتها لكم - بعض ما تحبون من الأموال المكسوبة من وجوه الحل. فلا يقبل الله الإنفاق من كسب حرام. فهو ردٌّ على منفقه. ولا يعظم الله ثواب من أنفق مما لا يحبه ولا تميل إليه نفسه من الأموال، لقلة منفعته لآخذه. قال تعالى: "وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ" (¬2). فالإنفاق: ينبغي أن يكون مما له أثر نافع عند من يأخذه، فإنه يدل على وفرة الرغبة في العطاء، وشدة الإحساس بحاجة من ينفق عليه، والرغبة في تنفيس كربته، ودفع حاجته. والتعبير بقوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) يؤذن بمشروعية إنفاق البعض دون الكل. ولشدة عناية المولى سبحانه، باختيار مال النفقة من أحسن ما عند المنفق، وأعظمه نفعًا - ختم الآية بقوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ): يريد: وأي شيءٍ تنفقونه - قلّ أو كثر - بعلمه الله، فيثيبكم بحسن نياتكم ومقدار نفقاتكم وصفاتها. وفي ذلك ما فيه من الحث على إنفاق الجيد، والتحذير من أنفاق الرديء. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسارعون إلى ما يدعوهم إليه مولاهم على خير وجه. فما إن نزلت هذه الآية حتى بادر المياسير منهم إلى تنفيذها. ¬

_ (¬1) راجع ما سبق في تفسير قوله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ... " البقرة: 177. (¬2) البقرة: 267.

يروي أصحاب الصحاح - واللفظ للنسائي عن أنس - قال: لما نزلت هذه الآية: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا من أموالنا. فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلها في قرابتك، في حسان بن ثابت، وأُبيّ بن كعب". وفي الموطأ "وكانت أحب أمواله إليه بيرحاء. وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب" وذكر الحديث: وجاء فيه أنه أرشده إلى أن يوصي بالثلث لا بالكل. إذ قال له: "بالثلث والثلث كثير. إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس". وكذلك فعل زيد بن حارثة. فقد عمد إلى فرس يقال له: سَبَل. وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إِلَيَّ من فرسي هذه. فجاءَ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه في سبيل الله، فأجابه الرسول "إن الله قد قبلها منك". وأعتق عُمَرُ نافعا مولاه. وكان عبد الله بن جعفر عرض عليه ألف دينار ثمنا له. وهكذا كانوا يفعلون. فليتأس بهم مياسير المؤمنين، فينفقوا في سبيل الله مِمَّ يحبون، لا مِمَّا يسترذلون.

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}. المفردات: (الطعَام): ما يطعم بالفم، كالخبز، والفاكهة، أو ما يؤَدى إليه، كالحنطة والشعير. والماءُ من الطعام؛ لأنه يطعم بالفم. ولذا قال تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (¬1) " أي: ومن لم يذق ماءَ النهر فإنه مني. (حلاً): أَى حلالا. والمراد: الإخبار عن أكل الطعام بأنه حلال لا ذات الطعام؛ لأن الحِل والحُرمة لا يتعلقان بذوات الأشياء ,بل بأَفعال العباد المتعلقة بها. والحِل: مصدر. فيوصف به المذكر والمؤنث , والمفرد وسواه , بلفظ واحد. {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}:إسرائيل؛ يعقوب عليه السلام. وبنوه: ذريته. {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}: دين إبراهيم. {حَنِيفًا}: مائلا عن الباطل إلى الحق. التفسير 93 - {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}: ¬

_ (¬1) البقرة: من الآية 249.

بعد أن أبطل القرآن الكريم - فى الآيات السابقة - بعض مفتريات أهل الكتاب , شرع فى إبطال فريتين أُخريين لهم: إحداهما: تتصل ببعض أحكام الطعام. والثانية: تتصل بالقبلة. وسيأْتي بيان ذلك. سبب النزول: ذكر الواحدى فى سبب النزول؛ أنه حين قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أنا على ملّةِ إبراهيم" قالت اليهود: وأنت تأكل لحوم الإِبل وأَلبانها؟. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "كان ذالك حلالا لإِبراهيم عليه السلام , فنحن نحلله" فقالت اليهود: كل شيء نحرمه اليوم , كان محرما على نوح وإبراهيم , حتى انتهى إلينا. فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيباً لهم. والمعنى: كل الطعام كان حلالا لبني إسرائيل , من قبل أن ينُزْل الله التوراة على موسى. فلم يحرم الله تعالى شيئاً منه , في شرائعه التي أنزلها على إبراهيم وابنه واسحق وحفيده إسرائيل -يعقوب -عليهم السلام , إلا ما حرمه إسرائيل على نفسه: اختياراً ونذراً. ولم يحرمه الله عليه ولا على أمته: تشريعاً. وليس صحيحا ما زعموه من أن الطعام المحرم عندهم كان محرما على نوح وإبراهيم وسائر الأنبياءِ , وأن ذالك ثابت فى التوراة - بل هو ابتداع منهم. أو حرّمه الله عليهم بظلمهم كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (¬1). قل لهم يا محمد: فأتُوا بالتوراة فاتلوها , لتقيموا الدليل بذلك , على أن تحريمها شرع قديم لمن تقدّم من الرسل , إن كنتم صادقين فيما زعمتموه. وبهذا التحدى , أخزاهم الله وفضحهم؛ إذ لم يقرءُوا التوراة أمامه , حتى لا يظهر كذبهم. وكان هذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. أما ما حرمه إسرائيل على نفسه , فهو لحوم الإبل وأَلبانها. وكانت أحب الطعام إليه. وسبب ذلك على ما رواه الإمام أَحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال حضرت ¬

_ (¬1) النساء: من الآية 160.

عصابةٌ من اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا حدِّثنا عن خلالٍ نسألك عنهن: لا يعلمهن إلا نبى. قال: سلونى ما شئتم. ولكن اجعلوا ليَ ذمةَ الله وما أخذ يعقوبُ على بنيه , لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لَتُبَايعُنِّي على الإسلام؟ قالوا فذلك لك. قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال: أخبرنا: أي الطعام حَرَّمَ إسرائيلُ على نفسه؟ " ثم ذكر بقية أَسئلتهم. وأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم , عن السؤَال الأول: "أنْشُدُكم بالذي أنزل التوراة على موسى: هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سَقَمه , فنذر الله نذراً لئن شفاه الله من سَقَمه لَيُحَرِّمَنِّ أحبَّ الأَشياءِ إليه , وأحب الطعام إليه. وكان أحب الطعام إليه لُحْمان الإِبل , وأحبُّ الشراب إليه ألبانَها فقالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد عليهم" إلى آخر الحديث. فهذا الحديث , دل على أَنهم أقروا النبي صلى الله عليه وسلم , على أن تحريم لحوم الإبل وألبانها على يعقوب عليه السلام , لم يكن بشرع الله , بل بنذر يعقوب. فليس من حقهم أن يدَّعوا عموم التحريم , وأن ذلك تشريع نازل من السماء. بل هو أمر شخصي يتعلق بإسرائيل نفسه. . وفاءً بنذره. فكل نَذْر يجب الوفاءُ به , فى حق صاحبه دون غيره. ولعل إسرائيل عليه السلام , اعتبر ذلك قربة إلى الله من جهة ما فيه من قهر النفس , وإبعادها عن أحب ما تشتهيه. وقهرُ النفس من المقاصد الشرعية. وبالرجوع إلى التوراة في مظان هذا الموضوع , لم نجد فيها أساساً لدعواهم أن ذلك التحريم شرعه الله في أَي عهد من عهود النبوات، ولا لدعواهم أن التحريم انتقل إليهم من الشرائع السابقة كما زعموا، ولا لدعواهم أن الله حرمها عليهم بتحريم يعقوب لها على نفسه! ولقد كان اليهود يدعون أن ذلك شرع قديم، ولكن الرسول كشف الغطاء عن الحق فبهتوا، وبان لهم- بذلك- أنهم في ضلالهم يعمهون. ويرى الإِمام محمد عبده: أَن المراد بإِسرائيل في قوله: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} هو شعب بني إسرائيل؛ لأَن هذا هو الذي كان معروفًا بينهم عند إِلاطلاق.

ويرى الشيخ رشيد رضا في تفسيره: المنار: "أن هذا هو الأَقرب. إِذ لو أُريد بإِسرائيل يعقوب نفسه، لما كان هناك حاجة إلى قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} لأَن زمن يعقوب سابق على زمن نزول التوراة , سبقاً لا يُشتبه فيه حتى يحترز عنه. ثم قال: والمتبادر عندي. أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه: ما امتنعوا من أكله وحرموه على أنفسهم. بحكم العادة والتقليد لا بحكم من الله. كما يعهد مثل ذلك في جميع الأُمم. ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك. مما حكاه القرآن في سورتي: المائدة والأَنعام. . انتهى كلام الشيخ رشيد. ولكن الراجح: أن المراد بإِسرائيل يعقوب نفسه , كالرأي الأَول. لحديث الإمام أَحمد الذي تقدم. وفائدة قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} أَنه لو كان الله شرع له ولبني إسرائيل ذلك، لذكر في التوراة؛ لأَنه سابق على نزولها على موسى. ولمّا اتضح أَنهم مفترون كاذبون بهروبهم من قراءَة التوراة - عقب الله الآية الكريمة بوعيد من يفتري الكذب على الله، وذلك في قوله تعالى: 94 - {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: يعني: فمن اختلق على الله الكذب بنسبة حكم شرعي إِليه تعالى - من بعد وضوح الحجة على أَنه ليس كذلك - فأولئك هم الظالمون لأَنفسهم بالكفر، ولمن أَضلوهم بالإِغواءِ، لأنهم يتحملون التبعة الناشئة عن اختلافهم: منهم وممن اتبعوهم. وذلك منتهى الظلم. وما في الآية من تهديد، ينتظم كل من افترى الكذب على الله بعد ما تبين له الحق. واليهود داخلون في ذلك بالاُولى. 95 - {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: أَى: يا محمد، قل لليهود - بعد ظهور كذبهم فيما زعموا - ظهر صدق الله فيما أَخبر به من أَن كل الطعام كان حلاًّ لبني إسرائيل إِلا ما حرَّم إِسرائيل على نفسه، كما ظهر- صدق الله في كل ما أخبر به على لسان نبيه. . فاتبِعُوا دين إبراهيم. فقد كان علي الحنيفية السمحة. وما كان من المشركين.

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. المفردات: (أوَّلَ بَيْتٍ): أول موضع لعبادة الله وحده. (وُضِعَ لِلنَّاسِ): خصص لعبادتهم. (بَكَّةَ): من أسماءِ مكة. عَلَم على البلد الحرام، وقيل: بكَّة: للبيت، ومكة للبد. أَصله من البكِّ. وهو الازدحام. (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ): دلائل واضحات. وسيأتي بيانها. (مَقَامُ إبْرَاهِيمَ): المقام هو؛ الحجر الذي كان يقوم عليه إبراهيم، عند بناءِ البيت، أَو هو المكان الذى كان يقوم فيه للصلاة والعبادة. (آمِناً): أَي أَوجب الله الأَمان لمن يأوى إليه. فلا يُعْتَدَى عليه بقتل أو بأذى. التفسير 96 - {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ. . .} الآية. بعد أَن كذَّبَ الله اليهود في زعمهم أَن ما حرّموه من الطعام شرع قديم لجميع الرسل. وبعد ما بيَّن أَن كل الطعام كان حلَا لًا لهم كغيرهم - كذبهم في زعم آخر، وهو: أَن بيت المقدس أعظم من الكعبة، فهو أَولى منها بأَن يكون القبلة (¬1). ¬

_____ (¬1) ارجع إلى ما سبق بيانه في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا .. } سورة البقرة: (142) وما بعدها.

سبب النزول: روى عن مجاهد قال: تفاخر المسلمون اليهود، فقالت اليَهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأّنبياءِ، وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل.، فأَنزل الله هذه الآية. المعنى: إِن أَول بيت أُقيم لعبادة الله وحده، هو البيت الحرام بمكة. فقد بناه إبراهيم عليه السلام - بأَمر الله، وعاونه في البناءِ ولده إسماعيل. وأَمره الله أن يؤَذِّن في الناس بالحج إليه. قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬1). أَخرج الشيخان، واللفظ لمسلم، عن أَبي ذر- رضي الله عنه - قال: "سأَلت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَوّل بَيْتٍ وُضِعَ فِي الأرضِ؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأَقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أَربعون عاماً (¬2). ثم الأَرض لك مسجد. فحيثما أَدركتك الصلاة، فَصَلَّ". وإذا كانت الكعبة أَول بيت وضع لعبادة الناس لربهم، فلا وجه لتفضيل بيت المقدس عليه , وإيثاره بأَن يكون هو القبلةَ دونها. (مُبَارَكاً): بركة البيت بكثرة ثواب من يعبد الله فيه بصلاة وطواف وغيرهما من أَنوْاع الطاعات، وبتيسير الرزق لأَهله. ¬

_____ (¬1) الحج: آية 27. (¬2) قال ابن قيم الجوزية في "زاد المعاد" تعقيبا على هذا الحديث: قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال: معلوم إن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل القائل؛ فإن سليمان كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذى أسسه هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام بعد بناء جده إبراهيم الكعبة، بهذا المقدار أي بأربعين عاما.

{وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}: يهديهم إلى عبادة الله وحده، بحجهم إليه، وصلاتهم فيه , واستقبالهم له. 97 - {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ... } الآية. أى في البيت دلالات واضحات على أَنه من بناءِ إبراهيم عليه السلام. منها: مقام إِبراهيم. وهو الحجر الذى كان يقوم عليه عند بناءِ البيت. أو المكان الذي كان يقوم فيه للصلاة والعبادة. ومنها: وجوب الأَمن لداخله استجابةً لدعاءِ إبراهيم عليه السلام، بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ... } (¬1). ومنها: وجوب الحج إِليه استجابة لنداءِ إبراهيم، كما في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬2). وكما ثبت هذا بالقرآن، فهو ثابت أيضاً تاريخياً. ومعروف بالتواتر لدى العرب جيلا بعد جيل. ومع دلالة هذه الآيات البينات على أولية البيت الزمنية، فهي - كذلك- أدلة واضحة على فضله وعُلُوّ شأْنه. وقد عَرَضت الآية إلى فرضية الحج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}: والحج: أَحد الأَركان الخمسة للإسلام. فمن استطاعه لزمه، وندب إليه تعجيله. والاستطاعة: تكون بوجود الزاد الماءِ والراحلة، والقدرة البدنية، وأمن الطريق. والمقصود من الزاد: مايكفيه من الطعام مدة سفره في حجه، زائدًا على نفقة من تلزمه نفقته ممن يعول. والمراد من الراحلة: وسيلة الانتقال أَياً كانت. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: ¬

___ (¬1) البقرة من الآية: 126. (¬2) الحج آية: 27.

أَي ومن أَنكر الفريضة أَو تهاون فيها. فوبال ذلك عائد عليه وحده؛ لأنَّ اللهَ سبحانه غنى عن العالمين. فلا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم. {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬1). وفي أسلوب الآية وختامها بقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: ما يدل على أهمية فريضة الحج، وعظيم منزلتها عند الله، وأنه فريضة لايحل لأَحد أن ينكرها، وإِلا كان كافرًا بشريعة الله. كما لا يجوز له أَن يتكاسل عنها، حتى لا يكون كافراً بنعم الله عليه، غير شاكر له على أفضاله. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}. المفردات: {بِآيَاتِ اللَّهِ}: المراد بها؛ الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها آيات القرآن الكريم. {شَهِيدٌ}: مشاهد لما تعملون، رقيب عليه. {تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: تمنعون الناس عن طريقه، وهو الإِسلام. ¬

_ (¬1) النمل من الآية: 40.

{تَبْغُونَهَا عِوَجًا}: تريدونها معوجة. {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}: تشهدون بأنها سبيل مستقيمة. {يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}: يستمسك بدينه. التفسير 98 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. . .} الآية. المعنى: أمر الله نبيه محمدًا صلي الله عليه وسلم، أَن يوبخ كفار أهل الكتاب على كفرهم بما جاء به من الحق، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. . .} الآية. وإنما دعاهم بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}؛ للمبالغة في تقبيح كفرهم؛ فإِن من كان على بينة من كتاب الله: تهدى إلى الحق - يكون كفره أشد قبحًا من غيره. فقد جاءَ في كتابهم من الأمارات الواضحة، ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم , وصحة نبوته، إذ كانوا يتحدثون بذلك قبل بعثته. فلما بُعثَ، تفرقوا واختلفوا. وقد ختمت الآية بقوله عز وجلٌ: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}: لتشديد التوبيخ، وتأكيد الإِنكار عليهم، وتهديدهم على هذا الكفر القبيح. 99 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ. . .} الآية. وهذا أَمْرٌ آخر من الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم , بتوبيخهم على الإِضلال، إِثر أَمره إياه بتوبيخهم على الضلال. وتكرير الخطاب {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: لتأْكيد المبالغة في التوبيخ؛ لأن ذلك العنوان - كما يستدعى منهم الإِيمان بما هو مصدق لما معهم - يستدعى منهم كذلك، دعوة الناس إليه، وترغيبهم فيه. فصدهم عنه - بعد كفرهم به، وهم يعلمون أنه حق - في أَقصى مراتب القبح، وأبعد درجات الجحود. إذ لم يكتفوا بكفرهم وضلالهم، بل أَمعنوا في الإِضلال وأَوغلوا في الفتنة، فاحتالوا لفتنة المسلمين، وصَدِّ من يريد الإِسلام. عن الدخول فيه. وادعوا أَن صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ليست في كتبهم، ولا وجدت البشارة به عندهم.

ثم أفصح عن غايتهم من جحودهم وكفرهم، فقال سبحانه مِنْ قائل: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: أي تريدون أَن تكون سبيل الله معوجة، وأنتم تشهدون أنها لا تحوم حولها شائبة اعوجاج. ثم ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: وفي هذا من التهديد والوعيد ما لا يخفى. ولمَّا كان كفرهم صريحًا ظاهرًا، ختمت الآية الأُولى بشهادة الله تعالى على ما يعملون. ولما كان صدهم للمؤمنين، بطريق السر والخفية، ختمت الآية الثانية بما يحسم حيلتهم من إِحاطة علمه - سبحانه وتعالى - بأعمالهم. 100 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}: المعنى: قال ابن كثير: يحذر الله تبارك وتعالى، عباده المؤمنين، من أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما منحهم من إرسال رسوله. كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم. . .} (¬1) الآية. وهكذا قال ههنا: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}: 101 - {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ. . .} الاَية. هذا استبعاد لوقوع الكفر منهم. والمعنى: كيف يقع منكم الكفر -أَيها المؤمنون- بسبب إِغواءِ الكافرين لكم، وعندكم ما يعصمكم منه، فإن آيات الله تنزل عليكم من آن لآخر. وفيكم رسوله يبلغها إليكم- ويبينها لكم - على أتم وجه. ومن كانوا كذلك، فلن يتأَثروا بإغواءِ الكافرين، مهما كان هذا الإِغواء! ¬

_ (¬1) البقرة: من الآية 109.

{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أي ومن يستمسك بدين الله -وهو الإِسلام- فقد هُديَ إلى طريق مستقيم: يوصل إلى الحق. فلا تُخْدَعوا بأكاذيب أعدائكم الكافرين. فهم بعيدون عن الطريق المستقيم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. المفردات: {حَقَّ تُقَاتِهِ}: أى التقوى التي تليق بِربوبيته وعبوديتكم. {بِحَبْلِ اللَّهِ}: بدينه. وهو الإِسلام. وسماه حَبْلاً؛ لأَنه يربط المسلمين- بعضهم ببعض- رباطًا وثيقًا، كما تربط الأشياءُ بالحبل. التفسير 102 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: أمر الله - سبحانه- المؤمنين بأن يتقوه حق تقواه. وذلك ببذل أَقصى الجهد في امتثال أَوامره واجتناب نواهيه. بحيث يُطَاعُ ولا يعْصَى، وَيُذْكَرُ ولا يُنْسَى، وَيُشْكَرُ ولا يُكْفَر به.

وكرَّر نداءَهم بوصف الإِيمان؛ تشريفًا لهم إِثر تشريف. وحفزًا لهم على الطاعة؛ إِذ مقتضى الإِيمان: أن ينصاعوا إلى الامتثال. بحيث لا يراهم الله حيث نهاهم. والمراد من قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} هو عين المراد من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1) لأَن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. ثم عقب الله ذلك بنَهْيِهم عن الموت إلا على الإِسلام. والمراد: أن يستمروا على إِسلامهم فلا يباغتهم الموت إِلا وهم على هذه الحال الكريمة. 103 - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. . .} الآية. بعد أن: نهى الله المؤمنين عن طاعة أهل الكتاب، ونبَّههم إلى عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة، وذَكَّرَهم بما يجب لله عليهم من تقوى الله حق تقاته، وتمسكهم بالإِسلام حتى يأْتيهم بالموت وهم مسلمون. - بعد هذا كله - عاد فأمرهم با الاعتصام بحبله، أي التمسك بالإِسلام: مجتمعين غير متفرقين. وأَن يتذكروا نعمة الله التى أنعم بها عليهم حين كانوا أعداءً: يقتل بعضهم بعضاً استجابة لعصبية الجاهلية, فأنقذهم من هذا ونجاهم منه، بأن هداهم للإِسلام، وألَّفَ به بين قلوبهم، فأصبحوا يتواصلون بالأُلفة واجتماع الكلمة. وبهذا، صاروا إِخوانًا متحابين. وأعواناً متناصرين. فالإِسلام يوجب الأُخوة بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2). كما يوجب الولاءَ والنصرة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬3). {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}: ¬

_ (¬1) التغابن من الآية: 16. (¬2) الحجرات من الآية: 10. (¬3) التوبة من الآية: 71.

أي وكنتم - بسبب كفركم وما جرَّكم إِليه من عداوتكم - مشرفين على الوقوع في نار جهنم؛ إِذ لو أدرككم الموت - على هذه الحال - لوقعتم فيها. ولكن الله أَنقذكم منها، بأَن هداكم للإِيمان، وزيَّنه في قلوبكم، فكان ربَاطا موحدًا لكم. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: أَي بمثل هذا البيان الواضح، يبين الله لكم سائر آياته؛ لكي تثبتوا على الهدى، وتزدادوا فيه اعتصاماً وقوة. 104 - {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... } الآية. يأْمر الله المؤمنين - بعد استكمال إيمانهم في أَنفسهم - أَن يمتد خيرهم، ويتجاوز برُّهم إلى غيرهم: بأَن يكون منهم جماعة متفقهة في الدين: يدعون الناس - على بصيرة - إلى الإِسلام. وكله خير. فيأْمرون بكل ما عُرِف حسنه عقلا وشرعًا، وينْهَوْنَ عن كل ما هو منكر كذلك. وقد دلت الآية على أَن الأُمة: يجب عليها أَن تخصص طائفة منها: تقوم بالدعوة إلى الله , كما قال سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1). وهذا لا يعفى سائر أفراد الأُمة من القيام بهذا الواجب: كل بحسب طاقته. ويؤَيد هذا، ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من رأَى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإِن لم يستطعْ فبلسانه، فإِن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإِيمان". وفي رواية أُخرى لمسلم. "وليس وراءَ ذلك من الإِيمان حبةُ خردل". ¬

(¬1) التوبة من الآية: 122.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أي وأولئك المتصفون بتلك الصفات العالية , هم الفائزون بخيْري الدنيا والآخرة. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. التفسير 105 - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: المعنى: {وَلَا تَكُونُوا} أيها المؤمنون {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}: في دينهم {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: وهم اليهود والنصارى , حيث تفرق كل منهما فرقا مختلفة يكفِّر بعضها بعضا. واختلفوا التأويلات الزائغة، وكتم الآيات الناطقة وتحريفها، بسبب ما أخلدوا إليه من حطام الدنيا .. فعلوا ذلك، من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات، التى تحول دون الخلاف وسوء التأويل: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. أَي وأُولئك المختلفون لهم عذاب عظيم.

والآية وعيد للمتفرقين. وتهديد لمن يتشبه بهم من المؤمنين. والاختلاف المنهى عنه في الدين المنصوص عليه في الآية: إنما هو الاختلاف في الأُصول. أما الاختلاف في الفروع. الناشيء عن الاجتهاد في فهم النصوص , فأمر ثبت على عهد رسول الله صلى الله عليد وسلم وأقره. ومن ثمَّ، كان للمجتهد المخطيء أجر كما أن للمصيب أجرين , لأَن الاختلاف في الفروع أفسح المجال للرخص. والمسلمون بحاجة إليها. ثم زاد الله عباده المؤمنين تحذيرًا من التفرق والاختلاف، وترغيبًا في الاتحاد والائتلاف. ببيان مآل المؤتلفين والمختلفين بقوله عز وجل: 106 - {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. . .} الآية. أي: اذكروا يوم تَبْيَض وجوه المؤمنين بما يلقونه من مبشراتٍ ونعيم وتسوَدّ وجوه الكافرين بما يلقَون نُذُر وعذاب أليم. والمراد بياض الوجوه وسوادها: بهجتها وكآبتها. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (¬1). {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: المعنى: أما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم - على سبيل التوضيح - أكفرتم بعد إِيمانكم؟ فذوقوا العذاب بسبب كفركم .. والمراد بهم: أهل الكتاب. فقد كفروا بما جاءَهم من الحق، فتفرقوا واختلفوا في دينهم , وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم , بعد مبعثه , وكانوا يؤمنون به من قبل، ويستفتحون به على الذين كفروا. ¬

_ (¬1) عبس: من الآيات 38 - 42.

وفي هذا يقول تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ... } " (¬1). إذ المراد بالكتاب: القرآن الكريم. 107 - {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)}: المعنى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} في هذا اليوم , ممن ثبتوا على الحق في الدنيا، لم يتفرقوا فيه {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أي في جنته ونعيمها , {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي باقون فيها أبدا. {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬2). وإنما عبر عن الجنة بالرحمة؛ لأَنها دار رحمته، للإشعار بأَن دخولها، إِنما هو بفضل الله وبرحمته. لا بالعمل وحده. 108 - {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}: المعنى: تلك الآيات العظيمة المبشرة بإثابة الله للمؤمنين. المنذرة بتعذيبه للكافرين {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}: يا محمد. {بِالْحَقِّ}: أي محقين عادلين فيما بَيّنَاهُ فيها من جزاءٍ للعباد حسب أعمالهم {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا} ولو قليلا {لِلْعَالَمِينَ}. أي وإذا كان لا يريد ظلماً لأحد من العالمين ولا يقصده فأنه لا يقع منه، فكل عبد ينال جزاءَ عمله حسب الوعد والوعيد. دون أن ينقص ثوابه إِن كان محسنًا، أَو يزاد عقابه إِن كان مسيئاً، أو يعاقب بغير ذنب. ولكن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم باختيارهم الضلالة والهدى , واستحقاقهم العذاب بذلك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬3). 109 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. . .} الآية. أي هما - وما فيهما - لله وحده: خلقًا وملكاً. وتدبيراً ومآلاً. ¬

_ (¬1) البقرة من الآية: 89. (¬2) الحجر آية: 48. (¬3) يونس آية: 44.

{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: أي وإليه - سبحانه وتعالى وحده - يؤول التصرف في شئون الدنيا والآخرة. ومن ذلك مجازاته لكلٍّ بحسب عمله. {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. المفردات {أُمَّةٍ} الأُمة: الجماعة. {الْفَاسِقُونَ}: الخارجون عن طاعة الله. {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ}: يعطوكم ظهورهم منهزمين. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}: أُحيطوا بالذلة كما تحيط الخيمة بمن ضربت عليه. والمراد بالذلة: الهوان والصغار , بتسلط غيرهم عليهم.

{ثُقِفُوا}: وجدوا. {بِحَبْلٍ}: بعهد. {بَاءُوا}: رجعوا. {الْمَسْكَنَةُ}: الضعف والحاجة الناشئة عن فطرة فيهم. التفسير 110 - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. . .} الآية. هذا كلام مستأنف، سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق، والدعوة إلى الخير. والمعنى: كُنتُمْ أَيها المؤمنون - في علم الله القديم - خير جماعة قضى الله إخراجها وإِظهارها لهداية الناس. {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}: استئناف بيَّن الله تعالى به سبب كونهم خير أُمة أُخرجت للناس. أي تأمرونهم بما عرِف حسنه شرعًا وعقلا، وَتنْهَوْنهم عما ينكره الشرع والعقل. والمراد من الإِيمان باللهِ: الإِيمان بكل ما يجب الإِيمان به من صفاته تعالى، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ... وإِنما قدم الأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإِيمان باللهِ - مع تقدمه عليهما وجودًا ورتبة - لأن دلالتهما على أنهم خير أُمة أُخرجت للناس، أَظهر من دلالته على هذه الخيرية لأن جميع الأمم تشترك في الإيمان. وليقترن بقوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}: والآية تشير إِلى تقبيح اليهود وذمهم، بتركهم الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما سجل الله عليهم ذلك بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (¬1). ¬

_ (¬1) المائدة من الآية: 79.

والمعنى: ولو آمنوا جميعاً، مثل إيمانكم بمحمد وبكل ما جاء به، لكان ذلك خيرا لهم من البقاءِ على ما هم عليه؛ حُبًّا في الرياسة واستتباع العوام؛ لأن إيمانهم بمحمد - وبما جاءَ به - يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة. ولكنهم اختلفوا فكِان {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ}: كعبد الله بن سلام، وأَضرابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}:أَي المتمردون في الكفر , الخارجون عن الحدود. 111 - {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى. . .} الآية. سيقت هذه الآية، لتطمئن المؤمنين الصادقين؛ بأَن هؤُلاءِ الفاسقين من أهل الكتاب , لن يستطيعوا إلحاق أي ضرر بالغ بهم، ما داموا معتصمين بدينهم. وكل ما يستطيعون أن يلحقوه بهم، لا يتعدى أن يكون أَذى يسيراً لا يبالَى به: كالطعن: والشتم، والسخرية، والتهديد، والوعيد. {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ}: أَي ينهزموا مدبرين متقهقرين. {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}: عليكم. وظهورهم على المسلمين - في بعض الأَحيان - يرجع إلى ترك المسلمين الاعتصام بدينهم، وإِهمالهم إِعداد العدة , كما أمرالله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1). 112 - {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ. . .} الآية. المعنى: أحيطوا بالذلة واحتوتهم، كاحتواءِ الخيمة بمن فيها. والمراد: أنهم أُلزموا الذلة، والتصقت بهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم. فلا يظهر لهم أمر، ولا يرتفع لهم شأن، ولا يقوم لهم ملك من ذات أنفسهم. ¬

_ (¬1) الأنفال: من الآية 60.

وقوله تعالى: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا}: أَي؛ حيثما حلُّوا، ووجدوا. {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}: الاستثناءُ هنا من عموم، الأَحوال، أي أن الذلة مضروبة عليهم في جميع الأَحوال، إِلا في إِحدى حالتين: الأُولى: اعتصامهم بحبل من الله. والثانية: اعتصامهم بحبل الناس. والمراد من حبل الله. إِسلامهم. والمراد من حبل الناس دخولهم تحت ذمة المسلمين، على أن يؤَدوْا الجزية في مقابل حمايتهم، بشرط أن لا يخونوا ولا يغدروا فإن فعلوا هذا أَو ذاك - من الاعتصامين - كف المسلمون عن إذلالهم بالقتل والأَسر. وأجاز بعض المفسرين: أن يراد من حَبْل الناس، لجوؤُهم إلى قوة غالبة في الأرض من غير المسلمين يستظلون بحمايتهم، ويستمدون منهم العون والقوة، كما هو شأنهم في هذا الزمان. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}: أي: رجعوا به، مستحقين له. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}: أي: فُرضت عليهم، وأُلصقت بهم , فاليهودي يشعر في نفسه - دائمًا - بالفقر، وإن كان موسراً غنيًّا، وبالضعف وإن كان قويًّا. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: أي. ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة عليهم، واستحقاقهم لغضب الله - واقع بهم بسبب استمرارهم على الكفر بآيات الله، وقتلهم الأَنبياءَ، وهم يعتقدون أنهم غير محقين في قتلهم.

{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}: أَي: ذلك الكفر , والقتل للأَنبياءِ , كائن بسبب عصيانهم، واعتدائهم المستمر على حدود الله. وتلك طبيعة اليهود دائمًا: تَمَرُّدٌ على الدِّين , واعتداءٌ على حرمات الله وحقوق عباده. {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}. المفردات: {قَائِمَةٌ}: مستقيمة عادلة , من أَقمت العود فقام. على معنى: استقام. {آنَاءَ اللَّيْلِ}: ساعاته وأَوقاته. {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: يبادرون إليها, ويتنافسون فيها. {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}: فلن يُحْرَموا ثوابه. وحسن الجزاءَ عليه. والأصل في الكفر: الستر، أي: لن يحْجَبَ عنهم ذلك الأَجر.

التفسير 113 - {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}: لما بيَّن الله سبحانه - فيما تقدم - أَن من أَهل الكتاب مؤمنين. وأن أكثرهم فاسقون. وفصَّل قبائح الفاسقين - ناسب أَن يعدد فضائل المؤمنين. ومهد لذلك بنفى المساواة بين الفريقين بقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً}: أَي: ليس أهل الكتاب متساوين في هذه الأوصاف القبيحة. ثم شرع في تعداد فضائل المؤمنين منهم فقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}. أَي: جماعة مستقيمة على الحق. وهم الذين أسلموا منهم. {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}: أي: يقرءُون القرآن حال صلاتهم من الليل. ومن تتمة تلك الفضائل , صفات أُخرى بينها بقوله تعالى: 114 - {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. . .} الآية. وهذه الصفات التي وصفهم الله بها. لم تكن موجودة في الفريق الآخر منهم. فقد انحرفوا عن الحق. ولم يعبدوا الله في جوف الليل , وأشركوا به , وألحدوا في صفاته , ووصفوا اليوم الآخر بخلاف وصفه. ولم يأمروا بالمعروف ولم يتناهوا عن منكر فعلوه , ولم يسارعوا في فعل الخيرات. فلذلك لا يستوون - عند الله - مع من آمن منهم. كما حكم الله بذلك. وقد ختمت الآية بقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ تأْكيداً لاستقامة أمر تلك الجماعة المؤمنة منهم؛ وِإيذاناً بفساد الفرقة التي لم تؤمن.

115 - {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ. . .} الآية. أَي: ما يقدمونه من أفعال الخير، لن يضيع عند الله ثوابه، ولا ينقص جزاؤُه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}: أي: لا يخفى عليه عمل الأَتقياءِ، ولا يذهب لديه أَجر من أَحسن عملا. وفي ذلك بشارة لهذا الفريق، وإِشعار بأَن التقوى أَساس الخير وعماده. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. المفردات: {صِرٌّ}: بَرْدٌ شديد. {حَرْثَ قَوْمٍ}: زرعهم. التفسير 116 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. . .} الآية. هذه الآية -والتي بعدها- في شأْن الكفار جميعًا. ويدخل فيهم أَهل الكتاب دخولا أَوليًّا.

والمعنى: إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به - كيفما كان كفرهم - لن تدفع عنهم أَموالهم - مهما بلغت - ولا أَولادهم - مهما كانت معونتهم - من عذاب الله شيئاً: قليلاً كان أَو كثيراً. وليس المراد: خصوص الأَموال والأَولاد، بل كل ما يعتبره الإنسان وسيلة قوة ومنعة. وإِنما خص الأموال والأَولاد بالذكر؛ لأَن الإِنسان - في الغالب - يدفع عن نفسه تارة بالفداءِ بالمال , وأخرى بالاستعانة بالأولاد. فأَخبرهم الله تعالى بأَن الكافر لا ينفعه شيءٌ من ذلك في الآخرة، ولا مخلص له من العذاب ولا محيص عنه. {وَأُولَئِكَ}: المتصفون بالكفر. {أَصْحَابُ النَّارِ}: أهلها، الملازمون لها. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: لا يبرحونها أبدًا، كما قال سبحانه: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (¬1). 117 - {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ. . .} الآية. بعد ما بين - سبحانه - أَن أَموال الكفار لا تدفع عنهم العذاب في الآخرة، أتبع ذلك بيان أَنهم لو أنفقوها في وجوه الخير والبر، لا يثابون عليها؛ لأَن الثواب على الطاعات، مشروط بتحقق الإيمان. والمعنى: مثل ما ينفقونه في حياتهم الدنيا من المبرات والخيرات - في إحباطه بالكفر وعدم انتفاعهم به - كزرع قوم ظلموا أَنفسهم بالكفر والمعاصى، فأرسل الله عليه ريحًا فيها برد شديد، فصيَّرته حطاماً لا ينتفع به، كما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬2). {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}: بإحباط الأَجر وذهاب الثواب على ما أنفقوا. ¬

_ (¬1) المائدة: 37. (¬2) الفرقان: 23.

{وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أي: ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم، فأضاعوا ما عملوا، وأحبطوا ثواب ما أَنفقوا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}. المفردات: {بِطَانَةً}: بطانة الرجل؛ خَاصَّتُهُ وموضع سره. مأْخوذةٌ من بطانة الثوب. {مِنْ دُونِكُمْ}: من غير ملتكم. {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}: لا يُقَصِّرُون ولا يدخرون وسعا في إِنزال الخبال بكم. والخبال: الشر والفساد. {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} العَنَت: المشقة. والمعنى: هم تمنوا ما يشق عليكم. {الْبَغْضَاءُ}: الحقد والكراهية. {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: بما انطوت عليه القلوب من الأَسرار. فإِنه سبحانه يعلم السر وأخفى.

التفسير 118 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. . .} الآية. بعد أن بين الله أحوال المؤمنين والكافرين، حذر المؤمنين من موالاة الكافرين، وجَعلهم موضع ثقتهم، باطلاعهم على بواطن أُمورهم. فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}: أي: لا تتخذوا من غير المسلمين أصفياءَ: تجعلونهم مواضع سِرِّكم ومشورتكم لأَنهم لا يدخرون وسعاً في إلحاق الشرِّ والفساد بكم. {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}: أَي: أحَبوا أن يقع بكم ما يشق عليكم من أنواع المحن والبلاء في شئون دينكم ودنياكم. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: أي: قد ظهرت الكراهية من أفواههم، على فلتات أَلسنتهم. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}: وَمَا تنطوى عليه صدورهم من الحقد والكراهية لكم أكبر مما ظهر على أفواههم. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: قد أوضحنا لكم الآيات الدالة على شديد بغضهم لكم. فلا توالوهم إن كنتم من ذوي العقول الواعية؛ فإِن مقتضى العقل السليم: ألا يتخذ الإِنسان أَحدًا من غير ملته صفيًّا له ومحل ثقه. وفي هذا البيان ما يقطع عذرهم، إِذا ما خالفوا عن أمر ربهم، واتخذوا أولياءَهم من أعدائهم. 119 - {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ. . .} الآية. لما نهى الله المؤمنين عن موالاة الكافرين، وبين أَنهم يبغضونهم ولا يدخرون وسعًا في خبالهم، عقب ذلك بما يؤَكد وجوب الانتهاء عن موالاتهم. فقال:

{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}: أي: أنكم تخلصون لهم، وتوادونهم، وترجون لهم الخير. ولكنهم لا يحبونكم، ولا يرغبون إلا في خبالكم وفسادكم، ثم إنكم - إلى جانب حبكم لهم - تؤمنون بكل ما أُنزل من الكتب السماوية، وبالرسل الذين أُنزلت عليهم. {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا}: نفاقًا لكم وخداعًا حتى تستبطنوهم وتخبروهم بأسراركم، فيستغلوا مودتكم فيما ينفعهم، وفيما يَجْلب الخبال فيكم. {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}: أي: إذا فارقوكم، وخلصوا إلى أَنفسهم، عضوا أناملهم من الغيظ حسرة وأسفاً، حيث لم يجدوا إلى التشفي والنيل منكم سبيلا. وعض الأَنامل في الآية، كناية عن شدة الغيظ. {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}: أي: قل لهم يا محمد: موتوا بغيظكم من بقائنا على الإسلام؛ فإن الله مُتِمُّ نعمته ومكمل دينه , وَمُعْلٍ كلمته، ولو كره الكافرون. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: فيعلم ما تنطوى عليه ضمائرهم، وَتُكنُّهُ سرائركم من البغضاءِ والحسد. ويكفي المسلمين شره , ويجازيكم عليه. 120 - {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا. . .} الآية. المعنى: إن نالكم خير -ولو كان قليلاً- أَحزنهم، وإن نزلت بكم مصيبة فادحة يفرحوا بها ويشمتوا بكم. {وَإِنْ تَصْبِرُوا}: على عداوتهم وكيدكم {وَتَتَّقُوا}: الله في كل أُموركم: بفعل الواجبات وترك المنهيات. ومن ذلك ترك محبتهم واطلاعهم على أسراركم. {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}: أي لا ينال منكم مكرهم وحيلهم التي يدبرونها لكم شيئاً قليلا من الضرر, بحفظ الله الذي وعد به، ما دمتم تتقون الله وتخشون عقابه.

{إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ}: من الكيد لكم، ومحاولة إلحاق الأَذى بكم. {مُحِيطٌ}: لا يعْزُبُ عنه من ذلك شيءٌ. ومقتضى علمه تعالى بما يعملون: أن يحاسبهم ويجزيهم عليه. وقرئ بتاءِ الخطاب {تَعْمَلُونَ}: والخطاب للمؤمنين. والمعنى: إن الله محيط بما تعملونه، أيها المؤمنون، من الصبر والتقوى وسائر الطاعات. والإِذعان لما نهاكم عنه من مَودَّةٍ من ليس على دينكم، وإطلاعهم على أَسراركم. وفيه إشارة إِلى أن الامتثال مدعاة للغلب والفوز والانتصار، وأن المخالفة عن أوامر الله، سبيل الندامة والهلاك. {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}. المفردات: {غَدَوْتَ}: أصل الغدوِّ؛ الذهاب أَول النهار، ثم استعمل في مطلق الخروج. {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}: تنزلهم الأَماكن المناسبة للقتال.

{هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا}: أشرفتا على الهزيمة. {بِبَدْرٍ}: بَدر. اسم لمكان بين مكة والمدينة كانت به الغزوة المعروفة باسمه. {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}: قليل العَدَد والعُدَّة. {من فَوْرِهِمْ}: أي من ساعتهم. {مُسَوِّمِينَ}: مسوِّمين بكسر الواو المشددة. متخذين سمة. أي علامة تميزهم وبفتحها , بمعنى معلَّمين من الله تعالى. التفسير 121 - {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ. . .} الآية. سيقت الآية للاستشهاد على أن مصير الأتقياءَ الصابرين. النجاة من كيد الأَعداءِ. وأَن عدم الصبر والتقوى. لا يورث إلاَّ الأذى والضرر. والمعنى: اذكر يا محمد - وذكِّر من معك - يوم خرجت من بيتك تنظم المؤمنين. وتنزلهم مواقفهم من القتال. وأماكنهم من الصفوف لخوض المعركة: ترشدهم بما ترى , وتحذرهم المخالفة , وتعاهدهم وتوصيهم ألا يغادروا أماكنهم. مهما رأَوا من أمارات الانتصار. وكان ذلك في غزوة أُحد. وجاء الخطاب - هنا - خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع عموم الخطاب - فما قبله وفيما بعده - له وللمؤمنين. لاختصاص مضمون الكلام هنا به عليه الصلاة والسلام. وأمرُهُ بتذكر الوقت - مع أن المراد تذكر الأَحداث الواقعة - فيه مبالغة في استحضار ما وقع فيه. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أي سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وأعمالكم. فيجازى كلا على قوله ونيته وعمله. روى المفسرون وأصحاب السير: أن المشركين نزلوا بأُحد. قبيل منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة , يريدون القتال. فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم.

أَصحابه. فقال عبد الله بن أُبي بن سلول وفريق من الأَنصار: يا رسول الله، أَقم بالمدينة ولا تخرج إليهم؛ فوالله , ما خرجنا منها إلَى عدوّ قط إلا أصاب منّا , ولا دخلها علينا عدو إلا أَصبنا منه. فكيف وأنت فينا؟ فإِن أَقاموا أقاموا بشر محبس. وإِن دخلوا علينا قاتلهم الرجال. ورماهم النساءُ والصبيان بالحجارة من فوقهم - وإن رجعوا - رجعوا خائبين. وأشار آخرون بالخروج. فقال عليه الصلاة والسلام: "رأيت في منامي بقرةً مذبوحة حولي فأوَّلتها خيرًا. ورأيت في ذباب سيفي ثُلَماً، فأولْته هزيمة. ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوَّلتها المدينة. فإِن رأَيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم؟ ". فقال رجال - فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد - اخْرُجْ بنا إلى أعدائنا، وبالغوا. حتى دخل فلبس لامته (¬1) فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم، وقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال عليه السلام: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته - بعد ما لبسها - حتى يحكم الله بينه وبين عدوه (¬2) ". فخرج بعد صلاة الجمعة، وأصبح بشعب أُحد يوم السبت. ونزل في عدوة الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أُحد. وسوى صفهم. وأمَّر عبدَ الله بن جُبَير على الرماة، وقال لهم: "انضحوا عنا بالنَّبل: لا يأتونا من ورائنا". وكان عدد المسلمين ألفًا، وعدد المشركين ثلاثة آلاف: جاءُوا ليأخذوا بثأرهم يوم بدر. 122 - {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا. . .} الآية. والمعنى: اذكر يا محمد، حين همت طائفتان - وهما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا أي تجبنا وتضعفا. وكانت هاتان الطائفتان جناحَيْ عسكر المسلمين يوم أحد. ¬

_ (¬1) لامته: درعه. (¬2) رواه الترمذي والبيهقي وابن ماجه.

وقد روى المفسرون أيضاً: أنه عليه الصلاة والسلام، خرج في زهاءِ ألف رجل، ووعدهم النصر إن صبروا واتقوا. فلما بلغوا الشوط - بستان بين المدينة وأُحد - انخذل عبد الله بن أُبي رأس المنافقين، في ثلاثمائة رجل. وقال: عَلَامَ نقتل أنفسنا وأولادنا؟! فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم (¬1)، فقال ابن أُبي: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. فَهَمّ الحيَّانِ باتَّباعه , فعصمهم الله، فمضَوْا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أَن الهمَّ لم يكن عزيمة , إنما هو حديث نفسي، وخاطرة خطرت، مما لا يسلم منه إنسان غالباً؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}: أيْ عاصمهما عن اتباع هذا الخاطر. ولذلك مضيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: المراد بالتوكل: الاعتماد على الله - سبحانه - مع الأخذ بالأَسباب. وإلا كان تواكلا. والمعنى: وعلى الله فليعتمد المؤمنون، ولا يفكروا في الفشل. فإنه سبحانه، ينصر أهل العزم والثبات من عباده المؤمنين المتوكلين. كما قال تعالى، تذكيرا ببعض ما أَفادهم التوكل. 123 - {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. . .} الآية. أَي: ولقد نصركم الله على قريش ببدرٍ وأَنتم قليلو العدد والعدة، فقد كان المسلمون يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا أو أربعة عشر، في قلة من السلاح أو المطايا. وكان عدُوُّهم ما بين التسعمائة والألف، في كثرة من السلاح والزاد والعتاد. ولو أن غزوة بدر جرت على مقاييس القوة والاستعداد - دون التوكل على الله - لكان النصر لقريش دون المسلمين. ولكن النصر جرى على سنة الله: من نصر المتقين الصابرين المتوكلين على الله، الممتثلين لأَمر قائدهم. ¬

_ (¬1) وقيل إن الذي تبعهم وقال هذه المقالة، هو عبد الله بن عمرو- والد جابر بن عبد الله.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ}: في الثبات، والصبر، وامتثال أوامِره، واجتناب نواهيه. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي: لعل الله ينعم عليكم بالنصر فتشكروه عليه. 124 - {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ}: المعنى: اذكر يا محمد، إذ تقول للمؤمنين يوم أُحد: أَلن يكفيكم أن يمدكم ربكم المتفضل عليكم، بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من الله؛ لتثبيتكم وتقوية قلوبكم على أعدائكم، إن أنتم توكلتم عليه وصبرتم! ولذا، عقب هذه الآية بقوله: 125 - {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}: (بلى): أي نعم، يكفيكم الإِمداد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من الله وعقَّب إقراره لكفاية هذا العدد، بأَن وعدهم بأنهم - إن صبروا واتقوا وعاجلهم المشركون بالقتال في الحال - يُمِدهم بخمسة آلاف من الملائكة، فور إتيان الأَعداء بلا تأخير .. ولكنهم لَمَّا لم يصبروا وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم - لم تنزل الملائكة، ولذا لم يحصل النصر كما حصل في غزوة بدر. كما سيأتي بيانه في سورة الأنفال. ومعنى: {مُسَوِّمِينَ}: مميزين أنفسهم بعلامات يُعْرَفون بها: أو مغيرين على الأعداءِ. من: سَوّم على القوم: إذا أَغار عليهم، ففتك بهم. وقرىء: {مُسَوِّمِينَ} - بفتح الواو المشددة - بمعنى معلَّمين بعلامات من الله يعرفونها. أو مرسلين من قِبَله. من سوّمه بمعنى: أَرسله. وسياق ما تقدم من الآيات، ظاهر في أن الحديث هنا في غزوة أحد. وأما ذكر غزوة بدر في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. . .} الآية. فهو متوسط بين طرفي قصة أُحد؛ لتذكيرهم بنصر الله لهم فيها , حين صبروا.

وهناك قول ثان. وهو أَن الظرف في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} متعلق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}. وعلى هذا , يكون وعد الرسول للمؤمنين بالإمداد بثلاثة آلاف وخمسة آلاف - إنما ذلك في غزوة بدر، بعد ما أمدهم بألف؛ ليزدادوا ثباتًا. وهذا الرأى ارتضاه ابن جرير، وهو مرويّ عن الحسن البصري، وعامر الشعبي، والربيع بن أنس وغيرهم. والظاهر هو الرأي الأوَّل، كما قلنا. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. المفردات: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}: لينقص فريقًا من الكافرين بالقتل والأَسر. {يَكْبِتَهُمْ} الكبت: شدة الغيظ، أَوْ وَهْنٌ يقع في القلب. {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}: فيرتدوا منقطعي الآمال.

التفسير 126 - {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ. . .} الآية. أي وما جعل الله الإِمداد بالملائكة ولا الوعد به، إِلا بشارة لكم بالنصر , وتطميناً لقلوبكم؛ حتى تثبتوا أمام عدوكم. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: فهو الميسر لأَسبابه. {الْعَزِيزِ}: الذي يَغلِبُ ولا يُغْلَبُ. {الْحَكِيمِ}: الذي يضع الأمور في مواضعها. فينصر من يشاءُ , على مقتضى حكمته. 127 - {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: متعلق بقوله تعالى فيما تقدم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} (¬1) وما بينهما. تحقيق له، وبيان لكيفيته. أَي نصركم ببدر؛ لينتقص بذلك منهم بقتل فريق , وأسْر آخر. وهو ما كان من قتل سبعين وأَسر سبعين من صناديدهم - أو ليغيظهم أشد الغيظ بعُلوّ شأن المسلمين وظهورهم عليهم , فيرجعوا منهزمين منقطعي الآمال في الفوز. 128 - {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. . .} الآية. جملة متوسطة: بين المعطوف: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} والمعطوف عليه: {يَكْبِتَهُمْ} لتحقيق أن لا تأثير للمنصورين في النصر، إثر بيان أن لا تأْثير للناصرين، ببيان أن مردَّ الأَمر إلى الله لا لغيره. وتخصيص النفي بالرسول صلى الله عليه وسلم، للدلالة على الانتفاء من غيره بالطريق الأَولى. والمعنى: أن مالِكَ أَمرهم على الإِطلاق؛ هو الله عز وجل: نصركم عليهم، ليهلكهم أو يكبتهم {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن أسلموا {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} إن أصَرُّوا. وليس لك من أمرهم شيءٌ. إنما أَنت عبد مأمور بإِنذارهم وجهادهم. والمراد بتعذيبهم: التعذيب الأُخروي الشديد. ¬

_ (¬1) ويجوز أن يكون متعلقا بقوله: "وما النصر إلا من عند الله" والمعنى عليه واضح.

{فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}: تعليل لقوله تعالى: {يُعَذِّبَهُمْ}: أَي يعذبهم؛ لظلمهم بمعاداة الإِسلام والمسلمين وقتالهم. 129 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: سيقت هذه الآية؛ لتأكيد ما تقدم، من أن الأَمر كله بيد الله وحده. والمعنى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقاً وملكاً وتصرفاً , لا معقب لحكمه. ولا يسأل عما يفعل. {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}: المغفرة له بواسع رحمته , المبنية على بديع حكمته. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}: تعذيبه بكمال عدله والتعبير بلفظ (ما) في قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تغليب لغير العقلاء؛ لكثرتهم؛ لأن الموجودات من غير العقلاء أكثر. والتعبير بلفظ (مَن) في قوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} لأَن الحساب والثواب والعقاب , لا يكون إلا للعقلاء. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: شأنه أن يستر ذنوب عباده، ويعفو عمن أساء، ويتجاوز لهم عما اقترفوا: رحمة منه وفضلا. وتقديم المغفرة على العذاب، للإيذان بأن رحمته - دائما -سابقةٌ غضبه. وختم الآية بصفتي الغفران والرحمة - دون مقابلهما - لمزيد الاعتناءِ بشأن المغفرة والرحمة؛ لأَنه تعالى , كتب على نفسه الرحمة {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية:54.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} المفردات: {أَضْعَافًا}: الأضعاف؛ الأمثال. وضعف الشيء: مثله الذي يصير به اثنين. {مُضَاعَفَةً}: فيه إشارة إلى تكرار التضعيف مرة بعد مرة. التفسير 130 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: كان يهود المدينة أشهر المتعاملين بالربا، فنهى الله سبحانه المؤمنين أن يرتكبوا هذه الفعلة النكراء؛ فإن الربا: يجتث مال الفقير ويضيع جهده في رزق عياله، ويزيد في ثراءِ الأغنياءِ مع الدعة والراحة .. وهو الذي يقطع أَواصر المودة والتعاطف بين الناس. وهذه هى الآية الثالثة في شأن الربا. أما الأولى والثانية، فقد سبقتا في سورة البقرة (¬1). وهذه الآية في تحريم ربا النسيئة، أي التأْجيل. فهو الذي كان يزيد بالتأجيل أضعافا مضاعفة، وكان مشهورا في الجاهلية. وقد سبق في سورة البقرة ما يدل على تحريم قليل الربا وكثيره: عاجله وآجله , وأَن ليس للدائن سوى رأس ماله. وَقَد حَرَّمَتهُ السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) آيتا 276,275.

"لَعَنَ الله آكل الربا وموكله، وشاهده وكاتبه , والْمُحَلَلَ له" (¬1). والمراد بالأَكل هنا: أَخذ مال الربا للانتفاع به في أي وجه , وإنما عبر بالأكل؛ لأَنه المقصود الأَعظم من كسب المال، وللتشنيع على آكل الربا. بأَنه يدخل جوفه السحت بدلا من الطيبات. والربا حرام مطلقاً ... وإِن لم يُضَعّف كما تقدم. وليس قوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} قيدا في التحريم. وإِنما جاءَ لبيان ما كان عليه الحال في ربا الجاهلية. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: بامتثال أَوامره , واجتناب نواهيه. ومنها النهي عن أكل الربا. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: عسى أَن تفلحوا. والتعبير بلفظ (لَعَلَّ): يدل على أنه يُرْجَى نيل الفلاح وقرب الامل في حصوله , لمن جدَّ مخلصاً في طلبه. 131 - {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}: أي: وحاذروا أَن تستهينوا بالربا، فينزع منكم الإِيمان؛ فإِن من الذنوب ذنوباً - منها الربا - ينزع الله بها الإيمان من المقيم عليها. قال أَبو حنيفة رحمه الله: هى أَخوف آية في القرآن، حيث أَوعد المؤمنين بالنار المعدة للكافرين، إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. ولا شك أَن في وصف النار بأنها أُعدت للكافرين زجرًا عظيما، ووعيدًا شديدًا. وفيه تنبيه إلى أَن الربا قريب من الكفر. 132 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. . .} الآية. وأطيعوا الله باجتناب كل ما نهى عنه - ومنه أَكل الربا - وامتثال كل ما أمر به وأَطيعوا الرسول فيما بلغكم عن الله، وفيما تضمنته سنته من أوامر ونواه. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. . . (¬2)}. ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) الحشر، من الآية: 7.

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: رجاءَ أن تنزل بكم رحمته، وتفوزوا بخيرَيِ الدنيا والآخرة. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}. المفردات: {أُعِدَّتْ}: هيئت. {السَّرَّاءِ}: الرخاءِ واليسر. {وَالضَّرَّاءِ}: الشدة والعسر. {الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}: الممسكين الغيظ عند امتلاءِ نفوسهم به. فلا ينتقمون ممن غاظهم. وأَصل الكظم: شد فم القربة عند امتلائها. والغيظ: هيجان الطبع عند رؤية ما يُنْكَرُ. {فَاحِشَةً}: الفاحشة؛ كل ما عظُم قبحه من الذنوب. {يُصِرُّوا}: يقيموا.

التفسير 133 - {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. . .} الآية. لما حذَّر الله في الآيات السابقة، من الأَفعال المستتبعة للعقاب، عقبه بالحث على الأَفعال المستتبعة للثواب، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: أي: بادروا وسابقوا إلى كل ما يحقق لكم مغفرة ربكم لذنوبكم، ويوصلكم إِلى نيل مرضاته، ودخول جنته الواسعة. وذلك يكون بإِقبالكم على طاعته , ومن امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}: أي: كعرضهما. وليس المراد التحديد، وإِنما هو كناية عن غاية سعتها، وعظيم رحبها بما هو -في تصور المخاطبين- أَوسع الأَشياءِ وأَرحبها. وخص العرض بالذكر - مع أنه دون الطول - للمبالغة في البسط والسعة، ويطلق العرض أيضاً على السعة. ويجوز أَن يراد منه هذا المعنى هنا. {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}: أي هيأَها الله لعباده الذين يتقون عذابه، بامتثال أوامره واجتناب محارمه. ثم وصف الله عباده المتقين، ببعض صفاتهم التي تؤهلهم لمغفرته، ودخول جنته فقال: 134 - {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. . .} الآية. أي في اليسر والعسر، والفرح والحزن، والمنشط والمكره. والمراد: أَنهم ينفقون في كل أحوالهم، فهى دائرة بين السَّراءِ والضَّراء. وهذه هى الصفة الأُولى. وإنما ابتديء بالإنفاق؛ لأَن الجود بالمال - وبخاصة في حال العسرة والشدة - من أَشق الأمور على النفوس. وفيه أقوى الأدلة على الإِخلاص؛ لأن حاجة المسلمين إلى الإنفاق - آنذاك بل وكل

آن - كانت أَشد، لمجاهدة العدو، ومواساة المسلمين. ولأن النهي عن الربا يستدعي بديلا عنه. ولذلك يقترن النهي عن الربا - في القرآن - بالحث على الصدقة. وحذف، مفعول {يُنْفِقُونَ}: ليعم كل ما يصلح للإنفاق؛ أو لأَن المراد وصفهم بالإِنفاق , دون نظر إلى ما ينفقون. كما تقول: فلان يعطي ويمنع. لا تقصد إلاَّ وصفه بالإِعطاءِ والمنع. {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}: صفة ثانية. وكظم الغيظ: حبسه وكتمه مع القدرة على إمضائه. والغيظ: هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر. والفرق بينه وبين الغضب - على ما قيل - أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام ألبتة , ولا كذلك الغيظ. والغيظ أصل الغضب. وكثيراً ما يتلازمان. وكظم الغيظ من أجمل الأخلاق وأَنبلها وأحبها إلى الله. وفي الحديث الشريف: "من كظم غيضًا وهو قادر على أَن ينفذه، ملأ اللهُ جوفَه أَمناً وإِيمانًا" (¬1). وعبر في الصفة الأولى بالفعل المضارع {يُنْفِقُونَ}: قصدًا لإرادة أَن يجددوا الإنفاق من آن لآخر. وعبر بالكاظمين وهو اسم فاعل: لقصد الثبات والاستمرار على ضبط النفس. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: هذه صفة ثالثة , جاءَت على اسم الفاعل؛ للدلالة على الثبوت والدوام أيضًا. والعفو: ترك عقوبة من يستحق العقوبة من الناس؛ لذنب جناه. وهو أكمل من كظم الغيظ. لأَن الغيظ؛ مجرد ضبط للنفس، ولا يلزمه الاِغضاءُ عن الاساءَة. أما العفو؛ فيقتضي تناسي الإساءة واعتبارها كأن لم تكن. وفي الحديث الصحيح: ". . . وما زادَ اللهُ عبداً بِعَفْوٍ إلاَّ عِزًّا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود وغيره. (¬2) رواه مسلم.

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: أَي كل المحسنين , ويدخل فيهم، من تقدم ذكرهم. والحب: ميل القلب إِلى المحبوب. والمراد به - في الآية - ما يلزم عنه من الثواب والرضوان. والمعنى: أن الله يرضى عن المحسنين جميعا، ويجازيهم على إِحسانهم أَحسن الجزاء. والإِحسان يشمل: إتقان العمل، والإِتيان به على الوجه الأكمل. ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم , وقد سئل عن الإِحسان: "أنْ تَعبُدَ اللهَ كأَنك تَراه , فإِن لم تَكُنْ تَراهُ فَإنهُ يَرَاكَ" (¬1). ويشمل أيضاً: إيصَالَ النفع إلى الغير، ودَفْعَ الضرر عنه. ولا يكمل الإِحسان حتى يكون خالصًا لوجه الله: لا ينتظر المحسن مكافأة عليه , ولا يكون مكافأَة على إِحسان سابق وصل إِليه. وفي الحديث الشريف: "لَيسَ الواصلُ بالمكافيءَ" (¬2) والمراد بالواصل: المحسن. وقال الثورى: الإِحسان: أَن تحسن إلى من أساءَ إليك. فأَما من أَحسن إليك، فإنه متاجرة كنقد السوق: خذ مني وهات. ولمكانة الإِحسان عند الله , أَثاب عليه بأَعلى أنواع الثواب , وهو محبته - سبحانه وتعالى - كما قال في ختام الآية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. 135 - {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: ¬

_ (¬1) رواه البخاري وغيره. (¬2) رواه البخاري.

هذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين. عطفت على ما قبلها. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: جملة متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه: مشيرة إلى ما بينهما من التفاوت في الفضل. فإِن درجة الأَولين من التقوى أَعلى، وحظهم أَوفى. ويجوز أن يكون: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} معطوف على {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فكأنه لما ذكر الصنف الأَعلى من المتقين. وهم: المتصفون بتلك الأوصاف الجميلة - ذكر من دونهم فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}: أي - أتَوْا بمعصية تفاقَمَ قبحها، وعَظُمَ شرُّها وخطرها. {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: أي جَنَوْا على أَنفسهم بارتكاب أي ذنب من الذنوب الكبائر أَو الصغائر. {ذَكَرُوا اللَّهَ}: أي تذكروا عظمته وجلاله، وحقه في أن يُعْبَدَ ولا يُعصَى، وأنه الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}: عقب تَذَكرِهم لله. والمراد بالاستغفار: الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم معاودته، ورد المظالم لأَصحابها. أَما التوبة بمجرد اللسان , فتلك توبة الكذابين. وفي مثل هذه التوبة الكاذبة، يقول بعض العارفين: استغفارُنا هذا يحتاج إلى استغفار. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}: أَي لا أَحد يقبل توبة التائبين، ويعفو عن العاصين، غيره سبحانه. وفي هذا دعوة منه تعالى، إلى الالتجاءِ إليه، وطلب عفوه ومغفرته؛ لأنه لا ملجأَ ولا مَنْجى منه إِلا إليه، ولا حيلة للمذنب إلا طلب فضله - سبحانه - والتماس رحمته.

{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}: هذا عطف على {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وجملة: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} متوسطة بين المتعاطفين. ومعنى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}: أَنهم لا يقيمون على معصية من المعاصي: كبيرة كانت أم صغيرة. بل يرجعون إلى الله، ويتوبون إليه من قريب. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: أَن من تاب تاب الله عليه , وأَن إِقامتهم على الذنب - ولو كان صغيرًا - قبح، لا يليق بمؤمن؛ لأن الصغيرة لا تبقى صغيرة مع الإصرار , كما أن الإِصرار على الذنب يتنافى مع الاستغفار. قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصَرَّ من استغْفَرَ" (¬1). 136 - {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: {أُولَئِكَ}: أي الموصوفون بما تقدم من الصفات. {جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}: أي جزاؤُهم على هذه الصفات التي تجملوا بها: ستر خطاياهم، وعدم مؤَاخذتهم عليها. {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: أي تَجرى من تحت قصورها الأنهار المختلفة: التي ذكرها الله في قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى. . .} (¬2). وهذه الجنات، ضمن تلك الجنة: التي أَخبر سبحانه , أن عرضها السموات والأَرض. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. (¬2) محمد: 15.

{خَالِدِينَ فِيهَا}: أي ماكثين فيها , لا يخرجون منها أبداً. كما قال سبحانه: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬1). {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: ذلك المذكور من المغفرة والجنات. {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}. المفردات: {خَلَتْ}: مضت. {سُنَنٌ}: السنن؛ الطرائق. والمراد منها عقوبات الأُمم المكذبة. {مَوْعِظَةٌ}: الموعظة؛ التذكير بما يرقق القلب من: مرغبات في الطاعة، ومنفرات عن المعصية. ¬

_ (¬1) الحجر: 48.

{تَهِنُوا}: تضعفوا. {الْأَعْلَوْنَ}: المتفوقون بالدِّين , الظاهرون على العدو. {مَسَّ}: المس؛ الإِصابة. {قَرْحٌ}: القَرْح؛ الجُرْحُ. أَو أَلَمُهُ. {نُدَاوِلُهَا}: نجعلها متبادلة. فنجعل الغلبة لهؤُلاءِ مرة , ولهؤلاءِ مرة أُخرى. {وَلِيُمَحِّصَ}: لِيُنَقى ويُخَلِّصَ. {وَيَمْحَقَ}: يسحق وَيُهْلِكَ. التفسير 137 - {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. . .} الآية. هذا رجوع إلى قصة أُحُد، بعد أَن تخللها تذكيرُ المؤمنين بما كان من نصر الله لهم في بدر؛ تسليةً لهم عما أَصابهم من الهزيمة في أُحُد، وإرشاداً لهم إِلى بعض النصائح التي تستتبع رضا الله ونصره. وجِمَاعها: تقوى الله، وطاعة الله ورسوله، والاستغفار من الذنوب. والمعنى: قد مضت من قبل زمانكم طرائق: سنها الله تعالى، في المكذبين من الأمم السابقة. فقد تكون لهم الغَلَبَةُ في بعض المواطن على المؤمنين، ثم تكون العاقبة - في النهاية - للمؤمنين، والدائرة على المكذبين. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: أي تَعَرَّفُوا أخبارهم وما نزل بهم؛ لتعلموا أن سنَّة الله في الغابربن: نصرُ أوليائه، وخذلانُ أَعدائه. كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الصافات: 171 - 173.

138 - {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}: (هَذَا): إشارة إلى قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}: أي هذا الذي عرفتكم به، من أن سنة الله - في الماضين - أن تكون الدائرة على الكافرين والعاقبة للمتقين - بيان للناس جميعاً، وإيضاح لحسن مآل المؤمنين، وسوءِ عاقبة المكذبين وهدى وتذكير للمتقين. وتخصيص المتقين بذلك؛ لأنه لا ينتفع بهذا البيان فيهتدى ويتعظ، إلا المتقون الذين شرح الله صدورهم للإسلام، وخافوا الله رب العالمين. 139 - {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. . .} الآية. أي ولا تضعفوا - أَيها المؤمنون - عن الجهاد، وتتثاقلوا عنه، لكثرة من قتال منكم في أُحُد. ولا تحزنوا لذلك , فيشغلكم ويقعدكم عن قتال عدوكم - والحال أنكم أَعلى شأْنا منهم، فإنكم على الحق. وَهم على الباطل. وأنتم أولياءُ الله. وهم أعداؤه وأولياءُ الشيطان وقتلاكم في الجنة. وقتلاهم في النار. ومَن هم على هذه الحال , لا ينبغي لهم أَن يهنوا ولا أن يحزنوا لما أصابهم، فإن العاقبة لهم. وفي قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وَعدٌ لهم بالنصر على أعدائهم - فيما يستقبل من الأيام: وبشرى بأَنهم الغالبون المنتصرون، ما داموا متمسكين بتعاليم دينهم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي إن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا؛ لأَن الإِيمان يوجب قوة القلب، ويزيد الثقة بالله تعالى، وعدم المبالاة بأَعدائه. ويجوز أَن يكون المعنى: إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بالنصرة على عدوكم، فلا تهنوا ولا تحزنوا. 140 - {إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ... } الآية. المراد بالقوم: أهل مكة المشركون. والقَرح بفتح القاف: الجرح. وبالضم: ألمه. وقد قريء بهما.

وهذه الآية من تمام المعنى الذي سيقت له الآية السابقة. أَي لا داعيَ للوَهَن والحزن، فإِن ما أصابكم يوم أُحد من القتل، والجراح والآلام، قد أَصاب كفارَ قريش مثلُهُ يوم بدر، فلم يثنهم ذلك عن معاودة حربكم مع ما هم عليه من باطل. فأَنتم أَولى منهم بالثبات، وأَجدر منهم بقوة العزيمة؛ لأَنكم على الحق. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}: تلك: مبتدأ، والأيام خبر. كما تقول: هى الأَيام: تُبْلِي كُلَّ جديد. والإِشارة، إلى أيام الحروب، أو الأيام بعامة. والمداولة: نقل الشيء من واحد إلى آخر. يقال: الدنيا دُوَل. أي تنتقل من قوم إلى آخرين. ثم عنهم إلى غيرهم. والمعنى: أن النصر تارة يكون للمؤمنين إِذا تمسكوا بإيمانهم، واستعدوا لعدوهم. وتارة أخرى يكون للكافرين. والله لا ينصر الكافرين إلا ابتلاء للمؤمنين، وتمحيصاً لإيمانهم. ودرسًا يستفيدون منه في مستقبل غزواتهم. حتى لا يعودوا إلى الأسباب التي أدت بهم إلى مثل تلك المحنة. قال الرازى في تعليل ما يقع من النصر للكافرين: إنه تعالى، لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات؛ وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات، لحصل العلم الاضطراري: بأَن الإيمان حق وما سواه باطل. ولو كان كذلك لبطل التكليف، والثواب والعقاب. فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أَهل الإِيمان وأُخرى على أهل الكفر؛ لتكون الشبهات باقية، وكيف يدفعها بالنظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله. ا. هـ. وصيغة المضارع {نُدَاوِلُهَا} الدالة على التجدد: تؤذن بأَن تلك المداولة سُنةٌ مسلوكة في جميع الأمم، متجددة فيهم. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}: أَي وتلك الأَيام نداولها بين الناس لوجوه من المصالح، وضروب من الحكم؛ وليعلم الله المؤمنين المتميزين بالإيمان, علما مقترنا بالواقع.

والمراد بالعلم هنا: العلم التنجيزي بالواقع. وهذا لا ينافى علمه بهم قديمًا. والمقصود أنه يبرز -في الواقع- ما سبق في علمه عنهم قديمًا من تمييزهم بإيمانهم عن سواهم، لِيُجْزَى كل بما عمل، لا بما علمه الله أزلا في شأنه. وذلك هو المقصود بقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬1). {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}: هذا سبب آخر لمداولة الأيام بين الناس. والشهداء: جمع شهيد. أي وليكرم قومًا منكم بالشهادة في الدفاع عن الدين. وتلك كانت أمنيةً لبعض المسلمين، الذين فاتتهم الشهادة في غزوة بدر. أو هو جمع شاهد: أي ليتخذ منكم شهودًا بذلك على الأُمم يوم القيامة، وذلك منصب جليل, لا يستحقه إلا مَنْ وطَّنُوا أنفسهم على التضحيات الجسيمة، الذين بذلوا النفس والنفيس في سبيل الله. هذا وجميع المؤمنين الصادقين، سيكونون شهداءَ على الأُمم السابقة يوم القيامة. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬2) لأَنهم أهل البذل والتضحية في سبيله، في جميع بقاع الأَرض، حيث ينشرون دعوة دينه الخالد في كل قاصٍ ودانٍ. ولفظ الاتخاذ ينبيء عن الاصطفاء، ففيه من تشريف المؤمنين ما فيه. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: جملة متوسطة بين المتعاطفات؛ للإشارة إلى أن الله يبغض الكفار أعداء المؤمنين، فلن ينصرهم عليهم. وما يكون لهم من نصر في بعض المواطن، فليس ذلك عن حب الله لهم، وإنما لِلْحِكم التي بينها الله في الآيتين السابقتين (139، 140) وفي الآية اللاحقة (141). ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 179. (¬2) البقرة من الآية: 143.

141 - {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: أي وليطهرَ نفوس المؤمنين، وينقّيَها من الشوائب التي تكون قد علقت بها، فيصيروا مؤْمنين خالصين: يصبرون على البأساء، ويثبتون عند اللقاء، وتتطهر نفوسهم من كل صفة لا تليق بمن باع نفسه لإعلاء كلمة الله. {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: إن كان المراد من اللفظ: العموم، فمعنى الْمَحق: النقصان وإظهار المسلمين عليهم، ما داموا صادقي الإيمان, متخذي العدة والعتاد لمقاتلة أعداء الله. وإن كان المراد الكفارَ من أهل مكة: الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وأصروا على الكفر - فمعنى المَحْق: الاستئصال. وقد كان ذلك. قال أبو حيان: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: أي يهلكهم شيئًا فشيئًا. والمعنى: أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين، كانت سببًا لتمييز المؤمن من غيره، وسببًا لاستشهاد من قُتل منهم، وسببًا لتطهير المؤمن من الذنب. فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين. وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين، كان سببا لمحق الكافرين بالكلية، واستئصالهم. قاله ابن عباس. ويحمل ذلك ما كان عليه في أَهل مكة. 142 - {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}: (أمْ) هنا: أفادت الانتقال من الكلام السابق إلى الكلام اللاحق، واستبعاد أن يظنوا دخول الجنة بدون جهاد وصبر عليه. والمعنى: بَل أظننتم أَن تدخلوا الجنة، ولما يتحقق جهاد المجاهدين منكم، وصبْرُ الصابرين عليه. فيعلم الله ذلك واقعًا دالا على صدق الإيمان, مستتبعا لدخول الجنان!!

وكلمة {لَمَّا}: وإن أفادت نفى ما بعدها من الجهاد والصبر، ولكنها تفيد تَوَقُّعَ حصولهما منهم، وقد وقعا فعلا: في الغزوات التي تلت غزوة أُحد. {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}. المفردات: {تَمَنَّوْنَ}: أي ترغبون. {الْمَوْتَ}: المراد به هنا؛ القتال. وقيل: هو على حقيقته؛ طلبًا للشهادة. {تَلْقَوْهُ}: أي تلقوا سببه. وهو القتال. {رَأَيْتُمُوهُ}: أي رأيتم الموت، برؤية من يموت في الحرب. {خَلَتْ}: مضت. {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} المراد: مَن يرتد عن دينه أو ينهزم. التفسير 143 - {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. . .} الآية. هذا خطاب من الله تعالى، عاتب فيه الذين ألَحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الخروج من المدينة إلى أُحُد للقاء المشركين، الذين نزلوا عنده قادمين من مكة، لقتال المسلمين انتقامًا ليوم بدر. ولما التقى الجمعان انهزم فريق منهم، ولم يثبتوا أَمام المشركين. وكان هؤُلاءِ هم الذين ألحوا في الخروج، ممن لم يشهدوا بدرًا، وتَمنَّوْا أَن يحضروا

مع النبي صلى الله عليه وسلم لينالوا به شرف الشهادة إن ماتوا، أو أَجر الجهاد وكرامة المجاهدين إِن رجعوا كأصحاب بدر. وقد عُرف مما جاءَ في غزوة أُحد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان -أوّل الأَمر- يميل إلى البقاءَ في المدينة، حتى إذا هاجمها كفار مكة، صدهم المسلمون متحصنين بها ... الرجال يضربونهم بالسيوف والسهام. والنساءُ والصبيان يقذفونهم من فوقهم بالحجارة، وبكل ما تصل إليه أيديهم. لولا موقف أولئك المُلِحِّين. والمعنى: ولقد كنتم تحبون الموت في سبيل الله، وترغبون في الشهادة من قبل أَن تَلْقَوْهُ، وأنتم بالمدَينْة. {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: أي فقد تحققت أُمنيتكم، إذ استجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرغبتكم، وأذن لكم بلقاء عدوكم، فرأيتم الموت الذي تمنيتموه حين سقط شهداؤُكم. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}: فما بالكم لم تثبتوا في قتال عدوكم، ولو صبرتم لما هزمتم! 144 - {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. . .} الآية. لَمّا التقى الجمعان في أُحد، ظهر المسلمون على المشركين في أول اللقاءَ، وجعلوا يتعقبونهم ويجمعون الغنائم في إثرهم، ولكن الرماة الذين أمرهم الرسولُ بحماية ظهور المسلمين -أثناء قتالهم- رأوا المسلمين منتصرين على المشركين: يتعقبونهم ويجمعون غنائمهم. فتركوا أماكنَهم ليشاركوا إِخوانهم في جمع الغنائم، مخالفين أمْرَ الرسولِ فيما فعلوا. فانتبه المشركون لما فعل الرماة، فاحتَلُّوا مكانَهم فوق الجبل. وجعلوا ينضحون المسلمين بالنبل .. واستطاعوا بذلك أن ينالوا من المسلمين، حتى رمى ابنُ قميئة الرسولَ عليه السلام، بحجر فَشَجَّ رَأسَه، وكَسَر رُبَاعِيَّتَهُ. ثم أَقبل يريد قتلَه، فدافع عن النبي مصعبُ

ابن عمير, فقتله ابن قميئة -وهو يرى أنه قتل رسول الله- فصاح قائلا. قتلت محمدًا، وصرخ بها صارخ, فسمعها المسلمون, فسرى الوهن في نفوس كثير منهم. حتى قال بعض المستضعفين: ليت عبد الله بن أُبي يأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبياً -حقاً- لما قُتل ... ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. والتقى أنس بن النضر، بالمنهزمين من المسلمين, فقال لهم: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حَيٌّ لا يموت, فقاتلوا على ما قاتل عليه. وموتوا كرامًا على ما مات عليه. وشاءَ الله أن يحفظ رسوله لأُمته, وأن يظهر كذب ابن قميئة. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى عباد الله. وكان حوله - حينئذ - أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة ابن عبيد الله، وجماعة من المسلمين، فأقبل المنهزمون. بعد ما سمعوا صوته عليه السلام، فأَنزل الله عتابًا للمنهزمين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. . .} إلى نهاية الآية: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: والمعنى: وما محمد إلا رسول كسائر من مضى قبله من الرسل: مهمته التبليغ وإلزام الحجة. وسيمضي إلى ربه كسائر من مضى من الأَنبياءِ: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (¬1)، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (¬2). {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}: أي توليتم مدبرين من القتال، منهزمين أمام الكفار. أو ارتددتم عن دينكم، كما وقع من بعض المنافقين. ¬

_ (¬1) الأحزاب: 62. (¬2) الزمر: 30.

وعلى كل: فالمراد، أنه لا ينبغي أن تجعلوا وفاة الرسول -بموت أو قتل- سببًا في تولِّيكم منهزمين عن قتال الكفار وجهادهم؛ استبعادا لقتله. فقد مضى من قبله أمثاله من الرسل. وما كان موتهم أَو قتلهم سببًا في ارتداد أتباعهم عن دينهم، ولا في تخلِّيهم عن جهاد أعدائهم. {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}: هذا وعيد من الله لكل من تهتز عقيدته، أو يفر من المعركة أمام أَعداء الإِسلام. والمعنى: ومن يُدْبر عن دينه لأَي سبب، أو ينهزمْ أَمام الكافرين ولا يستبسل في الدفاع عن دينه ووطنه. {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ} بما فعل من تولِّيه مدبرًا. {شَيْئًا} أي أَقل ضرر. وإِنما يضر نفسه: بتعريضها لسخط الله، وازدراءِ الناس له، كما يضر قومه؛ فإِن الله سبحانه وتعالى- لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين. {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}: أي وسيجزي الله من شكروه بصبرهم على دينهم ولقاء عدوهم، جزاءً يليق بكرمه .. ومِن ذلك النصر على الأعداءِ وحسن ثواب الآخرة. والتعبير بقوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} يفيد أن جزاءَهم متوقع قريبًا، فإن السين للتقريب، وقد حقق الله وعده، ونصرهم فيما استقبلوه من غزوات. وما عند الله - في الآخرة - أعظم وأكرم.

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}. المفردات: {بِإِذْنِ اللَّهِ}: أمره وقضائه. {مُؤَجَّلًا}: مؤَقتاً بوقت معلوم. {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ}: وكثير من الأَنبياءِ. {رِبِّيُّونَ}: منسوبون إِلى الربِّ بالتقوى والصلاح. مفرده رِبِّيٌّ. {وَهَنُوا}: الوهن؛ شدة الضعف في القلب. {اسْتَكَانُوا}: ذَلوا وخضعوا لما يريد بهم عدوهم. {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}: أي تجاوزنا الحدَّ في ارتكاب الكبائر.

التفسير 145 - {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا. . .} الآية. بعد أن بينت الآية السابقة، ما كان من المسلمين، حين شاع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم في غزوة أُحد، من خوف وهلع، حتى تولى فريق منهم عن القتال مدبراً، حذراً من الموت، وحرصًا على الحياة - جاءت هذه الآية تنبيهاً على خطئهم فيما فعلوا: حيث أوضحت أن موت أيِّ إنسان لا يكون إلا بأمر الله، وفي الوقت الذي تعلقت مشيئته - تعالى- بوقوعه فيه، والذى حدده نهايةً لأَجله، وإِن اقتحم المعارك والأَهوال، وخاض المخاوف، وأَقبل على الجهاد راغبًا فيه، طالبًا لدرجات الشهداء عند الله. فالآجال موقوتة. كتب الله ذلك. {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}: أي مؤقتا بأجل وغاية: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬1). وفي هذه الآية من التحريض على الجهاد والترغيب فيه، ما لا يخفى. كما أن فيها تنبيهًا إِلى أن الخوف والجبن والاستكانة، لا تُنجى من الموت ولا تطيل الأجل. كما يستفاد من الآية: أن موت الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره، لا يكون إِلا بانتهاء أجله، فلا يموت قبل استيفائه. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: أي ومن يقصد بعمله وجهاده الحصول على حُظوظ الدنيا ومتاعها، يعطه الله النصيب الذي قَدَّره له منها. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}: أي ومن يقصد بعمل الصالحات والجهاد في سبيل الله، الفوز بنعيم الآخرة، ويخلص النية لله في طلب ذلك، يؤْته الله ما شاء من نعيمها. ¬

_ (¬1) الأعراف من الآية: 34.

{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}: المراد بهم الذين ثبتوا على الإِسلام، وصبروا على المكاره, وبذلوا أقصى الجَهد في طاعة الله، والجهاد في سبيله: لا يصرفهم عن ذلك صارف. أَي سيجزيهم الله - في الآخرة - الجزاءَ الأَوفى، الذي لا يعلم مقداره إلا الله تعالى. ولهم في الدنيا ما قسم لهم من خيرها ومتاعها، دون حرمان. والآية: يجوز أن تكون خاصة بأَهل أُحد، وأن تكون عامة لهم ولغيرهم. وهو أَرجح. فإنها من القواعد العامة في الدين. 146 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. . .} الآية. أي وكثير من الأنبياء السابقين، قاتل معهم جماعات كثيرة، منسوبون إلى الرَّب بالتقوى، ممن آمنوا بهم، واتبعوا هديهم. {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: أَي فما فترت عزائمهم، ولا ضعفت قلوبهم، ولا اضطربت نفوسهم بسبب ما أُصييوا به -أثناءَ القتال- من جراحات، وقتل، وآلام، وما كانوا يعانون من متاعب ومشاق. {وَمَا ضَعُفُوا}: عن لقاءِ الأعداءِ وجهادهم، وما شكَّوا في صدق رسلهم. {وَمَا اسْتَكَانُوا}: أي وما ذلوا للعدو، ولا استسلموا لإِرادته: يفعل بهم ما يشاءُ، ويقضي في شأنهم بما يريد. وفي هذه الآية أيضًا: لَوْمٌ لمن خارت عزائمهم من المسلمين يوم أُحد، عند تَغلُّب الكفار عليهم، والإِرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقريعٌ لمن استكانوا حين أرادوا الاستعانة بابن أُبي -رأس المنافقين- في طلب الأمان من أَبي سفيان. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}: أي والله يرضى عن الصابرين، في البأساءِ والضراءِ، وحين البأس.

والمراد بالصَّابرين: إمَّا أُولئك المعهودون: الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد .. وإما كل الذين يصدق عليهم هذا الوصف. وهو الأَرجح. ويدخل من ثبت في أُحُدٍ بالأولَى. 147 - {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: بعد أن بينت الآية السابقة، حسن أفعال الرِّبَّييَّن، جاءَت هذه الآية مبينة لحسن أقوالهم. والمعنى: ما كان لهم قول -في حال الشدة وملاقاة الأعداءِ- إلا دعاؤُهم: أن يغفر الله لهم ذنوبَهُم وَتَجَاوُزَهم الحدَّ في أمرهم، بارتكاب ما عسى أن يكون لهم من كبائر، وأن يثبتَهم في مواطن الشدة بتأْييد من عنده. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: أي واجعل الغلبة لنا على الذين يريدون أَن يطفئوا نور الله، وطمس معالم الهدى والرشاد. والنصر هو الغاية القصوى. وقد قدَّموا في دعائهم طلب المغفرة لتصفوَ نفوسُهم، ويخلصوا من شوائب الذنوب، فيكونَ ذلك أقربَ إلى استجابة دعائهم، بتثبيت الأقدام والنصر، فإِن الله - سبحانه - إِنما يتقبل الدعاء من المتقين الطاهرين من الذنوب. واستغفارُهم من الصغائر والكبائر، وإضافتها إلى أنفسهم - مع أنهم رِبِّيُّون اتقياء - هضمٌ لأَنفسهم، واتهامٌ لها، وشعورٌ بالتقصير في جانب الله تعالى. وكذلك يكون حال المسلم مع الله تعالى.

148 - {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. . .} الآية. أي أعطاهم الله أجر الدنيا. وهو النصر والغنيمة، وطيب الذكر في الدنيا، ومنحهم ثواب الآخرة الحسن. وهو الجنة والرضوان، والنعيم المقيم. وقد أخبرت الآية بوقوع الثواب من الله في الآخرة، مع أنه لم يقع بعد، لأَنه في حكم الواقع. فإِنَّ وَعْدَ الله لا يتخلف. ووصف ثواب الآخرة بالحُسنِ دون ثواب الدنيا؛ لأَن نِعَمَ الدنيا - وإِن عظمت - فهى مشوبة بالكدر. وهي إلى زوال وإن طال الأَجل. أما نِعَمُ الآخرة، فإنها خالصة من جميع الأكدار، دائمة باقية. وكلها حسنة. فلذا وصفها بالحسن دون نعم الدنيا. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: أي يرضى عنهم، ويريد الخير بهم. ويجوز أن يراد بالمحسنين: هؤلاء الربانيون الذين أحسنوا في أفعالهم حين ثبتوا مع أَنبيائهم، فلم يضعفوا، وأحسنوا في أقوالهم. ويجوز أن يراد كل من أحسن في أي زمان، وفي أي مكان في القتال وغيره, في حياة الرسل وبعد وفاتهم. وهذا أَنسب؛ لما فيه من ترغيب المؤمنين في تحصيل ما حكى عن الربانيين، من الصفات الحميدة، والأفعال المجيدة، ويدخل هؤلاء الربانيون بالأَوْلى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. المفردات: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}: أي يردوكم إلى ما كنتم عليه في الجاهلية. {وَمَأْوَاهُمُ}: المأْوى، المكان الذي يرجعون إِليه {مَثْوَى}: مثوى الإِنسان؛ مكان إقامته الدائمة. {تَحُسُّونَهُمْ}: أصل معناه؛ تبطلون حِسَّهم. والمراد: تستأْصلونهم قتلا. {فَشِلْتُمْ}: جَبُنتم وضعُف رأيكم، وأصابكم الخَورُ فَهُزِمتم. {وَتَنَازَعْتُمْ}: افترقت كلمتكم، واختلفتم. {لِيَبْتَلِيَكُمْ}: ليختبركم.

التفسير 149 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}: دَعَا المنافقون -في أعقاب هزيمة أُحد- إلى طلب الأَمان من أبي سفيان: رأس المشركين يومئذ، كما قالوا للمؤمنين المنهزمين: ارجعوا إلى إخوانكم، واطلبوا الأَمان منهم، وادخلوا في دينهم. فنزلت هذه الآية تحذيرًا للمؤمنين من طاعة المنافقين، الذين كفروا بنفاقهم. وقيل: نزلت بسبب قول أهل الكتاب للمؤمنين: لو كان محمد نبياً حقًّا، لما غُلِبَ، ولما أصاب أصحابَهُ ما أصابهم .. وخصوص السبب، لا يمنع إرادة العموم من اللفظ. والمعنى: يأَيها المؤمنون: إن تطيعوا الكافرين -في فضائحهم الزائفة وتشكيكاتهم الواهية- يرجعوكم إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من الكفر والمعاصي، فترجعوا خاسرين في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فبالذلة والهوان بالأنقياد إلى الأعداء. وكفى به مهانة. وأما في الآخرة، فبالحِرْمان من الثواب العظيم والوقوع في العذاب المقيم .. وكفى بذلك خسرانا. 150 - {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}: بل الله ناصركم إن امتثلتم أمره واجتنبتم نهيه، وأعددتم لعدوه ما استطعتم من قوة، وكنتم كالبنيان: يشد بعضه بعضاً. فلا تتولوا سواه ولا تلوذوا بغيره. {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}: يمنحكم القوة، ويهيء لكم أسباب النصر.

151 - {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ. . .} الآية. قال كثير من المفسرين: إن المراد بالذين كفروا - هنا - هم مشركو مكة. وذلك لأنهم رأَوا - وهم في الطريق إلى مكة عائدين من أُحد - أنهم أخطأوا إذ لم يقضوا على المسلمين، فأرادوا الرجوع للقضاء على من بقى منهم. حتى يتم لهم النصر. فنزلت هذه الآية، تطمينًا للمسلمين. {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}: علة لإلقاءِ الرعب في قلوبهم. والمعنى: سَيُلْقِي اللهُ الرُّعبَ في قلوبهم بسبب إشراكهم - بعبادته - آلهةً ليس على صحة أُلوهيتها حجة، حتى ينزلها الله. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}: أي جزاؤُهم النار. {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}: وساءَ هذا المثوى والمستقر للكافرين .. ووصفهم بالظالمين، لأن الشرك أَعظم الظلم للنفس وأفظعه. 152 - {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. . .} الآية. المراد بوعد الله: ما تكرر في القرآن؛ من نصر المؤمنين إذا صبروا وصدقوا في القتال. كقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬1). والمعنى: ولقد حقق الله لكم وعده بالنصر على الكافرين، إذ تستأصلونهم بالقتل بأَمر الله وقضائه. كما حدث في أَول غزوة أُحد، حيث مكنهم من قتل جماعة من صناديد قريش، وظل النصر حليفهم إلى وقت اختلاف الرماة مع رئيسهم -ابن جبير- وذلك حين رأَوا اشتغال الجيش بجمع الغنائم عند أول بوادر النصر ... فهو يرى ألَّا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت المعركة؛ امتثالا لأَمر الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم يرون الانصراف إلى جمع ¬

_ (¬1) الحج: من الآية 40.

الغنائم، ظنا منهم أن العدو انهزم: مخالفين أمر الرسول بالبقاءِ في أماكنهم مهما حل بالعدو ... ونفذوا رأيهم، وتركوا مراكزهم، وأخذوا في جمع الأسلاب، ولم يبق مع ابن جبير إلا عدد قليل دون العشرة، ففطن المشركون لهذه الثغرة، فقتلوا الرُّمَاةَ، وهاجموا المسلمين منها. وذلك يقصه الله تعالى بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}: أي والذي رأوه هو الغلبة على المشركين. وذلك حين صُرع طلحة بن عثمان - صاحب لواءِ المشركين، وصُرع معه تسعة نفر، كانوا حول اللواءِ. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}: وهم الذين أرادوا الغنيمة. قال عبد الله بن مسعود: ما شَعَرنا أن أحدًا من أَصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا وعرضها، حتى كان يوم أُحد!! {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}: وهم عبد الله بن جبير وأصحابه: الذين ثبتوا معه بعد ترك أصحابهم لهم حتى استشهدوا. {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}: ثم كفكم عن المشركين، بمنع معونته عنكم، بعد الفشل والتنازع والعصيان. وألقى عليكم الهزيمة؛ ليمتحنكم بالمصائب، فيظهر ما علمه منكم من الاضطراب والفرار، حتى تحذروهما - وأَسبابهما - فيما تستقبلون من قتال الكفار. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}: تفضلا لصدور ندمكم على ما وقع منكم. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: بالعفو عنهم، وقبول توبتهم. أَو في جميع الأحوال؛ لأَن الابتلاءَ رحمة؛ لما فيه من تمييز الصادقين من المارقين، وإثابة الصابرين على ما صبروا، كما أن النصر رحمةٌ ظاهرةٌ، ونعمةٌ واضحةٌ.

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}. المفردات: {تُصْعِدُونَ}: تشتدون في العَدْوِ منهزمين. {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}: ولا تلتفتون إليه لجدكم في الهرب؛ فرارا من الطلب. {أُخْرَاكُمْ}: مؤخرة جيشكم. {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}: جزاكم الله غمًّا بالهزيمة بسبب غمكم للرسول بالمخالفة، أو غمًّا متصلا بغم. {أَمَنَةً}: أمناً وسلاماً. {يَغْشَى}: يغطى.

{أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}: شغلهم الاهتمام بها. {لَبَرَزَ}: لخرج ولظهر. {مَضَاجِعِهِمْ}: المراد بها؛ مصارعهم في أَرض الموقعة. {وَلِيَبْتَلِيَ}: ليختبر وهو العليم. {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}: وليطهرها من الشبهات وينقيها. التفسير 153 - {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ. . .} الآية. هذه الآية مرتبطة بما قبلها. وهما في شأن غزوة أُحد. والمعنى: ثم صرفكم الله عن جهاد المشركين، حين تصعدون في الأرض وتبعدون فيها هربًا. لا تلوون على أَحد ولا تلتفتون إليه لتعينوه، أَو تنجدوه؛ لانشغالكم بالهرب والنجاة بأَنفسكم. وهو تصوير لما كان عليه حال المسلمين عند انهزامهم في أُحد. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}: أي في مؤَخرة جيشكم أثناء هربكم وفشلكم؛ للعودة إلى القتال. {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}: فجزاكم غمًّا وحزناً بفوات النصر والظفر بالغنيمة، وقتل من قتل منكم بسبب غمكم للرسول صلى الله عليه وسلم، بمخالفة أمره. أو جزاكم على مخالفتكم غمًّا متصلاً بغمًّ. قال القفال: وعندنا: أن الله تعالى، ما أَراد بقوله: {غَمًّا بِغَمٍّ} اثنين، وإِنما أراد مواصلة الغموم وطولها. أي أن الله عاقبكم بغموم كثيرة. مثل: قتل إخوانكم وأقارِبكم،

ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم. فكأنه تعالى قال: أَثابكم هذه الغموم المتعاقبة؛ ليصير ذلك زاجرًا لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}: هذا متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}: أي ولقد عفا الله عنكم، بعد ندمكم وصادق توبتكم. لينتهي غَمُّكُم وحزنكم على ما فاتكم وما أَصابكم. أَو هو متعلق بقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}. قال الحسن: جعلكم مغمومين يوم أُحد، في مقابلة ما جعلتم المشركين مغمومين يوم بدر؛ لأَجل أن يسهل عليكم أمر الدنيا في أَعينكم، فلا تحزنوا بفواتها. والأول أَولى. والمراد بما فاتهم: النصر والغنيمة، وبما أصابهم: القتل والهزيمة. {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: عليم بجلائل أعمالكم ودقائقها, لا يخفى عليه من ذلك شيء. وهو يثيبكم أو يعاقبكم على ما يكون منكم. فخافوا بأسه. وارجوا ثوابه. 134 - {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا. . .} الآية. المعنى: أن الله سبحانه وتعالى، أكرم المؤمنين بالنعاس. بعد ما نزلت بهم الغموم لتطمئنَّ قلوبهم، ويهدأَ روعهم فإِنما ينعس من يأْمن. والخائف لا ينام. وقد أنزل الله عليهم النعاس بعد المعركة وهم صافون، استعدادا لما يتوقعون من كَرَّةِ العدو عليهم، بعد أَن كان متجها إلى مكة.

روى الإِمام البخاري، عن أبي طلحة, قال: "غَشِيَنَا النعاسُ، ونحن في مصافّنا يوم أُحد. فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه". وكان هذا من رحمة الله بهم بعد ما أصابهم. {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}: وهم المؤمنون والصادقون. {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}: وهم المنافقون الذين خرجوا مع الرسول، غير راغبين في الخروج. فقد كان هَمُّ هؤُلاءِ أنفُسهُم. فلم يغشَهم النعاس. أما المؤمنون، فقد كان همهم الرسولَ وسلامتَه، حتى يأخذَ الإِسلام سبيله إلى قلوب العالمين، بقيادته وتوجيهه. {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة}: أي يظنون أن الله لا ينصر محمداً، وأَن دينه باطل، وأن الله لن يكون مع المؤمنين. وهذا الظن لا يصدر عن قلب مؤمن. فلهذا وصفه الله بأنه: ظن الجاهلية. أي ظن أهل الجاهلية، الذين يجهلون أن الله ينصرُ رسلهُ، ويؤَيدُهم على أعدائهم. {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}: كان من رأي عبد الله بن أُبَيّ وسائر المنافقين: ألاَّ يخرجوا للقتال، بل يبقوا بالمدينة حتى يهاجَمُوا فيها من المشركين. ولكن أكثر أصحاب الرسول -ممن لم يشهدوا بدرا- أصروا على الخروج، كما سبق بيانه. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيهم. وقال مقالته المعروفة: "ما يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أن يَضَعَ أداتَهُ بَعْدَ ما لَبِسَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بينَه وبَيْنَ عَدُوِّه (¬1) ". فلما حدث ما حدث، قال المنافقون: لم يكن لنا شيء من الأَمر، أي لم يؤخذ برأينا، وإِنما خرجنا كَرهًا. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والبيهقي وابن ماجه.

{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}: بيده مقاليد الأشياء، يقدر ويدبر كيف يشاء. وقد قضى بأن يخرج المسلمون في أَحد، وأَن ينهزموا لِحِكَمٍ يعلمها سبحانه، ويستفيدوا من درس الهزيمة، فلا يفعلوا ما يؤَدي إلى مثلها. {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}: يضمرون الشرك والشك في عون الله للمسلمين، ويظهرون لك الإيمان. {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}: أي يحدثون أنفسهم، أو يقول بعضهم لبعض: لو كان لنا من الرأي والتدبير شيءٌ ما خرجنا من بيوتنا، ولَمَا قُتل منا من قتل، ولا هُزِمنا. ولكنا غُلبنا على الأَمر، فأصابنا ما أصابنا. {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}: أي قل يا محمد؛ تنيهًا لهم إلى أن ما حدث من القتل كان تقديرًا من الله، - وما قدره الله لا بد أن يقع. حتى لو قعدوا ولم يغادر بيته منهم أحد، يوم أحد، لخرج الذين قدَّر الله عليهم أن يُقْتَلُوا إلى مصارعهم، التي قدر الله تعالى قتلهم فيها، وقتلوا هنالك ألبتة. فلا مفر من قدر الله. والتدبير لا ينفع مع التقدير. {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}: أي وليختبر الله ضمائركم وأسراركم -وهو بها أعلم- وليطهر قلوبكم من الشبهات- كتب عليكم القتال وما أَصابكم فيه. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: لا تخفى عليه من سرائركم خافية. فهو يجازيكم على ما تخفون. وهو غني بعلمه إياكم من اختباركم. وإنما يفعل ذلك؛ ليميز لكم الخبيث من الطيب، فيتبين لكم المؤمن من المنافق.

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} المفردات: {اسْتَزَلَّهُمُ}: أوقعهم في الزلل بما زَيَّنَه لهم. {ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ}: أوغلوا فيها. {غُزًّى}: جمع غازٍ. وهو المقاتل. التفسير 155 - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ... } الآية. الجمعان هما: جمع المسلمين وجمع المشركين. ويوم التقائهما. وهو يوم أحد. والذين توَلَّوا منهم: هم المسلمين الذين رجعوا إلى المدينة. بعد أن تركوا الرماة أماكنهم. أو هم الرماة الذين خالفوا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: وهو ألا يبرحوا أماكنهم بأي حال.

والمعنى: إن الذين تركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ورجعوا متأثرين بدعابة المنافقين منكم يوم التقى الجمعان بأحد. إنما أوقعهم الشيطان في الزلل ببعض ما كسبوه من الذنوب والمعاصي. كمخالفة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالثبات حتى النصر، وألا تغريهم الغنائم التي لاحت لهم. والتعبير ببعض ما كسبوا؛ للإيذان بأن الشيطان لم يستزلهم إلا من ناحية المخالفات أما الأعمال الصالحة من الإيمان. والخروج مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسائر الطيبات -فلا حيلة للشيطان فيها حتى يستزلهم عن طريقها. وهذا يشعر بأن جانب الخير فيهم وافرٌ متين. {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}: فغفر لهم هذا الذنب. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}: واسع المغفرة. {حَلِيمٌ}: عظيم الحلم، فقلا يعجل بالعقوبة على من عصاه. 156 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ... } الآية. هذا تحذير للمؤمنين الصادقين في عهده -صلى الله عليه وسلم- أن يحذوا حذو الكفار في التثبيط عن الجهاد. والمراد بالذين كفروا: المنافقون؛ لأن هذه الآيات متعلقة بشرح أحوالهم. ومع أن الآية نزلت في هؤلاء الصادقين من أصحاب رسول الله لتحذيرهم، فهي قاعدة عامة لنهي المؤمنين -في كل عصر- عن أن يثبطوا عن الجهاد في سبيل الله. {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}: أي: في شأنهم، أو لأجلهم؛ لأن إخوانهم الذين قالوا هذا في حقهم، ماتوا أو قتلوا. ومعنى أخوتهم لهم: اتفاقهم معهم نسباً أو مودة. {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى}: الضرب في الأرض: الإبعاد فيها للتجارة ونحوها. والغُزَّى جمع غاز وهو القتل. ولإفراد كونهم غزاة بالذكر -مع اندراجه تحت الضرب في الأرض- لأنه المقصود بيانه. وذكر الضرب الأرض: توطئة له. وتقديمه؛ لكثرة وقوعه.

على أن الغزو قد يوجد بدون ضرب في الأرض وسفر فيها. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}: أَي: لو لم يخرجوا وكانوا مقيمين عندنا، ما ماتوا وما قتلوا. وذلك جهل منهم بأن الله قدر الآجال، وأن الضرب في الأرض أو الغزو، لا يكون سبباً في الموت، أو القتل. وهم إنما قصدوا -بذلك- تعويق المؤمنين عن الجهاد. قال الرازي: وذلك لأن في الطباع محبة الحياة، وكراهية الموت والقتل. فإن قيل للمرء: إذا تحرزت للسفر والجهاد، فأنت سليم طيب العيش، وإن تقحَّمت أحدهما (¬1)، وصلت إلى الموت أو القتل -فالغالب أن ينفر طبعه عن ذلك، ويرغب في ملازمة البيت، وكان ذلك من مكايد المنافقين في التنفير من الجهاد. أ. هـ. {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}: هذا تعليل لنهي المؤمنين عن مشابهة المنافقين في اعتقادهم ورأيهم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا، لا تكونوا مثل الكافرين -المنافقين- في اعتقاد أن الحذر يمنع من القدر، وأن إخوانهم لو لم يخرجوا من المدينة. لما قتلوا. ولا تمتنعوا عن الجهاد -في أي مكان- تأثروا بما قالوا، ليجهل الله معاصاتكم لهم -فيما أرادوه منكم- سبباً لحسرة بالغة في قلوبهم. وقيل: إنه متعلق بـ {قالوا} في قوله: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}، فتكون اللام للعاقبة. على حد قوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬2). والمعنى: أن الله يجعل ذلك القول حسرة في قلوبهم، حين يرون من قتل منهم، وأنهم فشلوا في صرفهم عن الجهاد. أو أن هذه الحسرة تكون يوم القيامة، حين يرون ما أعد للمجاهدين من الثواب العظيم. ¬

_ (¬1) أي رميت نفسك فيه بلا روية. (¬2) القصص، من الآية: 8.

وما قلناه أولاً أولى. {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}: هذا رد حاسم لمقالتهم. فليس الإحياء والإماتة إلا في يد الله سبحانه. هو مقدِّرُهما .. فالموت يأتي القاعد في بيته متى حان أجله، كما يأتي المجاهد في حربه كذلك. وربما أصابت المنية القاعد، ولم تنزل بالغازي. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: فيجازيكم على أقوالكم وأفعالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. 157 - {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}: سيقت هذه الآية؛ لبيان أن الموت - في سبيل الله - وسيلة إلى نيل غفرانه ورحمته. وأنه خير مما يحرص عليه هؤلاء المنافقون في الحياة، وجمع حطام الدنيا، ومتاعها الزائل. كما سيقت لتحذيرهم مما يريده المنافقون، من إعظام الفجيعة في قتلى المؤمنين في غزوة أحد. والمعنى: ولئن قتلتم في الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وفزتم بشرف الشهادة، أو متم بغير قتل - وأنتم في سبيل الله - فذلك لا يقتضي الجزع، لأن مغفرة الله ورحمته، لمن ينال شرف القتل أو الموت في سبيله - خير من البقاء في الدنيا وما يجمعون من منافعها. 158 - {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}: المعنى: ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون للحساب والجزاء، لا إلى غيره. ومن كان مرجعه إلى الله، فعليه أن يقدر لذلك قدره، بأن يكون فراره مما يسبب العقاب، لا من الجهاد الذي يقتضي عظيم الثواب. وقدم القتل على الموت في الآية السابقة. لأنها كانت في المقاتلين. والغالب في شأنهم القتل. أما هذه الآية؛ فهي لبيان أن مصير جميع العباد إليه تعالى. والغالب في حالهم الموت. فلذا قدمه على القتل. والحشر: جمع الخلائق إلى الله بعد البعث، تمهيداً للحساب والجزاء.

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}. المفردات: {لِنْتَ لَهُمْ}: رفقت بهم. {فَظًّا}: الفظ؛ سيء الخلق. {غَلِيظَ الْقَلْبِ}:قاسيه. {يَخْذُلْكُمْ}: يمنع عنكم النصر. التفسير 159 - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... } الآية. بيان لعظم حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمة الله به وبهم، بعد ما كانت منهم من مخالفة أمر الرسول وفرارهم، كما سبق بيانه. أي: فبسبب رحمةٍ واسعةٍ من الله - بك وبهم - وفَّقك الله لصفح عنهم: فلنت لهم ورفقت بهم، ولم تغلظ عليهم في الملام. مع أنهم فعلوا ما يقتضي أشد التعنيف. إذ ترك أكثر الرماة أماكنهم فوق الجبل، واشتغلوا بجمع الغنيمة. فمكنوا المشركين من صعوده مكانهم، وقلب ميزان المعركة لصالحهم. وترتيب عليه أن أكثر الجيش فر، وترك الرسول

في قلة من أصحابه، فناله من أذى المشركين ما ناله، حتى أرجفوا بقتله.!! فكان لين الرسول معهم - بعد ذلك - رحمة من رحمات الله به وبهم. إذ كان سبباً في بقاء الإسلام، وجمع قلوب المسلمين. ولذا قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}: أي: ولو كنت جافي الطبع، قاسِيَ القلب، فعاملتهم بقسوة، وعنّفتهم على ما كان منهم، وأشحت عنهم غضباً عليهم - لنفرت قلوبهم منك، فتفرقوا عنك، ولم تستطع أداء رسالتك، وتبليغ دعوتك على وجهها الأكمل. فَلِينُهُ - صلى الله عليه وسلم - معهم - على خطئهم وعفوه عنهم - لم يكن عن ضعف، وإنما كان ناشئاً عن الرحمة التي فطره الله عليها. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}: قال صاحب الكشاف: اعف عنهم فيما يتعلق بحقك، واستغفر لهم فيما يتعلق بحق الله. {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}: أي: في أمر الحرب وغيره، من كل أمر له خطر ولم ينزل في شأنه وحي؛ استظهاراً برأيهم، وتطييباً لنفوسهم، ورفعاً لأقدارهم، وتقريراً لسنة التشاور في الأمة الإسلامية. وقد جاء في الكشاف: وعن الحسن رضي الله عنه: قد علم الله أنه ما به حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وقيل: كانت العرب، إذا لم يشاوروا في الأمر، شق عليهم ذلك. فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشاورة أصحابه، لئلا يثقل عليهم استقلالُه بالرأي دونهم. وكان - صلى الله عليه وسلم -، يدرك - تمام الإدراك - ما للمشاورة من أثر في الوصول إلى الصواب.

وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -:"ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم (¬1) ". {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}: أي: فإذا استقر رأيك، وسكنت نفسك - بعد المشاور - فأمْضِ الأمر ولا تتردد، وتوكل على الله في تنفيذ ما عزمت عليه فإنه هو المعين لك في أمور الدين والدنيا. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}: عليه في جميع أمورهم. وإنما يحبهم؛ لأنهم أخلصوا نفوسهم له، وطردوا عنها ما سواه، إذ لم يروا في غيره غناء. وحب الله لهم، مجاز عن توفيقه وإرشاده لهم في الدنيا، وحسن المثوبة في الآخرة. 160 - {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ... } الآية. أي: إن يمددكم الله بأسباب النصر، ووسائل الغلب، فلن يغلبكم غالب. فاتقوه وتوكلوا عليه وحده، وأعدوا للقتال عدته: من حشد الجنود، وإعداد السلاح، والتدبير المصحوب بالإيمان والصبر والثقة بالله .. فإن ذلك يوجب لكم النصر والغلب. وما النصر إلا من عند الله ... {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}: أي: وإن يمنع نصره عنكم، فمن هذا الذي ينصركم من بعده خذلانه لكم. والمراد أنه لا ناصر لكم سواه. وفي هذا تنبيه إلى أن الأمر كله لله. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: أمر المؤمنين بأن يخصوا الله - تعالى - بالتوكل عليه، والثقة به، في جميع أمورهم، مع الأخذ في الأسباب. والمراد بالتوكل، غير التواكل الذي هو ترك الأخذ بالأسباب، مما يقع فيه كثير من المسلمين، بناء على خطئهم في فهم المراد من التوكل. وهذا التواكل محرم شرعاً .. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده، والبخاري في الأدب. وأشار إليه الترمذي في آخر باب الجهاد.

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}. المرادفات: {يَغُلّ} يخون. فالغُلُولُ: الخيانة وأخذ الشيء خفية. وخص - في الشرع - بالسرقة من المغنم قبل القسمة. وفي قراءة "يُغَلّ" بضم الياء وفتح الغين، أي ينسب إلى الغلول. {بَاءَ بِسَخَطٍ}: رجع بغضب شديد من الله. التفسير 161 - {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ... } الآية أي ما صح وما استقام - عقلاً وشرعاً - لنبي من الأنبياء، أن يخون في المغانم وغيرها، أو يُنسَبَ إلى الخيانة. وفي هذا تنزيه لمقامه صلى الله عليه وسلم، عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة، ومنها قسمة الغنائم، وتنبيه على عصمته عليه السلام. فإن النبوة تنافي ذلك. والمراد: تنزيه ساحته صلى الله عليه وسلم، عما ظنة الرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد، حرصاً على الغنيمة، وخوفاً من أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئاً فهو له ... فيحرموا - فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم معاتباً متعجباً: "طننتم أنَّا نَغُل"؟! فنزلت الآية (¬1). ¬

_ (¬1) حكاه الواقدي عن الكلبي، ومقاتل.

وعن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"اتَّهَمَ المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فُقِدَ، فأنزل الله الآية". {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أي ومن يخن يأت بما خان فيه يوم القيامة، يحمله أمام أهل المحشر؛ ليفتضح أمره. وقد ورد أحاديث كثيرة في عاقبة الغلول، وأنه من الكبائر. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كان على ثَقَلِ (¬1) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو في النار؛ فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها (¬2) ". وقد امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاة الجنازة على من غل (¬3). {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. أي: تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت - من خير أو شر - وافياً تاماً، قليلاً كان أو كثيراً. والغال داخلاً في هذا العموم دخولاً أولياً. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: أي: وكل الناس لا يظلمون بنقص من ثواب ما عملوا من الخير، أو زيادة من العقاب على ما اقترفوا من الشر. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (¬4). ¬

_ (¬1) متاع المسافر (¬2) غلها: سرقها من الغنيمة. رواه البخاري نقلاً عن تاج الأصول 4/ 391 كتاب الجهاد. (¬3) انظر أبو داود في كتاب الجهاد - باب تعظيم الغلول. (¬4) النساء من الآية: 40.

162 - {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ ... } الآية. المعنى: أغفلتم عن عدل الله، فحسبتم أن من اتبع رضوان الله وسعى في تحصيله: بفعل الطاعات وترك المنهيات، كمن رجع بغضب شديد من الله عليه؛ بسبب الكفر والمعاصي، ومنها الغلول؟ أي: لا يستوي من اتبع رضوان الله - بالتزام شريعته، فاستحق ثواب الله ونعيمه - ومن حاد عنه، فاستحق غضبه وشديد عقابه، فلا محيد له عنه. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ}. أي: مقره ومثواه جهنم: يلقى فيه عذاب الهون؛ جزاء تفريطه في أوامر الله تعالى ونواهيه. (وبئس المصير). أي: وبئس مآله ومرجعه السيئ: جهنم. 163 - {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ... } الآية. أي: المتبعون رضوان الله والذين باءوا بسخطه، ذوو درجات ومنازل متفاوتة في الثواب والعقاب. فأصحاب الثواب متفاوتون في الدرجات. والمستحقون لغضب الله وعذابه، متفاوتون كذلك. والدرجات تكون في النعيم، وتكون في العذاب. يدل لذلك قوله تعالى {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (¬1) بعد قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (¬2). والمراد بقوله تعالى: (عند الله) أي: في علمه تعالى وحكمه. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: أي: بصير بالأعمال التي عملوها من خير أو شر. سيجازيهم عليها: كلاً بحسبه من ثواب أو عقاب. ¬

_ (¬1) الأنعام من الآية: 132. (¬2) الأنعام الآية: 131.

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}. المرادفات: {مَنَّ}: المن؛ التفضل والإنعام بغير مقابل. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: من جنسهم. {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: القرآن والسنة. {أَنَّى هَذَا}: من أين هذا؟. التفسير 164 - {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... } الآية. أي: أنعم الله تعالى وتفضل على المؤمنين، ببعثه الرسول فيهم من جنسهم: عربياً مثلهم: نشأ بينهم، وعرفوا أخلاقه وصفاته. وإذا كان الرسول إليهم من جنسهم، كان ذلك أبلغ من الامتنان. حيث يسهل عليهم مخاطبته ومجالسته، ومعرفة أمور الدين منه. وبعثته - صلى الله عليه وسلم - فيهم - وهو منهم - شرف للعرب، وفخر عظيم لهم. وإن كانت رسالته عامة للعالمين أجمعين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1). {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}: وهو القرآن، وبعد أن كانوا أهل جاهلية. لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي. ¬

_ (¬1) الأنبياء الآية: 107.

{وَيُزَكِّيهِمْ}: أي ويطهرهم مما كانوا فيه من دنس الجاهلية؛ وخبيث المعتقدات. حيث دعاهم إلى العقيدة الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والأعمال الصالحة. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}: أي: ويعلمهم القرآن وشرائعه، وحكمه وأحكامه، والسنة وما اشتملت عليه من بيان لمُبْهم الكتاب، وتفصيل لِمُجمَله. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: أي: وإنهم كانوا - من قبل بعثته - لفي ضلال، واضح الدلالة على الجهالة، ظاهر لكل من اطلع على عاداتهم وأخلاقهم وعقائدهم. 165 - {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ... } الآية. كلام مستأنف، سيق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة بعد معركة أحد، إثر إبطال بعض آخر منها. والمعنى: أفعلتم ما فعلتم من أسباب الهزيمة ولمَّا أصابتكم مصيبة يوم أحد بقتل سبعين شهيداً منكم {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}: يوم بدر بقتل سبعين من كفار قريش وأسر سبعين منهم - لما حدث هذا - قلتم: من أين هذا الذي أصابنا وقد وعدنا الله النصر؟!. {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}: بسبب عصيانكم أمر رسول الله، حيث أمركم بالثبات في مكانكم فعصيتم. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فهو ينصركم حين تستحقون النصر، ويكتب عليكم الغلبة حين تقصرون في التزام أسبابه. وفي ختم الآية بما ذكر: ما يرشد إلى أن الأمر كله بيده وتحت قدرته، سبحانه وتعالى.

{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)}. المرادفات: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}: أي يوم أحد، حيث التقى جمع المؤمنين وجمع المشركين. {وَلِيَعْلَمَ}: وليظهر ويميز. {نَافَقُوا}: النفاق؛ إظهار الإيمان وإبطال الكفر. {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}: أي فادفعوا عن أنفسكم. التفسير 166 - {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ... } الآية. أي: وما نزل بكم من استشهاد بعضكم، يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين بقيادة رسول الله، وجمع المشركين بقيادة أبو سفيان {فَبِإِذْنِ اللَّهِ}: أي فكائن بقضاء الله وقدره، حسبما جرت به سنته في خلقه، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬1). ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 140.

وفي ذلك تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، ومواساة لهم فيما أصابهم. فالمؤمن إذا عرف ذلك، يرضه ويُسلِّمُ بما قضاه الله وقدره. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}: أي: وليظهر المؤمن الصادق من غيره، وليميز الله الخبيث من الطيب. 167 - {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ... } الآية. أي: وليظهر غير الصادقين في الإيمان. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}: أي: وقيل للمنهزمين من عبد الله ابن أُبي - رأس المنافقين - تعالوا قاتلوا في سبيل الله لإعلاء دينه ونصرة نبيه، أو ادفعوا عن أنفسكم وأموالكم، إن لم تقاتلوا لوجه لله. وممن قال لهم ذلك. عبد الله بن عمرو بن حرام. {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ}: هذا استئناف بياني، أي قالوا: لو كنا نعلم أنكم تلقون قتالاً لاتبعناكم وسرنا معكم. أو قالوا استهزاءً: لو نعلم فنون الحرب وأساليبها لاتبعناكم. ثم كشف الله حقيقة أمرهم فقال: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}: أي هم - يوم قولهم ذلك - أقرب للكفر منهم للإيمان، حيث تركوا الجهاد في سبيل الله، وقالوا ذلك كاذبين. وإنما لم يصرح القرآن بحقيقة كفرهم، لنطقهم بالشهادتين. وهم - في الواقع - لا إيمان في قلوبهم.

{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}. هذه جملة - تبين حال المنافقين الدائمة، لا في هذا اليوم فقط. أن أنهم يتكلمون بكلمة التوحيد وليس في قلوبهم منه شيء؛ لإضمارهم الكفر والعداوة والبغضاء لأهل الإسلام. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}: أي: والله سبحانه عليم بما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد، وبأن ما قالوه بأفواههم، ليس كائناً في قلوبهم، بل مخالفاً له. 168 - {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ... } الآية. أي: الذين قالوا في حق إخوانهم في الدين، أو ذوي قرابتهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقاتلوا، وقد قعدوا هم عن مشاركتهم والجهاد معهم. {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}: أي لو أطاعونا في ترك السير مع الرسول والمؤمنين، ما قُتلُوا كما أننا لم نقتل. وفي ذلك ما يدل على أن المنافقين، حرَّضوا المؤمنين على التخاذل والقعود عن الجهاد. {قُلْ فَادْرَءُوا}: أي قل لهم يا محمد: إن كان القعود ينجي من الموت كما تزعمون. فادفعوا عن أنفسكم الموت الذي كتب عليكم. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: فيما تزعمون من أن الموت لم يقع بكم، لأنكم قعدتكم وجبنتم. قال تعالى {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (¬1). ¬

_ (¬1) الأحزاب: 16، 17.

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}. التفسير 169 - {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ... } الآية. كلام مستأنف: سبق لبيان أن القتل الذي يحذرونه، ويحذِّرون الناس منه، ليس مما يحذر ويتقى. بل هو من أجلّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون. والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يقف على الخطاب ويصلح له. أي: لا تحسبن الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً كسائر من يموت. {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}: أي: بل هم أحياء حياة كريمة عند ربهم، في دار كرامته، حيث ينعمون النعيم اللائق بما قدموا من بذل أرواحهم في سبيله. {يُرْزَقُونَ}: برزق الجنة على وجه يعلمه الله. فالحياة والرزق للشهداء، قد جاء بها القرآن. فيجب الإيمان بها. وقد وردت السنة الصحيحة مبينة ما عليه الشهداء في الجنة. روى مسلم (¬1) في صحيحه بسنده، عن مسروق، أنه سأل عبد الله (يعني ابن مسعود) عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. ¬

_ (¬1) مسلم في باب الإيمان: "أن أرواح الشهداء في جوف طير خضر" من كتاب الإمارة.

فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ... " الحديث. وروى الإمام أحمد في مسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ، في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله: - عز وجل - أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله في هؤلاء الآيات": {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ... }. وكذلك رواه أبو داود، والحاكم في مستدركه. 170 - {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... } الآية. هذه تتمة أحوال الشهداء في الآخرة. فهم أحياء عند بهم يرزقون. وهو فرحون بما أعطاهم الله من ثوابه وكرامته، وإحسانه الدائم الذي لا يسلب عنهم. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}: أي: يُسرُّون بإخوانهم الذين يقاتلون بعدهم في سبيل الله، ولمَّا يظفروا بالشهادة، بأن لهم إحدى الحسنيين: النصر، أو الشهادة. {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}: أي: أنهم لا يخفون حين يقدمون عليهم شهداء مثلهم. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: على ما تركوه وراءهم من دنيا فانية. وهذا يبعث في نفوس الأحياء الجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء.

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}. التفسير 171 - {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ... } الآية. أي: يتجدد استبشارهم وسرورهم بنعمة من الله وفضل عظيمين في الجنة: دار الثواب، حيث يجدون فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬1). {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}: أي: ويستبشرون بأن الله - سبحانه وتعالى - عادل رحيم بعباده: يكافيء المؤمنين، ولا يضيع أجرهم على أعمالهم. بل يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضاعفة. والآية - وإن نزلت في شهداء غزوة أحد - حكمها عام في جميع شهداء المؤمنين؛ المجاهدين في سبيل الله. ¬

_ (¬1) يونس من الآية: 26.

{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}. المفردات: {الْقَرْحُ}: الجرح. {حَسْبُنَا اللَّهُ}: كافينا وحافظنا. {الْوَكِيلُ}: المتصرف. أو الكافي. أو الكافل. التفسير 172 - {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}: هذا كلام مستأنف؛ سيق لبيان فضل أهل أُحد: الذين أصابتهم الجراح وأثخنتهم. ولكنهم استجابوا لدعوة الله ورسوله؛ ليرهبوا المشركين، حتى لا يحملهم ما حسبوه نصراً في المعركة، على الذهاب إلى المدينة. ليتموا نصرهم على المسلمين. رُوِي أن أبا سفيان وأصحابه، لما انصرفوا من أُحد، فبلغوا الروحاء: ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة. فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان. وقال: "لا يخرجنَّ معنا

إلا من حضر يومنا بالأمس" فخرج - صلى الله عليه وسلم -، مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال. وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم حتى يفوتهم الأجر، وألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين. فذهبوا، فنزلت الآية (¬1). والمعنى: الذين لبَّوا دعوة الله ورسوله: للخروج خلف المشركين، من بعد ما أصابهم الجرح في غزوة أُحد، ليمنعوهم من العودة إلى المدينة - هؤلاء الذي أحسنوا في خروجهم واتقوا مخافة نبيهم، وخافوا الأضرار المترتبة عليها - لهم أجر عظيم، وثواب جزيل من عند الله. 173 - {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: لما أُصيب المسلمون في أُحد، نادى أبو سفيان، قائد جيش المشركين: موعدنا بدر من العام المقبل. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: نعم. إن شاء الله" فلما كان العالم المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة، حتى نزل مَرَّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فبدا له الرجوع. ولكنه خشي أن رجوعه يزيد المسلمين جُرأة، فبعث إليهم في المدينة من يُثَبِّطُهم. وقيل: إن الذي حمل رسالته، هو نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد قدم معتمراً. فسأله ذلك، والتزم له عشراً من الإبل. فخرج نعيم. فوجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم: أتوكم في دياركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريد. أفترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لأخرجنَّ، ولو لم يخرج معي أحد" فخرج في سبعين راكباً، كلهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) ابن كثير 1/ 428.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}: أي فزادهم هذا التخذيل إيماناً وثقة بالله. وقالوا في يقين صادق. {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: الله كافينا: يَرُدُّ عنا أعدائنا وينصرنا، ونعم الكفيل الله تعالى. 174 - {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ... } الآية. اتجه المسلمون إلى لقاء المشركين في بدر، حسبما تواعدوا مع أبي سفيان عقب عزوة أُحد. فلم يجدوا أحداً من المشركين فيها. ووجدوا السوق قائمة. فاتجروا فيها بما معهم، فربحوا ربحاً وفيرا .. وقد أقاموا بها ثمانية أيام. والمعنى: فعادوا من بدر الثانية، بنعمة من الله عظيمة: وهي العافية والثبات على الإيمان والزيادة فيه، وخوف العدو منهم. كما عادوا بفضل منه تعالى، وهو ما ربحوه في تجارتهم. {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}: أي حرصوا على فعل ما يرضي الله تعالى عنهم. من المبادرة إلى فعل الطاعات. ومنها: خروجهم لبدر، وترك المنهيات. ففازوا برضوان الله، وتأييده، ونصره. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}: يخص به من والاه. وتنكير الفضل، ووصفه بالعظيم، دليل على سمو قدره، وعظيم منزلته.

{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}. التفسير 175 - {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: المراد بالشيطان: إبليس. وبأوليائه: أبو سفيان وأصحابه. والمعنى: إنما لكم إبليس: يخوفكم أنصاره على لسان هذا المخذِّل المأجور. وذلك بقوله لكم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (¬1) ". {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فلا تخشوا هؤلاء الكفار؛ لأنكم أنصار الله. والله لا يتخلى عن أوليائه المناصرين له. كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬2). ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 173. (¬2) محمد، من الآية: 7.

{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فيها إشارة إلى الإيمان القوي، يمحو الخوف من القلوب .. إلا خوف الله تعالى. قال الإمام محمد عبده: من تدبر هذه الآية الكبيرة حق التدبر، علم أن المؤمن الصادق، لا يكون جباناً. فإن الشجاعة وصف ثابت للمؤمنين الصادقين. إذا شاركهم فيه غيرهم، فإنه لا يدرك فيه مداهم. لأن الكفار والمنافقين. أحرص الناس على حياة، والخوف من الله ليس جبناً؛ لأنه خوف ممزوج بالحب؛ ولأنه خوف موصول بالأمن: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1) ولأن المؤمنين {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). 176 - {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ... } الآية. كان للمنافقين مواقف شائنة في غزوة أحد: أحزنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الرسول - لما وافق على رأي أغلبية المسلمين بالخروج للقاء المشركين خارج المدينة - غضب عبد الله بن أبي ابن سلول - رأس المنافقين - لأنه كان من رأيه البقاء بالمدينة. فأضمر الغدر. فلما كان جيش المسلمين بالشوط - هو بستان بين أُحد والمدينة - رجع عبد الله بن أُبيّ بثلاثمائة من أصحابه. وقال: عصاني محمد، واتبع الولدان - يقصد الشبان - ونسي هذا المنافق: أن عبء القتال يقع عليهم لا على الشيوخ. وأنهم كانوا هم الأغلبية. وقال أيضا: علام نقتل أنفسنا؟ وكان هذا المقال الباطل منه، تبريراً لذلك الموقف الشائن المخذل: الذي أضر بوحدة المسلمين، وهم مقبلون على لقاء العدو. حينئذ تبعهم عبد الله بن عمرو: والد جابر بن عبد الله. وقال: يا قوم: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم. فقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (¬3) فقال لهم والد جابر: أبعدكم الله، فسيغني الله عنكم نبيه. ولما فعل عبد الله بن أبي ذلك، همت طائفتان أن تفشلا. وهما: بنو حارثة من الخزرج، وبنو سلمة من الأوس. فعصمهما الله، وعدلتا عما اعتزمتا. ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية: 832. (¬2) يونس، من الآية: 62. (¬3) آل عمران، من الآية: 167.

ولما دارت الدائرة على المسلمين في أُحد، بسبب موقف المنافقين أولاً، وبسبب ترك الرماة أماكنهم فوق الجبل لحماية ظهور المسلمين ثانياً، ورجعوا إلى المدينة تثقلهم الجراح - بعدما استشهد بعضهم - سخر بهم المنافقون، وأظهروا ما في قلوبهم من البغضاء، وقالوا في حق إخوانهم الذين قتلوا في المعركة: { ... لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} (¬1) وكانوا - بهذا الموقف - جديرين بما وصفهم به الله: { ... هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (¬2). ولما ستعرض الرسول تلك المواقف الشائنة من المنافقين، حزن وتألم. فأنزل الله تلك الآية؛ لتسليته. والمعنى: لا يحزنك المنافقون الذين يسارعون بما فعلوا في الكفر، فإنه لا يفعل ذلك إلا الكافرون الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان. والشيء من معدنه لا يستغرب. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}: أي لن يضر دينه شيئاً من الضرر. فإذا كان عملهم هذا أساء إلى الإسلام والمسلمين في غزوة أحد، فلن يؤدي إلى ضعف دين الله. فقد أتم الله نوره. وأظهر دينه على الدين كله "والله غالب على أمره" (¬3). ولقد استفاد المسلمون من هذه الغزوة، إذ عرفوا أعدائهم المنبثِّين فيما بينهم من المنافقين، فأخذوا حذرهم منهم. {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}: أي: يريد الله ألا يجعل لهم نصيباً في نعيم الآخرة، بسبب ما أبدوه من أسباب الفرقة والتخذيل والشماتة: فيما أصاب المسلمين، وما انطوت عليه نفوسهم من الكفر بدينه. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وعقاب أليم، فوق عذاب الحرمان من نعيم الجنة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية 156. (¬2) آل عمران، من الآية: 167. (¬3) يوسف من الآية: 21. (¬4) النساء، الآية: 145.

177 - {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: المعنى: إن الذين استبدلوا الكفر بالإيمان - بعد ما قام برهانه - لن يضروا دين الله شيئاً من الضرر. فسيمضي إلى ما شاء الله من النمو والازدهار. وما يضروا بمكائدهم سوى أنفسهم، حيث يضرونها: في الدنيا بالتلوث بالكفر الذي قام البرهان على فساده، وفي الآخرة بالعقاب. وذلك هو قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: لا يعصمهم منه عاصم، ولا ينقذهم منه منقذ. وقد أكدت هذه الآية، وما أفادته الآية السابقة، من أن السعي في الإضرار بالإسلام، لا يضر الإسلام. فإنه ماضٍ إلى ما كتبه الله من الذيوع والانتشار. وإنما يضر ذلك السعي صاحبه في الدنيا والآخرة. كما عممت الحكم في جميع الكفار: سواء أكانوا منافقين أو صرحاء بالكفر. 178 - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ... } الآية. المعنى: ولا يعتقدن الذين كفروا: أن إمهالنا لهم، وعدم تعجيلنا بعقوبتهم علي كيدهم للإسلام - خير لأنفسهم، فإن فازوا في غزوة من الغزوات، أو في مكر سيء فعلوه بالإسلام، ولم يعجل الله بعقوبتهم، فلا يفرحوا بذلك. فهذا إملاء من الله لهم وإمهال، حتى تأتيهم عقوبة الله في أوانها، بعد أن تزداد مآثمهم، مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}: أي: ما نمليهم ونؤخر عقوبتهم، إلا لتكون عاقبتهم أن يزدادوا إثماً على إثمهم: بكثرة المعاصي فيستحقوا أشد العذاب، إن لم يرجعوا - بهذا الإمهال - عما هم فيه من الكفر والمعاصي. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}: أي: ولهم في الآخرة عذاب مهين: يقلل منزلتهم في الدنيا بالكفر والمعاصي، والكيد للإسلام والمسلمين، والبادئ أظلم.

روى الشيخان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته". وقد استفيد من الآية: أن الله تعالى. لا يعجل بعقوبة الكفار والعصاة. والحكمة من ذلك: أن يترك لهم فرصة واسعة للتفكير فيما هم فيه، لعلهم يرجعون إلى رشدهم، ولا تكون لهم حجة على الله، ليقولوا: لولا أخرتنا. لعلنا نرجع ونتوب. فإن لم يرجعوا، ازدادوا إثماً واستحقوا أشد العذاب، حيث لم يستفيدوا بإمهال الله لهم. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}. المفردات: {لِيَذَرَ}: ليترك. {يَمِيزَ}: يفرق ويعزل. {يَجْتَبِي}: يختار. التفسير 179 - {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... } الآية. بيّن الله تعالى في هذه الآية - بعض حِكَمِه في أحداث غزة أحد، ومشاهداها المختلفة. والمعنى: ما كان الله ليترك المؤمنين على ما هم عليه، من اختلاط المنافقين بالصادقين منهم، وعدم تبين حالهم لهم؛ لما في ذلك من خطورة عليهم وعلى الإسلام. فإن أعدى أعداء

المسلمين، مَنْ لبس ثوب الصديق، واستتر فيما بينهم، فعاملوه معاملة المخلص، وكاشفوه بالأسرار - وهو يدبر لهم أسباب المعاطب في الخفاء، ويباطن أعدائهم بالولاء - فلا بد أن يدبر الله من أسباب المحن، ما يفضح به نفاق المنافقين ويكف به ستر المرائي، ويظهر به إخلاص المخلصين، وصبر المستيقن وبلاءه: في سبيل دينه ورسوله وربه. فلذا جاءت تلك المحن في غزوة أحد. فكشفت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، حجم النفاق ومداه، بما كان من رجوع ابن أبي - رأس النفاق - وثلاثمائة ممن كانوا على مذهبه، وإشاعته - وبعض من حضر منهم الموقعة - أكذوبة قتله - صلى الله عليه وسلم - التي زعمها ابن قميئة المشرك. وقول بعضهم: علام نقاتل وقد قتل محمد؟ ودعوتهم إلى أخذ الأمان من أبي سفيان، والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر. وقول بعض آخر: لو كان محمد نبياً لما قتل. وإلى غير ذلك مما كشف الله به أستارهم. كما كشفت تلك الغزوة للنبي أيضاً: صدق المخلصين، واستبسالهم في الدفاع عنه وعن الإسلام الذي دانوا به، ورجوعهم إليه بعد فرارهم من نبال المشركين، وشدة حملتهم عليهم. وذلك بعد أن علموا: أنه حيٌّ لم يمت - كما أشاعه المنافقون. فقد ناداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إليّ عباد الله، فلبَّوا سراعاً، وبالرغم مما بهم من جراح: فرحين ببقائه بين ظهرانيهم: يقودهم في دعوة الإسلام، حتى يظهره الله على الدين كله. فكما استبان بذلك أمر المنافقين للرسول، استبان به - كذلك - إخلاص المؤمنين الصادقين. وبذلك تحقق ما أراده الله من أغراض هذا الامتحان. وهو أن يتميز الخبيث من الطيب. والأثر المترتب على ذلك: أن يعرف المخلصون بعضهم بعضا، ويتماسكوا. وأن يحذروا المنافقين الذين هُتكَتْ أستارهم، وعرفت أسماؤهم. وحقيقة نواياهم. ولا شك أن ذلك له أثره في مستقبل الدعوة الإسلامية. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}:

أي: ما كان الله ليظهركم على ما غاب عنكم من الأسرار مباشرة، بأن يقذفه في قلوبكم، ومن غير أن يعقد من الأسباب ما يكشف به الأمور الخفية عليكم. فإن إظهار الغيب - بغير إبراز الأسباب - لا يكون إلا للرسول. ولهذا قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}: أي: ولكن الله يصطفي ويختار من رسله من يشاء، ويطلعه على ما يشاء من غيبه، ويحقق له بالوقائع ما أخبره به من الغيب. كما فعل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ أطلعه على نفاق المنافقين، ثم حقق له - بوقعة أحد - ما أخبره به من نفاقهم. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}: أي: فداوموا على ما أنتم عليه من الإيمان بالله ورسله، بعد ما عرفتم أسرار هذه المحنة التي حلت بكم في أُحد، وعرفتم حكمتها. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: وإن تدوموا على ما أنتم عليه من الإيمان، وتتقوا مخالفة الله ورسوله، فلكم على ذلك أجر عظيم. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}. المفردات: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}: سيجعل ما بخلوا به طوقاً في أعناقهم.

التفسير 180 - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ... } الآية. بعد أن بين الله أحداث أُحد، وأسرار المنافقين فيها، وأمر المسلمين بالتقوى - شرع يحض المسلمين على بذل المال في سبيل الله، فإنه من أهم أسباب التقوى والوقاية من مكائد المشركين: الذين عرفوا جِدّهم في القضاء على الإسلام والمسلمين، وبين لهم عاقبة البخل في البذل. والمعنى: ولا يظنن الذين يبخلون في سبيل الله، بما أعطاهم الله من فضله من المال، فلا يبذلونه في إعداد أسباب القوة والغلبة على الأعداء، ولا ينفقونه على الفقراء، وفي سبيل الخير - لا يحسبوا ذلك البخل خيراً لهم، ونفعاً يعود عليهم. بل هو شر كبير لهم. فإنهم سيضعفون أمام أعدائهم، لعدم إعدادهم العدة للقائهم. كما أنه يورث الحقد في قلوب الفقراء، ويبعثهم على الإخلال بالأمن، ويغريهم بالنهب والسلب، والسرقة والقتل، لمن منعوا عنهم حق الله فيما آتاهم الله من فضله. فضلاً عما ينتظرهم من عقوبة في الآخرة: بينها الله بقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أي: سيجعل الله المال الذي بخلوا به عن وجوهه المشروعة، طوقاً في أعناقهم يوم القيامة. وفي ذلك يروي البخاري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ... } الآية. والشجاع الأقرع: الثعبان القوي. والزبيبتان: نقطتان سودوان فوق عيني الثعبان. واللهزمتان: الشدقان. وروى النسائي والطبراني بسنده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداً".

{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي: ولله مآل السموات والأرض ومن فيها. فمصير هذه الدنيا إلى زوال. ثم يستقبل الخلائق - بعد ذلك - حساباً على ما قدموا من أعمال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1) ومن كان أمرهم إلى ذلك، فلا يصح لهم أن يبخلوا ببذل المال، فيما شرعه الله من وجوه البر والإحسان، فيندموا بتقصيرهم فيما ينفعهم، وحرمانهم من له حق عليهم. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: فلا يغيب عن علمه من أحسن ومن أساء. فيجزي كلاًّ على ما عمله أعمالهم. {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} التفسير 181 - {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ... } الآية. لما حثَّ الله المسلمين على البذل، ونهاهم عن البخل: الذي هو من ألزم الصفات القبيحة لليهود - أتبع ذلك الحديث عن اليهود، وبخلهم، وبعض آثامهم. ¬

_ (¬1) الزلزلة: الآيتان الأخيرتان.

سبب النزول: قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: لما نزل قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (¬1) قالت اليهود: يا محمد، افتقر ربك فسأل عباده القرض. فنزلت هذه الآية. وروى البغوي في معالم التنزيل، عن عكرمة والسدي ومقاتل: أنه - صلى الله عليه وسلم -، كتب مع أبي بكر رضي الله عنه، إلى يهود بني قينقاع: يدعوهم إلى الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً. فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض. فلطمه أبو بكر رضي الله عنه، في وجهه، وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد، لضربت عنقك. فشكاه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجحد ما قاله. فنزلت. والمعنى: لقد علم الله قول اليهود الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء: مجترئين - بهذا القول الشنيع - على من لا تنفد خزائنه. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}: سنكتب هذه الفرية التي بلغت الغاية في الشناعة والقبح، ونكتب أيضاً: قتلهم الأنبياء بغير حق. ولا يكون قتلهم إلا ظلما. فهم دعاة الحق. {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: أي: ويقال لهم من جهة الله تعالى، تقريعاً وإهانة - وهم يعذبون بالنار - ذوقوا عذاب الإحراق بالنار. ليجتمع لهم العذاب لجسدي، مع العذاب الروحي. 182 - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}: أي ذلك العذاب، عقاب عادل بسبب ما فعلتموه في الدنيا من الآثام، وبأن الله ليس بظالم لعبيده. فبقدر العمل يكون الجزاء. {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} (¬2). ونسبة العمل إلى الأيدي - مع أنه قد يكون بغيرها - لأن أكثر الأعمال تزاول بها. وصيغة (ظَلاَّمٍ) للنسب: أي ليس منسوباً إلى الظلم، ومن استعمال هذه الصيغة في النسب قولهم: نجَّار: أي منسوب إلى النجارة، وحداد: أي منسوب إلى الحدادة، وعطار: أي منسوب إلى العطارة. ¬

_ (¬1) البقرة من الآية: 245. (¬2) آل عمران من الآية: 108.

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}. المفردات: {عَهِدَ إِلَيْنَا} العهد: حفظ الشيء مراعاته، حالاً بعد حال. {بِقُرْبَانٍ} القربان: كل ما يتقرب به إلى المعبود. {بِالْبَيِّنَاتِ}: المعجزات الواضحات. {وَالزُّبُرِ}: هو المواعظ والزواجر. جمع زبور، من: زبرته، بمعنى: زجرته. التفسير 183 - {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ... } الآية. أي هؤلاء اليهود الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، هم الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما دعاهم إلى الإيمان برسالته المؤيدة بالمعجزات الكافية - قالوا: لن نؤمن لرسول ولن نصدق به، حتى يأتي بقربان تحرقه النار. كما كان يفعله أنبياء بني إسرائيل. قل لهم يا محمد: قد جاءكم رسل من قبلي: بالمعجزات، وبالقربان الذي تأكله النار كما طلبتم. فلم قتلتم هؤلاء الأنبياء. كيحيى وزكريا، إن كنتم صادقين في أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بمثل هذا القربان؟

والغرض المقصود من الآية: تكذيبهم في وعدهم بالإيمان لو جاءهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بالقربان الذي طلبوه؛ لأن لهم سوابق في تكذيب من جاء به، وقتله. والنار التي تأكل القربان، لم نقف على نص يعول عليه: يبين مصدرها، وكيفية إحراقها. 184 - {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ... }: هذه الآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عما لقيه من تعنت أهل الكتاب، ببيان: أن ذلك شأنهم وعادتهم، ليعلم أنه ليس أول رسول كذبه قومه. فكم من الرسل قبله جاءوا أممهم بالحجج الواضحة، والمواعظ الزاجرة، والكتب التي أضاءت الطريق إلى الله، فكذبوهم. وجحدوا ما جاءوا به من الشرائع. والبلوى إذا عمَّت، هانت. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}. التفسير 185 - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... } الآية. وعْدٌ من الله للمصدقين، ووعيد للمكذبين؛ ببيان أن الحياة فانية، وأن مردَّ الجميع إلى الله، يجزي كل نفس بما عملت. فمن كان من المصدقين العاملين، أُبعِد عن النار، وأُدخل الجنة. ففاوز بالنجاة، والنعيم المقيم. ومن كان من المكذبين الضالين الذين اطمأنوا إلى الحياة الدنيا وزينتها - خابوا، وخسروا، إذ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. وما الحياة الدنيا إلا متاع زائل يغُرُّ الجاهل، ولا يسر العاقل.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}. المفردات: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}: لتختبرن فيها بالإصابة ببعض البلايا. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: من الجد في الأمور. مأخوذ من عزم الأمر. أي جد فيه. {مِيثَاقَ}: الميثاق، العهد. {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}: أي طرحوه خلفها. والمقصود: أنهم أهملوا، ولم يعملوا به. {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: واستبدلوا بهذا الميثاق، مقابلاً قليلاً، من أعراض الدنيا. التفسير 186 - {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: الربط: بعد أن أخبر الله تعالى: أن كل نفس ذائقة الموت، ليتسلى كل امرئٍ عمن فقده من أحبابه بهذا القضاء الشامل، أتبع ذلك إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين: أنهم سيلقون أنواعاً من البلاء: في أنفسهم وأموالهم. وسيؤذون من أعدائهم؛ ليوطنوا

أنفسهم على احتمال ذلك عند وقوعه. فقال جل شأنه: {لَتُبْلَوُنَّ ... } الآية. والخطاب في {لَتُبْلَوُنَّ}: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين، وما فيه من التوكيد لتحقيق وقوع البلاء، مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ له، والصبر عليه، لما فيه من الحكم. ولما كان المولى يعلم بحال عباده من قبل أن يخلقهم، فالمراد بابتلائه لهم: إصابتهم ببعض البلايا، ليظهر ما علمه أزلاً من حالهم: من الثبات والصبر، أو الجزع والهلع، فيجازي كلاً بما كسب. والمعنى: لتختبرن حتماً {فِي أَمْوَالِكُمْ}: بنقصها أو تلفها، أو استيلاء الأعداء عليها، أو نحو ذلك. {وَأَنْفُسِكُمْ}: بالقتل والأسر والجرح، والأمراض الجسدية، والمتاعب النفسية. {وَلَتَسْمَعُنَّ}: قطعاً. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: التوراة والإنجيل وما بينها. {مِنْ قَبْلِكُمْ}: وهم اليهود والنصارى. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}: وسائر الكفار. {أَذًى كَثِيرًا}: من الطعن في الإسلام، والقدح في رسلكم، وصد من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، ومحاولة تكفيره، وتحريضه على معاداة رسوله. والخطاب هنا - فيما يلي - وإن كان لرسول الله وأصحابه - فحكمه عام للمسلمين جميعاً: في كل زمان ومكان، إلى يوم القيامة. ولما أكد أن ذلك سيحدث لهم، أمرهم أن يقابلوه بالصبر والتقوى، فقال:

{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: أي: وإن تصبروا على تلك الشدائد عند وقوعا، وتقابلوها بحسن التحمل، وعدم الجزع، وعفة اللسان، وتتخذوا لكم وقاية منها باللجوء إلى الله، وتساوى المحبوب والمكروه لديكم في سبيل رضاه تعالى، واتخاذ أسباب الوقاية والعلاج من الأمراض والجراح، وإرهاب الخصوم والأعداء بأسباب القوة والغلبة - إن تفعلوا ذلك - فإن الصبر والتقوى منكم، من عزم الأمور والجد فيها. وهو فضيلة يتنافس فيها المتنافسون. وأنتم بها أحق وأولى. ويجوز أن يكون المعنى: وإن تصبروا وتتقوا، فهو خير لكم، فإن الصبر والتقوى مما يجب أن يعزم عليه كل أحد، لما فيهما من كمال المزية والشرف. وإنما أَخبرهم بذلك قبل وقوعه، وأمرهم بالثبات والتقوى، ليستعدوا للقائه، فإن هجوم الشدائد قد يزلزل الأقدام. أما الاستعداد لها، فإنه يهون أمرها. وعبر عن اليهود والنصارى بقوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: للتنبيه على أن مدار ما يسمعونه منهم من الأذى ينسبونه - كاذبين - إلى كتابهم. وكتابهم منه براء. فهو مدسوس عليه منهم، تحريفاً أو سوء تأويل. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1) ". ومن أمثلة ذلك قولهم: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} (¬2) ". وقد رد الله عليهم بقوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 78. (¬2) آل عمران، من الآية 183.

وبعد أن أخبر الله المؤمنين بأنهم سيبتَلون في أموالهم وأنفسهم، وسيؤذَون من أهل الكتاب والمشركين، عقبه بذكر بعض إيذائهم، فقال مستأنفاً: 187 - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}: المعنى: واذكر - يا محمَّد - حين أخذ الله العهد المؤكد على الذين أعطاهم الكتاب: من علماء اليهود والنصارى، فقال لهم بأسلوب التأكيد: لتبينن هذا الكتاب الذي أنزل عليكم للناس، ولا تكتمون عنهم ما فيه من الحقائق التي منها شواهد نبوتك يا محمد وأماراتها، فنبذوا هذا العهد الوثيق المأخوذ عليهم، وطرحوه وراءهم ظهريا، إذ لم يعلموا به. فلم يبينوا الكتاب، بل كتموه واستبدلوا بالوفاء به عوضا ومقابلا قليلاً. هو الرياسة الدينية والجاه، والمال الحرام الذي يرتشون به، ويأخذونه من غير وجهه المشروع. فبئس شيئاً يشترونه ويأخذونه: ذلك الثمن القليل الذي آثروه على الوفاء بالميثاق: بتبيان الكتاب، وعدم كتمانه. والآية - وإن نزلت توبيخا وتهديداً ووعيدا لأهل الكتاب، على كتمانهم العلم، وعدم بيان الحق لأغراض دنيوية - ففيها تحذير ضمني للعلماء عن أن يسلكوا سبيلهم، فيحل بهم مثل عقابهم. وقد جاء ذلك - صراحة - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلمٍ فَكَتَمَهُ، أَلْجمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بلِجًامٍ مِنْ نَارٍ (¬1) " عن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله العهد على أهل الجهل أَن يتعلموا حتى أخذه على أهل العلم أن يعلموا. وعن محمَّد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه. ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. والإتيان بقوله: (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) بعد قوله: (لَتبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) - مع أنه يستلزم عدم الكتمان - للمبالغة في إيجاب التبيين، وتأكيد وجوب الامتثال. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه، وأحمد، وأبو داود، والترمذي.

والتعبير عن إيثارهم عرض الدنيا، على بيان الكتاب بقوله: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}: أي عرضاً حقيراً - مع أنه لا شراءَ ولا بيع - للإيذان بأنهم جعلوا دين الله موردًا للرزق، ووسيلة إلى مآربهم الذاتية. كما يصل التجار. ولم يجعلوهُ سبيلا للهداية والإرشاد، كما يفعل العلماءُ والصالحون الصادقون. وذلك شاهد على فساد ضمائرهم، وداعٍ إلى عدم الثقة بأقوالهم وأفعالهم، والبعد عن تصديقهم. {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}. المفردات: (يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا): يفرحون بما جاءوا به نفاقاً أو رياءً، من الأقوال والأفعال. (بمفازة من العذاب): بمنجاة منه. (ملك السموات والأرض): سلطان عليهما خَلقًا ومُلكًا وتدبيراً وتصرفاً. التفسير 188 - {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: لا يزال الكلام موصولا مع أهل الكتاب: فالآية نازلة فيهم: أخرج الإِمام أحمد، عن حُمَيْد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان بن محمَّد، قال: اذهب يا رافع - بَوَّابه - إلى ابن عباس رضي الله عنه، فقل له: لئن كان كل

امرئ منا فرحَ بما أتي وأحب أن يحمد بما لم بفعل - معذباً؛ لنُعَذَّبنَّ أجمعون. فقال ابن عباس: وما لكم وهذه! إنما نزلت هذه في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}. وتلا ابن عباس {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه. وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه. وَرَوَى نحوه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي وغيرهم. وقيل: نزلت في المنافقين: لِمَا رواه البخاري ومسم وغيرهما - واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخُدري: أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله - عليه وسلم، كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الغزو تخلفوا عنه؛ وفرحوا بمقعدهم. خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الغزو، اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يُحمَدُوا بما لم يفعلوا. فنزلت: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ... } الآية. وعلى هذا، فالمراد من حُب المنافقين أن يحمدوا بما لم يفعلوا: أنهم أرادوا أن يحمدهم المؤمنون بسرورهم الذي أظهروه نفاقاً بنصر المؤمنين، ولم يكن سرورًا نابعًا من قلوبهم. فاعتبره الله تعالى في حكم المنفى.

وقد جاء التصريح بسرورهم الظاهري بالنصر، في رواية طويلة، لابن مردويه، في تفسيره. جاء فيها: وإن كان لهم نصر وفتح، حلفوا لهم؛ ليرضوهم. ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. ولا منافاة ببن ما قاله ابن عباس، وما قاله أبو سعيد الخدري، في سبب النزول، فالآية عامة في جميع ما ذكر. وهي - وإن نزلت لهدا السبب الخاص، أو ذاك، أو لهما معًا - فهي بعموم لفظها، عامة لكل من يأتي بشي من الحسنات: بظاهره أو بحقيقته، فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار عنه من الفضائل. كأن يقولوا فيه: هو صادق فيما قال. أو مخلص. فما فعل. أو عظيم الإحسان والمبرات، أو نحو ذلك مما ليس فيه. ويدخل في هذا العموم: من نزلت فيهم الآية، دخولا أولياً. والخطاب في قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَن) للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للخطاب. والمعنى: لا تظنن الذين يفرحون - فرح إعجاب - بما جاءوا به مما ظاهره الخير، وباطنه النفاق أو العجب، أو التجرد عن النية الصالحة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، بأن يقال: إِنهم صادقون، أو مخلصون، أو محسنون، أو غير ذلك، من الصفات الجميلة: التي أرادوا أن تقال في شأنهم على وجه الحمد والثناء، وهم منها برآء. (فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بمَفاَزَةٍ منَ العَذَابِ): فلا تظننهم بمنجاة من العذاب الآخرة، وإن أفلتوا من المؤاخذة الدنيوية. والمقصود من نهيه صلى الله عليه وسلم: أن يظنهم ناجين من العذاب، هو التنبيه على أنهم معذبون حتما على نياتهم الخبيثة، ونفاقهم الممقوت، وليس المقصود نهيه حقيقة

عن ظنه نجاتهم. فهو - عليه السلام - عليم باستحقاقهم العذاب، ما داموا مصرين على ما هم عليه من الطوية الخبيثة؛ طبقًا لما نزل عليه من شرع الله تعالى. وذكر قوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ}. بعد قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} لتأكيد الوعيد؛ لطول الكلام. أما قوله: (بِمَفاَزَةٍ) فهو المفعول الثاني لـ (تحسبن) الأول. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هذه الجملة قصد بها: أن العذاب الذي لا ينجو منه هؤُلاء، وليسوا منه بمفازة، هو عذاب بليغ الإيلام، في شدته ومدته ونوعه. وليس عذابًا هيناً، يمكن احتماله. 189 - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}: أي: له تعالى - وحده - السلطان فيهما: خلقا وتدبيرًا، وإحياء لمن فيهما وإماتةً، وتعذيبا وإثابة. ومن كان كذلك، لا يقال: إنه فقير، وبعض عباده أغنياء، كما زعم اليهود، إذ قالوا: { ... إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬1). ولا يفلت من عقابه من أحب أن يحمد بما لم يفعل، كما فعلوا هم وغيرهم. {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَديرٌ}: فكما قدر على خلق السموات والأرض، يقدر على بعث الخلائق وجزائهم على أقوالهم وأفعالهم ونياتهم: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) آل عمران من الآية: 181. (¬2) الأنبياء، من الآية: 104.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}. المفردات: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: تعاقبهما. فيكون أحدهما خلفة للآخر، أو تفاوتهما طولا وقصرا، وضياء وظلمة. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: لأصحاب العقول الخالصة البريئة مما يعطلها. {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: ما أبدعته عبثًا خاليًا عن الحكمة. {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: فاحفظنا منه. {أَخْزَيْتَهُ}: أهلكته، أو فضحته، أو أهنته. التفسير 190 - {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}: لما ذكر الله - تعالى: أن له ملكَ السموات والأرض، وأنه على كل شيء قدير، عقبه ببيان أن في خلقهما - من الآيات والشواهد - ما يدل على ذلك ويقرره. فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: من عجيب الإبداع، وإحكام الصنعة، وبقائهما في الفضاء، دون أن يختل توازنهما، ودوران كل كوكب في فلكه بانتظام، دون فتور

أو اصطدام، وتوالي ملايين الدهور عليهما بغير خلل ولا فساد، وأداء كل جزء منهما، وكل نجم أو كوكب لما نيط به من النافع - إن في هذا: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وتعاقبهما على سطح الأرض، كل منهما خلفًا للآخر، حسب تدبير الله لأرضنا الكروية، إذ جعلها تدور تحت أشعة الشمس، فيعم ضوؤُها نصف الأرض المقابل لها، وينعم أهله بنور النهار، فينشطون ويباشرون شئون معاشهم. ويظلم النصف الآخر الذي لا يقابلها، فيسكن أهله ويستريحون. ثم ينعكس الأمر عندما يكون النصف الآخر مقابلا لأشعتها. وهكذا دواليلك .. ويجوز أن يكون المراد من اختلافهما: تفاوتهما طولا وقصرًا، حسب الفصول الأربعة التابعة لوضع الأرض من الشمس، وحسب البعد عن القطبين أو القرب منهما، أو اختلافهما نفعًا أو حرارة، أو غير ذلك من وجوه الاختلاف - إن في كل هذا التدبير المحكم العجيب: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: أي: لَدلائل عظيمة لأَصحاب العقول الخالصة من ظلمة الجهل والتقليد. فإنهم - بالنظر اليسير في بدائع خلق السموات والأرض، وقوانينه وضوابطه ونظمه - يصلون إلى الجزم بوجود صانع حكيم، ومالك واحد لهذا الملك العظيم: أحكم التدبير، وأتقن التقدير، وأنه لا بد أَن ينتهي إليه المصير، فيحاسب كل امرئ على ما كسب من خير فيثيبه، أو شر فيعاقبه. ورحم الله الشيخ أبا سليمان الداراني، إذ يقول: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء، إلا رأيت لله عليَّ فيه نعمة، ولي فيه عبرةً (¬1). 191 - {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}: المقصود من ذكره تعالى: تذكره وشغل القلب به، وعدم الغفلة عنه بشواغل الدنيا. سواء أصحب ذلك ذكر لساني أم لم يصحبه. ¬

_ (¬1) الآية رقم (164) في سورة البقرة، تماثل هذه الآية، ولكن فيها تفصيل أكثر. فارجع إلى تفسيرها إن شئت.

والمقصود من ذكرهم له قائمين وقاعدين ومضجعين على جنوبهم: أن يذكروه في كل حال حسب الإِمكان، حتى يخشوه في تصرفاتهم. وتخصيص هذه الأحوال الثلاثة بالذكر؛ لأنها هي المعهودة التي لا يخلو عنها الإِنسان غالبًا. فكما يذكرونه فيها يذكرونه في غيرها. كالمشي والسباحة ونحوهما. ومعنى هذه الآية، مرتبط بما قبلها عل النحو الآتي: المعنى: إن في خلق السموات والأرض - وما فيه من الإبداع والإحكام، والحِكَمِ والمنافع، وفي اختلاف الليل والنهار لَعَلَامَاتٍ واضحات لأصحاب العقول على وجود رَبٍّ لهذا الكون: واحد عظيم. وأدلةً شاهدات له بكل كمال، وتنزهه عن كل نقص. وأولو الألباب - هؤلاء - هم الذين يتذكرون الله في كل حال، بعد أن أثرت آياته في نفوسهم، وهدت إلى معرفته عقولُهُم، وجعلتهم يجددون التفكر في خلق السموات والأرض ليزدادوا معرفة بخالقها، وإيمانًا واثقًا بمبدعها، وخشية من التقصير في واجبات مدبرها. فالعلم: يهدى إلى قوة الإيمان والخشية من الديان: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1). وهكذا شأن القرآن: يشيد بالعقل ويرفع قدره، ويحضُّ على المعرفة والنظر في الآيات. وشأن الإِسلام يقوم: على دعائم العقل والعلم والعرفان. ولا يرضى بالجمود والتقليد الذي عليه أرباب الأديان المختلفة. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: ليس المراد أنهم يقولون هذه الجملة الدعائية - وما يليها - بالنص الحرفي، بعد تفكرهم في خلق السموات والأرض، بل المراد: أنهم يعبرون عما ينفعل في نفوسهم من مشاعر الإقرار بقدرة الله وحكمته، ووجوب الإِيمان به تعالى وباليوم الآخر، وما حول ذلك من الحمد والثناء والإنابة. ¬

_ (¬1) فاطر، من الآية: 28.

والمعنى: يقول أولو الألباب، الذاكرون الله بعد تفكرهم في خلق السموات والأرض: ربنا ما خلقت هذا الكون البديع العظيم الشأن عبثاً، بل منتظماً لِحِكَمٍ جليلة، ومصالح عظيمة. من جملتها أن يكون مدارًا لمعايش العباد، ومنارًا يرشدهم إلى أحوال المبدأ والمعاد، حسبما جاءت به الرسل والكتب الإلهية. والإشارة بكلمة (هَذَا) راجعة إلى السموات والأرض لقصد التعظيم، كما في قوله تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬1). وإفرادها وتذكيرها - مع رجوعها إلى السموات والأرض - لأنه أريد بها: الكون جميعه. (سُبْحَانَكَ): تنزيها لك عن أن تخلقه باطلا، وعن كل ما لا يليق بك من الصفات. (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ): فاحفظنا من عذابها، فقد عرفناك ونزهناك عن العبث، وأطعناك وآمنا بالبعث والجزاء. 192 - {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}: أي: رَبَّناَ إنَّكَ مَنْ تُدْخِلْهُ النَّارَ لكفره ومعصيته (فَقَدْ أخْزَيْته): فقد فضحته وأهنته وأهلكته .. ولا شيء أشد من ذلك. فلهذا نسألك الوقاية من عذاب النار، ومن الخزي والعار. (وَمَا لِلظَّالِمِينَ): لأنفسهم بالكفر والمعاصي. (مِنْ أنصَارِ): يخلصونهم من عذابها. فلا الآلهة التي عبدوها: ولا الرؤَساء الذين أطاعوهم في الكفر، بقادرين على إنقاذهم منها. ولم يقل وما لهم من أَنصار، بل قال: (وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أنصَارٍ): لذمّهم، والإشعار بأن ظلمهم هو سبب تعذيبهم. ¬

_ (¬1) الإسراء، من الآية: 9.

{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}. المرادفات: {الْأَبْرَارِ}: جمع بَر. والبَرُّ والبارُّ، هو كثير البر والإحسان. {لَا تُخْزِنَا}: لا تُهنا، ولا تفضحنا .. أو لا تهلكنا. {فَاسْتَجَابَ}: بمعنى أَجاب. {هَاجَرُوا}: تركُوا الشِّركَ أو تركوا الأوطان والعشائر. التفسير 193 - {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}:

المنادِى: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم. ونداؤُه: دعوته إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وذلك هو سبيل ربه. كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (¬1). وقال محمَّد بن كعب: المنادِي: هو القرآن. والمعنى: ربنا إننا سمعنا داعياً: يدعو الناس للإيمان بأن آمِنُوا بربكم: مالككم ومتعهدكم في جميع أموركم، فاستجبنا لدعائه، وبادرنا بالإيمان. والمقصود من إيمانهم بربهم - سبحانه - إيمانهم بجميع ما يجب له من الصفات اللائقة بربوبيته، وتنزيهه عما سواه، وإيمانهم بدينه الذي شرعه لهم، على لسان ذلك المنادى، وهو نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم. {رَبَّنَا}: كرر نداءَه تعالى؛ لإظهار كمال التضرع والخشوع والاستعطاف. {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: فامح عنا كبائرنا. {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}: وحط عنا صغائرنا، ببركة إيماننا. ويجوز أن تكون الجملتان بمعنى واحد. والتكرير للمبالغة في الدعاء بتكفير الذنوب جميعًا. {وَتَوَفَّناَ مَعَ الْأبْرَارِ}: مُكْرَمين بمحبتهم، معدودين في جملتهم وزمرتهم. 194 - {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}: أي: ربنا وأعطنا من الثواب، ما وعدتنا على ألسنة رسلك، وإنما قالوا: (عَلَى رُسُلِكَ) بالجمع، ولم يقولوا (على رسولك) بالإفراد، مع أن المنادِي هو محمد صلى الله عليه وسلم، للإشارة إلى أن الثواب الذي بشرهم به على الإيمان، أمر مجْمَع عليه من الرسل جميعاً. ¬

_ (¬1) النحل من الآية: 125.

{وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ولا تُهِنَّا فيه بعدم قبول أعمالنا الصالحة لقلتها، وعقابنا على تقصيرنا. {إنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}: إن شأنك يا ربنا، ألاَّ تخلف وعدك بقبول طاعة المطبع وإثابته عليها، والعفو عن المؤمن المقصر المستغفر. وهذه الجملة تعليل لما طمعوا فيه من تحقيق المولى الكريم دعاءهم. وتلك الدعوات ليست لخوفهم من إخلافه تعالى وعدَه بالثواب والحفظ من النار للمؤمنين، بل لخوفهم من أن يتغير حالهم، وتسوء خاتمتهم، فلا يكونوا - حينئذ - من جملة الموعودين بالثواب والنجاة. فمرجعها إلى الدعاء بالتثبيت على الإيمان والصلاح. أو للمبالغة في التعبد والخشوع. وقد يفسر الميعاد بالبعث ولقاء الله يوم القيامة، وبه قال ابن عباس. ويكون المعنى: ربنا لا تخزنا يوم القيامة الذي نعلم يقينا: أنه واقع لا ريب فيه، فإن وعدك الحق، وإنك لا تخلف الميعاد. 195 - {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... } الآية. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ}: أي أجابهم إِلى ما طلبوا، ووعدهم بتحقيق ما سألوا. {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}: بفتح همزة (أَنِّي) أي فاستجاب لهم ربهم: بأَني لا أحبط عمل عامل منكم أيها المؤمنون. أما قراءة كسر الهمزة، فبتقدير: قائلا: (إني لا أضيع) ... الخ. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}: فكلا الصنفين في الثواب على الطاعة سواء، لا فرق بينكم فيه إِلا بقدر العمل وكيفيته. دون أن يكون للذكورة أو الأُنوثة دخل فيه. وعلل هذه المساواة بقوله جل وعلا: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: فالذكر مفتقر في وجوده إلى الأنثى. والأنثى مفتقرة في وجودها إلى الرجل، فالأصل واحد. ويجوز أن يكون المعنى: بعضكم من بعض في الطاعة والعمل الصالح. أي أنتما متماثلان. فلا وجه للتفرقة بينكما في الثواب، فإن المماثلة في العمل، تستدعي المماثلة في الأجر.

{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}: من أجل دينهم وطاعتهم لربهم. والهجرة هنا: هجر الشرك. أو هجر الأوطان والعشائر. والإخراج من الديار، مراد به: أنهم هاجروا منها بالإكراه والإجبار لا بالاختيار والإرادة. {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}: من أجل ديني. {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا}: وجاهدوا المشركين واستشهدوا. {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}: لأغفرنها لهم، ولأستُرنَّهَا عليهم. {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: ينعمون بنعيمها الذي لا يخطر مثله على بال، ويغتبطون بجريان الأنهار من تحتها. {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: لا يثيبه غيره، ولا يقدر عليه سواه. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}: خير الجزاء. {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}. المفردات: {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}: التقلب: التنقل. والمراد هنا: تنقلهم للتكسب بالاتجار والزراعة وغيرها، وتقلبهم في النعمة. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}: تَمَتُّعٌ يسير. {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ}: المأوى، محل الإقامة. {الْمِهَادُ}: المكان الممهد.

{نُزُلًا}: النزل؛ ما يقدم للضيف عند نزوله أو المنزل. ومنه قول الله تعالى: { ... كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (¬1). التفسير 196 - {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}: الخطاب في {لَا يَغُرَّنَّكَ}: إما للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لتثبيته على ما هو عليه من عدم اغتراره بنعمتهم. فكأنه قال له: دُمْ على ما أنت عليه من عدم الاغترار بتقلبهم في النعمة، وتبسطهم في المكاسب والمتاجر والمزارع. وهذا كقوله تعالى للرسول: {فَلَا تُطِع المُكَذِّبِينَ} (¬2) أي استمر على ما أنت عليه من عدم طاعتهم. وقيل: الخطاب - وإن كان له صلى الله عليه وسلم - فالمراد به: نهي المؤمنين عن الاغترار بما فيه الكفار من النعيم، كما يوجه الخطاب إِلى رئيس القوم، والمراد به أتباعه. وقيل: هو خطاب لكل من يصلح له من المؤمنين. ذكر المفسرون بأسانيدهم: أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيشي، فيقولون: إن أَعداءَ الله - تعالى - فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد ... فنزلت الآية. والمعنى: لا يخدعنك ما هم عليه من سعة الرزق، وإصابة الربح، ورخاء العيش، فتظنه خيرا متصلاً، ومتاعًا دائمًا. 197 - {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: أي هو {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} مهمَا عَظُمَ، في جانب ما ذكر من ثواب الله للمؤمنين، فعما قريب يموتون، فينقضي نعيمهم الذي استدرجهم الله به، ويُمسُون مرتهنين بأعمالهم السيئة. ¬

_ (¬1) الكهف من الآية: 107. (¬2) القلم الآية: 8.

{ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}: ثم إِنهم - بعد ذلك التمتع اليسير والتنعم القليل - صائرون إلى عذاب جهنم التي مهدوها وهيئوها لأنفسهم بكفرهم. وساء ما يمهدون لأنفسهم: جهنم!! والتعبير بالمهاد عن النار؛ للتهكم بسوء اختيارهم. فإن العاقل لا يهييء لنفسه مكان عذاب وَهَوَان يقيم فيه. 198 - {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: لما حذَّر الله المؤمنين من الاغترار بما فيه الكافرون من نعيم فانٍ، أتبعه بيان حسن عاقبة المؤمنين، ليزدادوا صبرا على ما هم فيه من شظف العيش، انتظارا لهذا النعيم المقيم. والمعنى: هذا حال الذين كفروا ومآلهم الفظيع {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} بالإيمان والعمل الصالح، لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها لا يبرحونها أبداً. {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: رزقًا كريمًا من عند الله، أو منزلا عظيما من عنده. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}: أي ما أعده الله لمن أطاعه من النعيم الكثير الدائم، خير للأبرار، وأَبقى مما يتقلب فيه الكفار، من قليل زائل، ونعيم حائل، وحطام فان. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِذ يقول: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يَجعلُ أحدُكم أُصْبُعَهُ في اليمِّ فلينظُرْ بمَ يرجع؟! " (¬1). وتكرار وعدهم بالجنات التي تجرى من تحتها الأنهار؛ ليعظم سرورهم، ويتكامل به سوءُ حال الكفرة، مع ما فيه من زيادة الوعد بالخلود في هذا النعيم. ولهذه الاعتبارات، جاء الوعد بأسلوب الاستدراك. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم ج 2 ص540 (باب فناء الدنيا).

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}. المفردات: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ}: خاضعين له. {لَا يَشْتَرُونَ}: لَا يستبدلون. {اصْبِرُوا}: الصبر، حبس النفس على المكاره. {وَصَابِرُوا}: المصابرة؛ مغالبة العدو في الصبر. {وَرَابِطُوا}: المرابطة؛ الملازمة في سبيل الله. التفسير 199 - {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: هذه جملة مستأنفة؛ لبيان أن أهل الكتاب ليسوا جميعًا على ما تقدم من نبذ الميثاق، وتحريف الكتاب الحق، لنفع دنيوي. بل منهم مَن له مناقب جليلة. وقد نزلت هذه الآية، فيمن أسلم من أَهل الكتاب: من أحبار اليهود ومِن النصارى.

أما أحبار اليهود، فلم يبلغوا عشرة، كما قال ابن كثير، وفيهم عبد الله بن سلام، وزيد بن سعنة. وأما النصارى، فكانوا كثيرين، فقد أسلم أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الروم. وترجع قلة من آمن من اليهود، إلى أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا. وترجع كثرة من آمن من النصارى، إلى أنهم أقرب إِليهم مودة قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). ومن هؤُلاء النجاشي - ملك الحبشة - وبعض علماء دينه. فقد قال ابن كثير: وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، لما قرأ سورة "كهيعص" بحضرة النجاشي، وعنده بعض البطاركة والقساوسة، بكى وبكَوْا معه، حتى أخضبوا لِحَاهُم! وقال ابن كثير أيضاً: ثبت في الصحيحين: أن النجاشي لما مات، نعاه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أصحابه وقال: "إن أخًا لكم بالحبشة قد مَات، فخرج إلى الصحراء فَصَفَّهُم وصلى عليه". وروى ابن جرير وغيره: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين مات النجاشي، قال: إن أخاكم أصحمة قد مات"، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى كما يصلى على الجنائز، فكبر عليه أربعاً، فقال المنافقين: يُصَلِّي على عِلْجٍ (¬2) مات بأرض الحبشة! فأنزل الله: ¬

_ (¬1) المائدة: 82، 83. (¬2) العلج: الرجل من كفار العجم.

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ... } الآية. والمعنى: وإن بعض أهل الكتاب لَمَن يؤمن بالله على ما يجب له من صفات الكمال، وما أنزل إِليكم من القرآن، وما أنزلَ إليهم من التوراة والإنجيل مجردَيْن عن تحريف الحرفين منهم، خاضعِين لله فيما أمرهم به. من الإيمان بمحمد وما أنزل عليه - كما أمرهم به كتابهم - لا - يستبدلون بآيات الله التي أنزلها في التوراة والإنجيل، عوضًا قليلاً، فلم يشتركوا مع قومهم في كتمان ما جاء بهما من البشارة بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان به، ولا في تحريفهما؛ رغبة في عرَض قليل من أعراض الدنيا الفانية، كالرياسة والرشوة، والإتاوات التي يفرضونها على قومهم. وقدم الإيمان بما أنزل إلى المؤمنين وهو القرآن، على ما أُنزل إليهم وهو التوراة والإنجيل، للإيذان بأن إيمانهم بكتابهم يجب أن يكون تابعًا لما جاء في القرآن، من رَدّ ما فيهما نحو البنوة لله تعالى، ومن انتهاء العمل، بأحكامهما المنسوخة بالقرآن، وتصديق ما جاءَ بهما مما أقره القرآن الكريم شرعا لجميع المرسلين. فهذا هو شأْن المسلمين، فإنهم - مع إيمانهم بالقرآن - يجب عليهم أَن يؤمنوا بالتوراة والإنجيل على هذا النحو، فلا يقولوا كما قال كفار أهل الكتاب: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬1). {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: أي أولئك المتصفون بهذه الصفات الحميدة من أهل الكتاب، لهم أجرهم اللائق بهم عند ربهم. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: لنفوذ علمه في كل شيء. ومن كان كذلك، يسارع إِلى منحهم الأجر الموعود لهم. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 150.

وأهل الكتاب: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ}، قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ... } (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتَون أجرهم مرتين: رجلٌ من أهل الكتاب، آمن بِنَبيِّه، ثم آمن بِي، وعبدٌ مملوكٌ أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجلٌ كانت له أمَةٌ فَأدَّبهَا فَأحسن تأديبها، ثم أعتقها فتزوجها". أخرجه البخاري ومسلم. ولما ذكر الله في هذه السورة كثيراً من الأحكام، ختمها بما يوجب المحافظة عليها فقال: 200 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: والمعنى: يأيها الذين آمنوا: اصبروا على مشاق الطاعات، من واجبات يجب فعلها، ومنهيات يتحتم تركها، ونافسوا وغالبوا غيركم في الصبر في مواطن الجد، من الحروب، وهوى النفوس، وعزائم الأمور. وتخصيص المصابرة بالأمر بها - بعد الأمر بالصبر الشامل لها - اهتمامًا بها؛ لكونها أشد منه وأشق. {وَرَابِطُوا}: أقيموا على حدود البلاد وثغورها، وما هو عرضة للخطر منها، متأهبين للغزو. مأخوذ من: ربط الخيل وشدها. وليس بلازم أن يكون الرباط بالخيل، في كل حال أو زمان أو مكان. إذ المقصود: رصد حركات العدو، والتأهب لصده عن البلاد الإِسلامية. وليس بلازم أن يكون في أطراف الإقليم فحسب. بل في أي مكان منه يمكن أن يصل إليه العدو، ولو في قلب الوطن. ففي هذا الزمان، يمكن أن يصل العدو بطائراته إلي أي مكان في وطن عدوه. فالرباط في هذه الحالة، يكون بالإقامة في كل مكان منه يظن أن يقصده العدو، مع التأهب بكافة أنواع الأسلحة المضادة لهجومه أو استطلاعه، واستعمال أحدث أنواع الأجهزة لرصده: أرضًا، أو بحرًا، أو جواً. ¬

_ (¬1) القصص من الآية: 5.

والرباط في سبيل الله، له أجر عظيم. قال صلى الله عليه وسلم: "رِبَاطُ يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها" أخرجه البخاري، عن سهل بن سعد الساعدي برفعه. وقال صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم وليلة خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقيامِه، وإن ماتَ جرَى عليه عملُه الذي كان يعملُه، وأُجريَ عليه رِزقُه، وَأمنَ الفَتَّان". أخرجه مسلم عن سليمان الفارسي برفعه. وعن ابن عباس وغيره: أن الرباط: هو انتظار الصلاة بعد الصلاة. واستُدلَّ لهذا الرأي، بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرُكُم بما يمحو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ: إِسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ فذلكم الرِّباطُ فذلكُم الرِّباطُ، فذلكُم الرِّباطُ" أخرجه مسلم والنسائي والحاكم ومالك وابن أبي حاتم. والحق: أن هذا الحديث لا يدل على ذلك، بل على تسمية هذا الانتظار رباطا، وأن له أجراً عظيما. وقد مر حديثان للبخاري ومسلم، دالان على فضل الرباط. وأخرج أحمد عن فضالة بن عبيد، قال: سمعت رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ مَيتٍ يُخْتَمُ على عملِهِ، إلا الذي مات مرابطًا في سبيلِ الله، فإنه يَنْمى له عملُه إلى يومِ القيامة، ويأمنُ فِتنةَ القَبْر". وأخرج مثله ابن حبان، وأبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: بفعل ما أُمرتم به، وترك ما نهيتم عنه. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: لكي تفوزوا في الدنيا بالنصر وتحقيق الآمال، وفي الآخرة بجزيل الثواب .. والله أعلم.

سورة النساء

سورة النساء وآياتها 176 نزلت بعد الممتحنة بسم الله الرحمن الرحيم هذه السورة مدنية، وآياتها ست وسبعون ومائة. نزلت بعد الممتحنة. وسميت سورة النساء؛ لاشتمالها على أحكام كثيرة تتعلق بالنساء. أهم مقاصد السورة: 1 - افتتحت هذه السورة باستهلال عظيم التأثير في الضمائر والقلوب، حتى يتلقى ما تشتمل عليه من أحكام بالطاعة والإذعان. فقد نادى الله الناس وأمرهم بالتقوى، وحثهم على امتثال أمره، والبعد عن معاصيه. 2 - وذكر مبدأ الإنسان وما يجب على أفراده من التناصر والتعاطف، والتعاون ورعاية ذوي الأرحام، وأتبع ذلك ما يلي: 3 - رعاية حقوق الضعفاء من اليتامى والنساء والسفهاء. 4 - العناية بالأحكام المتعلقة بالأسرة من: النكاح، والميراث، ووجوب العدل بين النساء عند التزوج بأكثر من واحدة. 5 - الأمر بالمحافظة على الأموال والأعراض، وبيان ما أُحل منها وما حرم. 6 - بيان العقوبات الرادعة عن الاعتداء على الأعراض والأموال والأنفس. 7 - تعرضت السورة لكثير من شئون المنافقين ومآلهم في الآخرة. ثم جاء فيها ما يلي: 8 - المجادلة مع أهل الكتاب وذكر بعض أخبارهم ومعتقداتهم. 9 - والأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، والعدل في الأحكام بين الناس، وبالرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع.

10 - ثم ورد فيها آية التيمم، وصلاة الخوف، وصلاة المسافر وبعض أحكام الجهاد. 11 - وفيها الأمر بالإحسان إلى الوالدين وذوي الأرحام ورعاية حقوق الجار وابن السبيل والرقيق. إلى غير ذلك، من المقاصد الكريمة، والأحكام النافعة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}. المفردات: {بَثَّ}: نشر وفرّق. {تَسَاءَلُونَ بِهِ}: أصلها تتساءَلون. والمراد: يسأل بعضكم بعضا بالله تعالى. {وَالْأَرْحَامَ}: جمع رحم، والمراد بها: القرابة. {رَقِيبًا}: الرقيب؛ هو الحفيظ المطلع. التفسير 1 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}: هذا خطاب يعم جميع المكلفين، من الذكور والإناث، منذ نزول الآية إلى يوم القيامة. والمعنى: احذروا عقاب الله بأداءِ حقوقه، وحقوق العباد. وفي ذكر اسمه تعالى، بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين - تأْكِيدٌ للأمر بإيجاب الامتثال؛ وفاءً بحق نعمه عليكم.

وفي قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ}: تنبيه إلى القدرة التامة، والنعمة الشاملة، حثاً على التقوى، وخوفا من العقاب، وشكراً للنعمة؛ وطلباً للثواب. {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}: هي نفس آدم - عليه السلام - وليس هناك سوى آدم واحد، وهذا ما عليه جمهور المحدثين والفقهاء. {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: أي وخلق من هذه النفس الواحدة زوجها: حواء. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}: أي ونشر وفرق من آدم وزوجه رجالا كثيراً ونساءً كثيرات، بطريق التوالد والتناسل. {وَاتَّقُوا اللَّهَ}: أعاد الأمر بالتقوى؛ لعظم شأنها وجليل خطرها، في المأمورين في هذه السورة. {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}: أي الذي يسأل بعضكم بعضا بالله، فيقول أحدكم لصاحبه: أسأَلك بالله، أن تفعل كذا. على سبيل الاستعطاف. {وَالْأَرْحَامَ}: أي واتقوا قطيعة الأرحام. وقرأ حمزَةُ {وَالْأَرْحَامِ} بالجر عطفا على الضمير في (بِهِ) أي واتقُوا الله الذي تساءَلون به وبالأرحامِ، فقد كان أجدهم يقول لصاحبه: أسألك باللهِ وبالرحم: أن تفعل أو لا تفعل. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}: أي احْذروا مخالفته بالتمسك بتقواه، لأنه رقيب عليكم وحفيظ لأعمالكم، فلا تخفى عليه خافية منكم. فالجملة تحذير للناس وتخويف لهم، من بأس الله الذي أُمروا بتقواه، ببيان أنه تعالى رقيب عليهم، قد أحصى عليهم أَعمالهم، وسيحاسبهم عليها. والمراد من أنه كان عليهم رقيبا: أن رقابته عليهم موجودة منذ نشأتهم، كما أنها باقية إلى فنائهم. فلم يفلت منها أحد. ولن يغيب عنها إنسان، إلى أن تقوم الساعة.

{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}. المفردات: {وَآتُوا}: المراد بإتيانها أن يحافظوا عليها، ولا يتعرضوا لها بسوء، حتى يسلموها لليتامى عند البلوغ والرشد كاملة. إلا ما صرف منها في ضرورات اليتامى وحاجاتهم. {الْيَتَامَى}: جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه. وخصه العرف والشرع بالصغير دون البلوغ. {تَتَبَدَّلُوا}: يقال: تبدل الشيءُ بالشيء واستبدله به إذا أخذ الأول بدل الثاني. فالباءُ داخلة على المتروك. {الْخَبِيثَ}: الحرام، أو الرديء. {بِالطَّيِّبِ}: بالحلال، أَو بالجيد. {حُوبًا}: إثما وذنبا. التفسير 2 - {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}: بعد أن أمر الله الناس جميعاً بتقواه، أمر الأولياء والأوصياء على اليتامى، بأن يحفظوا أموالهم ولا يتعرضوا لها بسوء، حتى تسلَّم إليهم - بعد البلوغ - كاملة غير منقوصة، فإيتاءُ الأموال يراد به: الحفظ والصيانة لها. واليتامى باقية على معناها العرفي والشرعي. أو المراد بالإيتاء: الإعطاء.

والمعنى: وأعطوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد منهم، ولا تحبسوها عنهم. وتسميتهم يتامى؛ لقرب عهدهم بالصِّغَر. وفيه إشارة إلى تسليمهم أموالهم عند البلوغ مباشرة، من غير مماطلة. قبل أن يزول وصف اليتيم عنهم. والأول أرجح؛ لأن دفع الأموال إِلى اليتامى بعد البلوغ، سيأتي قريبا في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1). {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}: أي ولا تأخذوا الحرام - وهو أموال اليتامى - بدل الحلال وهو أَموالكم. أو المعنى: ولا تستبدلوا بالرديء من أموالكم الجيد من أموال اليتامى، فقد كان بعض الأوصياء يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم، ويضع بدلا منها شاة مهزولة، ويقول: شاة بشاة. ويأخذ الدرهم الجيد، ويضع مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}: أي ولا تأخذوا أموال اليتامى مضمومة إلى أموالكم، وتسَوُّوا بينهما في الإنفاق منهما. من غير مبالاة. مع أن أحدهما حرام والآخر حلال. {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}: أي إن أخذ الخبيث لليتيم بدل الطيب، وأَكل ماله على الصفة المذكورة - ذنب عظيم، وإثم كبير. وسيظل كذلك. وفي الآية دليل على أن ذلك من كبائر الذنوب. وفيها عدة تأكيدات للمحافظة على أموال اليتامى. حيث وصّى بالمحافظة عليها حتى يتسلموها كاملة سليمة، ونهى عن استبدال غيرها بها، وعن ضمها لأموالهم، وأكلها من غير مبالاة بما يلحقهم من جراء ذلك. ثم ختم ذلك ببيان أَن هذا إثم كبير، وذنب عظيم. ¬

_ (¬1) النساء من الآية: 6.

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}. المفردات: {أَلَّا تُقْسِطُوا}: أي أَلَّا تعدلوا، من: أَقسط أي عدل. وأما قسط، فمعناه: ظلم. {فِي الْيَتَامَى}: المراد: اليتيمات. {فَانْكِحُوا}: تزوجوا. {مَا طَابَ}: ما حل. أو ما مالت إليه نفوسكم. {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}: أي اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. {أَلَّا تَعْدِلُوا}: ألا تجوروا وتظلموا. التفسير 3 - {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}: لما عَظَّم الله حق اليتامى في أموالهم فأمر الأولياءَ بحفظها، وعدم التفريط فيها. إلى أن تؤَدى إليهم، وجعل أَكلها ذنبا عظيما. أَتبع ذلك التوصية بحقوق اليتيمات: في أنفسهن، وفي أموالهن. وقد صح في سبب نزول هذه الآية. ما رواه البخاري وغيره: "عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: أنه قد سألها عروة عن هذه الآية: فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليِّها: تشركه في حاله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن

يتزوجها، بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساءِ" ... الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ... }: وإن خفتم عقاب الله، بسبب ما علمتموه - أو غلب على ظنكم من عدم العدل في تزوجكم من يتامى النساء اللائي تحت ولايتكم، بعدم إعطائهن صداق مثيلاتهن: أو بسوء معاملتهن - فاتركوا التزوج بهن، وانكحوا ما حل أو ما مالت إليه نفوسكم من النساء غيرهن. ولكل واحد منكم الخيار في أن يتزوج اثنتين أَو ثلاثًا أو أربعًا. بحيث لا يزيد العدد الذي في عصمته على أربع، فِإن ظننتم عدم العدل - عند تعدُّد الزوجات في شأن القسم والعشرة والمؤنة - فتزوجوا واحدة فقط. أو تمتعوا بما شئتم من الإماء بملك اليمين. فإن ذلك أقرب إلى عدم الجَوْر. إِذ الواحدة تستقل بزوجها والإماءُ لا حق لهن في القسم. هذا وقد أجمع فُقَهاءُ الأمصار: على عدم جواز الزيادة على أربع. وقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لغيلان الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: "أمْسِكْ أربَعًا، وفارِقْ سَائِرَهُنَّ" رواه أحمد والترمذي. وابن ماجه. وقد قال الشافعي: "دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبينة عن الله: أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة". وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه. وقد أبيح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، لحكم كثيرة أهمها: 1 - أن الحروب تقع كثيرا. والرجال هم الذين يخوضون غمارها، ويموت الكثير منهم وتتأَيَّم النساء، وتتيتم، ويفقدن العائل والمعين، فيصبحن في حاجة إلى من يقوم بشئونهن. فلو لم يجز التعدد، لكثر عدد الأيامى منهن. وفي ذلك ما يعرضهن للفساد.

2 - عدد النساء أكثر من عدد الرجال في كثير من بلاد العالم. فإباحة التعدد علاج لهذه الحالة، حتى لا يتعرضن لعبث العابثين، ومذلة الفقر والحاجة، فزواج إحداهن برجل متزوج بأخرى، إبعاد لها عن الشقاء. وأخذ بيدها إلى ما يصون كرامتها وعفتها. 3 - وقد تمرضُ الزوجة أو تكون عقيما، ويأبى زوجها مفارقتها برًّا بها، ووفاءً لها. فهل نمنعه من الزواج بغيرها فيقع في الحرج؟ أو نلزمه بتطليقها ليتزوج بأخرى فيزيد ألمها وتحرم من العطف والحنان؟ أو نبيح له أن يتزوج معها غيرها؟ إذا حكمنا العقل في ذلك، نرى أن الخصلة الأخيرة هي الجديرة بالرجحان. وهذا هو الذي شرعه الله. 4 - للمرأة في شبابها فترات لا تصلح فيها للتمتع الجنسي، كفترة الحيض والنفاس والولادة. فإذا كان زوجها قويا لا يصبر عن النساء. فهل نبيح له الزواج بأُخرى، كما تقضى به الشريعة، أو يدنس نفسه بالحرام كما يريده من يبغون حظر التعدد؟. 5 - إذا فقدت الزوجة ما يحببها إلى زوجها، من وسامة وجمال، أو حسن عشرة ولين خلق، فليس من الحكمة منع الرجل من الزواج بغيرها، مع إبقائه عليها رعاية لماضي العشرة بينهما، وحفاظا على بقائها مع أولادها منه، حتى يتربوا بين والديهم، فإن منعه من الزواج بغيرها حينئذ، يفضي إلى انحراف الزوج، وكراهته لأولاده، وفي ذلك شر كبير. هذه بعض حكم إباحة الزواج بأكثر من واحدة. وقد وضع الشارع له قيودا. فحرم الزيادة على أربع، وأوجب العدل على الرجل، إذا تزوج بأكثر من واحدة. فإن وقع جور على إحداهن - فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم ليرفع عنها ما وقع عليها أو يخففه. فإن استحكم الخلاف وتعذر الوفاق فللحاكم أن يفرق بينهما: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (¬1). ¬

_ (¬1) النساء الآية: 120.

{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)}. المفردات: {وَآتُوا} الإيتاءُ: للإعطاء والمناولة، أو الالتزام. {صَدُقَاتِهِنَّ}: جمع صدقة بضم الدال. وهو المهر. {نِحْلَةً}: عطية من غير عوض. وفسرها بن عباس بالفريضة، فهي عطية من الله مفروضة على الأزواج. {هَنِيئًا مَرِيئًا}: صفتان من هُنؤ الطعام ومرؤ. والهنيء ما يلذ للأكل. والمريءُ ما سهل هضمه، وحسنت عاقبته. والمراد: أنه لا تبعة ولا عقاب عليه: أي حلالاً طيباً. التفسير 4 - {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}: بعد ما بين الله في الآية السابقة، ما يحل الزاج بهن من النساء، وما يجب على الزوج من العدل بين الزوجيتين أو الزوجات - بين في هذه الآية، ما يجب على الزوج لزوجته. من دفع صداق لها أو إلزام نفسه به فقال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}: الخطاب في الآية للأزواج، لأن الضمائر في الآية السابقة لهم، وهذه معطوفة على ما سبق. والمعنى: وأعطوا النساء اللاتي تعقدون عليهن مهورهم نحلة: أي عطية من الله مفروضة عليكم. والصداق: آية من آيات المودة، وتوثيق لعرى الصلة بين الزوجين، كي تدوم الألفة وتعظم المحبة، وهو دليل على صدق رغبة الزوج في زوجته.

ويرى البعض: أن الخطاب للأولياء، فقد كان الولي - في الجاهلية - يزوج ابنته أو أخته، ويأخذ الصداق لنفسه. فأنزل الله الآية لمنع ذلك. ولا مانع من أن يجعل الخطاب عامًا للمسلمين، فيشمل الأزواج والأولياء، الزوج مطالب بإعطاء الزوجة صداقها. والولي مطالب بدفعه لها، بعد تسلمه من الزوج. وهي كاملة التصرف فيه بعد ذلك. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا}: أي فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئًا من هذا الصداق - قل أو كثر - فلا مانع من أخذه والانتفاع به. بشرط أن يكون ذلك عن طيب نفس منهن: من غير إكراه ولا إلجاء بسوء العشرة، أو الإضرار بهن. وإلا كان حرامًا. كما سيأتي بيانه في الآية (20) من هذه السورة. {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}: أي فخذوه وانتفعوا به أخذا لا ضرر ولا تبعة عليكم فيه. فليس المراد خصوص الأكل. إنما المراد: حل التصرف فيه. وخص الأكل بالذكر؛ لأن أكثر وجوه الانتفاع بالمال، عن طريق الأكل. {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)}. المفردات: {السُّفَهَاءَ}: جمع سفيه. والمراد هنا: الذي لا يحسن التصرف في المال. {قِيَامًا}: ما تقوم به أموركم، وتصلح شئونكم. التفسير 5 - {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}:

لما بينت الآيات السابقة، وما يجب على الأولياء من المحافظة على أموال اليتامى، وأمرهم بالزواج من غير اليتيمان، عند خوف عدم العدل معهن، مع بيان وجوب المهر للزوجة، رجع السياق - في هذه الآية - إلى بيان ما بقي من الأحكام المتعلقة باليتامى. وبيانها ما يلي: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}: أي ولا تعطوا - أيها الأولياء - اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم؛ لأنهم لا يحسنوا التصرف فيها، ولا القيام على حفظها واستثمارها. وقد جعل الله تلك الأموال، قيامًا لليتامى: منها يتعيشون، وعليها يعتمدون فيما يحتاجون إليه في معاشهم وحياتهم. وإنما أُضيفت الأموال إلى الأولياء مبالغة في حملهم على المحافظة عليا، حيث نَزَّلَ أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لأنهم متحدون في الجنس والنسب غالبًا. وذلك نظير قوله تعالى في هذه السورة {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1): أي لا يقتل بعضكم بعضا. فعبر عن النوع بالنفس؛ مبالغة في الزجر عن القتل. كأنَّ من قتل غيره، فلقد قتل نفسه. وقد ذهب إلى تفسير الآية بما ذكر: عكرمة، وابن جبير، وكثير من المفسرين. هذا وفي الآية دلالة قوية على النهي عن إضاعة المال، والأمر بالمحافظة عليه، والعمل على حسن التصرف فيه، والتدبير له، لأن الله تعالى - قد جعله سببًا في إصلاح المعاش، وانتظام الأمور. {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}: أي اجعلوا الأموال مكانًا لرزقهم وكسوتهم. وذلك بالاتجار فيها واستثمارها، فتكون نفقاتهم من غلتها وربحها، لا من أصل المال. وإلا أكله الإنفاق، وهذا هو سر التعبير بقوله: {فِيهاَ}. ولم يقل: منها. وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ألَا مَنْ وَلِيَ يتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِر فِيهِ، ولا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأكُلَهُ الصَّدَقَةُ". ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية: 29.

{وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: أي وليقل كل من ولي أمر سفيه أو يتيم، قولًا ليِّنًا تَطيب به نفسه. مثل أن يقول له: المال مالك، وما أنا إلا خازن عليه أحفظه لك من الضياع، وعند الكبر - أو الرشد والتدبر للأمر - سأسلمه لك، ونحو ذلك من العبارات التي فيها دلالة على الرفق والرحمة، والعناية بشئونهم. {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}. المفردات: {وَابْتَلُوا} الابتلاء: الاختبار والتجربة. {بَلَغُوا النِّكَاحَ}: بلغوا الحلم وهو حد التكليف. {آنَسْتُمْ}: أبصرتم، وتبينتم. {رُشْدًا}: أي حسن تصرف في الأموال. {إِسْرَافًا}: الإسراف؛ مجاوزة الحد المعتاد في التصرف. {وَبِدَارًا} البدار؛ المسارعة في الشيء. {فَلْيَسْتَعْفِفْ}: العفة؛ ترك ما لا ينبغي من الشهوات، والمراد فليتنزه عن الأكل من مال اليتيم.

التفسير 6 - {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ... } الآية. أي اختبروا اليتامى - أيها الأولياء - قبيل البلوغ، بالإذن لهم في التصرف في بعض أموالهم، لتعرفوا حسن تصرفهم فيها وضبطهم لها. فإن تبينتم منهم رشدا - بعد البلوغ، وهداية إلى حسن التصرف - فادفعوا إليهم أموالهم التي تحت أيديكم. وإلا فاستمروا على الابتلاء والتجربة، حتى تعرفوا منهم ذلك. وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الاختبار قبل البلوغ. ويدل على هذا قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}. وقد فَرَّعَ أبو حنيفة على هذا: أن تَصَرُّفَ الصبي العاقل المميز صحيح، متى كان بإذن الولي. وقال الشافعي: لا يباشر الصبي العقد بنفسه، وإِنما يباشره وليه، فإذا تمت الصفقة، قام الولي بالتعاقد. وظاهر الآية: دال على أَن أَموال اليتامي، لا تدفع إليهم، إلا إذا بلغوا راشدين. والبلوغ: إما بالاحتلام للذكور، وبالحيض للإناث. وإما بالسن، وهو عند الشافعي والحنابلة: خمس عشرة سنة. وعند المالكية. سبع عشرة سنة. وفرق الحنفية بين الذكور والإناث: فجعلوه للذكور ثمانية عشر عاما، وللإناث سبعة عشر عاما. وكل ذلك بالحساب القمري. فإذا بلغ غير رشيد، فلا يسلَّم له ماله، عند جمهور الفقهاء. ومنهم صاحبا أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة: يُسَلَّم له إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة وإن لم يثبت رشده؛ لأنه يصلح أَن يكون جدًا، وهو يستحيى أن يحجر على مثله، ولكن النص لا يساعد مذهبه. فقد قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}: هذا نهي للأولياء والأوصياء، عن أكل أموال اليتامى: مسرفين في الإنفاق منها، ومتعجلين أكلها، مخافة أن يكبروا فينتزعوها من أيديهم. فإن الكثير من الأولياء، يستعجل بعض التصرفات التي يكون لهم فيها منفعة، حتى لا تفوتهم إذا كبر اليتيم وتسلَّم ماله. {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}: نهى الله الأولياء - في الجملة السابقة - عن أكل مال اليتامى مسرفين ومبادرين كبرهم، حتى يظفروا بما يريدون. وفي هذه الجملة من الآية، يرشد الأولياء، إلى أن من كان منهم ذا مال ويسار، فليكف نفسه عن الأكل من أموال اليتيم التي تحت يده، وليبالغ في إعفاف نفسه وإِبعادها عنه. فلا يأكل منه شيئًا. ومن كان منهم فقيرا فليأخذ من مال اليتيم، بقدر حاجته من سد الجوعة وستر العورة ... لا يزيد عن ذلك. ومن هذا يتبين جواز انتفاع الوصي والولي بقدر حاجته، من غير إسراف. أما إذا أسرف، فإنه يكون ظالما. وفاعله يدخل تحت مَنْ قال الله فيهم، في هذه السورة بعد ثلاث آيات: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} (¬1). وقد روى الإمام أحمد والنسائي، وأبو داود، عن ابن عمر: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس لي مال. وإني وليٌّ يتيم. أفآكل من ماله؟ فقال: "كُلْ مِنْ مَالِ يتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلَا مُتأثِّلٍ مَالًا (¬2): وَمِنْ غَيْرِ أنْ تَقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ". وإِلى هذا الظاهر، ذهب عطاء وقتادة، وهو أحد الروايات عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري، وآخرون: ما يأخذه الفقير - بقدر حاجته - يكون قرضا. وعليه أن يرده إذا أيسر. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية: 10. (¬2) تأثل المال: اكتسابه.

وعن عمر، أنه قال: أنْزَلْتُ نفسي من هذا المال بمنزلة وليِّ اليتيم: إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت (¬1). وقد ذهب جماعة إلى أنه ليس للولي أن ينتفع من مال اليتيم بشيء. وأن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (¬2)، وقد أنكر أبو بكر بن العربي القول بالنسخ، لان الله تعالى يقول: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} فكيف ينسخ الظلم المعروف؟. والحق من هذه الآراء: أن للولي الفقير، أن يأخذ من مال اليتيم، ما يفي بحاجته، من غير إسراف ولا تبذير، وليس عليه ردُّ ما أخذه؛ لأنَّ ما أخذه نظير نظره ورعايته المال .. وأما الغني، فلا ينبغي أن يأْخذ من مال اليتيم شيئًا؛ لأن الله تعالى، أمره بالعفة، والكف عنه. {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}: أي فإذا أديتم - أيها الأولياء - أموال اليتامى إليهم فأحضروا شهودا عليهم، بأنهم تسلموها، وأبرئوا ذمتكم منها، كيلا يكون بينكم وبينهم نزاع؛ لأن الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للريبة والخصومة، وأدخَلُ في الأمانة. {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}: أي وكفى الله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء، في حال تسليمهم الأموال لليتامى، هل هي كاملة، أو منقوصة؟. وفي هذه الجملة، تحذير للمسلمين، من أخذ شيء من أموالى اليتامى - وأن الإشهاد - وإن أسقط الدعوى في الدنيا أمام القضاء - فهو لا يحل ما أخذه الولي من مال اليتيم، عند الله في الآخرة، فإذا كان الولي خائنا، فإن الله سيحاسبه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية. ¬

_ (¬1) نقلًا عن ابن كثير يرويه عن ابن أبي الدنيا. (¬2) سورة النساء الآية: 10.

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)}. التفسير 7 - {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}: بعد أن بين الله تعالى، الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى - التي آلت إليهم بالميراث - شرع في الكلام - على أحكام المواريث. فأجملها في هذه الآية الكريمة، إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من حرمان الصغار والنساء منه، وسَيفصلها فيما يأتي: سبب النزول: نزلت هذه الآية في شأن زوجة أوس بن ثابت وأولاده وابني عمه. فقد روى ابن مردويه وغيره، عن جابر: أن أوس بن ثابت، مات عن زوجته أم كحة وابنتين، وابن صغير، وابني عمه - وهما وصياه - فأخذا ماله: ولم يعطيا أولاده وزوجته منه شيئا، كعادتهم في الجاهلية. فقالت الزوجة للوصيين: تزوجا بالبنتين وكانت بهما دمامة فأبيا. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرته الخبر. فدعاهما. فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كَلاًّ (¬1) ولا ينكأُ عدوًا (¬2). فصرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يَنزلَ حكمُ الله في شأنهم، فأنزل الله هذه الآية. فأرسل إلى ابن العم. وقال لهما: لا تحركا من الميراث شيئًا، فإِنه قد أنزلَ عَليّ فِيه شيء ¬

_ (¬1) يطلق الكل على السيف والعيال والثقل. (¬2) أي لا يقتل عدوًا ولا يجرحه.

أخبرت أن للذكر وأنثى نصيبًا. ثم نزلت بعد ذلك الآيات في تفصيل الميراث. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم الباقي بين الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين. ولم يعط ابني العم شيئًا. وفي بعض طرق الحديث: أن الورثة كانوا زوجة وابنتين وابني العم، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني العم ما بقي بعد نصيب الزوجة والبنتين. ومن هذا يتبين: كيف أنصف الإِسلام المرأة، وحفظها من الضياع. {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}: والمقصود من الرجال والنساء: الذكور والإناث، وإن كانوا صغارا. أي للذكور نصيب مما تركه آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم، كالإِخوة والأخوات، والأعمام والعمات. وللإناث نصيب مما ترك آباؤُهن وأمهاتهن وأقاربهن. وبهذا، بطل ما كان عليه أهل الجاهلية، من توريث البالغين من الرجال فقط، حيث جعل للجميع حظًا ونصيبا في الإرث. وكان يكفى أن يقال: لكل واحد نصيب مما ترك. الوالدان والأقربون. ولكنه تعالى، شاء أن يفصل فيجعل للرجال نصيبا وللنساء نصيبا مما تركه الوالدان والأقربون، إيذانا بأصالة النساء في استحقاق الميراث، ومنعًا من صرف هذا المجمل إلى الرجال وحدهم، على ما كانت عليه عادة الجاهلية، ومبالغةً. في إبطال هذه العادة الظالمة. {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي لكل من الصنفين - الرجال والنساء - نصيب من المتروك. سواء أكان المتروك قليلًا أم كثيرا، عظيم القيمة أو حقيرها، عقارًا ثابتا أو منقولا. فلا يحق لبعض الورثة أن يستأثر ببعض الميراث دون الآخرين، كالسلاح والخيل، وغير ذلك. كما كان شائعًا في الجاهلية. وتقديم القليل على الكثير - في الآية - للتنبيه على وجوب دخوله في الميراث ببن المستحقين، لأنه مظنَّة التهاون فيه.

{نَصِيبًا مَفْرُوضًا}: أي فرض الله ذلك حظًا مفروضا مقدرًا، تجب مراعاته، وتحرم مخالفته. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)}. المفردات: {أُولُو الْقُرْبَى}: أصحاب القرابة غير الوارثين. {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: فأعطوهم من المال الموروث. التفسير 8 - {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: بعد أن بين الله - فيما سبق - استحقاق الوارثين من الرجال والنساء، بين في هذه الآية: أن من لا يرث من أقارب المتوفى، ومن اليتامى والمساكين الأجانب، يُسْتَحَبُّ إعطاؤُهم شيئًا من التركة إذا حضروا قسمة التركة، تطييبا لنفوسهم وجبرًا لخواطرهم. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ}: أي وإذا حضر قسمة الميراث، أصحاب القرابة ممن لا حق لهم في الميراث، أو حضرها اليتامى والمسا كين من الأجانب. {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}: أي فأَعطوهم من المال المتروك شيئًا، تطيب به نفوسهم، ويجبر خاطرهم ويدفع ما قد يسرى في نفوسهم من حسد الورثة على ما ورثوه. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: أَي قولًا لينا جميلا. مثل وددنا لو أَعطيناكم أَكثر من هذا، ودعائكم لهم بالبركة، وعدم مَنِّكم عليهم.

وقد ذهب جمهور فقهاء الأمصار، إلى أن هذا الإعطاء على سبيل الاستحباب، إذ لو كان واجبًا، لبينه الله، كما بين سائر الحقوق، ولتوفرت الدواعي على نقله. ولكنه لم ينقل. فدل ذلك على عدم وجوبه. وعلى ذلك فالآية محكمة لا نسخ فيها. وقد نقل عن ابن عباس أنه قال: والله ما نسخت هذه الآية، ولكن الناس تهاونوا بها. ومن العلماء من قال: إن الإعطاء كان واجبا قبل نزول آيات المواريث. ثم نسخ. والأول هو الصحيح المعوَّل عليه؛ لأن نص الآية مشعر بتقدم آيات المواريث عليها، فمعنى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ}: أي قسمة الميراث على أربابه، ولا يقسم الميراث، ما لم تعلم أنصباء الورثة، والأمر بالرزق في قوله: {فَارْزُقُوهُمْ}: إنما هو في نصيب البالغين من الورثة، أما الصغار فلا يعطى من نصيبهم شيء. {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)}. المفردات: {وَلْيَخْشَ} الخشية: الخوف والحذر. {قَوْلًا سَدِيدًا}: عَدْلًا وصوابًا. التفسير 9 - {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}: يأمر الله تعالى الأولياء في هذه الآية الكريمة: بأن يخافوا ربهم ويتقوه في رعاية اليتامى الذين يَلُونَ أمورهم. فعليهم أن يعاملوهم بمثل ما يحبون أن يُعَامَلَ بهِ أبناؤُهم الضعفاء من بعدهم. وذلك بحفظ أموال اليتامى ورعايتها.

أخرج هذا المعنى ابن جرير، عن ابن عباس، حيث قال: يعني بذلك: الرجل يكون له أولاد صغار يَخشَى عليهم الضياع، ويخاف عليهم ألا يحسن إليهم من يلي أمرهم. يقول: فإن وَلي ضعافا يتامى مثل ذريته، فليحسِنْ إليهم، ولَا يأكُل أموالهم. وخلاصة المعنى: عاملوا اليتامى بما تحبون أن يُعَامَلَ به أولادكم من بعدكم. {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}: أي وليقولوا لليتامى قولًا لينا، تظهر فيه الشفقة والحنان، مع العناية بتهذيب خلقهم وتوجيههم إلى الرشاد. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}. المفردات: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}: أَي يأكلون ما يؤَدى بهم إلى النار، ليعاقبوا فيها على ما أكلوه. {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}: أي وسيدخلون نارا هائلة. من صَلِي النار - بكسر اللام - أي قاسى حرها. والسعير: النار الموقدة. من سَعَرت النار أوقدتها وألهبتها. التفسير 101 - {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}: سيقت هذه الآية؛ لتأكيد الأوامر والنواهي، التي سبقت في شأن اليتامى. وهي وعيد شديد، لمن يتعدى على أموالهم، بأخذها ظلما وعدوانا. أما إذا أخذ منها الولي

الفقير، بمقدار حاجته، كما سيق - في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} - من هذه السورة، فلا إثم فيه. والمراد من قوله تعالى: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أنهم يأْكلون من أموال اليتامى في الدنيا، ما يؤَدى بهم إلى النار في الآخرة. أو أن من يأكل مال اليتيم في الدنيا، يجازى في الآخرة على ذلك، بأن يأكل النار حقيقة. كما أخرجه ابن جرير في حديث الإسراء. وفيه: أن الرسول صلى الله عليه "رَأى أنَاسًا تُلْقىَ في أفْوَاهِهِم صخُورٌ مِنَ النارِ، وَتَخْرُج مِنْ أدبَارِهِمْ. فَسَألَ: مَن هَؤُلَاءِ يَا جبْرِيلُ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَؤُلَاء هُمُ الذِينَ يَأكُلونَ أمْوَالَ الْيَتَامى ظُلمًا". والآية عامة في كل من يأكل مال اليتيم ظلما وعدوانا: وَلِيًّا كَان أَو غيره. وفيها من المبالغة في الوعيد على ذلك والتحذير ما لا يخفى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}.

التفسير 11 - {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ... } الآية. لقد بيَّن الله - عز وجل - فيما سبق - أن لكل من الرجال والنساء، نصيبًا في الميراث. وكان بيانًا مجملًا. وفي هذه الآية - وما يليها - بين الله من يستحق الميراث تفصيلا. ولقد ذُكرت المواريث في ثلاث آيات من سورة. وهي الآيتان (11، 12) والآية التي ختمت بها هذه السورة، وهي قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. وقد قرر الله - في هذه الآيات الثلاث - الميراث للرجال والنساء: كبارهم وصغارهم. وأعطى كل واحد نصيبه. وأبْطل ما كانَ عليه أهل الجاهلية من حرمان الإناث والصغار من الذكور. وتوريث من ليس له حق في الميراث. فقد كانت أسباب الميراث في الجاهلية: 1 - النسب: مع قَصْرِه على البالغين من الرجال: القادرين على الضرب والطعن، وركوب الخيل. 2 - التَّبَنِّي: فكان للمتبنى ما للابن الحقيقي في الميراث وغيره. وأبطل الإسلام ذلك. 3 - الحلف والعهد: فكان الرجل يقول للآخر: دمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وترثُني وأَرثُكَ. فإِذا مات أَحدهما قبل الآخر، ورث الحي الميت. وبقى هذا الأخير مَعمولا به في صدر الإِسلام، إِلى أَن نزلت آيات المواريث. وقد كان من أَسباب الميراث، في صدر الإِسلام: الهجرة والمؤاخاة. أول العصر المدني. فقد كان المهاجري يرث الأنصاري، دون قرابته وذوي رحمه، للأخوَّة التي آخى بينهما

رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قال ابن عباس. ثم نسخ الله ذلك، واستقر الأمر - عند جميع المسلمين - بعد نزول آيات الميراث، على أسباب ثلاثة هي: 1 - النسب. 2 - النكاح. 3 - الولاء (¬1). والحكمة في تشريع ما كان في صدر الإِسلام ظاهرة. لأن أَقارب المسلمين. كان أغلبهم كفارًا. وكان المسلمون - لقلتهم وفقرهم - في حاجة إلى التكافل والتناصر والتعاون بينهم. ولا سيما: المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأَموالهم. سبب النزول: أخرج الإِمام أحمد، وأبو داود والترمذي. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قال: "جاءَت امرأة سعد بن الرّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتِلَ أبوهما معك في أحُدٍ شهيدًا. وإنَّ عمَّهما أخذَ مالَهما فلم يَدَعْ لهما مالًا. ولا تُنكَحانِ إلا ولهما مالٌ. فقال: يقضِي اللهُ في ذلك. فنزلتْ آيةُ الميراثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ... } الآية. فأرسل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلى عمِّهما فقال له: أَعْطِ ابْنَتَي سَعْدٍ الثلثين، وَأمهُمَا الثمُن. وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ". {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: أي يأمركم الله في ميراث أولادكم أَمرًا مؤَكدًا: بأن يكون للذكر، مثل حظ الأنثيين. والولد: يطلق على الذَّكر والأنثى. ويدخل أولاد الابن في الأولاد، لأنهم يرثون عند عدم وجود الأولاد. فإذا مات الميت، وترك أولادًا ذكورا وإناثا، كان للذكر مثل نصيب اثنتين من الإناث. ¬

_ (¬1) المراد: ولاء العتق. فالمعتق يرث عتيقه بعد موته، إن لم يكن له وارث آخر. كالقرب والزوجة بحيث يستنفدون الميراث. أما إن بقي بعد هؤلاء شيء، فهو للمولى المعتق.

والحكمة في جعل حظ الذكر - في الميراث - ضعف حظ الأنثى: أن الرجل مكلف بأعباء وواجبات مالية، لا تلزم بها المرأَة. فهُوَ الذي يدفع المهر، وينفق على الزوجة والأولاد - بعد ذلك - نفقة شاملة. أما المرأة، فهي تأْخذ المهر: لا تُلزم بأي نفقة: لنفسها أو أولادها ولو كانت غنية. وبذلك ترى أن العدالة تقضى بأن يكون نصيبها في الميراث أقل من نصيب الرجل. وأن الإسلام كان معها كريما، حينما أعطاها نصف نصيب الرجل، وجعل لها فيه كامل التصرف. فلا مجال لما يقال من أن الإِسلام بخسها حقها. ولا عدالة فيما يطالبون به من مساواتها بالرجل في الميراث. أفلا يذكر هؤلاء: أن المرأة كانت - قديمًا - محرومةً من الميراث عند العرب وغيرهم، وأن بعض الشعوب - إلى الآن - تحرم على الزوجة كل تصرف في مالها، وتجعل حق التصرف فيه لزوجها، ولو بغير إذن منها؟! {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}: أي فإن كانت الأولاد إناثا لا ذكر معهن، وكان عددهن أكثر من اثنتين، فلهن ثلثا التركة، مهما بلغ عددهن. {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}: أي إن ترك الميت بنتا واحدة: لا أَخ لها ولا أخت. فلها نصف الميراث. بالغا ما بلغ. والنصف الآخر على باقي الورثة، حسب أَنصبتهم في الميراث. وهذا الذي تقدم، هو نصيب الذكور مع الإناث من الأولاد، ونصيب البنات إذا كن أكثر من اثنتين، ونصيب البنت الواحدة إذا انفردت.

أما نصيب البنتين، فلم يذكر في الآية الكريمة. وقد اختلف فيه العلماءُ: 1 - فقال الجمهور: للبنتين الثلثان. فحكمهما حكم الثلاث فأَكثر. ودليلهم ما يأتي: (أ) قياس البنتين على الأُختين، حيث قال الله فيهما: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬1) والبنت أقرب إلى الميت من الأخت. فإذا حازت الأختان الثلثين، فأولى أن يكون ذلك للبنتين. (ب) أن البنت تأخذ مع أخيها الثلث. فأولى أن تخذه مع أختها. (ج) ما ورد عن ابن مسعود، من أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل للبنت مع بنت الابن الثلثين. فأولى أن يكون الثلثان للبنتين. (د) الحديث المذكور في سبب النزول، فهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطى لابنتي سعد بن الربيع الثلثين. وعلى ذلك، يكون المعنى المراد من الآية: فإن كن نساء: اثنتين فما فوق. 2 - وقال ابن عباس: إن البنتين: كالبنت الواحدة. نصيبهما النصف. لأن الله جعل لما زاد على الاثنتين الثلثين. فلا تعطى البنتان الثلثين. وإِنما تأخذان النصف. والراجح ما ذهب إليه الجمهور، لقوة أدلته. هذا، وأولاد الابن كأولاد الصلب - في كل ما تقدم - عند عدم وجودهم. وتعرف أَحوال ميراثهم من كتب الفقه. {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}: بعد أن بين الله نصاب الأولاد: ذكورا أو إناثًا أو مجتمعين، شرع في بيان ميراث الأب وإلام. فإن كان الميت قد ترك أبويه وولدا ذكرا أو أنثى: واحدًا أو أكثر، فلأبويه السدس. ولأمه السدس. والباقي يعطى للأولاد على النظام المتقدم في بيان نصيبهم. فان كان الميت قد ترك بنتًا واحدة - مع الأب والأم - أخذت البنت النصف، ولكل من ¬

_ (¬1) النساء من الآية: 176.

الأبوين: السدس. والباقي من التركة يأخذه الأب تعصيبًا. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأهْلِهَا. فَمَا بقِيَ فَلَأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ (¬1) ". {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}: أي إذا مات الميت ولم يترك ولدًا: ذكرًا كان أو أنثى، وورثه أبوه وأمه، أخذت أمه ثلث التركة، والباقي للأب. وهو الثلثان. لأن الميراث انحصر فيهما. فبعد أن أخذت الأم فرضها، يأخذ الأب الباقي. {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}: أي: أن نصيب الأم يصير سدسًا. لو كان الميت قد ترك عددًا من الإخوة من أي نوع: اثنين فأكثر، ولو كانوا غير وارثين. أما إذا كان للميت أخ واحد أو أخت واحدة، فلا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، بل يبقى لها الثلث. هذا الذي تقدم، هو مذهب الجمهور. من أن الاثنين من الإِخوة يُصيِّران نصيب الأم السدس، بدلا من الثلث. ويرى ابن عباس: أَن نصيبها لا ينقص عن الثلث مع الاثنين من الإِخوة والأخوات. أخذًا من قوله تعالى: {إِخْوَةٌ} وأقل الجمع ثلاثة. والجمهور يقولون: الاثنان جمع، فقد ورد إطلاق الجمع على الاثنين. قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬2). وقال: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} (¬3). وأَيضًا، فقد رأى الجمهور: أن كلًا من البنتين والأختين. كالثلاث في الميراث. فيكون الاثنان من الأخوة كالثلاثة، في الحجب من الثلث إلى السدس. ¬

_ (¬1) رواه الشيخان وغيرهما، وأحمد، والترمذي. (¬2) التحريم. من الآية: 4. (¬3) ص. من الآية: 21، 22.

ومن مسائل ميراث الأبوين: ما إذا كانا موجودين مع أحد الزوجين. فإذا ماتت امرأة عن زوجها وأبيها وأمها، فلو أَعطينا الزوج النصف كما سيأتي، وأعطينا ألام الثلث لعدم وجود ولد ولا عدد من الأخوة، لكان الباقي للأب هو السدس. فيكون نصيب الأم - وهي أنثى - ضعف نصيب الأب وهو رجل. وهذا لم يعهد في الميراث .. وقعت هذه المسألة في عهد الصحابة: فقضى فيها عمر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وجمهور من الصحابة: بأن نصيب الأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وللأب ثلثا الباقي. وخالف ابن عباس في ذلك. وقال: للأُم ثلث المال، وتناظر زيد بن ثابت فيها مع ابن عباس. فقال ابن عباس لزيد: لا أجد في كتاب الله أن للأم ثلث الباقي. فقال زيد ليس في كتاب الله إعطاؤُها الثلث مع وجود الزوج. وكأن زيدًا يريد أَن يقول: أن الله تعالى، أعطاها الثلث - إن كان الميراث منحصرًا في الأَبوين، وإلا كان قول الله - تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عدم الفائدة. ومثل المسألة المتقدمة: ما إذا كان الميت الزوج، وترك زوجة وأبًا وأمًّا. فللزوجة الربع وللأم ثلث الباقي، وللأب ثلثاه. وتعرف هاتان المسألتان في الميراث، بالعُمَرِيتين؛ لقضاءِ عمر فيهما بذلك. وقد وافقه جمهور الصحابة على ذلك. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: أي تقسيم الميراث على النحو المتقدم: للأَولاد والأبوين، لا يكون إلا بعد أداءِ وصية قد أوصى بها قبل موته أَو بعد سداد دين كان عليه قبل موته. فلا يأخذ أي وارث شيئًا من الميراث، إلا بعد سداد الديون، وتنفيذ الوصايا؛ لأنهما حق لغير الورثة. فلا يورث.

هذا، والحقوق المتعلقة بالتركة: ما يأتي، على هذا الترتيب: (1) ما يتعلق بتجهيز الميت ودفنه. (2) سداد ديونه حتى تبرأ ذمته. (3) ما يكون قد استدركه من أعمال الخير قرب وفاته، كالوصايا، في حدود الثلث. ويقدم سداد الديون على تنفيذ الوصية، إذا لم يتسع المال الموروث لهما. وإِنما قدم الله الوصية في الآية الكريمة على الدين، اهتمامًا بشأنها؛ لأنها مظنة للتفريط في أدائها. {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}: أي: هؤُلاء الذين أوصاكم الله بهم، وبين أنصباءَهم في المال الموروث هم:: آباؤكم وأَبناؤكم. والله يَعلَمُ أقربهم لكم نفعًا. وأنتم لا تدرون ذلك. ولهذا تولى قسمة المال بينهم حسب علمه. ولم يتركه لكم، لعدم علمكم بمن يستحق الأكثر، ومن يستحق الأقل. {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}: أي فَرَضَ الله ذلك الذي تقدم، فريضة عليكم، وألزمكم به. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}: فهو يعلم ما به صلاح خلقه، وهو ذو حكمة: يضع كل شيء في موضعه. ويقضي بما يراه حقا. فعليكم أن تنفذوا وصيته، وأَن تستسلموا لما قضى به من قسمة المواريث. فهو العليم بمواضع المصلحة، دون سواه.

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}. المفردات: {كَلَالَةً}: مصدر من فعل"كَلَّ" بمعنى الكلال. وهو العجز والإعياء، وكَلَّ الرجلُ كلالة، إذا مات وليس له والد أو ولد يرثه؛ لأنه عجز عن بلوغ القرابة القوية. {غَيْرَ مُضَارٍّ}: أي غير مدخلٍ الضررَ على الورثة، في وصيه أو دين. كأن يوصى بأكثر من الثلث. أو يقر بدَيْن ليس عليه.

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} حدود الله: شرائعه وأحكامه. وأَطلق عليها الحدود، لشبهها بالحدود والحواجز، من حيث إن المكلف: لا يجوز له أن يتعداها إلى غيرها. التفسير 12 - {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... } الآية. المعنى: {وَلَكُمْ} أيها الأزواج. {نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}: أي نساؤُكم، بعد وفاتهن من أموال منقولة وغير منقولة. {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}: أي ولد من بطنها أو من صلب بنيها، أو أولاد بنيها .. نزولًا إلى غير حد: ذكرا كان أو أنثى، واحدًا أَو أكثر، منكم أو من غيركم. كما فهم من إضافته إِلى الزوجات في قوله تعالى: {لَهُنَّ} والباقي بعد النصف الذي استحقه الزوج يعطَى لذوى الفروض والعصبات، الذين لهم حق ميراث الزوجات. ولبيت المال، إِن لم يكن لهن وارث أصلًا. {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ}: على النحو المذكور {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}: من المال. والباقي لسائر الورثة. والنصيبان المذكوران للأزواج من زوجاتهم. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: فالباقي من مال الزوجة المتوفاة - بعد تنفيذ وصيتها وقضاء دينها - يأخذ منه الزوج النصف تارة، والربع تارة أخرى. حسب التفصيل السابق. ويفهم من الآية: وجوب تقديم الوصية والدَّين على قسمة الميراث. فإن استوعبا التركة، فلا ميراث لأحد منها. وإن كانت التركة تكفي الدَّين وحده أو الوصية وحدها، قُدِّم الدَّين على الوصية. وقد أجمع العلماءُ: على أن نصيب الزوج من زوجته النصف أو الربع، على النحو الذي بينته الآية الكريمة.

{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}: أي ولزوجاتكم الربع مما تركتم - أيها الأزواج - من المال. والباقي لسائر ورثتكم، أو لبيت المال، إن لم يكن لكم وارث: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} منهن أو من غيرهن: ذكرًا كان أو أنثى. واحدًا أو أكثر. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ}: على النحو المذكور. {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}: من المال. ويقوم ولد الابن مقام ولد الصلب في كل ذلك. وما بقي، فالشأن فيه كما تقدم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: كما سبق بيانه. وقد أجمع العلماء: على أن كلا من الربع أو الثمن، يكون للزوجة إِن انفردت، وللزوجتين أو الثلاث أو الأربع إذا اجتمعن: يقسم الربع بينهن بالسوية، عند عدم الولد للزوج. والثمن كذلك عند وجوده. وقد فرض الله تعالى، للرجل - بحق الزواج - ضعف ما فرض للمرأة. كما في النسب. ذلك بما فضله الله به، إذ جعله قوَّامًا عليها. ثم شرع في بيان أحكام من يحتمل السقوط من الورثة - بعد بيان أحكام الآباء والأولاد، والأزواج والزوجات، وهم لا يسقطون بحال - فقال، جل شأنه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} الكلالة هو من لم يكن له والد ولا ولد عند موته. {أَوِ امْرَأَةٌ}: تورث كلالة كذلك. {وَلَهُ} أي للرجل الذي يورث كلالة {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لأمه، وكذلك إذا كان للمرأة التي تورث كلالة، أخ أو أخت لأمها {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}: أي من الأخ أَو الأخت لأم {السُّدُسُ}: يستوي فيه ذَكَرُهم وأنثاهم {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}: أي فإن زاد الإخوة لأم عن الواحد، فهم جميعًا: شركاء في الثلث - وإِن كثر عددهم - يقتسمونه بينهم بالسوية. لا فرق بين ذَكَرِهم وأنثاهم. وقد أجمع العلماءُ: على أن المراد من الإخوة - هنا - الإخوة لأم لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}: والإخوة للأبوين أو للأب، لا يرثون هكذا. إِذ هم المعنيون بما جاء في قوله تعالى في آخر هذه السورة: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وإن كانوا أيضًا يسمون: كلالة. مثل الإخوة لأم، لقوله تعالى في صدر

تلك الآية: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ... الآية. وفي كل حال من أحوال ميراث الكلالة، يأخذ الأخوة لأم نصيبهم {مِنْ بَعْدِ} تنفيذ {وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} من الرجل أو المرأة صاحبي التركة {أَوْ دَيْنٍ} ثبت على كل منهما أو أوصى به، وكذا الحكم في مثله فيما تقدم: {غَيْرَ مُضَارٍّ}: أي غير جَالب لورثته الضرر بعد موته، بالزيادة على الثلث في الوصية. أو بقصد الإضرار بهم، دون التقرب بها إلى الله تعالى. أو بالإقرار بِدَين لا يلزمه. {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}: أي يوصيكم الله بكل ذلك، وصية مؤَكدة، صادرة من عنده، واجبة الرعاية والتنفيذ. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بكل شيء: عِلْمَ إحاطةٍ وشمول. فيعلم جميع أحوالكم ونياتهم: حسنة كانت أو سيئة فيجزيهم عليها. {حَلِيمٌ}: لا يعاجل المخالفين بعقوبته، إمهالا؛ لعلَّهم يتوبون، وليس إهمالا، فكل سيلقى جزاءه. واستيفاء الكلام على ميراث الإخوة لأم وأحكام الوصية، مبسوط في كتب الفقه. 13، 14 - {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}: بعد أن أوضحت الآيات السابقة، طائفة من أهم أحكام الوصية والميراث وحقوق اليتامى والنساء - جاءت هاتان الآيتان: تشددان في الالتزام بها بترغيب الطائعين، وتحذير المخالفين. والمعنى: {تِلْكَ} الأحكام العظيمة الشأْن، التي مضت في شئون النساء واليتامى والمواريث والوصايا وسواها.

{حُدُودُ اللَّهِ}: شرائع الله: الكثيرة النفع، التي هي كالحدود والحواجز، التي لا يجوز تجاوزها. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: بامتثال كل التكاليف، وفي جملتها تلك الحدود. {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ}: عظيمة النعيم، عالية الدرجات. ومن عظمها أنها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}: لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها: قال تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (¬1). وقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬2). {وَذَلِكَ}: الجزاءُ الكريم بتلك الجنات العالية هو {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: فقد حصلوا به على أَسمى المطالب، ونجوا من كل المكاره. ولا فوز يدنو من ذلك الفوز، الذي نالوه بطاعة ربهم وجزيل كرمه. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}: أي من يتجاوز شرائعه المحدودة في جميع الأحكام، مستحلا مخالفَتها، أو مستهينًا بها، عاصيًا بتركها - ويدخل في هذا الوعيد العام - المخالفون لما بينته الآيات السابقة. {يُدْخِلْهُ} الله. {نَارًا} هائلة: شديدة الإحراق حال كون الداخل إلى تلك النار. {خَالِدًا فِيهَا}: لا يبرحها. {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}: أي وله فوق عذاب الحريق الجسماني، عذاب روحاني، مهين: مذل. لا يعرف كنهه إلا الله تعالى. ¬

_ (¬1) الدخان من الآية: 56. (¬2) الحجر الآية: 48.

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)}. المفردات: {الْفَاحِشَةَ}: معناها لغة؛ الفعلة الشديدة القبح. والمراد منها هنا: الزنى. لأنه من أقبح الفواحش. {فَأَمْسِكُوهُنَّ}: احبسوهن. {سَبِيلًا} السبيل: الطريق الموصل؛ سواء أكان سهلا أم صعبًا. التفسير 15 - {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}: بعد أن قررت الآيات السابقة، حقوقًا للنساء في الميراث - كان أهل الجاهلية ينكرونها عليهم ولا يعترفون لهم بها جاءَت هذه الآية، والتي تليها - ببيان ما عليهن من واجب العفة، وصيانة العرض، وتوضحان: أنهن ارتكبن الفاحشة، عوقبن؛ صيانة لهن من الخزي، وللأسرة من العار، والضياع؛ وللمجتمع من الفساد والانحلال. وللإيذان بأن باب التوبة مفتوح أمام الزناة، حضا على تطهير القلوب، والرجوع إلى الله: بالإقلاع عن الجريمة النكراء.

والمعنى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}: أي والنساء اللاتي يفعلن ويرتكبن فاحشة الزنى القبيحة - حال كونهم من إناثكم أيها المسلمون، سواء أكن ثيبات أم أبكارا. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}: أي فاطلبوا ممن قذفهن أي يُشهِدَ على زناهم - عند عدم إقرارهن به - أربعة رجال عدول منكم أيها المؤمنون. فلا تصح شهادة النساء، ولا تقبل شهادة غير المسلمين، ولا غير العدول. ولخطورة الادعاء بالزنى. اختص - وحده - بشهادة هذا العدد: تغليظًا على المدعي وسترًا على العباد، وصيانة للأنساب. {فَإِنْ شَهِدُوا}: أي فإن أدى الأربعة الشهادة عليهن، برؤيتهم للجريمة رؤية واضحة محققة، أثناء التلبث الكامل بها. {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}: أي فاحبسوهن في البيوت؛ عقوبة لهن طول خيانتهن. {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ}: أي حتى ينهي الموت حياتهن، بقبض أرواحهن. {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}: أو إلى أن يجعل الله لهن طريقًا آخر لعقوبتهن على اقتراف جريمة الزنا. وهكذا شأن الله تعالى، في علاج الجرائم الاجتماعية؛ المنتشرة بين الطبقات، الجارية منهم مجرى الغرائز: لا يعالجها بالحسم من أول الأمر، ولكنه يتدرج في علاجها، فيبدأ بالأخف، وينتهي بالأشد، حتى لا يكون الحسم - من أول الأمر - صعبًا على النفوس. وقد حدث مثل ذلك في عقوبة الخمر وسواها. فسبحانك أنت الحكيم العليم. 16 - {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}: المعنى: والرجل والمرأة اللذان يرتكبان فاحشة الزنى القبيحة منكم - أيها المسلمون - {فَآذُوهُمَا}: بالتقريع والتوبيخ، وبيان أن ما ارتكباه جريمة في حق المجتمع وحق أنفسهما، وأنهما تعديا حدود الله بما اقترفاه.

ورأى ابن عباس: أَن يضاف إلى ذلك الضرب، وهذا الإيذاءُ عقوبة للزناة من الرجال: أبكارًا كانوا أو غير أبكار. وكذا للزانيات من النساء، ثيبات وأبكارًا، فوق عقوبة الحبس الخاصة بهن. فالإيذاء: عقوبة مشتركة بين الجنسين، بعد ثبوت الزنى عليهما بأربعة شهداء استكملوا الشروط السابقة، ومثل ثبوته بهؤُلاء الشهود، ثبوته بالإقرار. فهو سيد الأدلة. وقد ثبت بالسنة. {فَإِنْ تَابَا}: أي إن رجع الزانيان من الفريقين عن جريمتهما بعد الإيذاء. {وَأَصْلَحَا}: عملهما وسلوكهما، وظهرت الاستقامة عليهما. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}: فاقْبَلوا توبتَهما، وكفُّوا الإيذاءَ عنهما. وتبقى عقوبة الحبس على الزانيات بعد توبتهن؛ احتياطًا للأعراض. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}: أي إن الله كان ولا يزال، عظيم التوبة على عباده، واسع الرحمة بهم. وإنما اختص النساءُ - أول الإِسلام - بعقوبة الحبس دون الرجال؛ لأن الرجل هو عائل الأسرة، والقَوَّام عليها. فلو حُبِس حتى يموت، لكان في ذلك ضياعٌ واسع المدى لأسرته. والله لا يرضى بذلك. وقد بقيت عقوبة الزنى على النحو السابق: الإيذاءُ للرجال والنساء. والحبس للنساء خاصة حتى الموت. حتى جعل الله لهن السبيل الذي وعد به. فيما رواه الإِمام أحمد، وأبو داود ومسلم والترمذي، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه رسم، قال: "خُذُوا عَنِّي. خُذُوا عَنِّي .. قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ البِكْرُ بِالْبكْرِ: جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام. وَالثَّيِّبُ بِالثيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ". وقد نسخ جلد الشيب الوارد في الحديث بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع ماعز والغامدية، فإنه رجمهما ولم يجلدهما مع أنهما ثيبان وبقيت على الثيب عقوبة الرجم. وبذا، تكون عقوبة الحبس - التي شرعت أول الإسلام - قد انتهت بتشريع الرجم للمحصن والجلد لغيره، ذكرا كان أم أنثى.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}. المفردات: {السُّوءَ}: القبح والمراد هنا: المعاصي مطلقًا. {بِجَهَالَةٍ} الجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعقلاء. وليس المراد بها عدم العلم، فإن من لا يعلم. لا يحتاج إلى التوبة. التفسير 17 - {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} بعد أن أوضحت الآيتان السابقات، عقاب من أتى بالفاحشة من النساء والرجال، وأن باب التوبة مفتوح - جاءت الآيتان تؤكدان ذلك، وتذكران الشروط التي تجعل التوبة مظنونة القبول. {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}: أي: إنما قبول التوبة ثابت ومتحقق من الله - فاء بوعده الصادق - للذين يعملون المعصية: صغيرة كانت أو كبيرة، جاهلين - أي سفهاء غير متدبرين - عاقبة ما يصنعون.

ثم يتوبون إلى الله من ذنوبهم - توبة صادقة، ويستيقظون من غفلتهم - في وقت قريب، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وتظهر أسباب الموت وأماراته. {فَأُولَئِكَ}: التائبون قبل فوات الأوان {يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: أي يقبل توبتهم تفضلًا منه، تحقيقًا لوعده الذي لا يتخلف. {وَكَانَ اللَّهُ}: ولا يزال {عَلِيمًا}: يحيط علمه بكل شيء. فيعلم الصادق في توبته وغيره {حَكِيمًا}: عظيم الحكمة في التدبير كل الأمور، وتصريف جميع الشئون ومن حكمته: أن فتح باب التوبة أمام العصاة جميعًا؛ حسمًا لمادة الفساد. وقد اتفقت الأمة، على أن التوبة من الذنب، واجبة على المؤمنين. لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ}: صحيحة ولا مقبولة {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}: ويستمرون عليها. {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}: فإن توبة هؤلاء لا يقبلها الله تعالى؛ لأنها جاءت في وقت اليأس من الحياة. أما التوبة المقبولة، فهي التي تكون في وقت الأمل في الحياة، مع الرغبة في إصلاح الحال بعدها. {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}: أي وليست التوبة أيضًا للذين يقربون من الموت وهم كفار. فيقولوا آمنا في وقت الغرغرة، فإنها توبة مردودة على صاحبها. كما رد الله توبة فرعون لما أدركه الغرق. {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}: أي أولئك جميعًا هيأنا لهم عذابًا عظيمًا شديد الإيلام، يتفاوتون في تفاوتهم في الكفر والمعاصي. ¬

_ (¬1) النور، من الآية: 31.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}. المفردات: {كَرْهًا}: مكرهين بدون رضاهن. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} العضل: المنع والحبس والتضييق. {بِفَاحِشَةٍ}: كل ما فحش قبحه قولًا أو فعلا. والمراد بها هنا: نحو الزنى والنشوز. {مُبَيِّنَةٍ}: واضحة ظاهرة. التفسير 19 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ... } الآية. فيما تقدم من الآيات، أبطل الله - سبحانه - عادات كانت للجاهلية، في شأن اليتامى وأموالهم. وميراث النساء. واستطرد الحديث، إلى وجوب الحفاظ على عفتهن وتأديبهن، إن ارتكبن الفاحشة، استكمالًا لعناصر إصلاح الأسرة. وفي هذه الآية، ينهى عن عادات جاهلية أخرى، تتعلق بالنساء في أنفسهن وأموالهن.

سبب النزول: روى البخاري، عن ابن عباس، قال: "كانوا إذا مات الرجلُ كانَ أولياؤُه أحقّ بامرأته: إن شاءَ بعضهم تزوجها، وإِن شاءُوا زوّجوها، وإن شاءُوا لم يزوجوها. فهم أحق بها من أهلها". فنزلت هذه الآية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ}: أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون: أن ترثوا من أقاربكم زوجاتهم بعد وفاتهم، كما تورث الأموال والعقارات. وتقولوا: نرثهن كما نرث أموالهم. {كَرْهًا}: كارهات لذلك، بأن تتزوجوهن أو تزوجوهن من غيركم، بدون رضاهن، أو تمنعوهن من الزواج. كأنما تتصرفون في أموال ورثتموها. فإن ما كان من أفعال الجاهلية المنكرة، لا يليق بكم أيها المؤمنون. {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}: أي ولا تضيقوا أيها الأزواج، على زوجاتكم اللاتي كرهتموهن لدمامة أو سآمة وملل، وتحبسوهن لديكم، مع سوء العشرة؛ ليفتدين أنفسهن منكم ببعض صداقكم لهن، فتأْخذوه منهن بدون رضاهن. {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}: أي إلا أن يرتكبن فعلةً واضحة القبح، ظاهرة الشناعة تجعلها - وحدها - المسئولة عن هدم الحياة الزوجية: كالزنى، أو النشوز. وعندئذ، يكون من العدل: أن يأخذ الزوج المظلوم، بعض ما أداه لها صداقًا ليخالعها عليه، إذْ هي التي هدمت بيته بظلمها، وعدوانها. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: أي بما عُرِفَ في الشرع حسنُه، من الإنفاق قدر طاقتكم، من غير إسراف. ومن القسم بالعدل، والقول اللين، وانبساطة الوجه؛ لتعيشوا سعداء. {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ}: وسئمتم عشرتهن لدمامتهن، أو سوء في خلقهن يمكن احتماله، فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس، وذهاب الحب، واصبروا على معاشرتهن {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}: فلعلكم تكرهون شيئًا بحكم النفس والهوى،

ويجعل الله تعالى فيه خيرًا كثيرًا: دنيويًا كان أو أخرويًا. وأَنتم لا تعلمون ذلك الخير ولا تدركونه. بسبب كراهتكم لهن! فأحسنوا إليهم وعاشروهن بالمعروف، لتَرَوْا ثمرة ذلك. فإن المعروف يتعقب الخير دائمًا. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)}. المفردات: {قِنْطَارًا}: هو مائة رطل كما في القاموس والعرف. والمراد منه: الشيء الكثير. {بُهْتَانًا} البهتان: الكذب الذي يواجه به المكذوب عليه فيحيره. والمراد به هنا: الظلم الذي يتحير في ارتكابه. {أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} الإِفضاءُ إلى الشيء: الوصول إليه بالملامسة. والمراد به هنا: الاتصال الجنسي. أو ما يكون بين الزوجين في خلوة. {مِيثَاقًا غَلِيظًا}: عهدًا وثيقًا قويًّا. التفسير 20 - {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ... } الآية. بعد أن تحدثت الآية السابقة. عن حكم الفراق الذي سببه الزوجة، وأنه يتيح للزوج أن يأخذ من زوجته، بعض ما أعطاها من ماله؛ تعويضًا عما لحقه من الضرر،

جاءَت هذه الآية لتبين أنه إن طلقها - دون أن يكون منها نشوز وإساءة - فليس له أن يأخذ مما أصدقها إياه شيئًا، ولو كان قليلًا، وإن كان الذي أعطاها إياه مالًا كثيرًا. والمعنى: وإن أردتم - أيا الأزواج - تزوج امرأة ترغبون فيها، لتقوم مكان زوجة ترغبون عنها، وتريدون طلاقها، وقد كنتم أعطيتم من قبل ذلك من تريدون فراقها مالًا كثيرًا: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}: فلا تستردوا من الكثير الذي أعطيتموه لها شيئًا ولو قليلًا، فضلا عن أن تأخُذُوا مِنه كثيرًا. وقد استدل بظاهر الآية، على جواز المغالاة في المهور. روي أن عمر - رضي الله عنه -، قال على المنبر: لا تُغاَلوا في مُهور نسائكم. فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع؟ وتلت هذه الآية، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر، ورجع عن النهي عن المغالاة (¬1). ومع سكوت عمر عن النهي عنها، فالقصد في المهور أفضل. ففي الحديث: "أعْظَمُ النِّسَاء بَرَكَةً أيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً (¬2) ". وذهب العلماءُ إلى أنه لا حد لأكثر الصداق. واختلف في أقله. وقد تكفلت كتب الفقه ببيان الآراء في ذلك. وبعد النهي الصريح عن أخذ شيء من صداق من يراد طلاقها، انتقلت الآية إلى تأكيد هذا النهي - بطريق الإنكار - على من يسترد شيئًا من الصداق، وتوبيخه على ذلك، بقوله تعالى: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}: أي أتأخذون هذا الصداق - أو شيئًا منه - ظالمين للزوجات بهذا الأخذ، وآثمين به إثمًا بينًا واضحًا! ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد. (¬2) رواه أحمد في مسنده.

كان أحدهم إِذا أراد التزوج بامرأة، رمى الزوجة التي عنده بفاحشة ظلمًا، كي يلجئها إلى الافتداء منه بصداقها أو ببعضه، فَنُهوا عن ذلك (¬1). 21 - {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ ... } الآية. هذا إنكار على الأخذ من صداق الزوجة، بعد إنكار في الآية قبلها، وتنفير منه إثر تنفير. وتعجيب من حال هذا الذي يظلم زوجته بغير حق! والمعنى: بأي وجه، ولأي سبب تفعلون هذا، وتتناسون أنه - جرى بينكم وبينهن ما يؤَكد حقهن فيما أخذنه صداقًا! فقد بذلت المرأة نفسها لزوجها، وجعلت ذاتها موضع تمتعه، وحصلت الألفة التامة، والمودة الكاملة بينهما. فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا بذله لها بطيب نفس! إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم، وذوق مستقيم. {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}: يوم تزوجتموهن على ما أخذه الله للنساء على الرجال، من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2). ومن ألجأ زوجته إلى الافتداء بصداقها، لم يكن تسريحه لها بإحسان، بل بالإساءة. وقد أكدت السنة ما جاءت به الآية. قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "وَاستَوصُوا بِالنِّسَاء خَيْرًا، فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ الله وَاستَحْلَلتُمْ فرُوجَهُن بِكَلِمَةِ الله (¬3) ". ¬

_ (¬1) رواه الطبراني عن ابن عباس. (¬2) البقرة. من الآية 229. (¬3) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}. المفردات: {سَلَفَ}: مضى وتقدم. {فَاحِشَةً}: فعلة شديدة القبح. {مَقْتًا}: بغضًا شديدًا. {وَسَاءَ سَبِيلًا}: وقبح طريقًا. {وَرَبَائِبُكُمُ}: جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره. {فِي حُجُورِكُمْ} الحِجْرُ: الحضن. والمراد في كفالتكم وتحت رعايتكم. {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}: زوجات أبنائكم. وسميت الزوجة حليلة؛ لحلها للزوج.

التفسير 22 - {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ... } الآية. بعد أن بينت الآية السابقة ما يحل للزوج أَخذه من الصداق وما يحرم، جاءت هذه الآية - والآيتان بعدها - لبيان من يحرم نكاحهن من النساء ومن يحل. سبب النزول: قال الآلوسي: أخرج ابن سعد، عن محمَّد بن كعب، قال: كان الرجل إذا تُوُفي عن امرأته. كان ابنه أحق بها أن ينكحها - إن شاء - إن لم تكن أمه - أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت، قام ابنه حصْن، فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها، ولم يورثها من المال شيئًا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. فقال: ارجعي، لعل الله ينزل فيك شيئًا، فنزلت {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... } الآية. ونزلت { ... لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ... } الآية. وقال الآلوسي أيضًا: وذكر الواحدي، وغيره، أَنها نزلت في حِصن المذكور. وفي الأسود بن خلف: زوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف. تزوج امرأة أبيه: فاختة بنت الأسود، وفي منظور بن ريان: تزوج امرأة أَبيه؛ مليكة بنت خارجة. وقال القرطبي: كان في العرب قبائل، قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أَبيه. وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة. وكانت في قريش مباحة مع التراضي .. الخ. ولشيوع هذا المنكر بينهم، أفرد الله تحريمه بآية خاصة، لم يدرجه ضمن المحرمات في الآيتين التاليتين؛ اهتمامًا بشأن تحريمه، ومبالغة في الزجر عنه، والتنفير منه؛ لشدة قبحه. المعنى: ولا تتزوجوا مَن تزوجهن آباؤُكم من النساءِ بعد فراقهم لهن بموت أو طلاق؛ لشدة قبحه. لكن ما قد مضى وسبق من هذا الزواج - قبل نزول تحريمه في هذه الآية - فإنه معفو عنه. ويجب التفريق بين الزوجين فيما كان قائما من هذا الزواج، عند نزول هذه الآية. ويثبت النسب به، وعليكم أن تمتنعوا عن وطئهن، فإنهن أصبحن محرماتٍ عليكم.

{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}: أي أن نكاح زوجات الآباء، الذي حرمه الله في هذه الآية، كان - ولا يزال في حكم الله - فعلة قبيحة، وأمرًا ممقوتًا بغيضًا. وَقَبُحَ هذا الطريق عند الله، وعند أصحاب المروءَات، طريقًا إلى الزواج. والنكاح: حقيقة لغوية في كل من العقد والوطء. واختلف في معناه شرعًا في آيات القرآن الكريم. فالشافعية يقولون: المراد منه العقد. ولذلك يحلون للابن المرأة التي زنى بها أبوه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يحرم على الرجل أن يتزوج بمن زنى بها أبوه. إذ النكاح عنده: عبارة عن الوطء ولو كان محرمًا. 23 - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: المعنى: جاءَت هذه الآية - مع التي قبلها والتي بعدها - بتحريم نكاح خمسة عشر صنفًا من النساء. وهن: سبع من النسب، وسبع من جهة الرضاعة والمصاهرة، وواحدة ما دامت زوجة. وهي المحصنة. وقد تقدم في الآية السابقة، بيان تحريم ما نكح الآباءُ من النساء. ويأتي في الآية التالية، بيان تحريم المحصنات من النساء. فتكون هذه الآية وحدها، اشتملت على تحريم ثلاثة عشر نوعًا. وفيما يلي بيانها: سبعٌ يحرم نكاحهن من النسب، أي القرابة. وهن: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. وستّ أخريات يحرم نكاحهن من الرضاعة والمصاهرة وهن: الأمهات، والأخوات من الرضاعة، وأمهات الزوجات وبناتهن، وحلائل الأبناء، والجمع بين الأختين. قال تعالى:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}: أي حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم. والمراد من الأمهات: ما يشمل الأم والجدات لأب أو لأم. {وَبَنَاتُكُمْ}: أي بنات الصلب، وبنات الأولاد: ذكورا كانوا أَو إناثًا. {وَأَخَوَاتُكُمْ} من الجهات الثلاث: شقيقاتٍ أو لأب، أو لأم. {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}: من الجهات الثلاث، في كل نوع من هذه الأنواع: أي شقيقاتٍ، أو لأب، أَو لأم. والعمة تشمل أخت الأب أو الجد وإن علا. والخالة تشمل أخت الأم وأخت الجدة وإن علت. وبنات الأخ وبنات الأخت، تتناول القربى والبعدى. وبعد بيان الحرمات من النسب، انتقلت الآية، إِلى بيان ما يحرمه الرضاع، فقالت: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}: لقد أَثبت فيما الجزء من الآية الكريمة أن الرَّضاعة تمنح المرضعة وصف الأُمومة، فتسمى بذلك أمًّا للرضيع. وتمنح أَولادها وصف الأخوة للرضيع: ذكورًا وإناثًا ولو من أَزواج متعددين. ويسمَّوْن بذلك إخوة وأخوات. وينتقل التحريم - بحكم ذلك - من المرضعة إلى أصولها وفروعها، وإخوتها وأخواتها. وينتقل كذلك، إِلى صاحب اللبن - وهو زوج المرضعة - وأصوله وفروعه، وإخواته وأخواته فأبو المرضعة، جدّ للرضيع، وأمها جدَّة له. وبنها وبنتها أُخته، وأخوها خاله، وابنة بنتها ابنة أخته. وهكذا. وكذلك زوج المرضعة - صاحب اللبن - أبو الرضيع، وأبواه جداه من الرضاع، وبنته - ولو من غير المرضعة - أخته، وأخته عمته. وعلى كل، فالأَمر في الرضاع، كما في الحديث "يَحْرُمُ مِنَ الرضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (¬1). والمراد من أَخوات المرء من الرضاعة: بناتُ من أرضعته، وبنات صاحب اللبن، وإن لم يَرْضعْنَ معه، بأَن وُلدْنَ قبله أَو بعده. والرضاع المحرم: يكون بوصول لبن المرأة إلى الجوف. مصًّا من الثدي، أو شربا من نحو إناء، أو مطبوخًا. وَرَضْعَةٌ واحدةٌ ولو مصَّة، تكفى في التحريم عند أكثر العلماء. ¬

_ (¬1) الفتح الكبير 3 - 415 رواه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة وأحمد في مسنده ومسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس.

ولا تحريم عند الشافعي إلا بخمس رضعات متفرقات. لحديث ثبت عنده بذلك (¬1) والرضاع بعد الحولين، عند أكثر العلماء لا يحرم. والمراد: الحول القمري. واعتبر أبو حنيفة في إثبات حكم الرضاع: ستة أشهر بعد الحولين. واعتبر مالك - بعد الحولين - شهرًا أو نحوه. وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة، واستمر فطامه، فلا يعتبر الرضاع بعده. وعند الإمام الليث: أن الرضاع يحرم ولو للرجل الكبير. وهو مذهب عائشة. والفتوى على خلافه. ولكل دليله. وتفصيل الكلام على ذلك، في كتب الفقه. وبعد بيان المحرمات من جهة الرضاعة، التي لها لحمة كلحمة النسب، شرعت الآية في بيان المحرمات من جهة المصاهرة. في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}: والمراد من هذا الجزء من الآية الكريمة: أن الرجل إذا عقد على البنت فإن أُمها تحرم عليه بمجرد العقد، حرمة أبدية. وإن لم يدخل بها. فلا تحل له بحال، وإذا عقد على امرأة لا تحرم عليه بنتها إِلا إِذا دخل بأُمها، فإنها حينئذ تحرم أبدًا، فإن لم يدخل بالأم، فلا تحرم عليه بنتها أبدًا. بل له أن يتزوجها بعد طلاق أمها. وليس المراد بالتعبير بربائبكم اللاتي في حجوركم، تقييد التحريم لبنت الزوجة، بكونها تتربى في حماية الزوج، وفي حضانته ورعايته - بل هو تعبير عما هو الغالب. وهو أن يكن في حضانة الأزواج مع أمهاتهن. كما يستفاد منه تأكيد معنى الحرمة، بتقوية الشبه بينهن وبين الأولاد. {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}: أي وحرم عليكم نكاح زوجات أبنائكم تحريمًا أبديًا. سواءٌ حصل الدخول أم لم يحصل والمراد بالابن من انتسب إليك بالولادة. فيشمل ابن الابن وإِن نزل. فزوجة ابن الابن، وابن البنت، تحرم كذلك على الجد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن السيدة عائشة.

وقد أجمع العلماءُ على ذلك. كما أَجمعوا على تحريم زوجة الأب على أبنائه وحفدته، وإِن لم يدخل بها. وسميت الزوجة حليلة؛ لحلها للزوج. وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}: لإخراج زوجات الأبناء بالتبني. فيجوز التزوج بهن بعد طلاقهن. أما حرمة زوجات الأبناء من الرضاع، فثابتة بحديث: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النسَبِ (¬1) ". {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}: أي وَحُرِّمَ على الرجل أَن يجمع بين أختين في النكاح. فلا يتزوج الرجل امرأة، ثم يضم إليها أختها بطريق الزواج. وهذا بإجماع العلماء. واختلف في الجمع بينهما في الوطءِ بملك اليمين. فجمهور العلماء يحرمه، قياسًا على النكاح. وأهل الظاهر يجيزونه، كما جاز الجمع بينهما في الملك. عملا بقوله تعالى: في الآية التالية {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ولم يلتفت أهل الفتوى لهذا الرأي. وقالوا بحرمة ذلك، لأن سبب التحريم وهو البغضاءُ والنفور. والتقاطع بسبب الغير، حاصل في الوطء بملك اليمين - كالنكاح. {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}: أي لكن ما قد مضى قبل النهي، لا تؤاخذون به. ويجب التفريق بينهما، إن وُجِدَ مثل ذلك، حين نزول الآية. وكما يحرم الجمع بين الأختين، يحرم الجمع بين المرأَة وعمتها. أو خالتها. وكذلك يحرم الجمع بين أكثر من أربع حرائر. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: أي إن الله كان - ولا يزال - عظيم الغفران لذنوب مَنْ تاب إلى الله وأَناب، واسع الرحمة، فلا يؤَاخذ إلا بعد النهي والإرشاد. ¬

_ (¬1) رواه الشيخان وأحمد وغيرهم.

{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}. المفردات: {الْمُحْصَنَاتِ}: جمع محصنة. وقد ورد الإحصان في القرآن الكريم بمعانٍ مختلفة منها: التزويج والحرية، والعفة. والمراد هنا: ذوات الأزواج. {مُحْصِنِينَ}. من الإحصان بمعنى العفة. {مُسَافِحِينَ}: زانين. {اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}: تمتعتم بهن. {أُجُورَهُنَّ}: مهورهن التي فرضت لهن. التفسير {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... } الآية. المعنى: وحرمت عليكم - مع من ذكر في الآية السابقة - النساءُ المتزوجات بالفعل. فلا يحل لكم أَن تعقدوا عليهن قبل مفارقة أزواجهن وانقضاء عدتهن: سواءٌ كُنَّ حرائرَ أم إماءٌ، وسواء كُنَّ مسلماتٍ أم كتابيات.

ويستثنى من ذلك الحكم، ما ملكت أيمانكم بسبب السبي الواقع لزوجات الكفار المحاربين. فَهُنَّ حلال لكم مطلقًا - بعد استبرائهن والتأَكد من عدم حملهن من أزواجهن الكافرين - لأَنه لا حرمة لهذا الزواج. وبهذا حل وطؤهن. ويرى بعض الفقهاء: أنه لا يحل وطؤُها إذا سبيت مع زوجها. ثم أكد الله تحريم من حرم من النساءِ في هاتين الآيتين، بقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: أي كَتَبَ الله عليكم كتابًا وفرضه فرضا. وهو تحريم جميع من ذكر من أصناف النساء، لتلتزموا به وتتبعوا تعاليمه. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: والمعنى: إن الله أحل لكم نكاح من عدا المذكورات ومن في حكمهن، مما فهم من الآيتين استنباطًا، ووضحته السنة، لأجل أن تبتغوا بأموالكم المحللات من ترغبون فيهن، حالة كونكم تريدون - بذلك - تحصين أنفسكن من الوقوع في السفاح، الذي لا يراد منه سوى قضاء الشهوة المحرمة، التي لا تليق بالإنسان الذي كرمه الله، وخلقه في أحسن تقويم. {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}: معناه: فمن استمتعتم به ممن أحل الله لكم - عن طريق النكاح الصحيح - فآتوهن مهورهن التي اتفقتم عليها. أو ما يعادل مهر المثل إِذا لم يكن هناك اتفاق بخصوصه. وذلك حق مفروض عليكم لهن. لا بد من أَدائه إِذا تمسك كلٌّ بحقه. {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}: بأن قبل أَحد الطرفين أن يكون كريما مع صاحبه. فزاد الزوج مثلًا على قيمة المهر الواجب، أو تنازلت الزوجة عن بعض حقها أَو كله .. فلا حرج في ذلك: لا حرج عليكم في الزيادة، ولا حرج عليهن في الحط. قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: 4.

ثم ختمت الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}: لإفادة أن ما شرع الله من الأحكام، إنما هو لمصلحة عباده. فهو: العليم بما ينفعهم ويقيم حياتهم على الجادة، الحكيم فيما يدبره لهم ويشرعه من أجلهم. ومن جملته هذه الأحكام السابقة. {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} المفردات: {طَوْلًا}: غنى وسَعَة. والمراد هنا: المال الذي يعين على دفع المهر والإنفاق على الزوجة. {الْمُحْصَنَاتِ}: الحرائر. {مُحْصَنَاتٍ}: عفيفات. {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}: غير زانيات. {أَخْدَانٍ}: جمع خدن، وهو الصاحب في السر.

{فَإِذَا أُحْصِنَّ}: فإذا تزوجن. {بِفَاحِشَةٍ}: الفاحشة، الزنى. {الْعَنَتَ}: المشقة. التفسير 25 - {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ... } الآية. المعنى: ومن لم يجد منكم - أيها الأحرار المؤمنون - سعة من المال، تمكنه من القيام بتكاليف الزواج من إحدى الحرائر المؤمنات - فلينكح أمَةً من الإماء المؤمنات، لخفة تكاليف الزواج منهن، ويتخذْ منها زوجة، دون غضاضة في ذلك الزواج. فقد يكون - في قوة إيمان الأمة - ما يعوضه خيرًا مما فاته من نكاح الحرة. والله - وحده - هو الذي يعلم حقيقة إيمانكم، الذي هو أَساس التفاضل بينكم عنده سبحانه. فأنتم جميعًا - أَحرارٌ وأرقَّاء - من جنس واحد: في الدين، وفي النسب. وأنتم جميعًا - أَمام الله - سواءٌ من هذه الناحية. أكرمكم عند الله أتقاكم. {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}: معناه: فإذا رغب أحدكم أَن يتزوج إحدى الإِماء المسلمات، فليكن نكاحه إياها بإِذن وليها ومالكها. وليؤَدّ لها مهرها، من غير مطل أَو إضرار أَو نقص. بل المهر المتعارف لأمثالهن. واختاروهن عفيفات عن الزنى. {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}: أي غير مجاهرات به، ولا مسرات، باتخاذهن الأخدان والأصحاب. {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}: المعنى: فإذا أُحصِنَت الأمَة بالزواج، وزنت بعد ذلك، فَحَدُّها على النصف من حد المرأة الحرة البكر، التي لم تتزوج: وهو خمسون جلدة.

وعلى هذا، فقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ليس جاريا مجرى الشرط في تنصيف الجلد، كما فهمه البعض. وبنى عليه أن الأمَةَ لا تحد إلا إِذا زنت بعد زواجها، وإِنما هو لدفع توهم أن التزوج بغير حدهن من الجلد إِلى الرجم كالحرائر. والذي يدل على ذلك، ما رواه البخاري ومسلم، عن زيد بن خالد الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الأمَة إذا زنت ولم تُحْصَنْ، فقال: "اجلِدُوهَا، ثُمَّ إن زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُم إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا. ثُم بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ" أي بحبل مضفور من الشعر. وإِنما كان حد الأمة المتزوجة الجلد، وعلى النصف من حد البِكر الحرة؛ لأن جريمة الزنى عن الأمة أخف منها بالنسبة للحرة؛ لأن الأمَة ضعيفة، ولا تستطيع الوصول إِلى تحصين نفسها كما تصل إليه الحرة. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}: معناه: أن الزواج بالأمة المملوكة للمسلم الحر - عند عدم الطول - إنما هو لمن خاف الوقوع فيما يشق عليه. وهذا بخلاف من لا يخشى المشقة من الأحرار المسلمين. ويؤخذ من منطوق هذه الآية الكريمة: أن زواج الحر بالأمة مباح، بشروط ثلاثة: 1 - أن يخاف على نفسه المشقة إذا لم يتزوج. 2 - وألا يجد من المال، ما يمكنه من تحمل تكاليف الزواج بالحرة. 3 - وأن تكون الأمَة مؤمنة. وبهذا الظاهر أَخذ جماعة من العلماءَ، منهم الشافعي، رضي الله عنهم. ومن العلماء من قال بعدم اشتراط شيء من ذلك. ومنهم أبو حنيفة - رضي الله عنه - فهو يرى أَن هذه الشروط الثلاثة، إنما هي لمجرد الإرشاد إلى ما هو الأَفضل والأولى بالمؤمنين.

ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}: أي وصبركم عن زواج المملوكات وعن الوقوع في الزنى - خير لكم، لئلا يصير الولد رقيقا. ونكاحها لأجنبي يقطع الطريق على سيدها أن يشتهيها فتلد منه الحر، وتضع أول خطواتها على طريق الحرية باعتبارها أم ولد. والإِسلام يتشوق إلى تحرير الرقاب، وتقليل الأرقاءِ. وإن لم تصبروا، وضعفت نفوسكم عما هو خير لكم، فلا تثريب عليكم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: لمن يقع في الزلل. {رَحِيمٌ}: واسع الرحمة بالتيسير عليكم، وتخفيف المشقة. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}. المفردات: {سُنَنَ}: جع سُنَّة، وهي الطريقة. ¬

_ (¬1) الحج، من الآية: 78.

التفسير 26 - {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: يريد الله تعالى - بذكر ما سبق في هذه السورة من الأحكام والتشريعات - أَن يبين لكم ما فيه إرشادكم، ويهديكم إلى نهج مَنِ اصطفاهم من عباده من الأنبياء، في أصول ما شرعه الله لهم. فاتبعوهم واقتفوا أثرهم، وانسجوا على منوالهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1). ويريد كذلك فيما أَباحه لكم: أن يرشدكم إلى ما يكفكم عن المعاصي ويحملكم على التوبة منها. والله عليم بما خَلَقَ ومن خَلق ... فيشرع لكم ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم. والله حكيم في كل ما يأْمر به، وما يبيح فعله، وما ينهى عن ارتكابه. 27 - {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}: المعنى: والله سبحانه، يريد أن يتوب عليكم، فيفتح لكم باب التوبة لتُقْبلوا عليها، فيتجاوز عن سيئاتكم. بل إنه يفرح بتوبتكم أشد من فرحكم بقبولها، لأنه أرحم بكم من أنفسكم. فشأنه الرحمة دائما. فاطرقوا بابه، والزموا رحابه. فإنما يريد المبطلون الذين يتبعون شهواتهم، ويصيرون وراءَ ضلالاتهم: أن تعدلوا عن الاستقامة، وتنحرفوا إلى الضلالة انحرافا عظيما. حتى تكونوا مثلهم. وهذا شأن المنحرفين دائما: يريدون أَن يكون الناس على طريقتهم، حتى يسلموا من ذمهم ولومهم. كما في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬2) وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬3). ¬

_ (¬1) الأنعام. من الآية: 90. (¬2) القلم. الآية: 9. (¬3) النساء. من الآية: 89.

28 - {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}: المعنى: يريد الله أن يخفف عنكم - أَيها المؤمنون - ويسهل عليكم أحكام شريعته، لتسهل عليكم طاعته سبحانه. وهنا مقتضى الحكمة، ومناط الرحمة ... فما فعل الله ذلك إِلا لعلمه أن الإنسان خلق ضعيفًا أمام رغباته وشهواته. فرحمةً به، خفف عنه التكاليف ورخص له في كثير من الأحكام، وفتح أمامه باب التوبة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}. التفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}: بعد أَن بين الله - سبحانه - لعباده ما أحل لهم من النساء، وما حرم عليهم، شرع في بيان بعض الحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس، وبيان الوسائل المشروعة في الحصول عليها. فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}: والمعنى: نادَى الله عباده - بوصف الإيمان - حفزا لهم على مراعاة تعاليمه، والاستماع إليه، والانتفاع بما شرعه لهم سبحانه، وعدم اقتراف ما يجردهم من صفة الإيمان المحببة

إلى نفوسهم. ثم نهاهم - جل شأنه - عن محاولة حصول بعضهم على أموال بعض، بأي وسيلة غير مشروعة: كالربا، والسرقة، والغصب، والرشوة، واليمين الكاذبة، وشهادة الزور ... ونحو ذلك مما حرمه الله. وبيَّن وسيلةً من وسائل الكسب الحلال، وهي التجارة القائِمة عن تراضٍ يتعامل الناس فيها معًا، ويقيمونها بينهم، كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلها الفقهاء في كتبهم. ويلحق بالتجارة كل أسباب التملك التي أباحها الشارع. كالهبة، والصدقة، والإرث. وإِنما اختصت التجارة بالذكر من بين هذه الأسباب؛ لأن كسب الإنسان واضح فيها أَكثر من الطرق الأخرى، ولنفى ما قد يتوهم من أنها تشبه الربا. وعبّر سبحانه، عن الحصول على الأموال وأَخذها بالأكل؛ لأنه هو المقصود الأول للإنسان من جمع المال، أيًا كانت وسيلته. والتعبير بلفظ {أَمْوَالَكُمْ} - للدلالة على أن المال المأكول هو مال الآكل. فمال أَخيك هو مالك، باعتبار أن الجماعة المؤْمنة، متضامنة في السراء والضراء، وأَن ما يصيب أحد أعضائِها من الألم - يصيب الآخر لا محالة. فعندما تتفكك الأواصر بين أفراد جماعة ما، بسبب ظلم بعض أفرادها للبعض الآخر - تتولد الكراهية بينهم وتنمو. وفي ذلك فناءٌ للجماعة كلها ... لا فرق بين ظالم ومظلوم. وقد عبرت الآية الكريمة عن هذا المعنى - بوضوح وجلاءٍ - في قوله عز وجل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}: أي لا تكونوا سببا في هلاك جماعتكم، فهو هلاك لكم. ولا ترتكبوا من الآثام ما يؤَدي إِلى ذلك. بل ابتغوا - لأنفسكم وجماعتكم - الحياة الكريمة التي يسودها الوفاق والحب: باتباع معالم الهدى، والوقوف عندما أحل الله لكم. ففيه وحده صلاحكم في دنياكم وآخرتكم، لأنه سبحانه. رحيم بكم في نهيه إياكم عن ذلك.

30 - {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}: المعنى: بعد هذا البيان الحكيم المنبعث من الرحمة الإِلهية التي وسعت كل شيء، توعّد الله كل من تسوّل له نفسه: أن يرتكب ما يفسد رباط الجماعة المؤْمنة، متجاوزا بذلك حَدّ الشرع: ظالما لنفسه ولغيره ... توعده - سبحانه وتعالى - بعذاب أليم في نار تلظّى: يصلى حرها، ويقاسي سعيرها. وذلك أمر هيِّنٌ على الله. ثم رغب الله في اجتناب ما نهاهم عنه، وحبَّبه إليهم ببيان ما يترتب على اجتناب الكبائر من تكفير صغائر الذنوب، والفوز بالجنة ونعيمها. فقال جَلَّ شأْنه: 31 - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}: المعنى: إِن تبتعدوا - أيها المسلمون - عن الذنوب الكبائر التي نهى الله عنها، وتوعدكم على فعلها، فأَطعتم الله ورسوله - كان ثمرة ذلك، أن نكفر عنكم سيئاتكم، ونستر عليكم معاصيَكم التي لم تبلغ حدَّ الكبيرة - بسبب هذه الطاعة، وندخِلَكُم دار النعيم حيث تقيمون فيها مكرمين، وتحْيَون فيها حياة لا يشوبها كدر ولا عناءٌ. وهذا مظهر آخر من مظاهر الرحمة الإلهية الشاملة، يتمثل في هذا الوعد الكريم من الله لعباده المتقين .. وفي إِسباغ فضله عليهم بالثواب الجزيل، الذي يزيد أضعافا على ما يستحقون. هذا، وقد قيل في تعريف الكبيرة كلام كثير. أظهره أنها: كل ما رتَّب الشارع عليه حَدًّا، أو صرح بالوعيد فيه نصًّا. وقد تكفلت السنة النبوية بذكر أمثلة واضحة لكبائر الذنوب. فقد روى الشيخان عن أَنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "ذكر لنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، الكبائرَ فقال: الشِّرْكُ بالله. وعُقوقُ الوالدَيْن، وقتلُ النفسِ. وقال: ألا أنبِّئكم بأكبرِ الكبائر: قَوْل الزور. أو قال: شهادة الزور".

وروى الشيخان أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اجتنبوا السبعَ الموبِقات. قيل: يا رسول اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّرْكُ باللهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النفسِ التي حرم الله إلا بالحق، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والزنى، والتَّوَلِّي يومَ الزحفِ، وقذْفُ المحْصناتِ الغافِلاتِ المؤْمناتِ". وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الكبائرُ: الإشراك بالله، وعقوق الوالِدَيْن، وقَتْل النفس، واليمينُ الغَمُوسُ". وروى الشيخان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ مِنْ أَكبر الكبائر: شَتْمَ الرجل والِدَيْه، قالوا: وهل يشتمُ الرجل والِديْه؟ قال: نعم. يسبُّ الرجلُ أبا الرجلِ أَو أمَّه، فيسب أَباهُ وأمَّهُ". {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}. المفردات: {تَتَمَنَّوْا}: من التمني. وهو إرادة ما يُعلم أو يُظَن ألا يكون. أَو هو التعلق بحصول أمْر في المستقبل.

التفسير 32 - {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}: لما نهى الله المؤمنين - في آية سابقة - عن أكل أموال الناس بالباطل، وبيَّن أثر ذلك في هلاك الجماعة، نهاهم - في هذه الآية - عن التطلع إلى ما فضل الله به بعض الناس على بعض في الرزق. سبب النزول: روى في سبب نزول هذه الآية - وما بعدها - روايات منها: أن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجالِ، فيكون لنا من الأجر مثلهم". ومنها: أنه لما جعل الله تعالى، للذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، قالت النساء: نحن أحوج أن يكون لنا سهمان، وللرجال سهم؛ لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ. وأقدر على طلب المعاش: فنزلت الآية. المعنى: ولا يتمنَّ أحدكم أن يكونَ له ما أَنعم الله به على أخيه دونه، مما يتعلق بأمور الدنيا ومتاعها، من مال أَو جاه. فللرجال نصيب مما اكتسبوه في حياتهم. وللنساء نصيب مما اكتسبن. وهذا التفاوت المادي، الذي جعله الله بين الرجل والمرأة في الميراث وبعض التكاليف - وإن أشعر بالتفاضل في الدنيا - فهو لحكمة اقتضاها اختلاف طبيعة كل من الرجل والمرأة، ومسئولية كل منهما. وهو ليس مقياسا للتفاضل في الآخرة. بل التفاوت فيها مبني على التفاضل في الأعمال الصالحة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬1) راجع تفسير الآيتين: (11، 12) من هذه السورة. ¬

_ (¬1) الحجرات. من الآية: 13.

{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}: إذا رغبتم المزيد من نعمه، فإن خزائن الله لا تنفد. وذلك خير من الطمع فيما أنعم الله به على فريق من عباده {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1). {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}: فيعطى كل واحد من عباده ما يناسب استعداده، وتصلح به - في نظره - أمور حياته. وبهذا البيان الحكيم المعجز، عالج القرآن الكريم، ما يعتمل في نفوس كثير من الناس، حين يرون التفاوت الواضح: فيما أنعم الله به على عباده، وفضل بعضهم على بعض، في كثير من وجوه الرزق. وقد يصعب على الناس فهم الحكمة في ذلك. ولكن حياتهم في هذه الدنيا لن تستقيم إلا بهذا التفاوت فيما بينهم. وصدق الله العظيم حيث يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)}. المفردات: {مَوَالِيَ}: جمع مَوْلَى؛ وهو يطلق على من يتولى شئون غيره. كما يطلق على من يتولاه غيره. والمراد هنا: ورثة. ¬

_ (¬1) النساء. من الآية: 54. (¬2) الزخرف. من الآية: 32.

{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}: أي من حالفتموهم وعاهدتموهم. والأيَمان: جمع يمين. ويراد منه القسم، أو اليد اليمنى، لأَن المتحالفين يضع كل منهما يمينه في يمين الآخر عند التعاقد. التفسير 33 - {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}: هذا شروع في بيان ما من شأنه أن يقوي بنيان الأسرة، ويحفظ عليها مالها. والمعنى: ولكل ميراث تركه الوالدان والأقْربون، جعلنا ورثةً متفاوتين في الأنصباء، تبعا لتفاوتهم في درجات قرابتهم من الميت: كلٌّ يرث ما قدَّره الله له من حق. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: أي: والذين عاقدتموهم، وتحالفتم معهم على النصرة والنصيحة والعطاء: بأن توصوا لهم بما لا يتجاوز الثلث مما تتركونه من أموال - فعليكم الوفاء بما عاهدتموهم عليه. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬1). {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}: إِن الله عليم بكل شيء من الأشياء - التي منها المنع والعطاءُ - شهيدٌ عليها، مطلع على أفعالكم. فيعلم منكم الوفاءَ أو عدمه. ثم أخذ يبين نوع الصلة التي يجب أن تكون بيت الزوجين، باعتبارهما حجر الأساس في استقرار الأسرة، وشيوع السعادة بين أَفرادها فقال: ¬

_ (¬1) النحل. الآية: 91.

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}. المفردات: {قَوَّامُونَ}: جمع قَوَّام. وهو القائم بالتدبير والحفظ. {قَانِتَاتٌ}: مطيعات لله بطاعتهن لأَزواجهن. {تَخَافُونَ}: الخوف؛ حالة تحصل في القلب عن حدوث أمر مكروه شرعا. أو عند الظن أَو العلم بحدوثه. وهو يختلف باختلاف الحالات. {نُشُوزَهُنَّ}: عصيانهن، وترفعهن عن مطاوعتكم. من النشز. وهو المرتفع من الأرض. {وَاهْجُرُوهُنَّ}: الهجر، الترك عن كراهية. {الْمَضَاجِعِ}: أَماكن الاضطجاع. وهي المراقد. {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}: تبغوا؛ إِما من البغي بمعنى الطلب، وإِما من البغي بمعنى الظلم. {خِفْتُمْ}: الخوف لغة؛ توقع مكروه عن أَمارة مظنونة أو معلومة. كما قال الراغب. والمراد به هنا؛ العلم. {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}: أي اختلافًا بين الزوجين.

التفسير 34 - {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ... } الآية. فضل الله - سبحانه وتعالى - الرجال على النساء، بأمور منها: الإِمامة، والولاية، الميراث، والشهادة، والجهاد، والجمعة، والجماعات. {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: أي: ولما أنفقوا على النساء في النفقة والمهر، جعل الله لهم قوامة على زوجاتهم. وهي قوامة رابطه ومحبة: تقوم على التعاون بينهما. والمعاشرة بالمعروف، بحيث يقوم كل منهما بواجبه نحو صاحبه. وهو ما يبدو واضحًا في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). ولا شك في أَن حقوق كلٍّ من الزوجين وواجباته، تختلف عن حقوق الآخر وواجباته تبعًا لاختلاف التكوين الفطري لكل منهما. ولا شك أَن مصالح الأسرة: ودوام استقرارها. يتطلب قيام كل منهما بوظيفته التي تلائم طبيعته. مع التعاون التام، والاحترام، المتبادل. والرجل أقدر - بطبيعته - على السعي والكدح في سبيل تحصيل رزقه، ورزق أسرته، ليهيئ لها حياة سعيدة هانئة. ولهذا ناط به الشارع رعاية الأسرة، وحَمَّلَهُ مسئوليتها. وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (¬2). {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}: هذا بيان للناس من الله تعالى، بأَن النساء أَمام هذه القوامة نوعان: نوع يفهمها على وجهها الصحيح، ويقوم برسالته كما ينبغي. ونوع يتمرد عليها، ويحاول التهرب من التزاماتها. ¬

_ (¬1)، (¬2) البقرة. من الآية: 228.

وقد عبر القرآن عن النوع الأول بقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}: فوصفهن بالصالحات، لأنهن يمتثلن أَمر الله، فيطعن أَزواجهن، ويقمن بواجباتهن، ويحفظن على الأزواج أموالهم وأعراضهم في جميع الحالات، ويقوم بهن المجتمع الإسلامي الأمثل، تحقيقًا لشرع المدبر الأعلى. أما النوع الثاني، فالحديث عنه في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}: فقد بين الله الطريقة المثلى في إرجاعهن إلى الصواب، حتى تؤَدي الأسرة رسالتها المنوطة بها، وكان الله رحيمًا بها. على الرغم من تمردها. وجعل - سبحانه وتعالى - علاج الشقاق بين الزوجين على مرحلتين: الأولى: يتولاها الزوج. فيقوم أوَّلًا بوعظها. فإن لم يفد، انتقل إِلى هجرها في المضاجع عَلَّها تثوب إلى رشدها، فإن لم يجْدِ ذلك، انتقل إلى ضربًا غير مبرح مع اتقاء الوجه، والمواضع التي يظهر فيها أثر الضرب غير المبرح: علاجًا لمرض النشوز، والتماسا للطاعة وحياة الاستقرار والهدوء. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}: أي: إِن شفين مما عرض بهن ورجعن لكم مطيعات - فلا تظلموهن بأي طريق من طرق الظلم. وعَاشروهن بالمعروف. وعلى الذين يهاجمون القرآن وتشريعه في جعل الضرب وسيلة تأديب الناشز، أن يلاحظوا: أولًا: أن القرآن جعل هذا التأديب المادي، آخر وسيلة يلجأ إليها الزوج، بعد أَن يفشل الوعظ، ويفشل التأديب العاطفي بالهجر في المضجع ولم يبق إلا آخر الدواء وهو الضرب غير المبرح. ثانيا: أن الضرب المباح للزوج، أَوضحه الرسول الكريم بقوله: "غيرَ مُبَرِّحٍ" (¬1)، فليس المقصود منه الإِيذاء، بل هو لإِيقاظ صوابها وضميرها، بتخويفها هذا، حتى لا يهدم البيت من أساسه. ¬

_ (¬1) من خطبة للرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. رواها ابن ماجه والترمذي.

ثالثا: أن التأديب المادي لأرباب الشذوذ، معترف به، ومطبق عمليا، في البلاد التي بلغت في الحضارة شأوًا بعيدا. وعليهم بعد هذا: أن يوازنوا بين مرارة الوسيلة التي لا يمكن إنكارها، وبين ما يترتب على إلغائِها من هدم الأسرة وتخريب البيت، وتشريد الأطفال. فإذا كان الضرب ينتج تقويم المعوج، ويرجع الزوجة الناشز عن غَيِّها، ويردها إلى صوابها - والضرب هنا أنْفَى للضرب - فستحمده هي عندما ترى نفسها، وقد استعادت مكانتها كزوجة وربة بيت. وما من شك في أن الزوجة العاقلة الصالحة، لن تَدَعَ الأمر يصل بها إلى هذا الحدِّ من العقاب. وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} بعد قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} تحذير من الله لعباده من ظلمهم لزوجاتهم. فهو سبحانه، قوي قادر على أن ينتصف لهن منكم إِن بغيتم عليهن، ولم تتقوا الله فيهن أيها الأزواج. 35 - {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}: هذه هي المرحلة الثانية في علاج الشقاق بين الزوجين. فقد يشتد الخلاف بينهما. وربما الْتَبَسَ أمره فلا يعرف المحق من المبطل، ولا المسالم من المشاكس، لادِّعاء كل منهما عدوان الآخر عليه - لمَّا كان الأمر كذلك - أَمر الله سبحانه ولاة الأمر - في هذه الحالة - أن يقيموا حَكَما من أهل الزوج، وحَكَما من أهل الزوجة، للتعرف على أسباب الشقاق والخلاف والقضاء عليها، والعمل على إعادة الحياة الزوجية بين الزوجين المتنازعين: نقيّة من كل ما يكدر صفوها. فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ... } الآية. والمعنى: وإِن علمتم أن بين الزوجين شقاقا قد استفحل خطره، فوجِّهوا إليهما حَكَما من أهل الزوج وحَكَمًا من أهل الزوجة، لينظرا فما بينهم من نزاع وشقاق، فإذا خَلَصَت

نية الحَكَمين، وقصدا - بصدق - إلى التوفيق بين الزوجين، وفقهما الله سبحانه، إِلى إزالة أسباب الخلاف والشقاق، وأعانهما على إِعادة الحياة الزوجية، نقية من مكدراتها صافية من منغصاتها، لأنه - مع إِخلاص النية وصدق الطوية - يكون توفيق الله. والله سبحانه عليم خبير بكل شيء. ومن ذلك الذي يعلمه ولا يخفى عليه - نيةُ الحَكَمين، وما تنطوى عليه سرائرهما من رغبة في التوفيق أو الإفساد والتفريق. وفي ذلك ترغيب من الله تعالى، لمن حسنت نيته، وصفت سريرته، وترهيب لمن ساءت نيته، وانطوت على غشِّ سريرته. وظاهر الأمر ببعث الحَكَمين: الوجوب. وبه قال الشافعي .. لأنه من باب رفع المظالم. وهو من الفروض العامة التي فرضها الله على ولي الأمر. وظاهر وصف الحَكَمين بأن أحدهما من أهل الزوج، والثاني من أهل الزوجة: أَن ذلك يشبه أن يكون شرطا، ولكنه شرط على وجه الاستحباب فقط. فلو بعث وليُّ الأمر - أَو القاضي - حَكَمين أجنبيين عن الزوج والزوجة فذلك جائز .. ولكن كون الحَكَمين من الأقرباء أولى وأوفق. ذلك لأن نية القريب ورغبته في فض النزاع، وإحلال الوفاق محله، أصدقُ وأقوى من نية البعيد. ثم إِن هناك من دواعي الشقاق ما لا يليق أن يطلع عليه الغرباء، ولا تطاوع نفس الزوج أو الزوجة أن يبوح به، إلا لقريب يركن إليه. فمن هنا، كان اختيار الحَكَمين من أهل الزوج والزوجة، أسلم وأوفق من اختيارهما من بين الغرباء.

وقد اختلف العلماء فيما يليه الحكمان (¬1)؛ فذهب مالك: (وهو مذهب علي وابن عباس، ورراية عن الشافعي) إِلى أَن الحكمين حاكمان موليان من قبل الإِمام. فلهما أن يلزما الزوجين - بدون إذنهما - بما يريان فيه المصلحة؛ مثل أن يطلق حَكَمُ الزوج أو يفتدى حَكَمُ الزوجة. عصمتها بشىءٍ من المال. وذهب أبو حنيفة - وأحد قولي الشافعي - إلى أن الحكمين وكيلان عَن الزوجبن. فليس لهما أن يبرما أمرا إلا برضاهما. فلا يطلِّق حكمُ الزوج إلا بإذنه، ولا يفتدي حَكَمُ الزوجة إلا بِإذنها. وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين. والمسألة اجتهادية. ولكل مذهب أدلته. وهي مبسوطة في كتب الفقه. والمتأمل في هاتين الآيتين، يرى: أن القرآن لم يذكر الطلاق كوسيلة لفض النزاع. وذلك دليل على حرص الإِسلام على بقاءِ الحياة الزوجية: ومحاولة إصلاح ما يقع من النزاع بين الزوجين: بشتى الوسائل، حرصًا على الأسرة. {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}. المفردات: {وَبِذِي الْقُرْبَى}: ذي القربى، صاحب القرابة من قِبَلِ الأَب أَو الأم. {وَالْيَتَامَى}: جمع يتيم، وهو الصغير الذي مات أَبوه، ويستمر يتمه إلى البلوغ. {وَالْمَسَاكِينِ}: جمع مسكين، وهو من يقل كسبه عن الوفاءِ بحاجته. فيشمل الفقير. ¬

_ (¬1) أي في دائرة اختصاصهما.

{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}: وهو الذي قرب جواره، أو من له مع الجوار قرب أَو اتصال بنسب. {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: أي الذي بعد جواره، أو الجار الذي لا قرابة له. {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: وهو الرفيق في أَمر حسن، كتعليم وصناعة وسفر .. إلخ. وقيل: الزوجة. {وَابْنِ السَّبِيلِ}: وهو الغريب الذي سافر فانقطع عن بلده وماله. {مُخْتَالًا فَخُورًا} المختال: هو المتكبر المعجب نفسه. المتعالي على غيره. والفخور: الذي يزعم لنفسه الفضل على من عداه. التفسير 36 - {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ... } الآية. بعد أن بيّن الله - في الآيتين السابقتين - الوسائل التي يعالج بها ما قد يتطرق إِلى العلاقات الزوجية من وَهنٍ، بيّن في هذه الآية. ما يقوي صلة الناس بربهم، وما يقوي الصلات بين بعضهم البعض. فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: يأْمر الله الناس جميعًا بعبادتة تعالى وحده. أَي بالخضوع والتذلل له، مع الإخلاص واليقين. وأَلا يتخذوا معه في ذلك شريكًا من خلقه. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: أمر بالإحسان إلى الوالدين. أي: أحسنوا بهما إحسانًا، بأن تكونوا بارين بهما، كارهين ناكرين لعقوقهما، شاكرين لهما ما لقيا في سبيل تربيتكم. وقَرَن حقهما بحقه سبحانه؛ إِعظاما لحقهما، وإعلاءً لقدرهما.

{وَبِذِي الْقُرْبَى}: أي: وأحسنوا بصاحب القرابة، من قِبَلِ الأب أَو الأم، كالإخوة والأخوات، والأَعمام والعمات، والأَخوال والخالات، وما تناسل من هؤلاء جميعًا. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}: أي وأَحسنوا أَيضا إلى الضعفاءِ من الناس، الذين هم في حاجة إلى العون، سواء أَكان مبعث هذه الحاجة فَقْدَ العائل قبل البلوغ وهم اليتامى أم القصور في الكسب عما يفي بضرورات الحياة، وهم الفقراء والمساكين. {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}: أي: وأَحسنوا إلى الجار الذي قرب مكانا أَو دينا أو نسبا. وإلى الجار البعيد مكانا أو دينا أَو نسبا. ومدى بُعد المكان، إلى أربعين جارا من كل جانب. ومما ورد في أَنواع الجيران. ما رواه البزار بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الجِيرانُ ثَلاثةٌ: جَارٌ لَهُ حَق وَاحِدٌ، وَهُوَ أدْنى الجِيرانِ حَقًّا. وجارٌ لَهُ حَقَّانِ. وَجارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ. وهُو أفْضَلُ الْجِيرَانِ حقًّا. فأَما الجارُ الذي له حَقُّ واحدٌ، فجارٌ مُشرِكٌ لا رَحِمَ له: له حَقُّ الجِوَارِ. وأما الجارُ الذي له حَقانِ، فجار مسلمٌ: له حقُّ الإسلام وحقُّ الجِوارِ. وأما الذي له ثلاثةُ حُقُوقٍ، فجارٌ مُسلم ذُو رَحِمٍ: لَهُ حقُّ الجِوارِ، وحق الإسلامِ، وحَقُّ الرَّحِمَ". وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجار، فقاق: "ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجَارِ حتى ظَنَنْتُ أَنه سَيُوَرِّثُهُ"، رواه أَحمد والشيخان. {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: أي: وأَحسنوا إلى الصاحب بالجنب. وهو الرفيق مطلقا. كالجليس في الحضر، والرَّفيق في السفر، والزوجة. وبذلك يتم التعاون وتصفو النفوس.

{وَابْنِ السَّبِيلِ}: أي وأحسنوا إلى ابن السبيل. وهو الغريب البعيد عن بلده وماله. وذلك بإعطائه ما يخفف عنه متاعب الطريق: ويعينه عل بلوغ غايته، والرجوع إلى بلده. {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: من الأرِقَّاء، وذلك بالإحسان إليهم، ومعاونتهم على بلوغ حريتهم. فالإِسلام يحض على تحرير الرقيق في كثير من أحكامه .. ويلحق بذلك الخدم. وقد امتد الأمر بالإحسان حتى شمل الحيوان. {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}: هذا تعليل للأمر بالإحسان إلى من ذُكورا. كأنه قيل: أحسنوا إِلى هؤلاء ولا تتغالَوْا عليهم؛ لأن الله لا يحب المختال المتكبر على غيره، ولا الفخورَ المتباهيَ بحسب قدمه من معونة وإِحسان. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)}. المفردات: {رِئَاءَ النَّاسِ}: أي مرائين لهم التماسًا للجاه، وطلبا لثناء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله. {قَرِينًا}: صاحبا وخليلا ورفيقا. التفسير 38،37 - {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}:

هاتان الآيتان الكريمتان، بيان لحال من لا يحبهم الله من المختالين الفخورين. وهم - على ما صرحت به الآيتان - صنفان: الأول: صنف أَحب المال لذاته، فبخلَ به وأَمر غيره بالبخل، فلم يعط منه فقيرًا ولم يصل به رحمًا ولم يفرِّج به عن مكروب. وبالغ فأَمر الناس بذلك أَيضا. وفي هذا يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ... } الآية. أي الذين يبخلون بأَموالهم فلا ينفقونها في وجوه البر والإِحسان، ولا يكتفون بهذا، بل يأمرون غيرهم بالبخل، ويحرضونهم عليه. {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}: أي: يخفون ما أَنعم الله به عليهم، حتى لا يطمع الناس في نوالهم وإِحسانهم. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}: أي: وأَعددنا لهم عذابًا مخزيا مذِلا لكبريائهم. وسماهم الله كفارًا، وإِشعارًا بأَن من هذا شأْنه، فهو كافر بنعم الله. وله - جزاء ذلك - عذاب يهينه ويخزيه. روى الإِمام أَحمد بسنده أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أَنعَمَ الله عَلَى عَبْدِهِ نِعْمةً أَحَبَّ أَن يُظْهِرَ أَثَرَهَا عَلَيهِ". أما الصنف الثاني: فهم الذين ينفقون أَموالهم للفخار وطلب الثناءِ من الناس، لا ابتغاءَ وجه الله. وفيهم يقول الله تعالى: 38 - {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ ... } الآية. أي ولا يحب الله - كذلك - الذين ينفقون أَموالهم للرياء وللسمعة، لا شكرًا لله على نِعَمه، ولا اعترافا بما أَوجب الله عليهم من حق في أموالهم. {وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}: أي لاَ يؤْمنون بالله، ولا يصدقون بوُقوع اليوم الآخر، وما فيه من ثواب وعقاب. لأَنهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر، لتحرَّوْا مرضاة الله، ولما راءَوْا أَحدًا أَبدًا.

{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}: وفي هذه الجملة، أن مقارنة الشيطان ومخالطته هي السبب في البخل وفي الأمر به، وكتمان النعمة، ومرءَاة الناس بالإِنفاق، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر - كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (¬1). وقد ذم الله مقارنتهم للشيطان، واتِّباعهم طريقه بقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}: أي: ومن يكن الشيطان له صاحبا، فبئس هذا الصاحب صاحبا: لأنه يضله ويقوده إلى الهلاك. {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}. التفسير 39 - {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ ... } الآية. في هذه الآية، ذم وتوبيخ للصنفين السابقين، على غفلتهم عما يفيدهم، وانصرافهم عما فيه مصلحتهم. وإِقبالهم على ما فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة. والاستفهام: للتعجب والإِنكار. ¬

_ (¬1) البقرة من الآية: 268.

والمعنى: أيُّ ضرر كان يلحقهم لو آمنوا - حقيقة - بالله، وعملوا ليوم الجزاءِ، فأنفَقوا مما رزقهم الله: ابتغاءَ مرضاته، ونزولا على حكمه وامتثالا لأَمره؟! ما كان عليهم في ذلك أي ضرر .. بل إِن الضرر - كل الضرر - فيما هم عليه. {وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا}: فيجازيهم بما عملوا. فعلى المؤْمن أن يعتقد أَن الله مطلع على كل الناس، وسيحاسبهم على ما قدموا من أعمال. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)}. المفردات: {لَا يَظْلِمُ} الظلم: النقص، ووضع الشيءِ في غير موضعه. {مِثْقَالَ} المثقال: المقدار. مأخوذ من الثقل. كما أن المقدار مأْخوذ من القدر. {ذَرَّةٍ} الذرة: هي النملة الصغيرة. أو الهباء الصغير، الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة. والمراد: أدنى ما يكون من الأعمال. {يُضَاعِفْهَا}: أي يضاعف ثوابها، ويزيد أَجرها. {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ}: أي أن يوارَوْا فيها، ويدخلوا في باطنها، أو أن يكونوا من جنسها، حتى يَهْربُوا من العقاب.

التفسير. 40 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}: لما توعد الله العصاة بأنه سيجازيهم على أعمالهم، حسبما تضمنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} - بين هنا، أن هذا الجزاءَ يقوم على العدل، ولا يكون فيه أدنى ظلم. والمعنى: أن الله لا يظلم الناس شيئًا وإن قل؛ لأنه تعالى منزه عن النقص. والظلم نقض لا يليق به سبحانه. فهو لا يبخس الناس شيئًا من الأَجر، ولا يحملهم ما لم يرتكبوا من الوزر، ولو كان أقل القليل. واقتضت رحمته ألا يجزىَ على السيئة إلا بمثلها، وأن يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها، إِلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، حسبما يعلم من حال العبد. والله يختص برحمته من يشاء. {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}: أي: أنه يعطي عبده ثوابا عظيمًا، لا يعرف مقداره إِلا هو سبحانه. 41 - {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}: المعنى: في هذه الآية تهويل تعجبي، وتحذير من أَهوال يوم القيامة. أي: كيف يكون حال هؤُلاءِ، إِذا جاءَ ذلك اليوم، وجيء بالنبيين ليشهدوا على أممهم بما فعلوا في الدنيا، وجئنا بك - يا محمَّد - على هؤُلاء، أو على أمتك شهيدًا، وعلى هؤُلاءِ الرسل: بأن تزكى شهادتهم، وتقرر أنهم قاموا بتبليغ أممهم، حسبما أخبرك الله فيما أوحاه إليك!! لا شك أنهم يكونون في حال يُرثى لها. عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقْرَأْ عَلَيَّ. قُلْتُ: أَقْرَأ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أنزِلَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غيري، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءَ حَتى بَلَغْتُ قَوْلَه تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: أمْسِكْ ... فَإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (¬1) ". ¬

_ (¬1) رواه الشيخان والترمذي.

42 - {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ... }: بيان لسوء حالهم في ذلك اليوم. بأنهم يتمنون أن تواريهم الأرض وتبتلعهم، لينجوا من العذاب. أو أن يكونوا من جنسها. كما قال تعالى في آية أخرى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (¬1). {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا}: أي: يودون ذلك. والحال أنهم لا يستطيعون أن يخفوا على الله شيئًا مما فعلوا. حيث يشهد عليهم كل شيء حتى الجوارح: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). ويمكن أن يكون قوله تعالى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا}: استئنافًا مبينا لبعض أهوال ذلك اليوم ورجح هذا بعض العلماء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}. المفردات: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}: مسافرين، أو عابرين المسجد من جانب إلى جانب. {الْغَائِطِ}: المكان المنخفض من الأرض. وكانوا يقصدونه لقضاء الحاجة. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}: اتصلتم بهن جنسيًا، أو مجرد لمس. {صَعِيدًا طَيِّبًا}: الصعيد: وجه الأرض أو التراب. والطيب: الطاهر. ¬

_ (¬1) النبأ، من الآية: 40. (¬2) النور، الآية: 24.

التفسير 43 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... } الآية. في الآيات السابقة، أمرنا الله بعبادته وحده، وبين جزاء الطائعين. وعقاب العاصين. وفي هذه الآية، نهيٌ صريح عن الدخول في الصلاة في حال السكر، حتى يفيق السكران من سكره، ويدرك ما يقول. ومقتضى هذا: أن الإنسان لا يقبل على الصلاة. إلا وهو في حالة صحو كامل. بحيث يعرف ما يقول، لأنه يناجي الخالق سبحانه وتعالى. وفي أسلوب الكتاب الكريم، حيث نهى عن قربان الصلاة في حالة السكر، ما يؤكد على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ما جعل بعض العلماء يمنع كل من كان في حالة لا تمكنه من معرفة ما يقول - كغلبة النوم - من قربان الصلاة كذلك. واستأنس هؤلاء بما جاء في الصحيحين، عن السيدة عائشة - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لا يدري لعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه"!! وكما أوجب القرآن على المسلم ألا يقدم على الصلاة إلا وهو في حالة وعي تام، فقد أوجب عليه كذلك، ألا يدخل المسجد وهو جنب، إلا إذا كان مجتازًاً للمسجد - مارًا به من جانب إلى جانب - فإنه يجوز له ذلك، وهو معنى قوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}. والطهارة للصلاة، حددها الله في كتابه؛ بالوضوء في حالة الحدث الأصغر، وبالاغتسال في حالة الحدث الأكبر، وذلك أخذا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ

إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... } (¬1) الآية. وغني عن البيان، أَلَّا وضوءَ ولا غسل إلا بالماء. ولما كان كثير من الناس، عرضة لبعض الأمراض التي تمنع من استعمال الماءِ. ومنهم من تضطره ظروف الحياة إِلى التنقل من بلد إلى بلد. وفي الأَسفار يصعب وجود ما يكفي من الماء عادة. كما أَن هناك حالاتٍ لا يجد المقيم سبيلا إلى الماءِ: لفقده أَو لعسر الوصول إِليه لسبب أَو لآخر - فلهذا كله - جاءَ التشريع الحكيم بإيجاب التيمم بالصعيد الطاهر، فيمسح الإِنسان به وجهه ويديه، بالطريقة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك تخفيفٌ من الله على عباده، ورفعٌ للحرج عنهم، إذ الصعيد الطاهر موجود في أي مكان يوجد الإِنسان فيه. يقول الله - تبارك وتعالى - في هذا كله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}: قال بعض العلماء: {عَفُوًّا} بالترخيص والتيسير .. {غَفُورًا} عن الخطإِ والتقصير. وصدق الله العظيم، حيث يقول في سورة المائدة - تعقيبا على إيجاب التيمم بدلا من الوضوء والغسل - في الحالات المذكورة - {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والنهي عن الصلاة في حال السكر، كان قبل تحريم الخمر نهائيا في جميع الأوقات (¬2). وسيأتي تتمة تفصيل ذلك في تفسير الآية (90) من المائدة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) المائدة: من الآية 6. (¬2) راجع الآية: 219 من سورة البقرة.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}. المفردات: {رَاعِنَا}: كلمة ذات وجهين، تحتمل المدح والذم. وكان اليهود يقصدون بها الذم والتهكم. {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ}: أي صرفا للكلام عن ظاهره ونهجه. التفسير 44 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}: بعد أَن أَرشد الله عباده المؤْمنين - في الآيات السابقة - إِلى كثير من الأحكام والتكَاليف، جاءَت هذه الآيات للتعجيب من حال أَهل الكتاب - الذين غيروا أحكام الله؛ تحذيرا لنا من الوقوع فيما يريدونه بِنا، من الضلال عن سواء السبيل.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}: أي ألمْ تنظر - يا محمد - إلى هؤُلاءَ الذين أوتوا حظا من علم الكتاب، لأنهم يستحقون أَن تشاهدهم وتتعجب من شناعة أَعمالهم، حيث يستبدلون الضلالة بالهدى؛ مع أنهم أوتوا حظا من الكتاب، كان كفيلا بهدايتهم إلى الصواب ولم يكتفوا بذلك بل أَرادوا أن تضلوا أَنتم السبيل كما ضلوا؟!. قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬1) وحقًّا أن أَمرهم لعجيب؟! 45 - {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}: معنى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}: أي هو أَعلم منكم بهم ... فاحذروهم، والتزموا التمسك بأَحكام الله وطاعته، واستعينوا به. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا}: أَي وحسبكم الله وليًا، تلجأون إِليه في جميع أموركم. {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} في كل المواطن، فاعتمدوا عليه، واكتفوا بولايته ونصرته. ولا تتولوا غيره، ولا تبالُوا بأعدائكم. 46 - {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... } الآية. هذا بيان لنوع من أَنواع ضلال أهل الكتاب: الذين اشتروا الضلالة. فإِنهم يتأَولون الكلام على غير تأْويله، ويفسرونه بغير مراد الله تعالى كذبًا منهم وافتراءً وتضليلًا للمسلمين. وإِنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: أي سمعنا قولك: ولا نطيعك فيه، عنادا وتحقيقًا للمخالفة. وذلك أبلغ في عنادهم وكفرهم. ويقولون أيضًا مخاطبين له - عليه السلام -: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}. ¬

_ (¬1) النساء من الآية: 89.

وهذا كلام يحتمل وجهين: الشر والخير ... وذلك بحمله على معنى: اسمع لا سمعت ... ويكون دعاء عليه بالصمم أَو الموت. أَو هو على معنى: اسم لا سمعت مكروها. وهذا - وإن كان ظاهره الدعاءَ له - إلا أَنه في حقيقة باطنهم استهزاءٌ منهم واستهتار برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كانوا يقولون أَيضًا: {رَاعِنَا} وهي كلمة ذات وجهين: تحتمل الخير على معنى: انظرنا وتمهل علينا نكلمك. وتحتمل الشر على معنى: أَنها رمي له بالرعونة والحمق. فكانوا يظهرون التوقير والاحترام، ويضمرون الإِهانة والاستهزاءَ. {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}: أي صرفًا للكلام عن ظاهره، إِلى إرادة الشتم والسب، وقدحًا في الدين. بالاستهزاء والسخرية. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ}: هذا بيان لما كان ينبغي عليهم أن يقولوه. أي ولو أنهم - عندما سمعوا شيئًا من أَوامر الله ونواهيه - قالوا مخلصين: سمعنا وأطعنا، بدل قولهم: سمعنا وعصينا. وقالوا أيضًا: اسمع وانظرنا، بدلا من قولهم: اسمع غير مُسْمَعٍ وراعنا - لكان خيرًا لهم مما قالوه. وأعدلَ وأصْوَبَ. {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}: أي ولكنهم لم يقولوا ذلك. واستمروا على الكفر والضلال. فأبعدهم الله - بسبب كفرهم - عن الهدى. فهم لا يصدقون إلا تصديقًا قليلًا. لا ينتفع به إلا عدد قليل منهم. مثل من آمن من أحبارهم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}. المفردات: {نَطْمِسَ وُجُوهًا}: نزيل معالمها. وأصل الطمس: إِزالة الأعلام المنصوبة لهداية المارة وقد يطلق على إِزالة الصورة، ومطلق التغيير والقلب. {فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}: أي نجعلها على هيئة الأَقفاء، أو نحولها إلى الوراء حقيقة في المحسوسات، ومجازا في المعنويات. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}: المراد بأَصحاب السبتِ، اليهود المتمردون على أوامر الله بالصيد يوم السبت، بعد أن نهاهم الله عن الصيد فيه. واللعن: الطرد من رحمة الله. التفسير 47 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ... } الآية. بعد أن ندد الله بقبائح أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، أَتبع ذلك دعوتهم إلى الإقلاع عن غَوايتهم، وتهديدهم بأَشد العذاب إن لم يقلعوا عما هم عليه من الغَيِّ والضلال. فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ... } الآية.

ناداهم - سبحانه وتعالى بوصف كونهم أهل كتاب - ليحملهم على الإِقلاع عما هم عليه؛ وليزيد في تقريعهم والتشنيع عليهم، فإِن كونهم أهل كتاب، يقتضى مسارعتهم إلى الهداية، لا تماديهم في الضلال. كما وصف المُنْزَلَ - وهو القرآن الكريم - بأنه مصدق لما معهم، وموافق لما في كتابهم، مما يدعو إلى المبادرة بتصديقه، لا إِلى الطعن فيه، والوقوع في تكذيبه، فإِذا عاندوا بعد ذلك، وخرجوا على حكم العقل والنقل، كانوا مستحقين لأَشد العذاب. ولذا هددهم بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}: أي من قبل أن نضلهم إضلالًا لا يهتدون بعده. وهو مثلٌ ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق، وردهم إِلى الباطل، ورجوعهما عن الطريق الواضح المستقيم، إِلى الطريق المعوج. فالطمس والوجه والرد على الأدبار، لإيراد بها حقيقتها، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (¬1). {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}: أي أو أَن نطردهم من رحمة الله، كما طردنا أصحاب السبت من اليهود، بسبب عصيانهم بالصيد يوم السبت، وقد نهوا عنه. ثم أكد الله هذا الوعد والوعيد بقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}: أي كان كل ما أَراده واقعا لا محالة. وقد تحقق ذلك في الأمم السابقة، فاحذروا غضبه وخافوا عقابه. 48 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}: لما كانت جرائم أهل الكتاب - لشناعتها وكثرتها - مظِنة عدم المغفرة، ولو تابوا منها، جاءَت هذه الآية الكريمة، لإبعاد اليأس من رحمة الله ومغفرته عمن آمن، وتهديد من لم يؤْمن. فقال تعالى: ¬

_ (¬1) محمد. الآية: 25.

{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... } الآية. والمراد بالشرك هنا: مطلق الكفر الشامل لما عليه أَهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وما عليه غيرهم. وفي هذا أيضًا، ردٌّ عليهم فيما زعموه من أن الله سيغفر لهم ما يرتكبونه من المعاصي، مع استمرارهم على الكفر. كما أخبر الله عنهم بذلك في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} (¬1). وإنما استحالت مغفرة الشرك بالله تعالى، لأَنه الغطاءُ الكثيف: الذي يمنع نور الإِيمان من الوصول إلى القلب .. وهو أَحط ما تنتهي إِليه عقول البشر .. ومنه تتولد جميع الرذائل التي تهدم الفرد والمجتمع. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}: أي ومن يشرك بالله، فقد اختلق كذبا، وارتكب إِثمًا عظيما، إِذ تتضاءَل جميع الذنوب بالنسبة إِلى ذنب الشرك. هذا، ومن المقرر شرعا: أَن من أَشرك باللهِ، وتاب عن الشرك، قبلت توبته، ويغفر الله له. قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)}. المفردات: {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}: يمدحونها. وأَصل التزكية: التطهير. {فَتِيلًا}: الفتيل؛ هو الخيط الذي يُبَطِّنُ نواة التمر، والمراد: لا يظلمون أَدنى ظلم. ¬

_ (¬1) الأعراف. من الآية: 169. (¬2) الأنفال. من الآية: 38.

التفسير 49 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}: في هذه الآية الكريمة، تعجيب من حال أَهل الكتاب، حيث كانوا يرتكبون الكفر والطغيان، ويأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قائلين: نحن أَبناءُ الله وأحباؤه. والمعنى: ألم ينته علمك يا محمد، إلى هؤُلاء الذين يثنون على أنفسهم، ويمدحونها بما ليس فيهم، مدعين أنهم على الحق، وأنهم مقربون إلى الله؟! {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}: أي أن ما مدحوا به أَنفسهم ليس صحيحًا؛ لأن الإِنسان ليس له أن يزكىَ نفسه؛ لأنه قد ينحاز إليها ويمدحها بالباطل .. ومدار التزكية على التقوى، وهذه لا يعلمها إلا الله كما قال - عز من قائل -: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (¬1). {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}: أي ولا يَنقص من ثواب أَحد شيئًا وإِن قل. فهو سبحانه، يؤْتي كل ذي فضل فضله، ولا يبخس الناس شيئًا. فلو كان لهم من الأعمال ما يستحقون عليه الثناءَ، لما ظلمهم الله!! 50 - {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... } الآية. تعجيب آخر من مزاعمهم، حيث كانوا يدَّعون أنهم أبناءُ الله وأَحباؤُه، ويقولون: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (¬2). ويقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (¬3) ويزعمون - إلى اليوم - أَنهم شعب الله المختار. والكذب في ذاته رذيلة، فما بالك بمن يختلق الكذب على الله!. ¬

_ (¬1) النجم، من الآية: 32. (¬2) البقرة، من الآية: 111. (¬3) آل عمران، من الآية: 24.

{وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا}: أي وكفى بصنيعهم هذا ذنبا واضحًا ظاهرًا. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}. المفردات: {بِالْجِبْتِ}: الجبت، كل ما عُبِدَ من دون الله، ويطلق أيضًا على الكاهن والساحر والسحر. {وَالطَّاغُوتِ}: الطاغوت في الأصل؛ كثير الطغيان. ويطلق على كل رأْس في الضلال يصرف عن طريق الخير، ويغرى بالشر. {نَقِيرًا} النقير في الأَصل: هو النقرة التي تكون في ظهر النواة. ويضرب به المثل في القلة والضَآلة. فالمراد به أَقل القليل. {يَحْسُدُونَ النَّاسَ}: الحسد؛ تمني زوال نعمة الغير. {وَالْحِكْمَةَ}: العلم النافع، أَو النبوة. {صَدَّ عَنْهُ}: انصرف عنه، وأَعرض. {سَعِيرًا}: نارًا مسعرة يعذبون فيها.

التفسير 51 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ... } الآية. روى ابن أبي حاتم، عن عكرمة: أن حيي بن أَخطب، وكعب بن الأشرف اليهوديين، خرجا إِلى مكة في جماعة من اليهود؛ ليحالفوا قريشًا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه. فقال لهم كفار قريش: أنتم أهل كتاب، وأنتم أَقرب إلى محمَّد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا، حتى نطمئن إليكم .. ففعلوا ... فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام، وأطاعوا إبليس فيما فعلوا. وقال أَبو سفيان لكعب: إنك امرؤٌ تقرأ الكتاب، وتعلم ونحن أُميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا: نحن أم محمد؟! فقال: ماذا يقول محمَّد؟ قال: يأْمر بعبادة الله وحده، وينهي عن الشرك. قال: وما دينكم؟. قالوا نحن ولاة البيت: نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني. وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلا. فنزلت. وروى - من غير وجه - نحو ذلك. وهذه الآية: تعجيب من حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، وتوبيخ لهم على ارتكابهم جريمة من أشنع الجرائم، وهي سجودهم للأصنام، وشهادتهم بأن عَبَدَةَ الطاغوت أحسن دينا من أهل الإِسلام. على الرغم من أنهم أهل كتاب، وأَعْرَف من غيرهم بالدين الصحيح. والمعنى: أَلم ينته علمك يا محمد - أو كل من يستحق أن يخاطب - إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ورزقوا حظا منه، وإلى حالتهم العجيبة الداعية إلى الدهشة والعجب، وهي أنهم - مع كونهم أهل كتاب - يؤْمنون بالأَصنام، ويطيعون الشيطان، ويقولون في شأْن الذين آمنوا للذين كفروا - من أَجل محالفتهم - هؤُلاء الكفار الجاهليون: أهدى سبيلا، وأقوم طريقًا من الذين آمنوا بمحمد؟!. فبين بذلك مناط التعجيب من حالهم. يالَلْعجب من قوم: أهل كتاب، وأتباع رسل، يقولون عن المؤْمنين بمحمد: إن الكفار - من مشركي مكة - أَهدى منهم سبيلا؟!

وإِنما وصفهم الله بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب، ولم يصفهم بأنهم أوتوا الكتاب؛ لأَن حالهم تتنافى مع الكتاب كله، حيث يؤْمنون ببعضه، ويكفرون ببعضه. 52 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}: بعد أَن ذكر الله أَحوالهم المثيرة للدهشة والعجب، عقب ذلك بتقريعهم، وبيان العقاب المستحق لهم، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ... } الآية والمعنى: أولئك الموصوفون بالصفات السابقة، المرتكبون لهذه الجرائم البشعة، هم الذين حكم الله عليهم بالطرد من رحمته، بسبب كفرهم وعصيانهم. ومن يلعنه الله ويبعده من رحمته، فلن تجد له نصيرا ينصره من عذاب الله الذي ينزل به. 53 - {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}: أي ليس لهم نصيب من الملك، حتى يكون لهم الحق في الإِعطاءِ والمنع، والحكم بالهداية وغيرها. فقد زال ملكهم قبل بعثة محمَّد عليه السلام، بمئات السنين. ولو بقي لهم من الأَمر شيء، لما أَعطوا أَحدا أَقل قليل من الخير. ثم بين الله تعالى سر هذا العناد والتمادي في الضلال، فذكر أَنه يرجع إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وسيطرة الحقد على نفوسهم، فوبخهم على ذلك بقوله: 54 - {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... } الآية. أي أَنهم ليس لهم دليل يستندون إليه، وسبب يتمسكون به في تكذيبهم. بل هم يحسدون الناس، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤْمنين - على ما آتاهم الله من فضله، وأنعم به عليهم حيث: أَعطاهم النبوة والكتاب والحكمة. ولا غرابة في هذا، ففضل الله واسع. وقد آتى الله آل إبراهيم - أي إبراهيم ومن معه - الكتاب والحكمة والنبوة، وآتاهم الله مع ذلك ملكا عظيما واسعا.

ومن ذلك ما أَعطاه الله تعالى ليوسف عليه السلام، من السلطان في مصر. وما أعطاه الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام - من النبوة والملك العظيم. فلا غرابة - بعد هذا - أن يؤْتي الله محمدًا عليه السلام - وهو من أولاد إبراهيم - مثلما أعطى إخوانه الأَنبياءَ. 55 - {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}: في هذه الآية بيان لموقف أهل الكتاب من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتصديق برسالته. أي: فمن أهل الكتاب، مَن آمن بإِبراهيم وما أنزل عليه، ومنهم من كفر به وصد عنه. وقد أعد الله للكفار الجزاء المناسب لهم، وهو أنهم يصلون سعيرًا: أي يقاسون نارا مسعرة ملتهبة، وكفى بجهنم سعيرا. ولا حاجة بعدها إلى ما هو أشد منها، إذ ليس هناك ما هو أقوى منها حرارة، وأَكثر اضطراما، وأشد تعذيبا. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}. المفردات: {نُصْلِيهِمْ نَارًا}: نذيقهم حرها، ونشويهم بها. {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}: احترقت وذابت. {ظِلًّا ظَلِيلًا}: ظلًّ وارفًا مستديمًا: لا يصاحبه حر ولا برد.

التفسير 56 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ... } الآية. بعد أن عدد الله جرائم أهل الكتاب وأحوالهم المقتضية للتعجيب، وهددهم عليها بالسعير - أَتبع ذلك بيان جزاءَ الكفار على وجه العموم: الشاملين لأهل الكتاب وغيرهم. فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا ... }: والمعنى: إنَّ الَّذِينَ جحدوا آياتنا الدالَّةَ على ألوهيتنا، والمنزلة على أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتها القرآن الكريم: الذي هو آخر الكتب وأوفاها، وأوضحها دلالة. {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}: أي سوف ندخلهم نارا هائلة يوم القيامة. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}: أي كلما احترقت جلودهم، وتعطلت عن الإِحساس بِالألم. {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}: أي جلودا جديدة أخرى؛ ليستمر عذابهم، ويدوم لهم بها، وذوقهم لها؛ لأنهم كانوا مصرين على الكفر، إلى ما لا يتناهى. فحكم الله تعالى عليهم بالعذاب الشديد الذي لا يتناهى. {جَزَاءً وِفَاقًا} (¬1). وأكد الله هذا الوعيد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}: أي هو - في ذاته - قوي: لا يعجزه شيء، ولا يستعصى عليه أمر، حكيم في أفعاله. ومن حكمته: تعذيب العاصي على قدر ذنبه. ¬

_ (¬1) النبأ، الآية: 26.

57 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } الآية. بعد أن ذكر الله عذاب الكفار - أَتبعه بيان ثواب المؤْمنين، جريا على عادة القرآن الكريم، في اتباع الترهيب بالترغيب، وقَرْنِ الوعد بالوعيد، إظهارا للفرق بين الحالين، وتقريرا للعدل بين الفريقين. فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}: باللهِ ورسله إيمانا صحيحا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: أي عملوا الأعمال النافعة لهم. وللناس جميعًا، في الدنيا والآخرة. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: أي سندخلهم يوم القيامة جنات عالية تجرى الأنهار عن تحت أشجارها وقصورها، وتفيض الخيرات في كل أنحائها. {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬1). {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: فلا يعتريهم خوف من زواله. {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ}: أي ويتنعمون فيها بزوجات طاهرات من الأَدناس الحسية والمعنوية. {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}. أي وسيدخلهم اللهُ - الكريم القادر - ظلا ظليلا، لا يعتريه ضيق الحر، ولا مس البرد. ولهم فيها الثواب العظيم، والنعيم المقيم. وشتان بين هذا وبين ما يقاسيه الكفار، مما بيَّنته الآية السابقة. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} (¬2). ¬

_ (¬1) الحجر، الآية: 48. (¬2) فاطر، الآيات: 19 - 21.

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}. المفردات: {أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ}: جمع أمانة. وهي ما يؤْتمن عليه الإِنسان: لله أو للناس. وأَداؤُها: ردها وحملها إلى أصحابها. التفسير 58 - {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... } الآية. إِن الله عز وجل، قد ذكر - في الآيات السابقة - أن بعض علماء أهل الكتاب، خانوا أمانة العلم، وقالوا لكفار مكة: أنتم أهدى سبيلا من محمَّد ودينه. فجاءَت هذه الآية، آمرة الناس بردِّ ما ائتمنوا عليه، والحكم بالعدل بين الناس. وقد ورد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل مكة يوم الفتح، ثم طلب من عثمان بن طلحة بن أَبي طلحة: من بني عبد الدار، مفتاح الكعبة، فأتاه به. فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: اجعله لي مع السقاية. فكفَّ عثمان يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرني المفتاح يا عثمان" وتكرر الطلب من العباس والكفُّ من عثمان، إلى أَن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عثمانُ، إن كنتَ تؤْمن بالله واليوِم الآخرِ، فهاتِني المفتاح" فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة ودخلها ... ثم خرج وطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بهذه الآية. فدعا عثمانَ بنَ طلحةَ بن أَبي طلحة - فأَعطاه المفتاح.

وفي تفسير ابن كثير: أن عثمان دفع المفتاح - بعد ذلك - إلى أَخيه شيبة بن أبي طلحة. فهو في يد وُلده إِلى اليوم. وكان عثمان أَحد الذين أَسلموا مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بين الحديبية والفتح. أَما رواية - أَنه لم يسلم إِلا يوم الفتح - بعد أَن رَدَّ إِليه الرسول صلى الله عليه وسلم المفتاح - وكان عليُّ قد أَخذه منه عَنْوة - فغير صحيحة. {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤْمنين في جميع العصور: يأْمرهم فيه - ومن كان معه وَمَن بَعْدَه - بأَداءَ جميع الأَمانات إلى أَصحابها. سواءٌ: أكانت لله تعالى، مثل التكاليف الذي كلفنا بها، من فعل المأمورات، وترك المنهيات. أَو كَانت للناس كالودائع وغيرها. أو كانت للإِنسان نفسه: كالمال المستَخْلَفِ فيه: وكسائر أعضائه التي أمرنا باستعمالها فيما خلقت له: من لسان، ويد، وسمع، وبصر، وغير ذلك ... فكلها أَمانات يجب أَداؤُها. وذلك باستعمالها في الطاعة، والبُعْد بها عن المعصية، شكرًا لله عليها. ومن ذلك: العمل بما تَعلَّمَه العلماء وتبليغه للناس، وعدم كتمانه .. كما ذلك أمانات يطالبنا الله - عز وجل - بحفظها وردها. وقد عظم القرآن شأن الأمانة وشأن من يرعاها. وجعل ذلك مناطًا للمدح في كتابه العزيز، حيث قال في وصف المؤمنين المستحقين للفلاح: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (¬1). وفي الحديث ما رواه البغوي. عن أنس مرفوعًا "لا إيمان لمن لا أمانة له. ولا دين لمن لا عهد له". ¬

_ (¬1) المؤمنون الآية: 8.

وروى الترمذي، وأبو داود، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أدِّ الْأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". ولما أمر الله سبحانه جميع المكلفين بأداء الأَمانات إلى أهلها، أمرهم كذلك. بالحكم بالعدل بين الناس فقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}: أي يأْمركم الله - تعالى - إذا حكمتم بين الناس مطلقًا - مؤْمنين وغير مؤْمنين - {أَنْ تَحْكُمُوا}: بينهم {بِالْعَدْلِ}: دون إجحاف، أو ميل إلى أحد المتخاصمين لقرابة أو دين. قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (¬1). والحكم بين الناس بالعدل. أمر قد انعقد عليه الإِجماع، وتكرر ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬2). وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (¬3). والسنة النبوية، حافلة بالحث على العدل والتنفير من الظلم. وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لأَبي موسى الأشعري، حين ولاه القضاءَ: "آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ في جَوْرِكَ، وَلَا يَيْأسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدلِكَ" (¬4). ثم أَكد سبحانه، وجوب هذه الأَوامر فقال: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}: أي نعم الشيء الذي يعظكم به الله: وهر تأدية الأَمانة، والحكم بين الناس بالعدل، لأنهما من الأمور المحمودة. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}: أي سميعا لما يقال، وما يجِري من الأَحكام بين الناس {بَصِيرًا}: بما يحدث .. ومنه أداء الأَمانات إلى أَهلها، فهو عليم بكل شيء: مسموعا كان أَو مبصرا: محيط بكل شيء مجاز كلا بما يعمل من خير أَو شر. ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 8. (¬2) الأنعام، من الآية: 152. (¬3) النحل، من الآية: 90. (¬4) كتاب الخراج: 140، وصبح الأعشى 1/ 193.

وذلك وعد وبشرى للطائعين، ووعيد وإنذار للواعظين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}. المفردات: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}: أصحاب الحل والعقد، من الرؤساء والعلماء. {تَنَازَعْتُمْ}: اختلفتم. {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: أي ارجعوا في معرفته إلى كتاب الله، وسنة رسوله. {تَأْوِيلًا}: مآلًا ومرجعًا وعاقبة. أو أحسن تأويلًا من تأويلكم. التفسير 59 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... } الآية. لما أمر الله الولاة بالعدل في الحكم بين الناس، أمر سائر المؤمنين بطاعة هؤلاء الولاة العدول، في ضمن طاعة الله ورسوله. فطاعة أولى الأمر من الحكام العدول، هي طاعة مترتبة على طاعة الله وطاعة رسوله. وأمرهم بذلك، هو بتأسِّيهم بنور الكتاب والسنة في كل تشريعاتهم. وبذلك يستقيم منهج الحياة على أساس من الكتاب والسنة، والارتباط بأصول التشريع. وطاعة أولى الأمر من الولاة والرؤساء والعلماء وغيرهم، هي طاعة مرتبطة بهذا الأصل من التشريع أيضًا. وهي - كما سبق - مقيدة ومشروطة بطاعة الله. إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وبذلك تتحقق المصلحة العامة، من وراء ارتباط أولي الأمر بأصول التشريع، وارتباط المسلمين جميعًا بأولي الأمر قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1). ولأن الكتاب الكريم والسنة النبوية، هما دعامتا التعاليم التي يهدى بها لتحقيق حياة سعيدة وآخرة مرضية. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}: أي إن اختلفتم في حكم شيء: لم يرد فيه نص صريح في كتاب الله - تعالى - ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فارجعوه إلى هذين الأصلين، وليكن حكمكم فيه بالقياس إلى حكم كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يشتبهه من الأمور فإن ذلك خير ما يصار إِليه: لفض التنازع وإزالة الخلاف بين المؤمنين باللهِ واليوم الآخر. وبذلك، فتح القرآن الكريم للمسلمين، باب الفهم والبحث والاجتهاد في دين الله. حيث أمرهم أن يردوا ما اختلفوا فيه، إلى الكتاب والسنة. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: أي إن كنتم تصدقون باللهِ وبمجيء اليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب - فردوا ما تتنازعون فيه إلى حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقيسوا الأمور بأشباهها، وارْضَوْا بذلك حكمًا. {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}: أي الرد إِلى كتاب الله وسنة رسوله، عند التنازع والتمادى في الخصومة، خير لكم وأَصلح من التمادي في الخصومة، وأحسن تأويلا من تأْويلكم، أَو مرجعا وعاقبة. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 83.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)}: المفردات: {الطَّاغُوتِ}: الطاغوت في الأصل؛ كثير الطغيان. ويطلق على كل رأس في الضلال، يصرف عن الخير، ويغرى بالشر. {يَصُدُّونَ}: يعرضون. {وَعِظْهُمْ}: خوّفهم. {وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ}: أي واعظًا لهم - بينك وبينهم - ليكون أَدعى للقبول. أو في شأْن أنفسهم: كاشفا عن خبثها. {قَوْلًا بَلِيغًا}: مؤَثرا واصلا إلى حقيقة المراد. التفسير 60 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... } الآية. روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنه تخاصم يهودي ومنافق، ودعا اليهودي المنافق إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف .. فنزلت الآية.

والمعنى: ألم ينته علمك يا محمَّد، إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بالقرآن وبالكتب التي أنزلت على مَنْ قَبْلَكَ من الرسل؟! إن شأن هؤلاء لعجيب؛ لأنهم - مع زعمهم الإيمان بذلك - يريدون أن يتخذوا من كاهن اليهود - رأس الضلال - حاكمًا في قضاياهم. وقد أمرهم الله أن يكفروا بمن يدعوهم إلى الشر ويبعدهم عن الخير، ويريد الشيطان أين يوقعهم في ضلال بعيد، لا خلاص لهم منه بإتباعهم دعاة الشر!! 61 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}: أي ومن عجيب أمر هؤلاء المنافقين: أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أصروا على الكفر، وأعرضوا عما تدعوهم إليه، إعراضًا شديدًا. 62 - {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}!!: هذا بيان لسوء عاقبتهم جزاء جنايتهم ومخالفتهم، وتعجيب من حالهم. أي فيا عجبا .. كيف يكون حال هؤلاء المنافقين - وقت نزول المصائب بهم - بسبب ذنوبهم، ثم جاءوك ملتجئين إليك في ذلك، يعتذرون عن قبائح أعمالهم، ويحلفون بالله ما أردنا بذهابنا على غيرك، وتحاكُمِنَا إلى من عداك، إلا الإحسان والتوفيق. أي المداراة والمصانعة. لا اعتقادًا منّا صحة تلك الحكومة. كما أخبر الله عنها بقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) المائدة. الآية: 52.

63 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا في قُلُوبِهِمْ}: أي أولئك هم المنافقون الموغلون في الكفر والنفاق، الذين لا يخفى على الله أمرهم، ويعلم ما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد، وسيجزيهم على ذلك. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ}: أي أعرض عن قبول معذرتهم. وازجرهم عما في قلوبهم من الكيد والنفاق. {وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} أي انصحهم - فيما بينك وبينهم بعيدًا عن الناس - ليكون ذلك أدعى إلى قلوبهم - بكلام بليغ رادع لهم. أو قل لهم في شأن أنفسهم وما انطوت عليه من الخبث والقبائح قولًا مأثورًا يردهم عن غَيّهم، ويعود بهم إلى رشدهم. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}. المفردات: {فَلَا وَرَبِّكَ}: اللام لتأكيد القسم. {شَجَرَ بَيْنَهُمْ}: اختلط عليهم من الأمور. {حَرَجًا}: ضيقًا.

التفسير 64 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... } الآية. أي. وما أرسلنا رسولًا من الرسل، لأمر من الأمور، إلا ليطيعه الناس بسبب إذنه تعالى لهم في طاعته، وأمْرِه لهم بأن يتبعوه، فإِن طاعة الرسول طاعة لله ... {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1). {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}: في هذا بيان لما كان يجب عليهم أن يفعلوه حين ظلموا أنفسهم. أي ولو أنهم حين ظلموا أَنفسهم - بترك طاعة الله تعالى - بادروا بالمجيء إليك، معتذرين عن جرائِمهم مبالغين في التضرع إلى الله، والتوبة إليه من ذنوبهم، حتى تقوم شفيعًا لهم إلى ربك، طالبا منه المغفرة لهم. {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}: أي لو أنهم فعلوا ذلك - لوجدوا أبواب التوبة مفتحة لهم، ورحمتَه تعالى محيطةً بهم. وفي هذه الآية، إرشاد لسائر العصاة والمذنبين، إذا وقع منهم ذنب أو خطيئة، أن يبادروا بالتوبة والندم، كي يفوزوا بغفران الله لهم. 65 - {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } الآية. روى البخاري بسنده، قال: خاصم الزبير رجلًا في شَرْج (¬2) من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبيرُ، ثم أرسل الماء إِلى جارك" فقال الأنصارى: يا رسول اللهِ، لِأَن كان ابنَ عمتك؟ فَتَلوَّنَ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبِسِ الماءَ حتى يرجع إلى الجُدُر، ثم أرسل الماءَ إلى جارك ... " (¬3) فاستوفى النبي صلى الله عليه وسلم، للزبير حقه كاملا في الحكم، حين أحفظه الأنصارى، وكان أشار عليهما، صلى الله عليه وسلم بمأمر لهما فيه سعة .. قال الزبير: فما أحسِب هذه الآية إلا نزلت في ذلك. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } الآية. ¬

_ (¬1) النساء. من الآية: 98. (¬2) الشرج: مسيل الماء. (¬3) ابن كثير ج1 ص520.

لقد أقسم الله - سبحانه - بذاته، وهو الذي تولى تربيتك أيها الرسول، وأنعم عليك بنعمة النبوة، وأَدَّبك بأدب القرآن - أقْسَمَ: أن هؤُلاء الذين أَعرضوا عن التحاكم إليك فيما اختلط عليهم، لا يدخلون في عداد المؤْمنين الصادقين، حتى تتحقق فيهم صفات ثلاث: أولاها: أن يهْرَعوا إليك - أيها الرسول - لتحكم بينهم فيما اختلط عليهم. ثانيها: أن ترضى نفوسهم - وتستمر راضية دون حرج أو ضيق - بحكمك وقضائك. ثالثها: أن يسلِّموا بحكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسلينا كاملا، ويذعنوا له إِذعانا صادقا، ويقوموا على تنفيذه بنفوس راضية. {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}. المفردات: {كَتَبْنَا}: قدرنا. {مَا يُوعَظُونَ بِهِ}: ما يؤْمرون يه من طاعة الله. {تَثْبِيتًا}: تحقيقًا لإيمانهم. التفسير 66 - {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ... } الآية. أي: ولو أَنا كتبنا على هؤلاء الذين أعرضوا عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما أوجبناه عل بني إسرائيل من قتلِهم أنفسَهم، أو خروجهم من

ديارهم؛ حين طلبنا منهم التوبة - لشق ذلك عليهم، وما نفذه إلا نفر قليل منهم، وهم المخلصون من المؤمنين. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ}: من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد لحكمه ظاهرًا وباطنًا. {لَكَانَ}: فعلهم ذلك. {خَيْرًا لَهُمْ}: أي أنفع لهم في الدنيا والآخرة. {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}: أي تحقيقًا لإيمانهم. 67 - {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا}: أي: ولو نفذوا ما أمرتهم به، واستجابوا لك، وتحقق منهم صادق الإيمان - لأعطيناهم من عندنا فضلًا لا يحد، ومنحناهم من خزائن رحمتنا أجرًا عظيمًا، بالغًا غاية العظم .. وهو الجنة. 68 - {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}: أي: ولأرشدناهم في دنياهم إلى طريق مستقيم استقامة تامة، يقودهم إلا صالح الأعمال، ويوصلهم إلى جزاء الأبرار. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}. المفردات: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: تفضل الله عليهم بنعمه. {رَفِيقًا}: مرافقا ومؤنسًا.

التفسير 69 - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ... } الآية. أي: والذين يعملون بما أمر به الله ورسوله، ويتركون ما نهى الله ورسوله عنه، مع التصديق والإذعان والقبول. {فَأُولَئِكَ}: الموصفون بما ذكر. {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: أي مع الذين تفضل الله عليهم بنعم وإحسانه. وقد بين المنعم عليهم بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ}: أي الذين يبالغون في تصديق أهل الصدق واليقين، والذين قتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمته. {وَالصَّالِحِينَ}: أي الذين صلحت أعمالهم وسلمت صدورهم، فقاموا بحقوق الله، وحقوق عباده. {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}: أي: وحسن أولئك المذكورون رفقاء - في دار النعيم - لأولئك الطائعين. 70 - {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}: أي: ذلك الفوز برفقه هؤلاء في أعلى درجات الجنة، هو الفضل العظيم، الذي لا غاية وراءه: تفضل به عليهم. فكل عمل صالح يكسبه العبد، لا يوازي هذا الفضل. {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}: أي: يكفي علم الله في الإحاطة بكل شيء، فيعلم من هو أهل لهذا الفضل، فيجازيه به.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}. المفردات: {حِذْرَكُمْ}: الحِذْرُ والحَذَرُ: بمعنى واحد. والمراد: تَيَقَّظُوا واحترِزوا من مكائد عدوكم. {فَانْفِرُوا}: اخرجوا إلى الجهاد. {ثُبَاتٍ}: جمع ثُبَة، وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة. والمراد: انفروا جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة. {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}: أي اخرجوا مجتمعين غير متفرقين. {لَيُبَطِّئَنَّ}: أي يتباطأ ويتثاقل. {شَهِيدًا}: أي حاضر الموقعة. {مَوَدَّةٌ}: علاقة وصلة. التفسير 71 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}: لقد نادى الله المؤمنين بوصف الإيمان، ليثير في نفوسهم دواعي الاستجابة إلى ما أمروا به. فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: أي يا مَن صَدَّقُوا وأذعنوا لله والرسول.

{خُذُوا حِذْرَكُمْ}: أي خذوا حيطتكم من عدوكم، وكونوا مِنْهُ على حذَر. وتيقظوا له حتى لا يباغتكم بالهجوم عليكم. ومن الحيطة: استطلاع حال العدو، وتعرُّفُ أسراره وخططه الحربية، ومدى قوته ... ونحو ذلك. {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ}: أي اخرجوا لقتاله جماعة بعد جماعة، وسرية بعد سرية. إِذا اقتضت الحرب ذلك. {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}: أي أو اخرجوا لقتاله مجتمعين إذا لزم الأمر. ولا شك أن الخروج للقتال، يستلزم التأهب بإعداد الجيش المدرب، وإعداد السلاح الكافي، حسبما يستدعيه حال العدو. ومن الواضح أنه يجب على الأمة: أن تظاهر جيشها، وتحمى ظهره: بالعمل والإنتاج، والتماسك والاتحاد، ورفض الإشاعاِت الكاذبة، وتحمُّل التضحيات. 72 - {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ ... } الآية. بعد أن أَمر الله المؤمنين، بأخذ الحذر والحيطة من الأعداء، والخروج لقتالهم: مجتمعين أو متفرقين - حسبما تدعو إليه ظروف الحرب - كشف الله حال طائفة تتباطأ عن الجهاد، وتتثاقل عن الخروج إليه ذَمًّا لهم، وتحذيرا منهم، فإنهم منافقون، فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}: أي: وإن من بينكم - معشر المسلمين - لمن يتباطأ عن الخروج للقتال. {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}: أي فإن نزلت بكم هزيمة، ولحقت بكم نائبة. {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا}: أي: قال فرحًا مسرورًا، قد أَنعم الله عليَّ، حيث لم أحضُر القتال، ولم أتعرض لما تعرض له جيش المسلمين من أهوال القتال وشدته.

73 - {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}: أي: وإن تفضل الله عليكم بالنصر، وأنعم عليكم بالغنيمة، عَضَّ أصابع الندم، واستولت عليه الحسرة قائلًا - كأن لم يكن بينكم وبينه سابق معرفة -: يا ليتني كنت معهم في ساحة القتال. فأغنم مغانم كثيرة، وآخذ أموالًا وفيرة. وهذا الفريق أخطر على الأمة من عدوها الخارجي: المعلن لعداوته. {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}. المفردات: {يَشْرُونَ}: يبيعون؛ لأن شرى: من كلمات الأضداد. كذا في الصِّحاح. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}: المستذلين. {وَالْوِلْدَانِ}: جمع وليد، وهو الصبي، أو العبد.

{وَلِيًّا}: معينًا. {الطَّاغُوتِ}: في الأصل كثير الطغيان. ويطلق على كل رأس في الضلال. وقيل: الشيطان. التفسير 74 - {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... } الآية. ذكرت الآيتان السابقتان، طائفة من المنافقين: يثبطون ويخذلون المؤمنين عن القتال، فإذا انهزم المؤمنين فرحوا، وإذا انتصروا ندموا على تخلفهم عن القتال؛ لحرمانهم من الغنائم. وفي هذه الآيات يأمر الله المؤمنين بالقتال في سبيله. والأمر موجّه إلى من باعوا الحياة الدنيا، طلبًا لثواب الآخرة، وجادوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ونشر الدعوة الإسلامية، والدفاع عن المسلمين، وعن الوطن الإسلامي. وتقدير الكلام: إذا تباطأ المنافقون عن الجهاد. فليسرع إليه المؤمنون الصادقون. وقد فرض الله الجهاد في سبيل الله على المؤمنين الصادقين. قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1). {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}: أي: ومن قاتل في سبيل الله - لا طلبًا للغنائم، ولا طمعًا في الحكم والسلطان - فقد أعد الله له ثوابًا جزيلًا. والمقاتل في سبيل الله بين غايتين: الاستشهاد في سبيل الله، أو النصر على الأعداء .. ولا ذكر للهزيمة في الآية الكريمة؛ لأن المؤمن المجاهد: لا يرتد على عقبيه، ولا يستسلم ¬

_ (¬1) الحجرات. الآية: 15.

للهزيمة بأي حال. وقد وعده الله - في كلتا الحالتين - بالأجر الجزيل، والثواب العظيم: أجر الشهداء في الآخرة، أَو ثمرات النصر في الدنيا، ورضاء الله في الآخرة. وفي تنكير الأجر، ثم وصفه بالعظمة - إظهارٌ لمضاعفته، وإبرازٌ لعظمته. 75 - {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ ... } الآية. يحرِّض القرآن المؤْمنين على القتال في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل خلاص الضعفاء المستذلين: من الرجال والنساء والصغار من المسلمين. المحبوسين بمكة. والمعنى أي شىءٍ لكم حتى لا تقاتلوا؟!! أي لا عذر لكم في ترك القتال؟!! فالاستفهام في الآية الكريمة، لإنكار واستقباح النخلف عن الجهاد. وقد استدعاه باعثان قويان: الأول: الدفاع عن الإِسلام. والثاني: تخليص المستضعفين من المسلمين المستذلين بمكة. الذين يتعرضون لأنواع العذاب والنكال. وهم ضعفاء: لا يستطيعون مقاومة المعتدين الطغاة. وكلا الباعثين جدير بأن يحفز المؤمنين حفزا إلى القتال. وكلاهما جهاد في سبيل الله ... ولكنه أفرد المستضعفين، استثارةً للحمية والأنفة والغيرة، لما لها - في نفوس العرب - من مكان مكين. {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}: أي لا عذر لكم في ترك القتال؛ لتخليص المستضعفين الذين عذبهم المشركون بمكة، ومنعوهم من الهجرة أَو حرية العبادة. فاتجهوا إلم الله عز وجل، ضارعين قائلين: يا إلهنا المنعم، المتفضل علينا بنعمة الإِسلام - هيئ لنا الخروج من مكة، والهجرة منها، فِرارا بديننا من أَهلها الطغاة الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلمونا بتعذيبنا، ومَنْعِنَا من الهجرة ومن حرية العبادة، وهيئ لنا - بفضلك - وليًّا يتولى أمورنا ويحمينا منهم، وهيئ لنا - من عندك - من ينصرنا عليهم وييسر لنا طريق الهجرة إلى إخواننا المسلمين.

قال ابن عباس - فيما رواه البخاري عنه: "كنت أَنَا وأمي مِنَ المستَضْعَفِينَ". ونسبة الظلم إلى أَهل مكة: تشريف لها وصيانة عن نسبة الظلم إليها، فهو مقصور على أهلها المشركين. 76 - {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. وازنت هذه الآية الكريمة بين فريق المؤمنين، وفريق الكافرين. فالمؤمنين يقاتلون في سبيل الدفاع عن عقيدتهم، وعن أوطانهم، وعن إخوانهم المستذلين. وهذا كله في سبيل الله. وقد وعد الله المجاهدين في سبيله بإحدى الحسنيين: الشهادة وما وراءَها من أَجر جزيل، أو النصر وما يتبعه من عز وتمكين. أما الكفار، فهم يقاتلون في سبيل الطغيان والظلم والاستعلاء. وشتان بين مَن يجاهد في سبيل المبادىء والمثل العليا، ومَن يقاتل عدوانا وظلما، وتمكينا للطغاة الجبارين. ولا شك أن العاقبة للمتقين، وأن الظلم مرتعه وخيم. {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}: أي: فقاتلوا أيها المؤمنون - في سبيل الله - أنصار الشيطان وأعوانه، وكونوا واثقين من نصر الله لكم، وثوابه العظيم. ومن خذلان أعوان الشيطان، فإنكم أنصار الله وحماة الحق، الذي أنزلة إليكم. والحق لا بد أَن ينتصر. فإنهم أعوان الباطل والباطل إلى زوال {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (¬1). والله سبحانه - غالب عَلى أمره. أما الشيطان وأنصاره، فهم المخذولون: { ... أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) الأنبياء من الآية: 18. (¬2) المجادلة من الآية: 19.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}. المفردات: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}: اقبضوها وامنعوها عن القتال. {مَتَاعُ الدُّنْيَا}: ما يتمتع به من زخرفها وزينتها ولذائذها. {فَتِيلًا} الفتيل: الخيط الموجود في شق النواة، يضرب به المثل في القلة والحقارة. {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} حصون مرتفعة منيعة محكمة. {يَفْقَهُونَ}: يفهمون فهمًا دقيقًا.

{شَهِيدًا}: شاهدا على صدق رسالتك، أو مُطَّلِعًا بصيرًا. {تَوَلَّى}: أعْرَض. {حَفِيظًا}: رقيبًا، أو مسيطرًا. التفسير 77 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} الآية. روى ابن أبي حاتم بسنده. عن ابن عباس، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أَتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا يا نبي الله: كُنَّا في عِزَّةٍ ونحن مشركون، فلما آمنا صِرْنَا أذِلَّةً، قال: "إنى أُمِرْت بِالعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا القَوْمَ". فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ... } الآية. أي: ألم ينته إلى علمك - يا محمَّد - حال أولئك الذين كانوا يتمنون القتال - وهم بمكة - قبل أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيه، رغبة في التخلص من ايذاء المشركين المستمر لهم؟! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستمهلهم ويقول لهم - وهم بمكة: كُفُّوا أيديَكم عن قتال المشركين حتى يأْذن الله فيه، وتفرغوا لتطهير أنفسكم وتزكيتها: بإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (¬1)، وإِعدادها للجهاد حين يأذن الله به فيه؟!. والاستفهام لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه، وكل من يتأتى منه ذلك إلى يوم القيامة - تعجيب لهم - من حال هؤلاء الذين تحدثت الآية عن شأنهم. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}: ¬

_ (¬1) كانت الزكاة غير محددة المقادير في مكة - قبل الهجرة - وكان ذلك متروكا لتقدير المسلمين، ثم تم تحديدها بالمدينة.

أي: فلما فرض الله القتال على المؤمنين - بعد الهجرة - استولى الخوف - من قتال الكفار - على نفوس فريق منهم، وهم المنافقون، وتهيبوا قتال الناس خشية القتل أو الأسر، وملأ الرعب قلوبهم فأصبحوا يخافون قتال الكفار كخوف المتقين من الله. بل أصبح خوفهم من الناس أَشد من خوف المتقين من ربهم. {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}: أي: وقالوا - في ضيق ورعب وجزع من الموت - يا ربنا، لم فرضت علينا القتال؟ هلَّا أخرت فرضه علينا إلى مدة قريبة؟ حُبًّا في التمتع بالدنيا. والمدة القريبة غير محدودةٍ فهي - عندهم - انتهاء آجالهم دون قتال: أَوْ يَا رَبَّنَا هلَّا زدتنا في مدة الكف إلى وقت آخر: قابل للتجديد؟ حذرا من الموت وهربا من الجهاد. فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}: أي: قل لهم يا محمد: متاع هذه الدنيا - الذي تودّون العيش من أجله - قصير الأمد، لأن الآجال فيها منتهية. وكلُّ آيلٍ إلى الفناء قليل. وما كان كذلك، فهو لا يستحق الحرص عليه أَو الحزن على فواته. ونعيم الآخرة خير لمن خاف عقاب الله بترك معصيته، ولم يخف من لقاء الأعداءِ. وكان هذا خيرا، لأَنه النعيم المقيم، الدائم لمن أَحسن عملا في هذه الحياة الدنيا، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد، واتقى الله، ولم يخش إِلَّا الله. ولن تنقصوا في الدار الآخرة - دار الحساب والجزاء - من جزاء أعمالكم شيئًا وإن قل وكان قدر الفتيلة في شق النواة. ففي الآخرة، ينال المحسنون والمسيئون جزاءَ ما عملوا. ولا يقع على أَحدهم أي ظلم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1) والفتيل يضرب به المثل في القلة. ¬

_ (¬1) الزلزلة الآيتان: 7، 8.

78 - {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... } الاَيةّ. جاءَت هذه الآية ردًّا على كراهيتهم فرض القتال عليهم، لاعتقادهم أَنه يعرضهم للموت الذي يكرهونه، وأن القعود عنه يجعلهم بمنجاة منه. والمعنى: في أي مكان تكونون فيه - في ساحة القتال، أَو بين أهليكم في مواطن أمنكم أَو خوفكم - ينزل بكم الموت عند انتهاء آجالكم ولو كنتم في حصون منيعة، أَو قصور عالية: تظنونها مانعة لكم من الموت الذي تخافونه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬1). وفيه تأنيب لهؤُلاء المنافقين، الذين ضاقوا بما فرض الله عليهم من قتال، وإبراز لحماقة تفكيرهم، فإِن الجبن لا يطيل عمرا، وإنما يجلب ذُلًّا. والشجاعة لا تنقص أجلا، وإنما تورث عِزًّا. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: هذا بيان لنقيصة أخرى من نقائص هؤلاءَ المنافقين. فقد كانوا يقولون - إذا حلت بهم نعمة من سعة في الرزق، وكثرة في الأَموال والأولاد - هذا الذي أصابنا من النعم من عند الله. قالوا ذلك، لا عن إِيمان بالله، واعتراف بفضله، بل قالوه؛ تهوينًا لشأْن النبي صلى الله عليه وسلم، وإِشارة إلى أنه لا يأْتيهم بخير .. يدل على ذلك ما حكاه القرآن عنهم بقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}: أي: وإن يُصيبهم جدب وقحط، ونقص في الأَموال أو الأولاد، ونحو ذلك. قالوا: أصابنا ذلك بشؤْمك الذي لحقنا .. ¬

_ (¬1) الجمعة، من الآية: 8.

فردَّ الله عليهم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}: أي: قل لهم يا محمد: إن كل ما يصيبكم من حسنات وسيئات، إنما هو من عند الله: بقضائه وقدره. فهو - وحده - الذي يملك النفع والضر، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد. {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}: تعبير لهم بالجهل، وتعجيب من كمال غباوتهم، وتقبيح لحالهم. والمعنى: فما شأن هؤُلاء القوم؟ وماذا أصاب عقولهم، حتى أصبحوا بعيدين عن الفهم والإِدراك لما يسمعون، ولما يقولون. ولا يفهمون أن كُلًّا من الخير والشر، من عند الله وحده! 79 - {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ... } الآية. بعد أن تحدثت الآية السابقة، عن فرية من مفتريات المنافقين - وما أكثر ما افتروا، حينما قالوا: إن البلية تصيبنا بشؤْم هذا الرجل، يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد أن ذكرت أَمره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. بالرد عليهم، ودحضها في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}. جاءَت هذه الآية بتفصيل هذا الرد وتأْكيد معناه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}: أي: ما أصابك - أَيها الإِنسان - من نعمة فهي من عند الله جاءَتك تفضلا منه وإحسانا. {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}: أي: وما نزل بك - أَيها الإِنسان - من بلية ونقمة تسوءك فهي من عند نفسك، بسبب ما ارتكبت من الذِنوب والآثام، أتتك ونزلت بك عقوبة لك على شؤم معاصيك.

وقد تنزل البلية بالمؤمن ابتلاءً واختبارًا ورفعًا لدرجاته. كما في الحديث: "أشَدُّ الناسِ بَلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلَى الرجلُ على حسبِ دينه، فإِن كان في دينه صُلْبا، اشتد بلاؤُه، وان كان في دينه رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ على قَدْرِ دينه. فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ، حتى يتركه يمشي علَى الأرضِ وما عَلَيْه خَطِيئَةٌ" (¬1). وقد تنزل المصائب بالمؤْمن: تكفيرا لما عساه يكون قد وقع من الذنوب؛ كما جاءَ في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلمَ: من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أَذى، ولا غمٍّ - حتى الشوكة يُشاكُها - إِلا كفَّر اللهُ بها من خَطَاياه" (¬2). وقد أُضيفت السيئة إلى الله تعالى في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، على جهة خلقه لها. وإيجاده إياها، وأُضيفت إلى العبد في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. على جهة تسببه فيها بما اقترفه من المعاصي والآثام - وإِن كانت مخلوقة لله تعالى. وبهذا التوجيه تلتقي الآيتان الكريمتان في معنى واحد. والخطاب في هذه الآية، عام موجه إلى كل واحد من الناس، كما أَن المراد: جميع الحسنات وكل السيئات. وليس في أسلوب الآية، ما يدل على أَن النعمة لا تصيب إلا المحسنين، فقد يصيب الله بنعمته من يشاء من غير المؤْمنين. كما قال تعالى: { ... نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ... } (¬3) إذ المراد بالرحمة: النعمة التي لا تكون في مقابلة عمل من الأعمال. وليس فيها أَيضا، ما يفيد أَن المعصية تستلزم نزول البلية ممن عصى حتما. فإِن الله يعفو عن كَثِير. كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬4)، بل إن كثيرا من الكفار يعيشون في الدنيا في رغد من العيش مترفين منعمين، دون أن تنزل بهم أية مصائب طول حياتهم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده، والبخاري، والنسائي، وابن ماجة عن سعد. (¬2) رواه أحمد في مسنده، والبخارى ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة معا. (¬3) يوسف، من الآية: 56. (¬4) الشورى، الآية: 30. (¬5) محمَّد، من الآية: 12.

وفي هذا - من كمال رحمته بعباده، وعظيم عفوه عنهم - ما لا يخفى. {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}: هذا بيان لعظم مكانته صلى الله عليه وسلم، وجلال قدره، وعلو شأْنه. والمعنى: وأرسلناك يا محمد، رسولًا مبلغًا - للناس كافة - رسالة ربك، ولم نرسلك لبعضهم. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}: أي: شهيدا على صدق رسالتك، وأَنك أبلغت ما أنزل إليك من ربك، وأَديت واجبك أَكمل أداءٍ: بإخلاص ويقين: تبشر الناس وتنذرهم. والله تعالى خير شهيد على ذلك. فليس لهؤُلاء المنافقين - ولا لغيرهم - أن يتطيروا بك ويقولوا لك: ما نزل بنا من البلاء فمن عندك. وبسبب شؤمك. وفي تقرير رسالته صلى الله عليه وسلم - على هذا النحو - تطمين لقلبه، وتقوية لعزمه، وإِزالة ما عسى أن يكون قد علق بنفسه من الألم مما قالوه، من نسبة ما نزل بهم من البلاء إِليه صلى الله عليه وسلم - كما أَن فيه زيادة كبتٍ لهم، وتأكيدا لغاية جهلهم، وعدم فقههم. 80 - {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}: هذه الآية موصولة السياق بما قبلها. فهي تتضمن: مرضاة الرسول، وتطييب خاطره، وتزيد من رفعة قدره، وعلو منزلته. ففي الآية السابقة، قرر سبحانه وتعالى: رسالته صلى الله عليه وسلم. ورفَع عنه تحمّلَ مسئولية ما يقولون؛ لأنه ليس إِلا رسولًا: مهمته تبليغ رسالة ربه. وقد أداها أَكمل أداء.

وفي هذه الآية يؤَكد هذا المعنى، ويبين أحكام رسالته، بأن من أعرض عنه فلن يضره، فإنه رسولٌ عليه البلاغ. وليست السيطرة عليهم من رسالته، فقد بعثه الله إلى الناس رسولًا: يدعوهم إلى الخير، ويحذرهم من الشر، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وطاعة الرسول فيما يبلغه عن ربه - بوصف كونه رسولًا يبلغ ما يؤْمر بتبليغه إلى الناس - واجبة. فمن أَطاعه في ذلك، فقد أَطاع الله؛ لأنه - صلوات الله وسلامه عليه - لا ينطق عن الهوى ... فليس لمسلم أن يخالفه فيما يبلغه عن أمر ربه. قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وأما ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارجة عن دائرة التبليغ والرسالة مما هو خاص بشئون الدنيا، فليست أوامر، بل إرشادات. ولذا راجعه المسلمون في بعض الآراءِ. كما حدث في تأبير النخيل، فرجع صلى الله عليه وسلم، ونزل على رأْيهم، وقال: "أَنتم أَعلَمُ بأَمرِ دُنْيَاكم" (¬2). {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}: أي: ومن أعَرض عن طاعتك، وعن اتباع الحق الذي جئت به، فاترك أمره إلينا - فسنجازيه - ولا يحزنك أمره، فإنما أرسلناك مبلغا، وقد بلَّغْت ما أنزل إِليك من ربك، على أتم الوجوه وأكملها. والله خير شهيد على صدقك، ولم نبعثك عليهم مسيطرا، ولا رقيبا على أعمالهم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) النور، من الآية: 63. (¬2) رواه مسلم. (¬3) الغاشية، الآيتان: 21، 22.

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}. المفردات: {بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ}: خرجوا من مجلسك ظاهرين. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ}: دبَّروا ليلًا أو في السِّر. في أي وقت من ليل أو نهار. {يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}: يتأملون فيه، ويتفكرون في معناه. {اخْتِلَافًا كَثِيرًا}: تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه. التفسير 81 - {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ... } الآية. هذه الآية الكريمة، تحكى شأْنا آخر من شئون المنافقين. وهو إِعلانهم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم - حينما يكونون معه، فإذا انصرفوا من مجلسه، وذهبوا بعيدا عنه، دبر زعماؤُهم خفية في السِّر - في الليل أو النهار - مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ونقض الذي قالوه - بألسنتهم - في مجلسه، معتقدين أن هذا التدبير الخفي لن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وفاتهم أن الله يعلم كل ما يتآمرون عليه، وقد سجَّله عليهم، وأنه سيكشفه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيعاقبهم على هذا النفاق - في الآخرة - أشدَّ العقاب، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}:

وفي هذا - من التعنيف لهم، وبث الرعب في قلوبهم - ما لا يخفى. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: أي: فتوَلَّ عنهم - يا محمَّد - ولا تهتم بتدبيرهم وكيدهم، ولا تأْبَهْ بهم ولا بمؤَامراتهم، وفوض أمرك إلى الله - وحده - فهو يكفيك أمرهم، ويجنبك شرهم. وكفى بالله ولِيًا، وكفى بالله نصيرا: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). والأسلوب ظاهر الدلالة على تحقير شأْنهم، والاستهانة بمؤامراتم التي عصم الله - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم منها. وليس معنى التوكل على الله، أن يترك الإِنسان الأخذ بالأسباب. فهذا هو التواكل، وهو مذموم. وإِنما المراد به، الأخذ بالأَسباب مع تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه. 82 - {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}: تثبت هذه الآية: أن القرآن من عند الله، وتطالبهم أن يتدبروه بيقظة وانتباه، وتنكر عليهم عدم تفكرهم فيما فيه من موجبات الإِيمان به، وتحضهم على التأَمل فيه. والمعنى: أَيعرض هؤلاء المنافقون عن القرآن، فلا يتأَملون فيه، ليعلموا أَنه من عند الله؟!. فلو تدبروه وتبصروا ما اشتمل عليه من المعاني الصادقة، لأيقنوا أَنه من عند الله لا من عند غيره؛ لأَنه كتاب أُحْكِمَتْ آياتُه، لا عِوَجَ فيه. وهو فوق طاقة البشر أَجمعين. فأخباره كلها صادقة: سواءٌ ما يتناول منها الغابر السحيق، أو المستقبل البعيد، أَو ما كشف به كيد المنافقين. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}: أي: ولو كان هذا القرآن من كلام البشر: مؤَلفا من عندهم - كما كانوا يدعون حين قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬2) - لوجد الناس فيه تناقضا كثيرا. ذلك لأن طاقة البشر، لا تستطيع الإِتيان بهذا الكمال، في بيان العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، والإخبار الصادق عن الماضي والمستقبل، وعالَم الغيب، وما يجرى فيه ... كل ذلك في أُسلوب بديع متقن، بلغ الغاية في الكمال والتحدي. ¬

_ (¬1) الطلاق، من الآية: 3. (¬2) النحل، من الآية: 103.

إن العلوم التي تقوم على التجارب، قد تنقض اليوم، ما أبرمته بالأمس، وتهدم غدا ما بنته اليوم. أما القرآن الكريم، فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه كتابٌ أحكِمَت آياتُه؛ ولأنه تنزيل من حكيم حميد. والمعهود في كبار الأُدباء: أن تتفاوت آثارهم قوة وضعفًا، وَسُمُوًا وَضَعَةً. ولا يسلم أحد من هذا، وإن كان عبقري الموهبة، رائع البيان. وقد تناول النقد الأدبي هذه الظاهرة البشرية بالدراسة والتسجيل. أما القرآن الكريم، فجميع آياته طبقة عليا من البلاغة التي تفوق طاقات الإنس والجن، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}. المفردات: {أَمْرٌ}: خبرٌ عن سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم. {الْأَمْنِ}: النصر. {الْخَوْفِ}: الهزيمة. {أَذَاعُوا بِهِ}: نشروه وأَفشَوْه. {يَسْتَنْبِطُونَهُ}: يستخرجون حقائقه المستورة الخفية، ومقاصده البعيدة.

التفسير 83 - {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} الآية. كان المسلمون في جهاد دائم مع أعدائهم من الكفار واليهود. وطبيعة الجهاد تقتضي كتمان أخبار القتال، وصيانة أسراره، إذا ما أريد له النجاح، وبخاصة ما يستفيد منها الأعداءُ. ومن أخطر الأمور التي تضر بالمسلمين - وبجيشهم المقاتل - إذاعة ما يسمعه المرء من أخبار النصر أو الهزيمة، قبل أن يعرضه على أولِي الأمر. فإنهم - بوقوفهم على حقائق الأمور - أعلم بما إذا كان إفشاءُ هذه الأخبار مما يضر الصالح العام أَمْ لا. لهذا، فإِن الآية منهج عظيم، من مناهج تربية الشعوب الإِسلامية على الروح العسكرية، وتوجيهٌ لتلك الشعوب: أن يسوسوا أنفسهم ويروضوها على صيانة أخبار أمن الدولة، وكل ما يتعلق بالجانب العسكري من معلومات. ذلك لأن إفشاء أخبار الدولة، يسهل للعدو مهمة التجسس، ومعرفة مواطن الضعف والقوة لدى المسلمين، ويكشف عن عيوبهم. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}: فواجب كل مسلم أن يرد هذه الأخبار إلى أُولِي الحل والعقد من المسلمين. فإنهم هم الذين يستطيعون تقييم هذه الأخبار، وتقدير ما إذا كان من المصلحة العامة للدولة إِذاعتها أو كتمانها، حتى لا يحدث اضطراب في صفوف المسلمين. كذلك هم - باطلاعهم على خفايا الأمور - أعرف بصحة تلك الأخبار أو فسادها. وسواء كانت هذه الأخبار: التي كانوا يتلقونها فيذيعونها، متعلقه بالنصر أَو بالهزيمة؛ لأن أخبار النصر، قد تؤدي إلى التواكل والإهمال فلا يأخذ المسلمون حذرهم. وبهذا يكونون فريسة سهلة لأعدائهم. وأخبار الهزيمة قد تلقي الرعب في قلوب ضعفاء الإيمان، فتنهار الروح المعنوية. ولا يستطيع الجيش ملاقاة الأعداءِ. قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ

مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (¬1). وقد جاء في الحديث الشريف: "كفَى بالرء إثْما: أن يحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِع (¬2) ". من أَجل هذا، دعت الآية الكريمة المسلمين، ووجهتهم: أن يرجعوا فيما سمعوه من أخبار النصر أَو الهزيمة، إلى الرسول وإلى أولى الأمر من أَهل الحل والعقد، في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... }: والذين يستنبطون الحقائق، هم الذين يطلعون على خفايا الأمور. أو المراد بهم الذين رجعوا بهذه الأخبار - حينما سمعوها - إلى الرسول وأصحابه، فإنهم يعرفون - عن طريقهم - ما خفى عليهم أمره من هذه الأخبار. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}: هذا امتنان من الله تعالى، على عباده المؤمنين، بحفظهم من شر هذا السلوك الشائن، من المنافقين وضعفاءِ الإِيمان. حيث تفضل عليهم بالنصر، ورحمهم بالحفظ من تصديق ما يذيعه الأَعداء، وضعاف الإِيمانِ، وذوو الغفلة. أي لولا هذا الفضل وتلك الرحمة من لله بهذه الأمة. لضل الكثير من أبنائِها: باتباع سبيل الشيطان، ولكان مصيرها الضياع والانهزام، وضعف الثقة في النفوس. وعلى هذا، يكون المراد بالقلة في قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا}: القلة الممتازة من المسلمين بقوة العزيمة، وثبات الإيمان، فإنهم هم الذين يكونون بمنجاة من التأَثر بهذه الأخبار، فلا يصدقونها ولا يذيعونها. ويصح أَن يكون المراد بقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} إلا في قليل من أعمالكم. ¬

_ (¬1) الأحزاب، الآيتان: 60، 61. (¬2) أخرجه أبو داود والحاكم.

وبالتأمل فيما تضمنته الآية الكريمة من إرشادات حكيمة، يتضح أَن القرآن الكريم، قد سبق جميع النظم الحربية، في وضع أقوى الوسائل لمواجهة ما يسمى الآن: الحرب النفسية، أو حرب الأعصاب. وهي التي تدير الحرب العسكرية. {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}. المفردات: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}: لا تكلف إلا فعل نفسك. {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}: وحُثَّهم ورغِّبهم. {تَنْكِيلًا}: تعذيبا وإيلاما. التفسير 84 - {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ... } الآية. أمرٌ من الله بالقتال، مُفَرَّع على ما سبق، من بيان حال المنافقين وضعاف الإِيمان، وأَنهم مخذولون بإذاعتهم ما يسمعون، قبل التثبت من صحته. أمر من الله لرسوله - يشمل كل قائد، وكل قادر على القتال من المؤمنين المخلصين - عند إعلان النفير - أن يندفع ولو منفردا، إلى الجهاد في سبيل الله، فإنه غير مسئول في الجهاد إلا عن نفسه، وعن حض المؤمنين عليه، غير ملتفت إلى هؤُلاء المثبطين الذين يظهرون الطاعة، ويضمرون العصيان، ولا إلى من يذيعون الأخبار قبل التثبت من صحتها. أَو يصدقونها، فيتقاعدون - بسببها - عن القتال. ويفهم من الآية: أن على القائد أن يتقدم جندَه، وأن يضرب لهم المثل بنفسه عمليا -، وأن يُحَرِّضَ المؤمنين على الجهاد ويحثهم عليه.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}: لا ريب أن استعداد المؤمنين للقتال في سبيل الله، وإقدامهم عليه - بقوة وعزم وتصميم - يحقق الرَّجاء في أن يوهن الله عزم الكفار، ويضعف قوتهم، ويبدد شملهم. ذلك لأن استعداد المسلمين وتصميمهم، يحمل الكفار على التفكير والتروي، قبل مواجهة المسلمين، فيتوقفون عن قتالهم، ويكف الله بهذا عن المسلمين شر قوتهم، وشدة بأسهم. وأشعر قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}: بأن الكافرين - إذا لم تمنعهم قوة المسلمين واستعدادهم، وأقدموا على قتالهم - فإن الله سيتولى نصر المؤمنين وتأييدهم، ويمكنهم من التنكيل بأعدائهم، فإنه - سبحانه - أشد قوة من كل ذي قوة، وأشد تعذيبًا من كل قادر على التعذيب، وأَنه القدير عل إِيقاع العذاب الأليم بأعداء أَوليائه، وتمزيقهم شر تمزيق. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}. المفردات: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً}: الشفع في الأصل؛ الضم. ومنه الشُّفعة. وهي ضم ملك الشريك. ومن الشفع: الشفاعة: كأن المشفوع له كان فردا، فجعله الشفيع شفعا.

وتطلق الشفاعة على التوسط لإيصال شخص إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو خلوص من مضرة ما. {نَصِيبٌ}: النصيب، الحظ. وهو قابل للزيادة، وأكثر ما يستعمل في الخير. {كِفْلٌ}: الكفل؛ الوزر والإثم، أو المقدار المساوي، وأكثر ما يستعمل في الشر. {مُقِيتًا}: مقتدرا، أو حافظًا وشاهدا. {حَسِيبًا}: محاسبا ومجازيا، أو كافيا، أو حفيظا. التفسير 85 - {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ... } الآية. المراد منه: بيان أن من يسعى في أمر، فيترتب عليه خير - لفرد أو لجماعة - كان له نصيب من أجر ذلك الخير، الذي ترتب على سعيه. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}: أي: ومن يَسْع أمر، فيترتب عليه شر، كان عليه وزرٌ مِن ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه وشفاعته. وهذا عام في الأمرين. فيدخل في الأول التحريض على القتال في سبيل الله، فإن لمن يقوم به نصيبا من أجر المقاتلين، دون أَن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ويدخل في الثاني: التثبيط والتخذيل، وإذاعة الأخبار قبل عرضها على أولي الأمر، وإشاعة الأراجيف بين الناس، فإن على من يقوم بذلك وِزرًا مثل وِزْرِ القاعدين عن القتال بدون عذر: لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. والتعبير في جانب الحسنة بالنصيب، وفي جانب السيئة بالكفل لكثرة استعمال النصيب في الخير. وكثرة استعمال الكفل في الشر. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}: أي: وكان الله على تحقيق كل شيء من الأشياء مقتدرا. ومن ذلك قدرته على جزاء كل من المحسنين والمسيئين، بما يستحقونه من جزاء.

86 - {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}: من أقوى أسباب المودة والألفة، تبادلُ التحية بين الناس. وأصل التحية: الدعاءُ بالحياة وطولها. ثم استعملت في كل دعاء. وكانت العرب تقول عند لقاء بعضهم بعضا: حيَّاك الله. ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (¬1) وقال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬2). {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}: أي: وإذا سلَّم أحد المسلمين على فرد أو جماعة بقوله: السلام عليكم - وهو أقل ما يكفى في البدء بالسلام - فعلى من سُلِّم عليه أن يَرُدَّ التحية بأحسن منها. ويتحقق ذلك بقوله: وعليكم السلام ورحمة الله - وله أن يزيد بإِكمالها وهو: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وفي الآية: إرشاد حكيم، إلى آداب السلام، كي ننعم بآثاره النافعة في: جمع القلوب، وتوحيد الصفوف، وتأْمين الخائف. فأَمرتْ من حُيِّيَ بتحية: أن يرد على من حيَّاه بأحسن منها أو بمثلها. روى: أن رجالا قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبا على هذه التحية: "وعليك السلام ورحمة الله": وقال الآخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته". وقال الآخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: "وعليك". فقال الرجل: نقصتني، فأين ما قال الله - تعالى - وتلا الآية؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "إنك لم تترك لي فضلا. فرددت عليك مثله" كذا في تفسير أبي السعود. ¬

_ (¬1) يونس، الآية: 10. (¬2) النور، من الآية: 61.

والرد على تحية الإِسلام واجب. وإنما التخيير بين الزيادة وتركها. فعن ابن عباس، رضي الله عنهما: الرد واجب. وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه - إلا نزع الله منهم روح القدس، رردت عليه الملائكة. ولا يُرَدُّ على من سَلَّم: أثناءَ الخطبة، وتلاوة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند دراسة العلم، وعند الأَذان والإقامة. ولا يسلم على لاعب النرد، والشطرنج، والمغنِّي، والقاعد لقضاء حاجته، والعاري في الحمام. ويسلم الرجل على امرأَته، لا على الأَجنبية. والسُّنَّة: أن يُسَلِّمَ الماشي على القاعد، والراكبُ على الماشي، وراكبُ الفرس على على راكب الحمار، والصغيرُ على الكبير، والعددُ القليلُ على العدد الكثير. وإِذا التقيا بَادَرَ كُلٌّ منهما إلى إِلقاء السلام على صاحبه. وخيرُهما الذي يبدأُ. وعن النبي صلى الله عليه وسلم، "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". - أي وعليكم ما قلتم. حيث إِن بعضهم كان يقول. السَّامُ عليكم. وروى: "لا تبدأ اليهودِيَّ بالسلام. وإذا بدأك فقل: وعليك". وعن الحسن: أَنه يجوز أَن يقول للكافر: وعليك السلام دون الزيادة. ذكر هذه الأَنباء الثلاثة، أبو السعود في تفسيره. والسلام: معناه الأَمان، وفي بدء السلام ورده: أَمان للمُسَلِّم، ولمن سُلم عليه. فكأَن كل واحد منهما يؤمن صاحبه من شره، ويزيل الخوف من قلبه: ويؤْنسه بهذه التحية. وقد نهى القرآن عن نفى الإِيمان عمن أَلقى السلام إِلى المسلمين في قوله: { ... وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ... } (¬1). ونهى عن معاجلته بالقتال. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 94.

وقد وردت أحاديث كثيرة. تدعو إلى إفشاء السلام: منها: ما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، "لَا تَدخُلُوا الجَنَّةَ حَتى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، ألَا أدُلُّكُم عَلَى شَيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَاببْتُم؟ أفْشُوا السَّلامَ بَينَكُم". {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}: وختمت الآية بما يحرك وجدان المسلم نحو الامتثال، والمحافظة على ما يوطد روابط المحبة والمودة بين الناس، والحرص على إفشاء السلام، وعلى ما يملأُ القلب خوْفًا من الله وحَذَرًا من عقابه، إذ أفاد ذلك: أَن الله تعالى، سيحاسب الناس على كل ما يأتون ويذرون، على كل صغير وكبير، من الأعمال والأقوال. 87 - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}: أي: الله الواحد القادر على كل شيءٍ، الحسيب على كل شيء، هو الذي يجمع الناس - بعد قيامهم من قبورهم - يوم القيامة، ليجازي كلا بما قدمت يداه. وهذا الجمع لا ريب فيه، أَو هذا اليوم آت لا شك في مجيئه. وأسلوب الآية يؤَكد - بقوة - وقوع المحاسبة، ومجازاة كل بما يعمل. والمقصود، تحريض المسلمين على الالتزام بتنفيذ ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}: هذا إنكار أَن يتطرق إِلى النفوس غير الحقيقة التي تقررت في قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ... } الآية. إِذ الذي تحدث عن حتمية مجيء الحساب والجزاء، واليوم الذي يقعان فيه - هو الإله الذي لا يوجد حديث أصدق من حديثه، ولا محدث أصدق منه - وهو الله - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}؟!!.

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}. المفردات: {فِئَتَيْنِ}: فرقتين. {أَرْكَسَهُمْ}: ردَّهم إلى الكفر ونكَسَهم. {أَوْلِيَاءَ}: أعوانا ونصراءَ، توالونهم. {مِيثَاقٌ}: عهد. {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}: ضاقت صدورهم. {اعْتَزَلُوكُمْ}: تركوا قتالكم. {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}: وأَلقَوا إليكم الأنقيادَ والاستسلام.

التفسير 88 - {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ... } الآية. ذكر العلماءُ في سبب نزول هذه الآية: أن قوما قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظهرون الإِسلام، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا: يا رسول الله، نريد أن نخرج إلى الصحراء، فَأذَنْ لنا؛ فأذِن لهم. فلما خرجوا، لم يزالوا يرحلون مرحلة بعد مرحلة؛ حتى لحقوا بالمشركين. فتكلم المؤْمنون فيهم. فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا، لبَقوا معنا، وصبروا كما صبرنا. وقال قوم: هم مسلمون، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر، إلى أن يظهر أمرهم. وعن ابن عباس، وقتادة: أن قوما أظهروا الإِسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين. فاختلف المسلمون في شأنهم؛ فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية الكريمة: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}: والخطاب فيها: عام لجميع المؤمنين. والاستفهام: لإنكار مَا وقع من الخلاف في أمر هؤُلاء المنافقين، بعد أن رجعوا إلى المشركين، وأظهروا كفرهم، أو كانوا عونًا لهم على المؤمنين. والإنكار: مُوَجَّه إلى مَنْ كانوا يدافعون عنهم من المسلمين، وليس إلي جميع المخاطبين. والمعنى: لِمَ تختلفون في القول بكفر هؤُلاء المنافقين، وتفترقون في هذا الأمر فرقتين، وقد ردهم الله إلى الكفر، كما كانوا بسبب ما اقترفوه من الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديعته. أَو معاونة المشركين في إيذاء المسلمين بمكة - حيث بيتوا الشر وأَضمروا الردة؟! ظهر ذلك جليا، حينما رجعوا إلى مكة ولحقوا بالمشركين وأظهروا الكفر. أو حين أظهروا الإسلام بمكة بلسانهم، وكانوا - في واقع الأمر - عونا للمشركين علي المسلمين.

ليس لكم أَن تختلفوا فيه ... بل كان يجب عليكم - أيها المؤمنون - أَن تتفقوا على القطع بكفرهم؛ لظهور أدلة هذا الكفر، وذلك النفاق. لقد يسّر الله لِهؤُلاءِ المنافقين طريق الإيمان الصادق. ولكنهم تنكبوا الصراط المستقيم، وحادوا عن النهج السليم، واختاروا الضلالة على الهدى، فسلبهم الله معونته وتوفيقه، وردهم إلى الكفر بسبب ما عملوا: فكانوا في عداد الكافرين. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}؟! أَنكر هذا النص القرآني على هؤُلاء المدافعين: أن يجعلوا - في عداد المؤمنين - مَنِ اختاروا لأَنفسهم طريقَ الكفر، فلم ييسر الله لهم طريقا إلى الإِيمان، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وحيث توجه الإِنكار إلى إِرادة هؤُلاء المدافعين، فانتفاءُ قدرتهم على تحقيق الهداية لأُولئك المنافقين، آكَدُ وألْزَمُ. وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}: تقرير لنفي ذلك وتأكيد له. أَي ومَن سلب الله عنه معونته على الإِيمان. وتيسيرَ الوصولِ إِليه: فلن يستطيع أيُّ واحد من الناس أَن يجدَ له طريقا ما إِلى الهدى والرشاد. قال تعالى: { ... وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬1). 89 - {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. هذا القول الكريم، يبين للناس غُلُوَّ هؤُلاءِ المنافقين في الكفر، وتماديَهُم في الضلال. إذ لم يقفوا عند رجوعهم إِلى الكفر الذي ردَّهم الله إِليه، بسبب سوءِ أعمالهم - كما بينته الآية السابقة - بل أَحبوا أَن تكفروا - أَنتم - كفرا مثل كفرهم، وتمنَّوْا لكم إن تَضِلوا ضلالا مثل ضلالهم، فتكونوا - أَنتم وهم في الكفر والضلال - سواءً، على ¬

_ (¬1) الرعد، من الآية: 33.

عقيدة واحدة. فكيف تختلفون في القول بكفرهم، وتفترقون في الحكم بِرِدَّتِهِم، ويحاول بعضكم التماس المعاذير لهم؟! بعد أن بين الله - تعالى - للمؤْمنين كفر هؤُلاء المنافقين وشدة غلوهم في ذلك الكفر، شرح لهم كيفية التعامل معهم، فقال: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: والمعنى: إذا كان شأن هؤُلاءِ المنافقين ما قد عرفتم: ردة إلى الكفر. ومحبة منهم لإِضلال غيرهم، فلا يجعل أي واحد منكم لنفسه منهم نصيرا، حتى يَهْجُرُوا شعار الكفر إلى شعار الإيمان، ثم يتركرا دار الكفر إلى دار الإِسلام. لا لغرض من أَغراض الدنيا: وإنما طاعةً لأَمر الله، وفي سبيل الله، ويقطعوا ما بينهم وبين الكفار من صِلاتٍ، وينحازوا إلى صفوف المسلمين بقلوبهم، وواقع سلوكهم، فإِن هؤُلاءِ ليسوا معذورين بالخطإِ أو الغفلة: وإنما هم عامدون قاصدون، فلا يصح أَن يختلف المسلمون في أَمرهم. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}: أي: فإِن أعْرَضوا عن الإِيمان الصادق، والهجرة الصحيحة، والتمسك بالدين، ولزموا مواضعهم ولم يهجروا دار الكفر، وسائر ما نهى الله عنه - فذلك هو الدليل المادي على أَنهم لا يريدون إِلا الكيد والشر والبقاء على الكفر .. فَأْسِرُوهم إن قدرتم عليهم، واقتلوهم إذا تمكنتم منهم، في أي مكان تجدونهم فيه: دفعًا لشرهم، وردًّا لكيدهم. {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: أي: ولا تجعلوا منهم - في هذه الحالة - وليًّا يتولى شيئًا من مهام أموركم، ولا نصيرا تستنصرون به على أعدائكم. واقطعوا ما بينكم وبينهم من صلات. إذ العلاقات مع الخبيثين مداخل هادئة لتعشيش الكيد وتفريخه. وهذا الحكم ليس عاما في كل المنافقين. فلقد كان منهم من يعيشون بين ظهراني المسلمين: وإِنما هو خاص بهذه الفئة التي بدا منها التعبير العملي عن الخيانة والكيد والخديعة، وبكل من يكون على شاكلتها.

90 - {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ... } الآية. في الآية السابقة، أمر الله - تعالى - بقتل هؤُلاءِ الكفار الذين بدت منهم العداوة والخيانة والبغضاءُ. وفي هذه الآية الكريمة. استثناء طائفتين من القتل: الطائفة الأولى: بَيَّنَهَا القرآن الكريم في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}: وهم الذين يتصلون بقوم، بينكم أَيها المسلمون وبينهم عهد وميثاق. فإنهم لا يُقتَلُون ولا يؤسَرُون. والمعنى: أن من دخلوا في عهد قوم - بحلف أو جوار - بينكم وبينهم عهد وميثاق، كانوا أيضًا، داخلين في عهدكم أَيها المسلمون. فلهم حق الأمن من القتل أو الأَسر؛ لأن هذا العمل منهم - في ظاهره - يدل على ميلهم إلى عدم الخيانة والكيد، وعلى تمسكهم بالعهد الذي بينكم وبين مَن يحالفونهم. وهذا. ما دام الميثاق الذي بين المسلمين وبين هؤلاء القوم قائمًا: لم يُنْقَضْ بوجه من الوجوه. وهكذا، نرى الإِسلام - في وفائه وسماحته - يحترم العهود والمواثيق، ولو كان فيها حيف بالمسلمين كنا قبلناه وقت المعاهدة. كما حدث في صلح الحديبية. والطائفة الثانية: هي التي يقول الله - تعالى - في بيانها {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}: أي: هم الذين أَتَوْا إليكم: تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، ويتحرجون من قتالكم أَيها المسلمون، ومن قتال قومهم، فلا يريدون قتالكم، ولا يريدون قتال قومهم الذين يعادونكم ... فاختاروا موقف الحياد.

فهؤُلاءِ ليس للمسلين تسلُّط عليهم، وليس لهم سبيل إلى التحكم فيهم؛ لأن الله كف المسلمين عن قتالهم بما ألقى في قلوبهم من الميل إلى الموادعة. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}: أي: ولولا ذلك الذكر ألقاه الله في نفوسهم من الميل إلى الموادعة والرغبة في الحياد، لكانوا قوةً تضاف إلى قوة الأعداءِ، ويكون لها تأثيرها في إلحاق الأذى بكم أيها المسلمون، ومساعدة الأعداءِ عليكم، ولكن الله - بفضله ورحمته - صرفهم إلى اختيار موقف الحياد والموادعة: رحمة بالمؤمنين، وتخفيفا لضغط الكفار عليهم، وتقوية لجانبهم عند لقاء عدوهم. والمقصود من هذا: بيان أن الله مَنَّ على المسلمين بما تفضَّل به عليهم: من كف بأس هؤُلاء عنهم، باختيارهم الحياد والمسالمة. {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}: أي: وما دام هؤُلاء الذين جاءُوكم متحرجين من قتالكم وقتال قومهم، قد اختاروا العُزْلةَ وعدم القتال، وسَارعوا إلى السَّلْمِ، فليس لكم عليهم - أيها المسلمون - أيُّ سبيل أَو أَدنى تسلط. ذلك لأن الإِسلام يرحب - دائمًا - بكل بادرة تدعو إلى السلام، ما دام غير المسلين لا يعتدون. وما شُرِع القتالُ في الإِسلام،، إِلا لضرورة تأمين الحق، وصيانةِ العقيدة، وتعميم الخير.

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}. المفردات: {أُرْكِسُوا}: انقلبوا. {ثَقِفْتُمُوهُمْ}: وجدتموهم. {سُلْطَانًا مُبِينًا}: حجةً ظاهرة. التفسير 91 - {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... } الآية. ينبّه الله - سبحانه - المسلمين في هذه الآية الكريمة، إلى طائفة أُخرى من المنافقين يلقَوْنَ المسلمين بوجه، ويلقون كفارَ قومِهِم بوجهٍ آخر .. يقصدون بذلك أن يظفَرُوا بالأمن من الجانبين. وهذا الفريق من المنافقين لا يترك قتال المسلمين تحرُّجا، ولكن يتركه مراوغة لتحقيق مآربه. {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}: أي ستجدون - أيها المسلمون - جماعةً أخرى من المنافقين يسلكون طريقا ملتوية، - هي طريق المواجهة - إذا جاءُوكم أَسلموا وعاهدوكم، يريدون بذلك أن يظفَروا منكم بالأمن؛ ليحققوا مصالحهم لديكم .. فإذا رجعوا إلى قومهم، كفروا ونقضوا عهودهم معكم، وقصْدهم أن يفوزوا كذلك بالأمن من قومهم؛ ليقضُوا بذلك حاجاتِهِمْ، ويصلوا إِلى غاياتِهم عند قومهم أيضًا.

{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}: أي: كلما دعاهم قومُهُم إلى قتال المسلمين والكيد لهم، انقلبوا في فتنة القتال والكيد مع قومهم عليكم، معلنين - بذلك - عما أَضمروه في قلوبهم، كاشفين عن حقيقة أَمره. {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}: أي: فإِن لم يتجنب هؤُلاء قتالكم: ويطلبوا الصُّلْحَ معكم، ويَمُدُّوا يَدَ السلام والأمان إليكم، ويكُفُّوا شرهم وأذَاهم عنكم، ويقفوا موقف الحياد ويعلنوه - فخذوهم بالقوة أَسرى لديكم، واقتلوهم في أي مكان تدركونهم وتظفرون بهم عنده، لأَن هذا الصنف من المنافقين خطر: يجب القضاءُ عليه. إذ ليس هناك ما يدعوكم إلى أن تقفوا منهم موقف الأمان والاطمئنان، بعد أَن أعلنوا عداءَهم لكم، وأَظهروا ما تُكِنُّهُ صدورهم نحوكم. {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}: أي وهؤُلاءَ المنافقون: قد جعل الله لكم الحجة الواضحة عام جواز أخذهم وقتْلهم؛ بسبب ظهور عداوتهم لكم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر بكم، والخيانة والكيد لكم. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}.

المفردات: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: فَعِتْقُ رقبة. {يَصَّدَّقُوا}: يتصدقوا بالدية؛ بالتنازل عنها. {مِيثَاقٌ}: عهد. {خَالِدًا فِيهَا}: ماكثًا فيها زمنا طويلًا. التفسير 92 - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ... } الآية. بعد أَن بينت الآيات السابقة أُسس المعاملة بين المسلمين وغيرهم، وقد اتضح منها أن القتال شرع في الإِسلام لدفع الظلم، ورد العدوان في مختلف صوره، وتعميم الخير الذي جاء به الإِسلام لإسعاد بني البشر جميعًا، وأَن الأصل هو احترام دم الإنسان، - بعد هذا البيان - جاءَت هاتان الآيتان تقرران حكم وقوع القتل بين المؤمنين: بعضهم مع بعض. روى عروة بن الزبير: أَن حذيفة بن اليمان، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فأخطأ المسلمون، وظنوا أن أباه "اليمان" واحدٌ من الكفار، فأخذوه وضربوه بأسيافهم، وحذيفة يقول: إنه أبي ... فلم يفهموا قوله إِلا بعد أَن قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .. فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ازداد وقع حذيفة عنده. فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (¬1): أي: وما صح وما استقام لمؤمن صادق الإِيمان فيما أتاه. من ربه في شريعة الإسلام، أن يقتل إِنسانا مؤمنا بغير حق، إلا خطأً. لأن إيمان المؤمن زَاجِرٌ له عن ذلك، وربما وقع لأَنه احتراز عن الخطإِ، مما لا يكاد يدخل تحت الطاقة البشرية، فيكون الواجبُ ما بُيِّنَ في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}: أي: ومن وقع منه القتل الخطأ، فالواجب عليه في هذه الحالة، أَن يعتق نفسًا مومنةً، وأَن يؤَدي إلى ورثة القتيلِ ديةً: يقتسمونها كما يقتسمون الميراث. ¬

_ (¬1) رواه البخاري.

والدية: عوضٌ عن دم القتيل. وهي مائة من الإبل أَو قيمتها بالدراهم أَو الدنانير. وقد قدَّرها عمر - رضي الله عنه - بألف دينار على من يتعاملون بالذهب، واثنى عشر ألف درهم على من يتعاملون بالفضة. رَوَى أَبو داود عن عمر رضي الله عنه: على أهل الإِبل مائة بَدَنة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاء ألف شاة، وعلى أهل الحلل مائتا حلة. وتتحمل عشيرة القاتل عنه دفع الدية، فإن لم تكن له عاقلة، وجبت على بيت المال، فإن لم يكن فيه، وجبت في مال القاتل .. ولا تسقط هذه الدية. إلا في حالة تنازل أهل القتيل عنها. وهذا التنازل نوع من المعروف. وكل معروف صدقة؛ ولذا قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}: أي تجب الدية إلا أن يَعْفُوَ أهلُ القتيل بالتنازل عنها، وسُمِّيَ هذا التنازلُ صدقةً. حَثًّا لن يستحقون الدية على التنازل عن الديات، وتنبيها على فضل العفو. هذا إذا كان المقتول خطأ مؤمنًا: من قوم مؤمنين. {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}: أي: فإِن كان المقتول خطأً من قوم كفار معادين للمؤمنين - وهو مؤمن - فالواجب في هذه الحالة: عتق رقبة مؤمنة، وفِكَاكها من قيد الرق، وإطلاق حريتها: كفارة عن هذا القتل الخطأ. ولا دية ... لأنها تعود على أعداء المسلمين المحاربين. ولا يجوز أن يدفع المسلمون أموالهم إِلى عدوهم ليتقوى عليهم بسببها ويحاربهم بها. وفي تحرير النفس المؤمنة تعويض للمسلمين عن ذلك القتيل؛ لأن الرق غُلٌّ في عنق الرقيق: يمنعه من العمل النافع له وللمجتمع، من حيث إنه لا يملك نفسه، فكان في حكم الميت. وفي إطلاق حريته بالعتق إحياءٌ له. {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}: أي: وإِن كان المقتول خطأ، من قوم كفار بينكم - أَيها المسلمون - وبينهم عهد وميثاق، وليسوا أَعداءٌ لكم، فالواجب - في هذه الحالة - المبادرةُ بأداءِ ديةٍ تسلم إلى أَهل القتيل: تعويضًا عن دمه، كما يجب - كذلك - عتق نفس مؤمنة؛ لأن دماء هؤُلاء قد عُصِمت، بحكم ما بينهم وبين المسلمين من ذمة وميثاق.

وفي هذا القسم من أقسام القتل الخطإِ، لم يوصف المقتول بالإيمان أو الكفر، مما يشعر بأن وجود عهد وذمة بين المسلمين، يسوّى بين الجميع في الدية والفدية. وبذلك يرتفع الإِسلام إلى أعلى مستوًى من رعاية حقوق المعاهدين والذميين. وهو تشريعٌ في رعاية العهد وحرمة الدم، لا يسَامىَ أبدًا. وحرمة الدم الإنساني، واضحة في إيجاب عتق الرقيق في جميع حالات القتل، عَدَا العداوة والتحفز والكيد، الأمر الذي يهدر الدم معه، وإذا أُهدر الدم فلا حرمة له. وعتق الرقيق واجب إذا ملكه، أو ملك ما يوصله إليه. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}: أي: فمن لم يجد الرقيق بأن لم يملكه، ولا يملك ما يوصله إليه، بأن عجز عن ثمنه، أو عجز عن شرائه مع اليسار بثمنه، فالواجب على القاتل - في هذه الحالة - الانتقال إلى البدل: وهو صيام شهرين متتابعين: لا يقع بين أَيامهما إِفطار بغير عذر يبيح الفطر. {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}: أي: شرع الله هذا الصيام، رجاءَ قبول توبة القاتل؛ لأنه - بأَداء هذا الصوم - يقدِّم دليلًا - عمليًا - على صدق توبته ورجوعه إِلى ما أمر الله به من احترام الدماء، وتطهير نفسه بحبسها عن الشهوات شهرين متتابعين: يتوجه المرءُ فيهما إِلى الله، صادقا مخلصا في توبته من الذنوب والآثام. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}: أي: وكان الله - ولا يزال - عظيم العلم بما انطوت عليه النفوس، وأضمرته القلوب، في جميع الأحوال: بالغ الحكمة في كل ما شرعه من الأحكام. ومما تجدر الإشارة إليه: أَن العلماء اختلفوا فيمن عجز عن الصيام: فقال بعضهم: يجب عليه إِطعام ستين مسكينا، كما في كفارة الظهار. وإنما لم يذكر التكفير بالإطعام هنا؛ لأن هذا مقام تخويف وتهديد وتحذير، فلا يناسب أَن يذكر فيه الإطعام؛ لما فيه من التسهيل والترخيص.

وقال آخرون: لا يعدل إلى الإِطعام، لأنه لو كان واجبا، لما أخر بيانه عن وقت الحاجة. 93 - {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}: في الآية السابقة بيان حكم القتل الخطإ بأقسامه الثلاثة. وفي هذه الآية الكريمة بيان حكم القتل العمد في الآخرة. {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}: أي: ومن يقتل مؤمنا قاصدا قتله، فجزاؤُه الذي يستحقه على اقتراف تلك الجريمة الشنيعة، دخولُ جهنم ماكثا فيها مكثا طويلًا، إِلى أَن يشاءَ الله إِخراجه من النار فيخرجَه منها، إذ ليس المراد من الخلود هنا دوام البقاء في جهنم أبدا، فإِن الخلود فيها أَبدا، جزاءُ الكافرين. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ}: أي وانتقم الله منه، وأبعده سبحانه عن رحمته. {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}: أي: وقد هيأ الله في جهنم لمن تَعَمَّدَ قَتْلَ المؤمنِ، عذابًا رهيبا، لا يدرك الإِنسان غايته؛ لشدة بشاعته. وفي هذه الآية تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن يجترئون على سفك دماءِ المسلمين بغير حق. وقد تأيد هذا الوعيد، بأخبار كثيرة، رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم. منها: ما أخرجه الأمام أَحمد والنَّسائي، عن البراء بن عازب: أَن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، أَهوَنُ عِندَ اللهِ - تَعالى - مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ .. وَلَوْ أنَّ أهْلَ سَماواتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤْمِنٍ، لأدخَلَهُمُ اللهُ تَعَالى، النَّار". ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد، على قتل النفس التي حَرَّمَ الله قتلها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}. المفردات: {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: سافرتم للغَزْوِ. {فَتَبَيَّنُوا}: فاطلبوا بيان الأمر والكشف عنه وتَثَبَّتُوا. {أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ}: حَيَّاكم بتحية الإِسلام. {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: تطلبون متاعها الزائل، ونعيمها الفاني: من مال وغيره. التفسير 94 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... } الآية. بعد أن بينت الآيتان السابقتان - حكم القتل بقسميه، وأَن أَقصى ما يُتصور صدورُه عن المؤمن، إنما هو القتل الخطأ - جاءَت هذه الآية، تحذر مما يقود إليه من التهاون وقلة المبالاة في الأمور. روى البخاري، والترمذي، والحاكم، وغيرهم، عن ابن عباس قال: مَرَّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو يسوق غَنما له: فسلَّم عليهم. فقالوا: ما سلَّمَ علينا إلا ليتعوَّذ مِنَّا: فعمَدوا إِليه فقتلوه: وأتَوا بغنمه النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.

وهناك روايات أخرى بهذا المعنى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... } الآية. أي إذا سرتم في الأرض مسرعين للجهاد في سبيل الله، فتبينوا الأمر، وابحثوا عن الحقيقة في كل ما تأتون وتذرون، وتثبتوا من حال من تقاتلونهم. {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}: أي: ولا تقولوا - بغير تثبت وتأمل لمن حياكم بتحية الإِسلام - لست مؤمنا، وأنك إنما قلت ذلك: طلبا للنجاة بنفسك ومالك، ولست مخلصا في إسلامك. {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أي: تقصدون بقولكم هذا: طلب ماله وأخذه، وهو - وإن كثر - متاع قليل زائل. وكذلك كل ما في الدنيا. {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}: أي: لا تبتغوا المال بما قلتموه لمن حياكم بتحية الإِسلام، ولا تلتفتوا إلى العرَض الزائل؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - عنده الثواب الجزيل، والأجر العظيم. وخير الله عميم، ومغانمه كثيرة: يمُنُّ عليكم بها، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتم، إن كنتم تريدون خيرا ومغنما. {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}: أي: وقد كنتم من قبل - في بدءِ إسلامكم - لا يظهر منكم للناس غَيْرُ ما ظهر من هذا الذي يأمركم الله بقبول ما ألقاه إليكم، من تحية الإِسلام ونحوها. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: بأن قَبِل منكم هذا الظاهر، وعُصِمَتْ به دماؤُكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفتيش عما في قلوبكم، حتى شاع إسلامكُم بين الناس، وأكرمَكُم الله به. {فَتَبَيَّنُوا}: أي: إِذا كان الأمر كذلك، فاطلبوا بيان الحال، وتَدَبَّرُوا الأَمر، وقِيسوا حال هذا الذي ألْقَى إليكم تحية الإسلام بحالكم من قبل، وافعلوا معه ما فُعِلَ بكم في أَول أَمركم، من قبول ظاهر الأمر، من غير تنقيب عن السرائر ... وتأَملوا .. أهل كان يرضيكم أن يقع بكم مثلُ الذي تريدون أَن توقعوه بِمَنْ أَلْقَى إليكم السلام؟

لا ريب أَن جوابكم يكون: لا ... وأن ظاهر الحال كافٍ في عصمة الدم والمال. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: فيعلم ما تخبئه النفوس وتضمره القلوب، وبواعِثَهَا على العمل، وغاياتِها التي لا تنكشف للناس. ولا ينبغي للمسلمين: أَن يجعلوا عَرَض الحياة الدنيا غايتَهم من الجهاد، إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله. {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}. المفردات: {الْقَاعِدُونَ}: المتخلفون عن الجهاد. {أُولِي الضَّرَرِ}: أصحاب الأمراض والعاهات. التفسير 95 - {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... } الآية. بعد أن أمر الله المؤمنين بالجهاد وحرضهم عليه، وذكر من أحكامه تحذيرَ المؤمنِ مِن قَتْلِ أخيه المؤمن، وبيّن أَحكامَ قتلِهِ - أتبعه بيانَ حكمٍ آخر: هو بيان فضل المجاهد على غيره؛ ليهتز له القاعد عنه، رغبةً في الحصول على فضله العظيم.

أخرج البخاري، عن زيد بن ثابت، قال: "أَمْلى عَليَّ رَسولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وسلم: (لَا يَستَوِى القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ) قال: فجاءَه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، فقال: يا رسول الله: لو أَستطيع الجهاد لجاهدت - وكان رجلًا أَعمى - فأنزل الله تبارك وتعالى، على رسوله صلى الله عليه وسلم - وفخذه على فخذي، فثقلت عَلَيَّ، حتى خِفت أَن ترض فخذى - ثم سُرِّي عنه. فأَنزل الله عز وجل - {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ". وفي رواية البراء بن عازب. فأنزل الله - عز وجل - {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}. والمعنى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}. أي: لا يستوي المتخلفون من المؤمنين الأصحاءِ، الذين قعدوا عن الخروج للجهاد، بدون عذر من مرض أو غير ذلك: من فقد السلاح، وما يُحْمَلون عليه - لا يستوي هؤلاء والذين خرجوا للجهاد في سبيل الله: بأموالهم وأنفسهم، في الأجر والثواب، وعلوِّ الدرجة عند الله تعالي. وكيف يستوي من تخلَّف - بدون أعذار - مع الذين أَنفقوا أموالهم فيما يُضعِف قوةَ الكافرين، ويذهب شوكَتَهُم، ويوهِن كيدَهم، وبذلوا في القتال أَرواحهم: راضين صابرين؛ لتكون كلمةُ الله هي العليا، وكلمةُ الذين كفورا السفلى؟! ولما بين الله تعالى، أن المجاهِدِين والقاعِدين لا يستويان .. ولما كان عدم المساواة يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان - دفع النصُّ القرآني احتمال النقصان، بقوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}: فالمراد بهذا: تفصيلُ ما بين الفريقين من التفاضل، حيث بين الله بذلك أَن بَذلَ الأَموالِ والأَنفس في سبيل الله، لإِعلاء كلمة الحق، ابتغاءَ مرضاة الله، سببٌ في تفضيل المجاهدين من المؤمنين على الذين قعدوا عن الجهاد، وتخلفوا عن البذل والإِنفاق بغير عذر، درجةً عظيمةً، لا يعلم قدرها إِلا الله. {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}: أي وكلا من فريقي المجاهدين والقاعدين من المؤمنين، وعده الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة. لتحقُّقِ الإِيمانِ الصادق فيهما.

ومحل هذا، إِذا لم يكن النفير عاما، وكان التخلف لا يضر الجبهة المقاتلة من المسلمين، بأن كان فيمن خرجوا للقتال كفايةٌ للقاء العدو لإنزال الهزيمة به. وذلك ما لم توضع نظم تجعل التجنيد إجباريا. أما مع وجود هذه النظم، كالذي يجري عليه العمل في الدول الإِسلامية اليوم، فإنه حينئذ، لا يحل لأحد أَن يتخلف عن دوره، وإلا كان متخلفا عن الزحف لقتال الأعداء. والمتخلف عن الزحف: مرتكب أشد الكبائر، معاقَبٌ عند الله أشد العقاب. وللحاكم أن يعزره بما يردعُ سواه من التعازير الشروعة. {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}: كان تفضيل المجاهدين بهذا الأجر العظيم - زيادة على القاعدين من غير أولى الضرر - إكرامًا من الله لهم؛ لِمُسَارَعَتِهم إلى الجهاد، وبذْلهم أموالَهم وأنفسَهم في سبيل الله: راضين مغتبطين. وفيه من تأْكيد أجر المقاتلين ما لا يخفى. وقد بين الله سبحانه - هذا الأجر العظيم، بقوله تعالى: 96 - {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ... } الآية. أي منازل عظيمةً لا يُحيط الوصف بفخامتها وجلال قدرها من عند الله .. تفضَّل الله على المجاهدين بها، لِمَا صدقوا في الجهاد. ومغفرةً لهم من الذنوب، ورحمةً يحيطهم الله بها، ويحفظهم بشمولها؛ لأن المسلم - دائما - في حاجة شديدة إلى مغفرة عظيمة من الله، ينجو بها، ورحمةٍ واسعة يَسْبَحُ في رحابها. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: أي وكان الله - ولا يزال على الدوام - عظيمَ الغفران لذنوب عباده، واسعَ الرحمة بكل شيء. فلا تزهوا أيها المجاهدون بما بذلتم من أَنفس وأموال في سبيل الله. ولا تنسَوا أن الفضل كلَّه من الله.

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}. المفردات: {مُسْتَضْعَفِينَ}: عاجزين عن القيام بما وجب عليهم. {وَالْوِلْدَانِ}: الصغار أَو المراهقين أو الأرقاءِ. {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}: لا يجدون سببا موصلا إلى الغرض. التفسير 97 - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... } الآية. هذه الآيات بيان لحال الذين قعدوا عن الهجرة، وآثروا البقاءَ في دار الكفر. جاءت إثر بيان حال الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، وقعدوا عن القتال في سبيل الله. عن عكرمة مولى ابن عباس. قال: "أَخبرني ابنُ عباس: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يُرمى فيصيب أحدَهم فيقتله، أَو يُضْرَبُ فَيُقْتل. فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... } الآية". أخرجه البخاري. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}: أي إِن الذين أسلموا، وآثروا البقاء بين ظهراني المشركين في دار الكفر، وتحملوا الذل والهوان والقهر - وهم

قادرون على التخلص مما هم فيه - من كبت وإِذلال - بالهجرة إلى بلد يأمنون فيه على دينهم وأموالهم وأنفسهم - إنَّ هؤُلاءِ تقبض الملائكة - أي ملك الموت وأعوانه - أَرواحهم بإذن الله، عند انتهاءِ آجالهم، في حال ظلمهم أَنفسَهُم، باختيارهم الاستكانة والهوانَ، مع قدرتهم على دفع الظلم بترك مساكنهم. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}: أي تقول لهم الملائكة - تقريعا وتوبيخا حين تقبض أرواحهم -: في أي شيء كنتم من أَمر دينكم؟ هذا الدين الذي يأمر المسلمَ أن يكون - دائمًا - مع الجماعة: يعيش مرفوع الرأْس في عزة وكرامة، ولا يرضى له أن يكون خفيف الجناح، في خسة ومهانة. {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}: أي قالوا جوابا عن هذا السؤَال الذي يفيض بالتبكيت والإِيلام. إذ معناه: أَنكم لم تكونوا في شيء من أمر دينكم، حين أَقمتم بدار الكفر، وأنتم قادرون على الهجرة منها .. قالوا - معتذرين في وقت لا ينفع فيه الاعتذار -: كنا نعيش مقهورين تحت أيدي الكفار بأرض مكة بسبب ضعفنا. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}: أي تقول الملائكة - في ردهم لهذا الاعتذار وعدم قبوله منهم، وإنكارا لتحملهم إذلال الكفار إياهم -: إنكم كنتم قادرين على الهجرة: إلى مكان تستطيعون إقامة دينكم فيه، واللحاق بإخوانكم المهاجرين والانضمام إلى صفوفهم، ليزدادوا بكم قوة ومنعة، فبقيتم بين الكفار، لا عجزًا عن مفارقتهم، بل كان في وسعكم ترك ديارهم، ولكنكم لم تفعلوا. فكان جزاؤكم ما بينه الله في قوله: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}: أي فجزاءُ هؤُلاءِ الذين تخلفوا عن الهجرة: أَن يقيموا في جهنم ويستقروا فيها: هي مأواهم ومصيرهم، وبئس هذا المأوى، وذلك المصير. 98 - {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}:

بعد أَن بينت الآية السابقة وعيد مَن كانوا يستطيعون الهجرة وتخلفوا عنها، جاءَت هذه الآية الكريمة، تستثني من هذا الوعيد: الذين لا يستطيعون ذلك. فقالت: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}: أي لكن الضعفاء من الرجال الذين لا يقدرون فعلا على المقاومة، ولا على دفع الظلم والفساد - وكذلك النساءُ والصغار - ممن {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}: أي لا يجدون وسيلة تخلصهم مما هم فيه من القهر والذل، ولا يعرفون طريقا يستطيعون سلوكه للنجاة مما يلاقون في دار الكفر من ذل وهوان. 99 - {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}: أي فهؤلاء المستضعفون، لا شيء عليهم، ولا تثريب في عدم هجرتهم، ولهم أي يطمعوا في عفو الله، ويتطلعوا إلى رحمته؛ لأنه كثير العفو، واسع المغفرة. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)}. المفردات: {مُرَاغَمًا}: متحولا يتحول إليه: ومكانا يتنقل فيه. {وَسَعَةً}: السعة؛ البسطة في العيش، والزيادة في الرزق. {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}: أي ثبت ثوابه عنده. التفسير 100 - {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ... } الآية. كانت الآيات السابقة في تحذير المسلمين من القعود عن الهجرة. من مكة عند القدرة عليها، وبعث الرجاء في نفوس المستضعفين بأن الله سيعفو عنهم.

وهذه الآية جاءَت بعدها؛ للترغيب في تلك الهجرة: ببيان ثوابها ومنزلتها عند الله تعالى. وكونها طريقا للنصر. وإذلال الأعداءِ، وبابًا واسعا للرزق. وذلك جريًا عام عادة القرآنِ الكريم: من الجمع بين الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. سبب النزول: لما نزلت الآيات السابقة في التحذير من القُعُود عن الهجرة؛ خرج ضمرة بن جندب مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أَن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. أورده ابن كثير، عن ابن عباس. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}: أي: ومن يعمد إلى مثل تلك الهجرة - في سبيل إِعلاء كلمة الله، والمحافظة على دينه - يجد في الأرض متسعًا لهجرته، ورحابًا فسيحة: يستطيع التنقل فيها، والتحول إليها، والاستمتاع بخيراتها. واتخاذ الموقع المناسب لضرب الأعداءِ والنجاة من شرهم. وفي ذلك ما فيه من الإِهانة لهم، وإرغام أُنوفهم. كما يجد - إلى جانب ذلك - سعة في الرزق، وبسطة في العيش ... فلا عذر لأَحد من الأقوياء في القعود عن الهجرة والبقاءِ في دار الكفر: مكتومَ الأَنفاس، متعرضا لأذى الكفار قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (¬1). وليست الهجرة - بصفة عامة - للهرب من العدو، وإِنما هي ضرب من الجهاد، للقضاءِ على سيطرة الأعداءِ، وتحولٌ من موقع إِلى موقع آخر: يمكن منه ضرب العدو، وإلحاق الأذى والذل به، والتمكن من إِقامة شعائر الدين في حرية وطلاقة. فهي في الأَصل: الانتقال من مكان إلى مكان. والمراد بها: الهجرة من أَرض الكفر إلى أي مكان يأمن فيه الإِنسان على نفسه وماله ودينه. ¬

_ (¬1) العنكبوت، الآية: 56.

وقد هاجر بعض المسلمين - في أول الإِسلام - إلى الحبشة. ثم كانت الهجرة بعد ذلك من مكة إِلى المدينة. وكانت واجبةً قبل فتح مكة. وهي التي نزلت فيها آيات الترغيب والترهيب. ولما تم فتح مكة، واستقر الأَمر فيها للمسلمين، وأَعز الله فيها الإِسلام، لم تعد هناك حاجة إِلى الهجرة من مكة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" (¬1). وتشمل الهجرة بالمعنى العام: الهجرة في طلب العلم، والهجرة في طلب الرزق، والهجرة في نشر الدعوة الإِسلامية في البلاد التي لم تصلها أو التي هي في حاجة إِليها. وكلها مما رغب الله فيه. وقد تطلق الهجرة على هجر الذنوب والمعاصي، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬2). هذا، وقد تكفل الله تعالى، في هذه الآية الكريمة، بثواب الهجرة كاملا لمن خرج من بيته بنيّة الهجرة: لا يريد بذلك إلا وجه الله واللحاق برسول الله، ثم حلَّ به الموت قبل أَن يصل إلى مقصده، وإِن أَدركه أمام باب داره التي خرج منها. فقال جل شأنه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: أي لإِعلاءِ كلمة الله، فهي ضرب من الجهاد. {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}: أي يلحقه، وينزل به قبل أن يبلغ مقصده: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}: أي ثبت ثوابه عنده، وكان في ضمانه تعالى بمقتضى وعده وتفضله. ¬

_ (¬1) رواه البخارى في الحج والجهاد. (¬2) رواه البخارى وغيره.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}: أي كان - ولا يزال - عظيم المغفرة لما فرط من الذنوب، التي من جملتها: القعود عن الهجرة من غير عذر إلى وقت الخروج إليها. {رَحِيمًا}: كثير الرحمة بعباده حيث قبل توبتهم، وغفر ذنوبهم. فهذه الآية الكريمة: تطمئن المهاجر على رزقه في مهجره، حتى لا يتقاعس عن الهجرة، فترفع عنه جميع الأعباء، وتفتح له سُبُلَ السعادة في الدنيا، وتعده بعظيم الثواب في الآخرة، حتى لو حال الموت بينه وبين ما يتمناه: من إتمام الهجرة في سبيل الله، بعد أن شرع فيها. {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}. المفردات: {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}: سافرتم. {جُنَاحٌ}: حَرَج وإثْم. {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}: أن تخففوها من رباعية إلى ثنائية. {يَفْتِنَكُمُ}: يتعرض لكم بما تكرهون من الإغارة عليكم أثناء الصلاة. التفسير 101 - {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... } الآية. بعد أن رغَّبت الآية السابقة في الهجرة - وهي مبنية على السفر والخوف من العدو - جاءَت هذه الآية تبين كيفية الصلاة في السفر، وفي حال الخوف من العدو: من جواز قصرها، دفعا للمشقة، وتفضلا من الله على عباده.

والكلام عن الصلاة في هذا الموطن؛ للدلالة على أَنها وسائل الأمن عند الخوف، وعلى عظم شأنها، وبيان أنها لا تسقط بحال من الأحوال. والمعنى: وإذا سافرتم في الأرض - أيها المسلمون -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}: حَرَج وإثْم. {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}: فتصلوا الرباعية - وهي الظهر والعصر والعشاءُ - ركعتين .. أما الصبح فلا تقبل القصر؛ لأنها قصيرة بطبيعتها، وكذلك المغرب لا تقبل القصر، لأنها وتر النهار. وظاهر الآية: إباحة القصر لمطلق السفر، طال أم قصر. . ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد مسافة القصر ومدته، كما اشترط بعضهم أن يكون سفرا مباحا .. وتفصيل ذلك في موضعه من كتب الفقه. وظاهر قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: اشتراط الخوف في السفر في جواز القصر. ولكن السنّة النبوية، بينت أنه يجوز القصر في السفر مع الأمن، كما يجوز فيه عند الخوف. وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم جوابا لمن سأله عن القصر حالة الأمن: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيكُم فَاقْبَلوا صَدَقَتَهُ" (¬1) وقد بيّن الله سبب الترخيص - في القصر في السفر - عند الخوف من العدو بقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}: أي كانوا لكم أعداءً ظاهري العداوة، مجاهرين بها. فتنبهوا لعداوتم واحذروها، وكونوا متيقظين لهم في الصلاة وغيرها. ¬

_ (¬1) كتاب سبل السلام (باب القصر) أول حديث فيه.

{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)}. المفردات: {طَائِفَةٌ}: جماعة. {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ}: وليكونوا متيقظين للعدو، محترسين منه. {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ}: فيهجمون عليكم. {مَيْلَةً وَاحِدَةً}: هجمة واحدة يقضون بها عليكم، فلا يحتاجون بعدها إلى هجمة أخرى. التفسير 102 - {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ... } الآية. لما بيّن الله حكم القصر في السفر عند الخوف، عقّبه ببيان كيفية صلاة الخوف. سبب النزول: روى الدارقطني، عن أَبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة،

فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر. فقالوا: لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم صلاة هي أَحب إليهم من أبنائهم وأَنفسهم، قال: فنزل جبريل عليه السلام - بهذه الآية بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1). ومعنى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: وإِذا أردت أن تصلِّيَ بهم إِماما، فلتصل طائفة منهم معك، بعد أن تجعلهم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى تُجاه العدو لمراقبته وحراسة المسلمين منه. {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}: أي ولتأخذ الطائفة التي تصلي معك أسلحتهم، ليتقوا بها العدو عند المفاجأة، {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: أي فإِذا فرغت الطائفة التي تصلي معك من سجود الركعة الأُولى، فلينصرفوا للحراسة خلفكم. {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}: أي: ولتأت الطائفة الأخرى التي كانت في مواجهة العدو للحراسة والمراقبة، والتي لم تُصلّ بعد، فليصلوا معك الركعة الثانية، وهي الأولى لهم. {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}: أي: يجب أن يكونوا دائما متيقظين لمخادعات العدو، وليأخذوا أَسلحتهم معهم ليتقوه بها إن بادءُوهم؛ لأن الأعداءَ يتمنون أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم، فيحملوا عليكم حملة واحدة: منتهزين فرصة انشغالهم بالصلاة. كما قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}: والأمتعة ما يتمتع به المحارب من لوازمه في السفر. والأمر هنا: للوجوب، لقوله تعالى بعده: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}: ¬

_ (¬1) رواه أحمد، وأصحاب السنن، واللفظ لأحمد.

أي: لا إثم عليكم في أنْ تتركوا أسلحتكم عندما يكون بكم تَأَذٍّ من المطر أو المرض. وهذه الرخصة لا تعطَى إِلا في حال العذر الذي بينه الله في الآية في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}: أي كونوا على حذر دائما، وبخاصة في تلك الحالة التي وضعتم فيها أسلحتكم. {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}: يهينهم ويخزيهم ويذلهم، يتحقق بعضه على أيديكم بالنصر عليهم. إِذا اتبعتم النصيحة، ونهضتم بالتكاليف، وكنتم دائما على صلة باللهِ، وفي موقف اليقظة والاستعداد بما تستطيعون من قوة، ويتحقق بعضه الآخر بالعذاب الذي يلاقونه يوم القيامة من الله بسبب كفرهم ومحاربتهم أولياءَه. فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب. هذا نموذج من نماذج تأدية الصلاة في الميدان حين التربص والتهيؤ. وقد دلت الآية على أهمية الصلاة وضرورتها، وما للجاعة فيها من ميزة ومنزلة، حتى في أَشد حالات الخوف. فالصلاة هي المدد الروحي الحافز للعزائم على النصر، إذ هي صلة باللهِ رب العالمين، القادر على كل شيء. وهو مالك الأسباب جميعها للنصر وغيره. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬1). فعلى المسلمين أن يحرصوا على أداء الصلوات استدرارًا لِعَونِ الله. وفي الحروب الحديثة عليهم تأدية الصلاة بالكيفية التي تناسب وضعهم من العدو، بحيث لا يعرض أَمنهم للخطر. وقد بين الشرع طريقتها في كل حال. ومنها: أَنه إِذا التحم الجيشان، فللجندي أن يصلي مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وعلى أية كيفية ممكنه ولو بالإِيماءِ. وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬2). ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 126. (¬2) البقرة، من الآية: 239.

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}. التفسير 103 - {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ ... } الآية. أي: فإِذا أَديتموها على هذا النحو. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}: يأمر الله - تعالى - بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف - وإن كان ذلك مشروعا فيه بعد غيرها أَيضا - ولكن ها هنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في أَركانها، ومن الرخصة في الحركات الكثيرة التي لا تباح في غيرها - وكما يذكرونه بألسنتهم يذكرونه بقلوبهم. {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}: أي سكنت قلوبكم من الخوف، وأَمنتم بعدما وضعت الحرب أَوزارها. {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: أي أَدوها بأَركانها وشروطها كاملة في مواقيتها. {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}: أَي أقيموها كذلك؛ لأَنها كانت في حكم الله، ولا زالت مكتوبة مفروضة محددة الأَوقات؛ لا يجوز إِخراجها عن أَوقاتها في أَمن. {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}.

التفسير 104 - {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ... } الآية. أي: لا تضعفوا ولا تتوانَوْا في طلب الكفار أَهل الحرب. لقتالهم؛ لأنكم {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}: فليست الآلام مختصةً بكم. بل هي أَمر مشترك بينكم وبينهم. وتزيدون عليهم: أَنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى فيما لا يخطر لهم ببال. من نصر دينه الذي أمركم بالجهاد في سبيله. ومن الثواب الجزيل. والنعيم المقيم في الآخرة. فأَنتم تنصرون الله وهو معكم على عدوكم. ومن كان الله معه فهو من المنتصرين. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}: عظيم العلم بكل شيء، فيعلم ما فيه مصلحتكم في دنياكم وأخراكم: عظيم الحكمة فيما يأمركم به وينهاكم عنه. فجدوا في الامتثال لأَمره؛ فإن عواقب الامتثال حميدة. {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}.

المفردات: {خَصِيمًا}: مجادلا، ومدافعا. {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ}: يخونونها بالظلم والشر، لأَن وَبَالَ ذلك يعود عليها. {يُبَيِّتُونَ}: يدبّرون خفية. التفسير 105 - {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}: كانت الآيات السابقة. متعلقةً بقتال الأَعداءِ ومجاهدة الكفار، وما يتعلق بذلك من أحكام. فأَتبعها الله تعالى هذه الآيات الدالة على التزام الحق - حتى مع الأعداء - لئلا يُتوهم أَن عداوة الكفار تبيح الخروج عن دائرة الحق. وفي ذلك من الدلالة على سموّ مباديء الإِسلام وعدالته المطلقة ما فيه. سبب النزول: روى ابن مردويه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أَن نفرا من الأنصار غَزَوْا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... } (¬1) الآية. فالله يذكر نبيه عليه الصلاة والسلام، وينبهه إِلى مهمته الأصلية. وهي أن يحكم بين الناس بما أرشده الله إليه. وذلك بأن يسوي بينهم على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم. كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ... } (¬2). المعنى: يقول الله لهذا النبي الكريم: إِنا أَنزلنا إِليك القرآن الكريم ناطقا بالحق، داعيا إليه وإِلى التمسك به، لتحكم بين الناس على اختلاف عقائدهم. بما عرفك الله وأَوحى به إليك. ولا تكن مجادلًا عن الخائنين، فينتصروا على البرءَاءِ. ¬

_ (¬1) ابن كثير 1/ 551. (¬2) المائدة من الآية: 8.

106 - {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: واستغفر الله للمذنبين من أُمتك، فلعل الله أَن يغفر لهم - فإِنه واسع المغفرة، كثير الرحمة يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. 107 - {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... } الآية. أي: تدافع عن الذين يخونون أَنفسهم؛ بارتكابهم المعاصي والآثام، وادعائهم للبراءة منها؛ كذبًا وزورا. والمقصود بهم هنا: بنو أُبيرق، الذين نزلت فيهم الآية (¬1)، ومَنْ على شاكلتهم. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}: أي: لا يرضى عمن يكثرون من الخيانة والإِثم. بارتكاب المعاصي وانتهاك محارم الله، واتهام غيرهم بها بهتانًا وزورا. 108 - {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ... } الآية. المعنى: يستترون من الناس، مخافة أَن يظهروا أَمامهم بالإِثم ويُعْرَفوا به، ويلامُوا عليه. ولا يستحيُون من الله: حين يبيتون ما لا يرضى من القول: عن اتهام البريء، والحلف الكاذب. وشهادة الزور. وذلك حين عزموا على اتهام من لا يدين بالإِسلام، وتبرئة المسلم، ودبروا ذلك، مع أَنه تعالى معهم بعلمه: يعرف أَسرارهم، ويجزيهم عليها، فهو أحق بأن يُسْتَحيَا منه. والتعبير عن عدم استحيائهم من الله بالاستخفاءِ منه، جرى على أسلوب المشاكلة للعبارة السابقة المتعلقة بالبشر. وهو أسلوب بلاغي معروف. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}: أي: وكان الله - بجميع أَعمالهم - عليمًا شامل العلم. فلا تخفى عليه خلجات نفوسهم، وخفايا أَسرارهم. وسوف يجازيهم على أَعمالهم. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وغيره.

109 - {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } الآية. خطاب للمدافعين عن طعمة بن أُبيرق ومن شاركه في جريمته. {جَادَلْتُمْ}: دافعتم {عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: محاولين تبرئتهم مما اتهموا به عن خيانة، حتى لا تطبَّقَ عليهم عقوبةٌ، ولا يُلْصَق بهم عار، واتهمتم بريئا لم يجن شيئًا. {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: ليدفع عنهم، يوم لا يكتمون الله حديثا، وتشهد عليهم ألسنتُهم وأَيديهم وأَرجلهم - وجميع جوارحهم - بما عملوا في الدنيا. {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}: بل من يكون وكيلا عليهم. يتحمل تبعاتِ جرائمهم. والمعنى: لا أَحد يقول بأمرهم إذا أَخذهم الله بعذابه. والمراد: بيان أَنهم أن استطاعوا خداع الحكام في الدنيا، فإنهم لن يستطيعوا أن يخدعوا الله، ولا أَن يُفْلِتوا من عقابه يوم القيامة. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}.

المفردات: {بُهْتَانًا}: البهتان؛ أَفحش الكذب. {خَطِيئَةً}: صغيرة. {إِثْمًا}: أي كبيرة. التفسير 110 - {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}: خلال الحديث عن أصول العدالة والمسئولية الفردية، يشير القرآن الكريم، إِلى المبدإِ الإِسلامي الذي يساير الحق والمنطق. وهو: أَن خطيئة البشر ليست لعنة أَبدية. وإنما هي كبوةٌ يمكن بعدها الاعتدال على طريق الاستقامة: بطلب المغفرة ممن يملكها وهو الله - جل جلاله - ولا يملكها غيره، مهما كان وضعه بين البشر، ولو كان نبيا مرسلًا؛ لأَنه بحكم بشريته - لا يملك أَمر نفسه مع الله، فمن باب أولى لا يملك لغيره مع الله شيئًا، وفاقد الشيءِ لا يعطيه. {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا}: أي أَمرا قبيحا يسوءُ به غيره كما فعل طعمة باليهودي (¬1). {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}: بما يفعله من الذنوب التي يغضب بها الله، ويستحق بسببها عقابه، ولم يحاول أَن يقي نفسه ذلك فيظلمها باقترافه. {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ}: بالتوبة الصادقة، والرجوع إِلى طاعته سبحانه وتعالى. {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا}: لما استغفره منه؛ كائنا ما كان الإِثم المرتكب. {رَحِيمًا}: متفضلا عليه بقبول التوبة، واستفتاح صفحة نقية لأَعماله. وباب التوبة مفتوح، وما على المذنب إِلا أَن يتوجه إلى ربه وحده بالتوبة، دون وساطة أَو قربان. فالتوبة في الإِسلام، اتجاه مباشر إِلى الله وحده. فإِنه هو الغفور الرحيم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري والحافظ ابن مردويه.

111 - {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ... } الآية. ومن يقترف ذنبا، فإِنما يعود جزاؤُه على نفسه، لا يتعداه ... فليحترز عن تعريضها للعقوبة والوبال. {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا}: بكل شيءٍ، ومنه اكتساب الآثام. {حَكِيمًا}: فيما شرع من أحكام، وقرر من مباديء. ومنها مبدأ المسئولية الفردية، والتبعة الشخصية. 112 - {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}: أي: ومن يقترف صغيرة أَو كبيرة من المعاصي، ثم يتهم بها بريئًا فقد احتمل - بما فعله - إثم هذا الكذب الذي افتراه على غيره وَبهَتهُ به، وهو منه بريء. 113 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ... } الآية. في هذه الآية الكريمة. يمتن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأَنه تفضل عليه، فأَخبره بما كان من هؤُلاءِ من التآمر على الحق؛ لكيلا يفلت الجاني الحقيقي من العقاب. والمعنى: ولولا فضل الله عليك ورحمته، بإِعلامك - عن طريق الوحي - بما دبروه، لهمت طائفة - من أُولئك الذين اختانوا أَنفسهم - أَن يضلوك عن الحق: بتصويره على غير وجهه، وهم - بعملهم هذا - لا يضلون إِلا أَنفسهم. إِذ يبعدونها عن المنهج القويم من قول الحق ولو على النفس ... وما يعود ضرر ذلك إِلا على أنفسهم بتوريطها في الذنوب التي ارتكبوها. وما يضرونك بشيء. فالإِثم على من عصى الله. والقاضي إِنما يحكم بالظاهر. والله يتولى السرائر. فلو حكم بغير الحقيقة - وفق ما ظهر له من الأَدلة - فلا إِثم عليه، بل على المدعي والشهود الكاذبين. روى البخاري أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخصمين اختصما لديه: "إِنما أَنَا بَشَرٌ مِثْلكُمْ. وإِنَّكُمْ تَخْتَصِمَونَ إِلَيَّ ... " (¬1). ¬

_ (¬1) يراجع البخاري في كتاب الأحكام.

وأَنزل الله عليك القرآن الجامع بين الحق والحكمة، أَو أَنزل عليك القرآن والسنة، وعلمك ما لم تعلمه من العلوم والمعارف الربانية. {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}: لا تحويه عبارة ولا تحيط به إِشارة. ومن ذلك النبوة والرسالة، وإِرشادك إِلى أَخْطاءِ المخطئين. {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. المفردات: {نَجْوَاهُمْ}: النجوى؛ المسارَّة بالحديث بين اثنين فأَكثر. قاله الزجاج. وعرفها بعضهم: بالحديث الذي ينفرد به اثنان فأَكثر، سِرًّا أو جهرًا. وعلى كلٍّ، فضمير (نجواهم) للناس عامة؛ لأن الحكم عام. {أَوْ مَعْرُوفٍ}: هو ما عُرِف حسنُه شرعا أَو عرفا، فينتظم أَصنافَ البرّ والخير. {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}: طلبًا لرضاه. {يُشَاقِقِ الرَّسُولَ}: يخالفه بما أمر به، أَو نهى عنه. {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}: حقيقة معنى {نُوَلِّهِ}: نجعله واليًا، يقال: تولاه. بمعنى تقلده واضطلع به، وولاه غيره. جله واليا، ومضطلعًا بالأمر. والمعنى المقصود: هو أن توفيق الله تعالى - يتخلى عنه.

التفسير 114 - {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ... } الآية. لما بين الله تعالى - قبل هذه الآية - أنه أَنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وعلَّمه ما لم يكن يعلم: أَتبعه ذكرَ بعضِ ما أَنزله عليه من الكتاب والحكمة مما يدعم أَواصر المحبة بين الناس، ويقضي على أَسباب النزاع بينهم. كما أَن فيه ردًّا على مَن كان يحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أَن يقضيَ لصالِحِ من سَرَق الدرع وخبأَها عند اليهودي، فيبرئه ويقضي على اليهودي!! والمعنى: لا خير في أَحاديث الناس فيما بينهم، إِلا في حديث مَنْ أَمر بصدقةٍ - واجبةً كانت أَو متطوَّعًا بها، أَو أَمر بما عُرِف حسنُه شرعا أَو عرفا، ولم يعارض قاعدةً شرعية، وتقبلهُ العقول الخالصة من الهوى بالرضاء، أَو أَمر بإصلاح بين الناس، حتى يحُلَّ الوئام محل الخصام. فهذه الجهات الثلاث، هي التي تكون النجوى - أي الحديث الجانبي فيها - خيرا مشروعا مثابا عليه. أَما الأَحاديث الجانبية التي يتآمر فيها المتآمرون على الإِضرار بعباد الله، أَو يتناجى فيها المتناجون بالمعاصي والهذيان، فلا خير فيها ولا ثواب عليها، بل يعاقب عليها، لأنها كانت في معصية الله تعالى. فإنما يثاب الإِنسان على المعروف، إِذا ترك الامتنان والإِعجاب به، ولا يتم المعروف - كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما: - "إِلا بثلاث: تعجيلِه، وتصغيرِه، وسترِه. فإذا عجّلته هنأته (¬1)، وإِذا صغّرته عظمته، وإِذا سترته أَتممته". وقد دعت الآية الكريمة إلى فضيلة الإِصلاح بين الناس، وجعلتها خيرا مثابا عليه، لما لها من الأَثر العظيم فيهم، حيث تُحِلُّ الوئامَ محل الخصام، والراحةَ النفسية محل القلق، والتفكيرَ في الخير مكان التفكير في الشر، فيسودُ الأمن والسلام. ¬

_ (¬1) أي جعلته هنيئا لأخذه مسعفا بمطلوبه.

وقد أباح الإِسلام الكذب الأَبيض في سبيل الإِصلاح، مع أَن الكذب - بصفة عامة - حرام، لأَن هذا كذب غير ضار بأَحد. وهو مؤَدٍّ إلى مصلحة مؤَكدة، كأَن تقول لِكِلا الخصمين عن صاحبه: سمعته يثنى عليك ويصفك بطيب النية، وحسن الطوية والمروءَة، ونحو ذلك مما يلين قلب الخصم نحو أخيه. في حين أَنك لم تسمع ذلك منه. وفي ذلك يروى حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه - أم كلثوم بنت عقبة - أَنها أخبرته أَنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلحُ بين الناس، فينمي خيرا أَو يقول خيرًا - وقالت: لم أَسمعه يرخص في شىءٍ مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإِصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأَته، وحديث المرأَة زوجها" (¬1). {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}: أي: ومن يَتناجَ ويتحدث مع غيره - في خَلوة - بالصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس، ويرشده إِليها وينصحه بها - فسوف يعطيه الله على ذلك ثوابا جزيلا: يناسب عظمة المنعم. وإِذا كان هذا ثواب التناجي بها، والإِرشاد إليها، فثواب فعلها أعظم. أَما أَن يأمر بها الإنسان ولا يفعلها، فذلك جرمه عظيم، ووعيده شديد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬2). 115 - {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}: المعنى: ومن يخالف الرسول فيما أَمَر به عن الله تعالى أو نَهَى عنه، ويتبع غير طريق المؤْمنين في عقيدته أَو عمله، بأَن يكفر أَو يترك الواجباتِ، أو يفعل المنهياتِ - مِن بعد ما ظهر له ما يهديه من أَدلة اليقين واحكمام الدين - نتركْهُ وما تولاه وانصرف إليه، ¬

_ (¬1) رواه أصحاب الصحاح سوى ابن ماجه، واللفظ للإمام أحمد. (¬2) سورة الصف، الآيتان: 2، 3.

الأحكام

وقام به من الكفر والمعاصي .. فلا نلطف به لصرف قواه إِليه، وعدم مراجعته نفسه فيه، وندخله جهنم فيخلد فيها إن كان كافرًا، ويعاقب فيها على قدر معصيته إِن كان عاصيا .. وقبُحَت جهنم مصيرا. فلا ينبغي لعاقل أَن يقترف من المعاصي ما يجعلها مصيرا له ومآلا. الأحكام استدل الإِمام الشافعي - رضي الله عنه - بهذه الآية، على أَن الإِجماع من أَهل الحق حجة. فعن المزني أَنه قال: "كنت عند الشافعي يوما، فجاءَه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة: استوى جالسا، وكان مستندا إلى الأَسطوانة (¬1) وسوّى ثيابه: فقال الشيخ: ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال الشافعي: كتابه. قال: وماذا؟ قال سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة. قال: من أَين هذا الأخير؟. أَهو في كتاب الله تعالى؟ فتدبر الشافعي ساعة ساكتا، فقال له الشيخ أجّلتك ثلاثة أَيام بلياليهن، فإِن جئت بآية، وإِلا فاعتزل الناس ... فمكث ثلاثة أَيام لا يخرج. وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاءَه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي: فقال: نعم أَعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ... } الآية. فدلت الآية على أَن اتباع سبيل المؤمنين فيما يذهبون إِليه من الأَحكام فرض، لورود الوعيد فيمن لم يتبع سبيلهم. قال الشيخ: صدقت وقام وانصرف (¬2) ". والآية لا تفيد الخلود في النار لمن يرتكب المعاصي، بل تفيد عقوبتهم بالصيرورة إِلى النار، وذلك لا يقتضي التأبيد، خلافا لمن زعم ذلك من الخوارج. حيث زعموا أَن مرتكب ¬

_ (¬1) السارية أو العمود. (¬2) روى عنه: أنه قرأ القرآن ثلاث مرات يتفقد هذا الحكم حتى ظفر به.

الكبيرة كافر خالد في النار، ويحسم دعواهم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ... }. روى الترمذي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أَنه قال: ما في القرآن آية أَحبُّ إِليّ من هذه الآيةِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وفيما يلي نص تفسيرها. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)}. المفردات: {مَا دُونَ ذَلِكَ}: ما سوى الشرك من المعاصي. {ضَلَالًا بَعِيدًا}: أي بُعدًا عن الحق عظيما. {إِنْ يَدْعُونَ}: ما ينادون، أَو ما يعبدون. {إِلَّا إِنَاثًا}: أي معبودات كالإِناث في الضعف، وعدم القدرة على الإِسعاف بالمطلوب. وفيها معانٍ أُخرى، ستأتي في الشرح بمشيئة الله.

{شَيْطَانًا مَرِيدًا}: الشيطان هنا: إِبليس - لعنه الله - والمريد بمعنى التمرد على الطاعة. أو المتمرد للشر. من قولهم: شجرة مرداءُ. وهي التي سقط ورقها. {لَعَنَهُ اللَّهُ}: طرده عن رحمته. {لَأَتَّخِذَنَّ}: الاتخاذ، أَخذ الشيء على وجه الاختصاص. {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}: حظا مقسوما. وسيأتي بيانه في الشرح. {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ}: أي لأُعَلِّلَنَّهم بالأماني الكاذبة. {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}: الأنعام، الإبل والبقر والغنم والمعز. وغلب استعمالها في الإِبل خاصة. وتبتيك الأنعام: تقطيع آذانها أو شقها. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية. وسيأتي بيانه. {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: صورةً أو صفة، كفَقْإِ عين الفحل. وسيأتي بيانه، وكخصاءِ العبيد، وإتيان الذكور بدل الإِناث. {وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ}: أي معبودا وناصرا، متجاوزا الله، وتاركا له. {خُسْرَانًا مُبِينًا}: أي خسرانا بينا واضحًا. {إِلَّا غُرُورًا}: إلا إِيهاما وغشا وخداعا. {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: مسقرهم ومرجعهم. {مَحِيصًا}: معدلا ومهربا. التفسير 116 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ... } الآية. سبب النزول: أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهم: أَن شيخا من العرب، جاءَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أُشركْ باللهِ تعالى - منذ عَرَفته وآمنتُ به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع معصية جراءة، وما توهمت - طرفة عين - أني أُعجِزُ الله تعالى هربا، وإني لنادم تائب، .. فما ترى حالي عند الله تعالى -؟ فنزلت.

المعنى: إن الله لايغفر أَن يُشْرِك أحدٌ به غيرَه في العبادة. سواءٌ أَكان هذا الشريك من عوالم السماءِ، أم من عوالم الأرض. فكلها مخلوقاته: تخضع له فيما أَراد، ولا تُعْبَد معه، ولكنه تعالى يغفر ما دون الشرك من السيئات المختلفة، لمن يشاءُ من عباده المؤمنين، حسبما تقتضيه حكمته في العفو. والتوبة أرجى في الغفران مِنْ تَرْكِها ... والحسناتُ يذهبن السيئات. والمقصود من الشرك باللهِ: الكفر به مطلقا. فيشمل نسبة الوالد أَو الصاحبة إليه سبحانه وتعالى، وإنكار وجوده. كأولئك الذين يؤمنون بأَن الطبيعة هي التي أَوجدتهم: قَاتَلَهُمُ الله أنى يُصْرَفُون!! وإِنما ذكر الشرك في الآية؛ لأنه كان الاعتقادَ السائد في الجزيرة العربية، التي نشأت فيها الدعوة الإِسلامية. وقد جاء تعميم هذا الحكم لكل كافر، في نحو قوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (¬1) وقوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (¬2) وقوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (¬3). {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}: ومن يشرك باللهِ شيئًا من مخلوقاته، أو شيئًا من الشرك، أَو يكفر به بأي وجه، فقد بَعُد عن الحق، وعن العقل بُعدًا سحيقا، على الرغم من وضوح الأدلة الصارفة له عن شركه وكفره. ثم شرع يقبح هذا الإشراك فقال: 117 - {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}: المراد من الإِناث: الموتى، كما رواه ابن أَبي طلحة، والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما. ¬

_ (¬1) إبراهيم، من الآية: 2. (¬2) الإسراء، من الآية: 8. (¬3) الفرقان، من الآية: 26.

ويؤَيده، ما رواه ابن جرير، وابن أَبي حاتم عنه: أَنه قال: الإِناث كل شيء ليس فيه روح، مثل الخشبة اليابسة، والحجر اليابس. فمثل ذلك في حكم الموتى. وبرأي ابن عباس. قال الحسن رضي الله عنه. ورأَى آخرون: أَن إِطلاق الإِناث على معبودات المشركين، لضعفها وعدم نصرتها لهم، كما هو شأن الإِناث، لأَن العرب كانت تطلق الُأنثى: على ما ضعُفَت منزلته، أَو قلتْ فائدته. وكانت نساؤُهم لديهم من هذا القبيل. وقال آخرون: إِن إِطلاق الأنثى على الوثن ... لأَن ذلك كان تعبير العرب عنه. فقد رُوِيَ أَن كل حي من أَحياء العرب كان لهم صنم يعبدونه. وكانوا يقولون: أنثى بني فلان لأَنهم كانوا يزينونها بالحلي، كما تزين النساءُ. والرأيان الأَولان أَجدر بالقبول، فإن المقصود، هو ذم هذه الأَوثان من جهة ضعفها عن جلب المنافع أَو دفع المضار، لا من جهة الأُنوثة. والمعنى: ما يعبدون - أَو ما ينادون لحوائجهم - إِلا آلهة تشبه الأَموات أَو الإِناث، في ضعفها وعدم استجابتها لحاجة عابدها أَو داعيها - وما يعبدون أَو ما ينادون في الواقع إِلا شيطانا شريرًا. عاتيا متمردا، خارجا عن الطاعة. وهو إِبليس فهو الذي زَيَّنَ لهم دعاءها وعبادتها فأَطاعوه، فكانت طاعتهم له عبادة. 118 - {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}: المعنى: طرده الله عن جنته وعن رحمته، لتمرده. واستكباره عن طاعة ربه. حين أَمره بالسجود لآدم، إعظاما لخلق الله إياه. ثم وسوس له بمختلِفِ أَلوانِ الإِغراءِ: حتى عَصَى الله، فأَكل من الشجرة التي حرَّمها عليه. ولذلك أَخرج الله إِبليس من الجنة مذموما مدحورا، محروما من رحمة الله في عاجله وآجله. وبعد أَن أنزل الله به لعنته وطرده، قال يخاطب الله تعالى: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} يريد: توكيد استيلائه - بالوسوسة - على إرادة أَبناءِ آدم عدوه، حتى يسخرها في سبيل الغوَاية والفساد عقيدة وعملًا، حتى كأنهم نصيبٌ مفروض

مقسوم له: يفعل فيه ما يشاءُ .. وكأَن هذا اللعين ظن أَمرهم سيصير إِلى ذلك، بسبب استجابة أَبيهم آدم لإِغوائه في لحظة ضعف. فهم من طينة أَبيهم. ومما يؤسف له، أَن هذا اللعين، صدَّق عليهمِ ظَنَّه: كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). 119 - {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ... } الآية. المعنى: يؤَكد الشيطان اللعين، توكيدا بعد توكيد أَنه سيُضِل عباد الله عن الحق، وأَنه سيُمَنِّيهِم بالأَماني الباطلة، كعدم البعث، وعدم الحساب والعقاب. وما يوسوس به إِليهم من الكفر والمعاصي، كإِيهامهم أَن الديانات باطلةٌ، وما جاءَت به من الوعيد والجزاءِ باطل، وأَنها من صنع الذين جاءوا بها. ويؤكد الشيطان أَنه سيأمرهم بتبكيت آذان الأَنعام فيطيعون أَمره ... وتبكيتُ آذانِها: تقطيعُها أَو شَقُّها. وقد حققوا ظنه، فقد أَمرهم بذلك ففعلوا. إِذ كانوا يقطعونها أَو يشقونها زاعمين - كما وسوس لهم - أَن ذلك يرضي أوثانهم. فقد كانوا في الجاهلية يقطعون آذان الناقة إِذا ولدت خمسة أَبطن خامسها ذكر، ويحرمون ركوبها والحمل عليها، سائر وجوه الانتفاع بها. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}: أي: ولآمرنهم بتغيير خلق الله فَيستجيبون ويغيرونه، كما في خَصْيهِم للعبيد، وكالوشم، وترجل النساءِ، وتخنس الرجال، وإِتيان الذكور كما تؤتى الإِناث، وفقء عين الفحل من الإبل، إِذا أدرك نتاجَ نتاجه، أي إِذا عاش إِلى أَن رأَى ولد ولده. ويقال له حينئذ: الحامي. ونحو ذلك من تغيير خلق الله. وقد اختلف العلماءُ في خصاءِ البهائم، فرخص فيه جماعة إِذا قصدت فيه المنفعة. وجمهور العلماءِ على جواز الأضحية من الأَنعام المخصية، فإِن الخصاء يطيب اللحم. ورخص عمر بن عبد العزيز، في خصاء الخيل ... وخَصَى عروة بن الزبير بَغْلًا له. ¬

_ (¬1) سبأ، الأية: 20.

وإِنما جاز ذلك؛ لأَنه لم يُقصد به التقرب إلى الأَصنام، بل قصِد به تطيِيب اللحم فيما يؤْكل، وتقوية الذكر إذا انقطع أَمله عن الأنثى. وكرهه بعضهم. وقال الأَوزاعي: كانوا يكرهون خصاءَ كل شىءٍ له نسل. واختاره ابن المنذر. وقال: فيه حديثان؛ أَحدهما: عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن خِصاءِ الغنم والبقر والإِبل والخيل". والآخر: "نهى عن صبر الحيوان (¬1) وخصاء البهائم". قال القرطبي: والذي في الموطإِ من هذا الباب، ما ذكره عن نافع، عن ابن عمر: "أَنه كان يكره الإخصاءَ (¬2). ويقول: فيه تمام الخَلْقِ". قال أَبو عمر: يعني في ترك الإِخصاءِ تمام الخلق. وروى: (نماءُ الخَلْقِ) ثم ذكر القرطبى حديثا عن نافع عن ابن عمر قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تخصوا ما ينمى خلق الله (¬3) ". وأما خصاءُ الآدمي فحرام؛ لأَنه يقطع قوته ونسله، الذي به بقاءُ الجنس البشري. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (¬4). ولأن فيه مُثْلَةً. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. وخُصَّ من تغيير خلق الله أمورٌ مأذونٌ فيها من السنَّة: كالختان ووسم البهائم لحاجة. والوَسْمُ: هو كَيُّ البهائم بمكواة يسمونها الميسم. جاءَ في صحيح مسلم عن أَنس قال: "رأَيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسَم وهو يَسِمُ إبل الصدقة والفيء، وغير ذلك. حتى يَعْرِفَ كلَّ مال فيؤَديَ فيه حقه، ولا يتجاوزَ به إِلى غيره". كما استثنى منه الخضاب بالحناء. إلى غير ذلك مما هو مبسوط في الموسوعات. ويرى بعض العلماءِ: أَن المراد من: "تغيير خلق الله، هو تحويله عن وجهه الذي خلقه الله لأجله، فالشمس والقمر والنجوم والنار والأَحجار، خلقت للاعتبار بآياتها والانتفاع بفوائدها، فغيَّرَها الكفار، فجعلوها آلهة معبودة. ¬

_ (¬1) القتل صبرا: هو أن يحبس ويرمى حتى يموت. (¬2) لعله الخصاء لأن فعله ثلاثي. (¬3) رواه الدارقطني وغيره. (¬4) أول سورة النساء.

والأنعامُ خُلِقَتْ لِتُركب وتُؤْكَل. فحرَّموها على أنفسهم .. وكل ذلك باتباع الشيطان. {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}: ومن يجعل الشيطان صاحبا يتبعه وينقاد له، متجاوزا أوامر الله تعالى، بإيثار ما يدعو إليه الشيطان عام ما يأمر به الله، والاغترار بوعوده، فقد خسر خسرانا بينا واضحًا. وأي خسران أظهر وأَبين، من خسران مَنْ صادَق عدو الله وعدوه وعادى مولاه المنعم، واستخف بغضبه وعذابه؟. 120 - {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}: المعنى: يعد الشيطان عباد الله على معصيته أحلى الوعود المكذوبة، ويمنيهم بأحلى الأماني الباطلة. وما يعدهم الشيطان ولا يمنيهم إِلا غرورا وإيهاما، وغشًّا وخداعا، فوعوده كاذبة، وأمانيه فارغة. وتلك الوعود يلقيها الشيطان إما بالخواطر النفسية المخالفة لشرائع الله، أو بلسان أَوليائه. 121 - {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}: المعنى: أولئك الذين يتخذون الشيطان وليا من دون الله، ويصدقون وعوده وأمانيه وغروره، مآلهم ومستقرهم جهنم، ولا يجدون عنها معدلا ومهربا ينجيهم من عذابها. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}. المفردات: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: مقيمين في الجنة دائمًا لا يبرحونها. {قِيلًا}: أي قولا.

التفسير 122 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } الآية. لَمَّا بيَّن الله تعالى في الآيات السابقة سوءَ مصير مَن يتخذ الشيطان وليا من دون الله، أَتبعه بيانَ حسنِ مصيرِ مَنْ يتخذ الله وليا. وبضدها تتميز الأشياءُ. والمعنى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}: باللهِ ورسوله، وبما جاءَ به عن ربه. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} التي جاءَ بها القرآن العظيم، أَو بيَّنها الرسولُ الكريم. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: ينعمون فيها بما لا عين رأَت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: لا يبرحونها ولا يتحولون عنها، وخلودهم فيها بلا موت، ونعيمهم فيها بلا فوت. {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}: لا خلف فيه. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬1) وذلك على العكس من وعود الشيطان الكاذبة، وأمانيه الفارغة، فكلها غرور وأَباطيل، وغش وخداع. فهو لا يملك من ملك الله فتيلا، ولا يستطيع أَن يحقق من وعوده نقيرا ولا قطميرا، فلا ينبغي لعاقل أَن يغتر بوساوسه، حتى لا يندم حين لا ينفع الندم. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}: ومن أَصدق من الله قولًا ووعدا؟! فهو الذي إِذا قال صدق، وإِذا وعد وفى، فعنده خزائن السموات والأَرض. يقول للشيء كن فيكون. فليس أَصدق منه - سبحانه وتعالى - قولًا. ¬

_ (¬1) الأحزاب، من الآية: 37.

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}. المفردات: {بِأَمَانِيِّكُمْ}: الأَماني، جمع أمنية. وخلاصة ما قاله الراغب في معناها: أَنها هي الصورة الحاصلة في النفس، المترتبةُ على التمني. أَما التمني: فهو الرغبة الشديدة في شيءٍ يقدره الشخص في نفسه. {وَلِيًّا}: أَحدا يَلِي أَمر الدفاع عنه بالقول. {وَلَا نَصِيرًا}: ينصره ويمنعه بالقوة من العقاب. {نَقِيرًا}: النقير هو النقرة في ظهر النواة. وهو مثل يضرب للقلة والحقارة. {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}: الوجه هنا. مجاز عن الذات أي: أَخلص ذاته ونفسه لله. {حَنِيفًا}: مائلا عن الأَديان الباطلة. {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}: الخليل - كما قال الزجاج -: هو من ليس في محبته خلل .. أ. هـ. فمعنى اتخاذ الله إبراهيم خليلا: أَنه تعالى، أَحبه حبًّا تامًّا لا نقص فيه، واصطفاه اصطفاءً كاملا. {مُحِيطًا}: عليما شامل العلم.

التفسير 123 - {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ... } الآية. لما بيّن الله سوءَ مصير من اغتر بوعود الشيطان وأَمانيه الكاذبة، وعقبه بذكر حسن مصير المؤمنين الصالحين، أَتبع ذلك بيان أَن الأَمر - بعد الموت - لا يكون بالتمني من هؤُلاء وأولئك، بل يكون بالعمل الصالح، فإن الآخرة هي دار الجزاء ... والجزاءُ من جنس العمل. قمن يعمل سوءًا يجز به سوءًا، ومن يعمل خيرا يجز به خيرا. ولا يظلم ربك أَحدا. سبب النزول: أَخرج ابن جرير وابن أَبي حاتم، عن السدى، قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم. ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إِلا من كان هودا وقالت النصارى: مثل ذلك. فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم. ونبينا صلى الله عليه وسلم - بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم. وقد أمرتم أَن تتبعونا وتتركوا أَمركم. فنحن خير منكم، ونحن على دين إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحق. ولن يدخل الجنة إِلا من كان على ديننا فأَنزل الله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ... } الآية. وقال القرطبي: مِن أَحسن ما قيل في سبب نزولها، ما رواه الحكم بن أبَان، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال: قال اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا، وقالت قريش: ليس نبعث فأَنزل الله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ... } الآية. وليس هناك ما يمنع نزول الآية للسببين، فحكمهما عام: للمسلمين وأهل الكتاب والمشركين ومن في حكمهم من سائر الكافرين. كما سيتضح في الكلام على المعنى. والمعنى: ليس الفوز بدخول الجنة والتقلب في نعيمها الذي وعده الله الصالحين، حاصلا بأَمانيكم - أَيها المسلمون - ولا بأَماني أَهل الكتاب، فإِن الأَماني - وحدها - لا تحقق هذه الغاية العظيمة. وإِنما يحققها - مع الإِيمان - العمل الصالح. أَما العمل النافع وحده فلا يحققها؛ لخلوه من قصد وجه الله تعالى، وهذا يستلزم الإِيمان. كما أَن عدم البعث ليس بأماني من

أَنكروا البعث، فإنه حاصل، وسيجزى بعده الناس على أَعمالهم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1) ولذا قال الله بعده: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: من يعمل عملا سيئا، سواءٌ أكان من كسب القلوب كالكفر والحقد والحسد، وسوءِ الظن بالمسلمين، أَم كان عن كسب الجوارح كالقتل والسرقة وأَكل مال اليتيم، والتطفيف في الكيل والميزان - يعاقبه الله عليه بما يسوءُه، ولا يجد له أَحدا ينقذه منه. مِن وليٍّ يدافع عنه بالقول والشفاعة، أَو نصير ينصره بالقوة ... فالكل مَقْهور لله الواحد القهار. ولما نزلت هذه الآية، كان لها أَثر شديد في نفوس المؤمنين. يصوره ما أَخرجه الترمذي وغيره، عن أَبي بكر رضي الله عنه - أَنه قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أَن سمعها: "بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، وَأيُّنَا لَم يَعْمَلْ سُوءًا، وَإِنّاَ لمَجزِيُّونَ بكل سُوءٍ عَمِلْنَاه" وما أَخرجه الإِمام مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: "لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، وبلغت منهم ما شاءَ الله تعالى - فشكوا ذاَك إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: سَدِّدوا وقَارِبُوا، فَإنَّ كُلَّ مَا أَصابَ المسلِمَ كَفَّارةٌ، حتى الشوكةَ يُشاكُهَا، والنَّكْبةَ يُنكبُهَا". ومن هذا الحديث، نفهم أَن الله تعالى، يكفر الخطايا بالبلايا - صغرت أَم كبرت - والأَحاديث الواردة في هذا كثيرة. ولهذا أَجمع العلماءُ، على أَن مصائبَ الدنيا وهمومَها - وإِن قلت مشقتها - تكفَّرُ بها الخطايا، إِذا صبر صاحبها. والأَكثرون على أَنها تُرفَع بها الدرجات، وتكَفَّر بها السيئات. وهو الصحيح المعول عليه. ومما صح في ذلك، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: "ما من مُسلِمٍ يُشَاك شَوْكَةً فما فَوقَها إِلا كُتِبتْ له بها دَرَجَةٌ، ومُحِيتْ عَنْه بِها سَيِّئَةٌ". أَورده الآلوسي. ¬

_ (¬1) الزلزلة: الآيتان الأخيرتان.

124 - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}: المعنى: ومن يعمل شيئا من الأَعمال الصالحات - من الذكور أَو الإِناث - في حال إِيمانه فأولئك المؤمنون الصالحون يدخلون الجنة، جزاءَ إيمانهم وعملهم الصالح، ولا ينقصون شيئًا من الثواب على أَي عمل، ولو كان مشبها للنقير في القلة. وكما أنه لا ينقص من ثواب المطيع، لا يزاد في عقاب العاصي. فعدالة الله واحدة. بل العاصي أَولى بذلك؛ لأَن الأَذى بزيادة العقاب، أَشد من انقاص الثواب. فإِذا لم يرض الله - سبحانه - بنقص الثواب، فإنه لا يرضى بزيادة العقاب بالأَولى - فهو الرحمن الرحيم العادل الكريم. وإنما فصلت الآية فقالت: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}: مع شمول {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ}: لهما جميعًا. لئلا يتوهم متوهم خصوص هذا الحكم بالذكور، وإن كان هذا الوهم ضعيف البنيان، ولأَن فيه اعتبارًا للمرأَة التي كانوا ينتقصون حقها في الجاهلية. والنقير كما تقدم في المفردات: نقرة في ظهر النواة. يضرب بها المثل في أدنى الأُمور وأَصغرها. 125 - {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... } الآية. الاستفهام في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ} بمعنى: النفي الإنكاري. والمعنى: لا يوجد أحسن - في الدين - ممن أَخلص نفسه وذاته لله، فلم يعرف لها ربًّا سواه، ولم يتوجه بوجهه لغيره سبحانه، ولم يخضع في سجوده إِلا له عز وجل: يفعل ذلك كله وهو محسن في عمله، بأَلا يترك واجبًا، ولا يفعل محرمًا. {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}: المراد من اتباع ملة إبراهيم: اتباع ملة الإسلام، فإنما هو ملة إِبراهيم - عليه السلام - في العقائد وأصول الأحكام. فمن اتبعها فهو متبع للإسلام الذي جاءَت به ملة إبراهيم. ومن اتبع سواها فليس له من اتباع ملة إبراهيم نصيب، فقد حاد عنها أَهل الكتاب بما بدلوا وغيَّروا من أصول شريعته الموجودة في شرائع الأنبياءِ المرسلين: قبله وبعده، كما حاد عنها المشركون.

وأَشدُّ ما حاد عنه أَهل الكتاب، تنزيه الله عن الصاحبة والولد والشريك. فقد جعلوا له صاحبة وولدا، وأَشركوه معه في التقديس، كما أَشرك به المشركون أَنصابهم وسائر آلهتهم فأَي فارق بينهم وبين المشركين في ذلك؟! وكفروا بعصمة الرسل، وأَلصقوا بهم أَحقَرَ التُّهَم، وحرَّموا ما أَحل الله، وأَحلوا ما حرم، وغيروا وبدلوا في كتبهم، ما شاءَ لهم هواهم .. وإِذا كان أَمرهم وأَمر المشركين كذلك، فلا تغنيهم - جميعًا - دعواهم أَنهم على ملة إبراهيم، فإِن ملته - عليه وعلى نبينا أَفضل الصلاة والسلام - لا تقرهم على هذه المآثم وسواها فهو حنيف. أي مائل الباطل، مقرٌّ للحق الذي جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - تصحيحا للعقائد وأصول الأَحكام الشرعية، وإعادةً بها إلى دين إِبراهيم الذي حرفه هؤُلاء وأولائك. وإنما قلنا: إِن العقائد وأصول الأَحكام مشتركة بين شرائع المرسلين دون فروع الأحكام، لأَن هذه الفروع، لابد من اختلافها في الصورة والعدد والمواقيت وغير ذلك. مما يناسب الأمة والعصر الذي بعثوا إليها فيه. وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬1). {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}: أي أَحب الله إبراهيم حبا كاملًا، لا خلل فيه ينقصه عن الكمال. ويجوز أَن يكون المعنى: أَنه تعالى خصه بكرامة تشبه كرامة الخليل لخليله. والسبب في اتخاذ إبراهيم خليلا، ما أَظهره من الفقر والحاجة إلى الله تعالى - في شدته ورخائه، وانقطاعه إليه، وعدم التفاته إِلى سواه في محنته. فقد آثر عقيدته - في ربه - على نجاته من النار، التي أراد قومه إِلقاءَه فيها. بسبب توحيده. وعادى - من أَجل ذلك - أَباه، وهَمَّ بذبح ولده الوحيد، امتثالا لأَمر مولاه. وليس في الآية ما يفيد قصر الخُلَّةِ على إبراهيم عليه السلام - فقد اتخذ الله نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خليلًا أَيضا. ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 48.

ومما يدل على ذلك، ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود: أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ كُنتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذت أَبَا بِكْرٍ خَلِيلًا. وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ صاحَبكُمْ خَلِيلًا" والمراد بصاحبهم، هو نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم. وقد بلغ نبينا في الخلة أَعلى درجاتها. حتى كان سيد ولد آدم يوم القيامة. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم -: "أَنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ. وَبِيَدِي لِوَاءُ: الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ. وَمَا مِنْ نبِيٍّ يَوْمَئِذٍ - آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ - إلَّا تَحْتَ لِوَائي. وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّل مُشَفَّعٍ. ولاَ فَخر" (¬1). 126 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}: هذه جملة مستأْنفة؛ لبيان أَن اتخاذه - عز وجل - لإبراهيم خليلًا، ليس لاحتياجه إلى خلته في شأن من شئونه، بل ذلك لتكريمه وتشريفه. والمعنى: ولله ملك السموات والأَرض وما فيهن: له كل ذلك خلقا وملكًا. وتدبيرا وتصرفا، ليس له في ذلك شريك أَو معين .. وكان الله بكل شيء موجود - أَو سيوجد في هذا العالم - محيطا إِحاطة علم وتدبير. لا تغيب عن علمه ذرة في ذاتها وأحوالها وما ينبغي لها وما ليس في مصلحتها. ومن كان كذلك. لا يغيب عن علمه سيءٌ ولا محسن. فيجزي كلاًّ بما كسبت يداه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة.

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)}. المفردات: {الْكِتَابِ}: القرآن. {يَتَامَى النِّسَاءِ}: اللائي لا حول لهن. {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}: تطمعون في ما لهن من الميراث والصداق، فتتزوجونهن لذلك، أو تمنعونهن من الزواج ويعضلونهن لذلك. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ}: الأطفال اليتامى. {بِالْقِسْطِ}: بالعدل. التفسير 127 - {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ... } الآية. الربط: في هذه الآية - وما تلاها - رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساءِ واليتامى. وكان المسلمون قد بقيت لهم أحكام، سبق لهم السؤَال عنها، فلم يجبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتظارا للوحي. روى أشهب عن مالك رضي الله عنهما، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسْألُ فلا يجيب، حتى ينزلَ عليه الوَحْيُّ، وذلك في كتاب الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... }، { ... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ (¬1) ... } و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (¬2) ... }، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ (¬3) ... " أ. هـ. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 220 (¬2) البقرة:، من الآية: 219 (¬3) طه، من الآية: 105

سبب النزول: أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جبير، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئًا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء، شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل؟! فَرَجَوْا أَن يأتي في ذلك حَدَثٌ من السماءِ. فانتظروا، فلما رأَوا أنه لا يأتي حدث قالوا: لئن تم هذا، إنه لواجب ما عنه بُدٌّ. ثم قالوا: سَلُوا .. فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية. ورُوِي غير ذلك في سبب النزول ورجح هذا شيخ الإسلام أبو السعود، كما قاله الآلوسي. ونحن نقول: إن سبب النزول لا يقتضي أنهم لم يسألوا إِلا عما جاء فيه، بل سألوا عن غيره أيضا، ولهذا تضمنت الفتوى جواب سؤَالهم الوارد في سبب النزول، كما تضمنت عدة أحكام، ستأتي في الآيات التالية، تتعلق بأمر النساء. {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ}: المعنى: ويستفتيك المسلمون - يا محمد - في أحكام الإناث، فيطلبون منك بيان ما يُشْكِلُ عليهم من أحكامهن، مما يجب لهن أو عليهن. {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}: المعنى: قل الله يفتيكم في حكمهن ويبينه لكم، وكذا ما يتلى في أمرهن، مما سبق نزوله قبل هذه الآية، فهو أيضًا يفتيكم، ويبين لكم الحكم الشرعي الذي تسألون عنه. والمقصود من الآية الكريمة: أن الله سيفتيكم - مستقبلا - فيما لم ينزل حكمه من شأن النساء، وأن ما سبق نزوله فيهن ويتلى عليكم، تظل الفتيا أيضًا في أمرهن، فيكتمل بالفتاوى - السابقة واللاحقة - أحكامهن المشروعة. وقد أشار المولى سبحانه بقوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ... } الآية: إلى ما سبق في صدر هذه السورة عنهن وعن المستضعفين من الولدان، ابتداءً من قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ... } الآية. إلى آخر آيتي المواريث.

{فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}: أي: ويفتيكم أيضًا فيما يتلى عليكم في شأن يتامى الإناث، اللاتي لا تؤتونهن أيها الأولياءُ ما كُتِبَ لهن من الميراث والصداق، وقد رغبتم في الزواج بهن، طمعا في الميراث والصداق. فقد أوجب عليكم فيما نزل بشأنهن أَول السورة - أن تقسطوا في شأنهن، بألا تطمعوا في أموالهن الموروثة، وأن تعطوهن من الصداق أَعلى سنتهن، وتعدلوا بينهن وبين ضراتهن: في القسم والنفقة وحسن العشرة ... أو يكون المعنى: وإن أنتم رغبتم عن الزواج بهن، فلا تعضلوهن عن الزواج بغيركم، طمعًا في أَموالهن (¬1). {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}: أي: ويفتيكم فيما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد والصغار اليتامى: ذكورا وإناثًا. فقد أوجب عليكم - فيما سبق - أن تحافظوا على أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، وأفهمكم أن أَكل أموالهم ذنب كبير، وأَوجب عليكم أن تؤدوا أموالهم إليهم عند بلوغهم رشدهم، دون مماطلة. وبالجملة، فقد أوجب عليكم - هنا، وفيما مر في صدر هذه السورة - أن تقوموا لليتامى بالقسط والعدل، في أمرهم كله. فلا تحاولوا أن تعودوا لما كنتم عليه في الجاهلية، من توريث الرجال الذين يدافعون عن القبيلة وحرمان الصغار والنساء، فذلك جَوْرٌ لا يوافق عليه الإسلام ولا يقره (¬2). {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}: أي: وما تفعلوا - أَيها الأولياءُ - من خير في حقوق من تقدم ذكرهم، فإن الله كان به عليما قبل أن يخلقكم، كما هو عليم به عند فعلكم له، فيجزيكم عليه خير الجزاء. وإنما اقتصرت الآية على ما يفعلونه من الخير، مع أنه يعلم ما يفعلونه من شر أيضا، ويجازى عليه بمثله، للإِيذان بأن الشر لا ينبغي أن يقع منهم، وتحريضا على فعل الخير والاستدامة عليه. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه في تفسير الآية (3) في سورة النساء. (¬2) راجع ما كتبناه عن ذلك في شرح الآيات الواردة في شئون اليتامى والمواريث العامة للذكور والإناث صغارًا كانوا أم كبارا ابتداء من الآية رقم (2) إلى نهاية الآية رقم (12) من سورة النساء.

وتكرار هذه الوصية باليتامى والنِّساء الضعاف - مع ما سبق في أول السورة - لاجتثاث ما عسى أن يكون عالقا بالرجال من أطماع في أموال الضعاف من يتامى النساء والولدان. {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)} المفردات: {خَافَتْ}: علمت أو توقعت. {بَعْلِهَا}: زوجها. {نُشُوزًا}: أي ترفعا (¬1). {أَوْ إِعْرَاضًا}: أي ميلا وعدم اهتمام. {فَلَا جُنَاحَ}: فلا حرج ولا إثم. {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}: أي جُعِلَ الشح حاضرا في الأنفس ملازما لها، والشح: البخل الشديد. {كَالْمُعَلَّقَةِ}: المرأة المعلقة؛ هي التي ليست مطلقة ولا صاحبة زوج، كما قال ابن عباس رضي الله عنه. أَو هي المسجونة. كما قال قتادة رضي الله عنه. {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}: أي يُغْن الله كليهما من غناه الواسع. ¬

_ (¬1) وفعله: نشز ينشز، بوزن: يمكر، ويعرف.

التفسير 128 - {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ... } الآية. الربط: لا تزال الآيات متصلة بشئون النساء. سبب النزول: أخرج الحاكم في مستدركه، عن عروة بن الزبير، عن أَبيه، عن عائشة رضي الله عنها أَنها قالت له (¬1): يابن أختي (¬2)، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا. وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا فَيَدنُوَنَّ من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها، فيبيت عندها. ولقد قالت سودة بنت زمعة - حين أسَنّت - وفَرِقَت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، يومي هذا لعائشة، فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة: ففي ذلك أَنزل الله {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ... } الآية. ومثل ذلك رواه أبو داود رضي الله عنه. والمعنى: النشوز والإِعراض يصح أن يوصف كل من الزوجين بهما. وقد سبق الحديث عن نشوز المرأَة في الآية (34) من هذه السورة. أما هذه الآية، فقد تحدثت عن نشوز الزوج وإعراضه .. والمقصود من نشوزه، ترفعه عن صحبتها والإِبقاء عليها. والمقصود من إعراضه عنها: عدم اهتمامه بها، وهو أخف - في التباعد عنها - من النشوز. ولكل منهما أَسبابه، كتقدم الزوجة في السنن، وعقمها، وذبول جمالها، وتغير طباعها، وإهمالها لمنزلها، وتقصيرها في رعاية أولادها، وامتداد يدها إلى مال زوجها، وخروجها من المنزل بغير إذنه تباعا، رغم تحذيره لها من ذلك: إلى غير ذلك من الأسباب التي تأتي من خاصيتها. ¬

_ (¬1) أي قالت لعروة بن الزبير. (¬2) فهو ابن أختها أسماء.

وقد يكون نشوز الزوج وإِعراضه عن زوجته بأسباب من غير جهتها، كتأثير ضرة عليه في كراهيتها، أو ظهور امرأَة أخرى لم تكن من قبل في جوهما، فلما تزوجها غيرت مجرى حياتهما، وجرت معها الأمور على غير ما تُشْتَهَى من نشوز أو إعراض. وكما أَن لكل من النشوز والإِعراض أسبابًا، فإن لكل منهما علاماتٍ وأمارات. فأمارات النشوز كثيرة، منها: الغلظة والجفاءُ، والضرب، والسب، والتهديد بالطلاق، وأَن يمنعها نفسه ونفقته ومودته. ونحو ذلك. وأمارات الإِعراض عديدة: كأَن يقلل من محادثتها ومؤَانستها، ويتساهل في تحقيق رغباتها. والإِعراض يسبق النشوز عادة، فإِذا استمر، أَدَّى إلى النشوز، وإذا استمر النشوز، انتهى إلى الطلاق، كما هو معروف في عادات الناس. والمراد من خوفها من نشوز الزوج أَو إِعراضه، علمها بذلك، بما بدا لها من أَمارات يقينية أَو توقُّعها إِياه، بما بدا لها من أمارات ظنية. ولمّا كانت الآية نزلت في شأن امرأَة تخاف نشوز زوجها أو إِعراضه عنها، فذلك يقتضي أنها حريصة على بقائها معه، ويخيفها ما بدا لها منه أَن ينتهى بها إِلى عاقبة لا ترضاها لنفسها، فلذا لم يمنعها الشارع من أَن تتساهل في بعض حقوقها؛ ليتحقق لها ما أَرادته من بقائها معه. فإِنه سبحانه وتعالى لا يحب أَن تُحْرَم زوجةٌ من بقائها مع زوجها الذي أحبته، وأَن تفجع بفراقه، وذلك بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}: أي: فلا إِثم على الزوجة فيما تفعله لإِصلاح ما بينها وبين زوجها، من إِعفائه من صداقها أَو نفقتها أَو بعضهما، أَو من مسكن أَو كسوة، أَو فيما تعطيه من مالها، أَو فيما تنزل له عنه من نصيبها في القسم، ليعطيه لإِحدى ضراتها: لكي يبقى عليها، ولا إِثم على الزوج في قبول ذلك منها، فإِن ذلك لا يعتبر رشوة مؤَثمة لكليهما. حتى يتحرجا منه. بل يعتبر سبيلا إِلى عودة المودة، واستمرار الزوجية بينهما. وذلك

أسمى - في نظر الدين - من تلك الماديات اليسيرة، التي تعينت سبيلا لعودة المودة بينهما. قال ابن عباس: "فما اصطلحا عليه من شيءٍ فهو جائز" (¬1). {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}: أي: والصلح بينهما، خير من الجفاء والإعراض، فقد ينتهيان - لو لم يكن الصلح - إلى عاقبة بغيضة لديهما، أو لدى أحدهما. وفيما يلي تفسيرات مأثورة تزيد الآية وضوحا، وتؤَكد الغرض المقصود منها في نفس القاريء: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، في تفسير الآية أَنها قالت: "الرجلُ تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها فتقول: أجعلكَ من شأني في حل". وروى الشيخان عنها أنهما قالت: "هو الرجل يكون له المرأَتان: إحداهما قد كبرت أو هي دميمة، وهو لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني". وروى ابن أبي حاتم، عن أبي عَرْعَرَة، قال: "جاء رجل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فسأله عن قول الله - عز وجل -: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} قال على - كرم الله وجهه -: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها، من دمامتها أو كِبَرها، أو سوءِ خُلُقِها أَو قَذَرِها، فتكره فراقه، فإِن وضعت له شيئًا من مهرها حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرَج". وبمثل هذا، فسرها ابن عباس ومجاهد والشعبي وابن جبير وكثير من السلف والأئمة، رضوان الله عليهم أجمعين. {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}: لما رغب الله في الصلح بقوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} عقبه بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}: لبيان العذر في المماكسة والمشاقَّةِ. وهو أن النفس من طبعها الشح والحرص. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والطيالسي.

والمعنى: وجُعل البُخل والحرص على النفع الذاتي، حاضرًا في الأنفس ملازمًا لها. لا يغيب عنها؛ لأَنه من طبعها، فلذا لا تكاد الزوجة تُفَرِّط في حقوقها عند الزوج. ولا يكاد الزوج يجود بالإِنفاق وحسن المعاشرة لمن لا يريدها. وإِذا كان ذلك هو ما فطر عليه الناس، فينبغي - لكل من الزوجين - أن يقدر حرص الآخر على مصلحته، فلا يهدرها تماما، فتُرضِي الزوجةُ حرصَ الزوج، بالبذل والتضحية، ويرضى الزوج حرص الزوجة، فلا يقسو عليها في مطالبه. ثم ندب الله الأزواج إلى الإحسان والتقوي، فقال جل شأنه: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أي: وإِن تحسنوا عشرتكم - أَيها الأزواج - مع النساء، وتتقوا النشوز والإِعراض عن الزوجات، وعدم إكراههن على ترك شيءٍ من حقوقهن أو بذل ما يعز عليهن، وذلك بالتسامح واللين، وغض الطرف عما يدعو إلى الجفاء والإِعراض - فإِن الله كان - ولا يزال - بما تعملون من الإِحسان والتقوى خبيرا، فيجازيكم ويحسن ثوابكم. 29 - {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ... } الآية. المعنى: ليس في استطاعتكم ومقدرتكم إِقامة العدل التام بين الضرات، بحيث لا يقع منكم أي ميل لإِحداهن أكثر من الأخرى، ولو حرصتم على ذلك وبالغتم فيه، فإِن فُرِضَ أَنكم عدلتم في القسم والنفقة، فقد لا تعدلون في النظر والإِقبال والمؤانسة والحب، وغير ذلك. وتلك مسأَلة جِبِلِّيَّةٌ، لا سلطان للأَزواج عليها، مهما كان مقامهم من الدين. وأحيانا يكون للمرأة أَثر في جذب الرجل إليها أَكثر من ضرتها؛ لبشاشتها ونظافتها، ومزيد إِخلاصها. ومع هذا، ينبغي للإِنسان أَلَّا ينساق وراء الأَسباب الداعية إلى الميل، بقدر طاقتهِ وهنا، يعفى عما خرج عن الطوق. أَخرج أَحمد والترمذي وأَبو داود، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فَيَعْدِلُ. ثم يقول: "اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فيما

أملِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ" يقصد النبي بما يملكه الله: الحب والميل القلبي، فإنهما تحت سلطان الله وحده، ولا سلطان للبشر عليهما. {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}: المراد بالميل هنا عدم العدل في القسم والنفقة، بسبب تفاوت الحب. أي فلا تجوروا كل الجور على من لا تحبون من النساء، بأن تمنعوها حقها في القسم والنفقة، وفي السكن والكسوة، من غير رضاها، واعدلوا بقدر ما استطعتم، فإن عجزكم عن كمال العدل، لا يمنع تكليفكم بما تستطيعون منه، بقدر طاقتكم. {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}: أي: فلا تميلوا كل الميل عن العدل بين الضرات، فتحرموا بعضهن حقهن المقدور لكم، فتتركوها - بذلك - كالمرأَة المعلقة، لا هي مطلقة فَتَرضى بطلاقها، وتسكن بانفرادها عن الزوج: أَو تتزوج من تشاءُ. ولا هي ذات زوج يعطيها حقها كالزوجات، فأشبهت بذلك الشيء المعلق بآخر: فلا هو عام الأَرض فيستقر: ولا هو محمول على ما عُلِّق به فلا يتأَرجح. وفسر قتادة. المعلقة: بالمسجونة. والآية مشعرة بتوبيخ الذين لا يعدلون بين نسائهم، بقدر استطاعتهم. ومن أَلوان العدل التي كان السلف الصالح يحرص عليها، ما رواه غير واحد، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "كانت لي امرأَتان: فَلَقَد كُنْتُ أعدِلُ بَينَهُمَا حَتى أعُدَّ القُبَل". وعن مجاهد قال: كانوا يستحيون أَلَّا يسووا بين الضرائر في الطيب، يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه!!!. وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان: يُكْرَهُ أَن يتوضأ في بيت إِحداهما دون الأخرى. وبالجملة، فالعدل واجب؛ في القسم والنفقة والسكنى والكسوة وكل ما هو ضروري كالعلاج، وهو سنةٌ فيما عداها.

والعدل فيما هو واجب، هو الذي ورد في تركه الوعيد، في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأتانِ، فَمَالَ إلَى إحدَاهُما: جَاء يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ" (¬1). {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: هذه دعوة كريمة من الله تعالى، للأزواج المقصرين في حق نسائهم؛ ليعالجوا تقصيرهم في شأنهن. والمعنى: وإن تصلحوا ما أفسدتم من شئون زوجاتكم، وتتقوا الميل عن العدل بينهن فيما تستقبلون من الزمان. فإِن الله كان - ولا يزال - عظيم الغفران، فيغفر لكم ما فرط منكم فيما مضى بإِحسانكم كما قال تعالي: " ... إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبنَ السيئاتِ ... " (¬2). كما كان - ولا يزال - عظيم الرحمة. فلذا، تفضل عليكم بقبول متابكم، وإسباغ رحمته عليكم. 130 - {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ... } الآية. المعنى: وإِن لم يتصالحا، واتسعت شقة الخلاف بينهما. حتى وقعت الفرقة - بالطلاق - فإِن الله يغني كلا من الزوجين المفترقين، من غناه الواسع. ولا شك أن تشريع الطلاق، تظهر حكمته جلية واضحة في هذه الحالة. فإِنه إِذا لم يكن في مقدور الزوجين أَن يعيشا في حب وسلام. وكانت الحياة بينهما مشحونة بالمتاعب، فإِن العاقبة ستكون سيئة بالنسبة إليهما، وإِلى أَولادهما الذين يشهدون المعارك القاسية - من آن لآخر - بين والديهم. فالفراق - حينئذ - يكون ضروريا ... كاستعمال مبضع الجراح لاتقاء أَخطار الفساد في الجسم. وهذه الجملة تعتبر تسلية للزوجين عما أَصابهما من الفراق، وإشعارًا لهما، بأَن الله تعالى سيسلك بكليهما مسلكا يغنيه عن الآخر. فهو الكفيل براحة عباده؛ لكيلا يشتد حزنهما على فراقهما بعد عشرة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، وأبو داود والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة. (¬2) هود، من الآية: 114

كما أنها تشعر بلوم مَنْ يتسبب في عرقلة الصلح منهما، حيث أفهمت المتشدد: أَن للطرف الآخر ما يغنيه - من عند الله - عن صاحبه. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}: أي: وكان الله - ولا يزال - واسع الغنى، كافيا لخلقه، حكيما مُتْقِنًا لأحكامه وأَفعاله. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} المفردات: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا}: ولقد أمرنا أمرا مؤَكدًا. {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: المراد بهم؛ أَهل الكتب السماوية السابقون جميعًا: اليهود، والنصارى، وغيرهم. {حَمِيدًا}: مستحقا للحمد، وإن لم يحمده الحامدون. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: وكفى به قيما وكفيلا؛ تُوكَل إليه الأمور.

التفسير 131 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... } الآية. لما بين الله - تعالى - أن الزوجين - إن تفرقا - يغن كلا من سعته، أتبع ذلك ما يؤَكد به هذا الوعد الكريم، فقرر سبب تحقيقه وهو: أنه - سبحانه - له ما في السموات وما في الأرض، فإن من كانت بيده مقاليدهما، تحققت مواعيده لقدرته الواسعة، وحكمة تدبيره. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: ولله ما في السموات وما في الأرض: خلقا وملكا وتصرفا. فلا يتعذر عليه إغناءُ الزوجين بعد فرقتهما، ولا إيناسُهُمَا بعد وحشتهما. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}: ولقد أمَرْنَا كل مَن أوتِيَ الكتابَ من قبلكم، من أتباع الأنبياء السابقين - كما أمرناكم - بتقوى الله تعالى، فهي سر النجاح وصلاح الأمر كله. مَن أخَذَ بها استغنى وكف عن المآثم، ورغب في الخير، وعمل لمصلحته ومصلحة أسرته وأُمته. {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض. ومن كان كذلك، فلن يضره كفركم ومعاصيكم، كما لا ينفعه إيمانكم وتقواكم. وما أمركم بالتقوى ونهاكم عن الكفر والمعاصى إلا لمصلحتكم؛ رحمةً بكم، لا لحاجته إلى عبادتكم. {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}: وكان الله - قبل أن تكونوا، ولا يزال بعد ما كنتم - غنيا غير محتاج إلى سواه، مستحقا للحمد وإن لم يحمده الحامدون. 132 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: هذه الآية الكريمة، مؤَكدة لما قبلها، بإفادتها ما أَفادته من أَنه تعالى، يملك مقاليد السموات والأرض، مقررة أن أمر هذا الكون موكول إليه تعالى، ممهدة لما بعدها.

والمعنى: ولله ما في السموات والأرض: من أجزائهما وما استقر فيهما. ومَن كان كذلك، فكل ما فيهما محتاج إِليه تعالى، وهو غنى عنه بغناه الذاتي، وكفى باللهِ قيما على أمور السموات والأرض، موكولا إِليه شئونهما خلقا وتدبيرا، فلا يليق بعاقلٍ ألا يفعل ما أوصاه به من التقوى، فيلقى بزمام نفسه إلى شهواته وغرائزه الضارة، وينصرف بذلك عن المراشد. 133 - {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ... } الآية. المعنى: إن يشأ إذهابكم - أيها الناس - والإتيانَ بآخرين أفضلَ منكم، فإنه يفعل ... ولا رادَّ لمشيئته. كما قال تعالى: { ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ... } (¬1). {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}: فإن مالك السموات والأرض، لا يعجزه تحقيق مشيئته. ومن كان أمره نافذًا في خليقته، فحقه أن يُتَّقَى ويُحذَرَ، ويُشكَرَ ولا يُكفَرَ. فإذا كان قد أبقاكم على ما أنتم عليه من عصيان، فما ذاك إلا لاستغنائه عن طاعتكم وعدم تعلق مشيئته بإِفنائكم من رحمته بكم، لعلكم تثوبون إلى رشدكم، وتعودون إلى طاعة ربكم؛ لتنالوا ثوابه، وتتقوا عذابه، فمصارع الضالين قبلكم ماثلة أمامكم. 134 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... } الآية. بعد أن بين الله - في الآية السابقة - قدرته على أخذ العصاة بظلمهم ببيان، قدرته على إِفناء جميع الخلق، وإحلال غيرهم محلهم، أَوضح - في هذه الآية - السبيل الأمثل للطاعة. وهو أَداؤُها ابتغاءَ مرضاة الله، دون أَن يراد بها الذكر الحسن، وثناءُ الناس، وجرُّ المغانم. حتى ينالوا بالإخلاص - ثواب الدنيا والآخرة. والمعنى: من كان يريد - بطاعته - ثواب الدنيا، كالجندي يريد بجهاده الثناءَ على شجاعته، والرقيَّ في الرتب العسكرية، وجَرَّ المغانم، وكالمزكي: يريد بزَكَاتِه الثناءَ عليه ¬

_ (¬1) محمَّد، من الآية: 38

بالكرم، واكتسابَ مودةِ الناس، وحبَّ المساكين ورضاهم، وكالحاج يقصد بحجه التجارةَ أو الحصول على لقب "الحاج" بين الناس، فليعم هذا المقصر المبهور بزخارف الدنيا الزائلة: أن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة. فما له يطلب ثواب الدنيا وهو قليل فانٍ، ويحرم نفسه من ثواب الآخرة وهو جزيل باق .. قال تعالى: { ... وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬1). فليطلب العبد بطاعته ثوابهما معا، ويقول: { ... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2) أو ليطلب ثواب أشرفهما وأبقاهما! قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ... } (¬3). {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}: أي: وكان الله - ولا يزال - عظيم العلم بجميع المسموعات والمبصرات. وفي جملتها أَقوال عبادة. وأَعمالهم ونياتهم. فيجازى كلاًّ على حسب حاله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} ¬

_ (¬1) الشورى، من الآية: 20 (¬2) البقرة، من الآية: 201 (¬3) الشورى، من الآية: 20

المفردات: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}: قائمين بالعدل مع المواظبة عليه، والمبالغة فيه. {وَإِنْ تَلْوُوا}: وإن تميلوا أَلسنتكم بالشهادة، بالإتيان بها على غير وجهها. {أَوْ تُعْرِضُوا}: أي تتركوا إقامتها أو تقيموها عَلى غير وجهها. التفسير 135 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ... } الآية. هذه الآية - والتي بعدها - فيهما امتداد للحديث عن العدل، الذي سبق طرف منه في الآيات السابقة. وبين الإِيمان والعدل رباط وثيق؛ لأن الإِيمان الصحيح، يقتضي إقامة العدل والقسط بين الناس. والمعنى: يأَيها الذين آمنوا، كونوا مواظبين على العدل في جميع الأمور، مجتهدين في إِقامته كل الاجتهاد، لا يصرفكم عنه صارف. وكونوا شهداء لله ولو على أَنفسكم أَو الوالدين والأَقربين. وذلك بأَن تقيموا شهاداتكم بالحق خالصة لوجه الله، لا لغرضٍ من الأَغراض الدنيوية، مهما يكن أَجره، ولو عادت الشهادة بالضرر عليكم، أَو على الوالدين والأَقربين. فإِن الحق أحق أَن يتبع، وأَولى بالمراعاة من كل عاطفة وغرض. {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}: أي: أن يكن المشهود عليه غنيا يُرْجَى نفعُه. أَو فقيرا يثير فقرُه الرحمة، فلا تتأَثروا بذلك كله في شهاداتكم. فالله أَولى بالأَغنياءِ والفقراءِ، وأَحق منكم برعاية ما يناسب كلا منهما. ولولا أَن أَداءَ الشهادة على وجهها فيه مصلحة لهما، لما شرعه الله. فراعوا أَمره - تعالى - فإِنه أَعلم بمصالح العباد منكم. {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}: أي: فلا تتبعوا في شهاداتكم - على هذا أَو ذاك - هواكم: كارهين إقامة العدل في شهاداتكم من أَجل الرغبة في مصلحتهما؛ لأن اتباع الهوى والميل، ضلال لا يليق بالمؤمنين. وإقامة العدل حق وهدى: يجب على المؤمنين - وجوبا مؤكَّدًا - أَن يتصفوا به.

{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أي: وإِن تميلوا ألسنتكم عن الشهادة - بالإتيان بها على غير وجهها الذي تستحقه، أو تعرضوا عنها، وتتركوا إقامتها وتهربوا من أدائها - فإن الله كان بما تعملون من معاداتكم للحق بأي وجه مما سبق - عليما فيجازيكم على ما اقترفتم. هذا، وكما تحرم الشهادة: للغني أَو الفقير على غير وجهها، تحرم أيضا الشهادة إِذا كانت لغرض آخر كرعاية الجار، أو الطمع في جاهٍ أَو منصبٍ عند حاكم، أو انتصار لطائفة أو مذهب أو نحو ذلك. وما جاءَ في الآية، إنما هو من باب ضرب المثل. وقد التزم المسلمون الأولون، مراعاة العدل التام، فلم يفرقوا بين من كان على دينهم ومن خالفهم - اتباعًا لأهوائهم. ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم. فقال: والله، لقد جئتكم من عند أَحب الخلق إليّ. والإِثمُ أبغضُ إلي من اعدادكم من القردة والخنازير. وما يحملني حبي إِياه ولا بغضي لكم، على أَلّا أعدلَ فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. 136 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ... } الآية. المعنى: الخطاب للمؤمنين كافة. والمراد من قوله: (آمِنُوا): استمروا، أَو اثبتوا على إيمانكم باللهِ ورسوله، والكتاب الذي نزل الله على رسوله وهو القرآن، والكتب السماوية التي أنزلها الله من قبل، على من سبق من الأنبياء والمرسلين. وهي التوراة والإنجيل والزبور. والإِيمان بها - بطريق الإِجمال - واجب شرعا. أَما ما يتداول بين أهل الكتاب المعاصرين، من أسفار عنها، اسمها "العهد القديم" "والعهد الجديد"، فقد دخلها - من التغيير والتبديل، والإِضافة والحذف - ما أخرجها عن نسبتها إلى الله تعالى وعن تسميتها توراة وإنجيلا. فلا تدخل فيما أمرنا بالايمان به، وإنما نؤمن بأصولها الأولى الصحيحة، التي أَنزلها الله. وكما نؤمن بتلك الأصول نؤمن بأَنها نسخت بالقرآن الكريم.

قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ... } (¬1). وبهذا صار القرآن المرجع الديني التشريعي الوحيد، للبشرية أجمعين. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}: ومن يكفر بالله تبارك وتعالى، واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، ويكفر بملائكته الذين هم عباد مكرمون: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويكفر بكتبه المنزلة على رسله لهداية خلقه، ويكفر باليوم الآخر الذي يبعث فيه الخلائق للجزاء - من يفعل ذلك - فقد بَعُدَ عن الحق بعدا سحيقا، يستحق عليه العذاب الشديد، لإهداره آدميته. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}. المفردات: {ازْدَادُوا كُفْرًا}: عَادُوا واستمروا فيه. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ}: أنذرهم. ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 48

{أَيَبْتَغُونَ}: أيطلبون. {الْعِزَّةَ}: الغلبة والقوة. {يَخُوضُوا}: يدخلوا. التفسير 137 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ... } الآية. هذه الآية، بينت حال بعض الكافرين، وهم المنافقون الذين ترددوا بين الإيمان الظاهر أمام المؤمنين، وبين الكفر، حينما يلتقون بالكافرين أمام المؤمنين. والمعنى: إِن المنافقين الذين أَظهروا الإيمان أَمام المؤمنين رياءً، ثم كفروا أمام أَوليائهم الكافرين، ثم عادوا إلى إظهار الإيمان حين لقائهم بالمؤمنين، ثم كفروا عند عودتهم إلى الكافرين، ثم ازدادوا في دخيلة أنفسهم كفرا وجحودا، واستمروا عليه. - إن هؤلاء: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}: أي: هؤلاء المنافقون المذكورون، قد حكم الله بأنهم محرومون من أن يغفر الله لهم كفرهم ومعاصيهم، ومحرومون من أَن يهديهم الله إلى الحق؛ لإصرارهم على الكفرِ والنفاق. وقيل إن المراد من هؤلاء. قوم تكرر منهم الارتداد، وأصروا على الكفر وتمادوا في الغَيِّ والضلال. 138 - {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}: بعد أن أَوصد الله في وجه هؤُلاء المنافقين أبواب الرحمة والهداية، نتيجة تكرر الكفر منهم، أَمر الله رسوله أن ينذرهم بأنه أعَدَّ لَهُم في الآخرة عذابا شديد الإيلام، وعبر عن الإنذار بالتبشير، تهكما بهم وسخرية منهم، وإيآسًا لهم من المبشرات كلها، وأنها - بفرض وقوعها كما هي هنا - فليس لها رصيد إلا العذاب الأليم؛ لتلاعبهم بالعقيدة وسخريتهم بها.

139 - {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... } الآية. أفادت هذه الآية أن هؤُلاء المنافقين: يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم من دون المؤمنين، حينما يخلون بهم، ويبتعدون عن المؤمنين، ويقولون للكافرين إذا خلوا بهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (¬1) أي: مستهزئون بالمؤمنين في إظهارنا الموافقة لهم في الإيمان. ولقد أنكر الله عليهم ذلك المسلك بقوله عن غايتهم: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}: أي يطلبون بموالاتهم القوة والغلبة مع أنهم لا يستطيعون منحهم إياها. {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}: أي يمنحها إلا أولياءه. فمن استعز باللهِ أعزه. ومن استعز يغيره أذله. وصدق الله تعالى - إذ يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). 140 - {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... } الآية. جاءت هذه الآية، لتشديد النكير على المنافقين، في موالاتهم للكافرين، والرضا بما يقولون في حق الإِسلام والمسلمين. والمعنى: أيبتغي هؤُلاء المنافقون العزة بموالاتهم الكافرين ومشاركتهم الاستهزاء بكتاب الله أو الرضى به؟! والحال أَنه قد نزل عليكم - يا معشر المؤمنين - أنكم إذا رأَيتم أولئك الكافرين يستهزئون بكتاب الله تعالى، وسمعتم منهم ذلك - فاتركوا مجالسهم حتى يخوضوا في حديث غيره. فلو كان هؤُلاء المنافقون مؤمنين - كما زعموا - لما رضوا بسماع هذا الاستهزاء من الكافرين، ولا جالسوهم. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 140 (¬2) المنافقون، من الآية: 8

والحق: أنهم ما جالسوهم إلا ليشاركوهم في الكفر والاستهزاء. ولذا قال الله عقب ذلك: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}: أي: مثلهم في الكفر. ولستم بمؤمنين كما تزعمون. فإن المرء بجليسه. ولذلك أشركهم الله مع الكافرين في الوعيد، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}: فيعذبون فيها على اختلاف أعمالهم. ولا شك أن عذاب النفاق أشد من عذاب الكفر، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (¬1)؛ لأنهم جمعوا بين الكفر والكيد للإسلام. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} المفردات: {يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}: ينتظرون وقوع أمر بكم. {فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ}: نصر منه. ¬

_ (¬1) النساء، الآية: 145

{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: ألم نُحِطْكُم بِعَوْننا ومساعدتنا. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: يفعلون مع الله ما يفعل المخادع. وهو إِظهار ما لا يبطن. {يُرَاءُونَ النَّاسَ}: يظهرون للناس غير ما انطوت عليه صدورهم. {مُذَبْذَبِينَ}: مترددين بين المؤمنين والكافرين. التفسير 141 - {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... } الآية. هذه الآية - وما بعدها - تبين لنا، بعض سمات المنافقين وصفاتهم، التي كانوا عليها. وأَول صفة ذكرت لهم، هي التربص والانتظار؛ لاستغلال المواقف استغلالا دنيئا لمصلحتهم. وهو ما بيَّنه الله بقوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}: أي: فإن كان لكم نصر على أعدائكم - بمعونة الله - تَزَلَّفوا لكم، وراحوا يطالبون بالمغانم قائلين: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}: بالعون حتى نُصرتم على الأعداء؟ {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}: من الغلبة في الحرب على المؤمنين. {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}: أي: قال المنافقون للكافرين: أَلم نُحِطكُمْ بعوننا ومساعدتنا، واطلاعكم على أسرار المؤمنين حتى صارت لكم الغلبة عليهم. {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: أي: ندفع عنكم صولة المؤمنين بتثبيطنا إياهم، وتباطئنا في معاونتهم، وإشاعة الأخبار التي توهن قلوبهم، وتضعف عزائمهم. فاعرفوا حقنا عليكم. وهاتوا نصيبنا مما غنمتم. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: فهو مطلع على دخائل الجميع محقين ومبطلين، فيثيب أَولياءه المؤمنين المخلصين، ويعاقب أعداءه المنافقين يوم الجزاء.

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}: في الدنيا والآخرة. فلن يُغْلَب المؤمنون الصادقون في الدنيا غلبة حقيقية. وإذا وقعت لهم هزيمة - في بعض الأوقات - فهي للابتلاء والاختبار. وغالبا ما تكون نتيجةَ انحراف عن سلوك الطريق المستقيم. إذ ليس بين المؤمنين وبين النصر على أعدائهم إِلا أن يعودوا إلى الله، ويستكملوا حقيقة الإيمان: بالانقياد لكتاب الله والتمسك بشريعته ... {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... } (¬1). 142 - {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ... } الآية. هذه صفة ثانية من صفات المنافقين وسماتهم. ومعنى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}: أنهم يفعلون مع الله فعل المخادع، فيظهرون الإيمان للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكنهم يضمرون الكفر. {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}: وهو يعاملهم بما يناسب خداعم، فيتركهم في خداع الدنيا لغرورهم بها، وحرصهم على بريقها وزخرفها، ولكنه يُعِدُّ لهم في الدار الآخرة، الدرك الأسفلَ من النار. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}: هذه صفة ثالثة من صفاتهم، وهي إِذا قاموا إِلى الصلاة قاموا متباطئين متثاقلين، لا نشاط عندهم، ولا رغبة لهم في أَدائها؛ لأنهم لا يعتقدون ثوابا على فعلها، ولا عقابا على تركها. وما قيامهم للصلاة مع المصلين، إلا مظهرٌ من مظاهر خداعهم، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}: أي: يراءُون الناس بقيامهم مع المسلمين في الصلاة، ليحسبهم المؤمنون من فريقهم وأنصارهم، وهم لا يقصدون إلا أَن يرى المسلمون أنهم معهم، بل منهم. إمعانا في الخداع!! {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}: أي: ولا يذكرونه - سبحانه - إلا زمانا قليلًا، أو ذكرًا قليلًا؛ لأن المنافق لا يفعل ذلك إلا بحضور من يرائيه فحسب. وهذا أقل أَحواله، أو يراد بالقلة: العدم؛ لأن ذكرهم غير ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآية: 10

مقبُول، فلا فائدة فيه، وما لم يُقبَل معدوم، وإِن كان كثيرا في نفسه. وعلى هذا يكون المعنى: لا يذكرون الله أَبدا. 143 - {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ... } الآية. أي: مترددين حائرين بين الإِيمان والكفر، ولا مستقر لهم على أَحدهما. {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}: أي: ليسوا منسوبين إِلى المؤمنين في الحقيقة، لإِضمارهم الكفر. ولا إِلى الكافرين لإِظهارهم الإِيمان: والموصوفون بذلك، ضالون عن سنن الهدى. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}: لعدم استعداده للهداية والتوفيق: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}: أي: فلن تجد لهدايته طريقا موصلا إِلى الحق والصواب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}

المفردات: {سُلْطَانًا مُبِينًا}: حجة ظاهرة. {أَوْلِيَاءَ}: نُصَراء. {الدَّرْكِ الأَسْفَلِ}: الطبقة السفلى. {وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ}: اتخذوه ملجأً وملاذا. {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا}: أي كان - ولا يزال - مثيبا على الشكر. التفسير 144 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... } الآية. بعد أَن بين الله صفات المنافقين، الناطقة بأَنهم كفار في حقيقة أَمرهم، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين - جميعًا - أَولياء، فإِنهم لا يضمرون الخير لهم. فقال: يأَيُّهَا الذين آمنوا لا تتخذوا الكفار أَولياء وأَحبَّاء ونصراءَ من دون المؤمنين؛ لأَنهم لا يُؤمَنُ جانبهم: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}: أي: أَتَرغبون - بموالاة الكفار - أن تكون لله عليكم حجة واضحة في عذابه إياكم، إذْ أنكم اتخذتم أعداءه أَولياء لكم. وهم يبغون لكم الهزيمة، ولدينكم الزوال. كما قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ... } (¬1) الآية!! وهذا لا يمنع من عقد معاهدات السلام معهم إذا كان في ذلك مصلحة الإِسلام والمسلمين. 145 - {إنَّ الْمُنَافِقِينَ في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... } الآية. هذه الآية، عادت بالحديث إلى المنافقين، لشدة خطرهم على الإِسلام، وبينت أنهم في الطبقة السفلى من النار. فإن النارَ دركاتٌ، كما أَن الجنةَ درجاتٌ. ¬

_ (¬1) الممتحنة، من الآية: 1.

وفي ذلك إشارة إِلى شدة عذاب المنافقين. وإنما كانوا أشد عذابا من الكفار الظاهرين، لأَنهم ضموا إِلى الكفر المشترك بين الطائفتين - استهزاءً بالإِسلام، وخداعًا لأَهله .. (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا): أَي: لن تجد لهم من ينصرهم بإِخراجهم من هذا العذاب، أَو بأَن يخفف عنهم منه شيئًا. 146 - (إِلَّا الّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ... ) الآية أي: إلا الذين تابوا عن النفاق في الدنيا قبل أَن يموتوا، وأَصلحوا مَا فَسَدَ من نياتهم وضمائرهم. (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ): أي: تمسكوا بكتابه، ووثقوا بربهم، وجعلوه ملجأً ومعاذا لهم. (وَأخْلَصُوا ودِينَهُمْ لِلهِ): أَي: جعلوا طاعتهم خالصة لوجه الله لا رياءَ فيها ولا نفاقا، بل رغبة في رضاه. (فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ): أي: فأولئك الموصوفُون بما ذكر - مع المؤْمنين المخلصين؛ الذين لم ينافقوا منذ إيمانهم. والمراد: أنهم معدودون منهم في الدنيا والآخرة. (وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤْمِنِينَ أجْرًا عَظِيمًا): أَي: يؤْتيهم في الآخرة أجرا عظيما، فيساهمونهم فيه، ويشاركونهم إياه. وفي هذه الآية الكريمة، ما يدل على ضَعَةِ المنافقين، ورفعة شأْن التائبين المصلحين، المعتصمين بالله، المخلصين دينهم له سبحانه.

147 - {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ... } الآية. هذا خطاب للمنافقين، سيق لبيان أن مدار تعذيبهم هو داء النفاق، المشتمل على عدم شكر الخالق، وعدم الإيمان به. والمعنى: أي شيءٍ يعود على الله سبحانه بعذابكم، إن كنتم شاكرين، وهو لا يعذب لجلب نفع له، أو دفع ضر عنه، أو لإدراك ثأْر، أو للتشفي؟! فهو منزه عن ذلك كله، فإِن شكرتم نعمَ الله عليكم، وآمنتم مخلصين لله، جازاكم على ذلك خير الجزاء، وغفر لكم ووفَّاكم أُجورَكم. (وَكانَ اللهُ شَاكِرًا): أَي مثيبا على الشكر. (عَلِيمًا): لا يعزب عن علمه شيء. وبذلك يصل ثوابه كاملا للشاكرين.

{لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}. المفردات: (لَا يُحِبُّ اللَهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَء مِنَ الْقَوْلِ): أي لا يرضى الله عن إفشاءِ القبيح من القول في الناس؛ بذمهم وذكر معايبهم. التفسير 148 - {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}: بيَّن الله - قبل هاتين الآيتين - ألوانًا من الأخلاق والأحكام، التي يجب أن يتحلى بها المسلمون: من قيامهم بالعدل شهداء لله ولو على أنفسهم، وإِيمانهم باللهِ وجميع رسله وكتبه، ونَبْذ النفاق، وألّا يتخذوا الكافرين أَولياءَ من دون المؤمنين. وقد تضمنت هاتان الآيتان، بعض الأَخلاق التي يكمُل بها إِيمانهم، ويكونون بها مُثُلًا عُليا في الآداب الإِسلامية التي يدعو إليها دينهم. فقد جاءَ فيهما وجوبُ صون ألسنتهم عن مقالة السوء في غيرهم، والترغيبُ في إبداءِ محاسن سواهم، والعفوُ عمن أساءَ إليهم. سبب النزول: قال ابن جريج، عن مجاهد: نزلت في رجلٍ ضاف رجلًا بفلاةٍ من الأرض فلم يُضَيِّفه فنزلت: (إلاَّ مَن َظُلِمَ).

ورواه ابن أبي نَجِيح - أيضًا - عن مجاهد. قال: نزلت هذه الآية: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} في الرجل يمرُّ بالرجل، فلا يضيفه، فرخص له أن يقول فيه: إنه لم يحسن ضيافته. {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}: أَي لا يحب الله إيذاءَ الناس جهرًا بالسّيىء الفاحش من القول، كشتمهم ووصفهم بالظلم والبخل، والقدح في أَعراضهم. وغير ذلك مما يسيء إِليهم، ويهدر كراماتهم، سواءٌ أَكان ذلك في مواجهتهم أَم كان في غيبتهم. ومن الجهر بالسوءِ من القول: إذاعة (التمثيليات والأَفلام) المشتملة على القصص الفاجرة، التي تبرز فيها الرذيلة، وتُسلَّطُ الأَضواءُ فيها على ممثلاث الإغراء الجنسي، وتُسْمَعُ فيها العبارات المخجلة، والأَصوات المنكَرة المغرية بالإثم، وتُرَى فيها الصور المفسدة لأَخلاق الذكور والأناث؛ الكبار منهم والصغار. فذلك يبغضه الله ولا يحبه. بل إنه تعالى، يعاقب عليه أَشدَّ العقاب؛ لخطورته على الأخلاق. ومن الجهر بالسوء: نشر كتب الجنس وصورِه، التي تحرّض الشباب على الفسق والانحلال الخلقي، وتستأصل المناعة الخلقية - في شبابنا المسم - من أُصولها. فليتق الله أَولئك المشرفون على الإِذاعات والتليفزيون في العالم الإِسلامى، ولْيمنعوا نشر تلك التمثيليات الهادمة لمجتمعنا، المدمرة لأَخلاق شبابنا. وليتق الله المشرفون على المطبوعات، فلا يسمحوا بنشر تلك الكتب، وهذه الصور المفسدة لأخلاق أبنائنا وبناتنا، فإن مسئولية هؤُلاء وأولئك، عظيمة عند الله، الذي أَنزل القرآن دستورا للأَخلاق الإِسلامية الفاضلة، وجعل أُمة الإِسلام خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن باللهِ. ومن الجهر بالسوء: نشر المبادئ الهادمة للعقيدة الإِسلامية: بطريق الكتب، أو المحاضرات، والتحدث عن النزوات وأَلوان الفسق المختلفة.

والمقصود من الجهر بالسوء: أن تخبر به غيرك .. سواءٌ أكان ذلك بصوت مرتفع يسمعه عدد من الناس، أم بصوت خفيض تخص به بعض الناس؛ فإِن خروج السوء والفحش عن مكنون سريرتك وأَعماق نفسك، إلى غيرك سرًّا أَو علنا، يؤدي إلى الجهر به وإذاعته، وإِلحاق الأذى بسمعة من تحدثت عنه. مما ينجم عنه هبوط المستوى الخلقي للمجتمع كله. وفي ذلك ما فيه من ضرر خطير، تجب مكافحته شرعًا وعقلا. وخص القول السيىء بالذكر؛ لأَنه الشائع وقت نزول القرآن، فمثله في الحكم كل ما أَدى إِلى الإيذاء من الهمز واللمز والكتابة والتصوير. فكل ذلك حرام. وقد أَباح الله للمظلوم أن يجهر بالسوء عن ظالمه فقال: (إِلَّا مَن ظُلِمَ): أَي لا يحب الله الجهر بالسوءِ، إلا جهر المظلوم بظلمه. فإِن الله لا يَسخطه ولا يعاقب عليه عقاب الجهر بالفحش، بل يقره؛ لأنه من باب الانتصاف من الظالم، ومكافحة الظلم، فصاحب الحق له مقال يرضاه الله ولا يسخطه. قال تعالى: "وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوَلئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبيل" (¬1). ولو لم يبح للمظلوم الانتصاف من ظالمه - مهما كان مكانه الاجتماعي - لَبَغَى الناس بعضهم على بعض، ولضاعت القيم الخلقية، باستمرار الظالم في غيه وبغيه. فلذا أُبيح للمظلوم أَن يرد الظالم عن نفسه، حتى يكف الظالم عن العود إلى مثل ما فعل. وهذا الحق الذي أُعطي للمظلوم، يشمل أن يشكو ظالمه أمام القضاء، بأن يقول: أَخذ مالي، أو اعتدى على أرضي، أو سبني، أَو سب عرضي، أو نحو ذلك من الظلامات. كما يشمل الدعاءَ عليه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسم مع قريش؛ إذ دعا عليهم بأَن يجعلها الله عليهم سنين كَسنيِّ يوسف (¬2). وروى أبو داود عن عائشة أنها "سُرِق لها شيء، فجعلت تدعو عليه" أَي على السارق فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسَبِّخي عنه" أَي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه. ¬

_ (¬1) الشورى، الآية: 41 (¬2) ورد في الصحيحين ومسند أحمد والترمذي.

ولا يخفى أَن الانتصاف من الظالم، تجب الدقة في تحرِّيه، بحيث يحقق العدالة، ويأْمن الفتنة .. ولهذا يحذر اللهُ بقوله: (وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا): أي وثبت لله تعالى - قديما - أَنه بليغ السمع، بليغ العلم بكل شيءٍ على ما هو عليه. ففي ذلك تحذير وتخويف لمن يجهر بالسوءِ والفحش، ومن يتجاوز الحد في الانتصار من ظالمه فإِن من شأْن الإِله - السميع العلم - أن ينتقم ممن يتجاوز الآداب الإِسلامية، ويعتدي على سواه ابتداءً أَو جزاءً. 149 - {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}: المراد بالخير: ما يعم كل ضروبه؛ من الصدقة، والكلمة الطيبة، والثناءِ الجميل، والأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من خصال الخير الكثيرة. والعفو عن المسيءِ داخل في باب هذا الخير الواسع، ومندرج تحت عمومه الشامل، وإنما أَفرده بالترغيب فيه بعد الترغيب في الخير بقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}: تنبيها على علو منزلته ومكانته في الخير. ونظرا لأَن العفو عن المسيءِ هو المقصود الأساسي، ختمت الآية بقوله تعالى: (فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا): فَإِن إيراد العفو في جواب الشرط، يدل على أَنه هو العمدة في الكلام، وأنه هو المقصود الأول من هذا الخير المقدم في الجملة الشرطية. ولو كان إبداءُ الخير وإخفاؤُه - مطلقا - هو المقصود الأساسي، لما حسنَ الاكتفاءُ في الجواب بالعفو، بل كان يتضمن جزاء الخير أيضًا. والمعنى: إن تُظهِروا فعْلَ الخير بأنواعه المختلفة، أو تستروه وتجعلوه سرًّا بينكم وبين ربكم، أو تعفوا عن سوء صدر مِن سواكم نحوكم: من جهرٍ بكلام يؤذيكم، أو إسرارٍ به، أو ظلمٍ لحق بكم منهم، فقد تخلقتم بأَخلاق الله تعالى - فإن الله كان - ولم يزل - كثير

العفو عمن عصاه، عظيم القدرة على عقوبته. ولكنه يؤْثر العفو مع القدرة على العقاب. فاعفوا واصفحوا عمن أَساءَ إِليكم وأَنتم قادرون على الانتقام منه. ويصح أَن يكون المعنى: فإِن الله كان عفوا عمن عما عن أخيه، قديرا على إيصال الثواب إليه. وبهذا المعنى، جاءَ قوله تعالى: " ... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ... " (¬1). ويكون العفو في أَعلى مراتب الفضيلة، إذا كان مع القدرة على رد السيئة بمثلها. ويزداد رفعة إِذا قُصِد به وجْه الله تعالى، ولم يقصد به مجرد حسم النزاع، أو الاستجابة إلى شفاعة أحدٍ من الناس، أو غير ذلك من الأَغراض التي لم يدخل فيها جانب الله. وفي الحديث الصحيح: "وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا يَعْفُو إِلَّا عِزًّا". وإنما يحسن العفو، إذا كان يؤدي إلى أثرٍ جميل، من حلول السلام محل الوئام، وارتداع المسيء عن إساءَته. أَما إِن أدّى إلى ضراوة المسيءِ، فإن ردّ إساءَته يصبح واجبا شرعيا. والشر بالشر، والبادي أَظلم ... وقد فهمنا - من مجموع الآيتين - أَن ردَّ الإساءَة مشروع، وأَن العفو أَولى من الانتقام، ما لم يؤَدِّ إلى استمرار المسيء في إساءته، فحينئذ، يكون الأَخذ بالحق أولى. وينبغي أن يكون ذلك بطريق القضاء، حتى لا يتفاقم الشر. وهناك من الجرائم ما لا يصح العفو فيه، ولا السكوت عليه، كالخيانة في أَموال الدولة وإذاعة أسرارها لعدوها. ونحو ذلك من الجرائم ذات الطابع الخطير. فمثل هذه الجرائم، يجب العقاب الشديد عليها، حتى يكون رادعًا لمن تسول له نفسه أن يفعل مثلها. ¬

_ (¬1) الشورى، من الآية: 40

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن ِيُفَرِ قُواْبَينَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}. المفردات: {يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ}: أَي يؤَدي مذهبهم إلى الحكم بكفرهم بالله ورسله، على ما سيأتي بيانه. {وَيُرِيدُونَ ان يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ}: بأَن يؤْمنوا بالله ويكفروا ببعض الرسل، فيحصل بذلك التفريق بين الله ورسله في الإيمان. وهذا التفريق أدى بهم إِلى الكفر باللهِ؛ لعصيانهم أمره، وإلى الكفر برسله، لأنهم يصدق بعضهم بعضا. التفسير 150 - {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنِ يُفَرِقُواْ بَينَ اللهِ وَرُسُلِهِ ... } الآية. بعد أن بين الله - في الآيتين السابقتين - ما لا يحبه من القول، عقبه ببيان ما يمقته من الاعتقاد وما يرضاه منه، وجزاء كل منهما. فيما سنذكر تفسيره من الآيات الثلاث. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن ِيُفَرِقُواْ بَينَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}: المراد بهؤُلاء الكافرين: اليهود والنصارى.

فاليهود؛ كفروا باللهِ تعالى، فجعلوه جسما ينزل إلى الأرض، ويأْكل ويشرب، ويغالب غيره، فَيَغْلِبُ تارة ويُغْلَب أخرى، ويقود جيوشهم، فتنتصر تارة، وتهزم أُخرى. وكفروا بعيسى وبمحمد، وآمنوا بغيرهما. وبذلك فرقوا بين الله ورسولَيْهِ اللذَيْنِ لم يؤْمنوا بهما، وأَقصوهما عن شرف الرسالة. وبذلك آمنوا ببعض الرسل، وكفروا بالبعض الآخر، وخالفوا بذلك أمر الله، وكانوا به كافرين بجميع الرسل. والنصارى؛ كفروا باللهِ تعالى - فجعلوه جِسْمًا، وأبا، وثالث ثلاثة، وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا بغيره. وبذلك فرقوا بين الله تعالى، وبين رسوله محمَّد. ونحَّوْهُ عن شرف الرسالة. فقد آمنوا ببعض الرسل، وكفروا بالبعض الآخر، وكانوا - بذلك - كافرين بالرسل جميعًا. فقد صاروا - بكفرهم ببعض الرسل - كافرين بالرسل جميعًا؛ لأَن دين كل واحد منهم هو دين الله، فالكفر به - مع أحدهم - هو بمثابة الكفر بما جاءَ به سائر الرسل، ولأَن كل رسول أوصى أُمته: أن يؤْمنوا بالرسل الذين يبعثهم الله بعده. فمن كفر بأَحدهم، فقد كذب الرسل الذين سبقوه، وجحد وصيّتهم. وبعض المفسرين لم يخص الآية باليهود والنصارى، بل جعلها شاملة لأَصناف ثلاثة: الصنف الأَول: من كفر باللهِ فأَنكر وجوده، وكفر برسله فأَنكر النبوات، لأَن من أَنكر وجود المرسل، أنكر وجود الرسل. وهذا هو المقصود بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ}: ويمكن أن يدخل - في هذا الصنف - المشركون بالله. والصِّنفُ الثاني: مَن آمن بالله وكفر برسله، وهو المعنى بقوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ}: أَي: والذين يريدون أن يفرقوا بينه وبينهم في الإيمان، فيوجبوا الإيمان به، وينفوا وجوب الإيمان بالرسل، لأنهم ينكرون النبوات.

والصنف الثالث: مَنْ يؤمن بالله، ويؤْمِن ببعض الرسل، ويكفر بالبعض الآخر، كاليهود والنصارى، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}: أي: والذين يقولون نؤْمن ببعض الرسل، ونكفر ببعضهم، مع إيمانهم باللهِ (¬1). والرأْي الراجح هو الأَول. {وَيُرِيدُونَ أن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: أي ويريدون - بما قالوه من الإيمان بالبعض والكفر بالبعض الآخر - أن يتخذوا طريقًا وسطا بين الإيمان والكفر، مع أنه لا وسط بينهما، إذ الحق واحدٌ: لا يُنْتَقَصُ منه. وليس بعد الحق إلا الضلال. 151 - {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ... } الآية. أَي أولَئك الموصوفون بتلك الصفات الشائنة، هم الكافرون المبالغون في الكفر حقا. فلا عبرة بما يزعمونه من الإِيمان. {وَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}: أي: وأعددنا لهؤُلاء الكافرين عذابا؛ يهينهم ويذلهم، جزاء التفريق بين اللهِ ورسله، والإيمان بالبعض والكفر بالبعض الآخر. 152 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية. المعنى: والذين صدّقوا بالله، وبما يجب له من صفات الكمال، وبما يتنزه عنه من صفات ¬

_ (¬1) والواو في قوله: "ويريدون" وقوله: "ويقولون" إما أنها بمعنى أو، وإما أنها بمعناها الأصلي. وفي الكلام موصول مقدر، أي والذين يريدون أن يفرقوا إلخ، والذين يقولون نؤمن ببعض إلخ، على رأي من يجيز حذف الموصول مع بقاه صلته.

النقص، وآمنوا بجميع رسله وما يتصفون به من صفات الكمال، ولم يفرقوا بينهم في الإيمان، بأَن يؤمنوا ببعضهم دون بعض، كما فعل اليهود والنصارى (¬1). {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: أولئِكَ المؤمنون بالله ورسله دون تفريق بينهم في الإِيمان، سوف يعطيهم الله أُجورهم، التي وعدهم إِياها، لأَنهم هم المؤمنون حقا، دون من سبقهم، ممن يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض. وكان الله: عظيم الغفران لما عسى أن يكونوا فعلوه من المعاصي، واسع الرحمة بالمؤمنين، فيضاعف حسناتهم، ويزيدهم على ما وعدوا. {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا في السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}. المفردات: {جَهْرَةً}: علانية. {الصَّاعِقَةُ}: النازلة المهلكة. ¬

_ (¬1) صح دخول (بين) على أحد، مع أنه لا يدخل إلا على متعدد؛ لأن المقصود من أحد هنا العموم. "وأحد" من الكلمات التي تصلح للمفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث. والمقام هو الذي يعين المعنى المراد منه. والمقام هنا للجمع، فكأنه قيل: ولم يفرقوا بينهم. راجع ما كتبناه على الآية رقم: 136 من سورة البقرة.

{سُلْطَانًا مُبِينًا}: تسلطا ظاهرا على قومه. {الطُّورَ}: الجبل المعروف. {بِمِيثَاقِهِمْ}: بعهدهم. {ادْخُلُوا الْبَابَ}: المراد به، باب المدينة التي أُمروا بدخولها. {سُجًدًا}: خاضعين. {لاَ تَعْدوا في السَّبْتِ}: لا تظلموا فيه أَنفسكم، بصيد الحيتان التي حُرِّم عليكم صيدها فيه. (مِيثَاقًا غَلِيظًا): عهدا وثيقا مؤكدا. التفسير 153 - {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاء ... } الآية. بعد أَن بينت الآياتُ السابقةُ عقائد أَهل الكتاب الزائفة؛ عقبته ببيان موقف اليهود من موسى وموقفهم مع الله تعالى، تسلية لرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. سبب النزول: قال محمَّد بن كعب القرظي، والسدّى، وقتادة: سأَل اليهود رسول - صلى الله عليه وسلم - وسلم أن يُنْزلَ عليهم كتابا من السماء، كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة. فنزلت الآية. وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن جريج، قال: إِن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: "لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتيَنَا بكتاب من عند الله تعالى - إِلى فلان: أنك رسول الله، وإِلى فلان أَنك رسول الله ... " وما كان مقصدهم بذلك إِلا التحكيم والتعنت. المعنى: يطلب منك أهل الكتاب من يهود المدينة أن تنزل عليهم - يا محمَّد - كتابا من السماءَ يَروْنه عِيانًا، وقد نزل من السماء مكتوبا في قرطاس أَو أَلواح، كما نزلت التوراة

على موسى جملة واحدة؛ ليكون ذلك - في نظرهم - آية على نبوتك، غير مقتنعين بأَن ينزل الله عليك وحْيًا شفويا، ويقولون: لا نبايعك ولا نؤْمن بك حتى يُنَزّلَ عليك الكتاب كما سأَلنا. {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً}: أَي لا تبال بتعنتهم وعنادهم، فذلك طبع جامح يجري في دمهم. فقد سأَل آباؤُهم موسى سؤالا أكبر مما سأَلوك، فقالوا له: أرِنا الله جهرة وعلانية، حتى نعلم - منه - انه أَرسلك. فإِن لم تفعل فلن نؤْمن لك. وذلك ما حكاه الله عنهم في سورة البقر بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ... } (¬1) فالتعنت الذي تراه في أحفادهم المعاصرين لك يا محمَّد، أَمرٌ موروث عن آبائهم، وخُلُقٌ قديم انتقل من أصولهم إليهم، والشيءُ من معدنه لا يستغرب. ونسبة ما قاله آباء اليهود الأَولون إلى أَحفادهم المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - من باب نسبة الذنب. إلى النوع كله - كأَنه جِبلَّة وطييعة - كما ينسب ذنب بعض أفراد القبيلة إلى القبيلة كلها، وذلك على حد قول الشاعر: قوى همو قتلوا أميم أخي ... فإِذا رميت يصيبني سهمي {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}: من معاني الصاعقة: العذاب المهلك. والمعنى: أَن الله تعالى أهلكهم بما شاءَه من أسباب الإهلاك لتجاوزهم حد الأَدب والحق، حين طلبوا معاينة الله ليؤْمنوا برسوله موسى - عليه السلام. والظاهر أن الإهلاك كان لأَصحاب هذا السؤال الفاجر، لا لكل اليهود. {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: أي ثم اتخذ بنو إسرائيل العجل معبودًا لهم، من بعد ما جاءَتهم الأدلة الواضحة الشاهدة بوحدانية الله، النافية لعبادة آلهة سواه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 55.

فلقد أَراهم الله - على يد موسى - آيات عظيمة، لا يصح - معها - أن يهدروا عقولهم فيعبدوا عجلًا لا حول له ولا قوة!! أَفلم يشقّ لهم الله اثنى عشر طريقا في البحر: يتخللها الماءُ كالطود العظيم؟ أَفلم يفجَّر لهم اثنتي عشرة عينا، قد علم كل أُناس منهم مشربهم؟ أَفلم يَرَوا العَصَا تبتلع ما جاءَ به السحرة من السحر العظيم؟ أَفلم يشاهدوا الطوفان والجراد والقُمَّلَ والضفادع والدم؟ إلى غير هذه الآيات. وقد جاءَت هذه الآيات كلها، بدعوة موسى ربه، ولكنهم: عُمْيُ العيون فلا يبصرون، غلْف القلوب فلا يعقلون. فلا غرابة في أَن يطوفوا حول عجل جسد يعبدونه. { ... أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} (¬1). وليس المراد بالآيات التوراة فقد جاءَتهم بعد عبادتهم العجل، حيث كان موسى في ميقات ربه الذي آتاه التوراة بعده وكانوا هم في هذه الفترة - يعبدون العجل الذي صنعه لهم السامري ثم جاءَ موسى بالتوراة، فرآهم على تلك الحال فغضب، وألقى الألواح، وعاتب أَخاه هارون على ما حدث. وسيأتي بيان ذلك في سورتي: الأعراف، وطه. {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}: أَي فعفونا عن اتخاذهم العجل معبودا بعد ما تابوا، وآتينا موسى تَسَلُّطًا بَيّنا واضحًا على قومه، فَقوىَ فيهم أَمره، وضعفت معارضتهم له، وظهر انكسار نفوسهم، فقبلوا أَمره أَن يقتلوا أَنفسهم - بالندم والحزن - على ما صنعوا توبة منهم. وفيما تقدم، بشارة للنبي صلى الله عليه وسم - بأَن الله تعالى سيعاقب معانديه من اليهود على تعنتهم كما عاقب أسلافهم، وأن أَمره فيهم، سيكون ذا سلطان بيّن، وقهر ظاهر. ¬

_ (¬1) الأعراف، من الآية: 148.

وهذا ما حدث له فيهم بعد ذلك: عن القتل والإِجلاءِ، جزاءَ ما صنعوا معه صلى الله عليه وسلم، من نكث العهود والخيانة في أَوقات الشدة. 154 - {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ... } الآية. لمَّا جاءَهم موسى بأَلواح التوراة، استثقلوا العمل بما جاءَ فيها من التكاليف، فلم يأُخذوها بعزم وقوة. بل بتثاقل وتراخ وامتناع؛ لأَن قلوبهم لا تزال مشدودة إلى عبادة العجل. فلذا، رفع الله فوقهم الجبل، تهديدا لهم، ليقبلوا العمل بالتوراة، ويأُخذوها بقوة وعزم، ويعطوا الميثاق والعهد على ذلك. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). وهكذا كان شأُن اليهود: عصيانٌ لما يؤْمرون به، وعقابٌ أَو تهديد بعقاب من الله، حتى يستقيموا على العبادة. والمعنى: ورفعنا فوقهم الطور بسبب ميثاقهم ليعطوه، ويتعهدوا بالعمل بالتوراة. {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}: المراد بالباب؛ باب القرية التي أمروا بدخولها، بعد أَن يخرجوا من التيه. والقائل هو الله سبحانه وتعالى على لسان نبي من أَنبياءِ بني إسرائيل وهذا النبي هو موسى عليه السلام. ويشهد له ما سبقه من الحديث عن إيتاءِ موسى سلطانا مبينا، ومن رَفْع الطور فوقهم، فإن ذلك كان في عهد موسى. والمراد باالسجود، الخضوع أَو الركوع. وقيل: إِن القائل عن الله تعالى، هو النبي يوشع. فإِن الظاهر أَن قوله: {ادْخُلُوا الْبَابَ}: أَمرٌ بدخول القرية بعد فتحها. وموسى عليه السلام لم يدخل تلك القرية؛ لأَنها فتحت بعد التيه بقيادة يوشع. وموسى عليه السلام توفي أَثناء التيه. واختلف في هذا الباب الذي أُمروا أَن يدخلوه سجدا. فقيل: هو باب بيت المقدس. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 171.

روى ابن المنذر وغيره، عن قتادة: "كنا نتحدث أَنه باب من أَبواب بيت القدس"، وقيل: باب إيلياء. وقيل: باب أريحاء. وقد أمروا أن يسألوه تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم، فيقولوا: "حِطَّةٌ". كما جاءَ في قوله تعالى { .... وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ... } (¬1). ولكنهم لما دخلوا منتصرين، تنكروا لما أمرهم الله به من الخضوع والخشوع لله سبحانه. بل سخروا بالخشوع والاستغفار واستبدلوا بهما عملا ماجنا، وقولا هازئا. فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه رسلم قال: "قِيلَ لِبَني إسْرَائِيلَ ادْخُلوا الْبَابَ سجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أسْتَاهِهِم فَبَدَّلُوا، وَقَالُوا: حِنْطَة؛ حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ" (¬2). وفي ذلك يقول الله تعالى: "فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأنزَلْنَا عَلَى اَلذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا منَ السَّماَءِ بِهَ كَانُوا يَفْسُقُونَ" (¬3). {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا في السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}: نهاهم الله عن العدوان في يوم السبت: بفعل ما حرم عليهم فيه من صيد الحيتان وغيره، وأخَذَ عليهم بذلك ميثاقا غليظا - أَي عهدا مؤَكَّدا -. ويجوز أن يكون المراد بالميثاق الغلِيظ هنا؛ هو ما أخذه الله منهم بعد رفع الجبل فوقهم كأَنه ظلة، تهديدا لهم. فقد أَعطوْا موسى عليه السلام عهدا بالعمل بالتوراة، تحت تأثير هذا التهديد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 58 (¬2) أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة. (¬3) سورة البقرة، الآية: 59

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)}. المفردات: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ}: أي فبسبب نقضهم ومخالفتهم للعهد الوثيق المؤكد. و (مَا) في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم}: لتوكيد هذا النقض، فإنها كثيرا ما توصل بالكلام لهذا الغرض كقوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللَهِ لِنتَ لَهُمْ": أي فبرحمة مؤَكدة من الله كنت لينا معهم. {قُلُوبُنا غُلْفٌ}: أي مغلفة ومغطاة بأَغشية تمنعها من قبول ما جاءَ به الرسول. وغلف: جمع أغلف. وهو: مما له غلاف. {طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}: أي تخلى عن هدايتها بسبب إصرارهم على الكفر. {بُهْتَانًا عَظِيمًا}: كذبا فظيعا؛ يبهت من يقال فيه، ويدهشه، ويحيره. التفسير 155 - {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ... } الآية. ختم الله الآية السابقة بقوله.: {وَأخَذْنَا مِنْهُم ميثَاقًا غَلِيظًا} وجاءَت هذه الآية بعدها

تطوى تحت إِيجازها: أنهم نقضوا هذا الميثاق، وأنهم عوقبوا بسبب هذا النقض (¬1). والإِيجاز مقصد من مقاصد البلاغة. والمعنى: فَنَقَضَ بنو إِسرائيل الميثاق الغليظ الذي أخذناه عليهم، فبسبب هذا النقض، لعَنَّاهم وعاقبناهم، كما لعناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم بآيات الله الكونية العجيبة، التي أَجراها لله على يد موسى، إذ عبدوا العجل بعدها، وقالوا: {أَرِنَا الله جَهرَةً}. وكذلك آيات التوراة، فقد أَخفوا ما جاءَ فيها من بشارات عن النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم، أَو أَساءُوا تَأَويلها؛ ليبرروا كفرهم به. وكما لعنَّاهم بذلك، لعناهم بقتلهم أَنبياءهم بغْيًا وحسدًا، دون شائبة من الحق، كما فعلوا بيحيى وزكريا وشعيب وغيرهم - عليهم السلام - ولعناهم وعاقبناهم بقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. والمقصود من قولهم: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أَنها محجوبة ومغلفة بغلاف من الصدود والرفض لدعوتك يا محمَّد، فلن تصل إليها براهينك، فلا تُتعبِ نفسك معنا. ويجوز أن يكون المراد: أَن قلوبهم أَوعية للعلم وأَغلفة له، فليسوا بحاجة إلى علم جديد، وهذا الأخير مبني على أن غُلْف - بسكون اللام - مخفف غُلُف - بضمها - جمع غلاف. وكلا المعنيين قبيح بهم، فالصد عن الحق، والإِعراض عنه، لا يجوز ممن يدَّعون العلم، ويتعالون به على الناس، فهم أَولى بالأَخذ به من الجهلاءِ. {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}: هذا رد من الله لا أَرادوه من قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أَي ليست قلوبهم مليئة بالعلم كما زعموا. وليس فيما جاءَ به محمَّد ما يصرفهم عن قبوله. فهو الحق الذي ينفذ إِلى ¬

_ (¬1) وعقوبتهم وإن لم تشر إليها الآية فهي مفهومة استلزاما من حكايته ذنوبهم الفظيعة. وللتصريح بها في آية المائدة المماثلة لها: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لعناهم .. } وعلي هذا تكون الباء في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} متعلق بفعل مقدر أي فلعناهم بسبب نقضهم ميثاقهم ... إلخ. وأجاز بعضهم تعلقه بفعل تقديره (لا يؤمنون) أخذا من قوله في آخر الآية: (فلا يؤمنون إلا قليلًا). وقيل هو وما عطف عليه؛ من قتلهم الأنبياء، وقولهم: "قلوبنا غلف"، وقوله: "وبكفرهم"، وقوله: "وقولهم على مريم"، وقولهم: "إنا قتلنا المسيح" وقوله: "فبظلم" - كل ذلك - متعلق بقوله: "حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم".

شغاف القلوب، ولكن الأَمر أَن الله طبع على قلوبهم وحجبها عنه؛ بسبب إصرارهم على الكفر والمعاصي. (فَلَا يُؤْمِنُونَ إلا قَلِيلاً): أي فلا يؤْمنون إلا إيمانا قليلًا، ليس له وزن عند الله، لفقدانه العناصر الضرُورية لصحته. فهو والعدم سواء. 156 - {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}: هاتان سيئتان من سيئاتهم المنكرة، معطوفتان على ما تقدم منها، من سيئات، مثل نقض الميثاق والكفر بآيات الله .. إلخ. داخلة جميعها في حيز السببية لِلَعْن الله لهم، وعقابه إِياهم، كباقي سيئاتهم التي ستأْتي بعد. والمعنى: فبسبب نقضهم ميثاقهم وما تلاه من قبائحهم، وبكفرهم بعيسى عليه السلام، ورميهم أُمه مريم الطاهرة بالزنى، لعنَّاهم وطردناهم عن رحمتنا، فإِنها - عليها السلام - وإن حملت وهي غير متزوجة، فقد برَّأَها الله من السِّفَاح، على لسان وليدها الذي أنطقه الله عقب الوضع، فَبرَّأَ والدته، وأخبرهم أَنه عبد الله، وأَنه آتاه الكتاب وجعله نبيا .. إلخ. {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}. المفردات: {شُبِّهَ لَهُمْ}: أَي أَلقى شبهه على غيره لينجو من القتل فاشتبه عليهم. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ}: أي لفي حيرة وتردد، وليس إلى الجزم - بأَنه عيسى - من سبيل.

التفسير 157 - (قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ... ) الآية. أي ولُعِنوا بقولهم - على سبيل الفخر - إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم، فنسبوه إلى أُمه تهكما به، وغمزًا له ولأُمه - بما هو معروف من رأْيهم فيهما إلى يومنا هذا - مع أَن عيسى برَّأها أَمامهم في مهده، وقال لهم: " ... إنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نبيا" (¬1) وكفى بذلك آية على طهرها ... فإن الطفل لا يتكلم - في مهده - إلا بباعث من الله، وإِذن منه. وكلمة (رَسُولَ اللهِ): إن كانت من قول اليهود، فهي من باب التهكم بدعواه أَنه رسول الله، كما قال المشركون في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: " ... يَأ أيهَا الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الِذّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ" (¬2). فكأنهم يقولون: إِنا قتلنا المسيح الذي يزعم أنه رسول الله. ولو كان كذلك، لما استطعنا قتله. وأَما إِن كانت من قول الله تعالى وليست من قولهم، فهي استئناف من الله تعالى أريد به مدح عيسى عليه السلام، ورفعُ منزلته، وإظهارُ غاية جراءَتهم عليه، ووقاحتهم في شأنه، إِذ تصَدَّوْا لقتله وهو رسول الله. ولقد كذبهم الله في دعواهم قتله وصلبه، فقال: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ): وذلك أنهم تآمروا على قتله، مع الحاكم الروماني الذي كان يحكم بيت المقدس، بعد أن أفهموه أن دعوته خطر على الحكم الروماني وعلى الشعب، فإنه سيجمع الأمة على رفع سلطتهم عن الأرض المقدسة وإِجلائهم عنها. فظاهَرَهُم على قتله، واتخذوا من أَحد حوارييه جاسوسا عليه، يرصد حركاته وتنقلاته ويخبرهم بها، وكان اسمه يهوذا الإسخريوطي. وقد جعلوا له - في مقابل ذلك - ثلاثين درهما. ¬

_ (¬1) سورة مريم، من الآية: 30 (¬2) سورة الحجر، من الآية: 6

وفي يوم عيد لهم، كان السيد المسيح ضيفا مع حوارييه عند بعض اتباعه، وكان يهوذا معهم، فأخبرهم - السيد المسيح - أَن أَحدهم سيسلمه إلى الأعداء. فقال يهوذا: هُوَ ذَا أنا يا معلم؟ قال: أنت قلت .. وفي اليوم التالي جاءت قوة من الرومان يتقدمهم يهوذا، ودخلوا عليه حيث يوجد في دار مضيفه، فألقى الله شبهه على يهوذا، ورفع عيسى إِليه، فقبضوا على يهوذا ليصلبوه ويقتلوه، فقال لهم: أنا يهوذا. فقالوا: بل أنت عيسى، فإن كنت يهوذا كما تدعى فأين عيسى؟ فقال لهم هذا الشبيه: إِن كنت أنا عيسى - كما قلتم - فأين يهوذا؟ فلم يأبهوا لجداله، وأَخذوه وصلبوه. هذه هي إحدى الروايات التي ذكرت في الرجل الذي ألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه مكانه (1) ... وهناك روايات أخرى لا نرى داعيا لذكرها. ونقول: إن القرآن الكريم، أمسك عن ذكر اسم مَن أَلقى الله عليه شبهَ عيسى فقتل مكانه، واكتفى بنفي قتلهم وصلبهم لعيسى وأَنه شُبِّهَ لهم. وهذا هو القدر الذي يتحتم القطع به. أما مَا سواه، فيحتمل الصدق والكذب. والله تعالى أَعلم. (وَإنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ): لما قتل الرومان واليهود هذا الشبيه الذي جعله اللهُ فداءً لعيسى، اختَلَفَ الناسُ في شأنه. فمن قائل: إنه هو المسيح وكان كاذبا فقتلناه. وقال آخرون: إِن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأَين عيسى؟ وقال غيرهم: لا نظن أَنهم قتلوه، فالوجه وجه عيسى والجسد لغيره. وبالجملة: فإن أمارات القطع - بأَنه هو أَو غيره - لم تكن متوفرة لديهم. فلذلك شَكُّوا، واختلفت أَقوالهم في شأنه. (1) إنجيل برنابا، ملخصا.

ومن عجيب أن تنص أَناجيل المسيحيين، على أَن المسيح أخبر حوارييه أنهم جميعًا سيشكون فيه ليلة الصلب (¬1) فكيف ساغ لهم القطع بقتله وصلبه، حتى أَلزموا أنفسهم تأْويلات سخيفةً، ناشئة عن اعتقادهم أُلوهيته وصلبه، إِذْ زعموا أَنه صُلِب ليفتديَ أهلَ الخطايا جميعًا!!. وهذا زعم لا يقبله عاقل. فإنه إِن كان إلها، أَو ابن الله كما زعموا: يستطيع أَن يغفر لمن شاءَ، وَألَّا يُحَكِّم في جسده أَسلحة أَعدائه، كما أَنه - باستسلامه لهم - تسبب في زيادة خطاياهم بقتله، وهذا عكس المقصود!! (مَا لَهُم بِهِ مِنْ علم الَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ): بعد أَن أثبت الله شك المختلفين في أمره، وأنهم لا ينزعون - فيما قالوه في شأنه - عن يقين، بل عن حيرة وتردد في أمره، أَكد ذلك بقوله: (مَا لَهم بهِ مِنْ عِلْم) أي ليس لهم بما قالوه في قتل عيسى علمٌ ناشيءٌ عن أدلة يقينية: (إلاَّ اتِّبَاعَ الظّنَّ) أي لكنهم يتبعون - فيما قالوه - الظن والتخمين. (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا): هذا تأكيد ثانٍ. أي وما قَتَلَ اليهودُ والرومانُ عيسى قتلا يقينا. 158 - (بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ): أَي: بل رفعه الله إِلى موضع؛ تولى الله فيه حفظه وحمايته، حتى لا يجريَ فيه حكم أعدائه. (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا): أَي وكان الله - ولم يزل - غالبا لا يعجزه شيء، حكيما فيما يصنع؛ فلذلك نَجّى عيسى مِن أَعدائه، ولم يمكِّن من جسده الشريف خصومَ الحق. ¬

_ (¬1) جاء في إنجيل متى - إصحاح 26 فقرة 31. وإنجيل مرقص - إصحاح 14 فقرة 27 - أن السيد المسيح قال لحوارييه: (كلكم يشكون فيَّ هذه الليلة) يقصد الليلة التي قتل فيها، وهذا مصدق لما جاء في القرآن من شكهم فيه.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) التفسير 159 - (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ... ) الآية. أَي وما من أَحد من أَهل الكتاب، إِلا ليؤْمنن بعيسى قبل موته، والضمير في (مَوْتِهِ) راجع إِلى عيسى عليه السلام - كما جنح إِليه بعض المفسرين. ومعنى ذلك: أَن عيسى حين ينزل - آخر الزمان - يجتمع الناس على الإِيمان بأَنه رسول الله، فلا يعود اليهود إلى تكذيبه، ولا النصارى إِلى ادعاءِ أُلوهيته، أَو بنوته لله تعالى. وبذلك يؤمنون به جميعًا قبل أَن يموت. وتصبح الأَديان كلها دينًا واحدا، هو دين الإِسلام، الذي جاءَ به محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ليكون خاتمَة الأَديان باقيا إِلى آخر الزمان. وحجة مَن قال برجوع الضمير في كلمة: (قَبْلَ مَوْتِهِ) إِلى عيسى: إِن هذا هو ظاهر النص القرآني. وظاهر ما جاءَ في السنة الصحيحة. فقد أَخرج البخاري في كتاب: الأَنبياء، عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنّ أَن يَنزِلَ فيكُم ابْنُ مَرْيمَ حكَمًا عَدْلًا، فَيكْسرَ الصِّليبَ، ويقْتُلَ الخِنزِيرَ، ويضعَ الجِزْيَةَ (¬1)، ويفيضَ المالُ حتى لا يقبَلهُ أَحَدٌ، حتى ¬

_ (¬1) أي لا يقبلها من أحد عن أهل الأديان؛ لأنه لا يقبل غير الإِسلام دينا.

تكونَ السَّجدةُ الواحِدَةُ خَيْرا مِنَ الدُّنيَا وما فِيهَا ... " ثم يقول أَبو هريرة واقرءُوا إِن شئتم: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا). هكذا رواه مسلم، عن أَبى هريرة، وزاد: أَنه (يَقْتُلُ الدَّجَّالَ). والدليل على أَنه يحكم بشريعة الإِسلام، ما رواه البخارى، عن نافع - مولى أَبي قتادة الأَنصارى - أَن أَبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكمُ الْمَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ، وإِمامُكم مِنْكُم ... " إِلخ! وفي رواية لأَحمد مع زيادات. ورأَى بعض المفسرين: أَن ضمير (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعود على (أَحَد) مقدر، أَي وما أَحد من أَهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى، قبل موت هذا الأَحد. وحاصل المعنى على هذا: أَن كل يهودي ونصراني - وهو يحتضر - يؤمن بعيسى قبل أَن تزهق روحُهُ، فيعتقد أَنه - أَي عيسى - عبدُ الله ورسوله، لأَن حقائق الحق تنكشف للمحتضر؛ ولكن هذا الإِيمان لا ينفعه، لأَنه حدث في وقت انقطع فيه عنه التكليف، لأَن وقت الغرغرة من عالم الآخرة. ويؤيد هذا الرأْي قراءة أُبَيّ: (لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ) بضم النون، وصيغة الجمع. وقد جنح إِلى هذا الرأْي، ابن عباس، كما نقله عنه ابن المنذر وغيره. والإِخبار بحالتهم هذه وعيدٌ لهم، وتحريض على المسارعة إِلى الإِيمان بعيسى عليه السلام - قبل أَن يُضطَرُّوا إِليه - عند الموت - مع عدم فائدته. (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا): أَي ويوم القيامة يكون عيسى على أَهل الكتاب شهيدا، فيشهد على اليهود؛ بتكذيبهم إِياه، وعلى النصارى بقولهم فيه: إِنه ابن الله.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161). المفردات: (الَّذِينَ هَادُوا): هم اليهود. هادوا: أَي تابوا من عبادة العجل. (أَعْتَدْنَا): أَعددنا لهم قبل قدومهم. التفسير 160 - (فَبِظُلْم مِّنَ الّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... ) الآية الحديث لا يزال موصولا في شأْن أَهل الكتاب. والمعنى: فبسبب ظلم عظيم من الذين هادوا -أَي تابوا من عبادة العجل- حرمنا ما كان حلالًا لهم من الطيبات، ولم نحرمه ابتداءً بغير ذنب منهم، كما يزعمون، وذلك أَن الطيبات كانت حلالًا لهم، منذ بدءِ تكليفهم بشريعة موسى، كما كانت حلالًا لهم قبل أَن تنزل التوراة، منذ عهد إِسحق الذي اشتهر بإِسرائيل. ولكن هؤلاءِ اليهود كانوا كثيري الآثام وكبائر الذنوب فلذا عاقبهم الله بتحريم بعض الطيبات عليهم، فكانوا كلما ارتكبوا كبيرة من كبائرهم، حرَّم الله عليهم نوعا من الطيبات التي كانت حلالًا لهم ولمن سبقهم. جزاء على ما ارتكبوا. ولما أَنزل الله هذه الآية الكريمة التي تدمغهم بالجريمة والعقاب، تبجحوا وافتروا على الله تعالى فقالوا: لسنا بأَوَّل مَن حُرِّمت عليه تلك الأَطعمة. وإنما كانت محرمةً على

نوح، وإِبراهيم عليهما السلام - وعلى من بعدهما، حتى انتهى الأمر إِلينا. وادعوا أَن ذلك ثابت في التوراة. فأنزل الله -في سورة آل عمران- تبكيتا لهم وتحدّيا، قوله تعالى: "كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (¬1) وقد مضى الكلام عن ذلك في تلك السورة. والمراد بالطيبات: ما طاب ولذَّ لآكله. وسيأْتي الحديث عما حرم عليهم بظلمهم عند الكلام على قوله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... " 146 من سورة الأنعام. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا): أَي وحرمنا عليهم الطيبات - أَيضا. بسبب صدهم ومنعهم الناس منعا كثيرا عن طاعة الله، التي هي السبيل الموصلة إِلى مرضاته. 161 - (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ... ) الآية. أَي وحرمنا عليهم الطيبات - أَيضا - بسبب أَخذهم الربا في أَموالهم التي يقرضونها غيرهم، وفي أَخذهم أَموال الناس بغير حق. وكل ذلك كان محرما عليهم في التوراة الأَصيلة التي أَنزل الله على موسى، ولكنهم ابتدعوا حِلَّ ذلك بالنسبة لغير اليهود، فقد أَباح لهم تلمودهم (¬2) أَموال غيرهم يأْخذونها بأَي طريق، كما أَباح لهم سفر الخروج (¬3) أَن يأخذوا أَموال المصريين وأَمتعتهم وحليّهم وهم خارجون من مصر، وكل ذلك مدخول على ما شرعه الله في التوراة، وباطل لا يشرعه الله. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 93 (¬2) التلمود: هو تشريع يهودي لم ينزل على نبي. وهو في حجم التوراة أو أكبر منها عندهم. ويعج بالعصبية اليهودية العمياء. (¬3) سفر الخروج: إصحاح (3) فقرة (22).

وقد ابتدع هذا الشعب النَّهِمُ الذي لا يشبع، ما لا يعرفه الناس من الوسائل الظالمة، لابتزاز أموال الناس بالباطل، حتى أثْرَوْا إثراءً فاحشا، وتحكموا في كل مصادر ثروات الناس، وأَجهزتهم الإِعلامية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وأَصبح واجبا على المجتمع الدولي أن يأخذ على أَيديهم قبل أَن تحل الكارثة التي يبيِّتونها للبشرية. (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا): أي وأعدَدْنَا - في الآخرة - للكافرين منهم خاصة، عذابا شديد الإِيلام. وقد استفيد مما تقدم: أن العقوبات الدنيوية، يقع أَثرها على الكافر والمؤمن والعاصي والطائع. وهي للعصاة عقاب، وللمطيعين ابتلاءٌ. وفي ذلك يقول الله تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة ... " (¬1). أَما العقوبات في الآخرة، فإِنها تختص بالعصاة والكفار. ولذا قال تعالى في عقوبة الآخرة: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا اليمًا): فخص الكافرين بالعذاب، وقال في عقوبة الدنيا: (فبظُلْم مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أحِلَّتْ لَهُمْ). فعمَّ جميع اليهود بتحريم الواد من الطيبات. {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}. ¬

_ (¬1) الأنفال، من الآية: 25

سبب النزول

المفردات: (الراسِخُونَ في العِلْمِ): الثابتون فيه. التفسير 162 - (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ (¬1) في الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... ): بعد أَن حكى الله مخازيَ اليهود في عقائدهم وأَعمالهم، وذكرَ ما أَعد لهم من العذاب العظيم، استثنى طائفة منهم عرفوا الحق فآمنوا به، وأَثنى عليهم بما هم أهله، ووعدهم بالثواب العظيم. وهم طائفة الراسخين في العلم. سبب النزول: أَخرج البيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أَن هذه الآية نزلت فيمن آمَنَ مِنْ أَحبار أَهل الكتاب، إِيمانا صادقًا: كعبد الله بن سلام، وأَسد بن عبيد، وثعلبة بن سَعْيَةَ وأُسَيْد بن سَعْية وغيرهم. وهذا هو المشهور عن كثير من المفسرين، كما ذكره محمَّد بن إسحاق. المعنى: لقد كفر عامة اليهود بما أُنزل إليك لجهلهم وعنادهم، لكِنِ الثابتون في العلم منهم، والصادقون في الإيمان بكتابهم، كعبد الله بن سلام - وغيره من علمائِهم، يؤْمنونِ بما أُنزِل إليك من القرآن، وبما أُنزِل مِن قبلك من الكتب التي جاءَ بها الأنبياءُ والمرسلون وليسوا متعصبين لدينهم بالباطل، كسائر بني قومهم. (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ (¬2) وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ): ¬

_ (¬1) (لكن) حرف استدراك مهمل، و (الراسخون) مبتدأ، خبره جملة: (أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) وما بينهما صفات للراسخين في العلم من جهة المعنى، ولكنها عطفت عليها تنزيلا للاختلاف في العنوان منزلة الاختلاف في الذات. (¬2) (والمقيمين الصلاة): المقيمين وصف في المعنى لكلمة (الراسخون): وظاهر السياق أن يقال فيه: (والمقيمون) كسائر الصفات التي قبله وبعده، حيث جاءت كلها مرفوعة بالواو؛ لعطفها على موصوفها المرفوع وهو (الراسخون) ولكنه عدل عن رفعه بالعطف إلى قطعه ونصبه لإرادة المدح، كما قاله علماء النحو البصريون، وعلى رأسهم سيبويه. =

هذه بقية أَوصاف المؤْمنين من علماء أَهل الكتاب. وُصِفُوا - أَولاً - بكونهم راسخين في علم الكتاب، ثابتين فيه: لا يعترضهم شك، ولا تُزَلْزِلُهُم شبهة، ولا يصرفهم عن الحق جهل أَو عناد. ووصفوا - ثانيا - بأَنهم يؤْمنون بما أُنزل إليك من القرآن، وما أُنزِل إِلى المرسلين قبلك من سائر الكتب، فإن رسوخهم في العلم، يدعوهم إلى ذلك، وإلى ما يليه من الصفات المحمودة بخلاف بني قومهم الذين كانوا كريشة في جو الضلال: تقلِّبهم الشكوك والأَوهام كيف مَرت بهم. ثم وصفوا؛ بأَنهم يقيمون الصلاة، ويؤَدونها حق أَدائها في أَوقاتها، بسبب عمق إيمانهم. ثم وصفوا؛ بأَنهم يعطون الزكاة لمستحقيها؛ لرقة قلوبهم، وصفاءِ نفوسهم. ثم وصفوا بأَنهم يؤْمنون بالله الذي هو مبديء الكائنات ومعيدها، ويؤْمنون باليوم الآخر. الذي يُبعثون فيه، ويعادون للحساب والجزاءِ. وبهذا، حققوا الإِيمان بطرفيه، الإِيمان بالمبدإِ، والإِيمان بالميعاد. وفي وصفهم بالإِيمان بالله واليوم الآخر، تعريض بأَن مَن عداهم من أهل الكتاب، ليسوا مؤمنين بهما حقيقة، لأَنهم مزجوا الإِيمان بالله بالتجسيد، وادّعَوْا أَن النار لن تمسَّهم إِلا أَياما معدودة. وبعض فرقهم ينكرون البعث بعد الموت، وهم فرقة الصدوقيين. {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}: أَي: أُولئك العلماء الراسخون في العلم من أَهل الكتاب، الذين حفزهم رسوخهم في العلم على الإيمان بما أُنزل إِليك، وما أُنزل إِلى سائر المرسلين، وحفزهم أَيضا على إِقامة ¬

_ = وهذا الأسلوب ليس بغريب علي القرآن الكريم، فقد قال تعالى: (والموفون بعهدم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا) الآية (177) من سورة البقرة. فإيثار نصب (المقيمين) لإبراز اجتهادهم في إقامة الصلاة، واعتنائهم بها؛ ليتنبه القاريء والسامع إلى فضلهم وفضل إقامة الصلاة. ولهذا يصح الوقف قبلها وبعدها.

الصلاة، وإِيتاءِ الزكاة، والإِيمان بالله، واليوم الآخر - هؤلاءِ العلماءُ - سنؤتيهم في الآخرة أَجرا عظيما، بخلاف من عداهم ممن أَصروا على الكفر، واستحقوا أَن يُعِدَّ الله لهم عذابا عظيما. {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (166)}. المفردات: (الأَسْبَاطِ): جمع سبط وهو الحفيد. والمراد بهم: حفدة يعقوب - عليه السلام - أَو أَبناؤه الاثنا عشر وذراريهم. فإِنهم حفدة إبراهيم وإسحق. وقيل: الأَسباط - في ولد إِسحاق: كالقبائل في العرب: ولد إِسماعيل. وقد بعث منهم عدة رسل. فالمراد أَوحينا إِلى الأَنبياءِ منهم، إِذ ليسوا جميعًا أَنبياءَ. (زَبُورًا): أَي مكتوبا. وهو الكتاب المنزل على داود عليه السلام. ويسمى: المزامير، في العهد القديم. (حُجَّةٌ): معذرة يعتذر بها.

التفسير 163 - {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... ) الآية. أَجاب الله - سبحانه - عن جهالة من جهالات اليهود، حين طلبوا من محمَّد صلى الله عليه وسلم أَن ينزِّل عليهم كتابا من السماءِ، جملة واحدة، كما أُنزِل على موسى بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}: أَي إِنا أَنزلنا إِليك - يا محمَّد - من المعجزات، ما يكفي لإِثبات نبوتك وصدق رسالتك والإِيمان بك، إِنزالًا مشابها لإنزالنا على السابقين من رسلنا في التحقق والثبوت، وفي أَن كل رسول جاءَ بالمعجزة المناسبة لزمانه وقومه. فلم تتحد معجزات السابقين من المرسلين في نوعها، ولا في كيفية إِنزالها. فمن المبالغة في التعنت والإِبعاد في الضلال، أَن يطلبَ غلاةُ اليهود منك ما طلبوا - مع إِقرارهم بنبوة هؤلاء الأَنبياءِ المذكورين وغيرهم - مع اختلاف معجزة كل منهم: في نوعها، وكيفية إِنزالها. ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، ولا مانعا لليهود من الاعتراف بهم، فكذلك لا يقدح في نبوتك إِنزال القرآن عليك منجما. ولكن لا غرابة أَن يسأَلوا محمدا ذلك، فقد سأل أَسلافهم موسى أَكثر من ذلك، وهو أَن يُرِيَهُم الله جهرة. وبديء بذكر نوح - عليه السلام - لأَنه الأَب الثاني لبني البشر - إِذ قام عمرانُ الأَرض بعد الطوفان على ذريته، وما حمله معه في السفينة، وَلِيُذَكِّرَ محمدا - صلى الله عليه وسلم - بقوة احتماله، وعظم صبره. فقد صبر على أَذى قومه أَلف سنة إِلا خمسين عاما. فهو خير أُسوة له صلى الله عليه وسلم - في الصبر على الأذى، ولينذر بالهلاك الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما أَهلك قومَ نوح من قبل، بسبب رفضهم دعوته، فقد أهلك الله - بدعائه - كل من كان على ظهر الأَرض من الكافرين. ثم جاءَ ذكر النبيين من بعد نوح جملة، ليعم كل نبيٍّ أُوحِيَ إِليه. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}:

خصَّ هؤلاء النبيين بالذكر بعد التعميم؛ لشهرتهم، وللتنويه بفضلهم، وعلوَّ قدرهم، وزيادة في تقريع اليهود؛ إِذ كانوا من أَتباع هؤلاءِ الأَنبياء. وأَول في ذكر بخصوصه إِبراهيم عليه السلام - فقد كان لقبه: (أَبو الأَنبياء). قال الزبير بن بكار: "كل في ذكر في القرآن فهو من ولد إِبراهيم، غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح". والثاني: إسماعيل بن إبراهيم. والثالث: إسحاق بن إِبراهيم. والرابع: يعقوب ابن إِسحاق. كما خص جماعة سماهم القرآن الكريم - الأَسباط: وهم أَولاد يعقوب، على ما هو المشهور عند العلماء. ثم إِن العلماءَ لم يجمعوا على نبوة أَحد من هؤلاء الأَسباط إلا على نبوة يوسف عليه السلام - ورسالته. وذكر سادسًا: عيسى بن مريم، وسابعا: أَيوب. وثامنا: يونس. وتاسعا: هارون. وعاشرا: سليمان. وحادي عشر: داود. وسمى كتابه: زبورا. وأُسند الإِتيان إِلى ضمير ذاته العلية، وخص في: {وَآتَيْنَا}: إِشعارًا بعظمته وعظمة ما فيه، لأَن كل ما فيه تسبيح وتقديس، وحكم ومواعظ. وكما تفيد الآية: الردَّ صراحة على منكري نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، ترد أَيضا - على الذين يطعنونها بشبهات وأَباطيل. وقد كان ذلك كثيرا زمن حياته صلى الله عليه وسلم - وما زال كذلك كثيرًا إِلى اليوم، حتى جرف ذلك التيار بعض ضعاف العقيدة، ممن ينتسبون إلى الإِسلام بالاسم فقط.

164 - {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ... } الآية. أَي: وأَرسلنا رسلا قد سميناهم لك في القرآن، وعرفناك أَخبارهم، ومَن بعثوا إليهم من الأُمم، وذكرنا لك ما وقع بينهم وبين أَقوامهم، من قبل نزول هذه الآيات مثل: صالح، وهود، ولوط وغيرهم من المرسلين. {وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}: أَي وأَرسلنا كذلك رسلاً كثيرين لم نذكر لك قصصهم في القرآن، وَلَم نوحِ إليك بهم في غير القرآن، ولم يقدح في نبوتهم عدم إِنزالِ كتاب من السماء جملة واحدة، أَو كتاب موجه إِلى زعماءِ أَقوامهم يشهد بصدقهم فيما بلغوه إِلى أُممهم، كما طلب المتعنتون ذلك منا يا محمَّد. {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}: أَي وكلم الله موسى - بدون وساطة الروح الأَمين جبريل - تكريما له عليه السلام -. والتكلم - بغير واسطة - أَعلى مراتب الوحى. خص به موسى من بين سائر الأَنبياء غير محمَّد صلى الله وعليه وسلم، ولم يكن تخصيصه بذلك قادحا في نبوَّتهم، فكيف يتوهم أَن يكون نزول التوراة عليه جملة واحدة قادحا في نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم - بسبب نزول القرآن عليه مفصلا ومفرقا حسب الوقائع، مع أَنه أُنزل مفرقا لحكم اقتضت ذلك. أَظهرها التدرج بالمرسل إليهم، وعدم الإِثقال عليهم حتى لا يملوا! والعرب تسمى الكلام الذي يصل من متكلم إلى إِنسان ما، مباشرة، أَو بواسطة مبلِّغ، أَو بأَي طريق تسميه: كلاما، إِذا لم يؤكد بالمصدر، فإِذا أُكد بالمصدر، لم يكن المراد إِلا حقيقة الكلام المباشر، بدون واسطة مبلغ أَو غيره. كما في الآية الكريمة، لأَن قوله تعالى: (تَكْلِيمًا) مصدر مؤكد لقوله تعالى: (وَكَلَّمَ). ومما تجدر الإِشارة إِليه: أَن الله سبحانه وتعالى كلَّم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بدون وساطة جبريل ليله الإِسراءِ والمعراج (¬1)، كما فضَّله على سواه: بأَن أَعطاه مثل ما أَعطى سائر الأَنبياء ¬

_ (¬1) كما ورد في أحاديث الإسراء والمعراج في كتب الصحاح.

165 - {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... } الآية. المقصود من هذه الآية: بيان مهمة الرسل الذين ذكرهم الله لرسوله في القرآن، والذين لم يذكرهم له. والمعنى: وأَرسلنا هؤُلاءِ الرسل الذين ذكرناهم لك - يا محمَّد - في القرآن، والذين لم نذكرهم لك؛ لبشارة المؤْمنين بالثواب، وتخويف من كذَّب وكفر بالعقاب. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}: أَي: لكي تنقطع المعذرة، ولا يقول الناس: { ... مَا جَآءَناَ مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ... } (¬1). وما أَرسلتَ إِلينا رسولًا ينبهنا ويعلمنا من شرائعك ما لم نكن نعلم؛ لقصور قدرتنا عن إِدراك الصالح وعجزنا عن فهم الخير، فلذلك زلت أَقدامنا، ووقعنا في الضلال البعيد ... يوضح هذا المعنى قوله تعالى:. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (¬2). وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬3). وقد أَنعم الله على الإِنسان بنعمة العقل، وأَبدع الكون ونظمه حتى صار - بعجائبه ودقة نظامه - شاهدا للعاقل على وجوده وتفرده وقدرته، دون حاجة إِلى صياغة المقدمات، وترتيب النتائج. ومع ذلك، فقد اقتضت رحمته بعباده أَن يرسل الرسل، ضمانا لهداية الله الناس؛ لأَن العقل قد يعجز عن إِدراك حقائق الاُمور ونتائجها. والرسل عليهم الصلاة والسلام - إِنما جاءُوا لينبهوا إلى النظر في عجائب الكون وما فيه من دلائل ويُبَيِّنُوها، وهم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى الناس، ويبينون لهم أَحكامه، وشرائعه. ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 19 (¬2) طه، الآية: 134 (¬3) الإسراء، من الآية: 15

وفي قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... ) الآية، جواب أَيضًا عن شبهة اليهود المتقدم بيانها. وخلاصة هذا الجواب: أَن المقصود من إِرسال الرسل وإِنزال الكتب، هو الإعذار والإِنذار، وهذا المقصود متحقق، سواءٌ أَنَزَل الكتابُ دفعة واحدة، أَم نزَل منجمًا ومفرقًا، على حسب الوقائع، فكان اقتراح اليهود أَن ينزل الله عليهم الكتاب جملة واحدة، اقتراحًا غير سديد. (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حكِيمًا): أَي: (وَكاَنَ الله) - ولم يزل - (عَزِيزًا) لا يغالَب، ولا يُغْلب فيما يريد، ومِن تمام عزته؛ أَلا يجيب المتعنت ولا ينزل على إِرادته. (حَكِيمًا): أَي بالغ الحكمة في كل ما يدبر من شئون الكون. ومن ذلك تدبير أَمر النبوة، وتخصيص كل نبي بنوع من الوحي والإِعجاز، على النحو الذي اقتضت حكمته، مراعاةً للزمان والمكان الذي بعِث فيه كلُّ رسول، كما يشير ختم الآية بهذين الوصفين إلى قدرته - سبحانه - على ثواب من آمن، وعقاب من خالف. 166 - (لَكِنِ (¬1) اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ... ) الآية. أي: أَنه لما تعنّت أَهل الكتاب، وطلبوا أَن ينزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة وردَّ الله على تعنُّتهم بقوله: (إنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك) الآية. وتمادوْا في التعنت، وقالوا: نحن لا نشهد لك بذلك. قال سبحانه: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بحقيّة ما أَنزل إِليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك. فكون القرآن على أَعلى درجة من فصاحة اللفظ، وسمو المعنى، وقوة التشريع، وصلاحيته لإِسعاد البشر في كل زمان ومكان، بحيث عجز الأَولون والآخرون عن معارضته، أَو الإِتيان بمثله - كونه بهذا الوضع البديع - معجزة باهرة. وإِظهارُ المعجزة شهادة بينة بصدق من جاءَ بها. ¬

_ (¬1) (لكن): للاستدراك، والمستدرك عليه مقدر فهم من الكلام السابق، إذ أن (لكن) لا يبدأ بها الكلام.

(أنزَلَهُ بِعِلْمِهِ): أَي: إنّ هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى إِليك يا محمَّد أَنزله بعلم تام بالمنزَّل والمنزَّل إِليهم والمنزَّل عليه. فجاءَ في غاية الحسن ونهاية الجودة والكمال، وأَعلى درجات الفصاحة والبلاغة، كما جاءَ مشتملا على ما فيه سعادة الناس في الدنيا والآخرة، ثم هو - بعد ذلك - برهان ساطع ودليل قاطع، على صحة رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم. (وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا): أَي: والملائكة الكرام يشهدون بنبوتك، وكفى بالله شهيدا على صدقك، حيث أَيَّدَكَ بالمعجزات الباهرة، والبراهين الساطعة؛ المغنية عن شهادة هؤلاءِ المعاندين، وقد عُرفت شهادة الملائكة بشهادة الله، فإِن من شهد الله له، شهدت له ملائكته. فكأنه قيل: يا محمَّد، إِنْ كَذَّبك هؤُلاء اليهود، فلا تُبالِ بهم، فإِن إِله العالمين يصدقك في ذلك، وملائكته يصدقونك كذلك. ومَن صدّقه رب العالمين، والملائكة كلهم أَجمعون، لم يَلْتَفِتْ إلى تكذيبِ مَن هم أَخسُّ الناس، وهم اليهود؛ أَهل الخيانة والغدر. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (169)). المفردات: (صَدُّوا): صد عن الأَمر، أَعرض عنه. وصدّه عن الأَمر: صرفه عنه ومنعه منه. (سَبِيلِ اللهِ): السبيل؛ الطريق، يذكر ويؤَنث قال تعالى: " {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}. (¬1) ¬

_ (¬1) يوسف، من الآية: 108.

وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} (¬1). والمراد بـ (سَبِيلِ اللهِ): دين الله الذي ارتضاه لعباده. (ضَلُّوا): الضلال ضد الرشاد. والمراد: بعدوا عن طريق الحق المستقيم. التفسير 167 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ... } الآية. بعد أَن بين القرآن الكريم - في الآيات السابقة - تعنت اليهود فيما سأَلوا، والرد على هذا التعنت، جاءَت هذه الآيات تصف من كفروا ومنعوا غيرهم من اتباع الهدى، بالإِيغال في الضلال، والبعد عن سبيل الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ}: أَي: إِن الذين كفروا بالله، وأَنكروا نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وكذَّبوا بالقرآن ومنعوا الناس من الدخول في الإِسلام، واتباع طريق الهدى والفلاح بإِلقاءِ الشبهات في قلوبهم؛ كقول اليهود مثلا: لو كان محمَّد رسولًا حقًّا، لأَتى بكتابه دَفعة واحدة من السماءِ، كما نزلت التوراة على موسى. (قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا): أَي: قد بلغوا في البعد عن الطريق المستقيم، أَقصى النهايات إِذ لا ضلال أَشد وأَقبحُ من ضلال مَن فَهِم أَنه على الحق، وأَضلَّ غيره عن الصراط المستقيم. ومن كفر فقد بَعُدَ عن الحق، ومن أَضل غيره فقد زاد بعدُه، وكلما استمر على الِإضلال وإِغواء المهتدين، وإِثارة الشبهات حول دينهم - فقد أَوغل في البعد عن الطريق السويّ. والمراد بالذين كفروا: اليهود أَو ما هو أَعمّ. وقد جمعت الآية - في التعريف بهم - بين الوصف بالكفر، والصد عن سبيل الله تعالى وكل منهما - بانفراده - يستلزم اتصافهم بالضلال؛ للِإشارة إِلى عظم جرمهم وعمق ضلالهم. ¬

_ (¬1) الأعراف، من الآية: 146.

ولما وصف سبحانه وتعالى كيفية ضلالهم، ذكر بعده وعيدهم وما أَعدّه لهم في الآخرة من الخلود في النار فقال: 168 - (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ... ) الآية. المراد بهم: هو المراد بالذين كفروا وصدوا، المذكورين في الآية السابقة. ومعنى ظلموا: أَي ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوته، وتكذيب الكتاب الذي أَنزله الله عليه، وكتمانِ ذكر بعثته في التوراة، وظلموا الناس بإلقاءِ الشبهات في قلوبهم، وظلموا أَنفسهم باتباع الهوى، وترك هداية الإِسلام، وغير ذلك من جرائمهم التي لا تُحْصَى. وغاير بين الوصفين، إِذ قال أَولا: كفروا وصدوا. وقال ثانيا: كفروا وظلموا. إِشارةً إلى بشاعة جرمهم، وليبنيَ عليه وعيدَهم الشديد، وهو حرمانهم من غفران ذنوبهم، ومن الهداية إِلى طريق النجاة. فقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا}: أَي: لم يكن عن تدبير الله الحكيم العلم: أَن يغفر الذنوب لمن اختاروا الضلالة على الهدى، وماتوا وهم كافرون، إِذ لا غفران للكافرين. ولم يكن أَيضا من الحكمة في التدبير: أَن يهدى الله تعالى إِلى الصراط المستقيم قوما أصروا على الكفر، وابتعدوا عن الحق عنادا. فلا يستمعون نداءَ الخير والفلاح إِذا أَصمُّوا دونه آذانهم، وأَغلقوا قلوبهم، فهم لا يفقهون. 169 - (إلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... ) الآية. الاستثناءُ من ختام الآية السابقة (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَريِقًا). وبما أَن الهداية لا تكون إِلا إِلى طريق الخير والسلامة، فاستعمالها - مع طريق جهنم - إنما هو من باب التهكم بهم، والاستهزاءِ بسوءِ اختيارهم الذي أوصلهم إلى مثل هذا المصير. والخلود: هو المكث الطويل.

والأَبد: مدة الزمان الذي لا يتجزأ، ولا غاية له. وتأَكيد الخلود بالأَبدية، يدل على دوام العذاب بلا نهاية. والمعنى: أَن أَجسامهم تبقى في جهنم لا تبلى، ولا تذهب حساسيتها؛ ليذوقو االعذاب دواما. (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا): أَي: وكان إِيصال العذاب إِليهم شيئًا فشيئا، ودوام تعذيبم في جهنم - أَمرا يسيرا على الله. وختم الآية بذلك، لبيان أَنه - سبحانه وتعالى - غالبٌ على أَمره. لا يعجزه شيءٌ. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. التفسير 170 - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... ) الآية. بعد أَن أَجاب سبحانه عن شبهات اليهود وردّ أَباطيلهم بأَبلغ رد، وبين فساد طريقتهم. وبعد تأَكيد نبوته - صلى الله عليه وسلم -،بشهادته عزَّ وجل، وشهادة ملائكته. وبعد بيان حال الكافرين وخطئهم الفاضح، وما أعد لهم من سوء المصير. بعد ذلك جاءَت هذه الآية الكريمة: تخاطب الناس - جميعًا - بالدعوة إلى دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ): نداءُ الناس جميعًا - لإِخبارهم بأَن الرسول قد جاءَهم بالحق من ربهم - دليل على عموم رسالته، وتكرار للشهادة التي أَكدها فيما سبق، وتقرير لها. إِذ كونُ المرسل: (رَبّكُم)

أَي الذي يقوم بتربيتكم، ورعاية مصالحكم، هو الذي يبلغ بكم غاية الكمال المرجو لكم، وكون المرسل به - بالْحقِّ - أَي الثابت الذي لا يعتريه شك، وهو الدين الذي يدعو إلى عبادة الله، والإِعراض عن غيره. وكون حامل الرسالة الرسول المعهود لكم، المعروف بالصدق وكرم الخلق، وعظم الشأْن - كل ذلك - يؤكد فضلَ الرسالة وكمالَها، كما أنه تمهيد للأَمر بالإِيمان به. ولهذا يقول الله عز وجل: (فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ): أَي: وإِذا كان قد جاءَكم هذا الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم - بالحق من ربكم، فآمنوا به يكنْ ذلك الإِيمان خيرا لأَنفسكم، مما أَنتم فيه. أي أَحْمَدُ عاقبة من الكفر والضلال، فإن آثار الإِيمان تعود عليكم بالنفع، لا على الرسول ولا على ربكم. (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): أَي: وإِن تكفروا بي وبالرسول الذي أَرسلتُه إِليكم، فالضرر لاحِقٌ بكم، فإِن الله غِنيّ عن إيمانكم وعن طاعتكم؛ لأَنه مالك السموات وما فيها من أَفلاك وكواكب ونجوم ومدارات، والأَرضِ وما على ظهرها وما في باطنها ... فضرر الكفر كلّه يقع على الكافرين، والله لا يرضى لعباده الكفر. (وَكَانَ اللهُ علَيمًا حَكيِمًا): فتصرف في ملكه الواسع، حسب علمه القديم المحيط بكل شيءٍ، وحكمته البالغة التامة. وحسب علمه المحيط، وحكمته البالغة، التي لا تخطيء: أَرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إِلى الناس كافة؛ بشيرا ونذيرا. فاتَّبِعوه وآمِنوا به، وقِفوا عند ما شرع لكم، تكونوا من الفائزين.

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (171)). المفردات: (لَا تَغْلُوا): الغلو؛ مجاوزة الحد. وغُلُوُّ النصارى في دينهم: إِفراطهم في تعظيم عيسى، حتى جعلوه إِلها أَو ابنًا الله. وغُلُوُّ اليهود: مبالغتهم في الطعن في عيسى حتى اتهموه وأُمه بما لا يليق. (الْمَسِيحُ): أَصل المسيح. الممسوح، وسمى به عيسى. (كَلِمَتُهُ): المراد بها؛ عيسى - عليه السلام - وأُطلقت الكلمة عليه؛ لَأنه جاءَ بكلمة: كُنْ .. بدون أَب. (رُوحٌ مَّنْهُ): رحمة منه؛ لأَنه رحمة من الله لمن آمن به. التفسير 171 - (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ .... ) الآية. بعد أَن تحدثت الآيات السابقة عن تعنت اليهيود فيما سأَلوا، وعن الرد على هذا التعنت. وبعد أَن ذكرت طرفا من جرائمهم - وهذا لا ريب غلو ومجاوزة للحد، جاءَ نَهْي القرآن بعد ذلك، في هذه الآية - للنصارى، عن الغلو في الدين فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا في دِينِكُمْ):

وأَهل الكتاب: لفظة تعم اليهود والنصارى، ولكن سياق النص هنا، يخصصها بالنصارى أَما اليهود، فقد سبق الحديث عن غلوهم في شأْن عيسى، إِذ بالغوا في الطعن فيه، وغلوهم في دينهم، إِذ قالوا لموسى: " {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} (¬1) وقولهم: " ... عُزَيْرٌ ابْنُ اللَهِ ... " (¬2) وغير ذلك من جرائمهم التي لا تُحْصَى. وغُلوّ النصارى في دينهم: أَنهم أَفرطوا في تقديس عيسى عليه السلام - حتى أَخرجوه من مرتبة البشرية، واتخذوه إِلها من دون الله، وجعلوه ابنًا لله. وفي نداءِ الله إِياهم بأَهل الكتاب: غايةُ التوبيخِ والتقريع لهم، إذ مقتضى أَنهم أَهل كتاب أَن يتدبروا كتابهم المنزلَ على رسولهم، ويتأَملوا ما فيه. وهو - بلا ريب - ليس فيه شيء مما يدَّعون ويفترون ولكن العصبية الحمقاء تعمى عقولهم. (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ): أَي: ولا تفتروا على الله كذبا لا أَساس له، ولا دليل يعتمد عليه وهو قول النصارى: " ... الْمَسِيحُ ابنُ اللهِ ... " (¬3) وهذا القول يناقض الدليل الواضح، والحق الثابت؛ إِذ الإِلَه لا يلد، ولا يولد، فإِن ذلك أَمارةُ الحدوث، وعلامةُ الاحتياج. والتعبير بلفظ (عَلَى): إِشارة إِلى أَن ما قالوه، افتراءٌ على الله، وجرم شنيع في حقه تعالى. ولمَّا نهاهم عن الغلو والافتراءِ على الله، بيَّن لهم ما هو الحق بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ): أَي: ما عيسى ابن مريم إِلا رسولٌ، وليس إلها من دون الله، ولا ابنًا لله، كما تدّعُون. وفي قصْر عيسى على الرسالة - كما فهم من أُسلوب الآية - زجرُ شديد لهؤُلاءِ الذين يقولون على الله غير الحق، وإِشعارٌ بأَنهم قوم مفترون. وفي ذكر اسمه: عيسى. وفي نسبته إِلى أُمه: مريم - إِشارةٌ إِلى أَنه إِنسان ككل الناس ولدته أنثى، كما أَن في هذه النسبة أَيضا، تكذيبًا لمن نسبوه إلى يوسف النجار. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 55 (¬2) التوبة، من الآية: 30 (¬3) التوبة، من الآية: 30

(وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ): أَي: وعيسى كلمةُ الله، أَي إِنه تَكوَّن في بطن أُمه، وَوُجِدَ بسبب كلمة الله وأَمره: (كُنْ) كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}. (¬1) من غير سبب مادي من وجود زوج، كما جرت به سنة الله في توالد بني آدم. (وَرُوحٌ منْهُ): أَي: إِن عيسى تَكوَّن في بطن أُمه، ونشأ فيها بنفخ الله تعالى - الروح فيه. وكما أَن عيسى من روح الله، فإن آدم وسائر ذريته من روح الله تعالى - التي خلقها وأَودعها في كل كائن حي، كما قال تعالى: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (¬2). وحديث: "إِن أَحدَكُم يجمعُ خَلْقهُ في بَطنِ أُمهِ أَربعينَ يَوما نُطفةً، ثمَّ يكونُ عَلقةً مِثْل ذلك، ثم يَكُون مضغةً مِثْل ذلك، ثُم يَبعثُ اللهُ إِليهِ مَلَكًا، ويُؤْمر بأَربعِ كلماتٍ يُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَملَه ورِزقَه وأَجلَه وشقيٌّ أَو سعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجلَ منكم لَيَعملُ بعملِ أَهلِ الجنَّةِ حتى لا يكونَ بينَهُ وبينهَا إِلا ذِراعٌ فَيسبِقَ عليهِ الكِتَابُ فَيعْمَلَ بعملِ أَهلِ النارِ فيدخلَ النارَ، وإِنَّ الرجلَ لَيعمَلُ بعملِ أَهلِ النارِ حتى ما يكونَ بينَه وبينَها إِلا ذِراعٌ فَيسبِقَ عليهِ الكِتابُ فَيعملَ بِعَملِ أَهلِ الجَنَّةِ فيدخلَ الجَنةَ" (¬3). ولما لم يتكون عيسى - عليه السلام - من نطفة أَب وإِنما تكون من نفخة بإِذن الله - وصف بأَنه: روح. ومعنى (مِنْهُ): أَي من الله. أَي كائنة من الله، تشريفًا وتفضيلا له، وهذا وجه من وجوهٍ وردت في بيان معنى الروح، ومنها: أَن معنى الروح؛ الرحمة والنعمة من الله على عباده، أَي أَن عيسى - عليه السلام - لما كان رحمة من الله لقومه، ونعمة عظيمة ¬

_ (¬1) آل عمران، الآية: 59 (¬2) الحجر، الآية 29 (¬3) الفتح الكبير: 1 - 287 للبخاري ومسلم ولأبي داود وللترمذي وللنسائي ولابن ماجه عن ابن مسعود.

منه عليهم، من حيث إِنه كان يرشدهم إِلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، سمى روحا منه - سبحانه وتعالى - وكانت منه تشريفا وتعظيما له عليه السلام. والمعنى: أَن عيسى روح عظيمة، وهبة جليلة، مبتدأَة من الله. و (مِنْ): ابتدائية على كل معنى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لروح. أَي وروح عظيمة مبتدأة من جهته تعالى، وليست (مِنْ) تبعيضيةكما تَزْعُم النصارى، ليصلوا إِلى باطل من أَباطيلهم، وهو أَن عيسى جزءٌ من الله. (فَأمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ولَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ): أَي: وِإذا كان هذا شأْن المسيح وحاله: ليس إلها ولا ابنا لله، فآمنوا باللهِ - وحده - ربًّا لا شريك له في العبادة، ولا في الملك والسلطان، وليس معه ثان ولا ثالث، وليس بوالد ولا ولد، وآمنوا بالرسل جميعًا. وفي جملتهم: عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ولا تكفروا بأَحدٍ منهم، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة، الله واحد منهم. والتعبير بقوله: (وَلَا تَقُولُوا) دون ولا تؤْمنوا بثلاثة: لبيان أَن مجرد النطق بذلك منكر وقبيح، فضلا عن أَن يكون اعتقادا وإيمانا، وفيه إِشارة إِلى أَن ما ذهبوا إِليه لا ظلا له من الحقيقة وإنما هو مجرد قول بالَأفواه. (انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ): أَي: انتهوا عن الشرك والتثليث يكن الانتهاءُ عن ذلك خيرا لكم؛ لأَنكم - به - تخرجون من العقيدة الناشئة عن الضلال والأَوهام، إِلى العقيدة المبنية على الحجة والبرهان، فتفوزون من الله بالرضوان. (إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ): أَي: إِن العقيدة الصحيحة التي جمعت الخير كله، هي عقيدة التوحيد التي عبر القرآن عنها بقوله: (إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أَي إنما الله واحد بالذات، منزّه عن التعدد بأَي وجه من الوجوه، متفِّرد في ألوهيته، وليس كما ادّعاه النصارى من أَن عيسى وأَمه

مريم إِلهان مع الله. وليس كما زعموه أَيضا من تركُّبه من أَقانيم ثلاثة (¬1) - الأَب والابن والروح القدس - وأَن كلا منهما له صفات الأُلوهية، وأَنها اتحدت وصارت إِلها واحدا؛ لأَن العقل - كما يحيل تعدد الآ لهة - يحيل كذلك تركبها واتحادها. وفي هذا النص الكريم، من تأْكيد أَمر التوحيد ما لا يخفى. وبعد أَن أَكد التوحيد، نزه نفسه عن اتخاذ الولد بقوله: (سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ): أَي: تنزه الله تعالى - تنزيهًا عظيما: لا حدود له، عن أَن يكون له ولد؛ لأَن اتخاذ الولد دليل الضعف، وأَمارةُ الحدوث، وصفةُ العاجز المحتاج إِلى من يعينه في حياته، ويَخْلفُهُ بعد مماته، واللهّ عَزَّ وَجَلَّ تنزه عن ذلك، فقول النصارى: إِن عيسى ولد الله ليس شركا فقط، بل هو وصف لله - العلى القادر، المعبود الحق - بالعجز والضعف والحدوث. ثم ذكر - تأْكيدًا لتنزيهه عن اتخاذ الولد - ما يدل على كمال قدرته، وتمام غناه فقال تعالى: {لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ}: أَي: لله سبحانه كل ما في السمَوَات من أَكوانٍ علوية: ما عرفناه منها وما لم نعرفه، وكذلك أَجرام السمَوَات، وله كل ما في الأَرض من أَجزائها، وما على ظهرها، وما في بطنها: خلقا وملكا وتدبيرا. ¬

_ (¬1) عقيدة التثليث - في الأَصل - عقيدة وثنية، سبقت المسيحية بآلاف السنين، فقد ظهرت - عند البابليين - في صورة إله السما، وإله الأرض، وإله البحر، ثم في صورة إله الشمس، وإله القمر، وإله التشريع. وظهرت عند الهنود في صورة الإله براهما، والإله شنو، والإله شيقا. وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم. ثم ظهرت هذه الفكرة عند بطليموس الأول بالإسكندرية. راجع تاريخ الفلسفة للدكتور مدكور ص 6، 12، 65. كما ظهرت في المسيحية بعد المسيح - عليه السلام - بثلاثة قرون (انظر كتاب قصص الأنبياء لفضيلة الشيخ عبد الوهاب النجار، صفحة 480، 483 طبعة أولي). وقد ورد في قاموس الكتاب المقدس ما نصه: "كلمة التثليث لم ترد في الكتاب المقدس، ويظن أن أول من صاغها واخترعها واستعملها: ترتليان، في القرن الثاني للميلاد ... وكم نادى أريوس أن الأب وحده هو الأزلي، بينما الابن والروح القدس مخلوقان متميزان عن سائر الخليقة.

ومن كان مالكا لكل السمَوَات والأَرض ولكل ما فيهما، كان مالكا لعيسى ولمريم بل أَولى. إِذ هناك في الكون من هو أَعظم منهما، فكيف يعقل مع هذا توهم كون عيسى ولدا لله ومريم زوجة له؟!! والمتأَمل يرى أَنه سبحانه، في كل موضع نزه فيه نفسه عن الولد - ذكر كونَهُ ملكا ومالكا لما في السمَوات والأَرض ليكون دليلًا عليه، إِذ المعنى: تَنَزَّه اللهُ عن أَن يكون له ولد؛ لأَن له ما في السموات وما في الأَرض. (وَكَفَى بِالله وَكِيلًا): أَي: إِن اللهَ سبحانه، كاف - وحده - في تدبير المخلوقات، وفي حفظ هذا الكون، فلا يحتاج إِلى ولد يعينه، ولا إِلى إِله آخر يدبر أَمر الكون معه. (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) .. المفردات: (لَن يَسْتَنكِفَ): لن يأْنف ولن يستكبر، وأَصله من النَّكْف. وهو تنحية الدمع عن الخد بالإصبع. (الْمُقَربُونَ): الذين قربهم الله تعالى ورفع منازلهم على غيرهم. (وَيَسْتَكْبِرْ): أَصل الاستكبار؛ طلب الكبر والترفع عن الناس من غير استحقاق.

التفسير 172 - (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ .... ) الآية. بعد أَن أَثبتت الآية الكريمة السابقة - الدليل الواضح - تنزيه الله تعالى، عما أَلصقوه به - جاءَت هذه الآية، استئنافا مقررا لهذا التنزيه، ومؤكدا له. إذ نفت أَن يأنَفَ عيسى عليه السلام - الذي رفعوه إِلى الأُلوهية - من أَن يكون عبدا لله. (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ): أَي: لن يأْنَف مَن وصفتموه بالأُلوهية، وأَنه ابن الله، من أَن يكون عبدًا لِله، ولن يترفع عن ذلك؛ لأَنه شرف عظيم يفخر به المخلصون. (ولَاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ): أَي: ولا الملائكة المقربون عند الله، ومنهم الروح الأَمين: جبريل عليه السلام، لا يأْنفون من أَن يكونوا عبيدا لله، ولا يترفعون عن ذلك، لأَنهم مفطورون على الطاعة. (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (¬1). والمقصود بهذا الاستطراد: تقوية الردّ على النصارى وتأْكيده، حيث زعموا أَن عيسى إِله مع الله، فلن يكون عبدا لله. ولما كان منشأُ ذلك عندهم أَنه خُلق من غير أَب، بيَّن الله لهم أَن الملائكة خُلِقوا من غير أَب ولا أُم، ولهم عند الله تلك المكانة العالية، وأَنهم أَكمل حالًا في العلم بالمغيبات، وفي القدرة على حمل ما لا يستطيعه البشر، وهم - مع ذلك - لا يأْنفون من وصفهم بالعبودية، بل يعتزون بأَنهم عباد الله ... فكيف يأْنف عيسى من ذنك؟! والعبودية لله أَعلى مراتب الشرف، وأَعظم درجات الكمال. وإِن كانت الشبهة التي عليها يعولون في إِثبات أَن المسيح ابن الله، هي أَنه كان يخبر عن المغيبات، وكان يأْتي بخوارق العادات، فتلك شبهة واهية؛ لَأنه لم يكن - في ذلك - بدْعًا من الرسل، فقد أجرى الله على يد غيره من الَأنبياءِ كثيرا من خوارق العادات. والمعنى: لا أَحد يأْنف من ذلك. ¬

_ (¬1) التحريم، من الآية: 6.

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا): أَي: ومن يأْنف من عبادة الله ويترفع عنها، ظنا منه أَن العار يلحقه بسبب هذه العبادة، فمَردُّهُم - وسائر الخلق - إِلى الله، حيث يلقى كل جزاءَه، ومن يستكبرْ على الخضوع له تعالى - لتوهمه أَن طاعة الله دون مقامه - فسيحشر الله العابدين والمعبودين إليه - جميعًا - يوم القيامة، حيث لا يملكون لأَنفسهم نفعا ولا ضَرًّا. والاستكبار دون الاستنكاف. والاستكبار: طلب الكبر. وهذا وعيد شديد، للذين يقولون على الله غير الحق. ولما ذَكَر سبحانه: أَنه سيحشرهم إِليه جميعًا، ذكر أَولًا: ثواب المؤمنين، ثم ذكر آخرًا: عقاب المستنكفين. وقد بين ثواب المؤمنين بقوله: 173 - ({فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... ) الآية. أَي: فأَما الذين حققوا في نفوسهم هذين الوصفين العظيمين: الإِيمان والعمل الصالح، فيجزيهم الله على ذلك جزاءً وافيًا ثابتا - لا شك فيه - ثبوت الأَجر للعامل، تحقيقا لوعد الله الذي لا يتخلف كما بيَّن أَن هناك زيادة يَمُنُّ الله بها عليهم من فضله. والتعبير بلفظ الماضي (آمَنُوا وَعَمِلُوا): إِشارة إِلى أَنه لا بد من تحقق هذين الوصفين، كي ينال الموصوف بهما ما ذُكِرَ من جزاء. وذِكْرُ الجزاءَ بلفظي المضارع (يُوَفَيِّهِمْ ... وَيَزِيدُهُمْ): دون استعمال السين أَو سوف؛ فسيوفيهم، أَو فسوت يوفيهم - مثلا - لاستحضار صورة قريبة تستضىءُ بها أَنفسهم وتدعو العامة والخاصة إِلى الاقتداء بهم. ثم ذكَرَ ما أَعده الله عقابا للمستنكفين والمستكبرين فقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجدُونَ لَهُم من دُونِ اللهِ وَلِيَّا وَلَا نَصِيرًا): وهذا حال الكافرين الذين ذكروا في مقابلة المؤْمنين.

وقد وصفهم الله بوصفين: الاستنكاف والاستكبار: بيانًا لسبب هذا الوعيد واستحقاقهم لعذاب شديد الأَلم، وأَنهم لا يجدون أَحدا غير الله يلجأُون إِليه، ولا نصيرا يعينهم على الخلاص مما هم فيه من العذاب الشديد سواه، سبحانه وتعالى. وقدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين، لأَنهم إِذا رأَوا - أَولا - ثواب المطيعين ثم رأَوا - بعده - عقاب أَنفسهم كان ذلك أَعظم في تَحسّرهم. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)). المفردات: (بُرهَانٌ): البرهان؛ الحجة والمراد به هنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، لأَن مهمته إِقامة البرهان على إِحقاق الحق، وإِبطال الباطل. وقيل: المراد به؛ المعجزات، أَو القرآن. (نُورًا): المراد به؛ القرآن الكريم؛ لأَنه ينير الطريق للسالكين. (وَاعْتَصَمُوا بِهِ): عصموا بالإِيمان به أَنفسهم من المعاصي وحفظوها. (في رَحْمَةٍ مِّنْهُ): المراد بالرحمة هنا؛ الجنة. التفسير 174 - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... ) الآية. بعد أَن بين الله سبحانه، انحراف المنافقين والكافرين، واليهود والنصارى، وأَقام الحجة عليهم، وأَبطل شبهاتهم عمم الخطاب، ودعا الناس - جميعًا - إِلى الِإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم - واتّباع طريق الحق والهدى فقال:

(يَأَ يُّهَا النَّاسُ): هذا نداءٌ من الله للناس - جميعًا - منذ نزول الآية إِلى يوم القيامة. وبَدْءُ الكلام به، يشعر بعظمة ما سيلقى على المخاطبين كي تتفتح له قلوبهم، وتعيَهُ عقولهم، ويتوجه إِليه اهتمامهم. (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ): الظاهر من السياق، أَن المراد بالبرهان: الرسول، أَي قد أَتاكم رسول هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - مِن عند ربكم، أَي مربيكم، وهو الله الذي أنشأَكم وربَّاكم، وأَوصلكم غاية الكمال المراد لكم. وسمِّيَ الرسول برهانًا، لأَن وظيفته، إِقامة الحجة، وإِظهار البرهان على تحقيق الحق وإِبطال الباطل. وفي تسميته برهانا، وتنكير لفظة (بُرْهَان) وبيان أَنه أَتاهم من لدن مُربِّيهم ومتولي شئونهم إِشعارا بأَنه أَعظم برهان. (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا): أَي: وأَنزلنا - من أَعلى المنازل لهدايتكم ولنفعكم - القرآن المجيد؛ أَعظم الكتب التي أَنزلناها لهداية البشر، وإِخراجهم من الظلمات إِلى النور. وسمَّاه: نورًا مبينا، إِذ هو كالنور؛ يضيء الطريق ويظهر الحق، ويهدي إِلى سبيل الخير والرشاد. وقيل المراد بالبرهان: القرآن، عبر عنه تارةً بالبرهان؛ لأَنه حجة على صحة نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي جاءَ به لإِحقاق الحق وإِبطال الباطل، وتارة أَخرى بالنور المبين؛ لأَنه ينير طريق الهداية أَمام الناس أَجمعين. وقد تحدثت هذه الآية الكريمة، عن نعمتين عظيمتين، تفضل الله بهما على عباده: النعمة الأُولى: تَفضُّلُه سبحانه وتعالى بإِرسال محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أَعظم نِعم الله على الناس.

والثانية: تفضلُه سبحانه، بإِنزال القرآن هدًى للمتقين. والناس - بالنسبة لهاتين النعمتين الجليلتين - فريقان: فريق المؤمنيين. وقد بين سبحانه حالهم العظيم ومآلهم الحسن بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ... ) الآية. ولم يتناول بالذكر هنا حال الكافرين - وهم الفريق الثاني: تهوينا لشأْنهم، إِذ قد أَغلقوا قلوبهم، فلم تعمر بالإِيمان، وأَغمضوا أَعينهم فلم تر النور المبين. 175 - (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ... ) الآية. أَي: فأَما الذين صدقوا باللهِ، في ذاته وصفاته وأَفعاله، وبما أَنزله من شرائع. (وَاعْتَصَمُوا بِهِ): أَي: وعَصَموا بطاعته أَنفُسَهم، من التردى في هاوية الضلال، وطلبوا منه أَن يُثَبِّتَهم على الِإيمان، ويصونَهم من نزعات الشيطان. (فَسَيُدْخِلُهُم في رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ): أَي: فسيدخلهم الله في أَنواع رحمات كثيرة، لمن يرحمهم الله بها في الدنيا بتمكينهم في الأرض، وإِظهار شأُنهم على أَعدائهم، وفي الآخرة بالجنة. (وَفَضْلِ): والفضل؛ هو ما يتفضل به سبحانه عليهم من علو القدر في الدنيا، وفي الجنة من النعيم الزائد عما جُوزوا به؛ مما لا عين رأَت ولا أُذن سمعت. (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مًّسْتَقِيمًا): أَي: ويهديهم ربهم طريقا مستقيما، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف .. قال ابن كثير: "وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة. فهي - في الدنيا - على منهاج استقامته وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات. وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إِلى روضات الجنات".

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}. المفردات: (يَسْتَفْتُونَكَ): الاستفتاءُ؛ طلب الفُتْيا، والفُتْيا والفتوى: اسم من أفتى العالِم إِذا بين الحكم. (الْكَلَالَةِ): الذي لا ولد له ولا والد. وقيل الكلَالة: مصدر من تكلله النسب أَي تطرفه. كأَنه أَخذ طرفيه من جهة الوالد والولد: فليس له منهما أَحد، فسمى بالمصدر. ومن هنا أُطلقت على الميت الذي لم يترك والدا ولا ولدا "مِنْ كَلَّ" إِذا ضعف. وهذا قول علي وابن مسعود. وقال سعيد بن جبير: هي الوارث الذي ليس ولدًا ولا والدا، لأَن هؤلاءِ الوارثين يتكللون الميت من جوانبه، وليس في عمود نسبه. كالإِكليل يحيط بالرأْس، ووسَطُ الرأْس خال منه. التفسير 176 - (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ .... ) الآية. الربط: تتصل هذه الآية بالآية التي قبلها، فإِن بها بيانَ ما يتعلق ببعض أَحكام الميراث، من الهداية إِلى صراط مستقيم.

ولم تُذكر هذه الآية عقب آيات المواريث المذكورة في أَوائل السورة، لأَنها لم تنزل معها في وقت واحد. فقد روى الشيخان، عن البراءِ: أَنها آخر آية نزلت من الفرائض. وخُتمت السورة بهذه الآية: كما بُدئت بذكر سائر الحقوق المالية؛ ليعلم المسلم: أَن القرآن الكريم يهتم ببيان حقوق الناس، كما يهتم بتوضيح حقوق الله. روى الترمذي عن جابر بن عبد الله، يقول: "مرضتُ فأَتاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني قد فوجدني قد أَغمى عَليّ، فأَتى ومعه أَبو بكر وعمر، وهما ماشيان، فتوضأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصب عليّ من وضوئه، "فأَفَقْتُ. فقلت: يا رسولَ الله، كيف أَقضي في مالي؟ أَو كيف أَصنع في مالي؟ فلم يجبني شيئًا - وكان له تسع أَخوات - حتى نزلت آية المواريث (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ): قال جابر: فِيَّ نزلت". قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (يَسْتَفْتُونَكَ): أَي: يطلب الصحابة منك، أَن تبين لهم الحكم في ميراث الميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا. أَو أَن المستفتي جابر وحده - كما جاءَ في سبب النزول - ونسب إِليهم؛ لَأن الحكم يعمهم جميعًا - ومن بعدهم - إِلى يوم القيامة. وحذف المستفتى فيه وهو ميراث الكلالة، كما بين لدلالة فتوى الله عليه في قوله: (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ): أَي: قل لهم يا محمَّد: الله يبين لكم حكم ميراث الكلَالة، فيما أَنزله علىّ جوابا عن استفتائكم على النحو التالي: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ): أَي: إِن مات شخص، ولا ولد له ولا والد، وله أُخت شقيقة، أَو لَأب - عند عدم الشقيقة - فلها نصف ما ترك.

وأَما الإِخوة لأُم، فقد سبق بيان ميراثهم، في قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ في الثُّلُثِ) (¬1). (وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ): وهو أَي: والأَخ إِذ لم يكن لها ولد - ذكر أَو أُنثى - ويأْخذ الباقي إِن لم يكن لها ولد ذكر. (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ): أَي: فإِن كانتا أَي الأُختان اثنتين فلهما الثلثان مما ترك أَخوهما المتوفى، فإِن زادت الأَخوات عن اثنتين، فلهن الثلثان أَيضا مما ترك الأَخ المتوفى أَو الأُخت، بدليل القصة التي نزلت فيها الآية، فقد كان لجابر بن عبد الله رضي الله عنه - تسعُ أَخواتٍ في رواية الترمذي، وقياسا على ميراث البنات. (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ): أي: وإِن كان الورثة إِخوة - رجالا ونساءً - فللذكر منهم مثل نصيب الأُنثيين. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا): أَي: يوضح الله لكم شرائع دينكم، ويفصلها، كراهة أَن تضلوا عن الطريق السوي. فتمنعوا مستحقا، وتعطوا غير مستحق. والآية صريحة في أَن من تعدَّى حدودَ الله في أَحكامِ الميراث، فقد ضل طريق الحق، وأَخطأَ سبيل الرشاد. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): أَي: والله الذي بَيَّن تلك الفرائض لعباده، وشرعها لهم، قد أَحاط بكل شىءٍ علمًا، فعلمهِ تام بما يُصِلح المجتمعَ الإِسلامي، من الشرائع والأَحكام. روى الشيخان عن البراءِ: أَنها آخر آية نزلت في الفرائض (¬2). ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 12 (¬2) صحيح البخاري. كتاب التفسير. سورة النساء.

سورة المائدة

سورة المائدة تسمى سورة العقود أَيضا. أَما تسميتها بسورة المائدة فلأَنها تحدثت - في أَواخرها - عن المائدة التي طلب الحواريون من عيسى بن مريم عليه السلام أَن يسأَل ربَّه أَن ينزلَها عليهم: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) (¬1). وأَما تسميتها: سورة العقود. فلأَنها افتتحت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ) ... الآية، ولأَنها ذُكِرَ فيها كثيرٌ من المواثيق، التي أخذت على بني إِسرائيل. وهي مدينّةٌ جميعها، ومنها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (¬2)، فإِنها نزلت بعرفة، عام حجة الوداع. فقد ورد في الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - "أَن هذه الآية، نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع". وكل ما نزل بعد الهجرة يعتبر مدنيا. وإِن نزل بغير المدينة. وهذه السورة من أَواخر القرآن نزولا. ووجه المناسبَة بينها وبين سورة النساء التي قبلها في ترتيب المصحف: أَن سورة النساءِ قد اشتملت على عدة عهود، وسورة المائدة افتتحت بالأَمر بالوفاءِ بالعقود. وفي سورة النساء تمهيد لتحريم الخمر بقوله تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصلَاةَ وَأنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... ) الآية، وسورة المائدة حرّمتها تحريما قاطعا بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 112 (¬2) المائدة، من الآية: 3 (¬3) المائدة، من الآية: 90

كما أَن السورتين اشتركتا في الدعوة إِلى التوحيد وإِبطال عقيدة النصارى في عيسى، ودعواهم: أَنه ابن الله، وأن الله ثالث ثلاثة ... إِلى غير ذلك من المناسبات. ومما اشتملت عليه هذه السورة من المقاصد: 1 - وجوب الوفاء بالعقود؛ قد جاءَ في السورة ذكر العقود والمواثيق التي أَخذها الله على بني إِسرائيل وإِن دأبوا على نقضها، ومعاقبة الله تعالى لهم على ذلك بأَنواع العقوبات. 2 - ذكر ما أَحلَّه الله - تعالى - من الأَطعمة وما حرّمه منها، كما جاءَ في السورة، وذكر ما حرّمه العرب على أَنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، مما لم يحرمه الله. 3 - وفيها بيان لأحكام الطهارة ويسر الشريعة. 4 - وذكر فيها: نقض بني إِسرائيل للعهود، وتحريفهم هم والنصارى الكتاب المقدس، ورفضهم دخول الأَرض المقدسة. 5 - وقصة ولدي آدم، وما كان من ارتكاب أَول جريمة للقتل في الأَرض وأَن سببب ذلك هو الحسد والمنافسة. 6 - عقوبة قطاع الطريق، وحد السرقة. 7 - هيمنة القرآن على ما قبله من الكتب السماوية. ووجوب الحكم به: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ). 8 - المسلمون أولياء بعضهم البعض. 9 - النهي عن تحريم طيبات ما أَحله الله: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا). 10 - الأَيمان وكفارتها. 11 - تحريم الخمر والميسر، والأَنصاب والأَزلام. 12 - حكم الصيد برًّا وبحرا وفي الحَرَم، وفي الإِحرام. 13 - مكانة الكعبة الشريفة، وأَنها قيام للناس جميعاً وأمان للإِنسان والحيوان. فهي حَرَم آمن. 14 - إِشهاد المحتضر على وصيته اثنين ذَوَيْ عدل وحلفهما.

15 - وفيها ذكر للمعجزات التي أَظهرها الله على يدي المسيح تصديقا له، وتأْييدا. وطلب الحواريين منه أَن يسأَل ربه أَن ينزل عليهم مائدة من السماءِ. 16 - وفي الختام، ذكَرَت يوم القيامة، وأَنه اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم، وجزاءُ الله لهم عليه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)). المفردات: (أَوفُوا بِالْعُقُودِ): الوفاءُ؛ الإِيتاءُ بالشيء وافيا. والعقود: جمع عَقْد. والمراد منه هنا: العهد الموَثَّق. (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ): البهيمة؛ هي ما لا عقل له من الحيوان. وخصصت - في العرف - بذوات الأَربع. والأَنعام: هي الإِبل والبقر والغنم .. وأُلْحِق بِها ما يماثلها .. كالظباء وبقر الوحش وَحُمُرِه. والإِضافة هنا: بيانية أَي بهيمة هي الَأنعام. (حُرُمٌ): أَي محرمون بالحج أَو العمرة. التفسير 1 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .... ) الآية. ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤْمنين، آمرا إِياهم: بالوفاء بجميع العقود.

وهذا أَمر عام: يشمل جميع ما أَلزم الله به عباده، وعقده عليهم: من التكاليف والأَحكام الدينية، وما يعقدونه - فيما بينهم - من عقود الأَمانات والمعاملات ونحوها، مما يجب الوفاء به. فيجب على كل مؤْمن - بمقتضى أَمر الله - سبحانه وتعالى - أَن يَفِيَ بما عقده وارتبط به. ما لم يكن العقد محلّلًا لِحَرَامٍ، أَو محرِّما لحلال؛ فذلك يحرم تنفيذه كما حَرُمَ توقيعه. أَمر الله - سبحانه وتعالى - المؤْمنين بالوفاءِ بالعهود على وجه الإِجمال. ومنها إِباحة تناول الطيبات، وتحريم الخبائث. وبدأَ بما يتعلق بضروريات المعايش فقال: (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنْعَامِ): أَي أُحلت لكم - أَيها المؤْمنون - أَكل بهيمة الَأنعام: من الِإبل والبقر والغنم وما شابهها. من الظباءِ، وبقر الوحش، والحمر الوحشية. (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ): استثنى من هذه الَأطعمة ما سيتلى في الآية الثالثة من هذه السورة، مما حَرمَّه الله سبحانه فإِنه يجب اجتنابه. (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأنتُمْ حُرُمٌ): أَي: هذه الأَنعام حلالٌ لكم، حالة كونكم غير مُحِلِّي الصيد وأَنتم محرمون بالحج أَو العمرة. فلا يجوز لكم الاصطياد - أَو الانتفاع بالمصيد - ما دمتم محرمين فإِذا تحللتم من إِحرامكم، فلا جناح عليكم أَن تصيدوا، أو تنتفعوا بالمصيد، ولكن في غير الحرم. أما الحَرَمُ، فلا يحل الاصطياد فيه، ولا الانتفاع بما صيد فيه، سواءٌ في ذلك المحْرِم وغير المحرِم.

(إنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): أَي: إِن الله - سبحانه وتعالى - يقضي في خلقه بما يشاءُ. ومن ذلك تحليل ما أَراد تحليله، وتحريم ما أَراد تحريمه ... كما يشاءُ حسبما يعلمه - سبحانه وتعالى - من المصالح لعباده، لا حسب شهواتهم وأَهوائهم. وفي ختم الآية بذلك، بيان أَن موجب الحكم والتكليف، هو إِرادته سبحانه وتعالى، فلا اعتراض عليه فيما شرع. ولا معقب لحكمه. وعلى العباد أَن يمتثلوا أَمره تعالى، ويجتنبوا نهيه، وفاءً بعهده. سواء أَدركوا حكمة التشريع، أَم لم يدركوها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2). المفردات: (شَعَائِرَ اللهِ): جمع شعيرة، وهي: العلامة. والمراد: ما جُعِلَ شعارا وعلامة للنسك. من مواقف الحج. (الشَّهْرَ الْحَرَامَ): الَأشهر الَأربعة التي حرَّمها الله وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.

(الهَدْيَ): ما يُهدَى إِلى الحَرَم الشريف من الأَنعام. (الْقَلَائِدَ): جمع قلادة، وهي: ما يُعَلَّق في عنق الأَنعام، علامةً على أَنها هَدْى. والمراد: ذوات القلائد. (آمِّينَ): قاصدين. (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ): لا يَحْمِلَنَّكُم. (شَنَآَنُ): بُغْض. (صَدُّوكُمْ): منعوكم. (الْبِرّ): كلمة تجمع وجوه الخير. (الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ): الِإثم؛ الذنب مطلقا. والعدوان؛ خاص بما يقع على الغير. التفسير لمَّا بيَّن الله - سبحانه وتعالى - حُرْمة الاصطياد في الِإحرام، عقب ذلك بنهي المؤمنين عن استحلال شعائر الله، ومعالم حدوده فقال: 2 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ ... } الآية. هذا نداءٌ: ثانٍ من الله تعالى للمؤمنين، في قوة النداء السابق بالوفاء بالعقود، لتساوي الحكمين وجوبا فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ}: أَي لا تستبيحوا وتنتهكوا أيَّةَ شعيرة من شعائر الدين: في الحج أَو غيره؛ لأَنه يؤَدي إِلى الاستخفاف بالشرع. وذلك كفر بالله - سبحانه وتعالى - لأَنه هو المُشرِّع. (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ): أَي: ولا تستبيحوا وتستحلوا القتال في الأَشهر الحُرُم، وذلك لحرمة القتال فيها، إِلا إِذا اضطُررتم إِلى ذلك. فإِنه لا يحرم عليكم القتال فيها. قال تعالى: "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ... " (¬1). ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 194

والأَشهر الحُرُمُ هي: - كما قدمنا - ذو القعدة، وذو الحِجة، والمُحرم، ورجب. (وَلَا الْهدْىَ ولَا الْقَلائِدَ): كذلك نهاهم أَيضا، عن أَن يعتدوا على الهَدْيِ الذي يُهدَى إِلى الحرم، من الأنعام لينتفِع به عباد الله، أَو أَن يعتدوا على ما قُلِّدَ من هَدْيِ الأَنعام، فَجُعِلتْ به علامة للدلالة على أَنه مُهْد إِلى بيت الله، وذلك بقوله تعالى: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ): وخص القلائد بالنهي عن الاعتداءِ عليها - مع أَنها داخلة في الهَدي - تشريفا لها، واعتناءً بها. والمراد من إِحلالِ الهَدْيِ والقلائد المنهي عنه - غصبها، أَو منعُها من بلوغ محلها، أَو إِصابتها بسوءٍ، وذهب ابن كثير إِلى أَن المعنى: لا تتركوا عبادة الإِهداءِ إِلى البيت الحرام فإِن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أَعناقها لتُعْرَف به عما عداها من الأَنعام، وليعلم أَنها هدى إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوءٍ، وتبعث من يراها على الإِتيان بمثلها. ونهى الله أَيضا، عن أَن يتعرضوا لقاصدي البيت الحرام بسوءٍ، فقال: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن ربِّهِمْ وَرِضوَانًا): وذلك لأَنهم إِنما قصدوا أَداءَ المناسك، وابتغاءَ فضل الله ورضوانه. وهذه المنهيات كلها، دليل على أَن الله يوجب أَن يكون زمان الحج ومكانه، وقاصده والبيت الحرام وما يهدى إِليه - كل ذلك - في أَمْن واطمئنان، فلا خوف ولا اضطراب في أَداءِ هذه الفريضة. وتكرار "لا" أَربع مرات في (وَلَا الشَّهْرَ الْحرَامَ)، (وَلَا الْهَدْيَ)، (وَلَا الْقَلائِدَ)، (وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) للدلالة على أَن قوة التحريم في كلٍّ واحدة. وذكر كل واحدة من هذه المنهيات الخمس منفردة، مع أَنها مجمَلة في (شَعائِرِ اللهِ): لأَهميتها.

(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا): أَي وإِذا تحللتم أَيها المؤْمنون - من إِحرامكم وخرجتم من أَرض الحرم، فقد أُحِلَّ لكم الاصطيادُ والانتفاع بالمصيد، كما تشاءُون. فإِنما حُرم عليكم الصيدُ - في أَرض الحرم - سواء كنتم محرمين أَو محلين .. وكذلك حرم عليكم الصيدُ في حال الإِحرام - مطلقا - في أَي أَرض تكونون. (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا): أَي: ولا يحملنكم بغضكم للمشركين - بسبب صدهم إِياكم - عن أَداءِ العمرة عام الحديبية بغير حق .. لا يحملنكم هذا البغض على الاعتداءِ عليهم بغير حق. وهذا من عدالة الإِسلام وسماحته، فهو يكره الاعتداءَ دائما. وهذه الآية - وإِن نزلت في شأْن عمرة الحديبية - فإِن حكمها عام في منع الاعتداءِ على الناس بغير حق، لدافع الكراهية أَو البغضاءِ. (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَقْوَى (¬1)): أَتبع الله - سبحانه وتعالى - النهي عن العدوان، بالأَمر بالتعاون على البر والتقوى، وكل ما فيه خير وصلاح للفرد والمجتمع. (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ): نهى - سبحانه - عن التعاون على المعاصي والمنكرات، وكل ما فيه إِضرار بمصالح الأَفراد والجماعات. وعقب تلك النواهي بالتحذير من مخالفتها، فقال: (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية: (177) من سورة البقرة.

أَي: ولتكن تقوى الله - دائما، والخشية منه - ماثلة أَمام أَعينكم، في كل ما تأَتون وما تتركون، فراقبوه دائما في جميع أَعمالكم .. ومن أَهمها: تنفيذ ما أُمِرتم به، وترك ما نُهيتم عنه، واحذروا شديد عقابه، وأَليم عذابه، على المخالفة والعصيان. (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)). المفردات: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ): الإِهلال، رفع الصوت، والمراد مما أُهِل لغير الله به: ما ذكر غير اسم الله عليه عند الذبح. (الْمُنْخَنِقَةُ): ما ماتت خنقًا. (الْمَوْقُوذَةُ): هي التي ضُرِبت حتى ماتت. (الْمُتَرَدِّيَةُ): ما سقطَت من علو فماتت. (وَالنَّطِيحَةُ): ما نطحها غيرها حتى ما تت. (السَّبُعُ): كلُّ حيوان مفترس.

(ذَكَّيْتُمْ): ذبحتم ذبحا شرعيا. (النُّصُب): جمع نصاب. وقيل: واحد الأَنصاب، وهي أَحجارٌ نصبوها حول الكعبة. وكانوا يذبحون عليها ويعظمونها. (تَسْتَقْسِمُوا): تطلبوا معرفة ما قسم وقُدِّر لكم. (بِالأَزْلَامِ): جمع زلم، وتسمى القداح، وهي سهام كانت عندهم في الجاهلية؛ يطلبون بها معرفة ما قسم لهم بتناولها، من نحو كيس وضعت فيه، وسيأْتي شرح ذلك. (فِسْقٌ): خروج عن طاعة الله. (يَئِسَ): اليأْس؛ انقطاع الرجاءِ. (مَخْمَصَةٍ): شدة الجوع. (مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ): مائل إِلى الإِثم، من الجنف وهو: الميل. التفسير 3 - (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِه ... ) الآية. بعد أَن ذكر الله - سبحانه - أَنه أَحل بهيمة الأَنعام، شرع في بيان المحرمات منها، التي استثناها بقوله: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ". وهي عشرة أَنواع: 1 - (الْمَيْتَةُ): وهي التي ماتت بدون تذكية مشروعة، لأَن الغالب فيها: أَنها ماتت من مرض، فلا يحل أَكلها؛ لما فيها من الضرر؛ ولأَنها تعافها الأَنفس. 2 - (وَالدَّمُ): والمراد به؛ الدم السائل. وحكمة تحريمه، أَن فيه من الجراثيم والفضلات ما يؤذي مَن يتناوله. بخلاف المتجمد منه، وهو الكبد والطحال وما يتخلل اللحم، فإِن هذه ليست من الدم المسفوح، وليست محرمة. 3 - (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ): والمراد، لحمه ودهنه، وكل شيءٍ فيه. وذلك: لخبثه، وللأَضرار. التي تنشأُ عن أَكله.

4 - (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ): أَصل معنى الإِهلال؛ رفع الصوت، وكان أَهل الجاهلية يذبحون باسم أَصنامهم، رافعين أَصواتهم بذلك. والمراد منه: ما ذبح على غير اسم الله؛ لأَن الذبح لغير الله فيه تعظيم لذلك الغير. والآكل من هذا المذبوح مشارك في التعظيم لغير الله. 5 - (وَالمُنْخِنقَةُ): وهي التي ماتت خنقا ولم تذبح؛ وذلك لاحتباس الدم فيها وسواءٌ أَكان الخنق بفعلها أَم بفعل غيرها، فإِنها لا تحل. 6 - (وَالْمَوْقُوذَةُ): وهي التي قذفت بمثقل كالحجارة ونحوها، حتى ماتت من الوقذ. أَي من الضرب، ولم تذبح ذبحا شرعيا. 7 - (وَالْمُتَرَدِّيَةُ): وهي التي سقطت من مكانٍ عالٍ، أَو هوت في بئر فماتت من التردي. 8 - (وَالنَّطِيحَةُ): وهي التي نطحتها غيرها فأَماتتها. 9 - (وَمَا أَكَل السَّبُعُ): أَي ما افترسها السبع وأَكل منها، فلا يؤكل ما بقى، وكذا الحكم لو افترسها فماتت ولم يأَكل منها. وهذه الأَنواع من المنخنقة - وما عطف عليها - إِن أُدركَت وبها حياة فذكيت ذكاة شرعية، حَلَّ أَكلها. واشترط الأَحناف في الحياة، أَن تكون فوق حياة المذبوح. وقال غيرهم: يكتفى فيه أَن تدرك وبها حياة في الجملة كأَن تطرف عينها، أَو تضرب برجلها أَو غير ذلك. فمتى أَدركها الإِنسان وبها مثل هذا النوع من الحياة فذكَّاها - أَي ذبحها - حل أَكلها. 10 - (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ): والنصب حجارة نصبها أَهل الجاهلية حول الكعبة. وكانوا يذبحون عليها، تقربا للأَصنام. وهو حرام؛ لأن في هذا الذبح تعظيمًا للأصنام، وهو إِشراك بالله سبحانه وتعالى.

وهذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى؛ إِنما حرمت لأَن فيها إضرارا بالصحة أَو العقيدة. (وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ): كانوا يستقسمون بالأَزلام، أَي يطلبون معرفة ما لهم وما قدر عليهم، عن طريق الأَزلام. والأَزلام: قطع من الخشب على هيئة السهام. وتسمى القداح. وهي ثلاثة: مكتوب على أَحدهما: أَمرنى ربي. وعلى الآخر: نهاني ربي. والثالث غفل من الكتابة. وكانوا في الجاهلية إِذا أَراد أَحدهم سفرا أَو غزوا. أَو زواجا أَو بيعا أَو نحو ذلك، أَتى إِلى بيت الأَصنام أَربابهم؛ ليطلب معرفة ما قسم له من هذا الذي أراده: أَيُقْدِم عليه؟ أَم يُحجِم عنه؟ فيحرك هذه الأَزلام، فإِن خرج الذي عليه، أَمرني ربي: أَقدم على الفعل. وإِن خرج الذي عليه، نهاني ربي: أَمسك وإِن خرج الثالث وهو الغفل: أَعاد ثانيا حتى يخرج الآمر أَو الناهي. وهذا من الخرافات والأَوهام. التي لا يقدم عليها إِلا من سيطر على عقله الجهل. وجعل نفسه ألعوبة في أَيدي الكهان. ومن يدعون معرفة الغيب. والإِسلام بريء من كل ذلك فطلب معرفة الْحَظِّ - عن طريق التنجيم وضرب الرمل والودع، وفنجان القهوة وما شابه ذلك - من الأُمور التي لم يشرعها الله. وإِنما حرم الاستقسام، ومعرفة النصيب على هذا الوجه وما شابهه؛ لأَن خروج ورقة أَو نحوها؛ عليها: أَمرني ربي. أَو: نهاني ربي - رجمٌ بالغيب، وتَقَوُّلٌ على الله تعالى؛ لأَنه لا يمكن تعرُّف أَمر الله أَو نهيه بمثل هذا الطريق؛ لأَن الله لم يعط هذه الكائنات - أَو غيرها - معرفة قَدَرِه الذي استأثر بعلمه. قال تعالى: " ... وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (¬1). فكيف نطلب العلم عن طريقها وفاقد الشيء لا يعطيه؟ ¬

_ (¬1) لقمان، من الآية: 34

وإِن أَولئك الذين يلجأُون إِلى العرّافين والمنجمين ونحوهم، إِنما يتركون جانب الله العلم القدير، ويركنون إِلى أدعياء يجهلون كل شيء عن مراد الله تعالى، ويعرّضون أَنفسهم؛ لسخط الله، إِلى جانب إِهدار عقولهم وبذل أَموالهم فيما يضرهم ولا ينفعهم. ولقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - الاستخارة في الأُمور كلها. وهي من الالتجاءِ إِلى الله تعالى: أَن يقدر الخير لفاعلها ويُرَضِّيه به. روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأَمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إِذا هَمَّ أَحدُكُم بالأَمرِ فَليَركَعْ رَكْعَتَيْن من غَيْرِ الفَريضَةِ. ثُمَّ ليَقلْ. اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ. وأَستَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وَأَسأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيم. فَإِنَّكَ تَقْدِر وَلَا أَقْدِرُ، وتَعْلَمُ ولَا أَعْلَمُ. وأَنتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللهُم إِنْ كُنت تَعْلَمُ أَنَّ هَذا الأَمرَ - ويُسَمِّي حاجَتَهُ - خَيْرٌ لي في دِيِني وَمَعاشِي وَعَاقِبَةَ أَمْري - أَو قَالَ عاجِلَ أَمْري وآجِلَةُ - فَاقْدُرْهُ لِي، ويَسِّرْهُ ليِ، ثُمَّ بارِكْ لِي فِيه. وإِنْ كُنتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذَا الأَمْرَ - ويُسَمِي حاجَتَهُ - شَرٌّ لِي في دِيِني ومَعاشِي، وعَاقبَةِ أَمْري - أَو قال في عاجِلِ أَمْري وآجِلِه - فاصْرفْهُ عَنِّي واصْرفْنِي عَنْهُ، واقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثمَّ رَضِّنِي - أَو أَرضِنِي - بِه". (¬1) هذه هي الاستخارة المشروعة لمن أَراد أَن يوفقه الله لعمل الخير، وخير العمل. (ذَلِكُمْ فِسْقٌ): المشار إِليه، هو: كل ما ذكر من المحرمات السابقة؛ لأَن ارتكاب شيءٍ منها خروج عن طاعة الله تعالى، وعن دينه وشرعه. ولذلك كانت فسقًا. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ): المراد باليوم: يوم نزول هذه الآية، وهو عشية عرفة: عام حجة الوداع كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله عنه. وقد أَخبر سبحانه وتعالى، عباده المؤمنين، بأَن الكفار قد انقطع رجاؤهم من زوال دين الإِسلام. أو النَّيل منه ومن أَتباعه. فقد بدّل الله المؤمنين من ضَعْفِهِمْ قوةً، ومن خوفهم أَمْنًا، ومن فقرهم غنًى. فوجب عليهم أَلَّا يخشَوْا إِلا الله، وأَلَّا يرهبوا أَحدًا سواه. ¬

_ (¬1) البخاري: ج 1 - باب التهجد بالليل.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ): وقد أَكمل الله الدين لعباده. فبين حلاله وحرامه. فليسوا في حاجة إِلى تحليلٍ أَو تحريم بعد ذلك. وما كان من حكم غير منصوص، جاءَ عن طريق: الإِجماع، أَو القياس - فهو مستمد من الكتاب أَو السنة. (وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي): وأَتم الله عليهم نعمة النصر على الأَعداءِ والغلبة عليهم. فأَصبحَتْ لهم اليدُ العليا، ودخلوا مكة ظافرين منتصرين، وأَدَّوُا المناسك آمنين مطمئنين، وهُدِمَت معالمُ الجاهلية، وأُبْطِلت مناسِكُها، وانتَشَر الإِسلامُ في أَرجاء الجزيرة العربية. (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا): واختار الله لهم الإِسلام دينا .. فمن طلب الهدى في غيره، فقد ضل سواءَ السبيل، وخسر خسرانا مبينا. (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في اْلآخِرَةِ مِنَ الخَاِسرِينَ) (¬1). وبنزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلَامَ دِينًا): عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَن رسالته تمت، وأَن أَجله اقترب، وأَنه عما قريب - لاحق بالرفيق الأَعلى. (فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): هذا الجزءُ من الآية يتصل بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إِلى قوله: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) وقد توسط قوله تعالى: (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) إِلى هنا؛ لتأْكيد التحريم لما تقدم ذكره، لأَن تحريمَ هذه الخبائث، من جملة الدين الكامل. أَي: ما ذُكِر من المحرماتِ السابقة - محظورٌ تناول أَي شيءٍ منه في حالة الاختيار، ولكن قد يقع الِإنسان في الأَضرار بأَن تصيبَه مخمصة - أَي مجاعة - فتضطرَّهُ إِلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات، إِنقاذًا لحياته، لأَنه لا يجد غيرَها أَمامه. فكان من رحمة الله بعباده أَن رَفَعَ الحرج عن المضطر، إِذا تناول شيئًا من هذه المحرمات، بشرط أَن يكون غير متجانف لإِثم: أَي غير مائل إِلى الإِثم. وذلك بتجاوزه حد الضرورة. ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى: (فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ): ¬

_ (¬1) آل عمران، الآية: 85

أَي لا يؤَاخِذ الله من يُضْطَرُّ إِلى ذلك. وهذا من مظاهر رحمته سبحانه. وقد قررت الآية مبدأَين من مباديء التشريع، بني عليهما كثير من فروع الشريعة؛ أَولهما: أَن الضرورات تبيح المحظورات. ثانيهما: أَن الضرورة تقدر بقدرها .. وهذا من يُسْرِ الإِسلام وسماحته قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (¬1). (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5). المفردات: (الطَّيِّبَاتُ): ما طاب من الأَطعمة وحَلَّ. (الْجَوَارِحِ): واحدها جارحة. وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور. ¬

_ (¬1) الحج، من الآية: 78.

(مُكَلِّبِينَ): مبالغين في تدريبها على الصيد. فالمكلِّبُ: مؤَدِّب الجوارح ومدربُها على الصيد. (الْمُحْصَنَات): العفيفات. (مُسَافِحِينَ): مجاهرين بالزنى. (أَخْدَانٍ) جمع خدن. وهو؛ الصديق في السر. يطلق على الذكر والأُنثى. والمراد من قوله: "وَلَا مُتَّخِدِي أَخْدَانٍ": ولا مسِرّين بالزنى مع الصديقات. (حَبِطَ عَمَلُهُ): بطل ثواب عمله. التفسير 4 - (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية. أَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن جبير: أَن السائل: عديُّ بنُ حاتم. وزيُد بن المهلهل الطائيان - وكانا أَهل صيد - قالا: يا رسول الله، إِنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة. وإِن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباءَ. فمنه ما ندرك ذكاتَهُ. ومنه ما تقتله، فلا ندرك ذكاته. وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت الآية. (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): يسأَلك المؤْمنون: ماذا أَحل الله لهم من الطعام؟ فقُلْ لهم يا محمَّد: أَحَلَّ لكم ما تستطيبون أَكلَه وتشتهونه مما حَلَّ لكم .. ولا شك أَن الأَشياءَ الممنوعة التي ذكرت في الآية السابقة، إِنما هي من المستقذرات التي تعافها النفوس بطبيعتها، ولا تشتهيها إِلا إِذا انحرفت عن طبيعتها وفطرتها. (وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ): وأَحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح.

(مُكَلِّبِينَ): أَي مبالغين في تعليمها، بحيث تُصبح إِذا أُرسِلت استرسلت. وإِذا زُجرت ازدجرت، وإِذا أَمسكت صيدّا لم تأْكل منه شيئًا. وذلك هو ما عناه الله بقوله سبحانه: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ): أَي: تعلمونهن بعض ما علمكم الله من الحيل في الصيد. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ): أَي: فكلوا من الصيد الذي أمسكته هذه الجوارح عليكم ومن أَجلكم. بأَن لم تأْكل منه شيئًا. أَمَّا إذا أَكلت منه فلا تأْكلوه؛ لأَنها أَمسكته لنفسها، بدليل أَنها أَكَلت منه. وذلك ناشيءٌ من أَنها لم يتم تعليمُهَا. (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ): أَي: واذكروا اسم الله على هذه الجوارح التي علمتموها عند إِرسالها. روى أَصحاب السنن من حديث عدي بن حاتم: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَرسَلْتَ كلَابَكَ المعلَّمَةَ، وذكرتَ اسمَ اللهِ، فَكُلْ مما أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلا أَن يأْكُلَ الكلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فِإني أَخافُ أَن يَكونَ إِنَّما أمْسَكَ على نَفْسِه". ولأَجل هذا الحديث الذي شرح المراد من الآية، قال بعض الفقهاءِ: بحرمة الصيد الذي أَكل منه الجارح ولم يدركه الصائد حيا؛ لأَنه أَمسكه على نفسه. وقال مالك والليث: يُؤْكَلُ وإِن أَكَلَ منه الكلبُ. وقال أَبو حنيفة وأَصحابه: إِذا أَكل الكلبُ من الصيد فلا يُؤْكلُ منه، ويُؤْكلُ صيدُ البازي وإِن أَكل منه؛ لأَن تأْديب سباع الطير إِلى حد أَلا تأْكل منه متعذر، بخلاف الكلاب فإِنه غير متعذر.

وإِن أدرك الصائد ما أكل منه السبع حيًّا حياة مستقرة. فذَكَّاه - أي ذبحه - حلَّ أَكلُه اتفاقًا، لقوله تعالى: (وَمَا أكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ). وإن كانت حياته غير مستقرة وذكاه، فالحكم كذلك عند الجمهور لعموم الآية. قال أَبو طليحة الأسدي: "سأَلتُ ابنَ عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنيها، ثم انتشر قصبها - أَي أَمعاؤها - فَأَدْرَكْتُ ذكاتَها، فذكّيتُها، فقال: كُلْ، وما انتشر من قصبها فلا تأكل". قال إسحاق بن راهويه: السُّنة في الشاة، على ما وصف ابن عباس. فإنها - وإن خرجت أَمعاؤُها - فهي حية بعد. وموضع الذكاة منها سالم. وإِنما يُنْظرُ - عند الذبح - أَحية هي أَم ميتة؟ ولا ينظر إِلى ما أصابها: هل تعيش معه أم لا؟ قال ابن إِسحاق: ومن خالف هذا فقد خالف جمهور الصحابة وعامة العلماء. (وَاذْكُرُوا اسْم اللهِ عَلَيْهِ): هذا أمرٌ بتسمية الله - تعالى - عند إرسال الكلب والطير على الصيد. فالحكم في التسمية عنده، كالحكم فيها عند الذبح. وقيل: هو أمر بالتسمية على الصيد عند الأكل منه. قال الآلوسي: وهو بعيد، وإن استظهره أبو حيان. واستيفاءُ الأحكام مبسوط في المراجع الفقهية، فليرجع إليه من شاءَ. (وَاتَّقُوا الله أن اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): واتقوا الله - أيها المؤمنون - في هذه الحدود، فلا تتجاوزوا ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم. إن الله رقيب عليكم، ومحاسبكم على ما قدمتم من أعمال.

وتذييل الآية، بالأَمر بالتقوى - إِثر بيان حكم الصيد - لِحَثِّ متعاطيه على التقوى، دَفْعًا لِمَظَنَّةِ التهاون والغفلة عن طاعة الله. واستُدِل بالآية: على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة؛ لأَن التعليم قد يحتاج إِلى ذلك، وعلى إِباحة اتخاذ الكلب للصيد. ومثلة الحراسة، والانتفاع به فيما يحقق المصالح العامة، مثل تعقب اللصوص، وإِنقاذ الغرقى، وقيادة العميان. 5 - (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ .. ) الآية. هذا الحكم - فضلا عن أنه تأْكيد لما سبق؛ تمهيد لما سيترتب عليه، في قوله سبحانه: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ): أَي: وطعام أَهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، حلالٌ لكم أَيها المؤمنون، وذلك لمخالطتهم للمسلمين. والمقصود من الطعام: ما يعم الذبائح، إِذا كانت من الأَنواع التي يُحِلُّها الإِسلام. (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ): أَي: ويحل لكم أَن تطعموهم من طعامكم الذي أَحل الله لكم، كالأَبقار والأَغنام، لأَن الإِسلام لا يرى مجرد المخالفة في الدين، مانعة من المؤَاكلة. (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ): بعد بيان ما أَحل من الطعام، ذكر الله تعالى حِلَّ المحصناتِ بالزواج، لينهى عن العادة الذميمة وهي السفاح. والمراد بالمحصنات من المؤْمنات: أَي العفيفات. على ما ذهب إِليه الحسن والشعبي، أَو الحرائر على ما ذهب إِليه مجاهد. وقال جماعة: هن العفائف والحرائر. وتخصيصهن بالذكر، للحث على ما هو الأَوْلى، لا لحرمة ما عداهنَّ فإِن نكاح الإِماء المسلمات بشروطه - جائز بالاتفاق. وكذا نكاح غير العفائف منهن.

وأَما الإِماءُ الكتابيات: فهن كالمسلمات عند أَبي حنيفة. وفهم أَبو عبيد من تفسير مجاهد للمحصنات بالحرائر أَنه لا يذهب إِلى حِل نكاح إِماءِ أَهل الكتاب لقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) (¬1). قال القرطبي: وهذا القول الذي عليه جلةُ العلماءِ. أهـ. من الآلوسي والقرطبي. (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ): وكذلك أُحِلَّ لكم تزوجُ الحرائِر العفيفاتِ من الكتابيات، مثل العفيفات من المؤمنات. وهذا من سماحة الإِسلام وعدالته في معاملة أَهل الكتاب. (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): أَي أعطيتموهن مهورهن. وقيد حلّ المحصناتِ من المؤْمنات ومن أَهل الكتاب بإِتيانهن لتأْكيد وجوبها، لا لتوقف الحِلّ على إِتيانها، فإِن الزواج يحل بالصداق المؤجل، كما يحل إِذا تم بدون مهر، فإِنه ليس من أَركان العقد، ولا من شروط صحته. ولكنه يتقرر فيه - أَي في العقد بغير ذكر المهر - مهر المثل بالوطء؛ لأَن الوطءَ لا يباح بمجرد الإباحة، بل لا بد من العقد؛ لما فيه من حق الله تعالى. وسمى اللهُ المهور أُجورًا؛ لأَنها عوض عن الاستمتاع بهن، كما قاله ابن عباس وغيره. وتسمى صداقا؛ لأَنها مشعرة بصدق رغبة باذليها في الزواج، وقد فرضت لذلك إِعزازا للمرأَة وتكريما لها. وقد أَوجب الله أَن يكون الغرض من الزواج، الإِحصانَ والعفة، فقال تعالى: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ): أَي: أَعفَّاءَ غير مجاهرين بالزنى، ولا مُسِرِّين به، مع الخليلات والصديقات. وكما أَن هذا هو المطلوب بالنسبة لزواج الرجل، فهو مطلوب بالنسبة لزواج المرأَة. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 25

والأَخدان: جمع خدن وهو الصديق، ذكرا كان أَم أُنثى. (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ): أَي: من ينكر شرائع الإِيمان وفروعه، وقوانينه وأَحكامه، التي من جملتها: ما بَيَّن هنا من الأَحكام المتعلقة بالحِل والحرمة، ويمتنع عن قبولها، من يفْعل هذا: (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ): فقد بطلَ عمله، فلا يُعْتدُّ به، وضلَّ سعيه. (وَهُوَ في الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ): ويكون في الآخرة من الهالكين. وفي ذلك تعظيم لشأْن ما أَحلَّه الله وما حرَّمه، وتحذيرٌ من المخالفة لشرائع الدين، وتغليظٌ للعقوبة على مَن خالف ذلك. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7).

المفردات: (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاِة): أَردتم القيام إِليها وأَنتم مُحْدِثون. (المَرَافِقِ): جمع مرفق؛ وهو ما يصل الذراع في العضد. (الكَعْبَيْنِ): العظمين الناتئين من الجانبين. عند مفصل الساق والقدم. (الْغَائِطِ) المنخفض الواسع من الأَرض. وهو هنا؛ كناية عن قضاءِ الحاجة. (لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ): كناية عن الاتصال الجنسي، أَو مطلق المباشرة. (صَعِيدًا): الصعيد؛ وجه الأَرض البارز. (طَيِّبًا): طاهرا. (مِيثَاقَهُ): عهده. (وَاثَقَكُم بِهِ): عاهدكم به. التفسير 6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم ... } الآية. بعد ما بَيَّن الله تعالى، الأَحكامَ المتعلقة بالأَطعمة وغيرها، شرع في بيان أَحكامٍ أُخرى، تتعلق بالعبادات فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ): يَأَيها الذين آمَنُوا إِذا أَردتم القيام إِلى الصلاة وأَنتم محدثون. (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ): فتوضأُوا بغَسل وجوهكم وأَيديكم إِلى المرافق. (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ): (وَأَرْجُلَكُمْ): بالنصب، عطفا على (وُجُوهَكُمْ): داخلا معها في حكم الغسل، فواجب الرجلين هو الغسل عند الأَكثرين؛ ومنهم الصحابة. وفي توسيط مسْح الرأْس بينَ

الأَعضاء التي تغسل، إِيماءٌ إلى وجوب مراعاة الترتيب. كما ذهب إِليه الشافعية إِذ لو لم يكن الترتيب واجبا، لأتى بالأَعضاء التي تُغْسل متتابعة، وأَخَّر عنها الممسوح. وقرئ (وَأَرْجُلِكُمْ): بالجر، عطفا على (رُءُوسِكُمْ): ولا يفيد ذلك أَن الواجب في الرجلين هو المسح، بل للإِيذان بأَنه لا ينبغي الإِسراف في غسلهما. والمسح هنا محمول الغسل كما صرح به كثير من أَهل اللغة. يقال للرجل إِذا توضأَ: تمسح، ويقال مَسَحَ المطرُ الأَرضَ: إِذا غسلها. وقيل المسح على ظاهره. والأرجل معطوفة على المغسولات. كما في قراءَة النصب .. والجرِّ بسبب المجاورة. ويرى الشيعة الإِمامية: أَن الواجب في الرجلين هو المسح، أَخذًا من قراءَة الجر .. وأَوجب داود: الجمع بين المسح والغسل فيهما، مراعاة للقراءتين. والأَرجح: هو رأَي جمهور الفقهاء. وهذا الوضوءُ: شرور من شروط الصلاة على المحدث حدثا أَصغر. فلا تصح الصلاة بدون الوضوء. روى الشيخان عن عمرو بن عامر الأَنصارى، قال: "سمعتُ أَنَسَ بنَ مالك يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأُ عند كل صلاة. قال: قلتُ: فأَنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوءٍ واحد، ما لم نُحدِثْ". وروى البخاري عن أَبي هريرة، مرفوعًا: "لا يَقبلُ الله صلاةَ أَحدِكُم إِذا أَحدثَ حتى يتوضأَ". والمذكور في الآية من فرائض الوضوءِ: غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح الرأْس، وغسل الرجلين مع الكعبين. على خلاف بين الأَئمة في المقدار الممسوح من الرأْس. فيرى الشافعية أَن المراد بمسح الرأْس: البعض ولو شعرة، لأَن الباءَ للتبعيض. ويرى الحنفية: أَن المراد: ربع الرأْس من أَي جانب ويستدلون بما رواه مسلم عن المغيرة: "أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوضأَ فمسحَ بناصيتهِ" فهذا الحديث بيَّن المجملَ في الآية.

والباءُ عندهم في (بِرُءُوسِكُمْ): للإِلصاق. ويرى المالكية والحنابلة أن المراد: مسحُ جميع الرأس. والباءُ عندهم في (بِرُءُوسِكُمْ) زائدة، لأَن الفعل "امْسَحُوا" يتعدى بنفسه. وبهذا المذكور في الآية، اكتفى الأحناف في فرائض الوضوء. وزاد عليها غيرُهم فرائضَ أخرى، أُخذَت من مفهوم الآية وغيرها - كما هو مبين في كتب الفقه. (وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَهَّرُوا): هذا بيان لحكم الحدث الأكبر - بعد بيان حكم الحدث الأَصغر - فإِذا كان الإِنسان جُنُبًا بمخالطةٍ أَو باحتلام أَو غيره، فلابد من أَن يتطهر بالغسل. وهو تعيمم الجسد كله بالماء. وقد اختلف الأئمة في وجوب النية في الغسل والوضوءِ. كما اختلفوا في وجوب الدَّلْك أو سُنيَّتَّه. (وَإِن كُنتم مَّرْضَى أَو عَلَى سَفر): يعني: أَن من لم يستطع منكم استعمالَ الماءِ؛ لمرضٍ، أَو كان - مسافرا ولم يجد الماءَ، أو هو في حاجة إِلى الماء لحفظ حياته. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}: وقد أَحدثتم حدثا أَصغر أَو أكبر. (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا): أَي اقصدوا ترابا طاهرا: فالتيمم: القصد. (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكم منْه): وهو أَن يمسح وجهَه ويَديْهِ: بضربتين يضربهما على الصعيد. إحداهما للوجه، والثانية لليدين، على خلاف بين المذاهب في ذلك.

ويكفيه هذا التيمم عن كل من الطهارتين أَو مجموعهما، حتى يجد الماءَ أَو يقدر على استعماله بزوال عذره. وهو تيمم لكل فريضة مع نوافلها، أَو يصلي به ما شاءَ من فرائض ونوافل؟ خلاف بين الفقهاء ... وفي هذا من اليسر والسهولة والسماحة في الدين، وعدم الضيق والحرج - ما يليق بسماحة الإِسلام. ولذا قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ): أَي ما يريد الله أَن يشدد ويضيق عليكم أَيها المؤمنونَ بأَن يكلفَكم بما يشق عليكم، فيما شرعه لكم من الوضوءِ والغسل والتيمم. (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ): ولكن يريد - بما شرعه لكم منها - أَن يطهرَكُم من الأَدناس والأَقذار، والذنوب والأَوزار؛ لأَن الوضوءَ والغسل - كما ينظف الجسم من الأَقذار - يكفر الله تعالى به الذنوبَ والخطايا. ولأَن التيمم - بالغبار الطاهر النظيف - مَظْهَرٌ للتواضع والخضوع لله. أَخرج مالك ومسلم وابن جرير، عن أَبي هريرة رضي الله عنه، أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تَوضَّأَ العبدُ المسْلمُ فغَسَلَ وجَهَهُ، خَرَج من وجهِه كل خَطيئةٍ نَظَر إِليْها بِعينيْهِ مع الماءَ، فإِذا غَسلَ يَديْهِ، خَرجَ مِن يديْهِ كُلُّ خَطيئةٍ بطشتْهَا يداهُ مع الماء، فإِذا غَسل رِجليْهِ، خرجَتْ كُل خَطِيئة مَشَتْها رِجْلاهُ مع الماء حَتى يَخْرجَ نقيًّا مِنَ الذنُوبِ". والتيمم - كالوضوءِ - في هذا الثواب الجزيل. (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ): أَي: وشرع لكم ما سبق من الأَحكام - في الوضوء والغسل والتيمم - ليتم نعمته عليكم. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): ولكى تشكروه دائما على نعمه؛ بطاعتكم إِياه فيما أَمركم به.

7 - {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ... } الآية. أَمرنا الله - سبحانه وتعالى - بأَن نتذكر نعمته علينا، بهدايته إِيانا إِلى الإيمان، وإِنفاذنا به من الكفر، وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وإِنما أَمرنا الله سبحانه وتعالى - بأَن نتذكر نعمته علينا لنعرف موجِباتِ شكره فنشكره على أَنعمه ... {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: أَي: واذكروا ميثاقه وعهده الذي أخذه عليهم بالسمع والطاعة. والمراد بالميثاق، هو الميثاق الذي أَخذه عليهم، حين بايعهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الثانية، سنة ثلاث عشرة من النبوة، على السمع والطاعة، في حال اليسر والعسر، والمنشط والمكره، كما أَخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت. وإِضافة الميثاق إِليه - تعالى - مع صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون المرجع إِليه سبحانه وتعالى. {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: أَي: واتقوا الله في سركم وعلانيتكم، وفي كل ما تأْتون، وما تَذَرون، فهو سبحانه وتعالى، عليم بذات الصدور: لا تخفى عليه خافية. والمراد بذات الصدور: النوايا التي اشتملت عليها الصدور والقلوب. وتخصيص العلم بها، للتحذير من المخالفة في السر، وللإِيذان بعلمه بما عداها بطريق الأَولَى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}.

المفردات: {قَوَّامِينَ}: أي قائمين حق القيام. {بِالْقِسْطِ}: بالعدل. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ}: لا يَحْمِلنَّكم. {شَنَآنُ}: بُغض وعداوة. {خَبِيرٌ}: عالم بكل الأُمور على وجه الدقة. التفسير 8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ .... } الآية. بعد أن بين الله - في الآيات السابقة - من الشرائع ما يتعلق بالمؤمنين - شرع في بيان الشرائع المتعلقة بما يجرى بينهم وبين غيرهم. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ}: هذا أمر من الله سبحانه وتعالى، لعباده المؤمنين، بأن يكون دَأبهم - دائِما - القيام لله بحقوقه؛ في أنفسهم بالعمل الصالح، وفي غيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ}: أن يؤدوا الشهادة بالعدل، على وجهها الصحيح، من غير مراعاة لقرابة أو صداقة، ومن غير محاباة أَو مجاملة. وعقب ذلك بالنهي عن الجَوْر مع مَن يَبغضونهم، فقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}: أي: ولا يحملنكم بُغْض قومٍ أو عداوتهم - على أن تجوروا في حكمكم، أو تُغيّروا في شهادتكم؛ لأن المؤمن يجب أن يكون - دائما - مؤثِرًا للعدل على كل ما عداه، وأَن يجعله فوق شهواته وأَهوائه. وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}: أي: أن العدل، هو أقرب الطرق الموصلة إِلى تقوى الله وخشيته، وأَنسبُ الطاعات لها.

ثمَّ أمر بتقواه - دائما - في جميع الأحوال والأعمال: ظاهرها وباطنها. فقال: {وَاتَّقُوا اللهَ}: لأن التقوى ملاك الأمر كله. فليحذر المؤمنون مخالفة أمر الله تعالى، وليتمسكوا بالعدل دائما، ولا يحيدوا عنه. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: إن الله سبحانه وتعالى - عليم بدقائق أموركم، وسيجازيكم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشر. وخَتْمُ الآية بذلك: تحذيرٌ من مخالفة الله، وتنبيهٌ على أنه مطلع على دقائق الأمور. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}. التفسير 9 - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}: أي: وعد الله عباده المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان، وظهرت آثاره على وجوههم فعملوا الصالحات في أنفسهم - وفي روابطهم الاجتماعية - بأَن لهم مغفرةً وأجرًا عظيما. وفي قَرْنِ الإِيمان بالعمل الصالح. دليل على أن العَملَ لا بدَّ مِنهُ، مع التصديق والإذعان؛ ليتحقق وعد الله. ولما كانت الأمور تتميز بأضدادها، فلذا قَرَن وعْدَ المومنين بوعيد الكافرين فقال: 10 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... } الآية. أي: كذبوا بآيات الله المنزلة على رسله، وآياتِه التي أقامها في الأنفس والآفاق، للدلالة على وحدانيته، وكمال قدرته وسائر صفاته.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: هؤُلاء الكفار المكذبون، سيصلون نارا شديدة التأجج، ملازمة لهم، ملازمة الشيء لصاحبه. وهذا دليل على استحقاقهم لها بأعمالهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}. المفردات: {يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}: يبطشوا بكم. {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}: فمنعهم عن إيذائكم. التفسير 11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... } الآية. في هذه الآية، تذكير للمؤمنين بنعمة إنجائهم من شر أَعدائهم، بعد تذكيرهم بنعمة إيصال الخير إليهم. ورد في سبب نزولها - كما في صحيح مسلم وغيره: من حديث جابر - أَن المشركين رَأوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم بعسفان، قد قاموا إلى صلاة الظهر معًا. فلما صلُّوا، ندموا ألاَّ كانوا أكَبُّوا عليهم؟ وهمّوا أن يوقعوا بهم؛ إذا قاموا إلى صلاة العصر بعدها فرد الله - تعالى - كيدهم، بأَن أنزل صلاة الخوف. وقد يكون هذا عندما همَّ المشركون بقتال المسلمين في عام الحديبية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}:

يذَكر اللهُ تعالى المؤْمنينَ بِنعَمِهِ المذكورة عليهم، ليشكروه عليها، فيداوموا على الطاعة والامتثال لأمره. {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}: إذ هَمَّ المشركون أَن يبطشوا بكم: بالقتل والإهلاك. {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}: بأَن مَنَعَهم عنكم بقهره وسلطانه، فلم يستطيعوا أَن ينالوا منكم شيئًا. {وَاتَّقُوا الله}: أيها المؤمنون، في كل ما تأتون وما تتركون. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: وتوكلوا عليه وحده، لا على قوتِكم وبأسكم؛ لأَن المؤْمنين يكلون أَمورهم إِلى خالقهم. {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

المفردات: (مِيثَاقَ): الميثاق؛ العهد المؤَكد - بين طرفين - في شأن هام. (نَقِيبًا): النقيب؛ هو كبير القوم، المعْنِيُّ بشأنهم. {إِنِّي مَعَكُمْ}: ناصركم ومعينكم. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}: آزرتموهم ونصرتموهم. {أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ}: أنْفَقتم في سبيل الله نفقة طيبة. {لَعَنَّاهُمْ}: اللعن؛ الطرد من الرحمة. {قَاسِيَةً}: شديدة غليظة، لا تقبل خيرا. {خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ}: خيانةٍ وغدرِ منهم. التفسير 12 - {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... } الآية. بعد أن أَمر الله - سبحانه وتعالى - بالوفاءِ بالعهد، وذكَّر المؤْمنين بميثاقه الذي واثقهم به على السمع والطاعة - ذَكَرَ بعضَ ما صدر من بني إسرائيل من نقض العهود؛ وما كان من عقاب الله لهم عليها ليتعظ المؤْمنون، ويعملوا على حفظ نعم الله - تعالى - بمراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، فقال: {وَلَقَدْ أخذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أَي: لقد أَخذ الله العهد على بني إِسرائيل: أَن يعملوا بما في التوراة، ويقبلوها بجدٍّ ونشاط. وقد أخذ الله عليهم مواثيق فرعية تتصل بما كلَّفهم الله به. ومنها ما سيأتي في الآية التي معنا. وقد سبق بيان بعض المواثيق التي أُخذت عليهم؛ في سورتي البقرة، وآل عمران. فارجعْ إليها وإلى شرحها إن شئت. {وَبَعَثنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}: وأمر الله موسى عليه السلام: أَن يختار منهم اثنى عشر رئيسا دينيا، يتولون أُمور الأسباط، ويقومون على رعايتم، ففعل، وبعثهم يتحسسون العدوَّ ليقاتلوه.

{وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ}: بالنصر والتأييد على أَعدائكم. أَو المراد منه: أنه معهم بعلمه: يسمع كلامهم، ويعلَمُ ضمائرهم، وأنه مجازيهم على ما يحدث منهم. {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ}: أي أديتموها حق أدائها. {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ}: وأعْطَيتموهَا مستحقيها، من مال طيبٍ، وكَسْبٍ حلال. {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي}: كلهم. {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}: نصرتموهم وجاهدتم الأعداء معهم. {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}: أي: أنفقتم في سيل الله، عن طيب نفس، دون مَنٍّ أو حُبٍّ للفخر والرياء. {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}: لأمحوَنَّ ذنوبَكم. {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: أي: ولأُدخلنكم - في الآخرة - جناتٍ تجري من تحت أشجارها الأنهار، تَتَنَعَّمُونَ فيها بما أعدَّ لكم من النعيم. وقد أكد الله - تعالى - وعيدَه بالقَسَم وغيره من التوكيدات؛ ليحملهم على تنفيذ مما عاهدوا الله عليه. {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}: أي: فمن كفر منكم - بعد ذلك الوعد بالنصر، وتكفير السيئات، وإدخال الجنات، بأن نقض العهد والميثاق - فقد حادَ عن الصراط السوي: الذي رسمه الله لهم، كي يسيروا عليه. ولكن بني إسرائيل لم يرفوا يعهدهم، ونقضوا الميثاق، الذي أخذه الله عليهم. فعاقبهم الله تعالى، وفي ذلك يقول سبحانه: 13 - {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ... } الآية. تعرض الآية النتائج المترتبة على موقفهم من الميثاق. فتقول: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ}: أي فبحسب نقضهم عهدهم المؤَكد.

{لَعَنَّاهُمْ}: أي طردناهم من رحمتنا، عقوبةً لهم؛ لأنهم قد فسدت فطرتهم. {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}: أي: أورثنا قلوبهم الغِلظة والقسوة. فهي لا تلين، ولا تنفذ إليها الحجة، ولا تؤَثر فيها الموعظة. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: أي يغيرون كلام الله في التوراة، بالمحو والإِثبات، والزيادة والنقصان، وسوءِ التأويل. {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}: أي: وأعرضوا عن بعض ما أمِروا به في التوراة، من إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإِيمان به، وغير ذلك. وإنما قال: يحرّفون، ولم يقل: حَرّفوا؛ للدلالة على أن هذا الخلق طبع فيهم؛ تتجدد آثاره آنًا فآنًا. ولذا قال الله - تعالى - لنبيه عقب ذلك. {وَلَا تَزَال تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ}: أي: إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لليهود. منتقلة فيهم. من الأصول إِلى الفروع. فلا تزال - أَيها الرسول - تطَّلع من هؤُلاءِ اليهود المعاصرين. على خيانةٍ إثر خيانة. فهم قومٌ لا عهد لهم، ولا وَفَاءَ عندهم. لقد دمغتهم السماوية بالغدر والخيانة والقسوة. فرماهم نبيهم أَرمياءُ بالكذب والسرقة والزنى والشرك، وأَنهم حوّلوا بيت الله إلى مغارة لصوص (¬1). ورماهم السيد المسيح - عليه السلام - بأَنهم مثل القبور المبيضة من الخارج. المليئة بالجيف من الداخل. ووصفهم بأنهم الحيَّات. أَولاد الأفاعي. وأَنهم قَتَلُوا الأَنبياء والحكماءَ، وجعلوا بيت الله مغارة لصوص (¬2). والآيات القرآنية العديدة تؤيد هذه الصفات. ¬

_ (¬1) سفر أرمياء: 7، 8 - 11 (¬2) إنجيل متى: إصحاح: 23 فقرة: 13، 14، 27، 33 - 35

{إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}: وهم من آمنوا بك، واتَّبعوك كعبد الله بن سلام وأمثاله من الذين آمنوا باللهِ ورسوله، فلا تظنن بهم سوءًا، ولا تخف منهم خيانة؛ لأَن الله طهرهم بالإِسلام. {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}: فاعفُ عما فرط بن هؤُلاء اليهود، واصفح عمن أَساءَ منهم وعامِلْهم بالإحسان؛ تأليفًا لهم، فلعل الله أن يهديهم. {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: وأنت أَحق الناس بالاتصاف بالإحسان، واتباع ما يحبه الله. {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}. المفردات: {نَصَارَى}: جمع نصران، كندمان وندامى، ولم يُستعمل إلا بياء النسب، وقد صارت كلمة "نصراني" لقبًا لكل من اعتنق المسيحية. قيل: لقبوا أَنفسهم بذلك، على معنى أَنهم أنصار الله. وقيل: نسبة إلى الناصرة بلدة بالشام، استَقر بها المسيح، بعد رجوع أمه به من مصر إلى الشام. {حَظًّا}: نصيبًا أو مقدارا. {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ}: أَي فأَلقينا بينهم العداوة. التفسير 14 - {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ... } الآية. بعد أَن بيَّن اللهُ شرور اليهود وآثامهم، أَتبعه ذكر قبائح النصارى فقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ... }. والضمير في قوله: {مِيثَاقَهُمْ} عائد على النصارى.

والمعنى: أي وأَخذنا العهد واليثاق على النصارى: بالثبات على الطاعة، وتصديق الرسل واتِّباعهم. وعبر بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} بدلا من قوله: (ومن النصارى)، للإيذان بأنهم على دين النصارى بزعمهم، لا حقيقة الواقع؛ لعدم عملهم بموجب دينهم، ومخالفتهم لما في الإنجيل من التوحيد، والتبشير بنبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم. وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا أنفسهم بذلك، على معنى أنهم أنصار الله، مع أنهم لا ينصرون - بكفرهم وسوء أعمالهم - إِلا الشيطان. {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}: فسلكوا طريق اليهود في نقض العهد والميثاق، وتركوا نصيبًا وافرًا مما ذكِّروا به في كتابهم، من عقيدة التوحيد، ومن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسم. {فَأَغرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاَء}: فكان جزاؤُهم أن بث الله فيهم العداوة والبغضاءَ، حتى صارت صفة ملازمة لهم. {إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: حسبما تقتضيه أَهواؤُهم المختلفة، وعقائدهم المتنافرة. وقد حدث هذا عبر الأجيال إلى يومنا هذا. فكل طائفة من طوائفهم: تُكفِّر الأخرى، وتحرم التزاوج منها. وبالرجوع إِلى التاريخ، تعرف هذه الحقيقة القرآنية الحليلة. ولا يزالون كذلك إلى يوم القيامة. {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: وسيجازيهم الله - يوم القيامة - بما صنعوا في الدنيا، من نكث العهد، ونقض الميثاق، وتحريفهم الكتاب الذي أُنزل عليهم.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}. المفردات: (نُورٌ): المراد به؛ محمد صلى الله عليه وسلم. {كِتَابٌ مُبِينٌ}: هو القرآن. {سُبُلَ السَّلَامِ}: طرق النجاة والسلامة. التفسير 15 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ... } الآية. سبب النزول: أخرج ابن جرير، عن عكرمة، أنه قال: "إن نبي الله تعالى، أتاه اليهود يسألونه عن الرَّجم، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أيُّكم أعْلمُ؟ فأشارُوا إلى ابنِ صوريا، فَناشَدهُ باِلذِي أنزلَ التَّوراةَ عَلَى مُوسى عَليهِ السَّلامُ، وَالذِي رَفَع الطورَ، وبِالمواثِيقِ التي أخِذَتْ عليهم، حتى أخذه أفْكل (رعدة) فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مِائَة، وحلقنا الرءُوس. فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله تعالى الآية".

وهذا الحديث يفيد: أن (ابن صوريا) الحبر اليهودي، لم يذكر أن كتابهم يحتوى على الرجم، تهربًا من توقيع هذا الجزاءِ على الزاني اليهودي، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتطبيق حكم الرجم عليه؛ لأنه شرعُ الله في التوراة والقرآن. الربط: بعد أن رمى الله اليهود والنصارى بنقض العهود، ساق مثلا على ذلك، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: نداءً لهم. والتفاتا إلى خطابهم. وعبر عنهم بأهل الكتاب؛ تشنيعًا عليهم، لأن أهلية الكتاب تقتضي مراعاته، والعمل به. {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: قد أرسلنا إليكم رسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - مؤيدا بالمعجزات. وأضافه إلى ضمير العظمة؛ تشريفًا له؛ وإيذانًا بوجوب اتباعه. {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}: أي: يظهر لكم كثيرا من الأحكام التي كنتم تخفونها عن العوام. وذلك مثل: حكم رجم الزاني المحصن. ومثل: البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكتمان وصفه عليه السلام. وكان بيان الرسول - صل الله عليه وسلم - لهم ذلك: من دلائل نبوته، إذ هم يعلمون أنه نبيٌّ أُميٌّ، لم يطع على شيءٍ من كتبهم. ومن ثَّمَ آمنَ به عددٌ من أحباوهم وعلمائهم. {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}: ويترك كثيرا مما كنتم تكتمونه، مما لم تَدْعُ الحاجة الدينية إلى إظهاره؛ صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح. أو ويُغضي عن كثير من إساءتكم فيقابلها بالصفح والغفران.

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ}: قد جاءكم النور العظيم؛ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنار الطريق، ووضح السبيل إلى الحق. وقد وصفه الله بأنه أرسله: "سِرَاجًا مُّنِيرًا" (¬1). (وَكِتَابٌ مبِينٌ): يبيّن الحق، ويُوضح كل ما يحتاج إليه الناس لهدايتهم. وهو القرآن الكريم. 16 - {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ .... } الآية. يهدي الله - بهذا القرآن - منَ كان همُّه الدينَ، واتَّبع كلَّ ما يُرضي ربه، فإنه طريق النجاة والفلاح، والخير والرشاد. {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} ويخرجهم من ظلمات الضلال والأوهام، إلى نور الإيمان واليقين. {وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}: ويهديهم إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنة النعيم. وجمع الضمير في قوله: (يُخْرِجُهُمْ)، (وَيَهْدِيهِمْ) باعتبار معنى "مَنْ". وهذه الهداية هي عين الهداية السابقة. وإِنما عطفت عليها؛ تأكيدًا لمدلولها، وتنزيلًا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي. وجاء الفعل المضارع "يَهدِي"، "وَيُخْرِجُهُمْ"، "وَيَهدِيهِمْ" للدلالة على استمرار هذه النعم في الاستقبال، كما هي في الحال. ¬

_ (¬1) الأحزاب، من الآية: 46

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}. التفسير 17 - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... } الآية أَرسل الله عيسى - عليه السلام - إِلى بني إسرائيل: يدعوهم إلى التوحيد، والعمل الصالح. ولما كانت ولادته من غير أب - كما تقدم في سورة آل عمران - غَلَا فيه النصارى. فزعموا أنه: إِله أو ابن الله: {تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلوًّا كَبِيرًا}. ولهذا القول الشنيع، حَكَمَ القرآنُ عليهم بالكفر، وردَّ عليهم بما يبطل عقيدتهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. أي: قل لأُولئك الكفار يا محمد: مَن يقدر أن يمنعَ الله من شيء أَراده .. ومِنْ ذلك أَن يُهلك المسيح ابن مريم وأُمَّهُ ومن في الأرض جميعًا؟ .. لا أَحد يستطيع ذلك ... وهم يقرّون به. وإذا كان المسيح لا يستطيع أَن يدفع عن نفسه ولا عن أمه - شيئًا؟. فكيف يكون إِلها، وهو لا يستطيع دفع الهلاك عن نفسه؟

ومن صفات الإله أنه لا يعجز عن شيء. وإذن، فالمسيح ابن مريم - وأمه - مخلوقان كسائر مخلوقات الله، التي ينفذ فيها حكم الله، ولا يُرَدُّ عنها قضاؤه. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: ولله - وحده - ملك جميع الموجودات، والتصرف المطلق فيها، إحياء وإماتة، وإيجادا وإعداما. فلا شريك له في ذلك. وهذا دليل آخَر، على نَفْيِ الأُلوهية عن عيسى؛ لأنه لو كان إلها - كما يزعمون - لكان له شيءٌ في ملك السموات والأرض وما بينهما - وقد ثبت في كتبهم أنه يردُّ الأُمور كلها إلى الله ملكا وتصرفا. {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}: أي: يبدع ما يشاؤُه عن المخلوفات - على أي صورة - وفقًا لحكمته - جل وعلا -. {وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: وهو القادر على كل شيءٍ من الخَلقِ وغيره. ومن ذلك: أنه خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم من غير أب وأم. وفي هذه الآية، بيان لبعض أحكام الملك والأُلوهية، على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح - عليه السلام - لولادته من غير أب. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}.

18 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... } الآية. سبب النزول: أَخرج ابن جرير، والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسم نعمانُ بنُ آصا، وبحرُ بن عمر، وشاسُ بن عدي فكلموه، فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله، وحذَّرهم نقمتَهُ، فقالوا: ما تُخوّفُنَا يا محمَّد؟ نحن أبناءُ الله وأحباؤُه!! فأنزل الله فيهم الآية". وكلمة "الله" ترددت في أسفار العهد القديم: "سفر الخررج: 4: 22 يقول الرب: إسرائيل ابني البكر"، والمزامير 89: 26، 27: "يدعوني أبي: أنت إِلهي، وصخر حياتي". وشر أرمياء 31: 9 "لأني صِرتُ لإسرائيل أبًا، وافرايم هي بكرى" كما تردد في العهد الجديد: إنجيل متى 5: 9 "طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم: أبناءُ الله يدعون" وفي رسالة بولس إِلى أهل رومية 8: 14 "لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم: أَبناءُ الله" واليهود يطلقون على أَنفسهم الآن (شعب الله المختار)، يعنون بذلك أنهم أحباؤُه، المختصون به دون سائر البشر. ومعنى الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى} هذه المقالة النابية: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فلنا من الفضل والتكريم ما ليس لغيرنا. فهو يعاملنا معاملة الأب لأبنائه: يعطف علينا، ويرحمنا ولا يعذبنا. فرد الله عليهم هذا الزعم الباطل بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}: أي: قل لهم يا محمد: إن كنتم كما زعمتم: أبناء الله وأحباءه، فلأي شيء يعذبكم بذنوبكم. وأنتم مقرون بأنكم ستعذبون على ما ارتكبتم من خطايا، كما حكى القرآن عنكم:

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا معدودةً} (¬1): وهذا يتنافى مع دعواكم القرب من الله، ومحبته لكم؟! وإذن، فلا مزية ولا فضل لكم على سائر البشر. ولستم بأبناء الله ولا بأحبائه. {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}: أَي ما أنتم إلا بشر كسائر البشر من خَلق الله، من غير مزية لكم عليهم. {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}: والله عَزَّ وَجَلَّ يغفر لمن يشاءُ من عباده: الذين فرط منهم بعض الخطايا: وهم المؤمنون باللهِ تعالى وبرسله. {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاَءُ}: وهم الكفرة الذين كفروا بالله وبرسله وأَنتم، متهم فكيف تزعمون محبته لكم، وعدم تعذيبكم على ذنوبكم؟! {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: وله - وحده - ملك السمو ات والأرض وما بينهما: خلقًا، وملكًا، وتصرفًا. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. ومصير البشر جميعًا ومرجعهم، إليه تعالى وحده، فيجازي الذين أساءُوا بما عملوا، ويجازي الذين أَحسنوا بالحسنى. وليس له - سبحانه وتعالى - من خلقه بنون ولا بنات وليس لأحد عنده من فضل أو مزية على غيره إِلا بالإيمان والعمل الصالح. فآمنوا باللهِ وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - واتركوا تلك الدعاوي الباطلة، لتكونوا من المفلحين. ¬

_ (¬1) البقرة، عن الآية: 80.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}. المفردات: {فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}: أَي بعده مدة خلت من الرسل. التفسير 19 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ ... } الآية. كرر الله تعالى الخطاب بطريق الالتفات؛ بعد ما أعرض عن خطابهم فذكرهم بأُسلوب الغيبة. وهو يحكي أَكاذيبهم. وإنما التفت إِليهم: تلطفًا في دعوتهم، لعلهم يهدون. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: قد أتاكم رسولنا محمَّد صلى الله عليه وسم وهو الذي بَشَّرَتْكُم به كُتُبُكُم، وأخبركم به أنبياؤُكم. {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}: جاءكم بعد مدة خلت من الرسل: يبين لكم ما اندثر من الأحكام، ويبلغكم ما احتاج إِليه العصر من شرع جديد، ويصحح ما حدث في كتبكم من تحريف. روى البخاري عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "أَنا أوْلَى الناس بعيسَى ابنِ مريمَ؛ لأنه ليسَ بيني وبينَهُ نَبِيٌّ (¬1) ". ¬

_ (¬1) فقد ولد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سنة 571 ميلادية فبينه وبين عيسى عليه السلام ستة قرون إلا قليلًا.

{أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}: أرسلناه إليكم لئلا تقولوا: ما جاءَنا بشير يُبَشرنا بحُسْن العاقبة للمؤمنين، ولا نذير يندرنا بسوءِ المصير للضالين. {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}: فقد جاءَكم البشير والنذير، يبين لكم: أن الخلاص والنجاة والسعادة، منوطة بالإِيمان بما جاءَ به، وبالعمل الصالح الذي يدعوكم إليه. والتعبير بقوله: (مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ): حيث جاء بمِنْ، لاستغراق النفي لكل الأَفراد. ونكَّر لفظ: "بَشير ونَذِير" لتأكيد الاستغراق في النفي. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيءٍ. فهو - لذلك - يَقْدِر على ثواب من أَطاعه، وعقاب من عصاه. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}. المفردات: (مُلُوكًا): أَحرارا، عندكم ما تمكون به أموركم، بعد أن كنتم مملوكين للفراعنة. (الْمُقَدَّسَةَ): المعظمة، حيث جعلت مسكن الأنبياء. (تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ): ترجعوا على أعقابكم: بعدم امتثال ما أُمرتم به.

التفسير 20 - {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... } الآية. هذا كلام مستأنف، لبيان ما فعله بنو إسرائل، بعد أن أَخذ الله الميثاق منهم، وتفصيل لكيفية نقضهم له. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}: والمعنى: واذكر لهم - أَيها الرسولُ - ما حدث من أسلافهم، وقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه ناصحًا، ومستميلا لهم بإضافتهم إليه: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: تذكَّروا إِنعام الله عليكم واشكروه على هذا الإِنعام. {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ}: لأنه جعل فيكم أنبياء كثيرين؛ يبلغونكم الخير، ويرشدونكم إلى سواءِ السبيل. ولم يبعث في أَمة من الأمم من الأنبياء، مثل ما بعث في بني إسرائيل. {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}: وجعلكم أحرارًا تملكون أمور أنفسكم وأموالكم، بعد أَن كنتم عبيدًا مستذلين لفرعون وجنده. {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}: وأعطاكم من النعم ما لم يعطِ غيركم من العالمين. إذْ أنجاكم من عدوكم، وشق البحر لكم، وأغرق فرعون وجنوده فيه، وأظلَّكم بالغمام، وأَنزل عليكم الْمَنَّ والسَّلوى، وغير ذلك. 21 - {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ... } الآية. دعاهم موسى مستميلا إِياهم - أَيضا - بإضافتهم إِلى نفسه، طالبًا منهم، أن يدخلوا الأرض المقدسة، التي وَعَدَهُمُ الله سُكْنَاها - بعد خروجهم من مصر - فقال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}:

أَي: ادخلوا الأرض المقدسة التي قدَّر الله لكم دخولها لتنشروا التوحيد بين أهلها، ثم عقب ذلك بقوله: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}: ولا تنكصوا على أعقابكم، بمخالفة ما أمركم به، فترجعوا خاسرين في دنياكم وأُخراكم. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)}. المفردات: (جَبَّارِينَ): جمع جبار، وهو العاتي الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريده منهم. التفسير 22 - {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}: أي: قال بنو إسرائيل: هلعًا وجُبْنًا يا موسى إن فيها قوما شديدي البطش لا نستطيع مقاومتهم، ولا قدرة لنا على قتالهم وهم الكنعانيون ومن جاورهم - فَلن نَدْخُلَها حتى يخرجوا منها بِأنفسهم .. فإِن خرجوا منها، فإنا ندخلها دون حرب وقتال، وهذا مطلب عجيب؛ إذ كيف

يخرج أهل البلد الأقوياءُ الجبارون من بلدهم طواعيةً؛ ليدخلها هؤُلاء الجبناءُ فاتحين! (¬1). 23 - {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ... } الآية. قال لهم رجلان من الذين يخافون الله، ويخشون مخالفة أمره، وعصيان رسوله: قد أَنعم الله عليهما بنعمة التوفيق والسداد وفي وصفهم بذلك، تعريضٌ بأن مَن عداهما من القوم، لا يخافون الله، بل يخافون العدو، ويَجْبنُون عن لقائه. {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ}: باب المدينة، وباغِتوهُم بالقتال، ولا تَدَعوا لهم فرصةً للتفكير والاستعداد لكم. {فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُونَ}: فإذا فعلتم ذلك، كان الله معكم بعونه ونصرته، وانتصرتم عليهم وغلبتموهم وتَمَّ لكم ما أردتم، فإن المباغتة تصيب العدو بالشلل. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: وعلى الله - وحده - فتوكلوا عند الهجوم عليهم، ولا تخشَوْا عدوكم بعد أن تتخذوا الأسباب وتعدوا العدة - إن كنتم مؤْمنين بالله حق الإيمان، مصدقين بوعده، واثقين بنصره. وفي الأمر بالتوكل على الله - بعد اتخاذ الأسباب - دليل على أنها لا تؤَثر وحدها، دون إِذنه سبحانه وتعالى ومعونته، كما أَنه دليل أَيضا، على أن التوكل - بغير اتخاذ الأسباب لا يليق بالمؤْمنين. وهو حينئذ، يكون تواكلا لا توكُّلًا. والتواكل مدعاة للهزيمة. ولكنَّ بني إسرائيل، لم يقنعهم هذا القول، بل أصروا على موقفهم، ولم يبالوا بنصح الناصحين لهم. وقالوا لنبيهم موسى ما حكاه القرآن عنهم بقوله: ¬

_ (¬1) راجع القصة بتمامها في سفر العدد - إصحاح 13، 14، 15 (لتطلع على جبنهم وهلعهم وما صاحب ذلك من الأساطير).

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}. المفردات: (فَافْرُقْ): فافصل. (الْفَاسِقِينَ): الخارجين عن الطاعة. (يَتِيهُونَ في الْأَرْضِ): يتحيرون ولا يهدون. (فَلَا تَأْسَ): فلا تحزن. التفسير 24 - {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ... } الآية. أَي إنا - يا موسى - لن ندخلها أبدا ما دام هؤُلاء - الجبارون مسيطرين عليها؛ لأَنه لا طاقة لنا بلقائهم. وذلك لجبنهم المغروس في نفوسهم، وضَعْفِ إِيمانهم. {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}: فإن كنت مصمما على دخولها، فاذهب أنت وربك لقتالهم وإخراجهم منها. وكأنهم يصورون الله بأنه إِله موسى وحده، وليس إِلهًا للجميع - أما نحن فإنا ها هنا قاعدون منتظرون. فما أقبحَ تَصَوُّوَهم في شأن الله تعالى، وَزَعمَهُم أنه جسد ينزل إِلى الأرض ويقاتل من أجلهم!!

والظاهر أَنهم قالوا ذلك: استهانةً بالله وبموسى عليه السلام. ولما وجد موسى - عليه السلام - منهم هذا العنادَ والإِصرارَ على المخالفة، والجبن عند لقاءِ الأعداءِ، التجأَ إِلى ربه، متضرعًا يشكو إليه فسوق قومه وجبنهم. وهذا ما حكاه الله بقوله: 25 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ... } الآية. اتجه موسى إلى مولاه سبحانه وتعالى وناداه أَي قال: يا رب؛ لا سلطان لي على أَحد إلا على نفسي وأَخي هارون فأنا وهو في طاعتك، ولا أَحد من هؤُلاءِ الجبناء أستطيع أن أَحمله على الطاعة والاستجابة إلى ما دعوت إِليه. {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}: فاقض بيننا وبين هؤُلاء القوم الخارجين عن طاعتك. بأَن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه. 26 - {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ... } الآية. أجاب الله سبحانه وتعالى، دعاءَ نبيه موسى عليه السلام. فقضى بتحريم هذه الأرض المقدسة على هؤُلاءِ الفاسقين، أَربعين سنة، يتيهون متحيرين في البيداء؛ لا يهتدون، ولا يعرفون لهم قرارا، جزاءَ جبنهم وضعفهم عن لقاءِ الأعداء، واستهانتهم بأَوامر الله. {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}: فلا تحزنْ يا موسى، على هؤُلاء الجبناءِ، إِذْ عوقبوا بهذه العقوبة، فإِنهم فاسقون متمردون، مستحقون لها. ولقد كان بنو إسرائيل - في هذا الوقت - في سيناء.

ثم إِن اليهود لما دخلوا فلسطين - بعد هذه العقوبة - مكثوا فيها مدة محدودة، ثم أشركوا باللهِ. فقضى الله عليهم بالتشريد في أنحاء الأرض. وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وغضب عليهم غضبا شديدا. وفي هذا تذكير لبني إسرائيل المعاصرين للنبي - صلى الله عليه رسلم - بما كان عليه أسلافهم من قبائح، ليتركوها، حتى لا يتعرضوا لعقاب الله وانتقامه، كما حلَّ بأسلافهم بسبب عصيانهم وجبنهم. وفي هذه القصة: تسليةٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - فكأنه تعالى يقول له: فهؤُلاء هم اليهود .. وهذه هي أَعمالهم مع أنبيائهم .. وهذا هو جبنهم وخورُهم .. فاصْبرْ على ما أصابك منهم، وتعزَّ بما أَصاب موسى - عليه السلام - والعاقبة لك، ولأتباعك المؤمنين.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)}. المفردات: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ): واقرأ على اليهود والنصارى. أَو على أُمتك يا محمَّد. (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ): خَبَرَهما. (قُرْبَانًا): القربان؛ ما يُتقرَّب به إِلى الله من ذبيحة أَو صدقة أَو نحوهما. (بَسَطْتَ): مَدَدْت. (تبُوَءَ): ترجع. (بِإِثْميِ وَإثْمِكَ): بذنبي وذنبك. التفسير 27 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ... } الآية. قِصَّةُ ولدَي آدم، جاءت في أَثناء الحديث عن اليهود؛ لتذكيرهم - وخاصة أنهم أَهل بغي - ولتذكير غيرهم من الأُمم، بأن من قتل نفسًا - بغير نفس أو إفساد - فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها - بصلاح أَو إصلاح - فكأنما أَحيا الناس جميعًا، لعلهم يثوبون إِلى الرشاد، ويكفون عن الفساد.

وقد بدأها القرآن الكريم، بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ}: والمعنى: واتل يا محمَّد على اليهود - أو على أُمتك - خبر ابنيْ آدم تلاوة مقترنةً بالحق والصدق، حين قَدَّم كل منهما إلى الله قربانًا، ولم يكونا على درجة واحدة من الإِخلاص فيما تقربا به، فتقبَّل اللهُ قربان المخلص، ولم يتقبل قربان غيره. فامتلأَ قلبه غيظًا وحسدًا وحقدًا على أخيه التَّقِي الذي قُبِل قربانُه، مع أَنه لا ذنب للتقي في رفض الله قربان الشقي لأن المذنب هو الشقي بعدم إخلاصه لله تعالى. {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}: قال الشقي لأَخيه التقي: لأَقتلنك. يريد بذلك أَن يتخلص منه، حتى لا يراه بعدما تقبل الله قربانه. فإن غريزة الفساد، لا تطيق الصلاح. فأَجابه أَخوه الصالح بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} يريد بذلك أَنه لا ذنب له في عدم قبول قربانه، وأَن الذنب آت من قبله هو؛ لأنه لما لم يتق الله، لم يقبل الله قربانه، فإِنه تعالى، لا يتقبل إِلا من أَهل التقوى. فلو اتقاه قبل منه قربانه ... فلا وجه لتحميله تبعة رفض قربانه وإقسامه على قتله. وكما ذكرنا؛ طبيعة الشقي تسوغ له أَلَّا يرى إِلا الأَشقياء. كما أَن طبيعة التقي، تحبب إِليه أَلا يوجد إِلا الأَتقياء. فقال لأَخيه: 28 - {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}: يقول الأخ الصالح الذي تُقبِّل قربائه لأخيه الذي لم يتقبلْ منه، وتورط في الإِقسام على قتله: تالله لئن مَددتَ إلى يدك لتقتلني، ما أَنا بباسط يدي إليك لأَقتلك، لأَنِّي أَخاف عقوبة الله رب العالمين إِن أنا قتلتك!! يريد بمَا قاله: أَن يوقظ ضمير أَخيه، ليخاف عقاب الله تعالى، فيعدل عما أَقسم عليه، من قتله بدافع الحقد الذي لا مبرر له.

29 - {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}: إِني أريد باستسلامي لك، وعدم قتلك - ابتداءً أو دفاعًا - أَن ترجع بإِثم قتلك لي، وإِثمك الذي لأجله لم يتقبَّلْ قربانك، إِذا أَصررت على قتلي ولم تخف رب العالمين، فتكون بذلك من أصحاب النار اللازمين لها، وهذا عقاب الظالمين المعتدين. يريد بذلك، أن يوقظ ضميره، وأَن يعلم المصير الذي ينتظر القاتلين. وأنه لا ينبغي لأخ أن يقاتل أخاه، ولكن له أَن يدافع عن نفسه دون قتل أخيه إِذا استطاع إِلى ذلك سبيلا. والإِسلام يقرر ردَّ العدوان بمثله. ويمنع قتال المسلم لأخيه المسم، ما لم يكن مضطرا للدفاع عن نفسه ولم يجد له نجاة إلا بقتل من اعتدى عليه. قال تعالى: " ... فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ... " (¬1). قال الجصاص: فالصحيح من المذهب - أي مذهب المالكية - أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره، وإِن أَدى ذلك إِلى القتل. وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ... } الآية. إن المعنى: لئن بسطت إِليَّ يدك - على سبيل الظلم والابتداء - لتقتلني، ما أَنا بباسط يدي إليك، على وجه الظلم والابتداء. وعلى هذا التفسير، تكون الآية داعية إِلى الاستسلام للقاتل، حتى تكون منسوخةً بنصوص الدفاع عن النفس، كما ذهب إِليه بعضهم. بل الغرض منها: أَنه لن يكون بادئا بالقتل، حتى لا يكون ظالما؛ لأنه يخاف الله رب العالمين. قال الآلوسي: ولعل مراده بالذات، إِنما هو عدم ملابسته للإِثم، لا ملابسة أَخيه للإِثم، إِذ إرادة الإِثم من آخر، غير جائزة. ¬

_ (¬1) الحجرات، من الآية: 9

والصحيح الذي عليه الجمهور: أن هذه القصة لولدين لآدم عليه السلام من صلبه - وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر النص - وليست لرجلين من بني إسرائيل كما قال الحسن البصري؛ لأن بني إِسرائيل كانوا يَعْرِفون كيف يُدْفَنُ الموتى. ولم يكونوا بحاجة إلى أَن يتعرفوا ذلك بالاقتداء بالغراب. وخلاصة ما قيل في قصتهما: أَن حواءَ أُم البشرية، كانت تلد - في كل بطن - ذكرا وأُنثى، وكان آدم - عليه السلام - يزوج ذكر بطن لأُنثى بطن الآخر. بالعكس. ويجعل الافتراق بالبطون، بمنزلة الافتراق بالنسب، للضرورة. وكانت التوأم لا تخل - في شريعته - لتوءَمها. وحدث أن حواءَ ولدت ولدا أسمته قابيل، وكانت توءَمُهُ أنثى جميلةً. ثم ولدت ذكرا آخر أسمته هابيل، وكانت توءمه أنثى غير جميلة. فلما بلغوا مبلغ الزواج، أراد آدم أن يجري عليهم شريعته، بأَن يزوج قابيل لتوءَم هابيل، ويزوج هابيل لتوءَم قابيل. فرفض قابيل ذلك، وقال أنا أَحق بتوأمي من هابيل. ولم يكترث بزجر أَبيه إياه، فدعاهما آدم إلى أَن يُقَرِّبَا قرْبَانًا إِلى الله، وذكر لهما أَن من قُبل قربانُه فهو صاحب الحق في التزوج بالأُخت الجميلة، وإِنما قال ذلك، لعلمه أن الله تعالى، لن يقبل من قابيل، لأن زواجه من توءَمه ليس مما شرعه الله لهم. وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ماشية، فقدم كلاهما قربانًا مما عنده فقبل الله قربان هابيل دون قابيل. وتأكد بذلك حقه في الزواج من توءم قابيل. فحقد قابيل على هابيل، وحلف ليقتلنه. وكان من أمره وأَمر أَخيه ما قص الله تعالى. وهذه خلاصة ما ذكرته كتب التفسير، وإن لم نجد لها سندا في كتب السنة.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)}. المفردات: (فَطَوَّعَتْ): فسهَّلت ويسرت. {يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ}: أَي يحفر في الأَرض. {سَوْءَةَ أَخِيهِ}: السوءَة في الأصل؛ العورة. والمراد بها هنا: جسد أخيه الذي قتله. (يَاوَيْلَتَا): كلمة جزع وتحسُّر، والويلة والويل بمعنى الهلكة. كأنه ينادى هلاكه ليَحُل به لينقذه مما حل به من الدواهي. (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ): أَي يسبب ذلك. (بالْبَيِّنَاتِ): بالحجج الواضحات. (الَمسْرِفُونَ): المجاوزون الحد في الطغيان.

التفسير 30 - {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: أي فسهلت لقابيل نفسه أن يقتُلَ أخاه الصالح، الذي لا ذنب له في عدم قبول قربانه، فقتله، بعد أن بذل له من النصح والإرشاد، والترغيب والترهيب. فما أورثه ذلك إلا الإِصرار على الغَي والانهماك في الفساد، فأصبح - بجريمته النكراء التي لا مبرر لها - من الخاسرين، الذين خسروا أنفسهم فأفسدوا فطرتها. وخسروا أَقرب الناس إليهم وأعونهم على بأساء الحياة. وخسروا حسن السمعة في الدنيا. وخسروا النجاة من العقاب في الآخرة. وبذلك خسر الدنيا والآخرة: وذلك هو الخسران المبين. 31 - {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ... } الآية. لم يكن الدفن معروفًا للبشرية، قبل هذه الحادثة الأولى، التي راح ضحيتها - لأول مرة - إنسان كان مملوءًا حيوية ونشاطا، فأصبح جثة هامدة يتسرب إليها العفن، ويسرع إليها النتن، ويؤْذي ريحها الأنوف، ويضيق النفوس. والجاني - أَمام جريمته وآثارها - حيران لا يدري كيف يتصرف. {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}: وحينئذ: أَرسل الله غرابا. وجعله يحفر أَمامه في الأَرض - بمنقاره ورجليه - حفرة ثم أَلقى فيها غرابا آخر ميتا وواراه بالتراب. فعرف قابيل بذلك كيف يواري سوءَة أَخيه. {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي}: أي فنادى - متّحسرا جزعا -: يا ويلتا اعجزت عن أن أكون مثل هذا الغراب، فأُواري جثة أَخي. كما وارى الغراب جثة أَخيه!! {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}: على قتله، بعد ما رأَى وعاش في آثار جريمته. 32 - {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... } الآية. أَي من أجل فظاعة القتل ظلما، وسوء آثاره في الدنيا والآخرة، قضينا على بني إِسرائيل في كتابهم: أَنَّ من قتل نفسا بغير قصاص في نفس، أَو بغير فساد في الأَرض

يوجب إهدار الدم كالشرك، فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأن الواحد صورة للجماعة، فالجرأة على قتله، استهانة بحق المجتمع كله. وجرأة عليه كله. ومن أحيا نفسا ليس عليها قصاص ولا حدّ - بأَن حال دون قتلها ظلما بالنصيحة أو القوة، أَو أنقذها من التهلكة بنحو غرق أو حرق - فكأَنما أحيا الناس جميعًا. وفائدة هذا التشبيه: الترهيب والردع من قتل نفس واحدة، بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض إحيائها، بتصويره بصورة إحياء جميع الناس. وتخصيص بني إِسرائيل بالذكر - مع أن الأَمر كذلك بالنسبة إلي غيرهم - لأَن الحسد كان منشأ هذه الجريمة، وهو غالب عليهم، ولأنهم كانوا يستهينون بجريمة القتل، حتى لم يتورعوا عنها في أَنبيائهم، فنبههم الله - في كتابهم - إِلى فظاعة هذه الجريمة حتى يحذروها. ولقد اهتدى علماءُ القانون، إِلى ما قرره القرآن الكريم، من أَن العدوان على الفرد يعتبر عدوانا على المجتمع. ولذا، لو تنازل المجني عليه - أَو ورثته عن حقوقهم قِبلَ الجاني - فمن حق النائب العام الذي يمثل المجتمع، عدم التنازل، حفاظًا على حق المجتمع، وصونا لحرُماته. {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}: ولقد جاءَتْهُم رسل الله - واحدا بعد آخر - بالآيات الواضحات؛ الناطقة بتقرير ما كتبناه عليهم، ثم إِن كثيرا منهم - بعد ما كتبناه عليهم وأَكدناه بإِرسال الرسل - لمسرفون في قتل الناس غير مبالين به. فمن قرأَ تاريخهم، هاله ما ارتكبوه: من المذابح والتحريق والتمثيل بالبشر .. وكتبهم ناطقة بذلك مما يندى له الجبين. ولا يزالون - حتى اليوم - علَى عنتهم في الإِسراف في سفك الدماءِ. وهذه أرض فلسطين - وما جاورها من البلاد العربية - تشهد أفظع المذابح والإبادة للعرب بأيدي الإِسرائيليين الدنسة.

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}. المفردات: (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): المحارب؛ من يحمل السلاح على الناس في البر أو البحر أو الجو، دون إثارة منهم له. والمغتال كالمحارب. ويشمل القراصنة في البر والبحر والجو، كقطاع الطرق ... {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}: أي تمردا على ما شرعه الله من الأمن والطمأنينة للإنسانية كلها. {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}: المقصود بالأرض؛ الأرض التي يكتسبون فيها نفوذا حراما. ينفَوْن منها إلى حيث لا نفوذ لهم، ولو سجنا. شَلًّا للجريمة. التفسير 33 - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ... } الآية. الربط: لمَّا بين الله - قبل هذه الآية - أن قتل النفس الواحدة له خطورتُه عند الله تعالى، وأنه يعتبر - عنده - كقتل الناس جميعًا، أتبع ذلك هذه الآية الكريمة، التي تضمنت من التشريع، ما يردَع المعتديَ الأثيم، ويكفه عن ترويع الناس والإِفساد فيما بينهم. فقال تعالى:

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}: والآية نزلت في قطاع الطريق. كما قاله كثير من المفسرين والفقهاءِ، وأصحاب الرأي ... نقل ذلك الطبرسي وغيره. والمقصود من محاربتهم اللهَ ورسولَهُ، قطعُهُم الطريقَ على الناس، وإفسادُهم في الأرض وترويع الآمنين. وجعْل عملهم هذا حربًا لله ورسوله؛ إِنما هو لتمردهم على ما شرعه الله سبحانه وتعالى، من وجوب الكف عن إيذاء الناس، وتوفير أسباب الأمن والسلام لهم. المعنى: أَفادت الآية، أَن الذين يَسْعَوْن في الأرض فسادًا، بقطعهم الطريق على الناس، يسلبونهم أموالهم أو أعراضهم، أو يقتلونهم، أو يقطون أطرافهم - يعاقبون بتقتيلهم أو تصليبهم (¬1)، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو نفيهم من الأرض. وبيان ذلك في مسائل: 1 - أن وصف المحارب لله ولرسوله، يطلق على من حمل السلاح على الناس في مدينة أو قرية، أَو في طريق أَو صحراءَ، وكابرهم عن أنفسهم وأَموالهم، دون إثارة منهم له، أو ثأَر أَو عداوة. 2 - أن المغتال كالحارب. وهو أَن يحتال في قتل إنسان، ليأخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح. بأَن دخل عليه بيته، أو صحبه في سفر فأَطعمه سُمًّا فِقتله، فَيُقتَل حدًّا لا قَوَدًا أي يقتل قصاصًا. 3 - اختلف العلماءُ في حكم المحارب. فمنهم من قال: يعاقب بقدر ما فعل. من أَخاف السبيل وأَخذ المال - قُطِعَت يدُه ورجلهُ من خلاف. وإن أَخذ المال وقَتَل، قُطِعَت يدُهُ ورجلُهُ، ثم صُلِبَ وقُتِلَ. فإِذا قَتَلَ ولم يَأخذِ المالَ، قُتِلَ. وإِن لم يَأخُذِ المالَ ولم يَقْتُل، نُفِيَ. وبهذا قال النخعي، وعطاء وغيرها. ¬

_ (¬1) مادة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص، من أنه لا يسقط بالعفو، لكونه حق الشرع، والمراد من التصليب: التصليب مع القتل.

وقال أبو يوسف: إذا أخَذَ المالَ وقَتَلَ، صُلِبَ وقُتِلَ على الخشبة. قال الليث: بالحربة: مصلوبًا. وقال أبو حنيفة: إذا قَتَلَ قُتِلَ. وإِذا أَخَذَ المالَ ولم يَقتُل، قُطِعَتْ يَدُهُ ورجلُه من خلاف. وإذا أخَذَ المالَ وقَتَلَ: فالسلطان مخيرٌ فيه: إن شاء قَطَع يدَهَ ورجلَه، وإن شاء لم يَقْطَع وقَتَله وَصَلَبَه. وقال الشافعي: إذا أخذ المالَ، قُطِعتْ يده اليُمنَى، وحسِمت (¬1)، ثم قُطِعَتْ رجْلُهُ اليسرى وحُسِمَت. وخُلِّيَ سبيلُه، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة. وإِذا قَتَلَ قُتِلَ، وإذا أخذَ المالَ وقَتَلَ، قُتِلَ وصُلِبَ. وروى عنه أنه قال: يُصَلَّبُ ثلاثَةَ أيام، وأَنه يكره أن يُقْتَلَ مصلُوبًا، بل يصلبُ بعد القتل، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الْمُثْلَة ... وبمثل قوله قال أحمد. وقال أَبو ثور: الإِمام مخير على ظاهر الآية. وكذا قال مالك وابن عباس، وسعيد ابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي كلهم قال: الإِمام مخير في الحكم على المحاربين؛ يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى، من القتل والصلب، أَو القطع، أو النفي. أَخذًا بظاهر الآية. وروى عن ابن عباس، أنه قال: إن كان في القرآن "أَوْ" فصاحبه بالخيار. وهذا هو الأظهر، وهو ما نرجحه. 4 - النفي من الأرض؛ اختلف في معناه: فعن الشافعي: أنهم يُخْرَجون من بلد إلى بلد، ويطْلبون لتقام عليهم الحدود. وبه قال الليث بن سعد، والزهري. وقال مالك: ينْفى من البلد الذي أَحدث فيه الحرابة إلى غيره، ويحبس فيه كالزاني. ¬

_ (¬1) الحسم: الكي لمنع سيلان الدم.

وقال الكوفييون: نفيهم؛ سجنهم ... فيُنْفَى من سعة الدنيا إلى ضيقها. حكى مكحول عن عمر قال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة. ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيَهُم. قال القرطبي: والظاهر أَن الأرض في الآية هي أرض النازلة - أي مكان الجريمة - ثم قال: ينبغي للإمام - إِذا كان هذا المحارب مخوف الجانب: يظن أَن يعود إلى حرابة، أَو إفساد - أَن يسجنه في البلد الذي يغرب إِليه. وإن كان غير مخوف الجانب، سرِّح. قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك؛ أَن يغرب ويسجن حيث يغرب. وهذا على الأغلب في أنه مخوف. ورجحه الطبري؛ لأن نفيه من أَرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد، بحسب الخوف منه. فإن تاب وفهمت توبته، سرِّح. 5 - لا يراعي في المال الذي يأخذه المحارب نصاب، كما يراعي في السارق. وقيل: يراعى أن يكون ربع دينار. وهو نصاب القطع. قال ابن العربي: قال الشافعي، وأَصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق، إِلا مَنْ أَخذ قدر ما تقْطع فيه يدُ السارق. وقال مالك: يُحْكم عليه بحكم المحارب. وهو الصحيح؛ لأن الله تعالى - وقّت على لسان نبيه القطع في السرقة، في ربع دينار. ولم يوقت في الحرابة شيئًا، بل ذكر جزاءَ المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء - على المحاربة - عن حقه. ثم إن هذا قياس أصل على أَصل. وهو مختلفٌ فيه. وقياس أدنى على أعلى. وذلك عكس القياس وكيف يقاس المحارب على السارق، وهو يطلب خطف المال، فإن شعر به فرّ، حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه، أو صِيح عليه وحارب عليه، فهو محارب: يُحْكم عليه بحكم الحارث. قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس: إذا جاءَني أَحد بسارق - وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأَصحابه يأخذون مال

الرجل - حكمت فيهم بحكم المحاربين .. فافهموا هذا من أَصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. إ هـ. نقول: وهذا ما يسميه علماءُ القانون: "سرقة بالإِكراه". وفي المسألة أحكام عظيمة، وتفاصيل نفيسة ينبغي لأَهل القضاءِ أن يعرفوها ليطبقوها على الذين يعيثون في الليل والنهار فسادا. فليتعرفها هؤلاء القضاة من مظانها في كتب التفسير المطولة. المعنية بأحكام القرآن، وفي كتب الفقه. ولينفذوها في أولئك المحاربين لله ورسوله، قطعًا لدابرهم. ثم ختم الله الآية بقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: أَي: ذلك الذي مرّ من جزاء المحاربين، خزيٌ وذل وفضيحة لهم في الدنيا .. ولهم في الآخرة عذاب عظيم. وإنما بولغ في جزاء قطاع الطريق؛ لأنهم يَسُدُّون سبيل الكسب والتجارة على الناس، ويُلْزِمُونهم البيوت، ويقطعون الأرزاق عن عباد الله، ويروِّعونهم في مآمنهم، فلذا، شُرِعَ لهم أشدُّ العقاب، قطعًا لدابرهم. 34 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أفادت هذه الآية: أن توبةَ المحاربين - بعد القدرة عليهم - لا تنفعهم، بل لا بد من أن تقام عليهم الحدود التي وجبت في الآية السابقة. أما إِن تابوا قبل القدرة عليهم وإمساكهم، فإن حق الله يسقط عنهم، بقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَما حقوق الآدميين من قصاص وغيره، فلا تَسْقُطُ بالتوبة، فإن شاءُوا عَفَوْا، وإِن شاءُوا استوفَوْا منهم حقوقهم، قصاصا عادلًا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)}. المفردات: {وَابْتَغُوا}: واطلبوا. {الْوَسِيلَةَ}: هي ما يتوسل به، ويتقرب إلى الله من فعل الطاعات، وترك المعاصي. التفسير 35 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... } الآية. لما ذُكِرَ جزاءُ المحاربين لله ورسوله، وعِظَمُ جنايتهم، وفُتِحَ لهم بابُ المتاب والغفران، عقب ذلك بأَمر المؤْمنين - عامة - بتقوى الله، والجهاد في سبيله. تأمينا للإنسانية، وإسعادا لحياتها. ويدخل في أمر المؤمنين بتقوى الله المحاربون لله ورسوله. فعليهم أَن يتقوا الله ويجاهدوا أَنفسهم في سبيل رضاه. والمعنى: يأَيها الذين آمنوا، اجعلوا أَنفسكم في وقاية من عذاب الله. واطلبوا إليه الوسيلة التي تتوسلون بها إِلى ثوابه والوقاية من عذابه، وهي فعل الطاعات وترك المعاصي. ويدخل في الطاعات: التوبة من الذنوب، والاستغفار، والجهاد في سبيل الله: ودفع الفساد. كما يدخل في المعاصي: قطع الطريق والإِفساد في الأَرض اللذان تقدم الحديث عنهما، في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } (¬1). ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 33

أما التقوى، فهي اتقاء المحارم. وأَما ابتغاء الوسيلة إِلى الله، فليس بالاستعانة بالصالحين .. فقد قال فيه الشيخ الآلوسي ما نصه: واستدَلَّ بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم بهم بأَن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا .. ومنهم من يقول للغائب أَوالميت من عباد الله الصالحين، يا فلان، ادع الله تعالى أَن يرزقني كذا وكذا، ويزعمون أَن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة: ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذَا أعْيَتْكم الأمورُ فَعلَيْكُم بِأَهلِ القُبُورِ" أو"فَاسْتَعِينوا بِأَهْلِ القبور". وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل. وتحقيق الكلام في هذا المقام: أَن الاستعانة بمخلوق وجعلَهُ وسيلةً - بمعنى طلب الدعاء منه - لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه التوسل حيا، ولا يتوقف على أَفضليته عن الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول. فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر - لما استأذنه في العمرة: "لا تنسنا يا أُخَي من دعائك" وأَمره أَن يطلب من أويس القرني - رحمه الله - أَن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم - بطلب الوسيلة له" (¬1) وبأَن يصلوا عليه. وأَما إذا كان المطلوب منه التوسل ميتا أَو غائبا، فلا يستريب أَي عالم في أَنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أَحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم يستطرد الآلوسي رحمه الله فيقول: "نعم؛ السلام على أهل القبور مشروع، ومخاطبتهم جائزة. فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعلِّم أَصحابَه إذا زاروا القبور أَن يقولوا: "السلام عَلَيْكم أَهل الديارِ مِنَ المؤمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَهُ بكمُ لاَحِقون. يَرْحَمُ الله المْستقْدِمِينَ مِنْكم - وَالمسْتأخِرِينَ. نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيةَ. اللهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُم، ولا تَفْتِنَّا بَعْدَهم، واغْفرْ لَنَا وَلَهُم". ¬

_ (¬1) بأن يقولوا: اللهم أعطه الوسيلة، وهي منزلة كريمة في الجنة، فعند مسلم وغيره أنها: "منزلة في الجنة لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا، فاسألوا لي الوسيلة".

ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وهم أَحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئًا. بل صح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أَنه كان يقول: إذا دخل الحجرة النبوية: "السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أَبا بكر. السلام عليك يَا أَبَتِ" ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك، ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله عليه وسلم أَو من ضَجِيعَيْهِ المُكَرَّميْن - رضي الله عنهما - شيئًا. ثم قال - رحمه الله -: نَعَمْ، الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة، والروضة المعظمة، أَمر مشروع. فقد كانت الصحابة تدعو هناك: مستقبلين القبلة، ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء. ثم قال - بعد كلام طويل في هذا الموضوع وغيره - مستدلا على أن التوسل لا يكون إلا بالأحياءِ ما نصه: "ففي صحيح البخاري، عن أنس: أَن عمر - رضي الله عنه - كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس - رضي الله عنه - فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بِنَبِيِّكَ - صلى الله تعالى عليه وسلم - فَتَسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا فَيُسْقوْن". فإِنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام - بعد انتقاله من هذه الدار - جائزا، لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا. وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس، إِلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أَدنى مساغ لذلك. فعُدُولهم هذا - مع أنهم السابقون الأَولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع وهم في وقت ضرورة ومخمصة - أي مجاعة - يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق - دليلٌ واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره". وقد أَطال الآلوسي في هذا الموضوع وما اتصل به، فكتب خمس صفحات تقريبا .. فأرجع إِليه إن شئت (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير الآلوسي، للآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}.

{وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أي: وجاهِدوا أَعداءكم وأنفسكم، بما أمكنكم في سبيل مرضاة الله، لعلكم تفوزون بالأمن من الأعداء، والحفاظ على الإِسلام وبلاد المسلمين. وحسن ثواب الآخرة. 36 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هَذا كلام مستانف، مسوق لبيان أن الذين أمرنا الله بجهادهم. هم الكافرون المعذبون بكفرهم يوم القيامة. والمعنى: إن الذين كفروا، لو أن لهم ما في الأرض - جميعًا - من أموالها، وزروعها، وكنوزها، ونفائسها، ومنافعها، ومثله معه - ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة الذي استحقوه بكفرهم، ما تقبله الله منهم، لعظم جريمتهم. ولهم عذاب شديد الإيلام، ولو أنهم فطنوا - في الدنيا - لافتدوا أنفسهم من هذا العذاب بشيء سهل يسير هو الإيمان والعمل الصالح. قبل أن يفاجئهم الموت، ويشهدوا يومًا فيه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). 37 - {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}: وأفادت هذه الآية السابقة: أَن الكفار لو أرادوا الافتداءَ من النار كيلا يدخلوها، فلا يقبل منهم. وأفادت هذه الآية: أنهم - بعد دخولها - لا يستطيعون الخروج منها بحال. والإرادة في الآية: بمعنى التمني. كما قال الجبائي. أي يتمنى الكافرون الخروج من النار - بعد أن اصطلوا بسعيرها - وما هم بخارجين منها. بك يبقون فيها. ولهم عذاب دائم لا ينتهي أبدا. وهذه الآية خاصة بالكافرين، كما يفيده نصها. أما المسلمون المذنبون، الذين أُدخلوا النار بسبب معاصيهم، فيخرجون منها ويدخلون الجنة. ¬

_ (¬1) الشعراء، الآيتان: 88، 89

فقد أخرج مسلم، وابن المنذر، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ". وأخرج ابن جرير، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق، قال لابن عباس رضي الله عنهما: "تزْعمُ أن قومًا يخرجون من النار؟ وقد قال الله تعالى: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنهَا) فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "وَيْحَكَ، اقرأ ما فوقها، يعني: اقرأ أولَ الآية - هذه في الكفار". {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} المفردات: {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}: أي عقابًا من الله، ينكل به السارق. أي يردع عن معاودة السرقة، وَيُحَذر به هو وغيره من فعلها. قال صاحب القاموس: النَّكال: ما نكفت به غيرك كائنًا ما كان. وقال أَيضًا: ونكَّل به تنكيلا: صنع به صنيعًا يُحَذِّر غيره. (وَاللهُ عَزِيزٌ): أي غالب، فلا يفوته المعتدون. (حكِيمٌ): في شرع هذا الحد؛ لما فيه من الردع.

التفسير 38 - {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (¬1) جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ... } الآية. هذا شروع في بيان حكم السارق، بعد بيان حكم قاطع الطريق. وما بينهما يتصل بحكم قاطع الطريق - كما مر بيانه في الربط. كما أنه يتصل بحكم السرقة، ويعرف ذلك بأدنى تأمل. وقد بين الله في هذه الآية: أن السارق، عقابه قطع يده؛ ذَكَرا كان أَو أنثى. نكالا من الله للسارق وغيره. والنكال: ما نكلت به غيرك، أَي ما حذرته به. ولا شك أن قطع يد السارق، فيه تحذير للسارق نفسه من العودة إلى السرقة، وتحذير لغيره من أن يفعل مثل ما فعل، حتى لا يجْزى مثل جزائه. وقد شدد الله في عقوبة السرقة على هذا النحو، لما تسببه من الانزعاج والأمراض النفسية، والحرمان من أَموال رتَّب صاحبها عليها مصالحه وأَغراضه. فإذا قُطِعت يدُ السارق، كف عن العودة إلى هذه الجريمة غالبًا، وسلِم الناس من آثارها، وارتدع بها من يفكر في السرقة، والتمس - كلاهما - سبيلا إلى الرزق الحلال. ¬

_ (¬1) قال الخليل بن أحمد، والفراء: كل شيء من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع، تقول هشمت رؤسهما، وأُشبعت بطونهما، و {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولهذا قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولم يقل يداهما. وهذا هو الأفصح. حتى لا تكرر التثنية مرتين وهي ثقيلة. ويعتمد على الإضافة في بيان المعنى المراد وهو التثنية. ولو قيل: فاقطعوا يدهما لصح، ولكن الأول أفصح. والمراد: فاقطعوا يدا من الذكر وأخرى من الأنثى. فهاتان هما اليدان المطلوب قطعهما: على معنى أن الذكر تقطع يده إذا سرق، والأنثى تقطع يدها إذا سرقت. وستجد بيان ذلك في الشرح.

والسارق: هو الذي يأخذ مال غيره خفية من حرز مثله ولا شبهة له فيه، دون طعن بسلاح أو تهديد به، فإِن طعن بصلاح، أو هدد به - وهو ما يعرف الآن بالسطو المسلح - فحكمه حكم قاطع الطريق، الذي يسعى في الأَرض فسادا. وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } (¬1). ولا يعاقب السارق هذا العقاب، إلا إذا كان بالغًا عاقلا، غير مالك للمسروق منه، ولا ولاية له عليه .. فلا تقطع يد صبي ولا مجنون، ولا سيد أَخذ مال عبده؛ لأن العبد وماله لسيده. ولا يدُ عبد سرق مال سيده بإجماع الصحابة. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في غلام لعبد الله بن عمرو الحضرمي سرق مرآة لامرأته ثمنها ستون درهمًا: "غلامكم، سرق متاعكم" ولم تقطع يده. ولا يقطع الوالدان بسرقة مال ولدهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ ومالُكَ لأبِيكَ" (¬2)، ويقطع هو في سرقة مال أبويه؛ لأنه لا شبهة له فيه. كذا قيل. والراجح: أَنه لا يقطع؛ لأن الابن ينبسط في مال أبيه كالعادة. وإِذا كان العبد لا يقطع في سرقة مال سيده، فالابن أولى. وإذا استكمل هذه الشروط، فلا تقطع يده، إلا إِذا سرق ما قيمته ربع دينار. لقوله صلى الله عليه وسلم: "تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ في رُبعْ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬3). وبهذا أَخذ عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي، والشافعي، والليث وغيرهم. ومن العلماء من قال: تقطع يده في عشرة دراهم، ومنهم من قال: في خمسة دراهم. ومنهم من قال: تقطع في القليل والكثير. والقول الأول: أصح؛ لاستناده إِلى الحديث الصحيح، الذي ذكرناه. وأَما ما رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ: يَسرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ". ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 33 (¬2) رواه ابن ماجه والطبراني. (¬3) رواه الشيخان عن عائشة.

فإن الغرض منه: التحذير بالقليل - فضلا عن الكثير - كما جاءَ في معرض الترغيب بالقليل في بناء المساجد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَنَى لِله مَسْجدًا وَلَوْ مثْلَ مَفْحَصِ قَطاةٍ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجنةِ". فإِن المساجد لا تكون كمفحص القطاة، وهو المكان الذي تفرخ فيه من الأرض. ومنهم من أوَّل هذا الحديث بأنه: إِذا سرق القليل، اجترأَ على سرقة الكثير الذي تقطع فيه اليد، وهو ربع دينار فأكثر!! ولا يقطع إلا إذا أخذ المسروق من حرز مثله. وهو ما أُعِدَّ - عادة لحفظ أموال الناس. وهو في كل شيءٍ بحسبه. قال ابن المنذر: ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم .. وإِنما ذلك كالإجماع من أَهل العلم. أهـ. فالبيت حرز للفراش والثياب والمتاع الذي فيه. والقبر والمسجد حرز لما فيهما. والخزانة في مكاتب الناس - أو الحكومة - حرز لما فيها. وظهور الدواب حرز لما تحمل. وأفنية الحوانيت حرز لما فيها ... وهكذا ... وإذا اشترك جماعة في السرقة، قطعت يد كل منهم، إن بلغت حصته مما سرقوا ربع دينار. ولا يقطع إذا سرق مال نفسه من غاصبه أو مستأجره أو نحو ذلك. كسرقته مالا يشترك فيه مع غيره، أو سرق مالًا له فيه شبهة، كسرقة من يستحق النفقة ممن يجب أن يُنفِق عليه، كالأب من ولده وبالعكس.

وفي سرقة الزوجة من زوجها ما يقابل النفقة رأْيان: ومن قال بالقطع فيها: فرَّق بينها وبين نفقة الأقارب، بأن نفقة الأقارب لأجل إحياء النفس .. وأما نفقة الزوجة فهي معاوضة كالإجارة. ومن نفى القطع استدل بسماح الرسول صلى الله عليه وسم لهند زوجة أبي سفيان أن تأخذ من ماله - أي مال زوجها - ما يكفيها وولدها بالمعروف. وذلك حين شَكَتْ له شُحَّ أبي سفيان. كما ورد في الصحيحين. ولا يقطع من سرق لجوع شديد أصابه. وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه، رَفع حَدَّ السرقة عام المجاعة. وعلى الحاكم أن يتثبت بعناية من واقعة السرقة وظروفها ودواعيها، وأن يعدل عن القطع عند وجود شبهة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادْرَءُوا الحدُودَ عَنِ المسْلِمِينَ مَا استَطَعْتُمْ، فَإنْ وَجَدْتُم للمُسْلِم مَخْرَجًا فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنْ الْإمَامَ لَأنْ يُخْطِيء في العَفْوِ خَير مِنْ أنْ يخطيء في العُقُوبَةِ" (¬1). وتقطع يد السارق اليمنى من الكوع عند المفصل، الذي بين الساعد والكف. فإن سرق ثانيا، قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا، قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا، قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عُزِّر بما يراه الحاكم رَادعًا مانعًا. وتثبت السرقة بالبينة، وبالإقرار. ثم ختم الله الآية بقوله: (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ): أي: والله غالب، فلا يفوته المعتدون، حكيم في شرع هذا الحد، للقضاء على هذه الجريمة النكراء. تأمينا لحياة الناس. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن عن عائشة.

39 - {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي فمن تاب من سرقته - من بعد أن ظلم بها من سرق منه، وأصلح أمره - فإن الله يقبل توبته؛ لأن الله عظيم الغفران والرحمة. وإصلاح أَمره يكون: بالتقصّي عن التَّبِعَات، وردِّ ما سرقه إن أمكن، أَو باستسماح صاحب المال .. فإن لم يعرف صاحبه، أنفقه في سبيل الله. وقيل: المراد بالإصلاح أن يستقيم على التوبة. ولكن لا يسقط حد السرقة بالتوبة، إن كان قد رفع أمر السارق إلى القضاء. فإن كانت توبته قبل أن يرفع أمره إِلى القضاء، فلا قطع، كما قال به عطاء: وجماعة من الفقهاء. استنادا إلى قوله تعالى: "إلاَّ الذينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عليْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (¬1) فإنه وإن نزل في قطاع الطريق، فحكمه عام في جميع الحدود، عند هؤُلاء العلماء. وقد بسط العلماءُ القول في أحكام السرقة، والاختلاس، والغصب، وغير ذلك. فليرجع إليها من أراد، في موسوعات كتب التفسير والفقه. 40 - {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذه الآية، مسوقة لتقرير حق الله تعالى في أَن يشرع ما تقدم من عقاب قاطع الطريق، والسارق، والعفو عن التائب منهما. والخطاب لكل من يصلح له. والمعنى: أَلم تعلم أَن الله تعالى، له السلطان الكامل على السموات والأرض وما فيهما. ومن كان كذلك، فإِن له كامل الحق، في أَن يعذب من شاءَ من المعتدين، ويغفر لمن شاءَ من التائبين، والله على كل شيءٍ قدير: عظيمُ القدرة، فلا يمنعه عن تشريعه الحكيم مانع، ولا يدفعه عن جزائه لهم في الدنيا والآخرة دافع. ¬

_ (¬1) المائدة، آية: 34.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)}. المفردات: (يُسَارِعُونَ في الْكفْرِ): يجدُّون فيه. (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا): أي من اليهود. (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ): يسيئون تأْويله. (فِتْنَتَهُ): إخلاله لسوء اختياره. (خِزْي): هَوَانٌ ومذلة. التفسير 41 - (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... ) الآية. سبب نزول هذه الآية: على ما رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما - أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بيهوديٍّ ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءَ يهود. فقال: ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى؟، قالوا: نسوّد وجوههما

ونحملهما. ونُخالف بين وجوههما. ويطاف بهما. قال فأَتُوا بالتوراة إن كنتم صادقين. فجاءُوا بها فقرءُوها، حتى إذا مرُّوا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأَ ما بين يديه وما وراءَها. فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - مُرْة فليرفع يديه، فرفعهما فإِذا تحتهما آية الرجم: فأَمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَا. وروى أحمد عن البراءِ بن عازب قال: مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جيء إليه بيهودى محمم (¬1) مجلود. فدعاهم. فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم. فدعا رجلًا من علمائهم. فقال: أنشدك (¬2) بالذي أَنزل التوراة على موسى: أهكذا تجدون الزاني قى كتابكم؟ فقال: لا والله. ولولا أَنك نشدتني لم أخْبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ... ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أَخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالَوْا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على: التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ إِني أولُ مَنْ أَحيا أمْرك، إذْ أَماتوه. قال: فأمر به فرجم" (¬3). فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... } الآية. فخوطب صلى الله عليه وسلم، بعنوان الرسالة، للتشريف، والإيذان بأن عدم الحزن من مقتضيات الرسالة ... ويشير بقوله تعالى: (يُسَارِعُونَ في الْكُفْرِ): إلى أنهمِ مستقرون في الكفر لا يبرحونه. والمراد: نَهْيُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، عن التأثر بذلك، أَو المبالاة بهم، وتسليته عما حدث منهم، على أبلغ وجه. أَي لا تحزن، ولا تبال بتهافتهم في الكفر والإسراع فيه. ¬

_ (¬1) مطلي وجهه بالسواد. (¬2) أي أسألك باللهِ. (¬3) لأنهم احتكموا إليه بالتوراة. والتوراة صريحة في الرجم، كما أظهرته المناقشة معهم.

{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}: هذا بيان للمسارعين في الكفر، وأَنهم فريقان: منافقون، ويهود. فالمنافقون: هم الذين تفوَّهوا بكلمة الإيمان، من غير أن تلتفت إليها قلوبهم، ولم يتأثر بها باطنهم ... والفريق الثاني: هم اليهود ... والفريقان: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: هذا الوصف يعود إِلى الفريقين، أو إِلى اليهود خاصة. أي الذين يسارعون في الكفر هم سماعون للكذب، أي كثيرو السماع للكذب من أحبارهم ورؤسائهم، الذين يلقون إليهم أكاذيب اخترعوها، وأباطيل افْتَروْها. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}: أَي: كما أنهم سماعون للكذب من أَحبارهم ورؤَسائهم، فهم - أيضًا - سماعون منك لأجل قرم آخرين هم رؤَساؤُهم. فقد بعث بهم الرؤَساءُ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعرفوا ما عنده من حكم الزاني المحصن. وقالوا لهم: اذهبوا إِلى محمَّد. فإن أفتاكم بعقوبة غير الرجم، قبلناها، وكانت حجتنا عند الله. وقلنا هي: فتيا نبي من أنبيائك. وإِن أفتى بالرجم، فلا تتبعوه ولا تستمعوا لكلامه. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}: صفة أخرى (لِقَوْمٍ) أي أنهم يميلون بالتوراة، وَيُؤَؤلُونَ الكلامَ الواردَ فيها على غير تأويله. {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}: أي يقُولُون لاتباعهم السماعين لهم - عند إلقائهم إليهم الأقاويل الباطلة -: {إنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}: أَي إِن أفتاكم محمَّد بما تريدون - وهو الجلد - فخذوه، واعملوا بموجبه.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ): بل أُوتيتم غيره وهو الرجم، (فَاحْذَروا) قبوله، وإياكم أن تعملوا به. ولا شك أن هذا ضلال منهم. ولذلك جاءَ بعدها قوله تعالى: (وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا): أي: من يُرد الله به الضلالة والبعد عن طريق الحق، فلن تستطيع دفْعه عن ذلك، لأنَّك لا تملك له من الله شيئًا في دفع الفتنة عنه. (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ): أَي هؤُلاء المذكورون - من المنافقين واليهود - هم الذين لم يرد الله أَن يطهر قلوبهم من الكفر والضلالة؛ لأنهم منهمكون فيهما، مُصِرُّون عليهما، معْرضون عن طريق الهداية والرشاد. (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ): أَي لهؤُلاءَ - وأولئك - في الدنيا خزي؛ بكَشْفِ حال المنافقين، وهَتْكِ أسرارهم، وبَيَانِ كذب اليهود، وإذلالِهم بضرب الجزية عليهم. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ): بدخولهم النار، والخلود فيها. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}. المفردات: (أكَّالُونَ): كثيرو الأَكل. (لِلسُّحْتِ): السحت؛ الحرام. كالربا ونحره. (بِالْقِسْطِ): بالعدل.

التفسير 42 - (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ... ) الآية. كرر تَسمُّعَهم للكذب والباطل، تأكيدًا لاتصافهم بهذه الرذيلة الشنيعة، وتمهيدا لما بعده، من وصمهم برذيلة أُخرى، وهي أكلهم أموالَ الناس بالباطل .. كأَكلهم الربا، وأخذهم الرشوة؛ لِيُحِلُّوا لأنفسهم ما حرم الله عليها. وعبر عن المال الحرام بالسحت؛ لأنه يسحت البركة في المال، ويذهب به. (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ): أي فإِن جاءَكَ اليهود - متحاكمين إليك بعد ما سمعت من تفاصيل أَحوالهم - فأنت بالخيار بين أن تحكم بينهم، لأنهم اتخذوك حكمًا، أَو تعرضَ عنهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق. ومثل هؤُلاء: لا يُهْتم بهم، ولا يُلتفتُ إِليهم. ومن هذه الآية، استدل العلماءُ: على أن الإِمام مخير في الحكم بين أهل الذمة، أو الإِعراض عنهم. (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا): أي. وإن اخترتَ عدم الحكم بينهم، وأعرضت عن ذلك، فلن يقدروا على الإضرار بك؛ لأن الله عاصمُكَ من الناس. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ): أي وإن اخترت الحكم بينهم، فالواجب أن يكون الحكم بينهم بالعدل، كما أراك الله، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (¬1). {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}: أَي: يرضى عن العادلين فيما ولَّاهم من أحكام، ويحفظهم من كل ما يضرهم. ¬

_ (¬1) المائدة، من الآية: 49

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}. التفسير 43 - {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... } الآية. هذا تعجيب من تحكيمهم من لا يؤْمنون به ولا بكتابه، مع أن الْحُكْم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به وهو التوراة. إذ كانت - مع تحريفها - مشتملة على حكم تلك المسألة، التي جاءُوا يتحاكمون فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: حكم الزاني المحصن. (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): أي يعرضون من بعد حكمك الموافق لما في كتابهم. (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ): أَي وما أولَئكَ المتصِفُون - بما ذكر - بالمؤْمنين بما في كتابهم؛ لإعراضهم عنه وعن حكمك الموافق له. وفي الآية دليل على أن التولِّي عن حكم الله، يخرج صاحبه من الإيمان.

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}. المفردات: (وَالرَّبَّانِيُّونَ): جمع رباني؛ وهو المنسوب إلى الرب. والمراد: الزهّاد والعُبّاد. (وَالْأَحْبَارُ): جمع حبر؛ وهو؛ العالم، أَو رؤَساءُ العلماء عند اليهود. (اسْتُحْفِظُوا): كلفوا من الله بالمحافظة عليه. (شُهَدَآءَ): أي رقباءَ يحمونه من التغيير والتبديل. التفسير 44 - (إنَّاَ أنزَلْناَ التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .... ) الآية. هذا كلام مستأنف، سيق لبيان علوِّ شأن التوراة، وأَنها كانت مرعية فيما بين أَنبياء بني إسرائيل، وعُبَّادهم وعلمائهم. (فيهَا هُدًى وَنُورٌ): أَي فيها هداية للناس إلى سبيل الله، ونور يكشف لهم أحكام الله - سبحانه وتعالى - حلالًا كانت أو حرامًا. (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا): أَي يحكم بها أنبياءُ بني إِسرائيل، من موسى إلى عيسى ابن مريم عليهم السلام، وهم الذين انقادوا وخضعوا لأوامر الله الواردة فيها: بإجراء أَحكامها على اليهود.

(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ): أي ويحكم بها الزهاد، والعلماءُ من اليهود، الذين التزموا طريقة النبيين، وجانبوا كتب اليهود المحرفة. وحكم هؤُلاَء وأُولئك بالتوراة، بسبب التزامهم المحافظة على كتاب الله المنزل إليهم. وكانوا - جميعًا - رقباءَ على كتاب الله - التوراة - يحمونه من محاولات التغيير والتبديل، بأي وجه من الوجوه. (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ): هذا خطاب لرؤَساء اليهود، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: إذا كان شأن التوراة - مع النبيين والأحبار السابقين - كما ذكر، فلا تخافوا، يا علماءَ اليهود، أحدا من الناس، كائنا من كان. وعليكم أن تُطَبقوها كما أنزل الله، وخافُون، فلا تُخِلُّوا بمراعاتها. (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا): أي: لا تستبدلوا بآياتي المنزلة فيها ثمنا قليلًا. وذلك بتغييرها وتبديلها، في مقابل رشوة تأُخذونها، أو جاهٍ تحرصون عليه، أو أي حظٍّ من حظوظ الدنيا وزُخرُفِها. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ): هذه الآية وما يأتي من قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) نزلت كلها في الكفار، وعلى هذا رأْي أَكثر المفسرين. فأما المسلم، فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل في الآية إضمار، تقديره: ومن لم يحكم بما أنزل الله رادًّا للقرآن، وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، قاله ابن عباس، ومجاهد ... فالآية عامة على هذا. وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، معتقدا ذلك، مستحلا له. وأَما مَن فعل ذلك وهو معتقد أنه مرتكب محرما، فهو من فُسَّاق المسلمين وعُصَاتِهِم (¬1). ¬

_ (¬1) القرطبي: 6/ 190 باختصار.

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}. المفردات: (قِصَاصٌ): القصاص؛ عقاب الجاني بمثا ما جنى. (تَصَدَّق): أَي عفا عن الجاني. (كَفَّارَةٌ لَّهُ): مَحْوٌ لذنوبه وآثامه. التفسير 45 - {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... } الآية. في هذا توبيخ وتقريع لليهود: لأَن عندهم في نص التوراة: أن النفس بالنفس. وهم يخالفون حكم ذلك. عمدا وعنادا. ويفرقون بين الخاصة والعامة في القصاص. كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن. على ما أَشارت إِليه الآية السابقة. والمعنى: وفرضنا على اليهود في التوراة؛ أَن النفس القاتلة. تُقْتَلُ بالنفس المقتولة. وأَن العين تُفقَأ بالعين. وأَن الأَنفَ يُجْدَع بالأَنف. وأَن الأُذنَ تُقطع بالأُذن. وأَن السنَّ تُقْلَعُ بالسن. والجروح ذاتَ قصاص (¬1) وذلك إِذا كانت المساواة ممكنة. ¬

_ (¬1) ورد مثل هذه الأحكام في سفر الخروج، الإصحاح 21: 23 - 25 وفي سفر اللاويين: إلخ صحاح: 24: 17/ 20.

فإِذا تعذرت المساواة كما إذا فقأَ أَعمى عينَ مبصر، أو كان فيها خطر على حياة المقتص منه - كما إِذا فقأ أعورُ عينَ مبصر - ففي ذلك دية الجراح. وفي ذلك تفصيل: محله كتب الفقه. (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ): أَي فمن عفا عن القصاص من الجاني بقبول الدية - أو مع التنازل عنها - فعفوه كفارة لذنوبه، ومَحْوٌ لسيئاته. وعبر عن العفو بالتصدق؛ للترغيب فيه، وإظهار جزيل ثوابه. والقصاص المذكور في الآية، إنما يكون حال العدوان العمد. أَما الخطأ - أَو شِبْهه - ففيه الدية. وهذا الحكم المذكور في التوراة، جاءَت به الشريعة الإِسلامية. ففي حديث أَنس بن مالك عند البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له: أن الرُّبَيّع: عمةُ أنس، كَسَرت ثنيةَ جارية. فطلبوا إلى القوم العفو، فَأَبَوْا ... فأَتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: القصاص. فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول اللهِ تكسر ثنية فلانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله؛ القصاص. قال: فقال: لا، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة. قال: فرضِيَ القوم، فعفَوْا وتركوا القصاص. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ عِبَادِ الله مَن لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ". (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): لأنهم لم يراعوا المساواة - فيما أَمر الله به - في القصاص.

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}. المفردات: (وَقَفيْنَا): أَتبعنا. (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ): لما تقدَّمه. التفسير 46 - (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... ) الآية. شروع في بيان أحكام الإِنجيل؛ إِثر بيان أَحكام التوراة. المعنى: وأَرسلنا عيسى ابن مريم إلى بني إسرائيل؛ بعد أَنبيائهم الذين أَشارت إليهم الآية السابقة. (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ): أَي مؤَيدا للأحكام السابقة التي وردت في التوراة. (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ): أَي وأَعطيناه الإِنجيل. (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ): أَي فيه هُدًى إلى الحق، ونور يستضاءُ به في إزالة الشبهات، وحل المشكلات.

(وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ): أَي: ومؤَيدا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل. كما قال تعالى - على لسان المسيح عليه السلام - لبني إِسرائيل: " ... وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ... " (¬1). وتكرار (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْه مِنَ التَّوْرَاةِ): لتأكيد توافق الكتابين الكريمين: التوراة والإِنجيل، لأَن مصدرهما واحد ... هو الله عَزَّ وَجَلَّ ... (وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ): أَي وجعلنا الإِنجيل الذي أَنزله الله على عيسى هدى يُهتدى به، وزاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم لمن اتقى الله، وخاف عقابه. أَما تكرار (هُدًى): فهي في الأُولى جزءٌ من اثنين: الهدى، والنور. وفي الثانية تُتَمِّمُ - مع الموعظة - فضيلة التقوى؛ لبيان ميزة الهدى في الحالتين. 47 - (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ... ) الآية. أَمر من الله للمسيحيين، بأَنْ ينفذوا الأحكام الواردة في الإنجيل، الذي أنزله الله على عيسى - عليه السلام. وهذا الأمر ممتد إِلى البعثة المحمدية؛ لأن البشارة وردت بمحمد صلى الله عليه وسلم، في الإنجيل. فهم مأمورون بأَن يعملوا بما فيه. ومن جملة ما فيه: دلائلُ رسالته صلى الله عليه وسلم، ووجوبُ اتباعه فيما يجيءُ به. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): أَي ومن لم يحكم بما أَنزل الله في الإِنجيل، ولم يتبع ما ورد فيه من البشارة بمحمد، والإِيمان برسالته، فأَولئك هم المتمرِّدون الخارجون عن حكمه. وقد تقدم الكلام على ذلك عند الآية (44). وفي هذا ما يدل على خروجهم على الإِنجيل، وأنهم به كافرون. ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 50

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}. المفردات: (مُهَيّمِنًا عَلَيْهِ): مسيطرا. (شِرْعَةً): شريعة. (وَمِنْهَاجًا): طريقا واضحا في تطبيق هذه الشريعة. (لِيَبْلُوَكُمْ): ليختبركم. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ): أي فليسبق كل منكم الآخر إلى فعل الخيرات. التفسير 48 - (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ... ) الآية. بعد أَن تكلم الله - سبحانه - عن التوراة وما فيها من هدى ونور، وعن الإِنجيل وتصديقه للتوراة، وما احتواه من الهدى والنور والموعظة - كل ذلك قبل أن يلحقهما التغير والتبديل - ذَكَر بعد ذلك، القرآن المنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم - فبين أَنه - حق لا سبيل إِلى تحريفه: "لَا يَأَتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِن خَلْفِهِ ... " (¬1) فقال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكَتَابَ بِالْحَقِّ ... ) الآية. ¬

_ (¬1) فصلت، من الآية: 42

والمعنى: وأنزلنا إليك يا محمَّد، القرآن: قائما بالحق، الذي لا ريب فيه، مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية، التي نزلت على الأنبياء قبله. فلا يختلف عنها - ولا تختلف عنه - فيما جاءَ من أصول العقائد والشرائع. (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ): أي مسيطرا ورقيبا على سائر الكتب السماوية التي تقدمته قبل تحريفها. وَمُنَبِّهًا إلى ما وقع فيها من تحريف. ومقتضى الهيمنة أَنَّ صاحبها هو - لا سواه - المصدر التشريعي للإِنسانية. (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ): أَي فاحكم بين أهل الكتاب بالحق، الذي أَنزله الله إليك في كتابه الكريم. فإِنه المرجع السماوي الصحيح، المحفوظ من التحريف. وكل ما لا يوافقه في التوراة والإِنجيل دخيل، يحرم العمل به وتصديقه. ويَكفر مَن يعتقده تنزيلا من عند الله تعالى. (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ): أَي لا تعدل عما جاءَك من الحق، متبعا أَهواءَهم الزائفة الناشئة عن التحريف والتبديل. (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً): أَي لكل أمة منكم - يا بني آدم - جعلنا شريعة تناسب أَحوالها وأَزمانها. (وَمِنْهَاجًا): أَي طريقا واضحًا تسير عليه في تنفيذ أَحكام شريعتهم. فالقرآن الكريم. شريعة زمانه. إِلى يوم القيامة. قال ابن كثير: هذا إِخبار عن الأُمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأَحلام المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا أَوْلى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَالْأَنْبِياءُ إِخْوةٌ لِعَلَّاتٍ. أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُم وَاحِدٌ".

أي: في التوحيد الذي أرسل به كما رسول أرسله. وضمنه كل كتاب أَنزله، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (¬1). (وَلَوْ شَاَءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أمَّةً وَاحِدَةً): أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأزمنة. من غير اختلاف بينكم في شيءٍ من الأحكام الدينية. (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ): أي ولكن أَنزل إليكم شرائع، مناهج مختلفة؛ ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من الشرائع. ومدى امتثالكم لأحكامها. هل تعملون بها مذعنين لها. معتقدين أَن في اختلافها نفعًا لكم في معاشكم ومعادكم؟ وهل تستجيبون لدعوة خاتَمِ أَنبيائه: الذي جاءَكم بالشريعة، التي خُتِمَتْ بها الشرائع، لتكون شريعة الناس كافة إِلى أَن يرث الله الأرض ومن عليها؟ (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ): أَي فليسبق كل منكم غيره إلى فعل الخيرات. وهي تتجلى - في أسمى معانيها - في شريعة الإِسلام التي جاء بها القرآن. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا): أي إلى الله - لا إِلى غيره - مصيركم ومعادكم أَيها الناس. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ): أَي فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون في الدنيا، من أمور الدين، ويجازيكم ويفصل بين المحق منكم والمبطل، والعامل والمفرط. ¬

_ (¬1) الأنبياء، الآية: 25.

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}. التفسير 49 - {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... } الآية روى ابن جرير. وابن أَبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في كعب بن أسد، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس وغيرهم. فقد قالوا فيما بينهم: اذهبوا إلى محمَّد: لعلنا نفتنه عن دينه، فأَتَوه، فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أننا أَحبار يهود وأشرافهم وسادتهم. وإنا - إن اتبعناك - اتبعنا يهود. ولم يخالفونا. وإِنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤْمن لك ونصدقك ... فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأَنزل الله الآية. (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... ): جملة (وَأَنِ احْكُمْ ... ) معطوفة على لفظ الكتاب، في قوله: (وَأنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ بِالْحَقِّ ... ). والمعنى: وأَنزلنا إِليك الكتاب - وأمرناك بالحكم بينهما بما أَنزل الله إِليك في كتابه - أَي القرآن الكريم. (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ): التي يسيرون عليها، ويتبعون طريقها. فإِنها أَهواء زائفة باطلة. (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ): أَي واحذرهم مخافة أَن يصرفوك عن شيءٍ مما أَنزل الله إِليك، ولو كان أَقلَّ قليل.

أَو احذر فتنتهم لك، وَصَرْفَهُم لك عن بعض المُنزَلِ إليك. وإِعادة (مَاَ أَنزَلَ اللهُ إلَيْكَ): لتأْكيد التحذير: بتهويل الخطب إِذا تمكنوا من صرفه عن ذلك. (فَإِن تَوَلَّوْا): أَي أَعرضوا عن قبول الحكم المنزل، وأَرادوا غيره، مما يتفق مع أهوائهم. (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ): أَلَا وهو ذنب التولِّي والإعراض عن حكم الله، والرغبةِ في خلافه. وفي قوله: (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ): إشارة إلى أَن ذنوبهم كثيرة. وأن التولي والإعراض بعضها. (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ): أي لخارجون عن طاعة الله، منحرفون عن حكمه، متمردون في الكفر. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. التفسير 50 - (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... ) الآية. هذا إنكار وتعجيب من حالهم، وتوبيخ لهم. أي: أيتولَّون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية؟! والمراد بالجاهلية: متابعة الهوى والمداهنة في الأحكام؛ لأن الجاهل لا يُصدِر حُكمَه عن كتاب، ولا يرجع إلى وحي. أو المراد: أهل الجاهلية ممن كانوا قبل الإِسلام، يخضعون للهوى في أحكامهم. أي أَيطلبون حكم من كانوا في عصر الجهل والضلال.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): أَي ومن أحسن من الله قضاءً لقوم يؤْمنون باللهِ، ويجزمون بأن حكمه هو أَحسن الأحكام وأعدلها للإنسانية كلها. وفي هذا إنكار لأن يكون أحدٌ، حكمهُ أحسنَ من حكم الله، أو مساويا له؛ لقصور العقول البشرية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)}. المفردات: (أوْلِيَاَء): أحبابا، أو أصدقاءَ، أو نصراءَ. (في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ): شكٌّ ونفاق. (أَنْ تُصِيبَنَا): أن تدركنا وتستأصلنا. من أصاب الشيءَ: أدركه واستأصله. (دَائِرَةٌ): الدائرة؛ الهزيمة، أَو الداهية. يقال: دارت عليهم الدوائر. أي: نزلت بهم الدواهي.

(نَادِمِينَ): نَدِم على ما فعل؛ أَسِف وتَحسَّر. (حَبِطَتْ): بطلت أَعمالهم، ولم تقبل. (خَاسِرِينَ): أَي لم ينالوا ثمرة أَعمالهم؛ لبطلانها وعدم قبولها. التفسير 51 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ... ) الآية. روى ابن جرير: أَن هذه الآية - وما بعدها - نزلت في عبد الله بن أُبيّ. حينما تشبَّث بمحالفة اليهود. وقال: إِني رجل أَخاف الدوائر، لا أَبرأ من موالاة مواليَّ. والآية خطاب من الله تعالى لجميع المؤْمنين، يحذرهم فيه من مصافاة اليهود والنصارى، مصافاة الأَحباب، ومعاشرتهم معاشرة الأَصدقاءِ والنصراءِ. (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ): أَي لا يتخذْ أَحد منكم أَحدا منهم وليًّا يعتمد عليه. ويستنصر به. ويتودد إليه ويخالطه مخالطة الأَصفياءِ. وجاءَ الوصف بالإِيمان؛ ليسارع المؤمنون إلى الابتعاد عما نُهوا عنه؛ لأن الوصف به - في مقابل ذكر الفريقين الآخرين بوصف اليهود والنصارى - من أقوى الزواجر عن مودتهما ومحبتهما. (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): أَي بعض كل فريق كل من هذين الفريقين، نصراءُ بعض أخر، ثم إِن الفريقين - جميعًا مجمعون على كل مخالفتكم وعداوتكم، فكيف تكون بينكم وبينهم موالاة؟ وفي الإِتيان بهذه الجملة، تأكيد لوجوب الابتعاد عن مودتهم، وتعليل للنهي عن موالاتهم، كما يتأَيد النهي بآيات أخرى منها قوله تعالى: "لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ... " (¬1). ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 28

وليس المراد من الآية الكريمة: أَن يكون بعض اليهود أَولياءَ لبعض النصارى؛ لانتفاءِ الموالاة بين الفريقين أَصلا، قال تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ... " (¬1) إِلا في عداوتهم للمسلمين، فهم فيها أَولياء بعضهم للبعض. ولهذا أَكد القرآن على نبذ الولاية لهم؛ وتأكيد الولاية للإِسلام بقوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ): أَي ومن يتوددْ إِلى اليهود والنصارى، ويستنصر بهم، فإِنه من جملتهم، وليس من جماعة المؤْمنين؛ لأنه قد خالف الله ورسوله مثل ما خالفوا هم، ووجبت معاداته كما وجبت معادتهم، واستحق عذاب النار كما استحقوه، لأَنه أَضعف الإِسلام بهذه الولاية، قال تعالى: "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ" (¬2). وقد استفيد من الحكم: أَن من يتودد إِلى اليهود والنصارى يكون منهم، من قوله تعالى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): لأَن انحصار الموالاة - بين اليهود والنصارى في عداوتهم للإِسلام - يترتب عليه: أَن يكون من يواليهم منهم، لا من المؤْمنين. (إنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): أَي إِن الله لا يوفق إِلى قبول الحق، أُولئك الذين ظلموا أَنفسهم باختيار الضلالة على الهدى، وظلموا غيرهم بإِيذائهم ومضاررتهم، وتدبير الكَيد لهم: فلا يهدى إِلى الإِيمان من ظلم نفسه من المسلمين بموالاة غير المؤْمنين، واتباع غير طريق المسلمين. وفي ختام الآية بهذا: زجر شديد للمؤْمنين عن موالاة اليهود والنصارى؛ وأَنه ظالم للإسلام، لا يهدي الله صاحبه. 52 - (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ... ) الآية، خطاب للرسول عليه السلام ولكل من تتوفر له وسائل الإِبصار أَو العلم بأَحوالهم. خطاب، بيَّن فيه حال الذين يوالون اليهود والنصارى، وأَشار فيه إِلى سبب هذه ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 113 (¬2) هود، الآية: 113

الموالاة منهم، وأنه هو ما استقر في قلوبهم من النفاق والحقد على محمَّد صلى الله عليه وسلم - والشكِّ في صدقه، فلا إِيمان يملأُ قلوبهم، ولا يقين - برسالته - تعمر به نفوسهم. ولذا، تراهم مسارعين إِلى تحقِيق مودتهم لليهود والنصارى ومعاونتهم في حرص شديد، وعناية فائقة. كما أَفاده التعبير بقوله: (يُسَارِعُونَ فِيهِم) دون التعبير بلفظ: يُسارِعُونَ إِليْهِم: إِذ معناه؛ أَنهم مستقرون في مودتهم. وإِذا كانوا مستقرين في موالاتهم: فالمسارعة فيا بينهم - إِنما تكون في الانتقال من مرتبة من مراتب الموالاة، إِلى مرتبة أُخرى أكثر أو أكبر. (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ): أَي يقولون - معتذرين عن تلك الموالاة - بأَننا إِنما نفعل ذلك؛ خوفا من أن يدور الدهر علينا: إِما بقحط أو جدب، فلا يعطوننا طعامًا ولا مالا. وإما بانقلاب الأمر ... فتصبح - بتلك الوسيلة الحمقاء - الدولة للكفار، والغلبة لليهود والنصارى على المسلمين، فيدور الأمر كما كان قبل ذلك، فلا يتم لمحمد صلى الله عليه وسلم - شأْن، ولا يدوم له نصر. فرد الله على هؤُلاءِ المنافقين فيما اعتذروا به بقوله تعالى: (فَعَسَى اللهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ): وهو وعد من الله تعالى لرسوله وللمؤْمنين بأَن يحقق لهم الغلبةَ على أَعدائهم والقضاءَ عليهم. والمراد بالفتح الذي يأْتي به الله تعالى: نصرُه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم - على من خالفه، وإِعزازُ الإِسلام، وإِظهارُ المسلمين على أَعدائهم، أَو هو فتح مكة، أو فتح قرى اليهود كخيبر، وفدك، أَو فتح بلاد المشركين للمسلمين - وكل ذلك قد كان. (أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ): أَي أَو أَن يأْتي الله بأَمر من عنده، وهو القضاءُ على اليهود، وقطع دابرهم، واستئصال شأْفتهم، بقارعة تصيبهم. أَو هو الخصْب والسعة للمسلمين، بعد الذي كانوا فيه من ضيق العيش وشدة الحياة.

أو هو الجزية التي تفرض على اليهود والنصارى، كدليل على استسلامهم وخضوعهم لنظام الإسلام - وقد خافهم من قبل مرضى القلوب من المنافقين، ونافقوا الرسول من أجلهم. أو هو إظهار أمر المنافقين، والإِخبار بأسمائهم والأَمر بقتلهم. والحق: أن كل ذلك قد حققه الله للذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأَيقنوا بصدق رسالته. وكلمة (فَعَسَى): من الله تعالى، وعدٌ واجب التحقق. لكن لا بإِيجاب أَحواله عليه تعالى، بل جريا على سنن العظماء الأكرمين؛ لأَن الكريم إذا أَطمع في خيرٍ، فَعَلَه، فما بالكم بأعظم العظماء، وأَكرم الأَكرمين!! (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ): أَي: فيصبح هؤُلاء المنافقون - بعد أَن جاء فتح الله ونصره لرسوله - على ما حدثوا به أنفسهم وكتموه في صدورهم، من الكفر والشك في أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، آسفين متحسرين بعد أَن تبين لهم أَنهم كانوا - فيما فعلوه - مخطئين. وترتيب الندم على ما أَسرُّوه من الكفر - دون ما أَظهروه من الموالاة - لأَن ما أبطنوه، كان السببَ الذي حملهم على إِظهار الموالاة وأَغراهم بها، فكان الندم على ما أَبطنوه، طريق أَسفهم على ما أَظهروه. 53 - (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ .... ) الآية. أَي: ويقول الذين آمنوا - مخاطبين اليهود على سبيل التقريع والتوبيخ - بعد ما هزموا ودارت الدائرة عليهم مشيرين إلى المنافقين بهذا الاستفهام: استهزاءً بهم وإِنكارا لصنيعهم واستبعادا له. (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ): أَهؤُلاءِ هم الذين حلفوا لكم باللهِ: مغلظين الأَيمان، مجتهدين فيها؛ إنهم ليكونون معكم بالعون والنصر على محمَّد إذا قاتلتموه؟

(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ): أَي بطُلت أَعمال هؤُلاء، وفسدت وذهبت سدى، فكانت عاقبة أَمرهم: خُسْرا في الدنيا، إِذ لم تقم للكافرِين دولة فينتفعوا بثمار مساعدتهم، وأَجر موالاتهم. وخُسْرا في الآخرة؛ أَي حُرِموا ثوابَ الإِيمان بالله، والإِخلاصَ في طاعته. وفيه عن التقريع لليهود، والاستهزاءِ بالمنافقين ما لا يخفى. ونظير هذا قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ" (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}. المفردات: (يَرْتَدَّ): يرجع عما هو عليه. (أَذِلَّةٍ): جمع ذليل؛ لين. رحيم. متواضع لا بمعنى مهين. أَي: رحماءَ متواضعين. (أَعِزَّةٍ): أَقوياء أَشداء. (لَوْمَةَ): المرة من اللوم. ولامه كدَّره بالكلام؛ لإتيانه ما لا ينبغي. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآيتان: 11، 12

54 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... } الآية. لما نهى القرآن الكريم عن موالاة اليهود والنصارى - فيما تقدم من آياته - وبيَّن أَن مَن يتولَّهم، فإنه يكون منهم - وذلك يقتضي الارتداد - وأوضح عاقبة الموالين من المنافقين، جاءَت هذه الآية: تبين حال المرتدين مطلقا. (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ): يأيها الذين آمنوا، مَن يرجع منكم عن دين الإِسلام إِلى الكفر، وإِنكَار ما جاءَ به الإِسلام من تكاليفَ: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ): بأُناس آخرين. (يُحِبُّهُمْ): يَرضى عنهم، إِذْ هداهم إلي خَيْرَيِ الدنيا والآخرة. (وَيُحِبُّونَهُ): ويحرصون على طاعته، وينصرون دينه ويبتعدون عن معاصيه. (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ): أي: هؤُلاءِ الأَقوام يكونون متواضعين للمؤْمنين، متذللين لهم: متعاطفين معهم، حافِّين عليهم، رحماءُ فيما بينهم: أَشداءُ على الكفار - أَقوياء في جهادهم. قال تعالى: " ... أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... " (¬1). (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ): أَي يجاهد هؤُلاءِ القوم - بإِخلاص نية وصدق عزيمة - في سبيل نصرة الحق. وإِعزاز الإِسلام وأَهله، حتى تكون كلمة الله هي العليا. ولا يخافون أَية ملامة من أَي لائم؛ لقوة تَدَيُّنِهم، ورسوخ يقينهم؛ لأَنهم لا يوالون أَحدًا إِلا الله بخلاف المنافقين فإِنهم كانوا يوالون اليهود حرصًا على أَنفسهم. ومخافة أَن تدور الدائرة على النبي وأَصحابه ومن ثَمَّ، لا ينتصر بهم، ولا يصلحون للدفاع عن الدعوة. ¬

_ (¬1) الفتح، من الآية: 29

(ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يَشَاَءُ): أي ما تقدم من الأوصاف العظيمة، والفضائل الجليلة، من محبة الله لهم، ومحبتهم لله تعالى، وحنوهم على المؤْمنين. والشدةِ على الكفار، والجهاد في سبيل الله - دون خشيةِ أَحد - إنما هو لطفُ الله وإحسانهُ: يتفضل - وحده - بمنحه من يشاءُ من عباده. وذلك بتوفيقه للعمل على تحصيله، والحرص على التحلِّي به. (وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ): كامِلُ القدرة، كثير الإِفضال، كامل العلم، محيط بكل شيء. فلا يعجزه أَن يأتيَ بمن يُحِبُّهُمْ ويحبونه، ولا يفوته العلم بمن هو أَهلٌ لذلك الفضل. وقد تحدثت الآية عمن يرتدون قبل أَن تقع ردتهم، فكان ذلك إخبارا عن مغيبات، وكان معجزة للرسول، وإعجازا للقرآن. وقد ارتد من العرب في أَواخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فرق: 1 - بنو مدلج: تحت رياسة الأسود العنسي؛ تنبَّأَ باليمن، ثم قتله فيروز الديلمي، في الليلة التي قُبض الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من غدها. 2 - بنو حنيفة: أَصحاب مسيلمة الكذاب، الذي تنبأَ فحاربه أَبو بكر - رضي الله عنه - وقتله الوحشي؛ قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت في جاهليتي خيرَ الناس، وقتلت في إسلامي شرَّ الناس. 3 - بنو أَسد: قوم طلحة بن خويلد، الذي ادعى النبوة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه لقتاله، فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أَسلم، وحَسُنَ إِسلامه. وفي خلافة أبي بكر الصديق ارتدت بعض القبائل العربية. وبعضها امتنع عن دفع الزكاة واعتبرها جرما. فرأى أَبو بكر رضي الله عنه قتال المرتدين والممتنعين عن دفع الزكاة، وشرح الله صدور المسلمين لهذا، وجهز الجيوش، واستطاع القضاء على هذه الفتنة، وضَمّ المسلمين بعد أَن كَادوا يتفرقون.

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}. المفردات: (حِزْبَ اللهِ): الحزب في اللغة؛ القوم الذين يجتمعون لأمر حَزَبَهم. وحِزْبُ الرجل: أصحابُه الذين يكونون معه على رأيه. وأظهرُ ما قاله المفسرون في بيان معناه: أنهم الذين يطيعون الله فيما أمَرَ ونَهَى، فينصرهم الله. التفسير 55 - {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}: بعد أن نهى القرآن الكريم المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياءَ؛ لأن بعضهم أولياءُ بعض، فلا يتصور أَن يخلصوا في مودة المؤْمنين، وبيّن أَن من يصافيهم يكون منهم، وأَن مودتهم تؤَدي إلى الارتداد. ثم بيّن حكمَ المرتدين مطلقا ... بعد ذلك، جاءَت هذه الآية، تبين أَن الوليَّ حقا الجدير بأن يستنصر به هو الله تعالى وحده. وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤْمنون. فإن الاستعانة بهم، استعانةٌ بالله تعالى. جاءت الآية بذلك - تحريضًا للمؤْمنين على الاستنصار بالله ورسوله والمؤْمنين، وتحذيرا من موالاة مَنْ تَجُرُّهُ مصافاته لغير المسلمين، إلى الردة عن دين الله.

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا): أي: إنما وليكم الجدير بالولاء، هو الله وحده، وكذلك رسوله والمؤْمنون. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ): أي الذين يحافظون على أداء الصلاة في أَوقاتها، وإِعطاءِ الزكاة لمستحقيها، وهم خاشعون خاضعون، منقادون لله في كل ما أمر به، ونهى عنه، فيؤَدون الصلاة تامة، مستوفية الأركان والشروط: في إِخلاص نية وصدق عزيمة. ويعطون الزكاة لأصحابها، من أفضل أموالهم، دون أن يُشْبِعوها مَنًّا ولا أذًى. وإنما قال: (وَلِيُّكُم) بالإفراد ولم يقل أولياؤكم - مع أَنهم في الآية جمع: الله، ورسوله، والذين آمنوا - لبيان أن الولاية حقًّا - وفي الأصل - لله تعالى وحده، والاستعانة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالمؤْمنين الصادقين، بطريق تبعيتها للاستعانة باللهِ تعالى. والآية عامة في حق جميع المؤمنين. فكل من كان مؤْمنا، فهو نصير لجميع المؤمنين. ونظيره قوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... " (¬1). وعلى هذا فقوله: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُوتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ): وصف لجميع المؤْمنين. والمراد تمييزهم من المنافقين، لأنهم كانوا يدّعون الإيمان، ولا يداومون على الصلاة والزكاة، قال تعالى: " ... وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ" (¬2). وخص الصلاة والزكاة - دون سائر العبادات - لأهميتهما من بين العبادات؛ لأَن الصلاة حق الله على عباده، والزكاة حق الفقراء على الأغنياء. ¬

_ (¬1) التوبة، من الآية: 71 (¬2) التوبة، من الآية: 54

56 - {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}: أَي وكل مسلم يوالي الله بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، ويتخذ منه نصيرا ومعينا. وكذلك كل مسلم يتخذ الرسول إِمامًا يَهتدِي بهديه، ويسترشد بإِرشاده، ويستنصر به وبالمؤْمنين ويصافيهم، ويخلص الحب لهم - فإِن هؤلاءَ المسلمين، هم الغالبون على أعدائهم؛ لأنهم حزب الله: الذين يطيعون أَمره، ويجتنبون نهيه: فكان لهم النصر على أعدائهم. وذكر (الله) باسمه الظاهر - دون الضمير، فلم يقل: فإِنهم هم الغالبون كما يقتضيه الظاهر - تشريفًا لِمَنْ وَالى اللهَ ورسولَه، ولإِثبات الغلبة لأَولياءَ الله بالدليل. إذ معناه: ومن يوالِ هؤُلاء - بالطاعة والمصافاة والاستنصار - فإِنهم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}. المفردات: (هُزُوًا): هَزَأ بفلان؛ سَخِر منه، واستخف به. واتخذه هزوا أَي: جعله موضع سخرية منه.

التفسير 57 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ... ) الآية. خطاب من الله - تعالى - لجميع المؤْمنين: يحذرهم فيه من موالاة من ليسوا على الحق مطلقا: سواءٌ من كان منهم صاحب دين غَيَّره وصرفه عن الصواب. تبعًا لهواه كأَهل الكتاب، ومَن لم يكن منهم له دين .. كالمشركين، فيقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ... ) الآية. أَي: لا تجعلوا - أيها المؤمنون - أولئك الذين تلاعبوا بدينكم من أَهل الكتاب والكفار واستهزءُوا به، وسخروا منه: بإِظهار الإِسلام بأَلسنتهم مع الإِصرار على الكفر بقلوبهم أولياءَ أبدا. وصدَّر أهل الكتاب في الذكر، لزيادة التشنيع عليهم، لأنهم أَعرف بالتديُّن السليم ممن سواهم، ممن كفروا ولا دين لهم. إذ مقتضى وصفهم بأنهم أهل كتاب أنزله الله عليهم أن يبتعدوا عن التلاعب بالدين الذي جاءَ به القرآن المصدق لكتابهم. فضلا عن أَن البشارة بالإِسلام، واردة عندهم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): أي: وخافوا - أيها المؤْمنون - عقاب الله، وحصّنوا أَنفسكم من الوقوع فيه. بالابتعاد عن المعاصي واجتناب المحرمات، إن كنتم مؤْمنين بالله حقا. فإِن الإِيمان الصادق، يقي صاحبَه من عذاب الله، ومن الجنوح إلى الولاء المحرم الآثم. ويدخل في هذا التوقِّي، النهي عن موالاة الكفار الآخرين من باب أولى.

58 - (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ): بعد أَن بينت الآية السابقة، استهزاءَهم بالدين مطلقا، جاءَت هذه الآية: تتحدث عن استهزائهم ببعض ما شرعه الله في هذا الدين من أحكام - واختارت الصلاة لأنها أكثر أركان الإِسلام مظهرا - إِظهارًا لغاية شقاوتهم، وفظاعة جرمهم. (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا): أَي: وإِذا أَذَّن المؤذِّن منكم - أيها المؤْمنون - لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، ليقبلوا على أدائها. استهزءُوا بهذه العبادة التي تشمل الأذان والصلاة جميعًا. وكانت لهم في الاستهزاء والسخرية، أَساليبُ متنوعة. منها كما رُوِىَ - أنهم كانوا حين يقوم المسلمون للصلاة يقولون: صَلُّوا ... لا صلَّوا ... قاموا ... لا قاموا. ومنها: أنهم كانوا يقولون: يا محمد، لقد ابتدعتَ شيئًا لم يُسْمَعْ به فيما مضى. فإن كنت نبيًّا، فقد خالفت - فيما أحدثت - جميع الأنبياءِ .. فمن أَين لك صياحٌ كصياح العير؟! (ذَلِكَ بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ): أي ذلك الذي تقدم - من الاستهزاء بصلاة المؤمنين والأذان لها - إنما وقع بسبب أنهم سفهاء لا يعقلون؛ لأن السفه يؤَدي إلى الجهل بمحاسن الحق، والاستهزاء به. ولو كان عندهم أدنى إدراك، أو أقل تعقل، لَمَا أَقدموا على هذه السفاهات، ولما ارتكبوا تلك الحماقات، ولَعَلِموا أن الصلاة - كما قال بعض الحكماء - أَشرف الحركات. فهي خضوع لله، ومَنجاةٌ، فضلا عن ربطها الوثيق للجماعات الإِسلامية، وإِشعار المسلمين بولائهم لله ورسوله وعامتهم. هذا إلى جانب ما في الصلاة، من تقوية روحية وبدنية، وتنظيمات عسكرية. وليس فيها شيء مما يدعو إِلى السخرية.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}. المفردات: (تَنقِمُونَ): تعيبون علينا وتنكرون منا. (الطَّاغوتَ): رأس الضلال. وقيل: الشيطان، أو كل معبود من دون الله. (مَثُوبَةً): المثوبة والثواب؛ الجزاءُ على الأعمال خيرها، وشرها. وكثر استعماله في الخير. التفسير 59 - (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ... ) الآية. بعد أن نهى الله المؤمنين عن موالاة الذين استهزءُوا بدين الإِسلام، وتلاعبوا به، جاءَت هذه الآية تقول لهم: ما الذي تعيبونه على الإِسلام وأَهله، وتكرهونه منه: مما يسوغ لكم اتخاذه هزوًا ولعبا؟، إِنكم - في واقع الأمر - لا تجدون شيئًا يعاب به. رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أَن نفرا من اليهود أَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤْمن به من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فقال أُومن بالله، وما أُنزِل علينا، وما أنْزِل على إِبراهيم وإِسماعيل، وإِسحاق ويعقوب والأسباط. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته. وقالوا: والله، مما نعلم أَهلَ دينٍ أقلَّ حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًّا من دينكم - فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها.

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ): أَمرٌ من الله تعالى لرسوله: أَن يقول لأَهل الكتاب، الذين استهزءُوا بالدين وكفروا به، خطابًا لهم على سبيل التعجيب: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا): أي: ما تنكرون منا وتعيبون علينا، إلا إِيماننَا بالله وبما أُنزل إِلينا من القرآن المجيد، وإِيماننَا بما أُنزِل من قبل إِنزال القرآن الكريم: من التوراة والإِنجيل المنزلين عليكم، وسائر الكتب السماوية وكذلك إِيماننا بأَنكم قوم فاسقون متمردون على الحق، خارجون عن الطريق المستقيم للصالح الإِنساني، مكذبون بنبوة محمَّد الذي بشرت به كتبكم وجاءَ لخلاصكم. وكان هذا القول على سبيل التعجيب، لأن هذه الأُمور التي أَنكروها. ليست بما يعاب وينكر، بل يجب أن تكون مما يُعلَم ويُحفظ، لأن الإيمان بالله، هو الأَصْل الذي عليه تُبنى جميع الطاعات .. والإِيمان بجميع الأنبياءِ، هو الحق والصدق الذي أمر الله به. وقد اتبعناه. والتزام الصالح الإِنساني، الذي لا يضل عنه إِلا فاسق فاجر. وأَما ما عليه هؤُلاء المستهزءُون: من التمرد والخروج عن الإِيمان، والكفر ببعض الرسل والإِيمان ببعض، فباطلٌ. وليس من الحق في شيءٍ. وهو الجدير بأَن يُعَاب وينكر. لأن كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم - وهو الذي جاء مصدقا لمن تقدمه من الرسل - كفرٌّ منهم برسلهم وبمكارم الأخلاق. وخاطبهم بقوله: (يَاَ أهْلَ الْكِتَابِ) توبيخًا لهم وتقريعًا، إذ مقتضى هذا الوصف أَن يؤْمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءَ به، وأَلَّا يستهزءوا به ويسخروا من الدين الذي ارتضاه الله تعالى - شريعة للناس جميعًا. محققة للصراط المستقيم، والسعادة البشرية. 60 - (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ... ) الآية. بعد أن أَمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أَن يبين لأهل الكتاب: أَن الأَساس الذي بنوا عليه إِنكارهم للدين الذي جاءَ به، كان يقتضي إيمانَهم به وكفرهم بما هم عليه

من الضلال، جاءَت هذه الآية الكريمة، تأْمره عليه الصلاة والسلام: أَن يبيِّن لهؤُلاء اليهود: أَن الجدير بالإِنكار حقا: ما هم عليه من الضلال الذي ألحقوه بشريعتهم. (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ): أَي قل يا محمد: ألا أُخبركم - أيها اليهود - بمن هم شرٌّ وأَسوأُ حالًا في العقوبة الثابتة المقررة لهم عند الله تعالى - وأَشدُّ نكالا يوم القيامة من المسلمين - في زعمكم الباطل أيها اليهود - هم أولئك الذين طَرَدَهُمُ الله من رحمته، وأَبْعَدَهم عن رضوانه، وحلّ عليهم سُخْطه، هم: (مَن لعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغوتَ): أَي: وجعل منهم من يشبه القردة في التقليد الأعمى، والخنازير في الانغماس في كل ما هو قذر ... وكذلك جعل منهم الذين عبدوا الكهنة ورؤَساءَ الضلال: الذين قادوهم إلى الكفر بما أنزل الله تعالى - من الهدى لإِخراج الناس من الظلمات إلى النور. (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ): أي: هؤُلاء الموغلون في الاتصاف بتلك القبائح والخبائث، التي أَوقعتهم في سوءِ المصير ... هم في شر المكانة، وأَحط المقام؛ في الدنيا والآخرة، وأَكثر انحرافا وبعْدًا عن الطريق المستقيم. وقد مهد بالاستفهام الذي خاطبهم به - لِمَا اراد إلقاءَه إِليهم - لشدِّ انتباههم، وإيقاظ أذهانهم، لبيان أَن للمخبر به شأْنًا خطيرًا؛ يستحق أَن يتلقاه السامع؛ بالحفظ والتدبر والرعاية. وليس في الدين الإِسلامي - ولا في أَهله - أَدنى شيءٍ من شر أو ضر، بل كله خير محض في نفسه. وأَتباعه خيّرون ما تمسكوا باتباعه .. وإِنما اعتبرت الشرية في قوله تعالى: (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) من باب المجاراة لهؤلاء المبطلين فيما اعتقدوه - لا فيما هو الواقع - لإِلزامهم بأَن ما هم عليه من الفساد، شرٌّ من كل محتمل .. ولو في زعمكم أيها اليهود الأشرار. على فرض أن في الإِسلام وأهله شرًّا كما تزعمون؟!.

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}. المفردات: (الإِثمِ): الذنب وكل المعاصي، ويطلق على الكذب. (وَالْعُدْوَانِ): مجاوزة الحد في الظلم. (السُّحْتَ): الحرام. (لَوْلَا): هلَّا. وهي هنا: للتحضيض. (الرَّبَّانِيُّونَ): العلماءُ العارفون باللهِ، ويكونون في اليهود وغيرهم. (الأحْبَارُ): علماء اليهود، وقيل: هما في اليهود، لأن الحديث لا زال متصلًا ببيان شأْنهم. التفسير 61 - {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ. . .} الآية. لا زال الحديث متصلًا في بيان جرائم اليهود منهم عامة، والمنافقين منهم خاصة. فقد جاءَت هذه الآيات الثلاث، تحكي في الآية الأُولى منها: بعض طرقهم في المكر والخداع.

كما تبين الآية الثانية: تسابقَ الكثيرين منهم إِلى ارتكاب المحرمات، وانخفاضهم إلى الحضيض الخُلُقي. وتنفي الآية الثالثة على علمائهم، عدمَ إرشاد عامتهم إِلى الصواب. مبينة أن الساكت على الشر هو وفاعلُه سواء في استحقاق العذاب. أسباب النزول: كان جماعة من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم - ويُظهرون له الإيمان؛ نفاقًا؛ لخداعه والمكر به, فإذا خرجوا من لدنه - عليه السلام - خرجوا بالكفر كما دخلوا، دون أَن يتأثروا بما سمعوه من هَدي الرسول وإِرشاده. فأنزل الله هذه الآية، لإظهار نفاقهم. والمعنى: وإِذا جاءكم - أَيها الرسول ومن معك من المؤْمنين - هؤُلاءِ اليهود، أظهروا لكم الإيمان بألسنتهم؛ نفاقًا لخداعكم. والحال أنهم خرجوا - من مجلسكم - وهم أشد تمسكًا بالكفر الذي ملأ قلوبهم حال دخولهم عليكم: متصفين به، لم يتأثروا بما سمعوه من نصح الرسول، وهدْيه وإِرشاده. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}: أَي والله أَعلم بما كتموه من الكفر، وبما أضمروه من الحرص الشديد على عداوة المسلمين وبغضهم، والجد في المكر بهم، وتدبير الكيد لهم، وإِلحاق أَبلغ الضرر بهم. وفيه من الوعيد الشديد لهم - بأشد أَنواع العقاب - ما لا يخفى. وفي هذا الموقف النفاقي، قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). 62 - {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. . .} الآية. هذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكل من تتوافر له وسائل الإبصار أَو العلم بأحوالهم، بيّن الله تعالى فيه، حال كثير من هؤُلاء اليهود المنافقين. وهبوطهم الإنساني. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، آية: 72

أَي وترى يا محمد، كثيرا من هؤُلاءِ اليهود مسارعين إِلى ارتكاب الإِثم - أَي الكذب أو ارتكاب جميع المعاصي والمحرمات، وبخاصة نوعين من أَشد المحرمات قبحًا. هما: العدوان ... وأكْل السحت. أما العدوان: فهو مجاوزة الحد في الظلم. ومصدره الأنانية الكافرة. وأما السحت: فهو أكل الحرام. وأَظهرهُ الربا وأَخذ الرشوة. ومصدره الأثرة الفاجرة. وخُصَّا بالذكر - بعد دخولهما في جميع المعاصي - للمبالغة في إِظهار قبحهما. وخطورتهما على المجتمع البشري. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي: إِن استمرارهم على ارتكاب تلك المعاصي زاد أَعمالهم قبحًا، وزادهم أَهلية للذم والتوبيخ. قال تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ): ولم يقل وتراهم؛ لأَن قليلًا منهم كانت فيهم إنسانية فيستحيون، فيتركون المعاصي. وأَكثر ما يستعمل لفظ المسارعة، في الخير. قال تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ... } (¬1) وقال تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ... } (¬2) فاستعماله هنا، يدل على أَنهم كانوا يرتكبون المعاصي - وكأَنهم على حق فيما يفعلون. كما أَفاد التعبير بلفظ (في)، دون (إلى) أَنهم كانوا حريصين أشد الحرص على إِتيان المحرمات. إذ المعنى: أَنهم مستقرون في المعاصي، منغمسون فيها. وكذلك أَفاد التعبير بلفظ (يُسَارِعُونَ) أَنهم كانوا يتسابقون: مسرعين إِلى الكفر وارتكاب هذه الآثام. 63 - {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ. . .} الآية. بعد أَن بينت الآية السابقة: أَن كثيرا من اليهود، كانوا يتسابقون إِلى ارتكاب المعاصي والآثام. جاءَت هذه الآية: تنعي على علمائهم، عدا النهي عن ارتكاب المعاصي والآثام. ¬

_ (¬1) المؤمنون، من الآية: 56 (¬2) المؤمنون، من الآية: 61

{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}: أي: هلَّا قام أولئك العلماءُ بالنهي عن التسابق إلى ارتكاب المعاصي والانغماس في الشهوات؟! والمراد من هذا الأسلوب، تحريض العلماءِ على القيام بهذا النهي، وتوبيخهم على تركه، وتعطيل وظيفة العلم. وهذا يتضمن - بالنسبة لعلمائهم المقصرين - نعيًا على تقصيرهم في النهي والإِبلاع. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: أَي: إن استمرار العلماءِ على ترك النهي عن المنكر، أقبح ما صنعوه، وأجدره بالذم واللوم والإنكار. ويحتمل أن العموم في (كَانُوا) فيعم اليهود جميعًا. فعلى الأول المراد أَن الله سبحانه، أنكر على علماء أهل الكتاب، واستبعد منهم - عدمَ قيامهم بنَهْيِ المتسابقين إلى ارتكاب المعاصي والمحرمات. وقد دل ذلك على أَن تارك النهي عن المنكر - ومرتكبه - في الذم سواءٌ. بل إِن الذم على ترك النهي عن المعاصي، أَشد وأقوى؛ لأن الله تعالى، قال في ذم من يأتون المعاصي: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. وقال في ذم العلماءِ الذين لا ينهون عن المنكر: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. والصنع أقوى من العمل؛ لأن الصنع عملُ الإِنسان، بعد التدرب عليه، والتروي في إتقانه، والتحري في إجادته، حتى يصير مستقرا في النفس، راسخا فيها. وأيضًا كان الذم على ترك النهي عن المنكر أَشدَّ؛ لأن العالم يقوم بالنهي عن المنكر حِسْبة ابتغاء رضوان الله. فكان تركه أَقبحَ من إِتيان المعصية، لميل النفس إِلى فعلها، تحقيقا للَّذة الفانية، ولا كذلك الساكت على المعاصي، التارك لإنكارها. فكان - لذلك - جديرا بأبلغ الذم وأشد التوبيخ. عن ابن عباس - رضي الله عنه - هذه أشد آية في القرآن، أي: على تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوفَ عندي من هذه الآية، أي بالنسبة لمن يتركون النهي عن المنكر. وروى الترمذي في صحيحه بسنده عنه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوُا الظالِمَ وَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أوْشَكَ أن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ". قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬1). {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64). المفردات: {يَدُ اللَّهِ}: اليد في كلام العرب تكون؛ للجارحة، وللنعمة، وللقوة، وللقدرة، وللصلة، وللتأييد، وللنصرة. {مَغْلُولَةٌ}: الغُل؛ قيد من الجلد، أَو الحديد يوضع في اليد أو العنق. ومرادهم بذلك: أنها مقبوضة بخيلة بالعطاء. {مَبْسُوطَتَانِ}: البسط؛ المد بالعطاءِ. والمراد منه هنا؛ الجود والإعطاءُ. {أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ}: أَوقد النار؛ أَشعلها. والمراد هنا، آثاروا الفتن، ودبروا المكائد التي تؤدي إلى وقوع الحرب بين الناس. ¬

_ (¬1) المائدة الآيتان: 78، 79

التفسير 64 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. . .} الآية. لا زال الحديثُ متصلًا في بيان جرائم اليهود، وما استوجبوه من الإهانة والذل في الدنيا، والعذاب في الآخرة. فقد جاءت هذه الآية، تتحدث عن نوع آخر من أَشنع جرائمهم. قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: "إن اللهَ وسَّعَ عَلَى اليَهُودِ في الدُّنْيَا، حَتى كَانُوا أكْثَرَ الناسِ مَالًا. فَلَمَّا عَصَوُا اللهَ، وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلم وَكذَّبُوه، ضَيَّقَ اللهُ عَلَيْهِمْ في زَمَنِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وسلم، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه - من يهود - يد اللهِ مغلولةٌ. فأنزل الله هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: مغلولة أي: مقبوضة بالعطاءِ. كناية عن البخل والإمساك. أَي: إِن الله بخيلٌ علينا بما عنده من المال والعطاء والرزق. أَو المراد بهذا: أَنه فقير، لا يجد ما يعطيه لنا، ليتفق مع ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: { ... إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ... } (¬1) وقد عاقب الله هؤُلاء اليهود بعقاب من جنس عملهم، جزاءً وفاقا حين قال عنهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}: والمراد إلصاقهم بالبخل والنكد، والمسكنة والعجز، والطرد من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة. والبعدِ عن رضوانه. بسبب قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. وكما يراد منه الدعاء عليهم بالبخل والعجز, يجوز أَن يكون المراد به الدعاء عليهم: أن تُقَيَّدَ أَيديهم في الدنيا حقيقة. بأخذهم أَسارى، ويوم القيامة يسحبون في النار على وجوههم بأغلالهم. ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 181

وقد حقق الله قضاءه فيهم. فكانوا أبخل الناس في الدنيا. وأحرصهم على المال. وباءوا في الآخرة بالخلود في النار. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}: أي: ليس الأمر كما يزعم هؤلاء اليهود. بل هو سبحانه. في غاية ما يكون من الجود والغنى .. نِعَمُهُ الظاهرة والباطنة منتشرة بين الناس جميعًا: تغمرهم بفيضها، وتمتد عليهم في الدنيا والآخرة بظلالها. لا تغيض ولا تنفد. وقد أشير بتثنية اليد إلى تقرير غاية جوده وغناه. فإن أَقصى ما تصل إِليه همة الجواد السخى, أَن يُعطىَ ما يعطيه، بكلتا يديه. وفي قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} تأكيد لكمال جوده وغناه , وتقرير لهما ... إِذ معناه أَنه تعالى يرزق كما يريد: إن شاءَ وسّع والعطاءِ، وإِن شاءَ ضيقه. فعطاؤه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي شاءَ الله أن يقوم عليها نظام الدنيا والآخرة. وليس ضيق العيش لنقص في خزائنه. ولا لإِمساك الخيرِ والبخل به عن عباده. وإنما هو لحكمة يعلمها ولا نعلمها. قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (¬1) وقال تعالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمِينُ اللهِ ملأى لَا يَغِيضُهَا سَخَاءُ اللَّيل والنهارِ. أَرَأَيْتمْ مَا أَنفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ!! فَإِنَّه لمْ يَغِضْ مَا في يَمِينِهِ - قال - وَعَرْشُهُ عَلىَ الماءِ, وبيده الأخرى القبض. . . يَرْفع وَيخفضُ" (¬3). {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: المراد بالكثير: علماءُ اليهود ورؤَساؤهم. وهم طغاة كافرون. ولكنهم يزدادون شدة في الكفر، وغلوًّا في الإِنكار والطغيان، كلما سمعوا آية أَنزلها الله إِليك. ¬

_ (¬1) الشورى , الآية: 27 (¬2) آل عمران، الآية: 26 (¬3) أخرجه الإِمام مسلم.

أو المراد بالزيادة أَنهم يضمون - إِلى كفرهم وطغيانهم القديمين - كفرا جديدا، وطغيانا جديدا؛ لأَنهم كلما سمعوا آية أَنزلها الله إِليك، كفروا بها .. قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} (¬1). {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: أَي: أوقعنا بين طوائف اليهود، الخضومةَ الشديدة بقوة , ومكَنَّا في قلوبهم , بُغْضَ بعضهم بعضا. بسبب جرائمهم. فلا تتوافقُ قلوبهم , ولا تتطابق أَقوالهم أَبدا إِلى يوم القيامة. ولقد كانوا كذلك طوال تاريخهم. منذ أَن أَرسل الله إِليهم الرسل، ودأَبوا على قتل الأنبياء بغير حق، إِلى أَن أَرسل الله خاتَمَ الأَنبياء محمدا صلى الله عليه وسلم، بالنور والهدى فكذبوه، واستمروا على اقتراف جرائمهم، وازدادوا فيها. قال تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ... } (¬2). إِذ يستفاد من هذه الجملة الكريمة. دفع ما عساه يخطر بالبال, من أَثر شدتهم في الكفر وغلوهم في الطغيان، من أَنهم قد يجتمعون على أَمر يؤدي إِلى الإِضرار بالمسلمين، - فدفع هذا الخاطر - ببيان أَنهم لا يجتمعون على كلمة أَبدا. ثم بين سبحانه، أَن دأبهم على إِشعال نار الحروب والفتن بين الناس، وتدبير المكر السيىءِ لا يعود عليهم إلا بالخيبة والهزيمة، بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}: أي: كلما همُّوا بحرب الرسول ودبروا لإيذائه وركبوا كل صعب وسهْلٍ في سبيل ذلك ردّهم الله وقهرهم بإِلحاق الهزيمة بهم. أَو أَوقع الله بينهم نزاعا فَرَّقهم , فكف الله به عنه شرهم. أَو كلما حاربوا أَحدا أَو جماعة غُلِبُوا وهزِمُوا!! وقد كان أَمرهم كذلك على مدى التاريخ. ¬

_ (¬1) التوبة، الآيتان: 124، 125 (¬2) الحشر، من الآية: 14

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: ولقد كان شأنهم أنهم يجتهدون في تدبير الكيد، وإثارة الفتن، وهتك المحارم، قصدا إِلى نشر الفساد في الأرض. والله لا يرضى عن كل من يعيثون في الأرض فسادا: فلا يرضى عن عبث اليهود وجرائمهم. فلا يجازيهم إلا شرًّا. ومنذ القدم واليهود كلما جمعوا جموعهم، وأعدوا عُدتهم لإيذاءِ الناس، أو إشعال نار الفتنة على عباد الله شتَّت الله شملهم، وخيّب رجاءَهم، ودمّر كيدهم. والتاريخ أكبر شاهد على صدق ذلك، وإلا كانوا أهلكوا العالم. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}. المفردات: {أقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: نفَّذوا ما فيهما من الأَحكام التي شرعها الله لخير الإِنسانية، والتزموا بالمحافظة على أدائها. {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: المراد لوسَّع الله عليهم أرزاقهم. {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ}: الاقتصاد في اللغة؛ الاعتدال من غير غُلُوّ ولا تقصير؛ أَي من اليهود طائفة معتدلة، وهم الذين آمنوا إيمانا حقيقيا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}: كثير من اليهود ظَلُّوا على الكفر وأفرطوا في العداوة والبغضاء فبئس ما عملوا.

التفسير 65 - {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: أي: ولو أن أصحاب الكتاب - مع ما اقترفوه من أنواع الجنايات قولا وفعلا - آمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وبما جاء به، وحفظوا أنفسهم من عقاب الله بترك الكفر، وسائر المنكرات التي حكاها القرآن عنهم، وأقبلوا على طاعة الله تعالى بصدق وإخلاص، ولم يأتوا بالإِيمان نفاقًا لغَرضٍ من أغراض الدنيا - لو آمنوا على هذا النحو- لرفع الله عنهم عقابَ ما ارتكبوه من الجرائم، وإن بلغت غاية القبح ومنتهى الكثرة والشناعة. ولأكرَمَهُم بإدخالهم جناتِ النعيم دخولا مؤَكدا، على كثرة ما سبق من معاصيهم. إذ الإِسلام يزيل آثار كل ما سبقه من الذنوب والآثام وإن كثرت وجاوزت كل الحدود. وتلك هي السعادة العظمى في الدار الآخرة. وذِكْرُهم بأنهم أَصحاب كتاب , لزيادة التشنيع عليهم. إذ مقتضى ذلك: أَن يؤْمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم - هذا الرسول الذي عَرَفوه بوصفه في كتبهم. 66 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. .} الآية. ولَمَّا بينت الآية السابقة: أَنهم لو آمنوا لفازوا بسعادة الآخرة، جاءت هذه الآية تبين أَنهم لو وفوا بعهود الله، وأذاعوا صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم - وأقاموا ما لا يتعارض مع القرآن من أَحكام التوراة والإنجيل , وآمنوا بسائر الكتب المنزلة إليهم من عند الله - لفازوا بسعادة الدنيا، وغمرتهم جنَّاتُها وعمتهم طيباتُها. والمعنى: ولو أَن أَصحاب الكتاب عملوا بما في التوراة والإِنجيل من الوفاءِ بعهود الله وأَقروا باشتمالهما على صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم ودلائل بعثته، والتزموا بأحكامهما وحدودهما الصحيحة المتفقة مع القرآن المجيد، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، والتزموا كذلك

بالقرآن الكريم المصدق لكتبهم، المنزل إليهم - لأنه منزل إِلى الناس جميعًا - وليس كما يزعمون من أَنه لم يُنْزَل إلى بني إسرائيل، وآمنوا أَيضا بسائر الكتب المنزلة على بني إسرائيل. {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: أي: لو أقام أهلُ الكتاب التوراةَ والإِنجيل، وسائرَ ما أنزلَ الله إليهم، على النحو الذي تقدم، لوسَّع الله عليهم أرزاقهم، ولأفاض عليهم من بركات السماءِ والأرض، ولفازوا بسعادة الدنيا وغمرتهم طيباتها، وجاءَهم الخير من كل مكان , فوق فوزهم بتحقيق وعد الله لهم بسعادة الآخرة. ثم بيّن سبحانه، أن أهل الكتاب لم يكونوا جميعا مُصِرِّين على الكفر وعدم الإيمان, بل منهم طائفة آمنت، وكثير منهم ظل على إساءَته وعناده بقوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}: أي: من أَهل الكتاب طائفة معتدلة: لم تغل ولم تقصر، وهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاءَ به، وبسائر الكتب التي أنزلها الله على رسله، فكانوا بذلك على النهج السليم، والطريق المستقيم دون إِفراط أَو تفريط. وكما كان من أهل الكتاب أَمة وسط: استقامت على منهج الحق. والْهُدَى، كان كثير منهم ما أَسوأَ عَمَلَهُم! إِذ أَفرطوا في عنادهم وعداوتهم، وظلوا على كفرهم، وأكثروا من فعل السيئات، ولَجّوا في طغيانهم يعمهون، وأَعرضوا عن الإِيمان , مع ما يحققه لأهله من السعادة في الدنيا والآخرة.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}. المفردات: {يَعْصِمُكَ}: يحفظك وينجيك. التفسير 67 - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. .} الآية. خاطب اللهُ نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم، بعنوان الرسالة في هذه السورة الكريمة مرتين: دعاه في الأُولى منهما , إِلى عدم الحزن على مسارعة الكفار في إنكار رسالته. وذكر له أمثلة عديدة, مما فُطِروا عليه من مكابرة وعناد، وإمعان في الضلال. سواء أَكانوا من أَهل الكتاب أَم المنافقين أَم المشركين. ودعاه بها في هذه الآية مناديا إِياه بهذا النداءِ الكريم، إلى تبليغ جميع ما أنزله الله عليه من آياته البينات، ولم يُعيِّن مَنْ يبلغهم؛ لبيان عموم رسالته، للبشر أَجمعين. وإِضافة لفظ الرب إِلى الضمير العائد على الرسول؛ تكريمٌ له وإشعارٌ بأَن رسالته صادقة، واجبة الأَداءِ، وإِيذانٌ له بأَن ربَّه سيحفظه ويرعاه. {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}: وإِن لم تُبلِّغ الرسالة - بأَن كتمتها أَو بعضها أَو أَخَّرْتَه أَو بدَّلْتَه - فما تكون قد بلغت، وتكون غيرَ أَهل لحمل الأَمانة.

وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه، أن يقصّر في حق الله تعالى، فقد أَدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وهذّبه فأحسن تهذيبه قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } (¬1). والمراد هنا: بيان أنه صلى الله عليه وسلم، أدى رسالته كاملة، فلا مجال لزيادة فيها أو نقصان. جاءَ في الصحيحين: أن سائلا سأل الإِمام عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا ما كان في كتاب الله؟ فقال: "لاَ وَالَّذِى فَلَقَ الْحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيه اللهُ رَجُلًا في الْقرْآنِ وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَة" (¬2). وروى البخاري والترمذي: "مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدًا كتَمَ شَيْئًا مِمَّا أنْزِلَ عَلَيْهِ، فَقَدْ كَذَبَ". وروى الشيخان أَن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: [لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الْوَحْيِ، لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ... } (¬3) لما فيها من عتاب شديد للنبى صلى الله عليهِ وسلم]. وكما أَن هذه الآيةْ تُبَيِّن أَن الرسول لم يكتم شيئًا من الوحي عن أحد من الناس، فإِن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬4) يدل على أَن الله تَكفَّل بحفظ كتابه الكريم؛ الذي أمر الرسول بتبليغه فبلغه. قال الزهرى - فيما رواه البخاري - "مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ. وَعَلَى الرَّسُولِ البَلَاغُ. وَعَلَيْنَا التسْلِيمُ. وَقدْ شَهدَت أمتُه لَه بتَبْليغ الرِّسالَةِ في حجة الوداع" وقد أَدى هذه الشهادة أَربعون أَلفا حضروا معه حجة الوداع. ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية: 124 (¬2) ما في الصحيفة هو: دية القتل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. وهو تشريع عام جاءت به السنة الشريفة. (¬3) الأحزاب، من الآية: 37 (¬4) الحجر , الآية: 9

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}: إن القرآن الكريم، فضح أكاذيب المنافقين، وسفّه أحلام المشركين، وأظهر انحراف اليهود والنصارى عن الصراط القويم، مما حمل الجميع على مقاومة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إعلان الحرب عليه، أو محاولة اغتياله. وهو لا يبالى بما يلقاه في سبيل الله، ولكن الله سبحانه، زاده اطمئنانا بأنه سيمكّنه من أداءِ رسالته كاملة، وأنه سيحفظه ويرعاه, حتى يلقى الله. رَوَى الترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم: أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم، حَرَسٌ يحرسونه فلما نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أخرج رأْسه من القُبّه، فقال لحرَّاسه: "يَأيها النّاسُ انصرِفُوا فَقَدْ عَصَمنِي اللهُ". {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ رسالته، وطمأنه بأَن الله سيحفظه ويرعاه، فلا عليه بعد هذا من أعدائه الكفار، وإن الهدى هدى الله. والله لا يهدي من ظلموا أَنفسهم بالتزامهم الإِمعان في الكفر، واللجاج في العناد، والإِصرار على الإِلحاد. {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}. المفردات: {حَتَّى تُقِيمُوا}: حتى تؤدوا أَداءً كاملا على أحسن وجه. {طُغْيَانًا}: الطغيان؛ تجاوز الحد في الضلال. {فَلَا تَأْسَ}: فلا تحزن.

التفسير 68 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. . .} الآية. أمر الله رسوله أن يخبر اليهود والنصارى، بأنهم ليسوا على شيءٍ من العقيدة الصحيحة حتى - أَي إلى أن - يلتزموا بما أنزل الله في كتبه من التوراة والإنجيل وبما ورد فيهما من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وحتى يؤمنوا بالقرآن الكريم الذي جاءَ مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه. وحتى يلتزموا الإِيمان بجميع الرسل، وعدم التفريق بينهم. والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (¬1). ومن المعروف: أن اليهود والنصارى حرَّفوا التوراة والإنجيل, ولم يعملوا بما بقى بين أيديهم منها، فارتكبوا المنكرات، واتبعوا الشهوات. والآية - وإن كانت واردة في أهل الكتاب - فإِن فيها تحذيرا عامًّا لكل من لا يقيم حدود الله. {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: كان الأَولى باليهود والنصارى؛ أَن يؤْمنوا بما أَنزله الله إِليك؛ لأَن الحق فيه واضح بيَّن، مؤَيَّدٌ بالإِعجاز؛ ولأَن البشارة بك واردة في كتبهم. ولكنهم أَمعنوا في الضلال والإِضلال، وجاوزوا الحدَّ في الكفر والعناد. وبدلا من أَن يزدادوا إِيمانا بما أَنزله الله إليك، ازدادوا إِمْعانا في الضلال والجحود، ولَجَاجا في الكفر والعناد, إِلا قليلًا منهم استجابوا للحق، فآمنوا بما أَنزله الله عليك من الآيات البينات. وبقى الكثيرون على ضلالهم القديم. ¬

_ (¬1) النساء، الآيتان: 150، 151

{فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: فلا تحزن على من تَمكَّن الكفرُ فيهم، وصَيْرُورته وصفا لازما لهم. وحسبك الله ومن اتبعك من المؤْمنين. ولم يقل: فلا تأس عليهم. بل ذكر لفظ {الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: لإِبراز علَّة ضلالهم، وأَنهم لهذا غير جديرين بالحزن عليهم. وفي هذا ما يدل على عظمة الحنان النبوى بالبشرية كلها, لخوفه عليها من الكفر والانحراف. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} المفردات: {الصَّابِئُونَ}: المائلون من عقيدة إِلى عقيدة، والمراد؛ أَتباع بعض الرسالات السماوية السابقة. التفسير 69 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى. . .} الآية إِن أَتباع الديانات السماوية: من المؤْمنين برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم. ومن اليهود المتمسكين برسالة موسى عليه السلام، قبل المسيحية ممن لم يحرفوا كتب أَنبيائهم.

ومن الصابِئين الذين تمسكوا بملة إِبراهيم عليه السلام - قبل نسخها. ومن المسيحيين الذين تمسكوا بالمسيحية ولم يحرفوها قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هؤُلاءِ جميعًا إِذا آمنوا باللهِ تعالى. إيمانا صحيحا غير ملتبس بالشرك واستمسكوا بهذا الإِيمان، واتبعوا أنبياءَهم وما جاء على أَلسنتهم من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به عند مبعثه، وآمنوا بالبعث والنشور، وبالجنة والنار وما فيهما من جزاءٍ، وعملوا الأَعمال الصالحة التي يقتضيها الإِيمان باللهِ واليوم الآخر، طبقا لما ورد في الكتب المنزلة السليمة من التصحيف والتحريف - إن هؤُلاءِ جميعًا - يظفرون بالثواب الجزيل على ما قدموه من إِيمان وعمل صالح، ولا خوف عليهم من عقاب، ولا يعتريهم حزن من سوءِ الجزاءِ. فلا يخافون بَخْسًا ولا رهقا، ولا يحزنهم الفزع الأَكبر (¬1). ورفَعَ: {الصَّابِئُونَ} إِبرازا: لأنهم - أيضا - ناجون، شأنهم شأن المؤْمنين والنصارى واليهود، ودفعا لما يسبق إِلى الأَذهان من أَنهم عبدة أَوثان. {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} المفردات: {مِيثَاقَ}: الميثاق، العهد القوي. {فِتْنَةٌ}: الفتنة؛ الاختبار بالنار. ومعناها - هنا - العذاب. ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية: 62 من سورة البقرة.

التفسير 70 - {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا. . .} الآية. أَكد الله سبحانه - قصة أَخذ العهد الوثيق على بني إسرائيل بعبادته وحده، وأَداءِ جميع أَوامره، واجتناب جميع نواهيه، وأن ينفذوا هذا بقوة، قال تعالى: { ... خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). وقد أشار القرآن الكريم - عدة مرات - إِلى هذا الميثاق ونقضهم له (¬2). وقد وردت إشارة كاملة إلى هذا الميثاق في "سفر تثنية الاشتراع" وهو أَحد أَسفار التوراة الباقية بأَيديهم (¬3)، وكلها مع ما أَشار إليه القرآن الكريم. ولم يكتف الله - سبحانه وتعالى - بأَخذ الميثاق عليهم بل أَرسل إليهم رسلا عديدين يذَكِّرونهم به، ويَدْعونهم إليه ويُنْذِرونهم بالعقاب الأَليم، الذي ينتظرهم إذا هم عادوا إِلى نقضه , بحيث لم يبق لهم عذْرٌ في مخالفته بعد أَن أَخذه الله عليهم، ونَبَّهتهم الرسل العديدون إليه. {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}: ولكنهم لم يكتفوا بنقض الميثاق، بل كانوا يجابهون رسلهم بالتكذيب والجحود، إِذا دعَوْهم إِلى ما يخالف أَهواءَهم وشهواتهم، ولم يقتصروا على التكذيب، بل قتلوا بعض هؤُلاءِ الأنبياءِ. والتقدير: كلما جاءَهم رسول بما يخالف أَهواءَهم، استكبروا ولجُّوا في العناد، فكذبوا فريقا من الأَنبياء، وقتلوا فريقا منهم. كما قال تعالى لهم: { ... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 171 (¬2) راجع تفسير الآيات: 83 - 87 من سورة البقرة. والآيتين: 12، 13 من سورة المائدة. (¬3) الإصحاح: 29 - 33 (¬4) سورة البقرة، من الآية: 87

والتعبير بالفعل المضارع {يَقْتُلُونَ}: لاستحضار فظاعته في الذهن، ولأن آثاره تمتد من الماضي السحيق إلى المستقبل البعيد. 71 - {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا. . .} الآية. أي: وظن اليهود أَلا يكون عليهم - في قتلهم أَنبياءَهم وتكذيبهم لهم - عذاب، فعموا وصموا عن الحق، فلم يتبصروا في آياته الكونية ولم يسمعوا آياته التنزيلية , وظلوا سادرين في غيهم. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ}: أَي: ثم قبل الله توبتهم لما رجعوا إِليه. ثم رجعوا إلى ما كانوا فيه من غي، فَعَمى كثير منهم وصَمُّوا مرة أُخرى، وأوغلوا في الفساد. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: فيعاقبهم بما صنعوا من الآثام والمعاصي. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)}. التفسير 72 - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. . .} الآية. بعد أَن تحدث الله عن اليهود، ونَقْضِهم الميثاق، وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء، ذَكَر مَن انحرف من النصارى عن التوحيد، وادعى أن الله هو المسيح ابن مريم.

والمعنى: لقد كفر الذين زعموا من النصارى أن الله هو المسيح ابن مريم. مع أنه بشر والبشر لا يصح أن يكون إِلها. ونسبة المسيح إلى مريم، للإِيذان بأنه ليس له حظ من الأُلوهية. {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}: قالوا هذا - على الرغم من أن المسيح عليه السلام، قال لهم: اعبدوا الله ربي وربكم .. وقدم ربوبية الله تعالى إليه على ربوبيته - عز وجل - إليهم، للدلالة على أَنه بشر مثلهم. ولهذا عطفهم عليه. ونحن نوقِن - بل نؤمن - بأن الأناجيل الباقية، قد تطرَّق إليها التحريف والتغيير والتبديل، وزخرت بالمتناقضات، ولكنها بقيت فيها - مع هذا - بقية ناطقة بالتوحيد تؤَيد ما قررته هذه الآية والآيات الأخرى الكثيرة الكريمة: فمما في الأناجيل، ما قاله المسيح - عليه السلام - "وهذه هي الحياة الأبدية: أَن يعرفوك أنت الإِله الحقيقي وحدك. ويسوع: المسيح الذي أرسلته" (¬1). وقوله: "وأنا إِنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" (¬2). وقوله: "للرب إلهك نسجد وإياه وحده نعبد" (¬3). وقوله: "ليس لأعمل لمشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني" (¬4). والأمثلة عديدة لا يتسع لها المجال. {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}: دعاهم المسيح - عليه السلام - إلى أن يعبدوا الله وحده؛ لأَنه ربه وربهم , كما تقدم. وفي هذا الجزء من الآية، أنذرهم بأَن الله قضى - ولا رادّ لقضائه - أن الله حرّم دخول الجنة على من أشرك في عبادته أحدا من خلقه، وأَن مقرّ المشركين - جميعًا - في نار جهنم. ¬

_ (¬1) يوحنا: 17 - 30 (¬2) يوحنا: 8 - 40 (¬3) متى: 4 - 10 (¬4) يوحنا: 6 - 38

والجملة مؤَكدة. ويعززها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬1). {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: تعقيب من كلام الله سبحانه جاءَ تأييدًا لدعوة عيسى - عليه السلام - ببيان أن من ظلموا أنفسهم فقابلوا نِعمَه - سبحانه وتعالى - المتوالية عليهم بالكفر، لا ينقذهم أَحد من عقابه ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، فإنهم سيلقَوْن الله جميعًا يوم {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (¬2). {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} التفسير 73 - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. . .} الآية. نصت الآية على كُفْر مَن قال: إن الله ثالث ثلاثة. والتثليث: هو العقيدة السائدة بين الطوائف المسيحية، حيث يطلقون على الله - سبحانه - لقب الأب، ويشركون معه الابن وهو عيسى - عليه السلام - وروح القدس. أما الرد على دعواهم أن المسيح ابن الله؛ لأنه ورد وصفة بهذا أربعا وأربعين مرة في العهد الجديد - وهو يضم الأناجيل الأربعة والرسائل الملحقة بها - فهو أن هذا اللقب فيه، لم ينحصر في المسيح عليه السلام، ولم يقتصر عليه، بل أطلق: ¬

_ (¬1) النساء، الآية: 48 (¬2) البقرة، من الآية: 123

على آدم - عليه السلام. وعلى إسرائيل حيث أطلق عليه لفظ (ابن الله البكر). وعلى داود عليه السلام. كما أطلق فيه على الملائكة وعلى المؤمنين جميعًا. فلم يكن مقصورًا على المسيح - عليه السلام. ومع هذا، فقد ورد أيضًا في العهد الجديد وصف المسيح - بما يقرب من ضعفي هذا العدد - بأنه ابن الإِنسان ثمانية وسبعين مرة (¬1). وطبيعي أن هذين الوصفين، يهدمان البنوة بمعنى الألوهية. وإذا انهدمت البنوة فقد انهدمت تبعًا لها الأبوة. أَما روح القدس: فهو جبريل عليه السلام، وهو من الملائكة المقربين - وهو بهذا من خَلْق الله - وكلامهم فيه مضطرب مختل. وأَما كلمة التثليث: فقد اعترف كبار علماء اللاهوت - في قاموس الكتاب المقدس - أنها: "لم ترد في الكتاب القدس. ويُظنُّ أن أولَ من صاغها واخترعها واستعملها، هو ترتليان، في القرن الثاني للميلاد. وقد خالفه كثيرون. ولكن مجمع نيقية أقر التثليث سنة 325 ميلادية. ثم استقر التثليث - بعد ذلك - عند الكنيسة السيحية، على يد أوغسطنيوس في القرن الخامس" (¬2). ومن هنا يتضح أَن التثليث نبت بعد المسيح عليه السلام، بأكثر من ثلاثة قرون وربع القرن، وأنه دخيل على المسيحية الحقة الموحدة. وبهذا استحق القائلون به الحكم عليهم بالكفر الصريح. وقال كبار الباحثين: إن التثليث تسرَّبَ إلى المسيحية من العقائد الوثنية الهندية القديمة. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}: والحق أنه لا يمكن - عقلا - أن يكون الإله إلاَّ واحدا. ¬

_ (¬1) راجع قاموس الكتاب المقدس: 108، 109 (¬2) قاموس الكتاب المقدس 232، 233

أَما تعدد الآلهة، فهو وصم لها بالقصور؛ لأن قدرة كل منهم تكون - حينئذ - مقيدة بقدرة الآخرين، والإِله لا يكون محدود القدرة والسلطان. ولو فرض اتفاق الآلهة على ما يخلقون، فإِن كان كلُّ واحد منهم قادرا على ما يقدر عليه الآخر، فما فائدة التعدد؟ وإِن كان كل منهم عاجزا، فلا يصلحون - جميعًا - للألوهية. وإِن كان البعض قادرا والبعض عاجزا، فالقادر هو الإِله وحده. وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}: معناه: أَنه لا يمكن أن يكون الإِله سوى إِله واحد. كما ذكرنا في الأَدلة السابقة. {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هذا تهديد للقائلين بالتثليث، وإنذار لهم بأَن عليهم أَن يستجيبوا للوحي السماوي الصادق: الذي يؤَيده العقلُ السليم، والنظرُ الدقيق. وهو التوحيد. فإِن لم يرجعوا إِليه، فإِن الله سبحانه، سيأخذهم بعذاب مؤْلم، جزاء كفرهم القبيح. وجواب الشرط مؤَكد بلام القسم ونون التوكيد وتنكير العذاب، ووصفه بالإِيلام، لإِيراد شدته وهَوْلِه. ووعد القرآن الكريم بقوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ}، ولم يقل ليمسنهم، بأَن هذا الوعد بسبب كفرهم. 74 - {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ. . .} الآية. هذه دعوة من الله لهم إِلى التوبة من جريمة الكفر - مع بشاعتها - رحمة بهم لإِنقاذهم من العذاب الأَليم. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: تعقيب لتأكيد مغفرة الله ورحمته لمن يلتمسها ويحققها فإِنه سبحانه يقبل توبة التائبين، ويغفر للمستنيبين النادمين، ويرحم المذنبين المستغفِرين، فهو سبحانه عظيم الغفران واسع الرحمات.

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} المفردات: {صِدِّيقَةٌ}: دائمة الصدق في النية والقول والعمل. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: كيف يصرفهم الضلال عن الحق الواضح. التفسير 75 - {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. . .} الآية. في الآيات السابقة حكمَ الله يسبحانه وتعالى، بكفر من قالوا: إِن الله هو المسيح ابن مريم، وبكفر من قالوا: إِن الله ثالث ثلاثة. وهنا، تقرر الآية الكريمة: أَنه رسول من البشر، كسائر من سبقه من الرسل. فليس إلها, ولا ابنا للإِله. ونسبته إلى مريم، للإِيذان بأنه وُلِدَ من غير أب , فإِن الولد ينسب إلى أبيه لا إلى أمه؛ وللدلالة على بشريته وبشريتها؛ لأَن التوالد من صفات البشر. وأَما معجزاته فهي كمعجزات الأَنبياءِ السابقين: أَجراها الله على أَيديهم، لتأييدهم ... وليست من صنعهم. وكل نبي له معجزة تناسب أمته ... فإِذا كان عيسى قد أَحيا الموتى بإِذن الله، فقد أَلقى موسى العصا، فانقلبت من جماد إلى حية تسعى بإذن الله.

وهذا أبلغ من إحياءِ الموتى، لأن الحياة، هنا أجريت على جماد لم تسبق له حياة حيوانية، بخلاف إِحياء ميت سبقت له الحياة. على أن إِحياة عيسى للموتى، كان بقدر المعجزة، فم يتجاوزها إِلى إِحياءِ كل ميت، كشأن الإِله القادر. فكيف يكون إِلها؟! والأناجيل الباقية بين أيدينا، تؤَيد ما ذكره القرآن الكريم. فقد جاءَ فيها: أَن المسيح عليه السلام - قال مخاطبا ربه سبحانه: "أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (¬1). ففي هذا النص، يعترف السيد المسيح، بأن الله هو الإِله وحده، وأنه رسول من عنده. وهذا ينقض دعواهم أنه إِله. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}. ومريم - عليها السلام - أم المسيح، صِدِّيقة من البشر. والصِّدِّيق: هو الذي يلتزم الصدق، ويؤَيد فعلُهُ قولَهُ ونِيَّتَهُ، وشأنه أَن يلتزم الحقَّ دائِما. وهي من سلالة طاهرة، ونشأَت في بيئة طيبة، في كفالة نبي الله زكريا عليه السلام، وشبَّت على طاعة الله تعالى: { ... وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (¬2). {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}: أَي: أَنهما كسائر البشر يأكلان الطعام، لحفظ حياتهما، ولو حُرمَا الطعام، لهلكا كسائر الكائنات الحية. ومَنْ هذا شأنه، لا يكون إِلها، وإِن كان من المصطفَيْنَ الأخيار. ¬

_ (¬1) إنجيل يوحنا: 17 - 3 (¬2) التحريم، من الآية: 12

وقد جاءَ في كتابهم: أنه كان يطلب الطعام من أتباعه. كما في إنجيل لوقا (¬1): "أعندكم ها هنا طعام؟ فناولوه جزءًا من سمك، وشيئا من شهد عسل. فأخذ وأكل قُدَّامهم". وأكْلُ الطعام: يستدعي الحاجة إِليه للانتفاع به. والإِله غني عما سواه. {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: هذا خطاب لكل مستعد للنظر والتدبر. أَي: تأمل واعجبْ من شأن هؤْلاءِ الكفار الذين بيَّن الله لهم آياته الواضحات، المؤَيدة بالدليل العقلي والبرهان الحسن، ليؤْمنوا به وحده، ولينصرفوا عما هم فيه من ضلال مبين!! ثم تدبَّرْ واعجَبْ من شأنهم، حين تبيَّن لهم الحقُّ فانصرفوا عنه، وانقادوا لأَهوائهم وشهواتهم، فآثروا الضلال عام الهدى، والكفر على الإِيمان. 76 - {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا. . .} الآية. انصرف المسيحيون إلى عبادة المسيح دون الله سبحانه فأشركوا، كما عبد المشركون: البشر والملائكة والأَصنام ... فكفروا. فَأمَرَ الله رسوله أن يخاطبهم متعجبا منكرا: كيف تعبدون من لا يملك لكم ضرا فيضركم إذا انصرفتم عنه، ولا يملك لكم نفعا فينفعكم إِذا اقبلتم على عبادته؟. بل لا يملك لنفسه - هو- ضَرًّا ولا نفعا. على أن أساس العبادة، الرغبة في تحصيل نفع أو دفع ضر، والضر والنفع من الله وحده. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ... } (¬2). {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أي: كيف تعبدون من لا يسمع نجواكم، ولا يعلم أموركم الخفية، ونياتكم الباطنة، وتتركون عبادة الله المحيط علمه بالأمور والشئون، وإِن بالغتم في كتمانها وإِخفائها، فيجازيكم على أعمالكم ونياتكم أَبلغ الجزاءِ؛ لأنه - سبحانه - يعلم السر وأخفى؟! ¬

_ (¬1) 24 - 41 - 43 (¬2) الأعراف، من الآية: 188

قال عَزَّ مِنْ قائل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ... } (¬1). {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} المفردات: {لَا تَغْلُوا}: لا تبالغوا مبالغة شديدة. {أَهْوَاءَ}: شهوات. {سَوَاءِ السَّبِيلِ}: وسطه المستوى القويم. التفسير 77 - {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ. . .} الآية. بيَّن الله - فيما سبق - انحراف كل من اليهود والنصارى عن دينهم القويم. ثم دعاهم إِلى التوبة والاستغفار، ونبذ ما انحرفوا إليه من الشرك، ودعاهم إِلى اتباع شريعة الإِسلام التي جاءَت البشارة بها في كتبهم، وعلى أَلسنة أنبيائهم. ثم بيَّن لهم هنا، سبب الانحراف، وهو الخروج عن حد القصد، والمبالغة في تقديس بعض أنبيائهم، مبالغة أَخرجتهم عن نطاق البشر، ورفعتهم إِلى الأُلوهية. وأمر الله رسوله أَن يقول لهم: يَأهل الكتاب، لا ينبغي لكم أن تبالغوا في عقيدتكم، مبالغة ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 284

تُجاوز الحد، وتُخرج عن القصد، تاركين الحق، ومخالفين الصواب .. وبهذا تخرجون عن نطاق التوحيد، إِلى الإِيغال في الشرك والضلال. {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}: أي: ولا ينبغي لكم أن تنقادوا لشهوات الأحبار والرهبان، الذين قد ضلوا من قبل، فشرعوا من الدين ما لم يَأذَن به الله، فأضلوا كثيرا ممن اتبعوهم - دون رَوِيَّةٍ أَو تفكير - ثم لمَّا جاءهم الإِسلام: يردّهم إلى الحق والصواب، ويدعوهم إلى جادة الطريق القويم، الذي لا عوج فيه ولا التواءَ ولا مغالاة - ضلوا عن الطريق السوِي، وهو طريق القرآن، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين، وعلى كل من أَتبع غير طريق الحق. روَى أَحمد والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ في الدَّين، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم بِالْغُلُوِّ في الدِّين". 78 - {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. . .} الآية. بعد أن نهى الله عن الغلو في العقيدة غلوًّا ينحرف به المرء عن الصواب. جاءَت هذه الآية دالةً على استحقاق اليهود اللعن والطرد من رحمة الله، على لسان داود وعيسى بن مريم، بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمرَّيْن. واقتصرت الآية على ذكر هذين النبيَّيْن، مع أَنهم لعنوا من غير هذين، لأَن داود عليه السلام قادهم إلى النصر، ومهَّد لهم الملك , وعيسى عليه السلام آخر أنبيائهم. وقد لقِى منهم أشدَّ أَنواع الإِيذاءِ. وقد حاولوا قتْلَه فنجّاه اللهُ من كيدهم الأثيم. ولذا سماهم - عيسى - أولادَ الأفاعي (¬1). {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}: أي: استحقوا الطرد من رحمة الله، بسبب دعاءِ أَنبيائهم عليهم , لتمردهم وعصيانهم وغلوهم، وبسبب استمرارهم في البغي والعدوان، حتى كذبوا بعض أَنبيائهم: وقتلوا بعضهم، وبالغوا في إِيذاءِ الآخرين. ¬

_ (¬1) إنجيل متى: 12 - 34، 23 - 33

والتعبير بقوله: {يَعْتَدُونَ} للدلالة على تجدد البَغي والعدوان فيهم، وهو المشاهد فيهم حتى الآن. 79 - {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. . .} الآية. أي: ومما استحقوا به اللعنة: أَن المنكر فشا فيهم، حتى أَصبح مألوفا بينهم معروفا فيهم، لا يلقى مقاومة ولا زَجْرا ولا إنكارا، فلا ينهى بعضهم بعضا عنه. روى الإِمام أَحمد والترمذي وأَبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم. قال: "لمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ في المَعَاصِى، نهتْهُمْ علماؤُهم فلم ينتَهوا. فجالسوهم في مجالِسِهم أوْ في أَسْواقِهِمْ - وَواكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُم. فَضرَبَ الله قلوب بَعضهِم بِبَعض، وَلَعَنَهم عَلَى لِسانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ. ذَلِكَ بمَا عصوا وَكَانُوا يَعْتَدونَ. وَكانَ صَلى الله علَيهِ وَسَلَّمَ متَّكِئا فَجَلَسَ فَقالَ: لا، وَالذِي نَفْسِى بيَدِهِ، حَتى تأَطِروهُمْ على الحق أَطرا" (¬1)، أي تعطفوهم عليه. وفي رواية لأَبي داود وابن ماجه والترمذي: "واللهِ لَتَأمرُن بالمعروفِ وَلتنهَوُنَّ عن المنكر، وَلَتَأخُذُنَّ على يَدِ الظالِم، وَلَتَأطِرنَّه على الحق أطْرًا. أَو لَيَضرِبَن الله قلُوبَ بعضكم بِبَعضٍ، ثَم يَلْعَنُكم كَما لَعَنَهُمْ". ومن هذا يتضح: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مفروض، في جميع الرسالات السماوية. {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: أي ما أَقبح فعلهم وسكوتهم على المنكر! وقد عقب الله بهذا على الوصف السابق، لإظهار مدى قبح وشناعة ما كانوا يصنعون والتعبير بقوله: {يَفْعَلُونَ} للدلالة على استحضار الصورة القبيحة لما كانوا يفعلون، وللدلالة على استمرارهم في ذلك. ¬

_ (¬1) أي: تحملوهم على الحق حملا.

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} المفردات: {يَتَوَلَّوْنَ}: يوالون ويناصرون. {سَخِطَ}: غضب غضبا شديدا. {أَوْلِيَاءَ}: نصراء. {فَاسِقُونَ}: خارجون عن شعائر الدين. التفسير 80 - {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .} الآية. أَي: من جرائمهم التي نراها: أَن كثيرا منهم - وهم أَهل كتاب ورسالة سماوية - يناصرون الكافرين، ويؤَيدونهم، ويتوددون إِليهم. والمقصود بالكفار هنا: المشركون، وقد أَعلن كعب بن الأَشرف - وهو من زعمائهم - أن المشركين {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}. وقيل: المراد بالذين كفروا - هنا - المنافقون وكان زعيم المنافقين بالمدينة: عبد الله ابن أبي، يوالي اليهود ويوالونه. فلما غدروا بالمسلمين وغزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم واستسلموا له، جاءَ عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أَحْسِن في مواليّ: أربعمائة حاسر - أي بدون دروع - وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر

والأسود: تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله، امرؤ أَخشى الدوائر. فقال صلى الله عليه وسلم: هُمْ لَكَ، عَلَى أَن يَخْرُجُوا مِنَ المدِينَةِ وَلَا يُجَاوِرُوني بِهَا. والواقعَ أَن اليهود بالمدينة، كانوا يوالون مشركي قريش ومنافقي المدينة. وكانوا على صلات وثيقة بالروم. فهم يوالون كل مناهض للإِسلام. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}: أَكّد اللهُ ذَمَّه لليهود، بأنهم اختاروا لأنفسهم أسوأَ ما يختاره إِنسان لنفسه، حيث قدموا من الأَعمال التي يتوقعون أَن تنفعهم في الآخرة، ما يستدعي غضب الله وسخطه عليهم، بأَن حاربوا الإِسلام - وهو دين التوحيد الذي بشرت به توراتهم - وناصروا المشركين والمنافقين، الذين يتجهون إلى غير الله بالعبادة والتوحيد. {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}: أَي: وسيكون جزاؤُهم على هذا في الآخرة الخلود في النار، ومقاساة عذابها الأليم. 81 - {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ. . .} الآية. أَي: لو كان هؤُلاءِ اليهود، يؤْمنون باللهِ ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم وكتابه الكريم، أَو بالله ورسوله موسى عليه السلام الذي يدِّعون اتباعه وبما أنزل عليه من التوراة - لو كان لديهم هذا الإِيمان - ما اتخذوا المنافقين ولا المشركين نصراءَ، وهم يعرفون أنهم عبدة أَصنام. ويجوز أَن يكون المراد: لو أَن المشركِين والمنافقين آمنوا بالله ورسوله، وما أنزل الله عليه، ما اتخذوا اليهود أَصدقاءَ ونصراءَ. {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: ولكن كثرتهم انحرفت بهم عن الحق، وجنحت إِلى الضلال , فوالت الكفار، وأعانتهم على المؤْمنين؛ لأَن خروجهم عن الدين القويم, أَلَّف بين هؤُلاء الكافرين. وإذا كانت الكثرة قد انحرفت عن الصواب، فعلى القلة أَن تقاومها ما استطاعت إِلى ذلك سبيلا. وإلا فالجميع في الحكم سواء. وهكذا كل كثرة على صواب، إِلى يوم القيامة.

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}. المفردات: (قِسِّيسِينَ): جمع قِسِّيس؛ وهو رئيس دينى مسيحى. (ورُهْبَانًا): الرهبان؛ جمع راهب، وهو المتبتل , المنقطع للعبادة وحرمان النفس من الاستمتاع بالزوج والولد. (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ): أَي تمتلئ أَعينُهم بالدمع حتى يتدفق من جوانبها؛ لكثرته. التفسير 82 - {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ... } الآية. بعد أن أَقام الله الحججَ القاطعةَ على أَهل الكتاب، المعاندين المكذبين. وبعد أن ذكر

فضائحَهم ومخازيَهُم - ذكر تعالى في هذه الآيات. أحوالَ اليهود والنصارَى في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين. كما بيَّن حالَ المشركين. سبب النزول: تعددت الروايات في سبب نزول هذه الآيات. ولكنها تلتقى في أَن بعض طوائف النصارى، استمعوا إلى القرآن الكريم، فتأثَّرت به نفوسهم، وفاضت أعينهم فأَعلنوا الإِسلام. ويذهب جمهور المفسرين: أنها نزلت في النجاشي - ملك الحبشة - ومَن معه من القسيسين والرهبان. وجميع الروايات: تدل على أنه أسلم هو ومن معه. وكُتُبُ السيرةِ، تدل على أن قيصر عظيم الروم - وهو مسيحى - تلقَّى دعوةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في رِفق وأَناة. وأنه - لولا خشيته على مُلْكه - لاستجاب للإسلام. كما تدل كتب السيرة، على أن المقوقس - زعيم الأقباط في مصر - تَلَقَّى دعوةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، في مَوَدَّةٍ ولِينْ. وأَرسل إليه بعض الهدايا القيمة. وكان تَلقى الناس للدعوة الإِسلامية متنوعًا بتنوع عقائدهم وطبائعهم. وأبرز الطوائف التي استقبلت هذه الدعوة الجديدة: أولًا - اليهود: وقد استقبلوا الإِسلام بالعداوة والبغضاء، مع أَن ملَّتَهم تقوم على التوحيد؛ لأن تطوّر اليهودية، وعبَثَ اليهود بكتابهم - أَبْعَدَ اليهودَ عن أصول عقيدتهم، وجعلها قائمة على التعصب الأعمى والأَنانية الحمقاء؛ حيث زعموا أَنهم: شعب الله المختار وأنهم لهذا لن يدخلوا النار مهما فعلوا إِلا أَياما معدودات. فاسترسلوا في شهواتهم ونزواتهم. فقتلوا الأنبياءَ، واستباحوا الحُرماتِ. وأَكلوا أموالَ الناس بالباطل. وأسرفوا في التمرد والعصيان، مما مسخ فِطَرَهم الإِنسانية إِلى غرائز القردة والخنازير، وعبدة الطاغوت.

ولهذا - لما جاءَ الإِسلام - عادوه بألوان العداء، وشنوا عليه الحروب الطاغية: بقوة السلاح، أو بالدسائس والمؤامرات، أَو بمحاولة تشويهه بما دسُّوا فيه من الإسرائيليات: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (¬1) ولا يزال هذا دأبهم حتى الآن. ولهذا صدرتهم الآية، وصرحت بهم. ثانيًا - المشركون: وهم كفار مكة وأَمثالهم. فقد قاوموا الدعوة الإِسلامية مقاومة عنيفة؛ لأن الإِسلام يحدُّ من طغيانهم وعصبياتهم الحمقاء، وما أعتادوه من إستعْلاء وكبرياء وهم - إلى هذا - تشتعل نفوسهم بالحسد والبغضاء للرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} (¬2) وجاهروا المسلمين بالعداء، حتى قالوا: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} (¬3) وما زالوا بهم تعذيبا واضطهادا، حتى أَخرجوهم من ديارهم، وصادروا أموالهم. ثالثا - النصارى: أَنكر الإِسلام على النصارى إيمانهم بالفداء، وبحدوث الصلب وعقيدة التثليث، ولكنه مَع هذا أَنصف المسيح - عليه السلام - ورفعه إِلى مكانته السامية الجديرة به، ونادى بطهارة السيدة مريم وأفضليتها على النساء. والمسيحية - في كتابهم (¬4) - تقوم على التسامح، ومقابلة الإِساءة بالاحسان، وعلى النفور من العدوان. كما تقوم المسيحية أيضًا: على الحد من الشهوات والمطامع، وحب الاستعلاء وهي - في هذا - تقارب الإِسلام. ونظرا لأَن هذه المبادئ تدعو إِلى المسامحة، فإِنهم لم يقابلوا الإِسلام بالعداوة والبغضاء، كما فعل اليهود. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 109 (¬2) الزخرف، من الآية: 31 (¬3) الأنعام، من الآية: 53 (¬4) ورد في إنجيل لوقا: 6/ 27 - 29: "أيها السامعون أَحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم. من ضربك على خدك فأعرض له الآخر أيضًا .. ".

وموقف النجاشى، والمقوقس، وهرقل - من الدعوة الإِسلامية - معروف. والنصارى - لا النصرانية - لم يحاربوا الإِسلام، إلا بعد أن خرجوا على تعاليم النصرانية دينهم، وبعد أن استبدت بهم المطامع والشهوات، فشَنُّوا الحروب البيزنطية، والحروب الصليبية، والحروب الاستعمارية على الإِسلام والمسلمين. والنصرانية من كل هذا براء. {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}: شدة العداوة من اليهود: قائمة - أساسا - على تعصبهم واستعلائِهِم، وكراهتهم خروج النبوة من ولد إِسرئيل، ثم على تَرَسُّلِهِم في شهواتهم، مما أدى إلى تمردِهم على الأَنبياء، وتكذيبهم، وقتل المئات - بل الآلاف - منهم في هذا السبيل. وأشد ما لاقى الرسول صلى الله عليه وسلم - من الأذى والعنت والعداء - كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب. ولا سيما مشركي مكة وما حولها, ولكن مشركي العرب - على جاهليتهم - كانوا أرق من اليهود قلوبا , وأعظم مروءَة وإِيثارا. ولهذا بدأَ باليهود - كما أَسلفنا - في ترتيب العداء للإسلام. فقد حاربوا الإِسلام بالسلاح، كما حاربوه بالكيد والتآمر، ومحاولة تشويه تعاليمه السامية، بما دسّوا فيه من إِسرائيليات، فضلا عما اخْتُصُّوا به من قتل بعض الأنبياء بغير حق، وإِيذائهم لبعضهم الآخر، واستحلالهم أَكل أموال غيرهم بالباطل من الربا والرشوة، مما يزخر به تاريخهم. {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}: أي لتجدن يا محمد، أقربَ الناس محبةً ومودةً لك وللمؤمنين: الذين قالوا إنا نصارى. وقد رأَى النبي - صلى الله عليه وسلم، ورأى صحابته من نصارى الحبشة، وملكهم - حُسْنَ الحماية والرعاية وطيبَ المودة للذين هاجروا إلى الحبشة، حيث عاشوا في أَمن وسلام ولم يسلموهم إِلى أَعدائهم المشركين، الذين استعْدَوْا عليهم ملك الحبشة، وحاولوا

أن يوغروا صدره، ويوقعوا بينه وبين المهاجرين، من المؤمنين: بأنهم ما جاءُوا إِلا ليفسدوا عليه قومه. ولكنه لم يستجب لهم وأكرم المسلمين. ثم بين سبحانه وتعالى، سبب مودة النصارى للمؤمنين بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: وقد تضمن ذلك وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة، والتواضع والزهد. فسبب مودة النصارى ومحبتهم للمؤمنين: أن منهم قسيسين يتولون رعاياهم بالتعليمِ الديني، ويتعهدونهم بتهذيب الأخلاق، ويربونهم على الآداب والفضائل. كما أن منهم - كذلك - رهبانا: عُبَّادًا يضربون لهم المُثُلَ في الزهد، والإِعراضِ عن زخرف الدنيا وزينتها، ويُكثِرُون في نفوسهم الخوف من الله تعالى ومراقبته، والإنقطاع للتبتل والعبادة. كما أَن من أسباب مودتهم للمسلمين: التواضع، وأنهم لا يستكبرون عن الخضوع والإِذعان للحق، متى ظهر لهم. 83 - {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... } الآية. قيل: إِنه كلام مستأْنف. وقيل: إِنه معطوف على قوله: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. فهذه الآية متصلة بما قبلها. والمعنى: ولتجدن أقربهم مودة للمؤمنين، أُولئك الذين قالوا إِنا نصارى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} وَأَنَّهم: {إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} عند سماع القرآن وهم الذين استجابوا للإِسلام فآمنوا عندما سمعوا القرآن، لِما عرفوا من الحق، الذي جاءَ في كتابهم عن محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعن دينه.

وفي تفسير الخازن؛ قال ابن عباس: يريد النجاشي وأصحابه، لَمَّا قرأ عليهم جعفر ابن أَبي طالب سورةَ مريم. قال: فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة. {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَق}: أَي تفيض عيونهم من الدمع، من أَجل ما عرفوه من الحق (¬1). وهذا شأن العلماء المخلصين، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ... } (¬2) الآية. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}: يقولون - بعد أن اطمأنت قلوبهم للإسلام - ربنا آمنا بنبيك محمَّد ورسالته، فتقبل منا، واجعلنا مع أُمة محمَّد الذين سيشهدون على الأمم يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬3) الآية. نقل هذا عن ابن عباس، وابن جريج. وقال الحسن: الذين يشهدون بالإيمان. وقال أَبو علي: الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك. 84 - {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}: وأَىُّ شيءٍ يصرفنا عن الإيمان بالله، وتصديق ما جاءنا من الحق بعد ما تبين لنا صدق الرسول، وصحة رسالته - أَي لا شىءَ يصرفنا عن ذلك!!. ونظير هذا الأسلوب قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لَاَ أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} (¬4). والمراد بالحق: القرآن والإِسلام. ¬

_ (¬1) وقد جاءت "مِنْ" للتعليل - هنا - كما في قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} نوح، من الآية: 25، وفي قول الفرزدق في علي زين العابدين رضي الله عنه: يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم (¬2) الزمر، من الآية: 23 (¬3) البقرة، من الآية: 143 (¬4) يس من الآية: 22

والمراد من {الْقَوْمٍ الصَّالِحِينَ} أُمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم - أي وكيف ننصرف عن الإيمان, ونحن نطمع أن يُدْخِلَنا رَبُّنا مع القوم الصالحين، أَي من جملتهم! 85 - {فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}: أَي فجازاهم الله وكافأهم - بسبب قولهم: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين - وأَسعدهم بما أعد لهم من جنات، وصفها الله تعالى، بأن الأنهار تجرى من تحت قصورها وأشجارها، كما وصفهم بالخلود والبقاء في نعيمها فلا يزول عنهم النعيم ولا يفارقونه. وقد رتب الله تعالى الجزاء المذكور، على قولهم: {رَبنَا آمَنا} وما اقترن به، مما يدل على كمال الإِخلاص: من بكائهم عند سماع القرآن، وقولهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ ... }. إلخ. ثم ختم الله الآية بقوله: {وذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}: ليبين أن هذا الجزاء الكريم، ليس قاصرا على من نزلت الآية بسببهم , بل هو يعمُّ كلَّ من أحسن إحسانهم. 86 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: في هذه الآية، يبين الله تعالى، سوء مصير الكافرين, بعد بيان حسن مصير المؤْمنين وبضدها تتميز الأشياءُ. والمعنى: والذين كفروا - من اليهود والنصارى والمشركين ومن لا دين لهم - ودأبو على التكذيب عنادا واستكبارا، بعدما وضح الحق, وقامت الأدلة والحجج على صدق الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: أي أولئك هم أصحاب النار وسُكَّانها المقيمون بها لا يبرحونها. والجَاحِم والجَحِيم: هو ما اشتدَّ حَرُّه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}. التفسير 87 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... } الآية. الربط: لما مدح الله مَن آمن من علماءِ أَهل الكِتاب، ناسب أَن يؤَدبَهم بأَدب الإِسلام فبين لهم: أن الدين الإسلامي، لا يحرم الطيبات، التي كانوا يحرمونها على أنفسهم , حينما يسلكون سبيل الرهبانية. وإنما هو دين يحرم الاعتداءَ والتجاوز. وجاء ذلك بأُسلوب عام لجميع المؤْمنين، حتى يتأدبَ به كل مؤْمن. سبب النزول: روى البخاري، عن أنس، قال: جاءَ ثلاثة رَهْطٍ (¬1) إلي بيوت أَزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا - كأَنهم تَقالُّوها - فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر: فقال أحدهم: أمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي الليلَ أبَدًا. وقَالَ آخَرُ: أَما أَنا فَأَصُومُ الدَّهْرَ ولا أفْطِرُ. وقال آخَرُ: أمَّا أنَا فَاعْتَزِلُ النِّسَاءَ، ولَا أتَزَوَّجُ أَبَدا. فجاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنتُمُ الّذِينَ قُلْتم: كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَالله، إِنِّي لأخْشَاكُمْ لِلهِ، وَأَتْقَاكُمْ لِلهِ ... لكِنّي أَصُومُ وَأُفطِرُ، وَأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. فَمنْ رَغِب عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنّي". ¬

_ (¬1) إضافة ثلاثة إلى رهط: بيانية، أي ثلاثة هم رهط. والرهط: يطلق عل العدد من ثلاثة إلى تسعة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}: أَي لا تمنعوا - أَيها المؤمنون - أَنفسكم مما طاب ولذَّ من الطعام، الذي أحله الله لكم. {وَلَا تَعْتَدُوا}: أَي لا تتجاوزوا الحَدَّ بتحريم حلال، أو تحليل حرام، أَو إِسراف في طعام. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). 88 - {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا ... } الآية. أَي تمتعوا بأَنواع الرزق، من أَكل وشرْب ولباس، وغير ذلك من الطيبات، التي أَحلها الله تعالى. وخص الأكل بالذكر؛ لأَنه معظم مقاصد الرزق. وقد دلت هذه الآية - وسابقتها - على أَن الإِسلام يُعْنَى بالأَجسام، كما يُعنى بالأَرواح. {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}: أي اجعلوا أَنفسكم في وقاية من غضب الله , الذي أَنتم به مؤمنون. فلا تتجاوزوا ما شرعه الله لكم. وعن الحسن البصري - رضي الله عنه -: إن اللهَ أَدَّب عبادَه فأَحسن أَدبهم، فقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ} (¬2). ما عاب الله قوما وسَّع عليهم الدنيا فتنعموا وأَطاعوا، ولا عَذَر قوما زواها عنهم فعصوْه. وعنه أنه قيل له: فلان لايأْكل الفالوذج (¬3) , ويقول: لا أُؤدي شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إِنه جاهل. إن نعمةَ الله عليه في الماءِ البارد، أكثُر من نعمته عليه في الفالوذج. والمعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: أَنه كان يأْكل ما وجده ... فتارة يأْكل أَطيبَ الطعام؛ كلحوم الأنعام والطير والدجاج. وتارة يأكل أَخْشَنَهُ؛ كخبز الشعير ¬

_ (¬1) الأعراف، الآية: (31) (¬2) الطلاق، من الآية: 7 (¬3) حلواء تصنع من الدقيق والعسل والماء.

بالملح أَو بالزيت أَو بالخل، وأحيانا يجوع، وأَحيانا أُخرى يشبع، فكان - في كل ذلك - قُدْوَةً للموسر وللمعسر على السواءِ. وَلْيُعْلَمْ: أَن التمتُّعَ بالطيبات من الرزق، مشروعٌ في جميع الرسالات. قال تعالى: {يَأَ يُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬1). {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. المفردات: {باللَّغْوِ} اللغو في اليمين: الحلف من غير قصد القَسَم. {بِمَا عَقدتُّمُ الْأَيْمَانَ} أَصل العقد: نقيض الحل. فَعَقْد الأَيمان. وتعقيدها: توكيدها بالقصد والتصميم. {فَكَفَّارَتُةُ} أَصل الكفارة: من الكَفْر. وهو: الستر والتغطية، ثم صارت - في اصطلاح الشرع - اسمًا لأعمال تكفِّر - أَي تمحو- بعض الذنوب. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكمْ}: الأَوسط؛ المعتدل من كل شيء. والمراد هنا: الأَغلب من الطعام، الذي هو وسط بين الدُّون الذي يُتَقشَّف به، وبين الأَعلى الذي يُتوسع به. {أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: أي إِعتاق رقيق مملوك له. ¬

_ (¬1) المؤمنون، الآية: 51

التفسير 89 - {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... } الآية. الربط وسبب النزول: روى ابن جرير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... } في القوم الذين كانوا قد حرَّموا النساء والنَّوْمَ واللحْمَ على أَنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نَصنع بأَيماننا التي حلفناها؟ فأَنزل الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ... ) الآية. وبهذا تتصل الآية بما قبلها. ومعنى قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أَي لا يؤاخذكم الله بالأَيمان التي تحلفونها بلا قصد, كما يقول الرجل في حلفه - من غير قصد ولا نية - لا والله، وبلى والله، مما يجرى على الأَلسنة من غير قصد. فلا مؤاخذة على هذه الأَيمان: بكفارة في الدنيا، ولا بعقوبة في الآخرة؛ لأَنها عادة لسان. وقال مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن. وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}: ولكن الله يؤاخذكم بما يصدر عنكم من الأَيمان التي أكدتموها بالقصد والتصميم. {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: فالذي يُكفِّرُ عَقْدَ اليمين - إذا أُريد الحنث فيها ممن حلف أَنه سيفعل كذا، أَو حلف أَنه لن يفعل كذا، ثم راجع نفسه فرأَى أن تنفيذ اليمين سَيَحْرِمُهُ خيرًا كثيرا - فعليه أن يَنْقُضَ يمينَهُ، وأَن يُكفِّرَ عنها. لما جاءَ في الصحيحين: عن أَبي موسى الأَشعرى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني وَاللهِ - إن شَاءَ اللهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِين فَأرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إلاَّ كَفرْتُ عَنْ يَمِينِى، وَأَتَيْتُ الَّذِي هوَ خَيْرُ".

ومن يحلف كاذبا متعمدا، فعليه ردُّ الحقوق إلى اصحابها، إِذا ترتب على يمينه ضياع حق ثابت. وعليه أَيضا الكفارة المبينة في الآية. ويمين الكاذب المتعمد تسمى شرعًا: اليمين الغموس. وسميت بذلك؛ لأَنها تغمس صاحبها في النار. وهي: من الكبائر التي ورد فيها وعيد شديد. أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: "جاءَ أَعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، ما الكبائر؟ قال: الإِشراكُ بِاللهِ. قال: ثم ماذا؟. قال: عُقوقُ الوالدين. قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغَمُوسُ. قلتُ: وما اليمينُ الغموسُ؟ قال: الَّتِي يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِم هُوَ فِيهَا كَاذِب". وأَخرج مسلم عن أبي أُمامة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اقْتَطَعَ حَق امْرِئٍ مُسْلمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا قال: وَإنْ كَانَ قَضِيبًا من أرَاك". فعلى كل مسلم: أَن يتجنب الحلف باللهِ كاذبًا، حتى لا يستحق هذا الوعيد الشديد. أما يمينُ المُكْرَه؛ فلا إِثم فيها. وكذا لَا كفارة فيها في بعض المذاهب. والحلف لا يكون إِلا باللهِ تعالى، أَو باسم من أَسمائه، أَو صفةٍ من صفاته. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحلِفْ بِاللَهِ أوْ ليَصمُت" (¬1). وكفارة اليمين إذا حنث فيه: 1 - إطعام عشرة مساكين وجبةً واحدةً لكلَّ منهم من الطعام الغالب الذي يأكله أهلوكم في بيوتكم لا من أرْدَئِه ولامن أَجودِه. فمن كان أَكثر طعامه وطعام أَهله خبزَ البُرَّ، وأكثرُ إدامه اللحمَ بالخضر أو بدونها، فلا يجزئُ، ما دون ذلك. والأعلى يجزئ على كل حال, لأنه من الوسط وزيادة. وأَجاز أَبو حنيفة إِطعام مسكين واحد عشرة أَيام. ¬

_ (¬1) رواه ابن عمر في كتاب الشهادات: باب كيف يستحلف. هداية البارى: 2 - 227

3 - كسوة عشرة مساكين: والكسوة تختلف باختلاف البلاد والأَزمنة - كالطعام - فيجزىءُ من غالب ما يكسو به أهله، لا من الأرْدَإِ ولا من الأجود. والأعلى يجزئُ على كل حال، كما سبق في الطعام. وفي الإطعام والكسوة خلاف بين الفقهاءِ فمن أراد معرفته واستيفاءَه فليرجع إليه في كتب الفقه. 3 - تحرير رقبة: أي إعتاق إِنسان رقيق ذكر أو أنثى. وقد يعبر أَحيانا عن ذلك بفكَّ رقبه كقوله تعالى: " {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ} (¬1). ولا يشترط أَن تكون الرقبةُ مؤمنةً عند أبي حنيفة، فإنه يجزئ عنده عتق الكافرة. خلافا للشافعي ومالك وأحمد فقد اشترطوا الإِيمان، قياسا على الكفارة في القتل. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلَاثَةِ أيامٍ): أي فمن عجز عن واحد من الثلاثة المتقدمة، فعليه أَن يُكَفِّرَ بصوم ثلاثة أَيام: متتابعات عند أَبي حنيفة. ولا يشترط التتابع عند الشافعي وغيره، وهو أَيسر. فإن عجز عن الصوم - لمرض - صام عند القدرة، فإِن لم يقدر فأَمره مفوض إلى الله تعالى: يُرْجَى له عَفْوُ الله ورحمته - إِذا صحت نيته. والاستطاعة: أن يكون ذلك القَدْرُ اللازمُ في الكفارة من الإطعام والكسوة والعتق - فاضلا عن قُوتِهِ وقُوتِ عياله، يومَه وليلتَهُ. وفاضلًا كذلك، عن كسوته بِقَدْرِ ما يطعم أَو يكسو أَو يعتق. {ذَلِكَ كفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ}: باللهِ - أو باسم من أَسمائه - وحنثتم. {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: أَي قلِّلوا منها، فلا تحلفوا إِلا لإِحقاق حق أَو دفع باطل، قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا ... } (¬2) الآية. ¬

_ (¬1) البلد، الآيات: 11، 12، 13 (¬2) البقرة، من الآية: 224

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي مثل ذلك البيان الشافي، يبين الله لكم أَعلام شريعته وأَحكام دينه، لتقوموا بشكره على ما أرشدكم إليه، من تشريعات نافعة. وقد وضح بهذا، أن ما يتداوله الجهلة من حَلِفٍ بغير الله تعالى، أو بغير اسم من أَسمائه، أَو مَنْ حَلِفٍ بغير صفة من صفاته (¬1) - حرام شرعًا، وقدْ يَجرُّ إِلى الكفر، لإِشراكه غير الله في التعظيم والعياذ باللهِ؛ { ... فّليحذرِ الذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه أن تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يصيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}. المفردات: (الخَمْرُ): هي كل ما خامر العقل وغَّيبَه. ¬

_ (¬1) كقدرة الله، وعلم الله، ووجود الله. (¬2) النور، من الآية: 63

(الْمَيْسِرُ): القمار. (الْأَنصَابُ): هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها. وقيل: إنهم كانوا يعبدونها، ويَتقربَّون إليها. (الْأَزْلَامُ): هي قداح، أَي قطع رقيقة من الخشب على هيئة السِّهام كانوا يستقسمون بها في الجاهلية؛ لأَجل التفاؤُل أو التشاؤُم. (رجْسٌ): الرجس؛ كل ما يستقذر؛ حسا أو معنى. (فِيمَا طَعِمُوا): أَي فيما تناولوا قبل التحريم. التفسير 90 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... } الآية. لمّا سبق النهْىُ عن تحريم الطيب الحلال، والأمرُ بالأَكل مما رزق الله من الحلال الطيب - وكانَت الخمر والميسر من جملة الأمور المستطابة عندهم، بحسب العرف والإِلف. عقب الله ذلك ببيان أنهما ليسا من الحلال الطيب. بل هما مما حرَّم الله تعالى. سبب النزول: أَورد ابن جرير وابن مردويه، في سبب نزول هذه الآيات: أَن سعد بن أَبي وقاص رضي الله عنه - قال: "في نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ... صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأنْصَارِ طَعَامًا، فَدعَانَا فَأَتَاهُ نَاسٌ. فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى انْتَشَوْا مِنَ الْخَمْرِ. وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمهَا. فَفَاخَرُوا. فَقَالَتِ الْأَنصَارُ: الأْنصَارُ خَيْر. وَقَالَتْ قُرَيْش: قُرَيْش خَيْرٌ. فَأَهْوَى رَجُلٌ بِلَحْىِ جَزُورٍ (¬1). فَضَرَبَ عَلَى أَنْفِى فَفَزَرَهُ (¬2) قَالَ: فَأتَيْتُ النبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَمَ، فَذَكَرْتُ لَه ذَلِك فَنَزَلَتْ": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: ¬

_ (¬1) اللحى: هو الفك الذي ينبت عليه الأسنان السفلى. (¬2) فزره: أي شقه.

خاطَب الله المسلمينَ - بوصف الإِيمان - ليستجيبوا إلى ما يأْمرهم به، ويقلعوا عما نهاهم عنه، تحقيقا لإيمانهم. وفي هذه الآية، ينهاهم عن شرب الخمر نَهيًا حاسما. والخمر: هي كل ما خامر العقل، فستره وحجبه عن التفكير. وهو يصدق على كل مُسْكر: مصنوع من عصير العنب أو غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر، وَكُلُ خَمْرٍ حَرَام" (¬1). وفي رواية لمسلم، والترمذي، والنسائي، وأَبي داود، وابن ماجه، وأَحمد، - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر وَكلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". وخَرج أَبو داود: "نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهو من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة. والخمر: ما خامر العقل". والواقع: أَن أَي شراب - تغير طعمه وظهر فيه الغول (الكحول) وأَسكر - فهو خمر. وهوحرام. قَلَّ أَو كَثُرَ. لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقلِيلُهُ حَرَام" (¬2). وهذا ينطبق على ما يسمونه الآن "البيرة"، كما ينطبق على جميع المخدرات، مثل: الأَفيون، والحشيش، والقات، والكوكايين، والهيروين ... فقد ورد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نَهَى عَنْ كُل مُسكِرٍ ومُفَتَّر" (¬3). وقد الْتبس الأمر على بعض الباحثين، فظنوا النبيذَ - المعروف الآن - حلالًا. والواقع أَنه حرام بالإِجماع؛ لأنه مُسكر. (¬4) أَما النبيذ الوارد كتب الفقه فهو ما يسميه أَهل مصر - الآن - بالخشاف، ويسميه أهل سورية بالنقوع (النقيع) وهو شراب منقوع فيه التمر أو الزبيب أَو المشمش وغيرها ويغلى حتى ينضج ويحلو ماؤُه فهذا لا حرج فيه إِذا لم يتخمر. أَما إذا ترك فترة طويلة، حتى ¬

_ (¬1) رواه مسلم والدارقطني. (¬2) رواه الترمذي، والنسائي وأبو داود، وابن ماجه -، وأحمد، وابن حبان. (¬3) فتر الشراب الحسم: خامدًا خاملا. (¬4) رواه، أحمد، وأبو داود. عن أم سلمة، رضي الله عنهم.

تغَّير، وقذف بالزبد، وظهر فيه الغول (الكحول) فإِنه - حينئذ - يصبح مُسْكِرا، ويكون حراما: شأْنه - في هذا - شأْن عصير العنب، واللبن الحامض. والدقيق الذائب في الماء "البوظة"، وأَشباهها، إِذا تغيرت وأَسكرت فهي حرام. وإِذا لم تتغير، فلا حُرْمة فيها. وتحريم الخمر قائم على الصالح العام، لأَنها تتلف الأَجسام،، وتنهك الأعصاب، وتؤَثر على العقول، وتدفع إِلى التصرفات السيئة كارتكاب الآثام، وهَتْكِ الحُرمات، وتبديد الأَموال. وضياع المروءَات، والتقصير في أَداءِ العبادات. وكما حَرَّمت الآيةُ الكريمة الخمرَ، حَرَّمت الميسرَ؛ لأنه يصرف صاحبه عن الأَعمال المثمرة ويدفع إِلى الخسائر المتوالية ويولد الأمراض العصبية والنفسية، ويزعزع كيان الأسرة والمجتمع. بما قد يثير الضغائنَ والأَحقاد ويمزق صلاتِ الأرحام. ويدعو إِلى سيطرة التشاؤُم على نفوس اللاعبين وعلى التعلق بالخيالات والأوهام. ومن الميسر: ما يعرف الآن بأَوراق اليانصيب. أَما الأَنصاب؛ فتقوم على تقديس الأحجار، فإِن كانت للذبح عليها، وتقديم القرابين إلى الأوثان، في لَوْن من الشِّرك بالله، وإن كانت للعبادة فهي شِرك صريح؛ والله سبحانه "لَا يَغْفِرُ أَن يُشرَكَ به، وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ... " (¬1). وأَما القداح (وهي الأَزلام) فقد سبق تفسيرها، في الآية الثالثة من هذه السورة. وشبيه بهذه القداح ما يزعمه الزاعمون الآن من: قراءَةِ الكف، والفنجان، وأوراقِ اللعب، أو تحضيرِ الأرواح، واستشارةِ الكهنة والعرافين، وراصدي النجوم وغيرهم من مدعى الغيوب. وخير لمن الْتبس عليه الرأى وحار في أَمره أن يؤدىَ صلاة الاستخارة ويدعوَ دعاءَها وقد بسطنا ذلك في شرح الآية الثالثة من هذه السورة. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 48

وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا - أَوْ كَاهِنًا - فَصدَّقَهُ بِمَا يَقولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلى مُحَمَد" (¬1). هذه المنكرات كلها، ينفر منها العقل، وينكرها الشرع. وقد زينها الشيطان وخدع بها بعضم المفتونين , فصدهم عن السبيل، حيث أَوهمهم أَن قليل الخمر مفيد للصحة، وأَن في الميسر فائدةً للفقراء، وأن الأَنصابَ وسيلة لذبح القرابين والانتفاع بلحومها، وأن إِجالَة القداح استخارةٌ ... وكل هذه مغالطات واهية: تنكرها العقول الرشيدة، والطبائع السليمة. {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: فاتركوا هذا الرجس القبيح، رجاءَ أَن تكونوا في عداد المفلحين الفائزين، بتزكية أَنفسكم، وسلامة أَبدانكم. والتوادّ فيما بينكم. وقد جمع الله سبحانه الخمر والميسر مع الأَنصاب والأَزلام في هذه الآية لتأْكيد تحريم الخمر والميسر, ثم أَفرد الخمرَ والميسر في الآية التي تليها لأَن الخطاب فيها، مع المؤْمنين الذين هجروا الأَنصاب والأَزلام بدافع من إِيمانهم، أَي من تلقاءِ أَنفسهم، ولم تكن الخمر قبل هذا محرمة , بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية. والمقصودُ نَهْىُ المؤْمنين - جميعًا - عن شرب الخمر, وعن اللعب بالقمار. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَها. وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا , وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِها" (¬2). وقد أَكَّد الله تحريم هذه الأُمور في الآية الأولى، بقصرها على الرجس الذي هو من عمل الشيطان. وحيث كانت كذلك، فلا يرجى منها خير. وجعل اجتنابها سببا يرجى منه الفلاح. وحَدَّ من ثبت عليه شُرْبُ الخمر بإقرار أَو شَهود: أَربعون جَلدة، وقيل: ثمانون. وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم والحاكم. (¬2) رواه أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عمر. الفتح الكبير: 3 - 13

وبعد أَن أمر الله باجتناب هذه الموبقات، ذكر سبحانه وتعالى أَن في الخمر والميسر مَفْسَدَتَيْنِ كبيرتين: إِحدإهما دنيوية، والأخرى دينية، فقال تعالى: 91 - {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ... } الآية. أَي لا يريد الشيطان - بتزيينه الخمر والميسر - إلا أَن يقطع ما بينكم من صلات المودة، ويجعل مكانها العداوة والبغضاءَ، بسبب ما تثيره الخمرُ والميسر من أَسباب القطيعة، ويصرفكم عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، ويصرفكم عن الصلاة التي هي عماد الدين، وفي أَدائها تزكيةٌ لنفوسكم، وتطهير لقلوبكم؛ لأَن السكران لا يذكر الله، ولا يميز أَوقات الصلاة، ولا يقيم أَركانها, ولأَن المقامر: يشغله اللعب والاستغراق فيه، عن ذكر الله وعن الصلاة. ولما بيّن - جَل اسمه - حكمة تحريم الخمر والميسر، أَكد ذلك التحريم، بما يفيد الوعيد على عدم الامتثال، فقال: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}: وهذا أمر بالانتهاءِ، جاءَ بأسلوب الاستفهام. فكأَنه قال: قد أَوضحتُ لكم ما في الخمر والميسر من أَنواع المفاسد والمضار الدنيوية والدينية، فانتهوا عن تلك المفاسد، حتى لا يحل بكم عقابي. وقد فهم هذا المعنى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. قال الطبرى في تفسيره: لمّا علم عمر رضي الله تعالى عنه: أَن هذا وعيد شديد زائد على معنى: انتهوا .. قال: "انتهينا يا رب". ثم أَمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، مناديَهُ أَن يُنَادِىَ في سِكَكِ المدينة: أَلا إنَّ الخمرَ قد حُرَّمت ... فكُسرت أَوانيها، بعد ما أُريقت حتى جرت في سكك المدينة. ثم زاد الله النهي عن تلك الموبقات تأكيدا، فقال: 92 - {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ... } الآية.

والمعنى: وأَطيعوا الله في كل ما أَمركم به ونهاكم عنه، وأطيعوا الرسول فيما بلغه عن ربه. واحذروا المخالفة والعصيان، حتى لا تتعرضوا للعقاب. وبدهي: أن يدخل في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، اجتناب ما تقدم من المنهيات فإن الإِسلام أمَرَ بالمعروف، ونَهَى عن المنكر. {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: فإن أَعرضتم عن طاعة الله ورسوله، فعليكم وِزر مخالفتكم. أمَّا الرسول فقد بلَّغ الرسالة وأَدى الأمانة. وليس مسئولا عن مخالفتكم. قال تعالى: { ... فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (¬1). 93 - {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: سبب النزول: روى الحافظ أَبو بكر البزار في مسنده: عن جابر بن عبد الله، يقول: اصطبح ناسٌ الخمرَ، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [قبل تحريمها]، ثم قتِلوا شهداءَ يوم أحد. فقالت اليهود. فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية (¬2). أَي ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إِثمٌ وعقوبة، فيما تناولوه - من طعام أَو شراب - قبل تحريمه. وذلك إِذا اتقوا الله وخافوه وعملوا الأعمال الصالحة، ثم خافوا الله وآمنوا بما نُزِّل إِليهم - بعد ذلك - من الأحكام والتزموه، ثم استمروا على تقوى الله والخوف منه، وأَحْسنوا الأعمال والطاعة، وعبدوا الله بإخلاص في السر والعلن. {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسنِينَ}: أَي يرضى عنهم ويشملهم برحمته. ¬

_ (¬1) الرعد، من الآية: 40 (¬2) ابن كثير: 2/ 95

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - الإحسان في جواب من سأله عنه بقوله: "الْإِحْسَانُ: أن تَعْبد الله كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فِإِنَّهُ يَرَاكَ" كما جاءَ في الصحيحين عن عمر. ويستفاد من الآية الكريمة: أَن من مات - قبل تحريم الخمر أو بعد تحريمها - وكان ملتزما بما جاءَ فيها - كان بمنجاةٍ من عذاب الله. كما يستفاد منها: أنه ينبغي للمؤْمن، أَن يترقَّي في معارج التقوى, حتى يصل إلى درجة الإِحسان. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُوانْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}. المفردات: (لَيَبْلُوَنَّكمْ): الابتلاءُ؛ الاختبار.

(بِشَئٍ مِّنَ الصَّيدِ): الصيد: ما صِيدَ من حيوان البحر، ومن حيوان البر الوحشية، ومن الطيور. (تَنَالُهُ أيْدِيكُم وَرِمَاحُكُم): يراد به كثرته وسهوله اصطياده. روى عن ابن عباس: أَنه ما تناله الأيدى: الصغار والفراخ من الصيد. وما يؤخذ وينال بالرماح الكبار. (لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُه بِالْغَيْبِ): أي ليعاملكم معاملة المختبر، الذي يريد أَن يعلم الشيء علم وقوع - وإن كان سبحانه وتعالى يعلمه علم غيب - فهو علام الغيوب. (وَأَنتُمْ حُرُم) الحُرم: جمع حرام. ويطلق على الذكر والأُنثى. يقال: رجل وامرأَة حرام. أَي رجل محرم وامرأَة محرمة: بحج أَو عمرة. (مِنَ النَّعَمِ) النعم: الأنعام من الإِبل والبقر والغنم. (أوْ عَدْلُ ذَلِكَ) العَدل (بفتح العين): المعادل للشىء، والمساوى له مما يدرك بالعقل والعِدل (بكسر العين): المساوى للشىء مما يدرك بالحس. (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) الوبال: من الوبل والوابل. وهو: المطر الثقيل. وطعامٌ وبيلٌ أي ثقيل. ويقال للأَمر الذي يُخْشىَ ضَرَرُهُ: هو وبال. (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) البحر المراد به: الماء الكثير الذي يوجد فيه السَّمَك، كالأنهار. والبِرَك ونحوها ... وصيد البحر ما يصاد منه مما يعيش فيه عامة. (وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ) وطعام البحر: ما قذف به إِلى ساحله. (وَلِلسَّيَّارَةِ) والسيارة: هم المسافرون، يتزودون منه. (الَّذِي إِليْهِ تُحْشَرُونَ): أَي تجمعون وتساقون إليه يوم القيامة.

التفسير 94 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ... } الآية. بعد أَن سبق النهي عن تحريم ما أحل الله تعالى من الطيبات، ثم استثنى الله الخمر والميسر. استثنى هنا مما يحل: الصيد في حال الإِحرام. وأوجب جزاءً على قتله. وأوضح أن صيد البحر وطعامه حلال. سبب النزول: نزلت هذه الآية، عام الحديبية، حين أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكانوا أَلفا وأَربعمائة: أَحرموا بالعمرة من ذي الحليفة. وأرسل النبي عليه السلام، عثمانَ لأَهل مكة بخبرهم: أَن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قاصدٌ زيارةَ بيتِ الله، فجلسوا ينتظرون عثمان. فكانت وحوش البر والطيور تأتي إليهم من كل فج. فنزلت هذه الآية. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}: والمعنى: يَأَيُّها الّذِينَ آمَنُوا ليختبرَنكم الله - وأنتم محرمون - ببعضٍ من الصيد، يسهل عليكم تناوله، بحيث تناله أَيديكم ورماحكم. {لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}: ليعلم الله - علمًا كاشفا - مَن يخافه ويخشاه فينفذ أَوامره ويجتنب نواهيه وهو لا يرى الله سبحانه لقوة إِيمانه. والمقصود بالعلم: العلم التنجيزي الواقعي - أَي العلم الكاشف فإنه تعالى قد عَلِمَ أزلا ما سوف يكون عليه حال عباده في سِرِّهِم وجهرهم. (فَمَنِ اعْتَدَى): فاصطاد. (بَعْدَ ذَلِكَ): أي بعد الابتلاء. (فَلَهُ عَذَاب أَلِيمٌ): أَي شديد الإيلام. لأَن من لا يملك نفسه - في هذا الموطن ولا يرعى جانب الله ولا يخشاه - كيف يكون حاله وشأنه فيما هو أَشد من هذا الابتلاء، مما تكون النفس إِليه أميل. وعليه أَحرص؟!

95 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... } الآية. سبب النزول: يروى المفسرون: أن أَبا اليسر، قتل حمارًا وحشيًّا - عمدًا - وهو محرم، فنزلت. والمعنى: يأيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد، وأَنتم محرمون بِحَج أَو عمرَة. والمراد بالقتل: ما يعم الذبح وغيره. والمراد بالصيد: المصيد. وخصه بعض الفقهاءِ بما يؤكل لحمه؛ لأَنه الغالب فيه عرفا. والجمهور، على أن غير المأكول يحرم قتله أيضًا. ولا يستثنى من ذلك، إِلا ما نصَّ عليه في قوله عليه الصلاة والسلام: "خَمْسُ فواسق: يُقتَلْنَ في الْحِلِّ وَالحَرَم: الغرابُ، والحدأةُ، والعقربُ، والفأْرةُ، والكلبُ العقورُ" (¬1). وقد أَلحق مالك وأَحمدُ بالكلب العقور: الذئبَ، والسبعَ، والنمرَ، والفهد، لأنها أَشد ضررا منها. وهكذا كل ما يكون خطرًا على حياة الإِنسان. ولما كان قتل الصيد - في حال الإحرام - ذنبًا كبيرًا كرّر النهي عنه - في هذه السورة - أربع مرات: أولها: في قوله تعالى في أول السورة: { ... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. وثانيها: في قوله عز وجل: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ... }. وثالثها: في قوله تعالى: { ... لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... }. ورابعها: في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ... }. {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}: أَي ومن تعمد منكم قتل الصيد، أَو كان له دخل في قتله، سواءٌ أقتله في الحَرم أَم في خارجه. وكذلك من قتله في الحرم - وهو غير محرم - فعليه في كل حالة مما ذكر جزاءٌ من النعم مماثل لِمَا قَتَلهُ إن وجد. ¬

_ (¬1) أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.

وقد اختلف في المراد بالمثل: فقيل: هو النظير أَي الشبيه. ففي الظبية: شاة. وفي النعامة: بعير. روى الدارقطني عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الضبع إِذَا أَصابَهُ الْمُحْرِمُ: كَبْشٌ. وَفي الظَّبْى: شَاةٌ. وَفي الأرْنَبِ: عنَاقٌ (¬1). وَفي اليَرْبوع (¬2): جَفْرَة" (¬3). وقيل المراد بالمثل: قيمة الصيد المقتول - يُقَوَّمُ في المكان الذي صِيدَ فيه، أو في أَقرب الأماكن إِليه، ويراعى زمان القتل في التقدير لأن القيمة تتفاوت باعتبار الزمان والمكان. وقوله تعالى: (مُتَعَمدًا) ليس قيدًا لوجوب الجزاء والكفارة. فإن الخطأَ مثل العمد في الكفارة المذكورة. فالتعبير بقوله: (مُتَعَمِّدًا) لبيان الواقع. لأن الآية - كما سبق - نزلت في أبي اليسر لَمَّا قَتلَ - عمدًا - حِمارًا وحشيَّا وهو محرم. وإن لم يوجد هذا المماثل من النعم، وجبت قيمة هذا المماثل - في محل الصيد - أو في أَقرب الأماكن إليه. ويرجع في المزيد في هذا، إلى التفصيل في كتب الفقه. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}: أَي يحكم ويقضى بالمماثل للمقتول من صيد الحَرم: رجلان عدلان من المؤمنين؛ لأن المماثلة بين النعم والصيد، مما يخفى على أكثر الناس. وما لا مثل له من النَّعم، يحكم العدلان فيه بالقيمة. {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}: هذه العبارة مرتبطة بقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... } إِلخ. والمعنى: إن جزاءَ الصيد الذي يحكم به العدلان، يكون هدية تبلغ الحرم المكى، أي تساق إِليه وتذبح فيه وتوزع على الفقراء. ¬

_ (¬1) العناق: الأنثى من ولد الماعز قبل أن تبلغ سنة. (¬2) اليربوع: دابة صغيرة تشبه الفأر. (¬3) الجفرة: الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر.

{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}: المعنى: أَن من قتل الصيد وهو محرم، أَو قتله في الحرم وهو غير محرم؛ فهو غير بين ثلاثة أُمور: الجزاءُ بالمثل - كما سبق بيانه - أَو إطعام المساكين، أَو الصيام. فأَما الإِطعام: فبقيمة ما قتِل من الصيد ... وأَما الصيام: فصيام أَيام بعدد الأَمداد - جمع مُدَّ - التي يُقوم بها الصَّومُ ... لكل مُدَّ يوم. ويرجع في تفصيل ذلك إِلى المراجع الفقهية. فإِنها أَوْفى ... وظاهر الآية: يفيد التخيير بين الكفارات الثلاث، كما قلنا. وعليه المذاهب الأَربعة (¬1). وذهب ابن عباس، إِلى أَنه لا يُنتقل من كفارةٍ إِلى أخرى، إِلا إِذا عجز عن التي قبلها {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}: أَي أَوجب الله هذا الجزاءَ السابق، على قاتل الصيد، ليذوق عقاب جنايته، لهتكه حرمة الإِحرام أَو الحرمِ. {عَفَا اللهُ عَمُّا سَلَفَ}: أَي عفا الله عما تقدم من قتلكم الصيد - قبل نزول هذا الجزاء: فلا يكلفكم بالجزاء عنه ولا يعاقبكم عليه. {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ}: أَي ومن عاد إِلى قتل الصيد - بعد نزول هذه الآية - فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك، الكفارة. قال ابن جريج: "قلت لعطاء: فهل في العَوْدِ من حدّ تَعْلَمُه؟ قال: لا. قال: قلت: فترى حقا على الإِمام أَن يعاقبه؟ قال: لا، هو ذنب أَذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل ولكن يفتدى" (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة. (¬2) رواه ابن كثير في تفسيره عن ابن جرير.

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}: أَي والله منيع في سلطانه, لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن عصاه مانع. 96 - {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ... } الآية. المراد بالبحر: ما يعم المياه العذبة والملحة. والمراد بصيده: ما صيد منه. فهو حلال كله. سواء أَكان صيده للطعام كالسمك، أم لغيره من وجوه النفع الأخرى، كاللؤلؤ والمرجان. (وَطَعَامُهُ): أَي وأَكل ما يصلح للأكل منه، سواء أخذ من البحر حيًّا أَم ميتًا، لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: "هُوَ الطهُورُ مَاؤه، الْحِل مَيْتَتُهُ" (¬1). وإنما تحل ميتة البحر، ما لم يتسرب إليها الفساد. (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ): أَي يتمتعُ بصيد البَرِّ وينتفع به المقيم والمسافر. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَر مَا دُمْتمْ حُرُمًا}: أَي وحرَّم اللهُ عليكم اصطياد حيوان البر - أَو طيره - ما دمتم محرمين. بخلاف ما صاده غير المحرمين، أَو ما صِدْتُموه قبل إِحرامكم. فليس محرَّما عليكم أَن تأْكلوه ولو في حال إحرامكم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: أي وخافو الله، واحذروا مخالفته، والتزموا طاعته، فيما أَمركم به من فرائضه، وفيما حذَّركم ونهاكم عنه، من جميع محارمه. فهو الذي إِليه - وخده - مرجعكم ومآلكم، فيجازيكم على طاعتكم أو معصيتكم. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك والنسائي.

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. المفردات: (قِيَامًا للناسِ): ما يَقوم به أَمر الناس، ويُصلح شأنهم: في دينهم ودنياهم. (وَالشهْرَ الْحَرَامَ): الحرام؛ (أل) في الشهر، للجنس. فيعم الأَشهر الحرم الأَربعة. وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وقيل: "الشهر" هو شهر ذي الحجة. (وَالْهَدْىَ): ما يهدى إِلى الحرم من الأنعام قربة إِلى الله، للتوسعة على فقراء الحرم. (وَالقلَائِدَ): جمع قلادة، وهي كل ما علق على أسنمة الأنعام وأَعناقها، علامة على أنها لله. والمراد بالقلائد: ذوات القلائد إذا ساقوها هَدْيا. التفسير: 97 - {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ ... } الآية. لما تقدم - في الآية السابقة - النص عن الاصطياد في الحرم، ذكر هنا: أَن البيت الحرام كما جعله الله تعالى سببًا لأمن الطير والوحوش، جعله كذلك ملاذًا للناس وأمنًا من المخاوف وسببا لحصول الخيرات، وتحصيل البركات في الدنيا والآخرة. {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ}: أَي صيَّر الله الكعبة - التي هي البيت الحرام - قياما للناس أَي سببا لقيام وصلاح أمر دينهم ودنياهم .. فهى مركز الإِسلام الأَول. فصلاح أَمر الدين: بالحج إِليه وأَداء المناسك والعبادات. التي تُقَرِّبهُم إِلى الله تعالى. وصحة الصلاة باستقباله. وتقويم الشهور العربية، عن أَهلته.

وصلاح أَمر الدنيا وقيامها: بأَمنٍ داخل الحرم بسبب حرمة التعرض له، ويجبى إليه ثمرات كل شيء، وذلك لأَن مكة بلد لا زرع فيه ولا ضرع. فقد جعل الله الكعبة مُعَظَّمةً في القلوب يَفِدُ إِليها الناس من كل فج عميق، لأداءِ المناسك، وصار ذلك سببا في إِسباغ النعم على أهلها، إجابة لدعوة سيدنا إِبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه. كما حكاه الله تعالى عنه في قوله سبحانه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬1). وَلقد حقق الله دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، فأصبحت الكعبةُ مثابةً للناس وأَمْنًا لمن لاذ بها. كما صارت أَمنا لأَهلها على أَنفسهم وأموالهم. فقد كان العرب يغير بعضهم على بعض إِلا في الحرم. فلو لَقِىَ الرجلُ قَاتِلَ أَبيه أَوابنه، لم يتعرض له بسوءٍ. وقد أُثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: "لو ظَفِرْتُ فيه بقاتِلِ الخطاب - أَبيه - ما مَسَسْتُه". وكذلك جعل اللهُ الشهر الحرامَ سببًا لقيام الناس لأَن العرب كانوا يتقاتلون في سائر الأشهر، حتى إذا دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتال، وزال الخوف والفزع، وباشروا الأسفار والتجارات. وهم آمنون على أَنفسهم وأموالهم. ولهذا كانوا يكتسبون - في الشهر الحرام - أَقواتهم التي تغنيهم وتسد حاجتهم طول العام. وكذلك جعل الله تعالى الهَدْىَ قياما للدين وللدنيا لأنه يُهْدَى إِلى البيت الحرام، ويُذبَح ويُفرق على فقراءَ الحرم ومساكينه. فيكون نسكا للمُهدِى: يُثَاب عليه، وقياما لمعيشة الفقراءِ والمساكين. وكذلك القلائد: أَي النعم المقلدة؛ جعلها الله سبحانه قياما للناس. فإن لحمها طعام لمساكين الحرم؛ يقوم به أَمر دنياهم. وثوابها يرجع إِلى من يقدمها. فيقوم بها أمر أُخراه. وتخصيصها بالذكر - مع شمول الهدى إِياها - لبيان أن الشر أَباح تقليد المهدي، لما فيه من إِظهار شعائر الله والمبالغة في منع التعرض لها. ¬

_ (¬1) إبراهيم، الآية: 37

{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: أَي ذلك الذي شرعه الله؛ في شأن الكعبة والشهر الحرام والهدى والقلائد - ليعلم الناسُ ويتدبروا عظيمَ لُطْفِ الله؛ الذي يعلم شئون خلقه، ويعلم ما يحتاج إِليه أَهل هذا الإِقليم - الذي لا زرع فيه - من أَسباب الرزق، وأَن علمه محيط بكل شىءٍ. فلا تخفى عليه خافية. وفي تكرار العلم في {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ توكيد، لإِحاطته تعالى بما كان، وبما هو كائن، وبما سيكون. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}. التفسير 98 - {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: بعد أَن بين الله - في الآيات السابقة - بعض مناسك الحج، عقب ذلك بالتحذير من عقابه لمن يخالف أمره، والترغيب في ثوابه ومغفرته لمن يتبع هداه. فقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي اعلموا - أَيها المكلَّفون - أَن الله شديد العقاب، لمن اجترأَ منكم على حُرُماته، ولم يبال بأوامره ونواهيه، ولم يعقب سيئاته بالندم عليها والمتاب منها. واعلموا أن الله عظيم الغفران والرحمة، لمن تاب من ذنبه وعاد إلى ربه، وندم على ما فرط منه.

والآية قدمت الوعيد بالعقاب على الوعد بالغفران والرحمة، ليدرك الناس مبلغ خطورة الذنب. كيلا يُقدِموا عليه. فإن أَقدموا عليه - جهلا - سارعوا إلى المتاب منه؛ ندما واستغفارا، ليكونوا أَهلا لمغفرة الله ورحمته. 99 - {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}: أَي: ليس على الرسول إِلا أَن يبلغ ما أُنزِل إِليهِ من ربه. وقد أدى عليه الصلاة والسلام رساله ربه كاملة. فبشر وأَنذر، وأَعلن ذلك في حجة الوداع. وقال: "ألَا لِيُبلِّغ الشَّاهِدَ الغائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوعى لَهُ مِن بَعْضِ مَن سَمِعَهُ، أَلَا هَل بَلَّغْت؟ أَلا هَل بَلَّغت .. ؟ " (¬1) والله سبحانه وتعالى، يعلم ما تُظْهرون وما تُخفُون من طاعة ومعصية، فَيحَاسِبُكم عليه, ويجازيكم به، إِن خيرًا فخير. وإِن شَرًّا فشر. 100 - {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} الآية. المراد من الخبيث: ما يَعُمُّ الردئَ والحرامَ. والمراد مِن الطيب: ما يعم الجيدَ والحلال. وقد أَمر الله الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أَن يبلغ أُمَّتَه هذه القاعدة العامة التي لا يمارى فيها العقلاءُ. وهى أَنه: لا يستوى الخبيث والطيب , ولو كان الخبيث كثيرا والطيب قليلا. قليلا. فالطيب: من كل شئٍ - راجح محمود وإن قل. والخبيث: مرجوح مرذول، وإِن كثر!! وإن كان الأَمر كذلك, فلا يعقل أن يتقبل الله الخبيث - مهما كثر - ويدع الطيب وإن كان قليلا. فإن اللهَ طَيِّبٌ - لا يقبل إِلا طَّيبًا. ولذا، عقبه بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أَي: اجعلوا لأَنفسكم وقاية من عقاب الله، يا أصحاب العقول السليمة، بفعل الطيب من الأعمال وترك خبيثها؛ لكي تفوزوا برضوان الله، وتنجوا من غضبه وعقابِه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري في حجة الوداع.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}. التفسير 101 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... } الآية. بين الله تعالى - فيما سبق - أَن وظيفة الرسول هي: التبليغ وبيانُ شرع الله. وقد أَدى الرسول ما أُوحِىَ إِليه من ربه، وبرئت ذمته. واستطرد الحديث، إِلى الكلام على حال العباد، وأَعمالهم، ومكاسبهم، ومبلغ تأَثرهم بالرسالة. فناسَبَ - بعد ذلك - أن يُنبِّه المؤْمنين: إِلى أَنه لا ينبغي لهم أن يكثروا على الرسول من السؤَال، حتى لا يؤَدي ذلك إِلى كثرة التكاليف، فيشقَّ لجهم ذلك فيقعوا في الحرج، ويعجزوا عن القيام بما يُكَلَّفون به، ويخالفوا أَوامر الله، ويكونوا من صنف الخبيث من الناس. فيبوءُوا بغضب الله وسخطه. سبب النزول: روى الإِمام أَحمد - بسنده - عن عليّ قال: "لما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ، أَفِي كُلِّ عام؟ فَسَكَت، فَقَالُوا: أَفِى كلِّ عَام؟ فَسَكتَ. ثُمَّ قَالُوا: أَفِى كُلِّ عَام؟ فَقَالَ: لاَ .. وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ ... وَلَوْ وَجَبَتْ, لَمَا استَطَعتم"؛ فأَنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... } الآية.

وروى البخاري - بسنده، عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط. وقال فيها: "لَوْ تعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكتمْ قَليلًا ولَبكَيْتُمْ كَثيرًا" قال، فغطَّى أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وُجُوهَهم - لهم حنينٌ - فقال رجل: مَنْ أَبى؟ فقال: فلان ... فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}: أي: يأَيَّهَا الذين آمنوا - لا تسأَلوا رسول الله عن أَشياءَ من أمور الدين ودقائق التكاليف. أَو من أمور الغيب , أَو الأَسرار الخفية، أَو غير ذلك - حتى لا يحرجكم بيانه أو يحزنكم ويسوءَكم سماعه: إِما بتشريعِ ما يشق عليكم، أَو بذكَرِ أَسرار تفضح أَهلها. {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}: أَي: وإِن تسأَلوا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم , عن تلك الأَشياء - في زمان نزول الوحى ووجود الرسول بينكم - فإِن الله تعالى يُظْهِرها ويُبْديها لكم على لسان رسوله. وفي هذا تحذير من السؤال عن أَشياء: يكون من شأْن إِبدائها، حرج للسائلين. أَما السؤال لغرض التَّفَقُهِ أَو الحكم في أَمر ديني، فلا مانع منه. كما وقع في شأن تحريم الخمر، بعد نزول آية البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... } (¬1) الآية. فقد سأَل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وكرَّر المسألة: "اللَهُمَّ بَيِّنْ لَنَا في الخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا". حتى انتهى التشريع إِلى تحريم الخمر تحريما قاطعا. {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}: أي: عفا الله عما سلف من مساءَلتكم عنها قبل التحريم. فلا تعودوا إِلى مثل ذلك فيما بعد. ومعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}: أَي: عظيم الغفران والحلم، فلا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم من الذنوب فهو تعالى يعفو عن كثير. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 219

ثم بين لهم الآثارَ المترتبة على إلحافهم في السؤال فقال: 102 - {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}: أَي قد سأل مثل هذه المسائل المنهِى عنها، قوم من قبلكم فأجيبوا، ثم لم يعملوا، فأَصبحوا بها كافرين. {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. المفردات: (بَحِيرَةٍ): البحيرة؛ هي الناقة التي يبحرون أُذنها. أي يشقونها إِذا أنتجت خمسة أبطن. خامسها أُنثى. (سآئِبَة): السائبة؛ هي الناقة التي تُسيَّبُ بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت ولا يحمل عليها شئ. ولا يجز وبرها, ولا يُحْلَبُ لَبَنُها إلا لضيف. (وَصِيلَةٍ): الوصيلة؛ هي الشاه التي نصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاه ذكرا: كان لآلهتهم. وإذا ولدت أُنثى: كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأُنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. (حَامٍ): الحامى؛ هو الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن, فيقولون: حمَىَ ظهره فلا يحمل عليه , ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعى.

التفسير 103 - {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} الآية. بعد أَن نهى الله عن تحريم ما أَحل من الطيبات. وعن الاعتداء ومجاوزة الحد فيما، أحل أَو حَرم. وبعد أَن نهى عن كثرة السؤال كما قد يؤَدي إِلى مساءَلتهم وتكليفهم - بعد كل هذا - ناسب أن يُبيِّن ضلال أَهل الجاهلية، فيما حَرَّمُوه على أَنفسهم وما شرعوه، مما لم يأذن به الله تعالى، وفيما قلَّد فيه بعضهم بعضا، مبينا بطلان التقليد، وأَنه يتنافى مع العقل، والعلم, والدين الصحيح. فقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}: هذا رَدٌّ وإِنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية. وهو أَنهم كانوا إِذا نتِجت الناقة خمسة أَبطن - آخرها ذكر - بحروا أُذنها. أي شقوها. وخلَّوْا سبيلها، فلا تُركب ولا تُحلب. وكان الرجل منهم يقول: إن شُفيتُ، فناقتي سائبة. ويجعلها كالبحيرة: في تخلية سبلها, وإن ولدت ذكرا وأُنثى معا. قالوا: وصلت الأُنثى أَخاها فلا يُذبَحُ الذكر. وإِذا نتِجَت من صلب الفحل عشرة أَبطن. حرموا ظهره، ولم يمنعوه من ماءٍ ولا مرعى. وقالوا: قد حَمىَ ظهره. فمعنى قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}: أي: ما شرع الله ذلك ولا أَذِنَ به. وإنما هو مبتدع مختلق من عندهم. {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون - زورًا - أن الله تعالى يأمرهم به. وأول من سنَّ لأَهل الشرك تلك السنن الباطلة المنكرة, ونسبها إلى الله. هو عمرو بن لُحَىِّ الخزاعى، فهو الذي غير دِينَ إِبراهيم وإسماعيل, وبَحَر البحيرةَ وسيب السائبة. وحمى الحامى. وزعم أَن ذلك شَرْعُ إِبراهيم عليه السلام.

أَخرج ابن جرير، عن أَبي هريرة، قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكتم بن الجون: "يا أَكتمُ، عُرضتْ عليّ النارُ. فَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بنَ لُحَى بن قَمَعة ابن خِندف يَجُرُّ قُصبَهُ (¬1) في النارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُل، منكَ بِهِ وَلَا بِهِ مِنكَ. فقال أَكتمُ: أخشى أَن يضرنى شبهه يا رسول الله. فقال رسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: لاَ .. إنَّكَ مُؤْمِنٌ. وَهُوَ كَافِرٌ. إِنه أَول من غَيّرَ دينَ إِسماعيل، وبحَر البحيرةَ، وسيّبَ السائبةَ، وحمى الحامىَ". {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}: أن ذلك افتراءٌ؛ لأَنهم قلدوا فيه آباءَهم. والمعنى: ولكن الكافرين - من الرؤساءِ والكهان (¬2) - افتَرَوُا الباطل، وأَضافوه - زورا - إلى الله. أَمَّا أَكثرهم - وهم عوامهم الذين يَتَّبعونهم - فهم قوم لا يعقلون أَنه افتراءٌ باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأَنفسهم. لذلك قلدوهم واستمروا على تقليدهم. وفي هذه الجملة تنديد بقصور عقلهم، وسوء تقليدهم، لمن أَضلوهم من الكهان. 104 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... } الآية. هذا بيان لقصورهم، وانهماكهم في التقليد، دون أن يحَكِّموا عقولَهم. والمعنى: وإذا قال لهم الرسول: تعالَوْا إِلى ما أَنزل الله من تشريع، وإِلى الرسول ليبينه لكم، أَعرضوا ولم يستجيبوا لداعى الهُدَى والحق قائلين: كافينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدين والتشريع. فَردَّ الله تعالى عليهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}: أَي: أَيكفيهم ما وجدوا عليه الآباء، ولو كان أولئك الآباء جاهلين: لا يعلمون شيئًا من شرع الله، ولا يهتدون إلى سبيل الحق والرشاد؟ والاستفهام في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ}. للإِنكار والتوبيخ، والتعجيب من فرط جهالتهم، وتقليدهم الأَعمى. ¬

_ (¬1) القصب - بضم فسكون - المعى. وجمعه قصبان. (¬2) رجال الدين من المشركين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. التفسير 105 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ... } الآية. بعد أَن نعى الله تعالى، على المشركين تقليدهم لآبائهم بغير علم, واتباعهم إِياهم. في ضلالهم، وأَبان: أَنهم لم تنفعهم المواعظ ولم يُجْدِهِم التذكير بتجهيل الآباءِ، بل استمرُّوا على تقليدهم وجهلهم - بعد كل هذا - أَمر الله المؤمنين أَن يقوَّموا أَنفسهم بالإِصلاح، والعلم النافع, والعمل الصالح. وأَوضح لهم: أَنهم إِذا التزموا الطريقَ المستقيم، لا يضيرهم - بعد ذلك - ضلال الضالين، وغواية الغاوين ... ومعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}: أَي: التزموا إِصلاح انفسكم، واحفظوها من المعاصي، واعملوا خيرا يقربكم من الله تعالى، ويحفظكم من سخطه وعقابه. فإِنه لا يضركم ضلال الضالين إِذا كنتم على هدى. روى الترمذي، عن أَبي أُمية الشيبانى. قال: "أَتيت أَبا ثعلبة الخشني فقلت له: ما تصنع في هذه الآية؟ فقال: أَيَّةُ آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}: قال: أَمَا والله، لقد سأَلت عنها خبيرا .. سأَلتُ عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ المنكَرِ، حتَّى إذا رأَيتَ شحًّا مُطاعا، وَهَوًى متَّبَعًا، ودُنْيا مُؤْثَرَةً وإِعجابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برأْيه، فَعليْكَ بِخاصَّةِ نفْسِكَ .. ودَعْ عَنكَ العَوَامَّ، فإِنَّ مِن وَرَائِكُم أَيَّامًا: الصَّابِرُ فِيهنَّ، مِثْل القابضِ عَلى الجَمْرِ. للعامل فِيهنَّ أَجْرُ خَمْسِين رَجُلا يَعْمَلونَ كَعَمَلِكُم".

وزاد في رواية أُخرى "قيل: يا رسول الله أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَو منْهُم؟ " قال: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ منْكُم". وروى ابن كثير، عن الإمام أحمد: أن أَبا بكر رضي الله عنه قام فحمد الله، وأَثنى عليه. ثم قال: "أَيها الناُس، إِنكم تَقْرَءُون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: وإِنكم تضعونها على غير موضعها. وإِني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ الناسَ إِذَا رأَوا المنكر ولم يُغيَّرُوهُ، يُوشِكُ الله - عزَّ وجل - أن يَعُمَّهُم بِعقابِه". وظاهر هذه الآية، يوهم أَن الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد يسقطان عن المستقيم الصالح، إِذا رأَى الضال مصرًّا على ضلاله. ولكنَّ فهْمَ الآية على هذا الوجه خطأ. فإِن الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر - لا يسقط وجوبهما عن القادر عليهما بحال من الأَحوال. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... } (¬1) وقال تعالى: "كُنتُم خَيْرَ أمَّةٍ أخرِجَتْ للناس تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتنهونَ عَنِ الْمُنكر وَتُؤْمِنُون بِالله ... " (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "وَالذى نَفْسِى بِيَدِهِ. لتأمُرنَّ بِالْمعْرُوفِ وَلتَنْهَوُن عن المنكَر، أَوْ لَيوشِكن الله أن يَبعَثَ عَليْكُم عِقَابًا مِّن عِندِه، ثم لتَدْعُنَّه فَلَا يَسْتَجيبُ لَكُمْ". وقد لعن الله اليهود؛ لأَنهم: "كانُوا لَا يَتَنَاهوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ... " (¬3). وقد سبق شرح هذه الآية. {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: إِليه وحده ,رجوعكم جميعًا: من ضل ومن اهتدى. فيخبركم - عند الحساب - بما قدمتم من أَعمال، ويجزيكم على حسب ما علمه من هدايتكم أَو ضلالكم. وفي هذا وعد للمهتدين، ووعيد للضالين، وأَنه لا يُؤَاخِذُ أَحدا بذنب غيره. لهذا كله، يجب تأْويل الآية كما يلي: ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 104 (¬2) آل عمران، من الآية: 110 (¬3) المائدة, من الآية: 79

يَأَيها الذين آمنوا، عليكم إِصلاح أَنفسكم، بفعل ما أُمِرتُم به من التزام الحق والدعوة إِليه، وتَركِ الباطل والنَّهْي عنه. لا يضركم - بعد هذا - ضلالُ من ضل، إِذا اهتديتم. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... } (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}. المفردات: (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ): الشهادة؛ قول صادر عن علم حصل، بطريق البصر أو السمع، أَو بهما جميعًا. ¬

_ (¬1) فاطر، من الآية: 18

{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}: أَي سافرتم فيها. {تَحْبِسُونَهُمَا}: أَي تُمسكونهما، وتمنعونهما من الانطلاق والهرب. (إِنِ ارْتَبْتُمْ): أَي شَككتم في صدقهما فيما يُقِرَّان به. (لَمِنَ الْآثِمِينَ): أَي العاصين. (فَإِنْ عُثِرَ): عثر من العثور على الشيء، وهو؛ الاطلاع عليه من غير سبق طلب له. وأَعثره عليه: وقَفَه عليه، فأَعلمه به، من حيث لم يكن يتوقع ذلك. التفسير 106 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ... } الآية. لمّا بين الله تعالى - في الآية السابقة - أَن المرجع إليه وحده بعد الموت، وأَنه هو الذي يتولى الحساب، وجزاء المحسن والمسىء، أَرشدنا سبحانه - في هذه الآية - إِلى أَنه يلزم - في الوصية قبل الموت - الإِشهاد عليها، حفاظا على أَداءِ الحقوق الموصَّى بها لمستحقيها. سبب النزول: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "خرج رجل من بني سهم مع تميم الدارى وعدى ابن بداء، فمات السهمى بأَرضٍ ليس بها مسلم. فلما قدما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوصا بالذهب فأَحلفهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بالله تعالى: ما كتمتما ولا اطلعتما. ثم وُجِد الجامُ بمكة. فقيل اشتريناه من تميم وعدي. فقام رجلان من أَولياء السهمى، فحلفا بالله؛ لشهادتنا أَحق من شهادتهما. وإِن الجامَ لصاحبهم .. وفيهم نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري في التاريخ والترمذي، وحسنه ابن جرير وابن المنذر.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ}: أَعلَمَ اللهُ سبحانه المؤمنين: أَن الشهادة المشروعة بينهم - حين الوصية - هي شهادة اثنين من أَصحاب العدالة والتقوى: يُشْهِدهما الموصِى على وصيته، فيتحملان هذه الشهادة، لأدائها عند الحاجة. (مِنكُمْ): أَي من المؤمنين، وقيل: من أَقارب الموصِى. (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ): أَي من غير المسلمين. فكأَنه قال: أَو شهادة اثنين آخرين من غير المسلمين. {إِنْ أَنتُمْ ضرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ): أَي: إِن أَنتم سافرتم في الأَرض، ونزلت بكم مصيبة الموت، وأَردتم الإِيصاءَ. فأَشهِدوا عَدْلَيْن من أَقارب الموصى أَو من المؤمنين أَو آخرَين من أَهل الذمة. أَي فأَشهدوا عدلَين منكم معشر المؤمنين. وقيل عَدْلَيْن من أَقارب الموصى. وذلك إِذا تَيسَّرَ وجودهما. فإِن لم يتيسر وجودهما - بسبب السفر مثلا - فيجوز اختيارُ اثنين من أَهل الذمة. وقيل من غير أَقارب الموصى له. (تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ): تمنعونهما من الانصراف للتحليف بعد الصلاة. والمراد بالصلاة التي يُحْبَسان بعدها، صلاة العصر، لأَنه وقت اجتماع الناس، ولأَنَّ الحُكَّام كانوا يجلسون للقضاء في هذا الوقت بين الخصوم. وقيل: بعد أَي صلاةٍ كانت؛ لأَن الصلاة داعية إِلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... } (¬1). والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنه حلَّف عديا وتميما الداريَّ بعد العصر. وقد جرى العمل على هذا بين المسلمين. ¬

_ (¬1) العنكبوت، من الآية: 45

{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ}: فيقسمان عند ارتياب الورثة وشَكَّهم، فإِذا لم تكن ريبة. فَيُصَدَّق الشاهدان، لأَمانتهما وعدم الارتياب فيهما. {لَا نَشْترِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}: أَي لا نستبدل بالقَسمِ باللهِ عَرَضا زائلا من الدنيا. فلا نحلف بالله كاذبين، ولو كان القَسَمُ يحقق مصلحة لبعض الأَقارب، طمعا في عَرَض الدنيا. {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ}: أَي ويقول الحالفان - في يمينهما - ولا نكتم الشهادة التي أَمر الله تعالى بإِقامتها. كما قال تعالى: { ... وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ... } (¬1). وكقوله سبحانه: { ... وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ... } (¬2). {إنَّا إذًا لمن الْآثِمِينَ}: أَي: أننا إِذا اشترينا بالقسَمِ ثمنا، أَو راعينا فيه قرابة. بأَن كذبنا في الشهادة - ابتغاءَ المنفعة لأَنفسنا أَو لقرابتنا، أَو كتمنا الشهادة كلها أَو بعضها - كنا من الواقعين في الإِثم، المستحقين للعقوبة من الله عليه. 107 - {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ... } الآية. فإِن اطُّلِعَ - بعد القسم - على أَن الشاهِدَيْنِ الحالِفَيْنِ استحقَّا إِثما، بسبب الكذب أَو الكتمان في الشهادة، أَو الخيانة في شيء من التركة: التي تحت أَيديهما - فَعدْلان آخران من أَقرباء الميت: الذين وجب عليهم آداء الشهادة والقسم - وهذان الشاهدان هما: الأَوْلَيان بالشهادة والقسم. من سائر أَقرباء الميت، لقوة قرابتهما من الميت واستحقاقهما في وصيته. فيحلفان بالله قائِلَيْن: لَشهادَتنا أَحَقُّ وأَولى بالقبول من شهادة الشاهدين الآثمين السابقين وما تجاوزنا الحق فيما شهدنا به، وأَقسمنا عليه. ¬

_ (¬1) الطلاق، من الآية: 2 (¬2) البقرة، من الآية: 283

{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: أَي: إِنا - إِذا اعتدينا عليهما، ونسبنا إِليهما الباطل، وأَقسمنا زورا وبهتانا - لنكونن حينئذ, من الظالمين: لهما بالكذب عليهما، ولأنفسنا بتعريضها لسخط الله وعقابه. 108 - {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ... } الآية. بيان للحكمة في مشروعية الشهادة، وهذه الأَيْمَان. والمعنى: أَن ذلك التشريع الحكيم، الذي شرعناه , أَقرب إِلى أَن يؤدى المؤتمن على الوصيه. الشهادة على وجه الحق والعدل. بلا تغيير ولا تبديل. مراقبةً لجانب الله، وخوفًا من عقابه. فإن في أَداءِ الشاهدين للقَسَم - على مَلَإٍ من الناس بعد الصلاة - ما يبعث الرهبة من الله والخوف من عذابه, والرغبة في مثوبته وعظيم أَجره. والذى لا يرتقى إلى هذه المرتبة - من مخافة الله ومراقبته - فإِنه - قطعا - يخاف الافتضاح والتشهير به، بردّ اليمين على الورثة الأَقربين, حيث يقوم بالشهادة والحلف الأَوليان، والأَحقَّان بوصية الموصى. وفي ذلك من الخزى والفضيحة، ما فيه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا}: أَي: واتقوا الله تعالى - وراقبوه واسمعوا، وأَطيعوا، واحذروا أَن تحلفوا كاذبين في أَيمانكم، أَو أَن تخونوا في الأَمانات التي تحت أَيديكم. فإن لم تتقوا - ولم تسمعوا ما أُمرتم به , وما نهيتم عنه - كنتم الفاسقين الخارجين عن طاعة الله. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: إِلى سبيل الرشاد.

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}. المفردات: (بِروحِ الْقُدُسِ): هو مَلَكُ االوَحْي؛ جبريل عليه السلام. (الكِتَابَ): الكتب السماوية، أَو الكتابة. (وَالْحِكْمَةَ): العلم الصحيح الذي يبعث الإِنسان على إِصابة الحق؛ في الرأْى والقول والعمل. (وَالتَّوْرَاةَ): الكتاب الذي أنزله الله على موسى، أَساسا لشريعته. ولا يسمى به إِلا الذي كان قبل التحريف. فما يتداوله اليهود الآن، يحرم تسميته التوراة. (وَالْإِنجِيلَ): الكتاب الذي أنزله الله على عيسى: أَساسا لشريعته. وينطبق عليه ما انطبق على التوراة في التسمية. (تخْلُقُ): تُصوِّر.

(الْأَكمه): مَن وُلِد أَعمى. (وَالْأَبرَصَ): المريض ببياض الجلد. والبرص: مرض جلدى يُغَيِّرُ لون البشرة إِلى البياض. (سِحْرٌ مبِينٌ): السحر؛ تمويه وتخييل. به يرى الإِنسان الشىء على غير حقيقته. التفسير 109 - {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ... } الآية. لمَّا أَوجب الله على عباده - في الآيات السابقة. إِقامة الشهادة على وجهها، وحذَّرهم من شهادة الزور، وأَمرهم بتقوى الله تعالى، عقب ذلك ببيان أَهوال يوم القيامة، حتى تتمكن خشية الله وتقواه من نفوسهم، ويعملوا بما كلفهم به. والمعنى: واذكر - أَيها المكلف - حين يجمع الله الرسل يوم القيامة. فيقول لهم: ماذا أُجبتم من أَقوامكم حين دعوتموهم إِلى توحيدي وطاعتي؟ أَهي إِجابة قبول؟ أَم إجابة رَدّ وإباء؟ وبما أَن الله تعالى - يعلم جواب الأُمم لرسلهم. فالمقصود بسؤال الله إياهم، وهو إِظهارُ أمانة الرسل وحرصِهم على تحرِّي الصدق فيما يقولون. ليكون ذلك تنبيها على وجوب تحرى الصدق في الشهادة, والبعد عن قول الزور؛ ولذا قال سبحانه حكاية عنهم: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: أَي: يقولون للمولى - عَزَّ وجل - لا علم لنا بما أَجابونا به، أَهو موافق لقلوبهم؟ أَم مخالف لها؟ وكل ما عرفناه، ظاهر أَحوالهم. فمنهم من أَظهر الإِيمان فعاملناه معاملة المؤمنين، ومنهم من أَظهر الكفر فعاملناه معاملة الكافرين. أَمَّا أَمْرُ القلوب، فهو إِليك. إِنك أَنت علام الغيوب. وصدق الله إذ يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1). ¬

_ (¬1) غافر، الآية: 19

ثم شرع الله في حكاية ما أَجاب به بنو إسرائيل نبيَّهم عيسى عليه السلام، بعد أَن أيَّدَه الله بالمعجزات الباهرات, فقال: 110 - {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... } الآية. في هذه الآية الكريمة، يذكِّر الله تعالى نبيَّه عيسى عليه السلام، بِنِعَمِه عليه وعلى والدته مريم عليهما السلام. حين أَيده بروح القدس؛ وهو جبريل عليه السلام. ومعنى روح القدس: الروح المطهر من شوائب النقص. وتأْييده لعيسى عليه السلام؛ أَنه صاحَبَهُ - من حين ولادته إِلى أَن رفعه الله إِليه. فأَما تأييده له - من حين ولادته - فذلك أَنه أَقدره على أَن يكلم الناس - بحكمة وعلم - وهو في المهد. قبل أَوان الكلام. ومن ذلك قوله لقومه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ... } (¬1). وذلك ردًّا على اتهامهم أُمَّهُ بسوءِ السلوك، حين ولدته دون زوج. وأَما تأْييده له في الكهولة: فهو إِعانته على تبليغه رسالة ربه. بنزوله بالوحي عليه, وإِظهار المعجزات على يديه. وقد جعل الله تأْييده عيسى بروح القدس نعمة عليه، وعلى والدته مريم - عليهما السلام - لما ترتب عليه من إِثبات كرامتهما على الله وطُهْر مَنشَئِه, ونظافة عِرْض أمه. وكذلك سائر النعم التي أَنعم الله بها على عيسى هي - في الوقت نفسه - نِعَمٌ على أُمه مريم عليهما السلام. والمعنى الإِجمالي للآية الكريمة: واذكر - أيها المتأَمل المُنصِف - وقت أَن قال الله لعيسى بن مريم؛ تذَكَّرْ نعمتى عليك يا عيسى وعلى والدتك حين قَوَّيْتُك وأعَنْتُكَ بجبريل الروح المطهر. وكان تأييدنا لك به: أَنك تكلم الناس - في مهد الطفولة, وفي زمان الكهولة - كلام الحكماء الراسخين في العلم، الملهمين من العليم الحكيم. ¬

_ (¬1) مريم, من الآيتين: 31,30

{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}: وتذكَّر يا عيسى. نعمتى عليك، إِذ علمتك (الْكِتابَ): أَي جنس الكتاب. فيشمل الكتب السابقة؛ لأنها - جميعًا - متفقة في أصول العقيدة , وأُصول الشريعة. وعلمتك (الْحِكمَةَ): أَي سداد الرأْى، وإصابة الحق، وفَهْمَ أَسرار العلوم. (وَالتَّوْرَاةَ): التي أَنزلتها على موسى. (وَالْإِنجِيلَ): الذي أنزلته عليك لتكتمل بهما رسالتك. وخصهما بالذكر - مع شمول الكتاب لهما - لأَنهما أَهم الكتب التي أَنزلها الله على أنبياء بني إِسرائيل: ومنهما تؤخذ شريعتك. {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي}: وتذكَّرْ نعمتى عليك: إِذ تُصَوِّر من الطين مثل صورة الطير - بأَمرى وتَيْسِيرِى - فتنفخ في هذه الصورة فتكون طيرا حقيقيا بتيسيرى، ليكون ذلك آية لك. ولولا معونتى لما قدرت على تحقيق هذه المعجزة الباهرة. التي أَيدنا بها رسالتك، وحققنا بها نبوتك. وقد أفادت هذه الآية: أن عيسى - عليه السلام - لم يكن له عمل في شأْن تكوين الطير، سوى صنع صورته من الطين بتيسير الله، ونفخه في هذه الصورة بإِذن الله. أَما تحقيق الحياة للطير، فكان بِإذن الله وأَمره التكوينى، بعد اتخاذ عيسى - عليه السلام, تلك الأَسباب اليسيرة. التي لا علاقة لها بالتكوين أَصلا. {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}: وتذكَّرْ يا عيسى، نعمتى عليك، حين تُبْرِئُ الأَكمه - وهو مَنْ وُلِد أَعمى - فتمنحُه الإِبصارَ بإِذن الله وتيسيره. وحين تخرج الموتى من قبورهم أَحياءً - بعد أَن صارت رميما - بإِذن الله تعالى وتيسيره. وليس لعيسى من ذلك إلا إِجراءُ الله ذلك على يديه. فالكُل فعل الله أَبرزه الله على يديه؛ تأْييدا له، ومعجزةً تَشُدّ أَزرَ دعوته.

ولهذا كرر الله إذنه في كل معجزة من هذه المعجزات. حتى لا يتسرب إلى الذهن: أن تلك الخوارق من صُنع عيسى الذاتى. {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: واذكر يا عيسى، نعمتى عليك وعلى والدتك, حين منعت من أَراد السوءَ بك من بني إِسرائيل، حين جئتهم بالمعجزات الواضحات، سواء ما ذكِر منها هنا أَم في موضع آخر، كإِخبارهم بما يأكلون وما يَدَّخِرون في بيوتهم. فقال الكافرون منهم: ما هذا الذي جئت به إلا سِحْرٌ بَيِّنٌ واضح (¬1). {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}. المفردات: (الحَوَارِيَّينَ): واحدهم حوارىّ، وهو: منْ أَخلص سرًّا وجهرا في مودتك. وحواريُّو الأنبياءَ: المخلصون لهم. التفسير 111 - {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ... } الآية. والمراد بالإِيحاء هنا: الإِلهام. ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } (¬2). وهكذا أَلقى الله في قلوب الحواريين الإِيمانَ به وبرسوله عيسى عليه السلام. والمعنى على هذا: واذكر نعمتى عليك حين أَلهَمْتُ المخْلِصِينَ لك: أَن يؤْمنوا بي ربًّا، وبك يا عيسى رسولًا. فاستجابوا، وقالوا: آمنا بالله وبرسوله، واشهد بأَننا مخلصون. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه في قصة عيسى ومريم عليهما السلام , في سورة آل عمران ابتداء من الآية: 45 إلى نهاية الآية: 51. (¬2) القصص، من الآية: 7.

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}. المفردات: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ): هل يستجيب ربك. (مَآئِدَةً): المائدة؛ الخوان الذي عليه الطعام , أَو الطعام نفسه. (تَكُون لَنَا عِيدًا): العيد؛ السُّرور، أو موسم السرور. (وَآيَةً مِّنكَ): أَي علامة على صدقى في دعوتى ونُبُوَّتى. التفسير 112 - {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ... } الآية. في هذه الآية - والثَّلاث التاليات لها - قِصَّةُ المائدة التي إِليها تُنْسَب هذه السورة. وهى من النعم التي أَنعم الله عزَّ وجل بها على عبده ورسوله عيسى عليه السلام.

والمعنى: واذكر أيها المتأَمل، حين قال الحواريون: يا عيسى بن مريم، هل يستجيب لك ربُّك إِذا سأَلته أَن ينزل علينا مائدة من السماءِ؟ {قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: قال عيسى: خافوا الله، فلا تقترحوا عليه الآيات، تَأَدُّبًا معه تعالى، إِن كنتم مؤمنين بما جئتكم به. 113 - {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}: أي: نطلب المائدة لأربعة أَسباب؛ أَن نأْكل منها. وأَن تطمئن قلوبُنا بأَننا على الحق, بانضمام المشاهدة, واللمس، والذوق، والشم إِلى علم السمع. وأن نعلم - علم اليقين - أَنك قد صدقتنا فيما جئتنا به بعد أن علمناه بالبرهان. وأن نكون على هذه المعجزة من الشاهدين، عند الذين لم يَرَوْها من قومنا، لِيؤْمنَ كافِرُهم، ويزدادَ الذين آمنوا إيمانا. 114 - {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا ... } الآية. قال عيسى بن مريم - بعد أن علم من الحواريين أَن سؤالهم كان لزيادة العلم واليقين - يا الله، يا ربنا, ومالكَ أَمرنا، ومتولى تربيتنا: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ}: لأَول هذه الأمة وآخرها، واجعلْها آية منك وعلامة من لدنك: ترشد القوم إِلى صحه نُبُوَّتى. (وَارزقنَا): منها ومن غيرها. (وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقينَ): ترزق من تشاءُ بغير حساب. 115 - {قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ... } الآية. هذا وَعْدٌ من الله تعالى - بإِنزال المائدة. أَجاب به سؤال عيسى. وهو يقتضي أنه قد أنزلها, فإِن وعده الحق. وقد رتب الله - عز وجل - على هذا الوعد شرطا فقال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}: أَي: منْ يكْفر منكم - بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها - فإنى أَعذبه عذابا لا أُعذبه أَحدا من العالمين. حيث لا عذر لمن يرى الآيات تترى من رسوله، ثم يطلب بعد ذلك آية على النحو الذي اقترحه، فيجاب لها، ثم بعد ذلك يكفر!!

أَما صفة المائدة، وأَنواع طعامها، فلم يجىء فيها دليل يُعَوَّل عليه! ولهذا ينبغي أَلا ينساق القارئ إِلى ما يُرْوَى في ذلك من روايات. ويفوض الحقيقة لله. وما أَحسن قول بعض العلماءِ: العلمُ بذلك لا ينفع. والجهل به لا يضر!! {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}. المفردات: (سُبْحَانَكَ): أَي تنزيها لك عما لا يليق بك. (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا): أَي رقيبًا، أَو شاهِدًا لأَحوالهم من كُفر وإِيمان. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى): التوفى؛ أَخْذُ الشَّىْءَ وافيا كاملا، ومنه الموت؛ لأَن الميت استوفى أَجله. (الرَّقِيبَ): المطَّلِعَ على أَحوالهم.

التفسير 116 - {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية. أفادت هذه الآية: أن الله - سبحانه - يبكت أتباع عيسى على اتخاذه وأُمه إِلهَيْن من دون الله. وأَن عيسى - عليه السلام - تَبرَّأَ من دعواهم هذه. وأَشهد اللهَ على براءَته. ويرى بعضُ العلماءَ: أَن ما جاءَ في الآية حَدَثَ في الدنيا. ويرى آخرون: أَنه سَيحْدُثُ في الآخرة. والتعبير بلفظ (قال)؛ لتحققه. وإليه ذهب قتادة. والمعنى على هذا: واذكر يا محمد للناس، وقت قول الله - عزَّ وجل - في الآخرة؛ توبيخا للكفرة، وتبكيتا لهم: أَأَنت يا عيسى، قلت للناس: اتخذونى وأُمَىَ إلهَيْن من دون الله، مع أَنك أُرسلت إليهم بدعوة التوحيد؟ وقد نعى الله على الذين اتخذوا المسيح إِلها، في مواضع عدة من هذه السورة. وعبادة أمه كانت معروفة في الكنائس الشرقية والغربية، وسُمِّىَ الذين عبدوها: "المَرْيَمِيُّونَ" ... وهذه العبادة منها: ما هو صلاة ذات دعاء وثناء على المعبود. ومنها ما هو استغاثة، واستشفاع. ومنها ما هو صيام ينسب إِليها، ويسمى صيام العذراء. وكل ذلك يقترن بخضوع وخشوع لذكرها ولصورها ولتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها، وأنها تنفع وتضر: في الدنيا والآخرة، إِما بنفسها أَو بواسطة ابنها. ويسمونها: "والدة الإِله". ولا تزال هذه الصور موجودة لدى طوائف المسيحيين على اختلاف مذاهبهم. (قَالَ سُبْحَانَكَ): أَي: تنزيهًا لك يا أَلله، عن أَن يكون معك إله آخر.

وبذا، نزَّه عيسى ربَّه - على رءُوس الأَشهاد - عن المشاركة في الذات والصفات، مع الخضوع لعزته والخوف من سطوته. {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}: أَي: ليس من شأْنى - ولا ينبغي لى - أَن أَدَّعِىَ لنفسى ما ليس من حقها، فأَنا مَرْبُوبٌ ولست برب، وعابد ولست بمعبود. وذلك القول - بافتراض صدوره مني، فقد علمته. إذ علْمكَ واسِع محيط بكل شيء: تعلم سِرِّى وما انطوى عليه ضميرى. ولا أَعم شيئا مما استأْثرتَ به من غيبك وعلمك، إِلا بِقَدْرِ ما تُظْهِره لي بالوحى. فالشك المفهوم من قوله: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} افتراضى لا حقيقى، ليقين عيسى عليه السلام بأَنه لم يقُلْه. {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: إِنك أَنت المحيط بجميع الغيوب، لا يخفى عليك شيء منها، في الأَرض ولا فى السماء. ومن كان كذلك، فلا تخفى عليه براءَتى مما نسبه إِلَىَّ منْ أَلَّهُوني وأُمى. 117 - {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... } الآية. هذا تأْييد لعدم شكه، وأن الشك ادعائى أَو افتراضى، إِمعانا في العبودية، وإِعظاما للربوبية. أَي: ما قلتُ لهم إِلا ما أَمرتَنى بإِبلاغه إِليهم. وهو الأَمر بعبادة الله ربي وربهم؛ لأَن الله خصّنى بالرسالة إِليهم. وما كِان لرسول أَن يُغَيَّرَ في تبليغ الرسالة. {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}: أي: وكنت عليهم مراقبا لأَحوالهم؛ مرشدا لهم مدة بقائى بينهم. (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي): أَي: فلما رَفَعْتَنِي إِليك؛ مستوفيا ما قدرته لي؛ إِنجاءً لي من كيد بني إِسرائيل وتدبيرهم لقتلى.

وقد جاءَ التَّوَفِّى بهذا المعنى، في قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } (¬1). ولا ينبغي أَن يحمل على الإِماتة؛ لأَن إِماتة عيسَى - في الوقت الذي كان فيه بنو إِسرائيل يتربصون له , ويتحينون الفرصة للفَتْك به - ليس فيها تكريم له. {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}: كنت أَنت المطلع عليهم دونى، والعليمَ بأَحوالهم؛ لأَنى شَهِدتُ من أَفعالهم ما عملوه مدة وجودى معهم. {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}: أي: أنت وحدك المحيط علمًا بكل شيء. فلا تخفى عليك أَحوالهم ولا أَحوال غيرهم. 118 - {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أَي: إِن تعذبْ من أَرسلتنى إِليهم وقمتُ بتبليغهم ما أَمرتنى به من توحيدك وعبادتك، فآمن منهم مَنْ آمَن، وكفر منهم مَنْ كَفر - فإِنما تعذب بالعدل من يستحق التعذيب، لكفرهم بعد وجوب الحجة عليهم، وإِن تغفرْ لمن آمن - وكان أَهلا لفضلك - فذلك تَفَضلٌ منك وأَنت العزيز الغالب لا يمتنع عليك ما تريد. الحكيم في تَصرفك وصُنْعِك: تضع كل جزاء في موضعه. {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 55

التفسير 119 - {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ... } الآية. هذه إِجابة من الله تعالى؛ يوم القيامة، وأَجابة بها عيسى عليه السلام؛ بعد ما تَبرَّأَ من ادعاءِ قومه ألوهيته، وألوهية أمه، ورد الأمر فيه الى الله تعالى. والمعنى: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) في توحيد الله وعبادته في الدنيا، حتى لقوا ربهم. {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أي: لهؤلاء الصادقين في توحيده، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ثوابا جزيلا من عند الله؛ حيث رضى الله عنهم رضا ما بعده رضا، وذلك الفوز العظيم، لا مطلب لهم بعده. وبعد أن بين عز وجل، ما لأهل الصدق عنده من الجزاء الأوفى، بين عقبه - في ختام السورة - سعة ملكه وتفرده به، وشمول قدرته فقال: 120 - {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}: أي: إن الملك كله، والقدرة المكاملة - في السموات والارض - لله وحده. فلا مُلك ولا تصرف لعيسى وأمه لا لغيرهما فيهما. فهما داخلان - ضمنا - تحت قبضته كسائر خلقه. وغايه ما أعطاهما: الكرامة لديه، والمنزلة الرفيعه بين عباده.

سورة الأنعام

سورة الأنعام وآيتها: 165 نزلت بعد الحجر هذه السوره مكية إلا بعض آيات فمدنية، وآياتها خمس وستون ومائة، نزلت بعد سورة الحجر. وقد نزلة دفعة واحدة. فعن ابن عباس أنها نزلت ليلا جملة. وهى تناسب سورة المائدة في أغراضها المختلفة. ومن ذلك محاجة أهل الكفر. ففي سورة المائدة دار الحجاج مع أهل الكتاب. وفي سورة الأنعام دار الحجاج مع من في مكة من المشركين والمبتدعين والمكذبين بالبعث والنشور. ومن ذلك أنهما - كلتيهما - تضمنتا أحكام الأطعمة، إلى غير ذلك من المناسبات وتنفرد - بكثرة ذكر الشرك والمشرك والمشركين - فقد ورد ذلك فيها في عشرين موضعا. ومن مقصدها: 1 - تقرير وحدانية الله تعالى - وما يجب له من صفات الكمال، وهدم عقيدة الشرك، وتقويض أركانه. بالحجة والبرهان. فقد قال العلماء في هذه السوره: إنها أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين. وقد بين الله تعالى - في صدرها أنه يستحق الحمد وحده، فإنه هو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وذكر أن الكافرين يعدلون به آلهتهم، حيث جعلوها شركاء له في الألوهية، مع أنهم يقرون بأن هو الخالق لهذا الكون دون ألهتهم. كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ... } (¬1). ¬

_ (¬1) العنكبوت، من الآية: 61

ثم يتبع ذلك بالآيات البينات، الدالة على وحدنيته تعالى، حتى يصل إلى محاجة إبراهيم لقومه في شأن عبادة الأصنام والكواكب. وقد جاءت تلك المحاجة في أسلوب التنزل مع المشركين والتظاهر بأنه - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - يسايرهم في عائدهم، ليثبت لهم - في النهايه - فساد عبادتهم لها، ويقول لهم: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)). ثم يستمر السياق من آن لآخر، يذكر الناس بعظمة الله تعالى وتفرده بالألوهية، حتى تنتهى قبيل نهاية السورة بقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... (164)). 2 - التنبيه إلى خطإ الكافرين في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم - وبيان أنهم وصلوا من العناد، إلى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء ولمسوه بأيديهم، وتحققوا من نزوله من السماء، وكان هذا الكتاب يدعوهم إلى الإيمان بالرسل - لزعموا أنه سحر مبين، وجاء فيها عبد ذلك بيان فساد رأيهم في طلب أَيكون الرسول ملكا، وإذ أنه لو نزل بصورته الحقيقة لهلكوا؛ لأنهم لا يحتملون لقاءه. ولو نزل بصورة بشر لالتبس الأمر عليهم. 3 - تسلية الرسول بما أصاب الرسل قبله من سخرية أقوامهم بهم وتكذيبهم إيهاهم، وتهديد مكذبى الرسل بمثل عقابة المكذبين قبلهم. ثم يمضى الحجاج بين الرسل وبين قومه، في أنحاء السورة، ويبين تارة أن على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا. وتارة أُخرى أنهم إن يروا آية لا يؤمنوا بها، ويقولوا سحر مبين. ثم تمضى السورة في هذا الحوار، بين الحق الواضح والباطل الفاضح، حتى تدمغهم وتدحض حججهم.

4 - فقدان الكفار ميزات الإِنسانية، فهم مَوْتَى، والموتى لا يستجيبون إِلى الحق، وهم صم وبكم في الظلمات؛ وتهددهم بالإِبادة إِن استمروا على كفرهم: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}. 5 - بيان الرحمة الإِلهية بالإِنسان وأَن الكفار { ... وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ... [91]}. وتذكر أَن الله أَمر الرسول أَن يقول - ردًّا على هذا الافتراءِ - {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ... [91]}. وتذكر لهم: آن القرآن كتاب - أَنزله الله - مبارك ومصدق لما تقدمه من الكتب السماوية وأَن الرسول مكلف أَن ينذر به أُمَّ القرى ومَنْ حولها، وأَن الذين يؤْمنون بالآخرة - أَينما كانوا على ظهر البسيطة - يؤْمنون به، وأَنه لا يوجد أَظلم ممن يفترى الكذبَ على الله، ويدعى أنه أُوحى إِليه شيء. وأَن مَن كذب على الله سيُجزَى يوم القيامة عذاب الهون. 6 - العودة إِلى دعوتهم إِلى الإِيمان بكتاب الله بصورة محببة، وذلك بقوله تعالى في أَواخر السورة: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}. 7 - إِبراز حقيقة البعث، وإِقامة الأَدلة عليها، والكلام على الجزاء فيها، ووعْدُ المؤمنين بمزيد الثواب، ووعيد الكافرين بشديد العقاب. وقد بدأَ الحديث عن يوم القيامة بقوله تعالى في أَول السورة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} ثم قال عز وجل: { ... لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ... [12]} ثم قال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)} ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)}.

وهكذا مضت السورة تهتم بشأْن الحديث عن البعث. ومصير الناس إِلى ربهم، لكي يتبصروا في عواقب ما هم عليه، ويعملوا للخلاص من العذاب، ونَيْلِ جميل الثواب. وآخر ما جاء عنه في هذه السورة، قوله تعالى: { ... ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [164]. 8 - رسم معالم الدين الحق، ومناهج السلوك الفاضل. وأَعظمها: الإِيمان باللهِ، وتصديق الرسل، والإصلاح في جميع الأَعمال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)}. ومن تلك المناهج: أن نُعرِضَ عمَّن يخوضون في آيات الله، حتى في حديث غيره. فإِن نسينا فلا نقعد بعد التذكرة مع القوم الظالمين (¬1). ومنها: دوام تذكير الذين اتخذوا دينهم لَعِبًا ولَهوًا، حتى لا تهلك نفس بما كسبت (¬2). ومن مناهج السلوك الفاضل أيضًا: إقامة الصلاة، وتقوى الله (¬3). ومنها: أَلَّا نَسُبَّ الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بغير علم (¬4). ومنها: تأثيم الذين يقتلون أولادهم سَفَها، والذين يُحَرِّمون ما في بطون الأَنعام عَلى الإِناث، ويُحِلُّونها للذكور: { ... وَإِن يَكُن مَّيْتَة فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ... (139)} وغير ذالك مما استحدثه المشركون في المطاعم، وحَرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله (¬5). وقد تبعها ببيان أَن الرسول لا يجد شيخا حرَّمه الله من المطاعم، إِلا أَن يكون ميتةً، أَو دما مسفوحا، أَو لَحْمَ خِنزير، أو ذبيحةً مذكورا عليها اسم غير الله، وأَن المضطر: يغفر الله له (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الآية: 68 من سورة الأنعام. (¬2) انظر الآية: 69 من سورة الأنعام. (¬3) انظر الآية: 72 من سورة الأنعام. (¬4) انظر الآية: 108 من سورة الأنعام. (¬5) انظر الآيات من: 138 - 144 من سورة الأنعام. (¬6) انظر الآية: 145 من سورة الأنعام.

9 - بيان ما أَنعم الله علينا من إِنشاء جَنَّاتٍ معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أُكُله، والزيتون والرمان، متشابها وغير متشابه. 10 - وجوب زكاة الزرع، فأوجب عليهم أَن يُؤْتُوا حَقَّهُ يوم حصاده. 11 - الوصايا العشر التي تعتبر جماعا لشتى الفضائل، من: توحيدِ الله، والبِر بالوالدين، والابتعادِ عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعدم قتل النفس إِلا بالحق، والامتناعِ عن تناول مال اليتيم إِلا بالتي هي أَحسن حتى يَبْلُغَ أَشُدَّه، وإِيفاءِ الكيل والميزان بالقسط، والعدلِ في القولِ، ولو كان ضد الأَقارب، والوفاء بالعهد؛ واتباع سبيل الله دون غيرها (¬1). 12 - وجوب وَحْدة الدين، وعدم التَّفَرُّقِ فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... (159)}. 13 - بيان أَن جزاءَ الناس على حسب أَعمالهم، ودرجة انبعاثها عن ضمائرهم ونفوسهم. كما قال تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}) وأَنه لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، { ... وَلَا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (164)}. وأَن الجزاءَ على الأَعمال يتناول ظاهرها وباطنها. كما جاءَ في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... (120)}. 14 - كما اشتملت - في مقاصدها - على الحث على السياحة، والسير في الأَرض؛ للنظر والاعتبار قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}. 15 - الحث على البحث في علوم الكائنات، لمعرفة سنن الله الكونية الدالة على علمه وحكمته، ووافر قدرته ورحمته، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيَّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ... } إلى قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَاْ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ في ذَلِكُمْ لَاَيَاتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الآيات من: 151 - 153.من سورة الأنعام. (¬2) الآيات: 95 - 99 من سورة الأنعام.

16 - بيان أَن عالَم الحيوان عالَم عظيم، يشبه - في أُموره الكثيرة - عالَمَ الإِنسان؛ {وَمَا مِن دَابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلَا طَاَئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهٍ إِلَّا أمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطنَا في الْكِتَابِ مِن شَىْءً ... }. وتعتبر هذه الآية الكريمة أَساسا في علم الحيوان. 17 - كما اشتملت على أَنه تعالى، كتب على نفسِهِ الرحمة لمن تَاب؛ قال تعالى: { ... كَتَبَ ربُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَاب مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)}. إِلى غير ذلك من عظائم الأمور، التي احتوتها هذه السورة الجليلة، التي تعتبر أَعظم دستور للحياة الصحيحة، والسلوك النظيف، والعقيدة المستقيمة. وكان نزولها بمكة، في صدر الإِسلام، حكمة من صنع الحكيم الخبير. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)}. المفردات: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}: أَي يُسوُّون به غيرَه، تعالى الله عن ذلك.

{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا}: أَي قَدَّر حدًّا معينا من الزمان. {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: أَي وأَجلٌ آخرُ معينٌ عنده سبحانه وتعالى، لا يعلم وقتَ حلوله سواه، وهو وقت البعث والجزاء. {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}: أَي ثم أَنتم تَشُكُّون في البعث، وتجادلون فيه. التفسير 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... } الآية. الثناءُ بالجميل: مستحَق لله الذي أَبدع السموات، بما اشتملت عليه من مجرات عظيمة، ونجوم مُتَّقِدة، وكواكب منيرة، وكائنات وعجائب لا يعلمها سواه. وأَبدع الأَرض وما فيها من يابس وماءٍ، وهضاب ووهاد، وإِنسان وحيوان وزروع نضرة، وثمار نافعة، وغير ذلك من الروائع. {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ}: لتكون للناس سكنا. {وَالنُّورَ}: أَي وجعل النور، ليكون مجال نشاطهم، وسرّ الحياة لزروعهم وحيواناتهم. {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}: هذا تعجب من النتيجة أَي - مع هذا الإِبداع - الذين كفروا، يسوون ربهم - الذي أَبدع هذه الكائنات - بما لا يملك لهم خيرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا! 2 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ... } الآية. أَفادت هذه الآية: أَن الله تعالى، خلق الناس من طين. وهي تشير إلى المادة التي خلق الله منها آدم؛ أَصل البشرية.

وإذا كان أَصل الإِنسان من طين، فكل أَولاده - إلى يوم القيامة - يعتبرون مخلوقين من طين أَيضا، باعتبار أَصلهم. ويجوز أَن يراد من الآية: ما هو مشاهد، من أَن الطين مادة هامة في حياتنا. فمن الأَغذية التي تكونت من الطين، تحيا الكائنات. ولتلك الأَغذية دخل كبير في تكوين النطف والبويضات، التي هي أَساس الأَجيال الإِنسانية والحيوانية. على أَننا لو حللنا مادة الأَجسام البشرية إِلى عناصرها الأولية، لوجدناها من العناصر التي يتكون منها الطين. مثل الكربون والكلسيوم والحديد ... إِلخ. {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}: أَي ثم قدر حدًّا معينا من الزمان - بَدْءًا ونهاية - لكم في هذه الدنيا، وقضى حدًّا من الزمان، تبعثون فيه: سماه الله عنده وعيَّنه لديه. لا يعلمه سواه. {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}: يطلق الامتراءُ على الشك، والجدل، والإِنكار، مع وضوح الأدلة ... وكُلٌّ من هذه المعاني، يجوز أن يراد هنا: أَي ثم أَنتم أَيها المشركون - مع وضوح هذه الدلائل - تَشُكُّون في الحق، وتجادلون فيه، وتصلون في جدالكم إِلى حد الإِنكار و {ثُمَّ} الأُولى: للترتيب الزمني. أَما الثانية: فلبيان تراخيهم في الاستجابة للحق وامترائهم فيه. 3 - {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ... } الآية. أَي: وهو الإِلَه المدبر المعبود، في السموات وفي الأَرض. {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}:

يعلم ما انطوت عليه قلوبكم، وما تفعلون بجوارحكم علانية. {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}: من الخير والشر، فيحصى ذلك عليكم، ليجازيكم به عند معادكم. وفي هذا استدعاءٌ للإِنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخف بشرائعه: أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقِيَ محارمه؛ لأن الله يطلع على كل ما ظهر وما بطن. {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)}. المفردات: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ}: المراد بالآيات؛ القرآن، أَو ما يعمه، من الآيات الكونية. {مُعْرِضِينَ}: الإِعراض؛ الانصراف عن الشىء. {مِن قَرْنٍ}: القرن؛ مدة من الزمان يعيش فيها أَهل عصر (¬1). وقد يطلق على أهله، وهو المراد هنا. ¬

_ (¬1) اختلف في تحديد مدة القرن، وأشهر الأقوال: أنه مائة سنة.

{مَكَّنَّاهُمْ في الْأرْضِ}: جعلناهم مُتَمَكِّنِينَ من التصرف فيها. {وَأرْسَلْنَا السَّمَاَءَ}: أَي المطر: وعَبَّر عنه بالسماءِ؛ لأنه ينزل منها. فإِن السحاب سماء. {مِدْرَارًا}: متتابعا. التفسير 4 - {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}: وما تأتيهم من حجة من حجج ربهم: دالة على وحدانية الله تعالى وصدق رسوله - سواءٌ أَكانت قرآنية أَم كونية - إلا قابلوها بالإِعراض عنها، وعدم التدبر فيها. 5 - {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ... } الآية. أَي فقد زادوا - على إِعراضهم - تكذيبهم بالحق حين جاءَهم على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم، من غير تَرَيُّث ولا تفكر. {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: الأَنباءُ: الأَخبار. والمراد بها هنا، ما أَنبأهم الله به من العقوبة على تكذيبهم. والمعنى: فسوف تأْتيهم العقوبات التي تَوعَّدَهم الله بها، جزاءَ تكذيبهم بالحق، وإِصرارهم على هذا التكذيب. 6 - {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ... } الآية. أي: أَلَم يعلم هؤلاءَ المكذبون - بمعاينة الآثار، وسماع الأَخبار - كم أَهلكنا قبلهم من أَهل قرن: مكناهم في الأَرض ما لم نمكن لكم، حيث مَنَحْناهم الغِنَى والسعة والاقتدار على التعمير. فعمروا الأَرض، وبَنَوُا الحصون والقصور. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ}:

أَي وأَرسلنا عليهم السحاب يدر عليهم المطر الغزير، وجعلنا الأَنهار تجرى من تحت مساكنهم، وبين مزارعهم. فيستمتعون بحسن مرآها، وجماك جريانها، ولا يجدون صعوبة في الانتفاع بها. {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}: أَي فكان عاقبة أَمرهم: أن أهلكنا أهل كل قرن منهم، بسبب ذنوبهم التي كانوا يجتَرِحُونَها، وأوجدنا - من بعدهم - ناسا آخرين يصرون البلاد. وفي هذه الآية وعيد لأهل مكة، بمثل ما عوقبت به الأمم السابقة، من الإهلاك بكفرهم وذنوبهم، كما أُهلِك هؤلاءِ السابقون، ولم تغن عنهم قُوتَّهُمُ وتمكينهم شيئًا. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)}. المفردات: {فِي قِرْطَاسٍ}: القرطاس؛ - بتثليث القاف، والكسر أشهر - ما يكتب فيه. {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}: اللمس؛ كالمس، إدراك الشىء بظاهر البشرة. وقد يستعمل بمعنى طلب الشىء والبحث عنه. والمراد هنا: الأَول. {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ}: أَي خداع وتمويه. {لَقُضِيَ الْأَمْرُ}: أَي أَمرُ إِهْلاكهم. {ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}: أَي لا يمهَلون طرفة عين.

{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ}: من اللَّبْسِ وهو: الخَلط. تقول: لَبَس الحق بالباطل يلبسُه به. أي خلطه به، حتى اشتبه على الناس. التفسير 7 - {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ... } الآية. لقد بلغ الحزن والأَسف، من الرسول صلوات الله وسلامه عليه كل مبلغ، لِتمسُّكِ قومه بالكفر به، مع وضوح برهانه، وقيام حجته. فبين الله في هذه الآيةِ: أَنه لا سبب لكفرهم، إِلا مجرد العناد والمكابرة. {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} أَي يا محمد {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} أَي كتابا مكتوبا في صحائفه فلمسوه بأَيديهم، وتيقنوا من معرفته وأَنه منزل من الله عليك. {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أَي لقال الذين كفروا: ما هذا الكتاب الذي نزل، إِلا سحرٌ بيِّنٌ واضح التمويه. وإنما قالوا ذلك، إِمعانا في الجحود والعناد. 8 - {وَقَالُوا لَوْلَاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ... } الآية. روى ابن المنذر، وابن أَبي حاتم، عن محمد بن إِسحق، في سبب نزول هذه الآية فقال: "دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه إلى الإِسلام، وكلَّمهم فأَبلغ. فقال. زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحرث بن كَلدة، وعبدة بن عبد يغوث، وأُبَيُّ بن خلف، والعاصي بن وائل بن هشام: لو جُعِلَ معك يا محمد، مَلَكٌ يحدّث عنك الناس، ويُرى معك؟ ". فأَنزل الله في ذلك قوله: {وَقَالُوا لَوْلَاَ أنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}: والمعنى: هلا أنزل على محمد ملكٌ نشاهده معه، ويخبرنا أَنه رسولٌ من عند الله، فيكونَ معه نذيرا؟

وقد أَجاب الله على مقالتهم بجوابين: الأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}: أَي لو أَنزلنا عليه ملكا، في صورته الحقيقية وشاهدوه بأَعينهم، لزهقت أَرواحهم من هول ما يشاهدون، من غير تأْخير أَوانتظار. أَو لأَن الله أَجرىَ سنته بأَن مَن طلب آية وأجيب لها فلم يؤْمن، عَذبه الله في الحال - عذاب استئصال. ومن أجل هذا، لم يستجب الله لِمُقتَرَحِ أَهل مكة، حتى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إذا كذبوا، تكريما لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتحقيقا لوعده "وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذَبَهُمْ وَأنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعذِّبَهُمْ وَهمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (¬1). والجواب الثاني قوله تعالى: 9 - {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}: أي لو جعلنا النذير الذي اقترحوا إِنزاله معه مَلَكا، لمثلناه رجلًا، لِيَقْوَوْا على مشاهدته وسماع كلامه، لعدم استطاعتهما رؤْية الْمَلَكِ على صورته الأصلية. ومن أجل هذا، كانت الملائكةُ تأتي الأَنبياء في صورة الإِنس أَحيانا. كما جاءَ جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في صورة دِحْية الكلبي. وكما أتت الملائكة إِلى إِبراهيم ولوط - عليه ما السلام - في صورة رجال. ولو جعلناه في صورة بشر ليأنسوا به، لاعتقدوا أَنه بشرٌ، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاتهِ التي تمثَّل بها. وحينئذ، يقعون في نفس اللَّبْسِ والاشتباه الذي وقعوا فيه، بسبب كَوْن الرسول بشرًا يقترحون جَعْلَه ملَكًا. وإذا كان إِرسال الْمَلَكِ سيؤَدى إلى هذه النتيجة - أَو تلك - فليس من الحكمة جعل الرسول مَلَكا. بل الحكمة: أَن يكون بشرا من بينهم، مؤيَّدا من الله بالمعجزات حتى يمكن الاقتداء به. ¬

_ (¬1) الأنفال، الآية: 33

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}. المفردات: {فَحَاقَ}: حاق به الأمر؛ أَحاط به. ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. التفسير 10 - {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوامَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: لما كان اقتراحُ المشركين إِنزالَ المَلَك على الرسول من باب الاستهزاء، أنزل الله تعالى هذه الآية، لتسليته صلى الله عليه وسلم بأَنَّ ما حَدَثَ له، قد حدث مثله لإخوانه المرسلين من قبله، ولتهديد المشركين بأَنهم سيصيبهم ما أَصاب مَنْ قبلهُم إن استمُّروا على كفرهم. أَخبر الله رسوله خبرا مؤكدا بصيغة القسم: أن الكفار قد استهزءوا برسل كرام قبلك، كما جاءَ في قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (¬1) فليس بدعًا ما تراه من صناديد الكفر من قريش. وقد استهزءوا بك وسخروا منك. فما ذلك منهم إِلا جَرْيا على آثار أَعداء حَملَةِ الهدى من عباد اللهِ قبلهم، وقد حاق بأولئك الساخرين من العذاب ما يستحقونه، جزاءَ أَفعالهم الشنيعة، وسوءَ صنيعهم مع مَن اصطفاهم ربهم من خلقه. ¬

_ (¬1) الحجر، الآية: 11

وفي الآية: 1 - تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم، سُنَنَ الله في الأمم مع رسلهم. 2 - تسلية وعزاءٌ له مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضُرٍّ وأَذى، وتثبيت لقلبه، وإِعانةٌ له على المضى في تبليغ رسالته. 3 - بشارة له بحسن العاقبة، وما سيكون له من نصرٍ وتأييد، وقد كان جزاءُ المستهزئين - بمن قبله من الرسل - عذابَ الخزي باستئصال. ولكن الله كفاه المستهزئين به، فأهلكهم ولم يجعلهم سببا لهلاك قولهم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهزِئِينَ} (¬1). ولما كان ما يحل بالمستهزئين بالرسل من الهلاك - بحسب سنة الله المطردة فيهم، مما يرتاب فيه مشركو مكة لجهلهم بالتاريخ، وعدم تسمليمهم بخبر الآية - أمر الله تعالى رسوله، بأَن يدلهم على الطريق الموصل إلى علم ذلك بأَنفسهم. فقال: 11 - {قُلْ سِيرُوا في الْأَرْضِ ثُم انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: أَي قلْ يا محمد، للمكذبين المستهزئين بك من قومك، المحبين للأَسفار مع الغفلة، عن شئون الأُمم، والاعتبار بعاقبة الماضين، وأَحوال المعاصرين: سافروا في الأَرض - كشأنكم وعادتكم - وتنقلوا في ديار أولئك الأُمم الذين مَكَّنَاهم في الأَرض، ثم انظروا - في أَثناء رحلاتكم صيفا أَو شتاءً - آثارَ ما حل بهم من دَمار ساحق، وعذاب أَليم. وتأَملوا كيف كانت آخرتهم ونهايتهم: بما تشاهدون من آثارهم، وما تسمعون من أَخبارهم، ليكون في ذلك لكم عبرةٌ إن لم تصدقوا ولم تزجرْكم حُجَجُ الله عليكم!! ¬

_ (¬1) الحجر، الآية: 95

{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}. المفردات: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: أَي أَوجبها على نفسه، فضلا منه وكرما. {وَلَهُ مَا سَكَنَ}: سكن، من السُّكنى. والمعنى: ما اشتمل عليه الليل والنهار. وقيل: سكن هنا؛ من السكون. والمعنى وله ما سكن في الليل والنهار وما تحرك. فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. كما جاءَ في قوله تعالى: { ... سَرَابِيلَ تَقِيكُمٌ الْحَرَّ ... } (¬1) أَي والبرد. {وَلِيًّا}: أَي ناصرًا ومعينًا. ¬

_ (¬1) النحل، من الآية: 81

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبدعهما على غير مثال يحتذى من الفَطر وهو: الإِبداع والإِيجاد. {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ}: أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أَحد. {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ}: أَي يبعد عنه العذاب يوم القيامة. التفسير 12 - {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ... } الآية. بَيَّنَ الله عَزَّ وَجَلَّ، في الآيات السابقة، أصول الدين الثلاثة: التوحيد، والبعث، والجزاء. وبَيَّنَ شبهاتِ الكفار على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما يدحضها. كما أَرشد رسولَهُ، إِلى سُنَّته فيمن كَذَّب الرسل، وأَن عاقِبتَهم الخِزْيُ والدمار. ثم قفّى على ذلك، ببيان أَدلة وجود الله ووحدانيته وشمول ملكه. والمعنى: قل أَيها الرسول، لقومك، الجاحدين لرسالتك، المعرضين عن دعوتك: لِمَنْ هذا الكون: علويه وسفليه. بما فيه من عجائب وغرائب؟ {قُلْ لِلَّهِ}. وإِنما أَمر اللهُ رسولَه بأَن يتولى الإِجابة عنهم، لأَن هذا الجواب معترف به منهم: لا يسعهم إِنكارُه. فقد كانوا يعترفون بذلك. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ... } (¬1) فإذا سأَلتهم: لِم تعبدون غيره من أصنام وأَوهام. وأَنتم معترفون بذلك؟ أَجابوا بقولهم: { ... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ... } (¬2) والمقصود من السؤال - كما ذكر صاحب الكشاف - التبكيت والتوبيخ. {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: ¬

_ (¬1) العنكبوت، من الآية: 61 (¬2) الزمر، من الآية: 3

أَي أَوجبها على نفسه، كَرَمًا منه وفضلًا. وقد شمِلَ برحمته في الدنيا المؤْمنَ والكافر، والْبَرَّ والفاجر. فلا تغترُّوا أَيها الكفار بما تنالون في الدنيا من رحمته. واعملوا ليومٍ يجمعكم فيه للحساب والجزاء. كما قال سبحانه: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ}: يؤكد الله تعالى في هذه الجملة: أَنه سَيُحْيِى الناسَ ويَبْعثُهم في يوم القيامة؛ الذي لا ينبغي أن يرتاب فيه عاقل. ولا ريب أَن تهديد الناس بهذا اليوم العصيب، يعتبر من رحمة الله بالناس. إذ لولا الخوف من عذاب الله يوم القيامة، لَعَمَّ الفسادُ في الأَرض. واختلت نُظمُ الاجتماع، وأَكَلَ القوىُّ الضعيف؛ - ولا وازع ولا زاجر - فصار من رحمة الله التهديد بهذا الجمع، لأَجل الحساب والجزاء. كما أَنه حافز للمؤمنين على زيادة الطاعة، رغبة في حسن الجزاءِ. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي الذين خسروا أنفسهم بإِهدار قواهم العقلية، وتعطيلها عن النظر في آيات الله، فهؤلاءَ، لا يؤْمنون بما دعوتهم إليه، من توحيد الله، والإيمان بيوم البعث والنشور. {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: هذا معطوف على ما قبله. أَي لله ما في السموات وما في الأَرض، {وَلَهُ مَا سَكَنَ في الليْلِ والنَّهَارِ}: أَي مَا اشتمل عليه الليلُ والنهارُ من موجودات. فكل ما طلع عليه النهار وغشيه الليل والظلام، هو في ملك الله وحده. وهو السميع لكل ما من شأنه أَن يُسمَع، العليم بكل ما من شأْنه أَن يُعلَم. سبحانه!! يعلم دبيبَ النملة في الليلة الظَّلْماء {يَعْلَمُ خَاَئِنَة الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1)، { ... يَعْلَمُ مَا بيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُون بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء ... } (¬2). ¬

_ (¬1) غافر، الآية: 19 (¬2) البقرة، من الآية: 255

ومن كان كذلك، فلا يغيب عنه إيمان مؤمن، ولا كفر كافر، ولا دعوة داعٍ، ولا حاجة محتاج. 14 - {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ... } الآية. أَي قل يا محمد، وقد دعوك إِلى دين آبائك. إِن الله تعالى، أمرَك: أَن تنكل ما دعوكَ إِليه، من اتخاذ غير الله تعالى معبودا، وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض. وله ما سكن في الليل والنهار - وهو الذي فطر السموات والأَرض، وأَبدعهما على غير مثال سبق. وهو الذي يرزق غيرَه، ولا يرزقه غيرُه. فهو الذي يرزق الكائنات الحية ويطعمها، ويمدها بما يحفظ وجودها وبقاءَها وليس هو بحاجة إلى من يرزقه ويُطعمه. وكيف يصح أَن يكون مصدر العطاء محتاجا إِلى عطاءٍ؟ وكيف يتخذ المضلون من البشر أَولياءَ مع الغَنِيِّ الحميد الفعال لما يريد؟ {قُلْ إِنِّىَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّل مَن أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: أَي قل يا محمد - بعد إِيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليًّا - إِنيِّ أُمِرتُ من ربي: أَن أَكون أَول من أَسلم إِليه وانقاد لدينه. من هذه الأُمَّة التي أَنا رسولُها وداعيها إِلى الحق. فلستُ أدعو إِلى شيء لا آخذ به. بل أَنا أَولُ مؤمن بهذا الدين، وأَول عامل بما جئت به من شريعة وأَحكام. وكما أُمِرتُ أَن أَكون أَولَ من أَسلم. قيل لي: لا تكوننَّ من المشركين: فلا تطمعوا في استجابتي إِلى ما دعوتموني إِليه من الإِشراك بالله تعالى. وبعد أَن أَقنطهم الله من مشاركة الرسول لهم في شركهم، أَمر الله رسولَه: أَن يبين لهم سوءَ عاقبة من عصى الله وأَشرك به. فقال تعالى:

15 - {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: أي قل يا محمد، لقومك الذين دعَوْك إِلى مشاركتهم في عبادة آلهتهم: إني أَخاف عذاب يوم عظيم، يشيب فيه الْوِلْدان، إِن أَجبتمَ إِلى ما دعوتموني إِليه من عصيان ربي. وإِذا كان خوف النبي صلى الله عليه وسلم من العذاب على المعصية منتفيا - لانتفائها بالعصمة - فخوف الإجلال والتعظيم ثابت له - عليه السلام - دائمًا. 16 - {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}: أَي من يُدفعْ عنه هذا العذاب - في ذلك اليوم ويسلم من الوقوع تحت وطأته - فقد رحمه الله الرحمة العُظمى. وهي النجاة من العذاب والتمَتُّعُ بالنعيم المقيم. وذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز بعده. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}. المفردات: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ}: المس؛ الإِصابة. يُقال: مَسَّهُ السُّوءُ والكبر والعذاب والتعب أَي أَصابه ولحق به.

{بِضُرٍّ}: الضُّرُّ؛ البلاءُ، كالمرض والفقر، وفقدان الأَحباب. {بِخَيْرٍ}: الخير، ما كان فيه منفعة حاضرة أَو مستقبلة. {وَهُوَ الْقَاهِرُ}: القَهْرُ، الغلبة. والقاهر: الغالب. {أَكْبَرُ شَهَادَةً}: شهادة الشىء؛ حضوره ومشاهدته. والشهادة به: الإِخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة؛ بالبصر أَو بالعقل والوجدان. {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ}: الإِنذار؛ التخويف. التفسير 17 - {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... } الآية. بعد أَن بَيَّنَ اللهُ سبحانه وتعالى، أَنّ صرف العذاب عن العبد، والفوزَ بالنعيم - بعده - من رحمة الله به في الآخرة - بَيَّنَ كذلك: أَن الأَمرَ في الدنيا والتصرُّفَ فيه، إنما هو لله الولي الحميد. والمعنى: وإِن يُصبْك - أَيها الإِنسان - ضُرٌّ كمرض وفقر وحزن وغير ذلك من البلايا التي يَخْتَبِرُ اللهُ بها عبادَهُ، فلا يرجى لكشف هذا الضرِّ غيره. إذ لا صارف ولا رافع له إلا هو. لأنَّه مما قضى به. ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذَيْنِ يحفان بقضائه. فيمضى الأَمر فيه على ما قضاه. ومن لطف الله بعبده أن يستقبل هذا القضاء برضا، ويحتمله في صبر. وإن يمسسك بخير - كصحة وغنى وقوة وجاه - فهو وحده قادر على حفظه عليك وإدامته لك، كما قدر على إِعطائك إِياه. فهو على كل شيءٍ قدير. فعلى المؤْمن الصادق في إِيمانه: ألَّا يطلب شيئًا من أمور الدنيا والآخرة: من كَشْف ضُرٍّ، وصَرْفِ عذاب، أَو إيجاد خير، ومَنْح ثواب، إِلا من الله تعالى وحده، دون غيره من الشفعاء والوسطاء، والمتكهنة والأَولياء الذين لا يملكون لأَنفسهم نفعا ولا ضرًّا.

عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كُنْتُ خَلْفَ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلَامُ، إنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ. احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ. وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ. وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَكَ. وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" (¬1). ومن دعاءِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لَا مَانِع لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ" (¬2). وبعد أَن أَثبت الله لنفسه كمال القدرة، أثبت كمال السلطان والتسخير لجميع عباده، والاستعلاءِ عليهم، مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأُمور، ليرشدنا إِلى أَن مَن اتخذ غيرَه وليًّا من دونه، فقد ضلَّ ضلالا بعيدا. فقال: 18 - {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}: أَي وهو الغالب لعباده، المقتدر عليهم: يَملكهم ولا يَملكونه. ويَقضى عليهم ولا يَقضون عليه. ويُعطى ويَمنع، ويُعِز ويُذِلُّ. وهو الحكيم في تدبير مراده وتنفيذه، الخبير بمواضع نعمه ونقمه. فلا تخفى عليه خوافى الأُمور ولا بواديها، ولا يقع في تدبيره خلل، ولا في حكمته دخَل (¬3). ولما كان المشركون لا يستجيبون إِلى الحق الذي دعاهم إليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشهدون بصحة نُبُوتَّه، أَنزل الله عليه الآية التالية: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) أي ولا ينفع صاحب الغنى منك غناه. (¬3) الدَّخَل: الفساد.

19 - {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... } الآية. جاءَ في القرطبي: عن الحسن وغيره، في سبب نزول هذه الآية: أَن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن يشهدُ لك بأَنك رسولُ الله؟ فنزلت الآية. والمعنى: قل يا محمد لقومك: أَي شيءٍ شهادته أَكبر شهادة وأَعظمها، وأَجدر أَن تكون أَصحها وأَصدقها؟ وما الشاهد الذي تكبرون شهادته. وتنزلون على ما يشهد به. ولم يمهلهم الله أَن يجيبوا، لأَنهم لا يجيبون إِلا ضلالا، ولا يقولون إِلا زُورا وبهتانا. بل تلقاهم بالشاهد الذي لا يصح أَن تُرَدَّ شهادته، لأَنه الشاهد الذي لا يجوز أَن يقع في شهادته كذب ولا زور، ولا خطأُ. والذي يحكم ولا معقب لحكمه: ويقضى ولا رَادَّ لقضائه إِنه هو الله رب العالمين. هو الشهيد بيني وبينكم. وقد أوحى إِلَيَّ هذا القرآنُ: شاهدًا من لَدُنْهُ برسالتي، لأُنذرَكم به عذاب يوم عظيم، ولأُنذر كلَّ من يبلُغه القرآن - إِلى يوم القيامة. وفي هذا، دلالة كل عموم الرسالة، وأَن أَحكام القرآن: تَعُمُّ الثقَليْن إِلى يوم الدين. أخرج ابن مردويه: وأَبو نعيم عن ابن عباس مرفوعا قال: "ومن بلغه القرآن فكأَنما شافهتُه به" ثم قرأَ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}. وقد أَشارت الآية: إلى وجوب تبليغ رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءَ ذلك - صراحة - فيما رواه البخاري، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بَلِّغُوا عَنِّى، وَلَوْ آيَة ... " الحديث. وشهادة الله لرسوله: تتجلى فيما يأْتي: 1 - شهادة كُتُبِ اللهِ السابقة لنبيه، وبشارة الرسل السابقين به. ولا تزال هذه الشهادة ماثلة في كتب اليهود والنصارى، وهم يُؤَوِّلُونها.

2 - تأييد الرسول بالآيات الكثيرة، التي من أَعظمها القرآن الخالد. فهو المعجزة الدائمة: بما ثبت من عجز البشر عن الإِتيان بسورة من مثله. وبما اشتمل عليه من أَخبار الغيب، وَوَعْدِ الرسول والمؤمنين بِنَصْرِ الله. 3 - إِخباره بها في كتابه، بنحو قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ ... } (¬1) وقوله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ... } (¬2). {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}. التفسير 20 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ... } الآية. رُوىَ أَن الكفار، سأَلوا اليهود والنصارى، عن صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فأَنكروا أَن في التوراة والإِنجيل شيئا يدل على نُبُوَّتِه. فَبيَّن الله في الآية السابقة: أَن شهادة الله على صحة نبوته، كافية في ثبوتها وتحققها. ¬

_ (¬1) الفتح، من الآية الأخيرة. (¬2) البقرة، من الآية: 119

ثم بَيَّنَ في هذه الآية. كَذِبَهم في ادعائهم أَنهم لا يعرفون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهم يعرفونه بالنبوة والرسالة كما يعرفون أَبناءَهم. فقد رُوِيَ أَن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما قدم المدينة، وأسلم عبد الله بن سلام. قال له عمر: إِن الله أَنزل على نبيه بمكة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ... } الآية. فكيف هذه المعرفة؟ قال عبد الله بن سَلَام: يا عمر، لقد عرفتُه - حين رأيتُهُ - كما أَعرف ابنى. ولأَنا أَشدُّ معرفة بمحمدٍ مني بابني. فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال: أَشهد أَنه رسول الله حقًّا. ولا أَدرى ما تصنع النساءُ. والمعنى: الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يعرفون محمدا النبىَّ الأُمىَّ خاتم الرسل بحليته ونعته الثابت في التوراة والإِنجيل، معرفةً مستيقنة، كما يعرفون أَبناءَهم بحلاهم ونعوتهم. ولو أَنهم كانوا مؤمنين بالله والكتاب الذي معهم، لآمنوا بمحمد وبالكتاب الذي معه. ولكنهم كتموا شهادة الحق: بَغْيًا وحَسَدا. فخرسوا ولم ينطقوا. أَو نطقوا: كَذِبًا وبهتانا. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: بإِفسادهم فطرتهم التي تهديهم إلى الحق، وإعراضهم عن دلائل النبوة. {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: بسبب ذلك؛ بسبب فقدان العلم والمعرفة. لأن الله أَخبر عنهم: أنهم على علم ومعرفة. 21 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ... } الآية. أَفادت هذه الآية: أَنه لا يوجد أَظلم ممن اختلق الكذبَ على الله، أَو كذَّب بآياته. فأَما اختلاق الكذب على الله: فهو كزعمهم. أن الملائكة بنات الله، وأن لله شركاءَ يُعْبَدُونَ معه. وأَما تكذيبهم بالآيات: فهو شامل لما حدث منهم من تكذيبهم بآياته المنزلة كالقرآن، أَو بآياته الكونية الدالة على وحدانيته أو التي يؤيد بها رسله

ثم بَيَّنَ سبحانه، عاقبة الظالمين وسوءَ منقلبهم فقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: أَي إِنَّ شأْن الله - في تدبيره - أَنه لا يفلح الظالمون. فلا ينتصرون في دنياهم، ولا ينجون من العذاب في أُخراهم. وإذا كان هذا حال الظالمين ومآلهم، فكيف تكون عاقبة من افترى، على الله الكذب وكذب بآياته، فكان أَظلم الظالمين، وأَبعد الناس عن رحمة رب العالمين. 22 - {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: أَي: واذكر لهم - أَيها الرسول - يوم نحشرهم جميعا، على اختلاف درجاتهم في ظلم أَنفسهم وظلم غيرها. ثم نسأَل الذين أَشركوا - وهم أَشد الناس ظلما - أَين الشركاءُ؟ - سؤال تقريع وتشهير - الذين كنتم تزعمون في الدنيا. أَنهم أَولياؤكم من دون الله، وأَنهم يقربونكم إِليه زلفى، ويشفعون لكم عنده؟ فأين هم؟ لقد ضَلُّوا عنكم وخاب أَملُكم في شفاعتهم. وصدق الله إذ يقول: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (¬1). 23 - {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: يتلفت القوم إِلى الشركاءِ، فلا يجدون أَثرا. ويخيل إِليهم - من ضلالهم - أَن فتنتهم وكفرهم الذي لزموه مدة أَعمارهم، وافتخروا به - قد اختفى. وأَنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد وجوده. فيقولون - كذبا وبهتانا -: والله ربنا ما كنا ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية: 94

مشركين ... ليفروا بذلك من الموقف الرهيب: تَوهُّمًا منهم، أَن ذلك يُفْلِتُهُم؛ ولا سيما أَنهم رأَوا سعة رحمة الله، وشفاعة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأَهل الإِخلاص ذنوبهم. ولا يتعاظم عليه ذنب أَن يغفره. فإِذا رأَى المشركون ذلك، قالوا: إن ربَّنا يغفر الذنوب. ولا يغفر الشرك. فتعالَوْا نَقُل: إِنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أمَا إذ كتموا الشرك - فاختِمُوا على أفواههم فيختم على أفواههم. فتنطق أَيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون فعند ذلك، يَعْرِف المشركون: أَن اللهَ لا يُكْتَمُ حديثا. فذلك قوله: { ... وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬1). قال أَبو إسحاق الزجاج: تأْويل هذه الآية لطيف جدا. وذلك أَنه تعالى، بَيَّنَ كَوْنَ المشركين مفتونين بشركهم، متهالكين في حبه. فذكَر أَن عاقبة كفرهم الذي لزموه أَعمارهم وقاتلوا عليه، وافتخروا به وقالوا: إِنه دين آبائنا، لم يكن حين رأَوا الحقائق - إلا أَن تبَرَّأوا من الشِّرْكِ، وأَقسموا على عدم التدين به. ونظير هذا في اللغة: أَن ترى إِنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة. فإذا وقع في محنة بسببه تَبرَّأَ منه. فيقال له: ما كانت عاقبة محبتك لفلان: إِلا أَن تبرَّأْتَ منه وتركته. 24 - {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... } الآية. هذا تعجيب من قولهم المفضوح، وكذبهم الصريح، بنفي أنهم أَشركوا في الدنيا على حين أَن حقيقة إِشراكهم معروفة لربهم. وإِن كذبوا على أَنفسهم بنفيها. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: وغاب عنهم ما كانوا يختلقونه من أُلوهية أَصنامهم، وشفاعتها لهم. فلم يكن لذلك اعتبار في نفوسهم، حين أَقسموا متبرئين من شركهم. ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 42

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}. المفردات: {أَكِنَّةً}: الأكِنَّة، الأغطية. جمع كنان. {وَقْرًا}: الوقر بالفتح؛ الثِّقل في السمع، يقال: وَقَرَت ووَقِرَت أُذنُه من باب تَعِب ووعد: صَمَّت وثَقُل سمعها. {يُجَادِلُونَكَ}: يخاصمونك وينازعونك. {أَسَاطِيرُ}: أباطيل. {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يبعدون عنه. التفسير 25 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ... } الآية. بيان لما صدر عن المشركين في الدنيا، من أمور منافية للإيمان، معبرة عن تعمقهم في الكفر. جاء في سبب نزول هذه الآية، ما رُوِيَ عن ابن عباس. قال: حضر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، والحرث بن عامر، وأبو جهل

في جمع كثير. واستمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو يقرأ القرآن. فقالوا للنضر يا أبا قتيلة (¬1)، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعل الكعبة بيته، ما أدري ما يقول، إلا أني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين. مثل ما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية - وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. يحدث قريش بما يستملحونه - قال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول محمدًا حقًا. فقال أبو جهل: ... فأنزل الله الآية. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}: أي ومنهم من يستمع إليك أيها الرسول، استماع استعلاء وانتقاد، لا استماع تدبر وانقياد حيت تتلوا القرآن: داعيًا إلى توحيد الله. ولهذا قد جعلنا على قلوبهم أغطية من الكبر والعجرفة ونعرة الجاهلية. فلم تعد تبلغ كلمات الله مواطن القبول في قلوبهم، ولا تنفذ أسماعهم، لأنهم لا يريدون إلا ذلك. وفي هذا تشبيه للحجب والموانع المعنوية، بالحجب والموانع الحسية. فالقلب الذي لا يقبل الحق ولا يتدبره، كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء فلا يدخل فيه شيء. والآذان التي لا تنتفع بما يصل إليها من نصائح، كالآذان المصابة بالثقل والصمم فسمعها وعدمه سواءٌ. {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}: أي وإن يروا كل آية من الآيات الدالة على صحة نبوتك، وصدق دعوتك، لا يؤمنوا بها عنادًا واستكبارًا، مع وضوح حجتها، وظهور الحق فيها؛ لأن قلوبهم وأسماعهم مستغرقة في أنانيتهم وعنجهيتهم، فلا تستجيب للإيمان، ولا تتقبل الهدى. ¬

_ (¬1) في تفسير الخازن في رواية الكلبي: "يا أبا قتيبة".

{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أي بلغ عنادهم إلى وقت مجيئهم إليك مجادلين منكرين الحق. حيث يقولون: ما هذا الذي جئتنا به، إلا أباطيل السابقين وخرافاتهم: نقلتها ألينا من كتبهم. فلم يكن مجيئهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، طلبًا للحق، أو تعرفًا على خير، بل للمحاكة والمجادلة، لأنهم لم يتقبلوا ما في القرآن من أنباء الغيب، إلا على أنها حكايات وخرافات، تُسَطَّرُ وتُكْتَبُ. كغيرها. وذكر نعتهم بالذين كفروا، وأظهر الفاعل ولم يضمره في {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} تقريرٌ لكفرهم، لإيغالهم وغلوهم في اللدد واللجاج. 26 - {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ... } الآية. أي وأولئك المشركون الكافرون المعاندون للنبي، الجاحدون لنبوته، لم يكتفوا بتكذيبهم وإعراضهم عن الدين الذي جاء به، وإنما تجاوزا ذلك إلى صد غيرهم، والوقوف في وجه من يطلبون الهدى منه. هم يبالغون في مقاطعته والنأي عنه: مستكبرين عن الإيمان به. {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}: أي وما يهلكون أحدًا بهذا التصرف الأحمق، والجحود المطلق - إلا أنفسهم، حيث أوردوها موارد الدمار والبوار. وما يشعر هؤلاء الجانون على أنفسهم تلك الجناية - أنهم إلى هذا المصير سائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)}.

المفردات: {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}: حُبِسُوا عليها يوم القيامة. ومن معاني الوقف: الحبس. {بَدَا لَهُمْ}: ظهر لهم. التفسير: 27 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا ... } الآية. بعد أن بين سبحانه - في الآيتين السابقتين - حال أولئك المشركين الكافرين الذين يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وما يرتل من كلمات الله- ولا ينتفعون بما سمعوا، بيّن -في هاتين الآيتين- بعضَ ما يكون من مآل أمرهم في الآخره. فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}: {لَوْ}: شرطيه حذف جوابها، لتذهب النفس في تصوره كل مذهب. وذلك أَبلغُ من ذكره. والمعنى: ولو ترى يا محمَّد أو أَيها السامع، ما يحل بأُولئك المكذبين المعاندين، من الفَزَع الهَوْل، حين يُحبسون على النار، مشرفين عليها - لرأَيت شيئًا مخيفا؛ لا يحيط به الوصف هَوْلًا مفزعا؛ لا تُدْرِكُه العباره. وحين يعاينون هذه الأهوال، يَتَمنَّوْنَ الرجوعَ إلى الدنيا، الإِيمان بما كذبوا به في حياتهم. وفي {عَلَى النَّارِ}: ما يُشْعِرُ بأَنهم سيسقطون فيها، وتبتلعهم، وأَنه لا مفر من ذلك. مما يصور لنا مشهدا مخيفا، تقشعر منه القلوب والأبدان. {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}:

أَي ويقول هؤلاءِ المشركون - وقد تَدَلَّوْا على النار - ليتنا نردُّ إلى الدنيا، حتى نتوب ونعمل صالحا، ولا نكذِّبَ بآيات الله وحججه، التي نَصَبها دلالة على وحدانيته وصدقِ رسله بل نكون من المصديقين به وبرسله، ومن المتبعين لأَمره ونهيه. وفي تَمَنِّيهم الرد، دليل على أَنهم يلجأُون حتى إلى المستحيل، وهو عودتهم إلى الدنيا، لشدة الضيق والحرج الذي هم فيه. 28 - {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ... } الآية. إبطالٌ لأَمانيّهم وَتيئيس لهم منها؛ لأنها أَمان ناشئة عن الفزع والهلع، من هذا الموقف الذي هم فيه، حين ظهر لهم ما كانوا يُخفون من البعث والجزاءِ، حيث كانوا ينكرون ذلك. {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}: من الشرك والكفر، والمكر والمعاصي، لسوءِ ما فطروا عليه من سوءِ طويه، وخبث نية، ودعوى جاهلية. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: فيما تضمنه تمنيهم من الوعد بترك التكذيب بآيات الله، والإيمان بالله ورسله؛ لأنهم لم يكونوا صادقين في ادعائهم الإيمان بعد رجوعهم إلى الدنيا، وإنما دفعهم إلى هذا، ما شاهدوه من الأَهوال والشدائد، والبعد عنها بأَية وسيلة. ومعنى هذا أَن الكفر فيهم غريزة. 29 - {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}: أي لو رُدُّوا إِلى الدنيا، لعادوا لِمَا نُهُوا عنه من الكفر وسَىِّءِ الأَعمال، ولأَنكروا البعث والحساب والجزاءَ مره أُخرى. وكأَنهم لم يَرَوْا ما عاينوه من أَحوال الآخرة، التي أَولها البعث والنشور.

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}. المفردات: {جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ}: الساعة؛ القيامة. {بَغْتَةً}: فَجْأَة. {يَا حَسْرَتَنَا}: الحسرة؛ الندم الشديد على ما فات. {عَلَى مَا فَرَّطْنَا}: التفريط؛ التقصير. {أَوْزَارَهُمْ}: آثامهم الكبيرة. {لَعِبٌ وَلَهْوٌ}: اللعب واللهو كلاهما؛ الاشتغال بما لا يفيد العاقل ولا يهمه. التفسير: 30 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ... } الآية. وهكذا، تتوالى المشاهد يوم القيامة. فمن مشهد الحشر والمحاكمة: " {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} إلى مشهد الحكم في جنايتهم التي جَنَوْها على أَنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ... } إلى المشهد الذي يتضمن إتمام المحاكمة.

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}: أي ولو ترى - أَيها التأَمل - هؤُلاءِ المعاندين المكذبين - وقد حبسوا على ما يكون من قضاء ربهم فيهم - لَهَاَلكَ أَمرُهم، ولرأَيت ما لا يحيط به نطاق الكلام. وجعلهم موقوفين على ربهم؛ لأَن من تَقِفُهم الملائكه وتحبسهم في موقف الحساب، امتثالا لأَمر الله فيهم كما قال: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ" (¬1) يكون أَمرهم مقصورا على الله حيث لا سلطان فيه لغيره عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (¬2). فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى ما لا يحيط به الوصف لن يقتصر أَمرهم على ما هم فيه من بلاءٍ وعناءٍ بل يُسأَلون سؤَال تأَنيب وتبكيت. {عَلَى رَبَّهِمْ}: (عَلَى) هنا؛ بتقدير مضاف، أَي وقفوا على تعذيب ربهم، وما أَعدَّ لهم. {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}: القائل هو الله تعالى أَي أَليس هذا الجزاءُ - وما أَنتم فيه - هو الحق الذي كنتم به تُكَذِّبون؟ وفي حسره أَليمة وندم شديد: {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}: أَي قالوا: أَي ما نحن فيه من الشدائد والأَهوال، حق نستحقه، ولا شك فيه. وهكذا كان جوابهم ... اعترافًا مؤَكدًا - باليمين - بما أَنكروه في الدنيا. وبذلك شهدوا على أَنفسهم أَنهم كانوا كافرين. {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: أَي فباشروا العذاب، وانغمسوا في آلامه وأَهواله، بسبب كفركم الذي كنتم عليه مُصِرِّينَ عليه، دائبين فيه. وفي المشهد السابق {وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}: وهنا وقفوا على غضب ربهم، ما يدل على أَن غضب الله، آلم من نار جهنم، فلو لم يكُن منه إلا حِرْمَانُهم من رؤيته والتمتع برضوانه، لكفى. ¬

_ (¬1) الصافات، الآية: 24. (¬2) الأنفال، الآية: 19.

31 - {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ... } الآية. أَي قد خَسِر وخاب سَعْىُ أُولئك الكفار، الذين كَذَّبُوا بالبعث، وانكشف لهم ما كانوا فيه من غفله وضلال. {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً}: أَي ما زال هؤُلاءِ مُصِرِّين على التكذيب، إِلى أَن جاءَتهم الساعة - فجأَة - على غير انتظار. {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}: أَي قالوا متحسرين بأُسلوب النداء؛ للإِشاره إلى شدة وَقْع المفاجأَة عليهم. ولذا نادوا الحسره: نداءً تفجُّع. وقالوا: إن كان لك وقت فهذا وقتك، حيث قد فَوَّتوا على أَنفسهم العمل بما كان ينجيهم من أَهوال هذا اليوم، والضمير في (فِيهاَ) يعني: الحياة الدنيا. {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ}: أَي يحملون ذنوبهم وخطاياهم على ظهورهم. وفي هذا إِيماءٌ إِلى شدة ما يقاسونه من صنوف العذاب. {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}: أَي بئس ما يحملون. والمراد: ذم عملهم الذي ارتكبوه في الدنيا، حيث لم ينتفعوا به، بل أَوصلهم إِلى الهلاك. 32 - {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... } الآية. أَي وما اشتغال المكلَّف بِمُتَعِ الحياة الدنيا، وصرف قواه إِلى لَذَّاتها - دون الالتفات إلى شئون الآخرة - إِلى اشتغال بما لا نفع فيه.

وإِنما تكون الحياةُ الدنيا جادةً مفيده، إِذا التفَتَ فيها أَصحابُ العقول، إِلى العمل الطَّيب المثمر؛ الذي يجمع بين سعادَتَى الدنيا والآخرة. {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}: أَي ولَلحياة الآخرة: أَكثر نفعا، وأَعظم أَجرًا للذين تركوا المعاصي في الدنيا، وعملوا لنيل الثواب في الآخرة، التي هي الغاية، والدنيا وسيلة لها. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: أَي أَتغفلون عما في الآخرة من ثواب ونعيم، فلا تعقلون أَن الانصراف إلى الدنيا مُهِلك، وأَن العمل للآخرة والإِقبال عليها، هو السعادة والنجاة؟ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)}. المفردات: {لَيَحْزُنُكَ}: الحُزْنُ؛ الشعور بالأَلم عند وقوع مكروه. {يَجْحَدُونَ}: الجحود والجحد؛ نفى ما في القلب إِثباته أَو إِثبات ما في القلب نفيه. {لِكَلِمَاتِ اللهِ}: المراد من كلمات الله؛ وعده للمؤمنين، ووعيده للكافرين. {نَّبَإِ}: النبأُ؛ الخبر ذو الشأْن العظيم.

{كَبُرَ عَلَيْكَ}: أَي شَقَّ عليك. {نَفَقًا}: النَّفَق؛ السِّرْب في الأِرض، وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج. {أَوْ سُلَّمًا}: السُّلَّم؛ الدَّرَج مشتق من السلامه؛ لأَنه يُسْلِمُكَ إِلى الوضع الذي تريده. {الْجَاهِلِينَ}: الجهل هنا؛ ضد العلم، والمراد منه: الجهل بما ينبغي العلم به. التفسير: 33 - {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ... } الآية. بعد أَن بَيَّنَ القرآن - فيما سلف من الآيات - أنها نزلت في بيان موقف المشركين من الدعوه الإِسلامية، وكثرة ما قالوا في رد هذه الدعوة، جاءت هذه الآيات تُبَيِّنُ أَثرَ هذا العناد في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وحُزْنَهُ على عدم إِيمانهم. فقال بيانًا لذلك، وتسليةً له صَلَّى الله عليه وسلم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إِلى آخر الآيات ... ومعنى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}: أَي قد أَحاط علمنا بِحُزْنِك مما يقوله لك هؤلاءِ المعاندون، وأَنك مشفق عليهم من لَجاجهم وشَططهم. وهذا بيان لعظمة الإِشفاق النبوى الكريم. وتسليه له. فليس المراد الإِخبار بالعلم، فالعلم ثابت لله تعالى. ولكن المراد أَننا معك أَيها الحزين الآسف على كفر قومه وأَهله. {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}: لذاتك، فقد كنت الأَمين. ولكن ما يحدث منهم الآن، هو تكذيب لنا؛ لأَنك رسولُنا ومُبلِّغُ عنا. {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}: أَي ولكنهم - بعدم الاستجابة لآيات الله - قد بلغوا الغاية في الظلم والجحود والتَّنَكُّر لك والافتراءِ عليك.

34 - {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الآية. هذه الآية من تمام تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيان ما عاناه الرسل السابقون: بالدعوة، حتى جاءَهم نصر الله، واستقر الأَّمر لهم: بإِهلاك أَقوامهم. فإن عموم البلوى مما يعين على احتمالها. فاصبر كما صبروا، حتى يأْتِيَك النصر. فإِن شأنك كشأْنهم. {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}: أَي، إِن كلمات الله لا تُبدَّل، وأَحكامَه لا تُنْقَض، ووعدَه لا يَتخلَّف وسننه ونواميسَه لا تتخلف. قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1). {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}: أَي ولقد أَتاك من أَخبار الرسل، ما تَسْكُن به نفسك، ويطمئن به قلبك، ويَثْبُتَ به فؤادُك: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... } (¬2). 35 - {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ... } الآية. ومع ذلك يا محمَّد، إِن كان نفورهم وإِعراضهم، شاقًّا على نفسك، بتزايد ويكبر أَثره شيئًا فشيئا، أَي، ولو يَشْفِكِ ما سقناه لتسليتك فَالْتَمِسْ ما في طاقتك لإِيمانهم - مهما استحال - نَفَقًا في الأَرض، أَو سُلَّمًا في السماءِ، لتهديهم بآية فعالة في نفوسهم. فافعل. وقد آتيناك من الآيات، ما يكفي لإيمان من ألقى السمع وهو شهيد: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ... } (¬3). ¬

_ (¬1) الصافات، الآيات: 171 - 173. (¬2) هود من الآية: 120. (¬3) العنكبوت: من الآية 51

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}: أَي ولو شاءَ اللهُ هدايةَ الناس جمعيا، لجمعهم على ذلك. ولكن لم يُرِدْ ذلك، لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو. ففي علمه الأَزلى: أَن فريقا منهم يختار الكفر، ولو جاءَتهم كلُ آية. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: أَي فلا تَذهبْ نفسُك عليهم حسرات، لعدم إِيمانهم حتى لا تكون من الجاهلين، الذين يشتد حُبُّهُم وحنانُهم بذويهم وأَهليهم إلى هذا الحد. {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1). ¬

_ (¬1) القصص، من الآية: 56.

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)}. المفردات: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ}: الاستجابة، هي الإجابة المقارنة للقبول. {وَالْمَوْتَى}: المراد بهم، الكفار، تشبيهًا لهم بالموتى. التفسير 36 - {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}: لمَّا بيَّن الله - في الآية السابقة - إعراض المشركين عن الرسول، وأن إعراضهم كبر عليه - صلى الله عليه وسلم -، أتبع ذلك بيان السرّ في إعراضهم. وهو شَبَهُهُم بموتى القبور. وذكر أن هؤلاء المعرضين سيلقون جزائهم. والمقصود من ذلك: تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووعيد الكافرين به. {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}: المعنى: ما يجيبك يا محمد إلى الهدى، ويقبل منك شريعة الإسلام، إلا الأحياء الذين يسمعون سماع تدبر واعتبار. وهؤلاء المشركون الذين يجيبوك، ولم يهتدوا بهديك، يشبهون الموتى؛ لفقدهم ما يميز الأحياء عن الأموات، من السماع والتدبر. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ}: الواو للاستئناف وجوبًا ولزم الوقف قبلها. والمعنى: والموتى يحييهم الله يوم القيامة. {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}: للحساب والجزاء، فلا يشق عليك إعراضهم وأمرهم إلى الله الذي سيتولى عقابهم حين يبعثهم.

ولا يصح أَن يراد من بعث الكفار هدايتهم - كما قيل - فإِن ذلك لا يناسب قوله تعالي: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}: فإِن ذلك لوعيدهم بالجزاءِ على كفرهم. لأَن هذا هو الأَنسب لمقام الكلام. وهذه الآية مقرِّرة لما مَرَّ في السورة، من أَن المشركين أَمعنوا في الإِعراض إِمعانا، جعل على قلوبهم أَغطية مانعة لها من الفهم. وفي آذانهم حجبا تضع فيها وقرا - أَي ثقلا - مانعا من السماع. كما أَنها تفيد أن مَن لم يستجب إِلى دعوة الإِسلام، فهو من قبيل الموتى - والموتى لا يتصور منهم الإِيمان. {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}. المفردات: {لَوْلَا}: حرف يدل على الحثِّ والتَّحضيض مِثْل: هلَّا. {نُزِّلَ}: المقصود من التنزيل، الإِظهار. {آيَةٌ}: الآية، العلامة، والمراد بها هنا: معجزة كونية تلجئهم إِلى الإِيمان. كجعل الصفا ذهبا ... وسنوضح ذلك. {دَابَّةٍ}: الدابة؛ ما يدب على الأَرض، أي يمشي على هيئته. {أُمَمٌ}: جمع أمة بمعنى؛ جماعة.

التفسير 37 - {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... } الآية. لا يزال الكلام موصولا في شأن تكذيب المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم استجابتهم إِلى ما دعاهم إِليه. تحكى هذه الفقرة: أنهم طلبوا منه أَن يأتيهم بآية يُنَزِّلها الله ويظهرها، على حسب هواهم، فقالوا - على أَلسنة رؤسائِهم - هَلَّا أُنزل عليه آية من ربه، تلجئنا إلى الإِيمان برسالته؟ ويعنون بها ما حكته سورة الإِسراءِ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (¬1). والمتأَمل في تلك المطالب وأمثالها، يحسُّ أن الباعث عليها هو التعنت والعناد، لا الاهتداء إلى الحق. فلو كانوا طلاب حق، لكفاهم ما أَيده الله به من معجِزة القرآن " ... {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} " (¬2). وكما أَيده الله بالقرآن، أيده بكثير من المعجزات الكونية: كانشقاقِ القمر، وحَنِين الجذع، وإنزالِ المطر، ورَفْعِه، وتكثير الماء والطعام. إلى غير ذلك، مما روَته السنَّةُ الصحيحة. وقد بين الله للرسول صلى الله عليه وسلم، ما يجيب به المشركين بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: قل يأَيها الرسول لقومك: إن الله قادر على تحقيق الآية التي طلبتموها ولكن أكثرهم ليس من أَهل العلم والعقل، فلذا غفلوا عن الحكمة في عدم تحقيق ما سألوا، وهي أَنه تعالى لم يشأ إهلاكهم، فإنه إِن حققها فكفروا - بعدها - أُهْلِكوا جميعًا كما حدث للأمم قبلهم ... ¬

_ (¬1) الإسراء، الآيات: 90 - 93 (¬2) النساء، من الآية: 82

ونَفْيُ العلم عن أكثرهم: إمَّا لأن بعضهم يعلمون الحكمة في عدم تحقيق ما يقترحون، ولكنهم يشاركونهم فيما طلبوا عنادا، وإِما لأن الأكثر، مرادٌ منه: الجميع. 38 - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... } الآية. هذه الآية مسوقة للدلالة على كمال قدرة الله وشمول علمه، وسعة تدبيره وحكمته. حتى تعلم قريش: أن مَن كان هذا شأنه: قادر على تحقيق ما طلبوه، وإِن كان لم يجبهم إليه، رحمةً بهم. والدابة: ما يدب ويتحرك على وجه الأَرض من الحيوان. والتعبير بقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ}: لتأكيد العموم (¬1)؛ كأَنه قيل: وما نوع من أَنواع الحيوان -، أَو الأَسماك - صغيرًا كان أَو كبيرًا - في أَية ناحية من نواحى الأَرض - ظاهرها وباطنها -. {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: ووصف الطائر بأَنه يطير بجناحيه مع أَن هذا شأنه، لتصوير حالة طيرانه العجيبة الدالة على كمال قدرة الله وإِحكام تدبيره. حتى يتجه النظر والفكر إِليها. فيمجد الله الذي أَبدعها. والمقصود من قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: بيان أَن حيوانات الأرض والبحر، وطيور الجو، إِنما هي جماعات وطوائف، لها مثل مالنا من الخصائص في الجملة. فالنمل - مثلًا - أمَّة أَرضية: لها تدبيرها في السعى على رزقها، وجمعه من أجحارها، استعدادًا لفصل الشتاءِ، لتقتات به وهي مختبئة فيها طول الفصل. كما أن لها أَميرةً منها، تُوَجِّهُها وتنظم مصالحها. ولها لغة تتفاهم بها. كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النمل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2). وقد فهم سليمان عليه السلام لغتها: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ... } (¬3) الآية. ¬

_ (¬1) العموم مستفاد من كلمة (دابة) وتأكيد العموم مستفاد من زيادة (من)، ومن كلمة (في الأرض). (¬2) النمل، الآية: 18 (¬3) النمل، من الآية: 19

النحل: أُمَّةٌ جوية. لها رئيسة يطلق عليها لغة: "اليعسوب" وهذه الأَميرة تُوَجِّهُ أمَّتَها من النحل وتدبر أمرها. ولها نظام في السعى على الرزق، وبناءِ بيوت هندسية دقيقة، تجمع فيها العسل، وتحتضن البيض، حتى تخرج منه صغارها، ثم ترعاها حتى تفسير نحلا. إِلى غير ذلك من شئونها العظيمة الدالة على قوة إِدراكها. ولذا أَخبر الله تعالى، بأَنها موضع لوحيه وإِلهامه فقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (¬1). وهكذا، شأن سائر الحيوانات الأَرضية والبحرية، والطيور الجوية. فالآية فتحت آفاقا من العلم عن أُمم أُخرى: لها خصائص تقرب من خصائصنا. ظلت مجهولة، حتى عرفها الباحثون أَخيرا، عن طريق التجربة { ... فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬2). {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. تفريط الشىء. تضييعه وتركه. كما قال الشاعر: معه سقاءٌ لا يفرط حمله* والتفريط فيه: أَن يهمل ما ينبغي أَن يكون فيه. والمعنى: ما أَهملنا فيه شيئًا ينبغي ذكره فيه. والمراد من الكتاب: اللوح المحفوظ، أَو القرآن الكريم. وعلى الأَول، تكون جملة. {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} متوسطة (¬3) للإِيذان بأن كل الأحوال مستقصاة في اللوح الحفوظ، غير مقصورة على هذا القدر المجمل. وعلى الوجه الثاني. تكون الجملة متوسطة، لتقرير ما قبلها على معنى: ما تركنا في القرآن شيئًا من الأشياء الهامة في الدنيا والدين. ومن جملتها: بيان أنه تعالى، مراعٍ لصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي. ¬

_ (¬1) النحل، الآية: 68 (¬2) المؤمنون، من الآية 14 (¬3) يعبر عنها المفسرون؛ بأنها جملة اعتراضية أو معترضة. وقد اخترنا التعبير بمتوسطة، أدبا مع القرآن الكريم.

ثم بين الله أحوال الأُمم في الآخرة فقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}: استعمل ضمير العقلاءِ في كلمتي: {رَبِّهِمْ} و {يُحْشَرُونَ} في دواب الأَرض وطيور الجو، إجراءً لها مجرى العقلاءِ، بعد بيان أنها أمثال الناس في نظم حياتها. والمعنى: ثم - إلى ربهم ومالك أُمورهم - يحشرون كما يحشر الناس، فينصف بعضهم من بعضهم بموجب ما لديهم من إدراك. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى في يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشاةِ القَرْنَاءَ" (¬1). وعن ابن عباس: حَشْرُ الدواب والطير؛ مَوْتُها. والأَول أَصح، لظاهر الآية والحديث. وبه أخذ أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم. وقال جماعة: هذا الحَشْر الذي في الآية، يرجع إلى الكفار، وما تخلل من كلام، فهو معترض، وإِقامة حجج. والحديث مقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب، والقصاص، والاعتناء فيه. حتى يفهم منه: أَنه لا بد لكل أَحد منه. وصح القرطبي الأول، لصراحة الحديث. وقال: إنها - وإِن كان القلم لا يجرى عليها في الأحكام - ولكنها تؤاخذ فيما بينها. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)}. المفردات {صُمٌّ}: جمع أصم، وهو، من ثَقُل سمعه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: انظر القرطبي 6 طبع دار الكتب. والشاة الجلحاء: التي ليس لها قرن.

{وَبُكْمٌ}: جمع أَبْكَم، وهو؛ الأخرس، وخصه بعضهم: بمن وُلد لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر. {فِي الظُّلُمَاتِ}: المراد بها؛ ظلمات الجهل والعناد. التفسير 39 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ... } الآية. المراد بالآيات: القرآن الكريم، أَو جميع الحجج، ويدخل فيها القرآن الكريم. والمعنى: والذين جحدوا بآياتنا، ولم يهتدوا بهداها، مثلهم كمثل: الصم الذين لا يسمعون، الْبُكْم الذين لا يتكلمون، الذين احتوتهم الظلمات فلا يبصرون. فكيف يهتدى هؤلاءِ إلى سواءِ السبيل - وحالهم ما ذكر -؟!. {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هذه الجملة مقررة لما سبق من حالهم، مفيدة أنهم مقيمون على الضلال فلا يستغرب تكذيبهم. والمعنى: مَن يشإِ الله إضلالَه - لفساد طويته - يَخذُلْهُ، ومَن يشأْ هدايته - لحسن اختياره - يَجعلْهُ على طَريق مستقيم: في العقيدة والأخلاق، ويوفقه لصالح الأَعمال. {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)}. المفردات: {أَرَأَيْتَكُمْ}: أَخبروني. {السَّاعَةُ}: هي القيامة. وسميت بذلك لأَنها تَفْجَأُ الناس في ساعة علمها عند الله، والمراد بها: أهوالها.

{وَتَنْسَوْنَ}: وتتركون. التفسير 40 - {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: لا يزال الكلام عن المشركين موصولا. والمعنى: قل أَيها الرسول لهؤُلاء المشركين، تبكيتا لهم على عبادتهم غَيْرَ الله تعالى، وإِلزاما لهم بما لا يستطيعون إِنكارَه: أخبروني، إِن أتاكم عذابُ الله في الدنيا، أَو أَتتكم القيامة بأهوالها في الآخرة، وانتقم الله منكم فيها: أغيرَ الله تدعون لكشف الضر عنكم - إِن كنتم صادقين في زعمكم أَن أَصنامكم آلهة، أو إِن كنتم من أَهل الصدق؟! ولما كانت عادتهُم أَنهم إِذا وقعوا في شدة تركوا دعاءَ أَصنامهم واتجهوا إِلى الله تعالى، يدعونه ليكشفها عنهم، لاعتقادهم أنهم إن دعوها لا تجيبهم. وإِن دعوه سبحانه أجابهم، وفرَّجها عنهم. فلهذا تولى الله الإِجابة عنهم بما لا يستطيعون إِنكاره، فقال: 41 - {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}: أَي: ليس غيرُ الله تدعون. بل تخصونه - وحده - بالدعاء، فيزيلُ ما تدعونه إلى إِزالته، وتتركون شركاءَكم تركا كليًا، كما روى عن ابن عباس. وقيل: النسيان على حقيقته، فَهُمْ - لشدة الهول وعظيم الخطر - لا تخطر آلهتهم ببالهم. وتأخير نسيانهم لآلهتهم عن كشف الضُّر - مع أنه سابق عليه - لإِظهار كمال العناية بكشف الضر، والإِيذان بترتيبه على دعاءِ الله خاصة. فإِن قيل: إِن العذاب الدنيوي المماثل لعذاب الأمم السابقة وقوارع الساعة، لا يكشفان بالدعاءِ. فالجواب: أَن كشف ذلك معلق بالمشيئة؛ كما نَصَّ عليه قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}:

ومعلوم أن الله تعالى، لا يَشاء كشفهما. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (¬1). {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}. المفردات: {بِالْبَأْسَاءِ}: بالداهية والشدة. {وَالضَّرَّاءِ}: والضُّر. {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}: لكي يدعوا الله في تذلل وخضوع. {فَلَوْلَا}: بمعنى: هَلَّا. وهي هنا؛ للتوبيخ والتنديم. وسيأْتى لذلك مزيد بيان في الشرح. التفسير 42 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}: هذا كلام مستأنف، لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، بذكر ما حدث لإِخوانه المرسلين من إِعراض أَقوامهم وعدم تأَثرهم بالزواجر. فإِن البلوى إِذا عَمَّتْ هانت كما أَن فيه إنذارا لقريش بأَنهم إِذا تمادَوْا في شركهم - أُهْلِكوا - كما حدث. لأَمثالهم السابقين. ¬

_ (¬1) البينة، الآية: 6

والمعنى: ولقد أَرسلنا رسلًا إلى أمم كثيرة، في زمان قبل زمانك، فكذبوهم فعاقبناهم علَى تكذيبهم وكفرهم بالشدائد: كالقحط والجوع، وبالإضرار: كالمرض ونقصان الأنفس والأموال، لعلهم يبتهلون ويتذللون إلى ربهم تائبين من كفرهم ومعاصيهم. 43 - {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: لَوْلَا هنا: للتنديم والتوبيخ على تركهم التضرع، مع وجود مقتضيه وانتفاءِ المانع منه. والمعنى: فَهلَّا - حين جاءَهم بأسنا وشدتنا - ابتهلوا إلينا خاضعين مستغفرين، ولكنهم استمرُّوا في قسوة قلوبهم، فلم ينزجروا بما بلوناهم به، ولم يتوجهوا إلينا بالدعاءِ والاستغفار. وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملونه من الشرك والمعاصي، وحَسَّنه إليهم، فأقاموا عليه. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)}. المفردات: {نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ}: تركوا الاتعاظ بما خوِّفوا به، وهو: البأساءُ والضراءُ. {بَغْتَةً}: فَجْأَة. {مُبْلِسُونَ}: متحيرون، آيسون من النجاة. {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ}: فأهلك آخرهم. من دَبَرَهُ، إذا كان خلفه، وقَطْع دابرهم: كناية عن إهلاكهم حتى آخرهم وهذا يستلزم - قبل ذلك - إهلاك أولهم بالضرورة.

التفسير 44 - {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ... } الآية. فلما غَفَلَ مُكَذِّبو الرسل السابقين، عمّا ذكِّروا وخوِّفوا به من البَأساءِ والضَّرَّاءِ، وتركوا الاتعاظ به، واستمروا في كفرهم وتكذيبهم - فتحنا عليهم أَبوابَ كلِّ شَيْءٍ من النعم، لعلهم يذكرون بها فضل ربهم ويؤْمنون به ويشكرونه، حَتَّى إذا بَدَّلوا نعمة الله كفرا، وفَرِحوا بما أعطوا: بَطَرا وجحودا - أخذناهم بالعقاب فجأَة فإِذا هم متحيرون يائسون. روى الإِمام أحمد بسنده، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: "إذا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِى العَبْدَ مِن الدُّنيا - عَلَى مَعاصِيهِ - مَا يُحِبُّ، فَإنَّما هُوَ استِدْراجٌ ... ثُمَّ تَلَا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (¬1). 45 - {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: المعنى: فَأُهْلِك القومُ الذين ظلموا أَنفسَهم بالكفر، ولم يَنْجُ منهم أَحد، والحمد لله رب العالمين على إهلاك الظالمين، لتخليص الناس من شؤْم عقائدهم. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}. المفردات: {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}: أي غطاها فأصبحت لا تعقل. ¬

_ (¬1) ابن كثير: 2

(نُصَرَّفُ الْآيَاتِ): نكرر الدلالات مصروفة من أسلوب إلى آخر. (يَصْدِفُونَ): يعرضون. (عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً): فَجْأة بدون أمارات, أو ظاهرًا تسبقه علامات. التفسير 46 - (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون): قل أيها الرسول لقومك: أخبروني - إن أَذهبَ اللهُ سَمْعَكم وأبصارَكُم, وغَطَّى على قلوبكم ,فصرتم لا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون - أيُّ هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه - يأتيكم بما أخذه منكم؟ ... انظر وتعجَّب - يا محمد - كيف نبين - لهم الآيات ونصرفها من أسلوب: ما بين حجج عقلية, وتوجيه إلى آيات كونية ,وترغيب وترهيب, وتنبيه وتذكير, ثم هم - بعد ذلك كله - يعرضون عن الحق!! واعلم أن القلوب, تستعمل في القرآن الكريم, مصادر للإدراكات العقلية كما هنا, وكما في قوله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها ... " (¬1). والمعروف طبِّيًّا: أن مراكز معينة في المخ, هي موطن العقل. وبما أن القلب هو سر الحياة - وهو الذي يغذى تلك المراكز العصبية العاقلة في المخ - فلذا يسند الفهم والتعقل إليه مجازًا. أو لعله المركز الأول للعقل. ولكن لم يعرف ذلك بعد. والمراد من الخَتْم عل القلوب: حَجْبُهَا ومنعها عن تعقل المدركات المختلفة. والمراد من الآيات التي يصرفها الله: ما جاءَ في القرآن من الآيات الدالة على شئونه تعالى. ¬

_ (¬1) الأعراف, من الآية: 197

47 - (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون): قل لهم - تبكيتا وتقريرا: أَخبروني؛ إن جاءَكم عذابُ الله في الدنيا - فجأة بدون أَمارات تنبهكم إليه, أو جهرة تسبقه علامات تدل عليه, هل يهلك - انتقامًا بهذا العذاب أو ذاك - سواكم أيها القوم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي؟! ومن كان ظالما, فهو الجدير بتعذيب الله, دون سواه. وصحت مقابلة البغتة للجهرة, لأن البغتة لَمَّا كانت مقدماتها خفية, جعلت بمنزلة الشئ الخفي فقوبلت بالجهرة. وقيل عذاب البغتة: ما كان ليلا, لأَن الغالب فيه ذلك. وعذاب الجهرة ما كان نهارا, لتكون هذه الآية - بذلك التأويل - مثل قوله تعالى: "قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون" (¬1). والاستفهام في قوله تعالى: (هل يهلك إلا القوم الظالمون) للتقرير. {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}. المفردات: (مُبَشَّرِينَ وَمُنذِرِينَ): التبشير؛ الإخبار بما يسر. والإنذار؛ التخويف مما يضر. (يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ): أي يصيبهم. (يَفْسُقُونَ): يخرجون عن طاعة الله بالكفر والمعاصي. ¬

_ (¬1) يونس, الآية: 50

التفسير 48 - (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون): هذه الآية - والتي تليها - مرتبطتان باقتراح المشركين علي الرسول: الآيات التي يشير إليها قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ... " (¬1). والمعنى: وما نبعث المرسلين إلا مبشرين للمؤْمنين الصالحين بحسن الثواب, ومنذرين للمكذبين الفاسقين بسوءِ العقاب, لا ليُقْترَحَ عليهم غيرُ ما جاءوا به من الآيات. فمن آمن بالله ورسله, وأصلح نيته وعمله, حسب شرائعهم, فلا خوف عليهم من عقاب, ولا هم يحزنون على فوت ثواب. 49 - (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون): والذين كفروا بالمرسلين, وكذبوا بآياتنا التي أنزلناها عليهم, وبمعجزاتِنا الدالة على صدقهم, وشغلوا أَنفسهم باقتراح الآيات عليهم - غير مكتفين بالمعجزات التي أظهرها الله على أيديهم, تعنتا وحسدا وعنادا لهم - فهؤلاء, يصيبهم العذاب - الدنيوي والأُخروي - بسبب استمرارهم على فسقهم, وخروجهم عن طاعة ربهم. {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} المفردات: (خَزَائِنُ اللهِ): المراد بها؛ خزائن مقدوراته؛ كما قال الجبائي. (الْأَعْمَى والبَصِيرُ): المراد بهما؛ الضال والمهتدى. ¬

_ (¬1) الأنعام, من الآية: 37

التفسير 50 - (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ... ) الآية. قل أَيها الرسول, لمن يقترحون عليك غير ما جئت به من الآيات: أنا لا أدَّعي أن عندي خزائن مقدورات الله أتصرف فيها كما أَشاءُ استقلالا أَو استدعاءً من الله, حتى تطلبوا منى أَن أقلب الجبال ذهبا وأَن أفجر الينابيع من الأرض, لتزرعوا على مياهها صحراءَكم, إلى غير ذلك من اقتراحاتكم - فذلك من شأن الله الذي لا يتحكم عليه أحد, فيقترح عليه من الآيات ما لا تبدوا حكمة في تحقيقه. وكذلك لا أَدعى علم الغيب, حتى تطالبوني بإِخباركم بوقت نزول العذاب بكم بقولكم: " ... متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" (¬1). ولا أَقول لكم إني مَلَكٌ حتى تطالبوني بأَن أَرْقَى في السماء كما هو شأن الملائكة, أو تَعُدُّوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في نُبُوَّتِي, فإنكم قلتم: " .. ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ... " (¬2) وما أنا إلا نبي: أَتبع ما أوحاه رَبَّي إلىَّ. فلا تطلبوا مني ما ليس من شأني. (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون): قل لهم أيها الرسول: لا يمكن أن يستوي الضال الشبيه بالأَعمى - في عدم تبين الحقائق - بالمهتدى الشبيه بالمبصر في استجلاءِ الأُمور ... أتسمعون هذا التذكير فلا تتفكرون فيه؟! واعلم أنه ليس من الحكمة أن يجاب المتعنتون إلى ما سأَلوا, فإنهم لا يؤمنون, ولو جاءَتهم كل آية. قال تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" (¬3). فضلا عن أنهم - إن لم يؤمنوا بما طلبوه بعد مجيئه, حق عليهم الهلاك, كما حدث لمن قبلهم. كقوم صالح. ولا يقتضي تمييز الملائكة بقدرتهم على الرقى في السماء كلما أَرادوا, أو تمييزهم بأَنهم لا يأكلون, ولا يشربون: أن يكونوا أفضلَ من الأنبياءِ, كما زعم الجبائي, فالمزية لا تقتضى الأفضلية, وإلا لكان بعضُ الحيوان أفضلَ من الإنسان, بما تميز به عليه, كالنحل ¬

_ (¬1) سورة سبإ, من الآية: 29. (¬2) الفرقان, من الآية: 7 (¬3) يونس, الآيتان: 97,96

في بناء بيوته الهندسية, وإفرازه العسل, وكالطيور في تعَرفها المراعىَ الصالحة, وسلوكِها السبيل إليها بالغريزة, دون أن يخبرها بها مخبر, أو يهديها إليها هادٍ, ودون أن يكون لها اطلاع سابق ورحلة من قبل إليها. {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}. المفردات: (وَأَنذِرْ): الإنذار؛ التخويف. (وَلِىٌّ): ناصِر. (شَفِيعٌ): الشفيع؛ من يرجو رفع ضُر, أو جلب خير لغيره. التفسير 51 - (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون): وأنذر - أيها الرسول بما يوحى إليك من القرآن - الذين يخافون أن يُحشرُوا ويجمَعوا إلى حساب ربهم يوم القيامة, ليس لهم من غيره نصير- يحميهم - من حساب ربهم وعذابه - بقوته, ولا شفيع يخلصهم من ذلك بشفاعته ورجائه - أنذر هؤلاء بالقرآن؛ لعلهم يتقون النار بالإِيمان والطاعة. واعلم أَن مَن يخافُ الحَشْرَ إلى الله - وليس له ولى ولا شفيع من غيره تعالى - أَصناف ثلاثة: 1 - صنف أهْل الكتاب: القاطعين بالبعث, الشَّاكَّين في شفاعة أنبيائهم لهم. 2 - وصنف المشركين: القاطعين بالبعث الشاكين في شفاعة أَصنامهم لهم.

3 - وصنف المشركين: الشاكين في البعث وفي شفاعة الأَصنام لهم. فشك هذه الأصناف الثلاثة في شفاعة هؤلاء الشفعاء, يجعلهم إذا سمعوا الإنذار يخافون سوءَ العاقبة يقدرون في نفوسهم ما جاءَ به الرسول. فيفكرون فيما يقول. وربما هداهم التفكير إلى الحق, فآمنوا. أما المنكرون للحشر إِنكارا تاما, والقائلون به: القاطعون بشفاعة آبائهم أَو أصنامهم فهؤلاءِ لا يؤمنون - ولو جاءتهم كل آية - حتى يَرَوُا العذابَ الأليم. كما جاءَ في قوله تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" (¬1) وقد مرت الإشارة إلى ذلك قريبا. ولكون موقفهم من الرسالة ما ذكر, مِنَ الرسول بالاهتمام بهذه الطوائف, التي تخاف الحشر إلى ربها - دون شفيع - لعلهم يتذكرون. ويستلزم أمر الرسول بالاهتمام بهم, أَلاَّ يكترثَ بمن عداهم, من الصُّم البُكْم: الذين لا يعقلون ولا يهتدون. {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} ¬

_ (¬1) يونس, الآيتان: 97,96

المفردات: (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىَّ): أي بأَول النَّهارِ وآخِرِه. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): يريدون ذاته. (فَتَنَّا): ابتَلَيْنَا. التفسير 52 - (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ... ) الآية. لَمَّا أَمر الله رسوله في الآية السابقة - بإنذار من يَخْشَوْنَ أن يُحشَروا إلى ربهم, ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع, سواءٌ أكانوا مشركين أَم أَهل كتاب - نهاه سبحانه وتعالى - عن أن يكون إِنذارهم سببا في طرد المؤمنين الضعفاء - من مجلسه عليه السلام - طمعا في إيمان هؤلاء. وسبب نزول هذه الآية - على ما رواه الإمام أحمد وغيره: أن رؤساءَ المشركين. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردتَ هؤلاء وأرواح (¬1) جبابهم, جلسنا إليك وحادثناك: يعنون فقراء المسلمين كعمار, وصهيب, وخبَّاب, وسلمان, وأضرابهم. رضي الله عنهم - فقال صلى الله عليه وسلم: "مَا أنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ" فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا. فإذا قمنا فأقعدهم معك, إن شئت. فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم" طَمَعًا في إيمانهم, فنزلت. والمعنى: ولا تُبْعِد عن مجلسك ضعفاء المؤمنين: الذين يَدعون ربهم ويعبدونه دائمًا. مخلصين. فلا يشركون في ذلك شركًا: جليا ولا خفيا. بل يريدون وجْهَهُ وذاتَهُ وحده. ليس عليك أيها الرسول من حساب أُولئك المشركين - إذا استمروا على شركهم ومعاصيهم - من شيء. فالحساب على ذلك خاص بهم, لا يتجاوزهم إليك. فلا يحملنَّك الحرص على إيمانهم: أن يبْعَدَ الفقراءُ عن مجلسك معهم, استجابة لرغبتهم. فكما أنه ليس على المشركين من حسابك على عملك شيء, فكذلك ما عليك من حسابهم على عملهم من شيء. ¬

_ (¬1) أرواح جمع ريح بمعنى رائحة. قال صاحب القاموس: والراح يجمع على أرواح. ثم ذكر ضمن معانيه, الرائحة. وكان هؤلاء الفقراء يلبسون جبابا تفوح منها روائح, تؤذى المشركين, لأنهم لم يجدوا بديلا عنها حتى يغسلوها, فكانوا يلبسونها دائما, فتفوح منها روائح العرق المتراكم, فلذا طلب المشركون إبعادهم عن المجلس إذا جلسوا مع الرسول. استعلاء وتكبرا.

فلا يحملنَّكَ الحرصُ على إيمان المشركين: أن تطرد فقراء المؤمنين وتُبْعِدَهم عن مجلسك. فتكون بذلك من الظالمين. واعلم أيها القارئُ الكريم: أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم, قصد من تخصيص الوقت للمشركين حين يجلسون إليه, تأليف قلوب المشركين, ولم يقصد طَرْدَ المؤْمنين حقيقة. ولهذا لم يَرْوِ أَحَدٌ أن قلوب فقراءِ المؤمنين انكسرت لذلك. وتعبير القرآن الكريم عن تخصيص الوقت للمشركين بأنه طَرْدٌ لفقراء المؤْمنين, يُرَاد منه إظهار كرامةِ المؤمنين على الله دون المشركين حتى جَعل تخصيصَهم بوقت, طرْدًا لهؤُلاء المخلصين ... ومعلوم أن النهي عن طرد الضعفاء, لا يلزم فيه سوى جملة (ما عليك من حسابهم من شيء). فنظمه في سلك ما لا شبهة فيه. وهو انتفاءُ أن عليهم من حساب الرسول شيئًا .. على طريقة قوله تعالى: " ... لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" (¬1). والمقصود الأساسي من الآية: أن من كانوا عند الله بهذه المنزلة, لا يجاب المشركون إلى ما طلبوه من طردهم عن مجلسه إِذا كانوا معه. وأنَّ شانَ المشركين عند الله تعالى: غاية في الهوان, فلا يُهْتَمُّ بهم. وفي هذه الآية, دليل على أن الإسلام لا يميز بين الناس بالمال والرياسة, بل بالإيمان والعمل الصالح, وإن كانوا فقراء معدمين, وعلى أن الأُمراءَ مطالبون بإعطاء الفقراء حقهم من مجالس العلم ودوره, وأَلاَّ يمنعونهم عن مجالسة الأَغنياءِ فيها. 53 - (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين): ومثل ذلك الابتلاءِ والفتنة, فتَنَّا المشركين بالمؤْمنين, ليقولوا محتقرين لهم: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا): كما قالوا محتقرين لدينهم: " ... لو كان خيرا ما سبقونا إليه ... " (¬2). ¬

_ (¬1) النحل, من الآية: 61 (¬2) الأحقاف, من الآية: 11

(أَلَيْسَ اللهُ بأعْلَمَ بالشَّاكِرِينَ): فيمنحهم من النعم ما يستحقون. فكيف يحقر هؤلاءِ الحاقدون, غَيْرَهم من أهل الاستحقاق لأنعمه سبحانه؟! {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}. المفردات: (بِجَهَالَةٍ): بِسَفَهٍ وسوءِ رأي. (وَلِتَسْتَبِينَ): ولِتَتَّضِحَ. (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ): طريق أهل الذنوب. التفسير 54 - (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ... ) الآية. هذه الآية الكريمة, ليست خاصة بالمنهي عن طردهم من ضعفاءِ المؤْمنين, كما قيل مرويًّا عن عكرمة رأيًا له. فإن اللهَ مدَحهم فيما سبق - بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي, وهذا لا يتناسب مع الوصف هنا: بأنهم عملوا السوءَ بجهالة. فالحق أنها دستور عام لجميع المؤْمنين المقصرين, إذا ما تابوا وأصلحوا.

والمعنى: وإِذا جاءَك - يا محمد - الذين آمنوا - وقد أصابوا بعض الذنوب - فقل تبشيرا لهم: سلام عليكم أي مسالمة من الله لكم. وتلك المسالمة, هي أنه تعالى, قضى على نفسه بالرحمة لعباده: تفضُّلًا. وذلك أنه مَن عمِلَ منكم سوءًا أَي ذنبا بجهالة - أي سفه وسوء رأى - فشأنه تعالى: أنه غَفَّارٌ للذنوب, رحيم بعباده. فلا تقنطوا من رحمة الله. واعلم أن هذه الآية الكريمة, فتحت باب الرجاءِ أمام أَهل الذنوب. فعلى كل مذنب أن يراجع نفسه أمام هذا الكرم الإلهي, وأن يرعويَ عن غَيّه ويتوب من ذنبه, ويُقْبلَ على طاعة ربه. 55 - (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين): ومثل ذلك التبيين الواضح, في صفةِ أهل الطاعة وأهل الإجرام - المصِرَّين منهم والأَوَّابين - نُبَينُ سائرَ الآياتِ, لما له من فوائد كثيرة, ولتتضح طريق المجرمين فيتحاشاها الراشدون. {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}. المفردات: (تَدْعُونَ): تعبدون. (بَيَّنَةٍ): حجة. (يَقُصُّ الْحَقَّ): يتبع الحكمة.

التفسير 56 - {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ... } الآية. بعد ما نَهى الله الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، عن إِبعاد فقراءِ المسلمين عن مجلسه، حين يجلس إليه المشركون تألفًا لقلوبهم، أتبعه بيان رحمته بالمؤْمنين التائبين من ذنوبهم، أَمرَه - سبحانه - في هذه الآية وما بعدها - أن يقطع أَطماع المصِرِّينَ على الشرك في صرفه عن دعوة التوحيد. والمعنى: قل أَيها الرسول للمشركين: إني نُهيت من الله تعالى؛ أَن أَعبدَ معكم الأَصنام التي تعبدونها من دون الله. ثم أَمره الله - في إِيجاز رائع - أَن يبين لهم: أَن عبادتهم إِياها لا تستند إِلى دليل. بل تجرى حسب هواهم، ومن أَتبع الهوى، ضل عن الهدى. فقال: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا}: وَبَعُدْتُ عن الحق (وَمَا أنا مِنَ الْمُهْتَدِينَ): إِلى سبيل الرشاد، لو اتبعت منهجكم في عبادة غير الله. 57 - {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ... } الآية. المراد بالبينة: اليقين؛ كما قال ابن عباس. أو الحجة الواضحة، وهي القرآن. كما قال غيره. والمعنى على رأْى ابن عباس: قل لهم أَيها الرسول: إني على يقين من ربي. وكذبتم به، حيث جعلتم له شركاءً عبدتموها معه. ومَن جعل لله شركاءَ فقد كذب بوحدانيته تعالى، وإِن اعترف بخالقيته. والمعنى على رأْى غيره: قل: إني على حجة من ربي وهي القرآن الذي أَيدنى به، وكذبتم بهذا القرآن، حيث زعمتموه: شِعْرا وسِحْرا، وأَساطيرَ الأَولين. وقد كانوا يستعجلون نزول العذاب الذي توعدهم الله به إِن استمروا على شركهم. ويقولون مستهزئين: { ... مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُنم صَادِقِينَ} (¬1) فأَمر الله الرسول أَن يقول لهم: ¬

_ (¬1) سبإ، من الآية: 29

{مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}: أي: ليس من شأْنى ولا في حكمى هذا العذاب الذي تتعجلونه، وتتخذون من تأَخره ذريعة لتكذيب القرآن والصَّدِّ عن الإِسلام. فما الحكم - في شأْنه - تعجيلا وتأْجيلا، وفي جميع الشئون - إِلا لله تعالى على مقتضى الحِكمة في حُكمه وقضائه. وهو خير الفاصلين في قضايا خلقه. وهو يرى الحكمة في إمهالكم فأَمهلكم. ثم أَمره أَن يقول لهم: 58 - {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}: قل لهم: لو كان أَمر عذابكم مفوضا إِلىَّ من الله تعالى، لطلبت من رِّبى أَن يعجل به، غضبا لأَجله بسبب كفركم به، ولَقُضِىَ الأمر بيني وبينكم، بإِنزال هذا العذاب بكم، والتخلص من شرككم وكفركم. والله أَعلم بكم أَيها الظالمون، وبما ينبغي لكم من الإِمهال، استدراجًا لكم لتشديد عذابكم إن بقيتم على ظلمكم وشرككم. ولكونه تعالى أَعلم بما ينبغي لكم، لم يفوض أمر عذابكم إلىَّ حتى أَعَجله لكم. ولمَّا أَتَمَّ الله بيان اختصاص القدورات الغيبية به تعالى - من جهة القدرة - أَتبعه بيان اختصاصها به - كذلك - من جهة العلم، فقال سبحانه في ضمن ما أَمر به رسوله أَن يبلغه لقومه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}. المفردات: (مَفَاتِحُ): جمع مِفْتَح أَو مِفتاح - بكسر الميم فيهما، وهو أداة الفتح. والمراد بمفاتح الغيب: أَسباب علمه. ويجوز أَن تكون جمع مَفتح - بفتح اليم - وهو

مكان الفتح، أَي المكان الذي يُفتحُ، والراد منه: المخزن أَو الخزينة. ويكون المعنى على هذا: وعنده خزائن الغيب. (كِتَابٍ مُّبِينٍ): كتاب بين واضح في ذاته من: أَبان بمعنى اتضح. أَو موضح لغيره؛ من: أَبانه بمعنى أَوضحه، والمراد بالكتاب المبين: علم الله، أَو اللوح المحفوظ. التفسير 59 - {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ... } الآية. المراد من مفاتح الغيب: ما يُتَوَصل به إِلى علم الغيب. ومعنى كونها عنده تعالى: أَنها داخلة تحت علمه. والمعنى المراد من هذه الجملة: أَنه تعالى، اختص بأَسباب علم الغيب كله والطرق الموصلة إِليه ... ليس له في العلم بها شريك، وأَكد اختصاصه بالعلم بها بقوله: (لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ): أَي: لا يعلم الأَسباب الموصلة إلى الغيب سواه. ومن كان كذلك فلا يقدر غيره على إبراز الغيب الذي استأْثر سبحانه، بمفاتيحه. ولا يمنع اختصاصه تعالى بمفاتيح الغيب: أَن يمنح بعض خواص عباده شيئًا من علم الغيب - وهم المرسلون - صلوات الله وسلامه عليهم - قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ... } (¬1) وقال تعالى: { ... وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ... } (¬2) لأَن العلم الذي اختص به المولى، هو علم الغيب ذاتيا. أَما علم الرسل به فليس كذلك، إِذ هو منحة من الله تعالى لهم، ولولاها لما حصل لهم. التنجيم وأمثاله: عُلِمَ من قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} أَنّ علم الغيب - بالذات - لا يكون لأَحد سوى الله تعالى. وعُلِمَ من آيتى سورتى آل عمران والجن - أَنه سبحانه وتعالى - قد يُعْلِمُ بعضَ خواصِّ عباده - وهم الرسل - بعضَ الغيب. ¬

_ (¬1) الجن، الآيتان: 26، 27. (¬2) آل عمران، من الآية، 179

وبذلك يتضح: أَن علم الغيب مقصور على الله ذاتا، وعلى رسله - منحةً وعطاءً - بقدر، فلا يحل لأَحد سواهم، أَن يدعى علمَه بالغيب بل قال العلماءُ: إِنه كافر، لتكذيبه ما جاء في كتاب الله تعالى من اختصاصه - تعالى - بعلم الغيب، إِلا أَن يتفضل ببعضه على من يرتضى من الرسل. أَما ظنُّ الغيب بأمارات: فإِنه ممكن لعباده، فلا يكفر ولا يفسق من يدعيه، كما يحدث من الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر - حين يخبرون بهبوب الرياح بشدة أَو باعتدالها - وبكسوف الشمس يوم كذا، وبخسوف القمر ليلة كذا، وكما يحدث عن علماءِ الفلك حين يخبرون بزمن نزول المطر، أَو نزول درجة الحرارة وصعودها، أَو نحو ذلك، فيقع الأَمر كما قالوا .. وكما يفعَله الأَطباءُ بحكم العادة عندهم، إِذ يقولون: لمن حلمة ثديها الأيمن سوداء: جنينك ذكر، ولمن حلمة ثديها الأَيسر كذلك: جنينك أُنثى، أو يقولون لها: إِن كان جنبك اليمين أَثقل فالجنين أُنثى وإِلا فهو ذكر. فيقع الأَمر كما قالوا، ونحو ذلك، مما يخضع لقواعد علمية، أَو أَمارات ظنية. وأَما العَرَّافون الذين يدعون علم الغيب، كقول أَحدهم لمن يستخبره عن مستقبله: إنك ستكسب كذا، أَو تتزوج فلانة أَو نحو ذلك، فهو كافر كما قاله القرطبى. والمؤمنون منهيون عن إِتيان العرَّافين. فقد جاءَ في صحيح مسلم: "مَنْ أَتَى عَرَّافا فسأَلهُ عَنْ شَىْءٍ، لم تُقْبَلْ لهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيْلَةً". وعند أَحمد وغيره، من رواية أَبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَتَى عرَّافا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ، فَقَد كَفَرَ بما أَنزِلَ عَلىَ مُحَمَّدٍ". {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا}: بعد أَن بين الله سبحانه، اختصاصه، بِعلْم الغيب كله. عطف عليه بيان علمه لما يشاهد أو يغيب في البر والبحر. وبما يسقطُ من الأَوراق، وعلمه بالرَّطب واليابس، تكملة لمتعلقات علمه، وإِيذانٌ بأَن الكل - بالنسبة إِلى علمه المحيط - سواءٌ في الجلاءٍ.

وخص البر والبحر بالذكر - دون سائر الكائنات - لأَنها أَقربها إلى البشر جوارا. والمعنى: ويعلم ما في البر والبحر من أَجزائهما، وما ظهر أَو خفى فيهما: من الإِنسان والحيوان والنبات، والسوائل والجوامد، والأَدهنه والأَبخرة، وعناصرها وذراتها، ومكونات هذه الذرات! وبعد أن يبين علمه بذواتها - أَتبعه بيان علمه بأَحوالها، رامزا إليها بقوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} فإِن سقوط الأَوراق، ليس إلا حالًا من الأَحوال. والمراد أَنه يعلم جميع حالات الشجر وصفاته، التي من جملتها: سقوط أَوراقها، كما أَن ذكر حال الورقة - وما عطف عليها خاصة دون سائر أَحوال ما عداها مما في البر والبحر - من الموجودات الفائقة الحصر، باعتبار أَنها أُنموذج لسائر أَحوال الموجودات. {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: هذه الثلاثة معطوفة على (ورَقَةٍ) داخلة معها في حكم السقوط، والدخول في علم الله سبحانه وتعالى. والمعنى: وما تسقط من ورقةٍ ولا حبةٍ في ظلمات الأَرض، وما يسقط من رطبٍ ولا يابس إلا يعلمها الله تعالى. وعبَّر عن علمه بالكتاب المبين، تشبيها له به في الثبات والوضوح: تقريبا للأَذهان وإلا، فعلمُ الله أَعظم من الكتاب المبين وضوحا وثباتا وأَزلية. وقيل: المراد من الكتاب المبين: اللوح المحفوظ. فيكون ذلك كناية عن علمه تعالى به، فإِن من أثبت ذلك في كتابٍ عنده، فهو بما أثبته فيه عليم. وعلى أيِّ الرَّأيَيْن. فقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: كالتكرير لقوله: (إِلَّا يَعْلَمُهَا) جىءَ به للتذكير والتأكيد.

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}. المفردات: {يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ}: التوفى لغة؛ قبض الشىء بتمامه، وأكثر ما فيه قبض الروح. والمراد منه هنا: الإِنامة؛ أَي يُنِيمكم في الليل. {جَرَحْتُمْ}: كسبتم. {يَبْعَثُكُمْ}: يوقظكم. {أَجَلٌ مُسَمًّى}: وقت محدد لكل واحد ينتهى إِليه عمره. {الْقَاهِرُ}: الغالب. {تَوَفَّتْهُ}: قَبَضَت رُوحَه. التفسير 60 - {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ... } الآية. بيَّن الله - فيما تقدم قريبا - أَن الله أَمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -: أَن يقول لقومه المشركين: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآيات: ردًّا على استعجالهم العذاب الموعود

بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وردًّا على طلبهم له بأسلوب آخر كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1) وقولهم له: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} (¬2). وجاءَت هذه الآية، للإِشارة إِلى أَن إِمهال الله - تعالى - لهم ليس لغفلةٍ عن كفرهم، فإِنه محيط بكل أمورهم. ولكن ليُقضَى أَجلٌ مسمى يرجعون بعده إِليه تعالى. فيعذبهم. والمعنى: قل أَيها الرسول، لقومك الذين يستعجلونك بالعذاب: الله الذي توعَّدكم به، هو الذي ينجيكم بالليل، فيجعلكم - بالنوم - لا تكادون تحسون ولا تميزون، كَأَنما قبض أَرواحَكم فعلا. وهو يعلم ما كسبتم بالنهار، من أَلوان الكفر والمعاصي ويحصيه عليكم ثم إِنه يوقظكم بالنهار - مع علمه بما تكسبون فيه من الآثام - لينتهى أَجل سمَّاه تعالى - لكل واحد منكم، فلا تدفعه معاصيكم إِلى تعجيل العذاب بكم ... ثم إِليه - وحده - رجوعكم بالبعث والحشر. ثم يخبركم بما كنتم تعملون من السيئات، ويجازيكم عليها. وتخصيص الليل بالإِنامة، والكسب بالنهار؛ لأَنه الغالب من عادات الناس. وقد أَشار الله بالبعث بعد النوم الذي يتكرر كل يوم، إلى إِمكان البعث بعد الموت الذي أَنكره المشركون، وأَنكروا العذاب بعده. إِذ أَنه - تعالى - إِذا كان يبعث كل نائمٍ بعد أَن كان كالأَموات بلا حِسٍّ ولا تمييز، فإِنه - بلا شك - قادر على بعثهم بعد الموت. 61 - {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ}: أَي: وهو الغالب على عباده، المتصوف فيهم، إِيجادا وإِعداما، وإِحياءً وإِماتة، وتعذيبا وتنعيما. إلى غير ذلك من شئون القهر والسلطان: لا يشركه فيها شريك، ولا يرده عن مراده فيهم أَحد، ويرسل عليكم - أَيها المكلفون - حفظةً من الملائكة طول حياتكم: يُسَجِّلُونَ ¬

_ (¬1) الأنفال، من الآية: 32. (¬2) الإسراء، من الآية: 92

أَعمالكم - لكم أَو عليكم - حتى إِذا جاءَ أَحَدَكم زمانُ الموت، قَبضَتْ روحَه رسلُنا من الملائكة الموكَّلين بقبضِ الأَرواح، وهم لا يقصرون بالتواني والتأْخير. وبذلك تنتهى أَعمال الحفظة الذين كانوا يسجلون أعمالكم من خير وشر. وتبدأُ أُولى درجات الآخرة، فيشعر المكلف ببعض حظه من النعيم أو العذاب. وقد اختلف العلماءُ فيما يكتبه الحفظة: فمنهم من قال: إنهم يكتبون الحسنات والسيئات والباحات، كما يُشْعِرُ به قوله تعالى: { ... مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ... } (¬1) لكنهم لا يحاسِبُون على المباحات. ومنهم من قال: إِن المباحات لا تكتب، إِذ لا فائدة من كتابتها، فإِنها لا حساب عليها، وتسجيل الحفظة لأَعمال المكلفين، ليس لتذكير الله بها فإِنه: أَحصى كل شيءٍ عددا، بل لتذكير المكلفين بها - حينما يقرءُونها، فيعرفون بها عَدْلَ الله؛ حينما يقضى عليهم، وإِحسانَه، حينما يحسن إِليهم. وإِخبارُ الله لهم بكتابة أَعمالهم - صغيرها وكبيرها - دافع لهم إِلى بذل الجهد في الاتجاه بها نحو الاستقامة: تحاشيًا لفضيحتهم بنشرها في ساحة الحساب، واتقاءً للعقاب عليها. وما لم يُنَبَّهوا إِلى ذلك، تراخَوْا في العمل، وتساهلوا في المعاصي؛ اعتمادًا على كرم الله تعالى، مع أَنه لا ينبغى الاغترار بكرمه، قال تعالى: {يَأيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (¬2) فكما أَن الله تعالى عفو كريم، فهو عزيز ذو انتقام. 62 - {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}: ثم أعيد جميع المتوفين - مكلفين وغيرهم - إلى الله مولاهم ومالكهم الحق. أَما غيره من المعبودات، فليس له ولاية عليهم. ولهذا لا حُكْمَ له يوم القيامة فيهم. أَلا له الحكم يومئذ حقيقة وصورة: لا لغيره بأَى وجه من الوجوه. وهو أسرع الحاسبين، إذ لا يحتاج إِلى فكر وروية، ولا يشغله شأْن عن شأْن، فهو يحاسب الجميع في أَسرع زمان. ¬

_ (¬1) الكهف، من الآية: 49. (¬2) الانفطار، الآية: 6

وكيفية الحساب، لم يَرِدْ في شأْنها خبر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، ولا تحيط بها عقول البشر. فلذا، يجب الإِيمان به - أَي بحصول الحساب - وتفويض الأَمر في كيفيته إِلى عَلَّام الغيوب. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}. المفردات: {ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: شدائدهما. {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): إِعلانا وإِسرارا. {كَرْبٍ}: الكرب؛ هو الغم والحزن الذي يأْخذ بالنفس - كالكُربة بضم الكاف. التفسير 63 - {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... } الآية. المقصود من ظلمات البر والبحر: شدائدهما. على سبيل الجاز. وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما. والعرب تقول لليوم ذى الشدائد: يوم مظلم. أَو ذو كواكب. وأَنشد الزجاج: بَنِي أَسد هل تعلمون بلاءنا ... إِذا كان (¬1) يومٌ ذو كواكب أَشهبُ وأَصل التضرع: الخضوع والتذلل. وقد يستعمل بمعنى: الإعلان، كما هنا لمقابلته بالخفية. وبذلك قال ابن عباس والحسن. ¬

_ (¬1) كان هنا تامة: بمعنى جاء.

والمعنى: قل أَيها الرسول لهؤلاءِ المشركين، تنبيها لهم على انحطاط شركائهم عن رتبة الأُلوهية، وتقريرا لهم بذلك، وتوبيخا على عبادتها: مَنْ يُنَجِّيكم من شدائد البر والبحر: تدعونه عند نزولها بكم مُعْلنين دعاءَكم ومُسِرِّين به في خضوع وانكسار قائلين: لئن أَنجانا الله من هذه الشدائد لنكونن من المستديمين لشكره. - وقد أمَرَ اللهُ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، أن يتولى الإجابة عنهم؛ إِيذانًا بظهورها وتعيُّنِهَا وشهادتهم بها. وذلك بقوله له: 64 - {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}: قل لهم يا محمد: الله تعالى، ينجِّيكم من شدائد البر والبحر، التي تدعونه - دائمًا - أَن ينجِّيكُم منها كلما نزلت بكم. وينجَّيكم من كل غمٍّ ينزل بكم. لا يشاركه في إِنجائكم من ذلك شريك كما تعرفون وتشهدون، ثم أنتم - بعد إنعامه عليكم بالنجاة من المكاره إِجابة لدعائكم - تعودون إِلى الشرك، ولا تحققون وعدكم بدوام الشكر. فهل يليق بعاقل أن يشرك بالله آلهةً تَخَلَّتْ عنه في وقت الشدة، ويدعَ شكر الله الذي أَسدى له نعمة النجاة، فلا يوحِّده ولا يعبده؟! {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}. المفردات: {أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعًا}: أَو يخلطكم فرقا مختلفة الأَهواءِ، كل فرقة تشايع هوى. {بَأْسَ بَعْضٍ}: البَأَس، الشدة.

{كَيفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}: كيف نبين ونُلَوِّن الحجج. {بِوَكِيلٍ): بحفيظ. التفسير 65 - {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ... } الآية. هذا كلام مستأنف، لبيان قدرة الله على إِيقاعهم في المهالك - بعد بيان أَنه المنجي لهم منها. وفيه وعيد ضمني بعذابهم إن بَقُوا على شركهم على طريقة قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا. أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (¬1). والمراد بالعذاب الذي يبعثه الله من فوقهم: ما كان من جهة العلو وإِن لم يكن من فوقهم فعلا. كالصيحة والريح والحجارة. والمراد بالعذاب الذي يأَتى من تحت أَرجلهم: ما كان من جهة السّفلى، كالرجفة والخَسْف، والإِغراق. واللبس: الخلط. ومنه قول الحماسى: وكتيبةٍ لَبَّسْتُها بكتيبة ... حتى إِذا التبست نَفَضتُ لها يدى والشيَع: جمع شيعة. وهم؛ مَن يجتمعون على أَمر يتشيعون له ويؤيدونه. حقًّا كان أَو باطلا. والمعنى: قل أَيها الرسول لمشركى قومك: الله هو القادر على أَن يبعث عليكم عذابا من أعلاكم، كالذى حدث لقوم لوط، وأَصحاب الفيل. أو عذابا من أسفل منكم، كالذى حدث لفرعون وقارون. أو أَن يخلطكم فرقًا مختلفة الأهواء: تشايع كل ¬

_ (¬1) الإسراء، الآيتان: 68، 69

فرقة رأْيا وتناصره. فينشَب القتال بينكم ويذيق بعضَكم شدةَ بعض. فكيف تشركون بمن هذه قدرته؟. انظر كيف نصرف الآيات، وننوع البراهين والحجج، على استحقاقنا التفرد بالأُلوهية، ليفهموا الحق فيرجعوا عما هم فيه من الشرك. والمراد من البَعْضَيْن في قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الكفار يذيق بعضُهم بعضًا، العذابَ، بسبب اختلافهم على أَنفسهم. وعن مجاهد: أَن الآية عامة في المسلمين والكفار. وقد حمى الله الأُمة المحمدية من العذاب من فوقهم أَو من تحت أَرجلهم - بطريقة الاستئصال - كما كان في الأُمم السابقة. وذلك بدعائه - صلى الله عليه وسلم -. ولكنه - تعالى - ابتلاها باختلافها شيعا. وإِذاقة بعضهم بأْس بعض. روى البخاري، عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: "لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال - صلى الله عليه وسلم -: {أَعُوذُ بِوَجْهِكَ} {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: {أَعُوذُ بِوَجهِكَ} {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال: "هذه أَهْوَنُ أَو أَيْسَرُ". وروى مسلم بسنده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سَأَلتُ ربِّى ثلاثًا: سَأَلتُه ألَّا يُهلِكَ أمَّتِى بِالْغَرَق فأَعْطَانِيهَا. وسَألتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِى بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا. وَسَألْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهم بَينَهُم ... فَمَنَعَنِيها". والمراد بالسَّنَةِ: القحط والجدب. 66 - {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: وكذَّب قومك بالقرآن الذي اشتمل على تصريف الآيات المقتضية للتصديق. وهو الحق المطابق للواقع. فكيف استهانوا بتكذيبه!! قل لهم أيها الرسول: لستُ عليكم بحفيظ. فلم يوكَلْ أَمرُكم إلىّ، لأَحفظكم من التكذيب، وما أنا إِلّا منذر، والله هو الحفيظ، فمن آمن فلنفسه، ومن كفر فعليها.

67 - {لِكُلِّ نَبَإِ مُّسْتَقَرٍّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: لكل خبر من أخبار القرآن زمانُ استقرار. يستقر ويقع فيه مدلُولُه. وسوف تعلمون حال خبركم في الدنيا والآخرة، ومبلغه من الصدق. {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}. المفردات: {يَخُوضُونَ}: يندفعون. {فَأعْرضْ عَنْهُمْ}: فاتركهم. {وَإِمَّا يُنسِيَنَّك الشَّيْطَانُ}: إمَّا، أَصله: "إن" الشرطية المدغمة في "ما" "وما" صلة للتأكيد أَي وإن أنساك الشيطان. {بَعْدَ الذِّكْرَى}: بعد التذكر. {وَلَكِن ذِكْرَى}: ولكن تذكير ووعظ. التفسير 68 - {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتىَّ يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... } الآية. لا يزال الكلام موصولا في أحوال المشركين.

وسبب نزولها: أَن قريشا، كانوا يستهزئون بالقرآن. ويقولون فيه: إِنه سحر وشعر، وأَساطير الأولين، وما حَلا لهم من الأكاذيب، فنزلت الآية، تأْمر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَن يُعرِض عنهم إعراض منكر عليهم، إذا سمع ذلك منهم، ولا يجلس معهم، ولا يجادلهم في ذلك، حتى لا يزدادوا لجاجة في باطلهم، وربما دعاهم قيامه عنهم، إِلى تَرْك الاستهزاءِ لعدم جدواه. والمعنى: وإِذا رأيتَ - يا محمَّد الذين يندفعون بالباطل في آياتنا، فاتركهم وقْت اشتغالهم بباطلهم، حتى يدخلوا في حديثٍ غيره، ذلك حينئذ مجالستهم، وإِن أَنساك الشيطان تَرْكَ مجالستِهم، فلا تقعد - بعد تذكر النهي عنها - مع هؤُلاء القوم الظالمين، ولا مؤاخذة عليك بهذا النسيان ... والخطاب - وإن كان خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فحكمه عام لجميع المسلمين. رأى العلماء في نسيان الرسول يرى بعضُ العلماء: أن ما جاءَ في الآية، من نسيان الرسولِ الأَمرَ بترك مجالستهم - عندما يخوضون في آيات القرآن - إِنما هو على سبيل الفرض، إذ لم يقعْ منه نسيان لذلك كما أَنه ليس للشيطان عليه سبيل. ولهذا استعملت: "إن" الشرطية فهي لمجرد الفرض لما ليس محقق الوقوع. وذلك على حد قوله تعالى: { .. لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ .. } (¬1). ويرى بعض آخر من العلماء: أن الخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والمراد غيره من المؤْمنين. وقيل: لغيره ابتداءً. أي وإذا رأيتَ أيها السامع. ولكن جمهور العلماء على جواز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأَفعال. فقد جاءَ في الصحيح: "إِنمَّاَ أنَا بَشَرٌ: أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإذَا نَسِيتُ فَذَكَّرُونِى". ¬

_ (¬1) الزمر، من الآية: 65

جاءَ في الصحيح أَيضا: أن صحابيا اسمه ذو اليدين. قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أَن سلَّم من ركعتين في صلاة رباعية: "أَقَصُرَتِ الصَّلاة أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَم يَكُنْ. فقال ذو اليدين: بل بَعْضُ ذلك قَدْ كان. فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: أَحَقٌّ ما يَقُولُ ذُو اليَدَيْن؟ فَقَالُوا: نعَم. فَأَتمَّها أربعًا". ومع إجازتهم النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأَفعال، فقد أَجمعوا على استحالته عليه في الأقوال التي عليه تبليغها. وفي الموضوع تفصيلات مفيدة، يرجع إليها في المبسوطات. 69 - {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: ذكر بعض الفسرين - في سبب نزول هذه الآية - أَن المسلمين قالوا: لئن كان علينا أَن نخرج من الحرم كلما استهزأْوا بالقرآن، لم نستطع أَن نستقر في المسجد الحرام، ونطوف، فنزلت، والأخذ بهذا السبب، يقتضي نسخَ الأمر بالإعراض عن الخائضين، وتَرْكِ مجالستهم حين الخوض في الآيات، ويرخص في مجالستهم لحاجة المسلمين إلى العبادة في المسجد الحرام، الذي يجلس فيه الخائضون، ويوجب عليهم أَن يذكروهم حين يسمعونهم يخوضون. ورجح الإِمام القشيرى، عدم النسخ هذه الآية. وذهب إِلى أن معناها كما يلي: وما على الذين يتقون من حساب الخائضين شيء إِن أَعرضوا عنهم، ولكن عليهم - مع ترك مجالستهم - أن يُذَكِّروهم ويعظوهم. وهذا المعنى هو الذي نرتضيه تفسيرا للآية الكريمة. فإن سبب النزول المذكور، لم يرد بسند صحيح. وعلى هذا الرأى، يكون الإعراض عن مجالسة الخائضين واجبا. ويُضَمُّ إليه وجوب تذكير أولئك الخائضين قبل الانصراف عن مجلسهم.

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}. المفردات: {ذَرِ}: اتْرُك. {غَرَّتْهُمُ}: خَدعَتْهم. {تُبْسَلَ نَفْسٌ}: الإِبسال، المنع، ومنه أَسد باسل، لأَن فريسته لا تفلت منه. ومعنى {تُبْسَلَ نَفْسٌ}: تُمْنَع من النجاة. {وَإن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ}: تُفْدِ نَفسَها كلَّ فداء. {حَمِيمٍ}: ماء شديد الحرارة. وقد يطلق على الماء البارد. والمراد منه في الآية المعنى الأول. لقوله تعالى: { ... وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1). التفسير 70 - {وَذَرِ الَّذِين اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهوًا .. } الآية. كان المشركون حريصينَ على إِحباط دعوة الإِسلام. وقد جربوا كلَّ الوسائل ففشَلُوا، ¬

_ (¬1) سورة محمَّد، من الآية: 15

ومن وسائلهم ما مَرَّ قريبا. من أنهم عرضوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إِقصاءَ الفقراء عن مجلسه إِذا جلسوا إِليه واستمعوا منه ما يدعوهم إِليه. وكان هدفهم من ذلك: إيقاع الفرقة بينه وبينهم، وإيغار صدور المؤمنين من نبيهم. إِلى جانب احتقارهم. فنهاه الله عن إبعادهم وكرَّمهم، فاغتاظ المشركون، وجعلوا يخوضون في القرآن تكذيبًا واستهزاءً، يريدون بذلك صَرْفَ المسلمين عنه، فأَمرهم الله بالابتعاد عن مَجَالسِهم حتى يخوضوا في حديث غيره. ثم أَمر النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن سفههم، وألاَّ يبالِى بما يقولونه في شأْنه وشأْن ما أُنزل عليه، وأن يمضِىَ في إِبلاغهم دعوة ربه، ووعظِهم وتذكيرهِم. وفي ذلك يقول الله: {وَذَرِ الذينَ اتَّخَذُرا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا}: أَي: واترك - يا محمَّد - المشركين الذين جعلوا دينَهم شيئًا يشبه اللعب واللهو، حيث عبدوا الأَوثان وجعلوها آلهة، وأَباحوا أَكْلَ الميتة، وحرموا البحيرة والسوائب، وغيرَ ذلك من الأمور التي لا أَثر للجد فيها. وقيل: المراد بهذه الجملة؛ أَنهم اتخذوا الإِسلام - دينهم الذي كلفوا به - شيئا يشبه اللعب واللهو، حيث سخروا بكتابه العظيم. {وَغَرتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: وخدعتهم الدنيا بأباطيلها، فركنوا إِليها، وأنكروا البعث لقصور فهمهم، وضَعْف إِدراكهم. والمقصود من أَمره - صلى الله عليه وسلم - بتركهم: أَلا يبالى بأَباطيلهم. بل يمضى في تذكيرهم، كما تقدم. والدليل على ذلك، قوله تعالى، عقب هذه الجملة: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}: وحذِّر بالقرآن، أُولئك المشركين، من أَن تهلِكَ نفوسُهم بما كَسَبته من الكفر والمعاصي إِذ ليس لها - من غير الله - نصيرٌ أو شفيع، يدرأُ عنها العذاب.

{وَإن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ يُؤْخَذْ مِنْهَا}: العَدل هنا: بمعنى الفداء، والمعنى: وإِنْ تُفْدِ كلُّ نفس كافرةٌ ذاتها كل فداءٍ من عذاب يوم القيامة، لا يقبل منها. وقيل: العدْل هنا مقابل الظلم، أَي وإِن تعدلْ كلُّ نفس كافرةٌ في هذا اليوم، بأُن تتوب من الكُفر وتؤْمن بالله، لا يقبل منها؛ لأَن التوبة - في الآخرة - غير مقبولة فهي دار جزاءِ لا دار توبة وعمل. {أولَئِكَ الَّذِينَ أبْسِلوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكفُرُونَ}: أَي: أولئك الذينَ حُبِسوا للعذاب، وَمُنِعُوا من النجاة بسبب كفرهم ومعاصيهم، لهم في جهنم شرابٌ من ماءٍ شديد الحرارة، تتقطَّع منه أمعاؤهم، ولهم عذاب شديد الإيلام، بسبب استمرارهم وإِصرارهم على كفرهم. {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}. المفردات: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا}: ونرجع إلى الوراءِ بالعودة إلى الشرك. وسيأْتي لذلك مزيد بيان في الشرح. {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ}: ذهبت بهواه وعقله.

{يَدْعُونَه إِلَى الْهُدَى}: المراد بالهدى؛ الطريق الهادي إلى القصد. جُعِلَ نفس الهدى، للمبالغة. التفسير 71 - {قلْ أنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا. . .} الآية. سبب نزول هذه الآية: على كل ما رواه ابن جرير وغيره أَن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمَّد. وقيل: نزلت في أَبي بكر رضي الله عنه، حين دعاه ابنه عبد الرحمن - قبل أَن يعتنق الإِسلام - إِلى أَن يعود إِلى عبادة الأَصنام. وفي توجيه الأمر إِلى الرسول، تعظيم لشأْن المؤمنين، أو لشأْن أَبي بكر، حيث جعلت دعوتهم إلى الشرك، كأَنها موجهة إِلى الرسول. والذي نراه: أنه ثبت - بالقرآن والسنة - أَن الشركين، طلبوا من الرسول كثيرا: أَن يترك الدعوة لهذا الدين الحق، ويرجع إلى عبادة الأصنام، وأَغرَوْهُ بكافة المغريات فأبى. وقد أَمره الله في هذه الآية: أَن يقنطهم من استجابته إلى ما طلبوه منه، كما أَمره بذلك - في قوله تعالي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (¬1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1). وكما دعَوه إِلى الشرك، دَعَوُا المؤمنين إليه أَيضًا. قال تعالي: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيِلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ... } (¬2). والعنى: قل أَيها الرسول، للمشركين الذين يدعونك والمؤْمنين إِلى الشرك: أَنعبد من غير الله المتفرد بصفات الأُلوهية، ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه، ولا على ضرنا ¬

_ (¬1) سورة الكافرون. (¬2) العنكبوت، من الآية: 12

إِن تركناه ... ومن شأن الإِله الحق أَن ينفع ويضر فكيف يليق بنا أَن نعبد آلهة خالية من النفع والضر؟ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ}: الأَعقاب: جمع عقب وهو مؤخر الرِّجْل. والرجوع على الأَعقاب؛ هو الرجوع إلى الوراءِ؛ إِدبارا بغير رؤية موضع القدم. جُعِلَ هذا في الآية، مثَلًا للعودة إلى الشرك بعد الإِيمان، ففي كليهما ذهَابٌ بلا علم، وتعرضٌ للخطر. قال العلامة أبو السعود: "والتعبير عن الرجوع إِلى الشرك بالرد على الأَعقاب، لزيادة تقبيحه. بتصويره بصورة ما هو عَلَم في القبح" إِ هـ. ومعنى هذه الجملة مع ما قبلها: كيف يليق بنا أَن نعبد غير الله: ما لا ينفع ولا يضر وأَن نرتد - بإِغوائكم - إلى الشِّرْك بعد إِذ هدانا الله إِلى توحيده وطاعته. ونكونَ بذلك الارتداد: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا}: أَي: أَن مثلنا في الإعراض عن الهُدَى والتخبط في الضلال كمثل الذي ذهبت الشياطين بهواه وعقله: وأَضلته عن سواءِ السبيل الموصل إِلى المقصد السديد: فأَمسى حيرانَ: لا يدرى كيف ينجو من المهالك. ويصلُ إِلى غايته؟! له رفاقٌ لم يستجيبوا إلى استهواء الشياطين، بل ثبتوا على الطريق المستقيم الهادي إلى الخير، وجعلوا يدعونه إليه، يقولون له: ائتنا لتسلم من متاهات الأَرض التي ضللت فيها؟!. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: قل أَيها الرسول. لدعاة الضلال: إِن هدى الله - وهو الإِسلام - هو الطريق الهادي إلى السلامة في الدنيا والآخرة. وما عداه فهو الضلال المبين، وأُمرنا باتِّباع هداه، لنخضعَ بذلك، ونذعِنَ لرب العالمين.

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}. التفسير 72 - {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: وأمرنا بأن نقيم الصلاة ونؤديَها في أَوقاتها، مستوفيةً لأركانها وشروطها، وأن نتقِىَ الله ونخشاه: في أَمرنا كله. فلا نُقَصِّرُ في طاعة، ولا نُلِمُّ بمعصية، وهو الذي إِليه نُجمَع للحساب والجزاء. لا إلى غيره. فعلينا أن نمتثل أمْرَه، ونجتنب نهيه. 73 - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}: أي: وهو الذي خلق السموات والأرض - وما فيهما - خلقا مشتملا على الحكمة الرفيعة. ومنها أن يُعرَف بآياته فيهما فيُعْبَدَ ويُقْصدَ. ولم يخلقهما عبثا وباطلا، وقضاؤه المتصف بالحق والصواب - دائما - نافذ. حين يقول لشىء من الأَشياء عظم أَوْ هَانَ كُنْ وانْتَقِلْ إلى عالَمِ الوجود؛ فيكون ويوجد بأَمره فورا: وفْقَ تدبيره وإِرادته، وله - وحده - الملك يوم يُنْفَخُ في الصور، لبعث الخلائق وحشرها وحسابها وجزائها، حيث يقوم الناس لرب العالمين. هو عالم كل غائب وحاضر. وهو الحكيم الذي يصيب الحق فيما يفعله، الخبير بخفايا الأمور وظواهرها. واعلم أن الملك لله دائما في الدنيا والآخرة. ولكن الله أَعطى بعض عباده الملك ظاهرا، وصورة في الدنيا، ويوم القيامة لا يجدون لملكهم ظلا ولا أَثرا. فلهذا قال سبحانه:

{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ}: أي: له الملك يوم القيامة: ظاهرا وباطنا، صورة وحقيقة. فلا أثر لغيره فييه بأَى وجه من الوجوه. والصُّورُ: هوالقرن الذي يُنْفَخ فيه، وهو البوق، والله أَعلم بحقيقته. والنافخ فيه: إِسرافيل عليه السلام كما جاء في السنة. وقيل: إِن الصُّورَ جمع صورة. فإنها تجمع عَلى صُور بوزن بوق، كما تجمع على صُوَر بوزن عُمَر، وعِنَب. ويدل على ذلك قراءة قتادة {في الصُّوَر} بفتح الواو. والمراد منها: الإِيذان ... والنفخ فيها: إرسال الأرواح إليها، فتقوم لرب العالمين والله أَعلم. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}. التفسير 74 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ... } الآية. أَي: واذكر يا محمد، حين قال إبراهيم لأبيه آزر - منكرًا عبادةَ الأَصنام - أتتخذ أَنت وقومك، الأَصنام التي لا تضر ولا تنفع، آلهةً: تعبدونها من دون الله؟. وآزر: أَب وإبراهيم عليه السلام، كما هو ظاهر النص القرآنى. وكان آزر وقومه يعبدون الأصنامَ، وَالشمسَ، والقمر، والكواكب. {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: أَي: إن أَراك - وَقومك الذين يتبعونك في عبادتها - في ضلال عن الحق؛ ظاهر بين .. وفي هذا تبكيت وتقريع لهم على هذا المسلك الذي يتنافى مع ما يقتضيه العقل، السليم.، والفطرة الصحيحة.

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}. المفردات: {جَنَّ عَلَيْهِ الَّليْلُ}: سَترَه بظلامه. {أفَلَ}: غَرَبَ وغاب. {بَازِغًا}: مبتدئا في الطلوع والظهور. التفسير 75 - {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } الآية. أي: وكما عرَّفنا إبراهيم ضلال قومه واضحا، وأريناه الحق في مخالفتهم، نُعَرِّفهُ ونظهر له ملك السموات والأرض، ليستدل به على وحدانيتنا. {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}: أي: وليكون من جملة المصدقين جازما. إذ اليقين أَعلى مراتب الإيمان.

76 - {فلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لا أُحِبٌ الْآفِلِينَ}: بعد أَن بين القرآن - فيما سبق - يقين إبراهيم بوحدانيته تعالى بما عرفه من مظاهر القدرة والتدبير في ملكوت الله، شرع هنا يفضل كيفية استدلال إبراهيم عليه السلام، ببعض تلك الظواهر لقومه فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا}: أَي: فلما ستره الليل بظلامه، أَبصر كوكبا ظاهرا في السماءِ. {قَالَ هَذَا رَبِّى}: أَي: قال - مستعظما شأْن هذا الكوكب - هذا ربي ... مجاراة لقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، وتأليفا لقلوبهم، حتى بلغوا بقلوبهم إلى التأَمل في موضع الحجة في قوله: {فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لَاَ أُحِبُّ الْآفِلينَ}: أي: فلما غاب هذا الكوكب وأفَلَ قال: لا أحب الآفلين. أَي: لا أحب اتخاذَ الْآفلين أَربابًا، لأَن الرب الحقيقى، الجدير بالربوبية، يستحيل عليه التغير والانتقال من حال إلى حال، لأَن ذلك من شأْن الحوادث ... فلم ينتفعوا بهذا الاستدلال. فانتقل إلى الاستدلال التالى في قوله: 77 - {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنىِ رَبِّى لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}: أي: وحين أَبصر إِبراهيم القمر - مبتدئا في الطلوع والظهور - قال مستعظما شأْنه: {هَذَا رَبِّى} مجاراة لقومه، على نحو ما سبق في الآية قبلها. فلما أَفل وغاب - قال إبراهم

عليه السلام: إرشادًا لقومه إلى أن يطلبوا الهداية من الله تعالى لئن لم يُرشدْنى ربي إلى الحق ويُثبِّتْنى عليه - لأَكونن من جملة القوم الذين بعُدوا عن الصراط المستقيم. ولكن هذا الاستدلال أيضا، لم يثمر في عقولهم المستغلقة، فانتقل إلى استدلال آخر: 78 - {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}: أَي فحين أبصر ابرَاهيم عليه السلام الشمس، مبتدئة في الظهور والطلوع، قال مشيرا إلى الشمس: هذا الذي أبصره هو ربي - وهو أَكبر من الكوكب والقمر - قال ذلك ليشد انتباههم إِلى التأمل والنظر، في التفسيرات الكونية، حتى يصلوا منها إلى معرفة الإله الصانع القدير، المدبر الحكيم. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}: أي: وحين غابت الشمس وحُجبَت عن أَعينهم، قامت عليهم الحجة، لكنهم لم يؤمنوا بالإِله الخالق المدبر لشئون الكون - فأَعلن إبراهيم عليه السلام حينئذ، لقومه براءته من جميع معبوداتهم الحادثة المتغيرة، التي كانوا يشركونها مع الله في العبادة. ولما أَبطل - بالأدلة السابقة - ما كانوا يعبدون من دون الله، وأَعلن براءته منها، انتقل عليه السلام، إلى إعلان الإيمان الذي استقر في قلبه حقا ويقينا. فقال: 79 - {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: أَي: إني جعلت قصدى واتِّجاهى - بعد ظهور الحق - لعبادة الذي انشأَ السموات والأرض وما فيهمَا. {حَنِيفًا}: مائلا عن الاعتقادات الباطلة، إلى عقيدة التوحيد المؤيدة بالدلائل. {وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْركِينَ}: أى: ولست من من الذين أَشركوا مع الله بعض مخلوقاته في عبادته. وبذلك ثبت أن إبراهيم ليس مع قومه في عقيدتهم.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}. المفردات: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}: وجادله قومه. {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: أحاط علمه بكل شيءٍ. {سُلْطَانًا}: حجة. {يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: لم يخلطوه بشرك. التفسير 80 - {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ... } الآية.

بعد أَن أَلزمهم إِبراهيم عليه السلام الحجة على توحيد الله تعالى، وأَفحمهم بظهور الأَدلة لم يجدوا وسيلة إِلَّا المجادلة بالباطل. فقال تعالى حاكيًا عنهم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ}: أَي: جادلة قومه بالباطل في دينه، وهددوه بالأَصنام؛ أَن تصيبه بسوءٍ، إن هو ترك عبادتها. {قَالَ أَتُحَاجُّونَّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَانِ}: أَي: قال منكرا عليهم مجادلتهم - بعد وضوح الحق - أتجادلونني في وحدانية الله تعالى، وقد أَرشدنى سبحانه إلى توحيده، فأَصبحتْ حُجَّتُكُم باطلةً لا تُجدي شيئًا؟! {وَلَاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}: أَي: ولا أَخشى أَن يَنَالَنى سوءٌ من جهة آلهتكم الباطلة، التي أَشركتم بها مع الله. {إلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّى شَيْئًا}: أَي: لكن إِن شاءَ ربي وقوع شيء من المكروه لي، فإِنه يكون من فعله وحده - ولا دخل لما تشركون به في ذلك. {وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا}: أي: أَحاط ربَّى علما بكل شيءٍ. فلا يقع في ملكه إِلا ما شاءَه هو. وليست لآلهتكم مشيئة حتى أَخافَها. {أفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}: أَي: أَتُعرِضون عن التأَمل في أَن آلهتكم جماداتٌ، غيرُ قادرةٍ على شيءٍ ما، فلا تتذكرون أَنها عاجزة عن إلحاق ضرر بي؟!

89 - {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ... } الآية. أَي: وكيف أَخاف وقوع مكروه لي من جهة آلهتكم مع عجزها - وأنتم لا تخافون إشراككم بالله - أَصنامًا لم يُنزل الله عليكم بصدق ألوهيتها حجة وبرهانا؟! وبهذا تبين موقفى وموقفكم. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَي: فأَينا في موقف الأَمن من وقوع المكروه الذي تخوفوننا به؟! وفي هذا إلجاءٌ لهم إِلى الاعتراف باستحقاقه - عليه الصلاة والسلام - الأَمن والطمأْنينة دونهم. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَي: إِن كنتم تعلمون الحق من الباطل بالتأَمل والتعقل؟! 82 - {الذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ. . .} الآية. هذا جواب السؤال السابق في الآية قبلها. وهو تأْييد لسيدنا إِبراهيم عليه السلام، وتحقيقٌ لمدعاه. وبيانٌ واضح لمن يستحق الأَمن. وهم المؤمنون الذين أَخلصوا إِيمانهم من الشرك. {أُوَلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}: أَي: وحدهم. {وَهُم مُّهْتَدُونَ}: أَي: إِلى الطريق المستقيم دون من سواهم.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}. المفردات: {حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ}: أي أَدلَّتُنَا التي أرشدنا إِبراهيم إِليها. {حَكِيمٌ عَلِيمٌ}: بالغ الحكمة واسع العلم. {وَهَبْنَا}: أَنعمنا.

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ}: واختبرناهم. {لَحَبِطَ}: لَبَطُلَ. {وَالْحُكْمَ}: والقدرة على الفصل في الأُمور، على أساس من الحق والصواب. {اقْتَدِهْ}: أي؛ تَأَسَّ. التفسير 83 - {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ. . .) الآية. هذه إشارة إلى تلك الدلائل التي أَرشد الله إبراهيم، إلى الاحتجاج بها على وحدانية الله وإبطال شرك قومه، الذي كانوا عاكفين عليه وهي تبدأْ من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .}. وفي هذا، إِشادة بمكانة إبراهيم عليه السلام، وبالدلائل التي أرشده الله إِليها. وَيَتَأيَّدُ هذا بقوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ من نشَاءُ}: أَي: نُعْلِي منازلَ من نشاءُ رفع درجاته؛ بإِعطائه الحجة البالغة، والبرهان الواضح حسبما تقتضيه حكمتنا. كما هو شأْننا، فيما أَرشَدنَا إليه إبراهيم عليه السلام. {إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ}: أي: بالغ الحكمة في كل ما يقتضيه. {عَلِيمٌ}: أَي: واسع العلم بحال خلقه. فيعلم حال من شاءَ رفعه.

84 - {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا. . .} الآية. بعد أَن قام إِبراهيم بتبليغ من الله إِلى قومه بالحجة والبرهان، وتمت له الحجة عليهم شرع القرآن يعدِّد بعض نعم الله عليه وإحسانِه إِليه، حيث رفع ذريته، وأَبقى فيهم النُّبُوة إِلى يوم القيامة. فقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: أي: ومنَنَّا على إِبراهيم بابنه: {إِسْحَاقَ} {وَيَعْقُوبَ} بعد إِسحاق. {كُلاًّ هَدَيْنَا}: أي: هدينا وأَرشدنا كلاًّ منهما، للسير على طريقة إِبراهيم. {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ}: أَي: وهدينا نوحا - النبي السابق على إِبراهيم - إِلى التوحيد والدعوة إِليه. وفي ذكر نوح عليه السلام. في سياق تعداد النعم على إِبراهيم - إِشارة إِلى أَن شرف الآباءِ، نعمةٌ على الأَبناءِ. كما أَن هداية الأَبناءِ نعمة على الآباءِ. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: أَي: كما جزيناهم وأَحْسَنَّا إِليهم بأَنواع الكرامات، نَجْزى كلَّ محسِن. 85 - {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}: أَي: وكذلك هدينا: زكريا، ويحيى، وعيسى، وإِلياسَ. كلُّ واحد مِن هؤلاءِ الأَنبياءِ، بعد تقرير هدايته من جملة الصالحين المستقيمين. 86 - {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}: أَي: وهدينا: إِسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، عليهم السلام. وفضَّلنا كلَّ واحد من هؤلاءِ بالنبوة على سائر العالمين في عصره. وهؤلاءِ الذين ذُكِروا في الآيات من أَول قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا. . .} هم من الأَنبياءِ الذين يجب الإِيمان بهم تفصيلا.

وهناك سبعة آخرون، يجب إلإِيمان بهم تفصيلا. وقد ذكروا في مواضع أخرى من القرآن الكريم، وقد جمعوا في قول بعضهم نظما: إِدريس، هود، شعيب، صالح وكذا ... ذو الكفل، آدم، بالمختار، قد خُتِمُوا 87 - {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. أَي: وهدينا - من آبائهم وذرياتهم وإِخوانهم - جماعات كثيرة، {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أَي: واخترناهم ودامت هدايتنا لهم إلى الدين الحق، دين التوحيد والاستقامة. 88 - {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. . .} الآية. أَي ذلك الدين الذي أَوحاه الله إِليهم، ووفقهم للإِيمان به، ودعوة الناس إليه، إنما هو هدى الله: يُرشِد إِليه من يشاءُ: هدايته من عباده. {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي: ولو حصل منهما الإِشراك فرضا - وحاشاهم - لبطُلَ وذهب عنهم الذي كانوا يعلمونه من الطاعات. وفي هذا تنويه بشأْن الدين الذي جاءَ به هؤلاءِ الأَنبياءُ جميعًا. وضرورة التمسك به. 89 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. . .} الآية. أولئك: أَي هؤلاءِ الأَنبياءُ المذكورون - باعتبار اتصافهم بالهداية وغيرها من الصفات السابقة - هم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}: أي: أَنزلنا الكتاب على بعضهم. وأمرنا البعض بدعوة الناس إلى التمسك والعمل بما نزل على غيره من الأَنبياءِ.

{وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}: أَي: أَقدرناهم على الفصل بين الناس على ما يقتضيه الحق. وأَعطيناهم النبوة والرسالة. {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}: الإِشارة في: {هَؤُلَاءِ} لأَهل مكة وسائر مَنْ كفر بعد تبليغه. أَي: فإِن يكفر - بهذه الأُمور المذكورة - هؤلاءِ الكفار وغيرهم، فإِنَّنَا قد أَعددنا ووفَّقنا - للإِيمان بها، والقيام بحقوتها - قومًا لم يكفروا بها في وقت من الأَوقات، بل استمروا على الإِيمان بها. 90 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. . .} الآية. جملة {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ... } صفة لما قبلهَا: { ... قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. والمعنى: هم أولئك الأَنبياءُ الذين وفقهم الله تعالى، إِلى منهج الحق، والخير، فاقْتَدِ بهم يا محمد، وسِرْ على طريقتهم: من التوحيد وأصول الدين؛ لأَن دعوة الأَنبياء في أُصولها واحدة. وبعد أَن أَمره بالسير على طريقة الأَنبياءِ السابقين، أَمره بأَن يقول لأُمته: إِنه لا يثقلهم بطلب الأجر على دعوته إياهم إلى طريق الخير في قوله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}: أي: قل يا محمد، لأُمتك: لا أَطلب. منكم أَجرا على تبليغكم الدعوة، وإرشادكم إلى ما أمر الله به. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}: أَي: ما القرآن، إلا عظةٌ وإرشاد للثَّقَلينِ: الإِنس والجن. فتبليغهم إياه - بدون سؤاله إِياهم أجرا - حَقٌّ لهم ...

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوأَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}. المفردات: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: وما عظَّموه حق تعظيمه.

{قَرَاطِيسَ}: أوراقا مفرقة. {فَى خَوْضِهِمْ}: في باطلهم. {يَلْعَبُونَ}: يَلْهَون. {أُمَّ الْقُرَى}: مكَّة. والمراد: أَهلها. {غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}: سكرات الموت وشدائده. {خَوَّلْنَاكُمْ}: أَعطيناكم. {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}: أَي في الدنيا. {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}: تَشَتَّتَ جَمْعُكم. التفسير 91 - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... } الآية. بعد أَن بين الله سبحانه وتعالى أَن القرآن نعمة عظيمة، ينتفع بها جميع الناس، لما فِيه من الرشد والهداية، أَتبع ذلك، ببيان جحود الكفار - وخاصة اليهود - لتلك النعمة فقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أَي ما عرفوا الله حَقَّ معرفته، حتى لا ينكروا إنعامه عليهم: بإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب. {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ}: أَي حين قالوا ذلك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقد خاصموه في القرآن. مبالغين بغير حق - في إِنكار إِنزال القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَلزمهم الله بما لا سبيل إِلى إِنكاره أَصلا. فقال لهم: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}: أَي قل لهم يا محمد، رَدًّا عليهم: مَن الذي أَنزل التوراة على موسى؟

وإِنما اختار لإِلزامهم إنزال التوراة عام موسى، لأَنه معترف به ومسلم عندهم، بدون جدال. {نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}: أي أَنزلنا التوراة، واضحة في نفسها، مرشدة للناس إِلى الطريق المستقيم. {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}: أَي - ومع وضوحه وظهور دلالته - تكتبونه في أَوراق مفرقة؛ ليسهل عليكم إظهار ما تريدون اطلاع الناس عليه، وإِخفاءُ الكثير من أَحكامه وشرائعه، مما لا تحبون معرفة الناس له، إِرضاءً لشهواتكم. {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}: أَي: وعلمكم الله - على لسان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - زيادة على ما في التوراة. بيانًا لما التبس فَهْمُهُ عليكم وعلى آبائكم، الذين كانوا أَعلَم منكم. ومصداق هذا قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬1). {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}: أَمر الله نبيه - عليه السلام - أَن يجيب بجواب لا جواب سواه، عن الذي أَنزل الكتاب على موسى ... إِنما أَنزله الله تعالى. ثم أَمره - بعد هذا الجواب - أَن يهملهم ويتركهم وخوضهم في باطلهم، حيث لم تنفع معهم الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة. 92 - {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ... } الآية. أَي: هذا القرآن: كَتاب الله المشتمل على ما ينفع الناس، منزلٌ من الله تعالى على محمَّد، عظيمُ النفع، كثيرُ الفوائد، موافقٌ للكتب التي سبقته في التوحيد، وفي تنزيه الله، وفي أُصول العقائد، ليكون وسيلةَ إِنذار لأَهل مكة، وسائر الناس. ¬

_ (¬1) النمل، آية: 76

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}: أي: والذين يصدقون بالآخرة تصديقا يُعْتدُّ به، ويرجون لقاء الله، هم الذين يصدقون بالقرآن وينتفعون به. فيحملهم ذلك على الحافظة على صَلَاتهم، وعلى سائر ما أَمرهم الله به من التكاليف. وتخصيص الصلاة بالذكر، لأَنها عِمادُ الدين. 93 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا ... } الآية. بعد أَن بين الله الفريق الذي اهتدى، وآمن، وأَدى التكاليف - بيَّن - سبحانه - في هذه الآية، الفريق الذي افترى على الله الكذب. والمعنى: لا أَحدٌ أَشدَّ ظلما، ممن افترى على الله كذبا، ادعاءً للنبوة، كمسيلمة الكذَّاب وأَمثاله. {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: أَو ادَّعى نزول الوحى عليه. ولم ينزل عليه شيء. أو ادَّعى - باطلا - القدرةَ على إنزال مثل ما أنزل الله على محمد من القرآن. وهيهات أن يتم له ذلك. فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1). {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}: بعد أن بيَّنت الآية حالهم الباطل في الدنيا، انتقلت إِلى بيان حالهم - عند قرب انتقالهم من الدنيا، وما يعقب ذلك من أهوال وشدائد. ¬

_ (¬1) الإسراء، الآية: 88

والمعنى: ولو ترى يا محمد، وقت حلول شدائد الموت وأهواله بهؤلاءِ الظالمين، ورسل الموت المكلفون بقبض أَرواحهم تمتد أيديهم مبسوطة إليهم: أَن ينزعوا أَرواحهم من أجسادهم ويلقوها في أَيدى الملائكة. قائلة لهم - إِيلاما وتهكما - انزعوا أَرواحكم من أجسادكم، لأَنكم اليوم تُجْزَوْن عذاب الهُون، بسبب تقوُّلِكم على الله غير الحق، واستكبارِكم عن الانقياد لآياته. والإيمان باللهِ وحده!!! أَي: لو ترى يا محمد ذلك - لرأيت أمرًا شديدا، تقصر العبارة عن وصفه!!! 94 - {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ ... } الآية. أَي: ويقول الله لهم، إذا بُعثوا: لقد جئتمونا منفردين عن الأَهل والمال والولد والسلطان - كما أوجدناكم - في أَوَّل حياتكم الأُولى - بدون مال ولا متاع ولا ولد. {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ}: أي: وتركتم ما أعطيناكم من النعم في الدنيا، ولم تحملوا منها - معكم - شيئًا. {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ}: أي: ويقال لهم توبيخا؛ وفَقدتم أَنصاركم، فما نرى منهم أحدا معكم. وقد كنتم تزعمون أنهم - في استحقاق عبادتكم لهم - شركاءُ لله. {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}: أي: لقد انفصمت الروابط بينكم، وتَشتَّتَ جَمْعُكم. {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}: أَي: ذهب وضاع منكم الذي كنتم تزعمونه في الدنيا، من أَنهم شفعاء لكم عند الله، ومن أَنه لا بَعْثَ. ولا جزاءَ، ولا حساب.

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}. المفردات: {فَالِقُ}: الفَلْق؛ الشَّق. {النَّوَى}: ما في داخل الثمرة؛ تمرا أَو غيره. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}: يخرج النبات الحيَّ من التربة الميتة، والزرعَ من الحبّ، والشجرَ من النوى.

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: كيف يُصْرَفون عن عبادته! {الْإِصْبَاحِ}: الصبح والضياء. {سَكَنًا}: يُسْكَن فيه من تعب النهار. {حُسْبَانًا}: يُحسَبُ بهما الأَوقات. {ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: ظلمات الليل في البر والبحر. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}: فلكم مكانُ استقرار في الأَصلاب، واستيداع في الأَرحام. أَو العكس. {يَفْقَهُونَ}: يفهمون. {خَضِرًا}: أَخضر. {مُتَرَاكِبًا}: رُكِّب بعض مه فَوق بعض. {قِنْوَانٌ}: الْقِنْوُ، ما يحمل من التمر وهو كالعنقود للعنب. {وَيَنْعِهِ}: ونُضْجِه. التفسير 95 - {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ... } الآية. هذا شروع في بيان قُدْرَةِ الله تعالى العجيبة: الدالة على كمال علمه ودقة تدبيره، ولطيف صنعه وحكمته. جاءَ بعد تقرير أَدلة التوحيد، ونفى الشركاء والشفعاء؛ فقال تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}: يخبر الله تعالى عباده: أَنه يَشُقُّ الحَبَّ والنَّوى في التراب، فتنبت الزروع، على اختلاف أَصنافها، من الحبوب، والثمار على تنوع أَشكالها وأَلوانها وطعومها، من النوى.

{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}: هذا تفسير لما تقدم، فهو يخرج النبات الحى مما يمتصه من عناصر التربة الأرضية الميتة، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} (¬1). {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ}: فهو يخرج الخلايا الميتة من النبات والحيوان. كما يخرج الأَظافر والشعر وبقايا الغذاءِ من الخلايا الحية من الإِنسان والحيوان، وحينما يموت النبات والحيوان والإِنسان تتحلل أَجسامها جميعا فتعود إِلى العناصر الترابية التي كانت قد تكونت منها. وهى بضعة عشر عنصرًا. على اختلاف في النسب بين الحيوان والنبات. {ذَلِكُمُ اللَّهُ}: أَي: صاحب هذه الأَفعال العجيبة، هو الله ذو القدرة العجيبة، المستحق للعبادة دون سواه. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: أَي: فكيف تصرَفون عن الحق، وتعدلون عنه إِلى الباطل. فتعبدون - مع الله - إلها آخر. 96 - {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ... } الآية. أَي: هو خالق الضياءِ، الذي يشق ظلام الليل عن غرة الصباح، فيضىء الوجود، ويستنير الأُفق عن حكمةٍ وسعةِ رحمةٍ. فكلٌّ لنا به حاجة وذلك دليل القدرة التامة، حيث أَوجد الأَشياءَ المتضادة لحاجة حياتنا إِليها. مما يدل على حكمته، وكمال عظمته، وعظيم سلطانه. {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}: أَي: يسكن فيه الإِنسان والحيوان، ليستريح من عناءِ العمل في النهار. ¬

_ (¬1) سورة يس، الآيتان: 33، 34.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا}: أَي: وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر: لا يتغير، ولا يتبدل، وبهما تُحْسَبُ الأَوقات، التي تؤَدَّى فيها العباداتُ والمعاملات. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}: أَي: ذلك الذي تقدم من ظهور الإِصباح. وجعْل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا - جارٍ وحاصلٌ، بتقدير العزيز الذي أَحسن كل شيء خلقه، وأَبدع تصويره. {الْعَلِيمِ}: الذي وسع علمه كما شيءٍ. فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأَرض ولا في السماءِ. وقد وردت هذه الخاتمَةُ كثيرا في القرآن. بعد ذكر خلق الليل والنهار والشمس والقمر مما يدل - دلالةً واضحة - على أَن هذه الكائنات من أَقوى الأَدلة على سعة الله، وعظيم تدبيره. 97 - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... } الآية. أي: وهو الذي أوجد النجوم: لهدايتكم في ظلمات الليل في البر والبحر. وفي ذلك بيان لبعض آثارها الكونية. ومن آثارها النافعة: ما ذكر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ ... } (¬1) الآية. ولا يزال العلم يبحث عن أَسرارها فيكشف جوانب من آياته - تعالى - في هذه الأَجرام. أَما مَنْ يحاولون كشْفَ أَستار الغيب عن طريق هذه النجوم، فهم مخطئون مخالفون لتعاليم الإِسلام. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: أَي: قد بَيَّنَّاهَا ووضحناها لقومٍ يعلمون معانِيهَا، ويعملون بموجبها، لِيُتَّبَع الحق، ويجتنب الباطل. ¬

_ (¬1) سورة الملك، من الآية: 5

98 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... } الآية. وهذا تذكيرٌ بنعمة الإيجاد من العدم. أَي: وهو الذي أَوجدكم من نفس واحدة؛ هي آدم عليه السلام. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}: أَي: فلكم استقرارٌ في الأَصلاب. أَو فوق الأَرض. واستيداع في الاَّرحام، أَو في القبر. أو: الاستقرارُ؛ في الأَرحام، والاستيداعُ؛ في الأَصلاب. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}: أي قد بيَّناها لمن يفهمون ويَعُون كلام الله وما احتواه من المعاني. وختمت الآية الأُولى، بقوله: {يَعْلَمُونَ} والثانية بقوله: {يَفْقَهُونَ} لأَن الإِنشاء من نفس واحدة، أَلطف وأَدقّ تدبيرًا وصنعةً، فكان ذكر الفقه - الذي هو استعمال الفطنة، وتدقيق النظر - مناسبا له. ذكر مع النجوم العلم، لأَن النظر في أَحوالها: لا يحتاج إلاَّ إِلى العلم. ولَفْت الذهن إِليها. 99 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ... } الآية. هذا تذكير بنعمة أُخرى من نعمه الجليلة، الدالة على كمال قدرته. والمراد من الماء: المطر. ومن السماء: السحاب. والماءُ ينزل بقدر: رزقًا للعباد، ورحمةً من الله بخلقه. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}: أَي فأَخرجنا بسبب هذا الماءِ كلَّ صنف من أَصناف النبات المختلفة، التي ينتفع بها الإِنسان والحيوان: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة عبس، الآيات: 24 - 32

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا}: هذا شروع في تفصيل ما أَجمله، من إِخراج النبات. أَي: فأَخرجنا - من النبات - شيئًا غضًّا أَخضر، وهو ما تشعب من أَصل النبات الخارج من الحبة. {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا}: أَي: نخرج من ذلك النبات الأَخضر، حبا رُكِّب بعضه فوق بعض، كما في السنبل من القمح والشعير. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ}: وهذا تفصيل حال الشجر بعد النبات. أَي: ومِن طلع النحل، قنوانٌ يحمل ثمرها، ويكون في متناول الأَيدى. وهو الدانى القريب، أَو في غير متناول الأَيدى. وهو البعيد .. ونَبَّهَ على الأُولى، لزيادة النعمة فيها. والقِنْوَان. مما يستوى فيه المفرد والمثنى والجمع. مثل: صِنْو، وصِنْوَان. {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ}. أَي: ونخرج منه جناتٍ من أَعناب. وهذان النوعان هما أَشرف الثمار عند أَهل الحجاز. وربما كانا خيار الثمار في الدنيا. وقد امتن الله بهما على عباده، فقال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬1) وكان ذلك قبل تحريم الخمر. وقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} (¬2). {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}: أَي: وأَخرجنا الزيتون والرُّمان مشتبهًا في الورق، فهو قريب الشكل بعضه من بعض. وغير متشابه في الثمار: شكلا وطعما وطبعا. مما يدل على كمال قدرة خالقها، وحكمة مبدعها. جلَّ جلاله. ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 77 (¬2) سورة يس، من الآية: 34

{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ}: أي: انظروا نظَرَ اعتبار وَتبَصُّرٍ - إلى ثمر الزَّيتون والرُّمان، إِذا أَخرج ثمره: كيف يخرجه صغيرا ضئيلا، لا يكاد ينتفع به، وإلى حال نضجه، حيث يصبح ذا نفع عظيم ولذة كاملة. {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ}: إنَّ فيما أُمرتم بالنظر إليه لَدَلائلَ كثيرةً عظيمة، على وجود القادر العظيم، وحكمه ووحدته. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: لِقَوم يصدقون به، ويتبعون رسله. وخَصَّ المؤْمنين بالذكر؛ لأَنهم هم الذين انتفعوا بذلك، دون غيرهم. ووجه دلالة ذلك على وجود إله حكيم قادر واحد: أَنَّ حدوثَ هذه الأصناف المختلفة المتشعبة من أصل واحد، وانتقالها من حال إِلى حال على نمط بديع - لا بد أَن يكون بأحداث صَنَعهَا صانع حكيم، يعلم تفاصيلها. {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)}. المفردات: {الْجِنَّ}: المراد بهم؛ الشياطين. أو ما يعمهم والملائكة. {وَخَرَقُوا}: أَي اختلقوا، وافتَرَوْا.

التفسير 100 - {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ... } الآية. بعد ما تقدم من النعم الجليلة، التي أَبدعها الله عز وجل - وهي دالة على توحيده - وَبَّخ مَنْ أَشرك به سبحانه، وعَبَد غيرَه، ورَدَّ عليه بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}: أَي: وَصَيَّرُوا الجن شركاءَ لله، حيث اعتقدوا ذلك. وقالوا: إن الملائكة بنات الله. وتسميتهم جنا، لاجتنانهم واستتارهم عن الأَعين. أَو المراد بهم: الشياطين، حيث أَطاعوهم كما يطاع الله تعالى. وعَبدوا الأَصنام وغيرهم: بوسوستهم وتحريضهم. انظرْ التي قول الملائكة يوم القيامة: { ... سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (¬1). {وَخَلَقَهُمْ}: أَي: اتخذوا له سبحانه، شركاءَ، وقد خلقهم وحده. فلا يصح أَن يُعْبَدَ سواه. {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: أي: واختلقوا وافْتَروْا لله سبحانه، بنين ربناتٍ، بغير علم بحقيقة ما يقولون. ولكن جَهْلًا بالله وبعظمته إذ لا ينبغى - ما دام إلهًا - أَن يكون له بنون وبنات، أَو صاحبة، أَو أَن يشاركه أَحدٌ في خلقه. وفي هذا تنبيه على ضلال من ضل، بادعاءِ أَن له ولدًا، كما يزعم اليهود، حيث قالوا: عزير ابن الله. وكما قال النصارى: المسيح ابن الله. وكما زعم المشركون من العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. ¬

_ (¬1) سبأ، من الآية: 41

{سُبْحَانَة وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}: أَي: تَقَدَّسَ وتنزَّه وتعاظم الله عز وجل، عما يصفه به الجهلة الضالون، من نسبة الأَولاد والأَنداد والشركاءِ إليه. تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. المفردات: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: منشئهما ابتداءً، من غير مثال سبق. وهو صيغة مبالغة. من بَدَعَهُ؛ بمعنى: اخترعه. {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ}: من أَين يكون له ولد. أَو كيف يكون له ولد؟ {صَاحِبَةٌ}: زوجة. {وَكِيلٌ}: تستعمل هذه الكلمة بمعنى: حفيظ، وبمعنى: مَنْ يُوكَلُ إِليه الأَمْر، ومن يتولاه .. وكلٌّ تصح إِرادته هنا. {لَا تُدْرِكُهُ الْأِبْصَارُ}: إِدراك الشىء؛ الوصول إِليه، والإِحاطة به. {الْأَبْصَارُ}: جمع بصر. وهو حاسَّة النظر. وقد يطلق على العين، لأَنها محلٌّ النظر والإِبصار.

{اللَّطِيفُ}: العليُم بدقائق الأُمور وخوافيها. وقد يراد منه: المحسن. وهو المناسب هنا لإِفادته معنى جديدا. أَما المعنى الأَول فهو داخلٌ في عموم معنى الخبير. إِذ معناه: العليم بالظواهر والخوافى. التفسير 101 - {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ... } الآية. المعنى: الله مبدع {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، بلا مثال يحتذيه ولا شريك يُعينه، فكيف يكون له ولد - كما يزعمون - ولم تكن له زوجةٌ تصاحبه يأْتي منها الولد؟! وخلق كل شيء ومن الموجودات، حتى ما زعموه ولدا، والمخلوق لا يكون ولدا - وهو بكل شيء عليم. ومن كذلك، فإِنه يعلم ما افْتَرَوْه عام الله إن البنُوَّة وسوف يُجْزَوْنَ على افترائهم أسْوَأَ الجزاء. وفي الآية دليل على نَفْىِ الولد عن الله تعالى، من وجوه: أَحدها: أن من مبدعاته: السمواتِ وَالأَرضَ. وعَن كان كذلك، لا يصح أَن يكون له ولد. لأَن ما ادعوْه ولدا، لا يقدر على مثل ذلك. ومِنْ شأْن الولد. أن يكون قادرا على مثل ما يقدر عليه أَبوه. ثانيها: أَن مِنْ شأْن الولدِ أَن يتولَّد من ذكر وأُنثى متجانسين. والله تعالى، منزه عن المجانسة والشابهة، فلهذا، لا تكون له زوجة يأْتي منها الولد. ثالثها: أَن الولد الذي ادعوه، مخلوقٌ لله تعالى. فقد خلق - سبحانه - كلَّ شيءٍ وهو من جملته. والمخلوق لا يكون ولدًا للخالق، ولا يسمى به بل يسمى مخلوقا. رابعها: أَن الولد يشبه أَباه، والله بكل شيء عليم. في حين أَن ما ادَّعوه ولدا، ليس كذلك. فلا يصلح أَن يكون ولدًا لله. لأَنه فقد صفته، وهي العلم بكل شيء.

102 - {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: أَي: ذلكم الموصوف بهذه الصفات الجليلة. هو الله المستحق وحده للعبادة. {رَبُّكُمْ}: أَي: مالك أُموركم دون غيره، {لَا إلَهَ إلاَّ هُوَ}: أي: لا معبود - بحق - سواه. {خَالِقُ كل شَىْءٍ}: أي: ما كان منه وما سيكون. فلا يصلح - سواه - أن يكون ولدا له، يُعبدُ معه. ويقدس تقديسه، لعدم مشابهته له تعالى، في تلك الصفات. فإن مِنْ شأن الولد أن يشبه أباه في صفاته. وإِذا كان الأَمر كذلك. فاعبدوا الله وحده - غير مشركين به، ولا متخذين له ولدا. والله - مع كل هذه الصفات الجليلة - وكيل، أَي متولٍّ أُمورَ خلقه، قوامٌ عليها. يحفظها من الخلل بعد أَن منحها أَسباب الوجود. فلا يصلح غيره أن يُعبدَ معه، أَو أن يكون له ولد. 103 - {لَا تُدْركُهُ الْأبصَارُ وَهُوَ يَدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير}: إدراك الشىء: الوصول إِليه والإحَاطة به. ولهذا يقول سعيد بن المسيب في معنى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}: لا تَصل إليه الْأَبْصارٌ ولا تحيط به. ومعنى الآية مجتمعة: لا تَصِل إلى الله الأَبصارُ ولا تحيط به. والله هو الذي يحيط بالأَبصار، ويعلم دقائقها وخفاياها. وهو الرفيق بعباده، المحسن إليهم، العليم بظواهر الأُمور وخوافيها. وقد استدل المعتزلة بالآية الكريمة، على امتناع رؤية البشر لله تعالى. ولا حجة لهم فيها.

إذ ليس الإِدراك مطلقَ الرؤْية، حتى يكون نفيه نفيا لها، بل هو رؤْيةٌ مع شمول وإحاطة. وذلك هو المنفي، فلا مانع من الرؤية لله - دون إحاطة وشمول - مع نفي الكيف عنها، فإن الرؤية غير منفية، إِذ نفى الخاص، ليس نفيًا للعام. ولا مانع من أَن يخلق الله في البصر قوة غير عادية، يمكن بها رؤية البارئ سبحانه وتعالى، بدون مستلزمات رؤْية الحوادث. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ: لا تضامُون في رُؤيَتِه ... " (¬1) الحديث. {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}. المفردات: {بَصَائِرُ}: جمع بصيرة، وهي: النور الذي تبصر به النفس والقلب. أما البصر: فهو نور العين. وأُطلقت البصائر على آيات القرآن، تشبيها لها بها، في إظهار الحق. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري وغير.

{نُصَرِّفُ الْآيَاتِ}: نبيِّنها، أو ننقلها من نوع إلى نوع. مأْخوذ من الصرف، وهو: نقل الشىء من حال إِلى حال. {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}: اللام في {لِيَقُولُوا} لام الأَمر. وقد كسرت. وتؤيده قراءة أُخرى بإِسكانها. {دَرَسْتَ}: تَعَلَّمْتَ. {حَفِيظًا}: حارسا. من حَفِظَهُ بمعنى: حرَسَه. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}: أَي: لست وكيلا في أَمر جَزَائهم. فدعهم إلى الله. التفسير 104 - {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} الآية. قد جاءَكم أَنوارٌ لقلوبكم من مالك أمركم ومربيكم. وتنبعث هذه الأَنوار من آيات القرآن الذي أَنزله إِليكم. فَمَنْ رأَى الحق ببصيرته في ضوئها، فاهتدى إليه، وآمن به - فنَفْع ذلك راجع لنفسه، عائد عليها. إذ أَنه - بذلك - ينجو من العقاب، وينعم في جنات النعيم. ومَنْ تعامى عن الحق يحاول أَن يبصره في ضوئها - فضلّ وكفر - فضرر ذلك عائد على نفسه، راجع إليها. إِذ أَنه سيعاقَب بالخلود في النار. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}: أَي: يحفظكم من الضلال، ويمنعكم من الغواية. فلم يكلفنى الله بذلك. وإِنما كلفنى بالتبليغ والإِنذار. وقد فعلت. 105 - {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: ومثل ذلك التبيين والتنويع. نبيّن وننوع الآياتِ القرآنيةَ الكاشفة عن الحق لنلزم المعارضين الحجة. ولا عليك يا محمَّد، أن يفتروا الكذب، ويقولوا: دَرَسْتَ كُتُبَ أهل الكتاب وأَنشأْتَ منها هذا القرآن. ولكى نبينه لقوم يتصفون بالعم والفهم - نُصَرِّف آياتِهِ فينتفعوا بهداه، ويؤمنوا برسوله، دون جدال بالباطل.

وجملة: {وَليَقُولُوا دَرَسْتَ}: جملة طلبية كما بَيَّناه في المفردات. وقد جاءَت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، للمسارعة إِلى تسلية النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن معارضتهم. فإِن المراد منها: أَلَّا يَعْتَدَّ بما يقولون من الأَكاذيب. فقد زعموا: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم -، درس على أَهل الكتاب، وتَعلَّمَ منهم، وأَلَّف القرآن، وفقًا لما أَخذه عنهم. مع أَن مكة خالية من أَهل الكتاب، ولم يَلْقَ - صلى الله عليه وسلم - أَحدا منهم فيها، ولا في غيرها، كما أَنه عليه السلام أُمِّىٌّ. والقرآن فوق طاقة البشر جميعًا. ومنهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فبذلك تكون دعواهم ظاهرد البطلان، ولا تستحق أَن يبالى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. {وَلنَبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1): والمعنى ولنبيّن أَنه قرآن من عند الله لمن يعلَمون ذلك حقَ العلم من أَهل الكتاب - لنلزمهم الحجة، ولعلهم يرشدون. 106 - {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}: اتبع ما يوحى إِليك من ربك، اعتقادًا وقولًا وعملًا. وأَعرض عن أَقوال المشركين. ولا تبالِ بِافترائهم وتكذيبهم. وامضِ في تبليغهم ما أَوحيناه إِليك. 107 - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}: ولوأراد الله عدم إِشراكهم ما أَشركوا، بأَن يحملهم على الهدى، ويلجئهم إلى الإِيمان ولكنه تركهم لا يدور عليه أَمر التكليف وهو الاختيار. ولمّا تركهم لاختيارهم، لم يحسنوا الانتفاع بآياته، فتخلى عن معونتهم. {وَمَا جَعَلْنَاكَ}: يا محمد {عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}: قَيِّمًا وحارسًا، يحفظهم من الشرك، حتى تؤاخذ بشركهم. ¬

_ (¬1) هذه الجملة معطوفة علي مقدر. أي نصرف الآيات لنلزمهم الحجة، (ولنبينه لقوم يعلمون) وجملة (وليقولوا درست) معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}: أي: عنَّا في أَمر جزائهم فدع أمرهم لنا. فنحن أَعلم. بأَعمالهم وأقدر على جزائهم. ولا تشغل نفسكَ بغير تبليغهم. { .. إِنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلَاغُ .. } (¬1). {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}. المفردات: {ولَا تَسُبُّوا}: السَّب، الشَّتم. {عَدْوًا}: اعتداءً وتَجاوُزا للحق. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أي بقدر جهدهم وطاقتهم في أَيمانهم. {وَنُقَلِّبُ أَفْئدَتَهُمْ}: ونُحَوِّلُ قلوبَهُم. {يَعْمَهُونَ}: يَتَحَيَّرُونَ. التفسير 108 - {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... } الآية. ¬

_ (¬1) الشورى، من الآية: 48

سبب نزول هذه الآية الكريمة: أَن المسلمين كانوا يَسُبُّون آلهةَ الشركين، ويذكرون قبائحها. فنهوا عن ذلك؛ لئلا يستتبع سبهم لها، أَن يفعل المشركون مثله. في حق الله تعالى. وقال ابن عباس: قالت قريش لأبي طالب: إِما أَن تَنْهَى محمدا وأصحابه عن سَبِّ آلهتنا والغض منها، وإما أَن نسُبَّ إلهه ونَهْجُوَهُ. فنزلت الآية. والخطاب في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا} للمؤمنين. والمعنى: ولا تسبوا الآلهة الذين يعبدهم المشركون من دون الله، فيسبَّ المشركون الله تعالى: اعتداءً وتجاوزا للحق، بغير علم منهم بما يجب له سبحانه - من التعظيم والإجلال. والتعبير عن الأصنام بكلمة: {الَّذِينَ} مع أنها لا تعقل، مجاراة لأُسلوب متعقديها (¬1). وحكم هذه الآية باق. فمتى كان الكفر في مَنَعَة، وخِيفَ أَن يسبَّ الإِسلام - أو النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو الله عز وجل - فلا يحل لمسلم أَن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم. أو يتعرض إلى ما يؤدى إلى ذلك. لأَنه بمنزلة البعْث على المعصية. وفي الآية دليل على وجوب سدّ الذرائع. إِهـ من القرطبى. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}: ومثلما زينا لهؤلاءِ عملهم القبيح، زينَّا لكل أُمَّة عملهم من الخير والشر. قال ابن عباس: زينا لأَهل الطاعة الطاعة، ولأَهل الكفر الكفر. والمراد من تزيين الله الأعمال لكل أُمة: أَن يخلق الأَسباب التي تجعل أَعمالهم محببة إلى نفوسهم. فيتقبل كل منهم - باختياره - على ما يوافق ميله وهواه: من طاعة أَو معصية. ولذا نسب العمل إليهم في قوله سبحانه. ¬

_ (¬1) ومن المفسرين من قدر مضافا، مراعاة لأن كلمة (الذين) لا تستعمل - غالبا - إلا في العقلاء. أي ولا تسبوا آلهة الذين يدعون. وفيه تكلف. وقال أبو السعود: ولا تشتموا الذين يعبدون آلهة من دون الله - من حيث عبادتهم لآلهتهم - كأن تقولوا: تبا لكم ولما تعبدون. وما ذكرناه في الشرح، هو اختيار القرطبى.

{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: ثم إِلى مالك أَمرهم رجوعهم بالبعث بعد الموت. فيخبرهم ويجزيهم بما كانوا يعملونه باختيارهم: من طاعة أَو معصية. وفقا لما تأَثرت به نفوسهم، وكسبته أَيديهم من دواعى هذه الأَعمال. وقد دلت الآية الكريمة، على أَن الأَعمال تظهر لبعض الناس في الدنيا بغير صورتها الحقيقية: التي تكون لها في الآخرة. فالكفر والمعاصي - مع كونها سموما قبيحة قاتلة، شائهة - تبدو في الدنيا، بصورة تستحسنها نفوس الكفرة والعصاة. والإيمان والطاعات، تظهر لديهم فيها على العكس من ذلك. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتِ الجنَّةُ بالْمَكارِهِ. وحفَّتِ النارُ بالشَّهَوَاتِ". فإِذا بعثوا يوم القيامة عَرَّفهم الله الأَعمال بحقائقها، وجزاهم على تقصيرهم. وهذا هو قوله سبحانه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. 109 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ... } الآية. سبب نزولها - على ما ذكره القُرَظِىُّ وغيره - أَن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا أن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وأَن عيسى كان يُحْيِى الموتى وأَن ثمود كانت لهم ناقة .. فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نُصدقك. فقال: "أَىُّ شيءٍ تحبون"؟ قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا. فوالله، إِن فعلت لنتبعنك أَجمعون. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو. فجاءَه جبريل فقال: "إِن شِئْتَ أَصبح ذهبا: ولئن أَرسل الله آية ولم يصدقوا عندها، ليعذبنهم، فاتركهم حتى يتوبَ تائبهم .. ". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل يتوب تائبهم" فنزلت هذه الآية. وجَهْدُ اليمين: أَشَدُّها، وغايتها التي بلغها علمهم، وانتهت إِليها طاقتهم وقدرتهم.

وذلك أَنهم كانوا يعتقدون أَن الله هو الإِله الأَعظم. وأَن هذه الآلهة إِنما يعبدونها، ظنًّا منهم أَنها تقربهم إِلى الله زلفى. كما أَخبر الله عنهم بقوله: { ... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬1). وكانوا يحلفون بالأَصنام والآباءِ وغير ذلك. وكانوا إِذا حلفوا باللهِ سموه جهد اليمين. ذكر ذلك القرطبى. والمعنى: وأَقسموا بالله - جاهدين في أَيمانهم، بالغين فيها غاية الطاقة - لئن جاءَتهم معجزة كونية من جنس آيات المرسلين السابقين، ليؤْمِنُن بها .. ولا ريب أَن طلبهم هذه الآيات، ناشئ عن تماديهم في العناد، فإِن القرآن: هو الآية العلمية التي تخضع لها شم الجبال، وتلين لها الصخور. وكان عليهم - لو كانوا طلاب حق - أَن يؤمنوا بها، ويقفوا عند حدودها. فكيف وقد انضم إِليها عديد من المعجزات الكونية: كانشقاق القمر، وحنين الجذع، وتَبْع الماء من بين أَصابعه الشريفة، ونزول المطر، ورفعه؛ بدعائه - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا، لم يستجب الله لما طلبوا، وأَمر نبيَّهُ أَن يغلق باب اقتراح الآيات. فقال: {قُلْ إنَّمَا اْلآيَاتُ عِندَ اللهِ}: قل أيها الرسول لهؤُلاءِ المقترحين: إِنما الآيات عند الله، فهو صاحب المشيئة والأَمر في شأْنها: يتصرف فيها كما يريد حسب حكمته البالغة. وليس لأَحد مشيئة فيها ولا قدرة عليها حتى يمكننى أَن أُحققها لكم بأَى وجه من الوجوه. وقد حقق لكم من الآيات ما ينبغي لتأْييد رسالتى. فسؤالكم آيات أُخرى، ما هو إلا مكابرة وعناد. ¬

_ (¬1) سورة الزمر، من الآية: 3

وصدق الله إذ يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ... } (¬1). ثم خاطب الله المسلمين: مبينا الحكمة في عدم تحقيق مطالبهم، التي أشار إليها هذا الجواب. فقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أي: وما يعلمكم - أَيها المؤمنون - أَن الآيات التي طلبها المشركون - إذا جاءَت - كما طلبوا - لا يؤْمنون بما دعاهم إِليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد بين الله - بهذه الجملة - أَن أَيْمَانُهم فاجرةٌ. وأَنهم لا يؤْمنون إذا حُقِّق لهم ما طلبوه. وإِنما خاطب الله المسلمين بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ}؛ لأَنهم تَمَنَّوْا تحقيقها ومجيئها، طمعا في إيمانهم. وكأَن الله تعالى، يقول لهم: أنتم لا تعلمون أَنهم لا يؤْمنون بعد مجيئها. فلذلك تمنيتم تحقيقها، طمعًا في إيمانهم. فكأَن الله تعالى - إذ يقول - يبسط عذر المسلمين في تمنيهم. 110 - {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... } الآية. معطوف على قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} داخل معه في حكم ما يشعركم مقيَّدٌ بما قُيد به. والمعنى: وما يشعركم أَيها المؤْمنون، أَننا نقلب ونحول قلوبهم عن الحق فلا يعرفونه. ونقلب كذلك أبصارهم عن معالمِهِ فلا يبصرونه، ولا يؤمنون به. كما لم يؤْمنوا به أَول مرة حينما جاءَهم القرآن. والآيات السابقة. ونحن نتركهم في طغيانهم يتحيرون، فلا يهتدون لفساد طويتهم. وقد دلّ قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} على أَن تقليبه تعالى لأَفئدتهم وأَبصارهم - ليس بطريق الإجبار والقهر - مع توجههم إلى الحق - بل بأَن يُخلَّيَهم وما انطوت عليه نفوسهم من الطغيان، ونعوذ باللهِ من ذلك. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، من الآية: 51

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}. المفردات: {حَشَرْنَا}: جمعنا وعرضنا. {قُبُلًا}: أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم، أو هو جمع قابل بمعنى: مقابل لحواسهم. أو جمع قبيل بمعنى: كفيل - أو جمع قبيلة بمعنى: جماعة. التفسير 111 - {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ... } الآية. بينت الآيتان السابقتان: أَن كفار مكة - وهم المشركون - اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لإِيمانهم به - آياتٍ كونيةً غير ما أَيَّدَهُ الله به، وأَن الله كَذَّبهم في دعواهم الإِيمان. إِذا أَنزلها. وجاءَت هذه الآية الكريمة، تؤكد إصرارَهم على الكفر، مهما نزل لهم من الآيات. والمعنى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} مؤَيدة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بحيث يرونهم عِيَانا، ويسمعون تأَييدهم لرسالته. {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى}: شاهدين بصدق نبوته، بعد أن أحييناهم كما طلبوا بقولهم: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) وجمعنا كل شيءٍ من الآيات الكونية: مقابلة ومواجهة - لو فعلنا كل ذلك - ما كانوا ليؤْمنوا مستجيبين لهذه الآيات، إِلا أَن يشاءَ الله. وهيهات ذلك، وهم مُصِرُّونَ على الكفر والعصيان. ¬

_ (¬1) سورة الجاثية، من الآية: 25.

{وَلَكِن أكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}: فيقترحون الآياتِ سَفَهًا، دون رغبة في الإِيمان. وصدق الله إذْ يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (¬1). وأَجاز بعضهم أن يكون المعنى: ولكنَّ أَكثرَ المسلمين يجهلون أَنهم لا يؤمنون. فلذا يقترحون نزول الآية طمعا في إيمانهم. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}. المفردات: {شَيَاطِينَ}: جمع شيطان، وهم المتمردون من الجن أَو الإِنس. {يُوحِي}: يُوَسْوِسُ. {زُخْرُفَ الْقَوْلِ}: أي الْقول المزيَّن ظاهره، الباطل باطنه. {وَلِتَصْغَى}: ولتميل. {أَفْئِدَةُ}: قلوب. {وَلِيَقْتَرِفُوا}: وَلِيَكْتَسبُوا القبائح. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 146

التفسير 112 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... } الآية. بعد أَن بين الحق تبارك وتعالى، حال أُولئكَ الذين طُبِعَ على قلوبهم، بسبب إصرارهم على الكفر والطغيان - سلَّى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ببيان أَنَّ مَا حدث من تكذيب قومه له، سبقت أمثاله مع الرسل السابقين. والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمَّد - أعداءً يخالفونك ويعادونك - جعلنا لكل نبي من قبلك - أيضًا - أعداءً من شياطين الإِنس والجن ذوى الضرار، يلقى بعضهم إلى بعض القول الزين ظاهره، الفاسد باطنه. ومن ذلك ما أَلقاه شياطين الجن في نفوس شياطين مكة. من اقتراح آيات خاصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}: ولو شَاءَ ربك أَلَّا يحدث من قومك ما كان منهم، من اقتراح الآيات - عنادا - بتزيين شياطينهم إليهم - ما كانوا يفعلون ذلك. ولكنه - تعالى - تخلَّى عنهم لانصرافهم عنك .... فاتركهم وما يفترونه عليك في شأْن رسالتك، فإِننا سنجزيهم على افترائهم أَشد الجزاءِ، وسنثيبك على صبرك أَحسن الثواب. التفسير 113 - {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}: هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ... }. والمعنى: يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغُرُّوهم، ولِتَمِيلَ إليه قلوبُ الذين لا يؤْمنون بالآخرة، وليرضَوهُ لأَنفسهم، بعد ما، مالت إليه أفئدتهم، وليكتسبوا ما هم مكتسبون من القبائح بمقتضى ارتضائهم لها.

وقد جعل عدم إيمانهم بالآخرة، سببا لإِصغائهم إلى شياطين الإنس والجن، وما يزخرفونه لهم من الكفر والمعاصي؛ لأَنهم لو كانوا يعتقدون البعث والحساب والجزاءَ - لفكروا فيما يلقيه الشياطين، ولخافوا سوءَ عاقبته. {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}. المفردات: {أَبْتَغِى}: أَطلب. {حَكَمًا}: حاكما يفصل بيني وبينكم. {مُفَصَّلًا}: مبيَّنا. {الْمُمْتَرِينَ} الشاكِّين. التفسير 114 - {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ... } الآية. لما بين اللهُ في الآيتين السابقتين: أَنهم يستمعون إلى زخارف الشياطين، ويصغون إليها في شأْن نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أَتبعَ ذلك بيان أَن الله هو الذي يحكم على ما هم فيه بأَنه باطل، وعلى ما جاءَهم به الرسول بأَنه حق، بما أَنزله إليهم من كتابه الْمُعْجِز، ليكون آية لهم على ذلك.

والمعنى: قل لهم يا محمد: أَيصح أَن أَطلب غير الله حكمًا يفصل بيني وبينكم، فَيُظهِرَ بَاطلَكم الذي اعتمدتم فيه على زخارف الشياطين، ويُبيِّنَ الحق الذي جئتكم به مؤيدا بالبراهين، وهو - سبحانه - الذي أَنزل إليكم القرآن مفصلا ومبينا فيه الحق والباطل .. ولا حَكَمَ خيرٌ منه!! {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}: والذين آتيناهم الكتاب - من علماءِ اليهود والنصارى - يعلمون أَن القرآن هو الحق من ربهم، بما جاءَ في كتبهم من التنويه به، والنصِّ على رسالة محمَّد الذي جاءَ به: اسما ونعتا، وإِن كفروا به وكتموه: { ... حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .. } (¬1). وَمَنْ هذا شأْنه، فكيف أَعدِلُ عن حكومته - في كتابه الفصل - إلى حكومة غيره: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (¬2). وقيل: المراد من الذين أُوتوا الكتاب - مَنْ آمَنَ بالرسول من علمائهم. فلذلك استشهد الله بهم، لأَنهم لا يكتمون مَا عَلمُوه في شأنه من كتبهم، فإِنه هو الذي حدا بهم إِلى تصديقه، وترك ما كانوا عليه من دينهم. {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: الخطاب - هنا - لكل أَحد. على معنى أَن الأَدلة على كون القرآن منزلا بالحق - من الله سبحانه وتعالى - قد بلغت من الوضوح والقوة، بحيث لا تترك مجالا للافتراءِ والشك فيها من أحد من العقلاءِ. فكأَنه يقول: فلا تكونن - أَيها العاقل - من المتشككين في كون القرآن منزلا من ربك بالحق، وأنه هو الحَكَمُ بين الرسول وبين الكافرين. 115 - {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ المراد بِـ (كَلِمَة رَبِّكَ): القرآن الكريم. والمفرد إذا أَضيف: يعم، فكأَنه قيل: {كَلِمَاتُ رَبِّكَ} وبها قرىء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 109. (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 57

والمعنى: وتمَّ كتاب ربك الذي أَنزله إِليك، صادقا في أخباره ووعده ووعيده، عاد لا في أَحكامه ... فقد بلغ الغاية القصوى في ذلك؛ لا مبدل لهذا الكتاب. فهو محفوظ بعناية الله تعالى، من عَبث العابثين، وتبديل المبدلين. كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) فهو- بذلك - مخالف لما سبقه من الكُتب السماوية التي لحقها التبديل، وأضاع أصلها التغيير. فطمست فيها معالم الحقائق الدينية، التي تبَيِّن صدق الرسول فيما جاءَ به، وتظهر وحدانية الخالق وتنزهه عن الجسمية، وسائر صفات البشرية. وإنما تكفَّل الله بحفظ القرآن دون غيره؛ لأَنه تضمَّن شريعة الله الباقية إلى قيام الساعة، الصالحة لكل زمان ومكان. بخلاف ما تقدمه من الكتب، فإِنه كان لوقت محدود. ثم ختم الله الآية بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ}: أي عظيم السمع لما يقال، وفي جملته ما افتَرَوْهُ عَلى القرآن العظيم. {الْعَلِيمُ}: أي واسع العلم بكل ما كان وما يكون. وفي جملته ما أَضمروه من العداوة لكتابه ورسوله: وسعيهم في إبطال دينه. وحيث كان سميعا لأَقوالهم الفاسدة، عليما بنياتهم وأحوالهم الخبيثة، فإنه - قطعا - سيجزيهم بما يستحقون من سوءِ العقاب. {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}. المفردات: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}: ما يتبعون في عقائدهم وأَحوالهم إلاَّ التخمين الباطل. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 9

{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: وما هم إِلا يَكْذِبون على الله سبحانه. وأصل الخرص: الظن والتخمين. ومنه خرص النخل وهوتقدير ما عليها من التمر ظنا. التفسير 116 - {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. بعد أن بيَّن الله تعالى، أن كتابه الذي أَنزله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، هو الحَكمُ الفاصل بين الحق والباطل، والعدل والظلم - جاءَت هذه الآية، للحض على التمسك بما جاءَ فيه، وطرح ما عداه، مما يُضل عن سبيل الله. والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به: كل من يصلح للخطاب، والمراد: بـ {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ}: الكفار أو أصحاب الهوى، وهم يمثلون أكثرية البشرية. والمعنى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} في عقائدهم وأهوائهم {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الذي شرعه لعباده متسما بالصدق والعدل. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: ما يتبع أكثر الناس إلا الظن المفضى إلى الباطل الذي لا يستند إِلى دليل، وما هم إلا يكذبون على الله، في عَزوِ أَحكامهم إِليه تعالى، افتراءً وزورًا. ومن ذلك زعمهم: أَن الله اتَّخَذ ولدَا، وأَن الأَوثان تُقَرَّبُهم إِلى الله زُلْفَى، وأَن الله أَحلَّ أكْلَ المَيتةِ، وشَرَع البَحيرةَ والسائِبة. ويجوز أَن يكون المعنى: وما هم - فيما يزعمون من الآراءِ الفاسدة - إِلا يتوهمون أَنهم على شَىءٍ وجانب من الحق، دون أَن يكون لهما على ذلك دليل وبرهان. وأَصل الخَرْصِ: الحَدْسُ والتَّخْمِين. ومنشؤه الظن: { ... وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬1) والخارص يقطع بما لا يمكنه القطع به، إِذ لا يقين عنده. وكثيرا ما يتعرض للخطإِ والكذب في التقدير. ولذلك استعمل في الآية بمعنى الكذب. ¬

_ (¬1) سورة النجم، من الآية: 28

والخَرْصُ - وإِن جاز في بعض المعاملات (¬1)، وفي تقدير الزكاة في الرطب والعنب بتقديرهما تمرا وزبيبا، وإخراج الزكاة وفقا لهذا التقدير. إلا أنه - في العقائد - لا يجوز لأنها لا تبنى إِلا على الدليل القطعى. 117 - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}: إِن ربك هو أعلم بمن يبتعد عن سبيله، وينحرف إِلى العقائد الزائفة، والأهواءِ الباطلة. وهو أَعلم بالمهتدين إِلى دينه العاملين بشرعه. فاحذر - أَيها المكلف - أَن تكون من الضالين، وكن - دائما - من المهتدين. {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)}. التفسير 118 - {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}: كان المشركون المكِّيُّون - وقد ذكروا في هذه السورة عشرين مرة - يأْكلون مما ذكِر اسم أَوثانهم عليه عند ذبحه، ويأَكلون الميتة، ويمتنعون من ذبح البحيرة والسائبة والوصيلة والحام من الإِبل، ويحرمون ذبحها وأَكلها، زاعمين أَن الله شرع ما أَحلوا وما حرموا، فأَنزل الله هذه الآية آمرا المسلمين أَن يخالفوهم، فيأْكلوا مما ذكر اسم الله ¬

_ (¬1) كالعوايا: وهى أن يشترى تمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا للحاجة إليه، وقد رخص فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أخرج البخاري عن زيد بن ثابت "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا، قال موسى بن عقبة: والعرايا: نخلات معلومات نأتيها فنشتريها".

عليه من الذبائح، ولو كانت من هذه الأَصناف الأربعة، وأَن يقتصروا في التحريم على ما حرمه الله عليهم، إِلا ما اضطروا إليه اضطرارا. والمعنى: فكلوا - أَيها المؤْمنون مما ذكِرَ اسم الله عليه من الماشية والطير عند ذبحه، إِن كنتم مؤْمنين بآياته التي أَنزلها في شأْن المطاعم وغيرها، فإِن شأْن المؤْمن: أَن يمتثل ما أَمره به مولاه سبحانه وتعالى. 119 - {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ... } الآية. المعنى: وأَى غرض لكم في تَرْك الأَكل مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه، والتحرج من تناوله، إذا كان مما حرّمه المشركون زورا وافتراءً على الله، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فإِنها حلال في شرع الله، كسائر ما يذبح من الماشية والطير، مذكورا عليه اسم الله، وقد فصل الله لكم ما حرم عليكم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... } (¬1). فكونوا عند حدود الله، فلا تعتدوها. لكن ما اضطررتم إِلى أَكله من المحرمات، فإِنه حلال لكم، بقدر الضرورة التي تحيا بها النفس. {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: وإِن كثيرا من الكفار ليُضِلُّون الناس بتحريم الحلال، وتحليل الحرام، بأَهوائهم الزائفة، وشهواتهم الباطلة، بغير علم مستند إِلى وحىِ الله تعالى. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}: في هذه الجملة وَعيدٌ لمن يعتدون على شريعة الله، والعبث بها: بتحريم ما أَحل، وتحليل ما حرم. والمعنى: إن ربك هو أعلم بما يفترونه عليه من ذلك، فيجازيهم عليه شَرَّ الجزاءِ. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 3 (¬2) سورة النحل، الآية: 116

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}. المفردات: {وَذَرُوا}: واتركوا. {ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}: أي الذنب الظاهر والخفى. {يَقْتَرِفُونَ}: الاقتراف، الاكتساب مطلقا، ولكنه في الإِساءَة أَكثر. التفسير 120 - {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... } الآية. واتركوا الذنب ظاهره وباطنه: جَهْرَهُ وخَفِيَّهُ، إن الذين يكسبون الإِثم - بنوعيه - سيجزيهم الله بما كانوا يكتسبون منه، على حسب درجته من القبح { ... وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1). 121 - {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... } الآية. ولا تأْكلوا - أيها المؤْمنون - مما لم يذكر اسم الله عليه من الحيوانات. وإِن الأَكل منه لخروج عن طاعة الله تعالى وإِثم، إِذا ذكر عليه اسمُ غَيْرِ الله أَو كان ميتة. فإِن ¬

_ (¬1) سورة الكهف، من الآية: 49

الشياطين ليوحون إلى أَوليائهم ليجادلوكم بالباطل، ويزينوا لكم أكله لتطعموهم، ومن ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره، فقد أَشرك باللهِ. وظاهر الآية يقتضي تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه - عمدا أَو نسيانا - ولو من المسلم. وإليه ذهب داود الظاهرى وأَحمد بن حنبل. وقال مالك والشافعى: لوترك المسلم التسمية - ولو عمدا - جاز أكل الذبيحة؛ لأنه وإِن لم ينطق اسم الله الكريم بلسانه، فقلبه مؤمن به ذاكرٌ له. وفَرَّق أبو حنيفة بين العمد والنسيان، فحَرَّم أَكُلَ ما تُرِك ذِكْرُ اسْمِ اللهِ عليه عمدا، وأَحَلَّ ما تُرِكَ سَهْوًا ونسيانا. وعلى هذه المذاهب تكون الآية محمولة على ما ذكر اسْمُ غير الله عليه والميتة؛ لأَنهما كانا موضع الجدال بين المشركين والمؤمنين. فاتجه النهي إليه. ويعززه قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... } الآية (¬1). {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}. المفردات: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}: أَوَ مَنْ كان كافرا فهديناه؟ جعل الكفر موتا، والهداية إِحياءً. التفسير 122 - {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 145 وسيأتي تفسيرها.

أشارت الآية السابقة - إِلى أَن طاعة المشركين، قد تؤَدى بالمؤْمنين إِلى الشرك. وجاءَت هذه الآية لتؤَكد التحذير من متابعتهم. والمعنى: لستم أَيها المسلمون مثل المشركين حتى تَتَّبِعوهم في جاهليتهم .... فإن الله أحياكم بالهداية بعد موتكم الروحى بالكفر والشرك، وأَنعم عليكم بأَن جعل لكم نورا تمشون به في الناس، بما أَنزله إِليكم من أَنوار القرآن والهَدْىِ النبوى. فهل يصح لكم أن تتَّبعوا من يعيشون في الظلمات؟! أوَ مَن كَان في غَيِّه وضلاله ميتا، فأحييناه بالهُدَى ودين الحق، كمن صِفَتُهُ أنه غارق في الظلمات ليس بخارج منها؟! ... فإذا كان الفرق بينهما كبيرا، والبَوْنُ شاسعا، فلا يليق بكم أَن تتركوا نوركم، وتتَّبعوهم في ظلامهم. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي: مثل ما زين الله للمؤْمنين إِيمانهم وأَعانهم عليه، بعد ما أَخذوا بأسبابه، ترك - سبحانه وتعالى - الكافرين لشياطينهم: يزينون لهم ما كانوا يعملون من الكفر والمعاصي، وتخلى عنهم حين انصرفوا عن هُدَاه. كما قال تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1). {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)}. التفسير 123 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} الآية. وكما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها، جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها كذلك ... ¬

_ (¬1) سورة التوبة، من الآية: 127

فإن كبار الشرِّيرين، هم الذين يضعون أُسس الشر، ليمكروا بالناس ويضلوهم عن سواءِ السبيل ... وذلك أمر مشاهد ملموس .. فلا ينبغي للعاقل الفطن، أَن يتبع زعماءَ الشَّرِّ في غوايتهم. بل يتدبر فيما يعود بالخير على نفسه أَو على الناس فيتبعه، وفيسا يعود بالشر - عليه أَو عليهم - فيتنكب طريقه. فقد بين الله نَدَامَةَ الذين يتبعون الكبراءَ يوم القيامة فقال سبحانه: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (¬1). وإنما جعل الله أَكابر المجرمين في كل قرية ليمكروا فيها، امتحانا لعباده، كما امتحنهم بشياطين الجن، حتى يظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب ويجزىَ الله كلاًّ بما هو أَهله. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: { ... وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ... } (¬2). {فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}: وما يعود وَبَالُ مكرِهم إلا عليهم، وما يشعرون بذلك، لفرط جهلهم وقصر نظرهم. قال تعالى: { ... وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ ... } (¬3). والآية مسوقة، لتسلية الرسول عما يلقاه من مكر عتاة المشركين. {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)}. المفردات: {أَجْرَمُوا}: اكتسبوا جرما، والجرم: الذنب. {صَغَارٌ}: ذل وهوان. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، من آية: 67. (¬2) سورة الفرقان، من الآية: 20 (¬3) سورة فاطر، من الآية: 43

التفسير 124 - {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } الآية. في هذه الآيةِ، رجوع إلى بيان حال مجرمى أَهل مكة، بعد ما بين في الآية السابقة - بطريق التسلية - أَن حال غيرهم أيضًا كذلك، وأَن عاقبة مكر المجرمين في مكة - وغيرها - ما ذكرته تلك الآية. وسبب نزول هذه الآية: أَن الوليد بن المغيرة، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها منك؛ لأَنى أكبر منك سنًّا، وأكثر منك مالًا. فأَنزل الله تعالى الآية. وقال مقاتل: نزلت في أَبي جهل، وذلك أَنه قال: زاحَمَنَا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إِذا صرنا كفَرَسَىْ رهان، قالوا: منا نَبِىٌّ يُوحَى إليه ... واللهِ، لا نؤمن به، ولا نتَّبعه أَبدا، إلا أَن يأْتينا وحى كما يأْتيه، فأَنزل الله سبحانه الآية. المعنى: وإِذا أُنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، آية، تدعو قريشا إِلى الإيمان بما جاءَهم به، امتنعوا عن الإِيمان به: حسدا واستكبارا. وقالوا: لن نؤمن حتى نؤتَى من الوحى، مثل ما أُوتِىَ رسل الله، وتكونَ لنا بذلك نبوة، كما لبنى عبد مناف ... وإِلا، فلن نؤمن بمحمد ... وقد جهل هؤلاءِ، حيث ظنوا أَن الرسالة تأْتي بالاشتهاءِ وَتَتْبَع العصبيات .. وما دَرَوْا أنها لا تكون إِلا لمن هو أَهل لها .. والله - وحده - هو الذي يعلم المستحق لها، حيث يجعل فيه رسالته، ويعهد إِليه بهداية البشر. ثم بيَّن الله مآل أُولئك المستكبرين، فقال تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}: أي: سيصيب أُولئك المستكبرين المجرمين، ذلة عند الله بدل العزة التي أمَّلوها

بالاشتراك في النبوة. ويصيبهم - إِلى جانب ذلك - عذاب شديد بسبب مكرهم بنبى الهدى ... {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ... } (¬1). {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)}. المفردات: {حَرَجًا} الحرج: شدة الضيق. وفعله حَرِجَ حَرَجًا، من باب تَعِبَ تَعَبًا. وقد وُصِفَ الصَّدرُ بالحَرَج الذي هو المصدر، للمبالغة. والمراد: أَنه شديد الضيق. {الرِّجْسَ}: العذاب، أو ما لا خير فيه. {دَارُ السَّلَامِ}: دار المسالمة .. والمراد بها: الجنة. التفسير 125 - {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ... } الآية. الشرح فِي اللغة معناه: الفتح والشق. وشَرْحُ الصَّدْرِ للإسلام؛ كناية عن جعل النفس قابلة للحق، مُهَيَّأةً لحلوله فيها، مُحَصَّنَةً مما يمنعه وينافيه. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 43

وإليه أشار النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين سُئِلَ عن هداية الله تعالى حيث قال: "نُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ في قَلْبِ الْمُؤْمِن فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنْفَتِحُ" فقالوا: هل لذلك من أَمارة يُعرف بها؟ فقال: "نَعَمْ. الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالإِعْرَاضُ عَن دَارِ الْغُرُورِ وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْل نَزُولِهِ" (¬1). والمعنى: فمن يرد الله أن يهديه للحق ويعينه عليه، يشرح صدره ويهيىء نفسه لقبول الإِسلام، لما علمه من حسن استعداده له، وسعيه في قبوله. ومن يرد أَن يضله ويبعده عن الحق، يجعلْ صدره ضيقا شديد الضيق؛ لتمسكه بضلاله: لا يبغى به بديلا. وقد وَصف الله تَبَرُّمَ الضالِّ عن الحق وضيقه به، أَبلغ وصف، حيث قال تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. ولا شك أَن تكلُّفَ الصعود في المراقى الصعبة، يثقل على القلب، ويجهد الصدر أَيما إجهاد. فكان شأْن الكافر المصرِّ - في صعوبة تقبله للإِسلام - كشأْن هذا الذي يتكلف الصعود في المراقى الصعبة في ضيق صدره وحرجه. (¬2) {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي: كما جعل الله صدر أُولئك المشركين ضيقا عن قبول الإِسلام حيث تخلى عن معونتهم. وتركهم للشيطان: يضلهم ويقويهم يسبب إِصرارهم ... يفعل مثل ذلك في أمثالهم: الذين لا يؤْمنون، ويصرون على الكفر، فيترك الشيطان مسلطا عليهم، ولا يلطف بهم. والعياذ بالله تعالى. وخلاصة الآية: أَن من تقرب إِلى الله سبحانه أَعانه، ومن بَعُدَ عنه خذله. 126 - {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}: أي: وَهذا القرآن، المشتمل على الآيات المفصلة لعقائد الإِسلام وشرائعه، هو طريق ربك الموصل إلى مرضاته: مستقيما لا عوج فيه - قد بينا آياته مفصلة لقوم يتذكرون بمواعظه، ويزدجرون بزواجره. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود، ذكره ابن كثير ص 174 - جـ 2 ط عيسى البانى الحلبي. (¬2) من المسلم به علميا: أن الإنسان، كلما ارتفع في طبقات الجو، حس بضيق شديد. والطيارون يعرفون ذلك. ولا ريب أن هذا كان غير معروف وقت نزول القرآن. فحديثه عن ذلك، يعتبر من آيات إعجازه.

127 - {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي: لمن يتذكر بآيات القرآن العظيم، دار السلامة من كل المكاره - وهى الجنة - فلا يعترهيم فيها خوف، ولا يصيبهم مكروه: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬1). وهذه الدار ذخيرة لهم عند ربهم، لا يعلم كنه عظمتها سواه تعالى. وهو متولى أُمورهم فيها بعنايته وتكريمه، من أَجل ما كانوا يعملونه في دنياهم من الأعمال الصالحة. ابتغاءَ مرضاته. وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}. المفردات: {يَا مَعْشَرَ} المعشر: الجماعة المختلطون بالعِشرة. {مَثْوَاكُمْ}: مقركم ومآلكم. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 48 (¬2) سورة السجدة، الآية: 17

التفسير 128 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ... } الآية. تحدثت الآية السابقة، عن أَن دار السلام مثوى المؤمنين. وجاءَت هذه الآية لتبين أَن النار مثوى الكافرين. والمعنى: وِذَكِّر الخلائقَ - يا محمد - يوم يحشر الله الثقلين - جميعا - إِلى ساحة القيامة، فيوبِّخ شياطين الجن قائلا لهم: يا جماعة الجن المفسدين، قد استكثرتم من إِغواءِ الإِنس وإِضلالهم، فلم تكتفوا بضلالكم وكفركم، بل تجاوزتموه إِلى إِغواءِ الإِنس، حتىَ وَالَوْكُم وَتَبِعوكم. {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}: أَي وقال أَولياؤهم الذين تبعوهم، وتأَثروا بإِغوائهم من الإِنس ربنا استمتع بعضنا ببعض، فقد سمعنا لإِغوائهم، ومتَّعنا أَنفسنا بإِشباع شهواتنا، بما زينوه لنا من الآثام، واستمتعوا هم بنجاحهم في إِضلالنا عن سبيل الرشاد والصواب: فمِنَّا من كذبُوا رسلك، وأَنكروا الآخرة وما فيها من بعث وحساب وجزاءٍ ... ومِنَّا من ارتكب - دون ذلك - من الآثام. وبعد هذا الإقرار الذي لم يجدوا عنه محيصا، قالوا - في ندامة وحسرة: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}: أَي: وصلنا إلى يوم القيامة، الذي أَجَّلته لحسابنا وجزائنا، حيث بُعثنا، وظهرت لنا قبائح أَعمالنا التي نستحق العقاب عليها، لتركنا صراطك المستقيم. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}: قال الله تعالى: يخاطب الجن والإِنس، بعد اعترافهم بقبائحهم: النار مقركم ودار إِقامتكم، خالدين فيها، لا تخرجون منها، إلا من شاءَ الله إِخراجه، من الذين كانت آثامهم دون الكفر. . فإِنهم يخرجون منها، عندما يتفضل الله تعالى، بالإِذن بخروجهم.

أَما الكافرون فخلودهم في النار أبدى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (¬1). ثم يختم الله الآية بقوله: {إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}: ليبين أَنه تعالى، لا تخفى عليه خافية من سيئات أَعمالهم، وأَنه حكيم في عقابهم حسب درجات عصيانهم: { ... وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬2). 129 - {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: ومثلما استمتع الجن بإِغواءِ الإِنس، واستمتع الإِنس بتقبل إغوائهم - نترك الظالمين من الإِنس والجن في كل عصر وجيل، يتولى بعضهم بعضا، بالإِغواءِ والإفساد - ونتخلى عنهم فلا نخلصهم من آثاره بسبب كسبهم المعاصي، واختيارهم لها وإصرارهم عليها. ولذا؛ لا تجد راعيا ظالما إلا مع رعية ظالمة. وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (¬3). ويفهم من ذلك: أَن صلاح الرعية، يستتبع صلاح راعيها. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}. ¬

_ (¬1) سورة المائدة الآية: 37 (¬2) سورة الكهف، من الآية49 (¬3) سورة الزخرف، الآية: 36

المفردات: {يَا مَعْشَرَ} المعشر: جماعةٌ أَمرهم من واحد. {يَقُصُّونَ}: يتلون. {وَغَرَّتهُم}: وخدعتهم. التفسير 130 - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ... } الآية. جاءتْ هذه الآية، لتقريع الجن والإِنس - في الآخرة - على معاصيهم، إِثر بيان أنهم يشتركون في المظالم والمعاصي في الدنيا. وقد أَفادت الآية: أَن الجن مكلفون بشرائع الله كالإِنس، وأَن الله تعالى يوبخهم ويعاقبهم على عصيانهم الرسل، كما يوبخ الإنس ويعاقبهم. ولَم يثبت إِرسال أحد من الجن إِلى أَقوامهم. فالظاهر أَن المراد بالرسل في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} هم الرسل الذين يبعثهم الله من الإِنس، فيكون الجن مكلفين بالإِيمان بهم، والعمل بشرائعهم كالإِنس. ومعنى كونهم منهم: أَنهم بعثوا من بين الإِنس والجن. فهم مرئيون لهم مشاهَدون منهم. وليسوا غرباءَ عنهم .. فلا شك أن رسل الإِنس كذلك بالنسبة إِلى الجن. وقال ابن عباس: رُسُل الجِنِّ، هم الذين بلَّغوا قومهم، ما سمعوه من الوحى .. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (¬1). وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس. وليس لدينا من السنة ما يثبت ذلك أَو ينفيه. والله أَعلم حيث يجعل رسالته. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآية: 29

والمعنى: يخاطب الله الجن والإِنس - يوم القيامة - موبخا، فيقول: يا جماعة الجن والإِنس، أَلم يأْتكم رسلٌ من بينكم: تعرفون صدقهم وأمانتهم، وتفهمون قولهم، وليسوا غرباءَ عنكم، حتى تنكروا عليهم ما جاءُوكم به ... وهؤلاءِ الرسل كانوا يتلون عليكم آياتى ويُخَوفونَكم لقائى في يومكم هذا؟! {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}: أَي: قال كفار الجن والإِنس - بعد ما سمعوا توبيخ الله لهم - شهدنا على أَنفسنا بأَن رسل الله جاءُونا، فلم نؤمن بهم، ولم نصدق قولهم. وقد بيَّن الله سبحانه السرّ، فيها اندفعوا إِليه من الكفر والمعاصي ... والمعنى: وخدعتهم الحياة الدنيا فاطمأَنوا إِليها، ورفضوا العمل للآخرة. ذلك الذي دعاهم الرسل إِليه، وشهدوا على أنفسهم في الآخرة - أَسفًا وندما - أنهم كانوا في الذنيا كافرين .... فلذا استحقوا توبيخ الله وعقابه. 131 - {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}: الإِشارة في قوله: {ذَلِكَ} راجعة إِلى ما تقدم ذكره. من بعثة الرسل إِليهم، وإِنذارهم سوءَ العاقبة. والمعنى: ذلك الذي تقدم من إِرسال الرسل: كان لأَن سنة الله تعالى: أَلا يُهْلِكَ قوما وهم غافلون عن سوءِ عاقبة ما هم عليه من الكفر .. فلذا، بعث إِليهم الرسل لِيُبصِّرُوهم وينذروهم، حتى يقطعوا أَعذارهم. وفي ذلك يقول الله تعالى: { ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬1)، ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 15 (¬2) سورة طه، الآية: 134

132 - {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}: أي: ولكل من المكلفين، درجاتٌ متفاوتةٌ من أَجل ما عملوه في دنياهم؛ من طاعة أو معصية. فأهل الطاعة؛ ينعمون بدرجات الجنات، حسب تفاوتهم في طاعتهم. وأَهل المعصية، يعاقَبُونَ بالنار، حسب تفاوتهم في معصيتهم .. فالكافرون فيها مخلدون. وعصاة المؤمنين يخرجون بعد انتهاءِ مدة عقابهم. وما ربك بغافل عن أعمالهم: قليلها وكثيرها ... فكلها معلومٌ لديه تعالى، ومسجل في كتب أعمالهم، كما قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} (¬1). وقد بينت هذه الآية، عدل الله تعالى، بين عباده في جزاءِ الآخرة، كما بينت الآية التي قبلها عدله - سبحانه - في جزاءِ الدنيا. {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}. المفردات: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}: ومَا أنتم بمعجزين طالبكم .. فلا تقدرون على الإِفلات من عقابه الذي توعدكم به. {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: اعملوا على تمكنكم فيما أَنتم فيه، بقدر ما تستطيعون. ¬

_ (¬1) سورة النبأ، الآية: 29

التفسير 133 - {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ... } الآية. بعد أَن بين الله تعالى، عدله بين عباده في جزاءِ الآخرة، عقَّبه بذكر رحمته في معاملة عباده، حيث أَمهلهم وأَنذرهم، ولم يُعَجِّل بعقوبتهم، لعلهم يثوبون إِلى رشدهم، ولا يَغْتَرُّون بإِمهالهم فإِنَّ أَخذه لشديد أَليم. والمعنى: وربك - يا محمد - هو الغنى عن عباده، وعن طاعتهم له، وهو صاحب الرحمة بعباده، حيث بعث إِليهم رسله مبشرين ومنذرين وناصحين، فإِن أَحسنوا فلأنفسهم، وإِن أَساءُوا فعليها. ولا يعود على الله تعالى، من ذلك شىءٌ. أَخرج الإِمام مسلم في صحيحه حديثا قدسيًّا. رواه أبو ذر رضى الله عنه، جاءَ فيه: "يَا عِبَادِى، إِنَّكُمْ لَن تَبْلُغُوا ضُرِّى فَتَضُرُّونِى، وَلَن تَبْلُغُوا نَفعِى فَتَنفَعُونِى ... يَا عِبَادِى، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُم، وَإِنسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، مَّا زَادَ ذَلِكَ في مُلْكِى شَيْئًا ... يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُمْ وَإِنسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلىَ أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُل وَاحِدٍ مِنكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِى شَيْئًا ... " الحديث. وبعد أَن ذكر الله - عزَّ وجلَّ - رحمته بإرسال الرسل، هدد المشركين بالإهلاك، إِن هم استمروا على كفرهم. فقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}: أَي: إن يشأْ يهلكْكمْ بسبب كفركم، ويأْت بِخَلَف لكم من بعدكم أَطوع منكم. فهو - سبحانه - قادر على ذلك، مثلما أَنشأَكم من ذرية قوم آخرين من قبلكم. 134 - {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: بعد أَن بين الله في الآية السابقة: أَنه الغنى عن أَعمال خلقه، وأَنه رحيم بهم، وأَنه لو شاءَ أن يذهبهم ويستبدل بهم آخرين لفعل ... ولكنه يؤَخرهم إِلى أَجل لا ريب فيه - بين

لهم في هذه الآية: أَن ما يدّعونه من البعث والجزاءِ حق، وسيأْتى لا محالة، ولن يفلتوا من هذا الجزاءِ؛ لأَنهم لا يعجزون الله تعالى. فهو القادر على الإعادة إن صاروا ترابا وعظاما نخرة. كما قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} (¬1). 135 - {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: بعد أَن بين الله لهم: أَن الجزاءَ آتٍ، أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول لهم: استمروا على ما أَنتم عليه، فإِني مستمر على ما أَنا عليه من دعوتكم إلى الحق، وأَن العاقبة ستكون لي عليكم في الدنيا والآخرة. والأَمر في قوله تعالى: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} للتهديد والإِنذار. والمعنى: قل يا محمد، لهؤُلاءِ الجاحدين المعاندين: اعملوا - جهد طاقتكم - على تثبيت وتمكين أَمركم فيما أَنتم عليه من الضلال والكفر ... فإنى عامل - جهد طاقتى - على تثبيت دعوتى إِلى الله تعالى. فسوف تعلمون أَيُّنا تكون له العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة؟! قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬2). وقد مكَّن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأَصحابه من بعده .. وسوف يثيبهم في الآخرة أَجزل الثواب. أما الجاحدون الذين حادوا عن الطريق السوى، فقد خذلهم الله في الدنيا. ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك لأَن سنة الله: أَنَّه لَا يُفْلِح الظَّالِمونَ، أن لا يظْفَرُ بمُرادِه مَن كَفَرَ بالله تعالى، وأشرك به سبحانه. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآيتان: 5، 6 (¬2) سورة غافر، الآية: 51

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}. المفردات: {ذَرَأَ}: خلق. {الْحَرْثِ}: الزرع والثمار. {نَصِيبًا}: جُزْءًا. التفسير 136 - {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ... } الآية. أي: وجعل المشركون - مما خلق الله من الزروع ونتاج الأَنعام - نصيبا لله تعالى: للضيفان والمساكين. وكما جعلوا لله نصيبا من ذلك، جعلوا نصيبا منه لآلهتهم: ينفقونه على سدنتها، ويذبحونه عندها؛ تقربا إِليها. ولم يذكر هذا النصيب مقابلا لنصيب الله في الآية الكريمة بأَن يقال: وجعلوا لآلهتهم نصيبا كذلك، لأَنه مفهوم استنتاجا من جعلهم نصيبا لله واكتفاءً بذكره في التفريع في قوله لتعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}، وتعاليًا باللهِ تعالى، عن مقام المقابلة.

أي: فقالوا هذا لله زاعمين أَنه يصرف في مرضاة الله وهم - كاذبون فيما زعموه - كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} وسيأْتى تفسيره. أي وقالوا أَيضا هذا النصيب الآخر لآلهتنا، يصرف في مرضاتها. {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}: أَي: فما خصوه بشركائِهم وأوثانهم، لا يصل منه شىءٌ إِلى وجوه الخير، التي ينبغى أَن ينفق فيها النصيب الخاص باللهِ تعالى. بل هم يقصرونه على أَوثانهم، اهتمامًا منهم بالتقرب إِليها. وأما ما خصوه باللهِ عَزَّ رجلَّ، فإِنهم يقتطعون منه لأَوثانِهم أَو يستبدلون به مالها، ولا يصدقون في تخصيصه بالله والتقرب إليه. فالآية تقرر: أنهم كانوا يُعيِّنُون نصيبا من الزرع ونتاج الأَنعام لله تعالى، ليصرفوه في وجوه البر والخير إِلى الضيفان والمساكين، وكانوا يعينون نصيبا آخر من ذلك لآلهتهم؛ وينفقونه عليها وعلى سدنتها، ويذبحونه عندها تقربا إِليها. ولكنهم إِذا رأَوا ما عينوه لله أزكى وأَكثر نماءً مما عيّنوه لآلهتهم، عكسوا، فجعلوا ما لله لآلهتهم، وما لآلهتهم لله تعالى. وإِذا رأوا ما عينوه لآلهتهم أَزكى مما عينوه لله تعالى، فإِنهم يتركونه لآلهتهم؛ حُبُّا وإيثارًا لها. وفي قوله تعالى: {مِمَّا ذَرَأَ}: تنبيه على فرط جهالتهم، حيث جعلوا للخالق - فيما خلق من الزرع والأَنعام شريكا لا يقدر على شىءٍ، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكى النامى له، سواءً أَكان معينا له أَم لله تعالى. ولذا ختم الله سبحانه الآية بقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: أي: قبح حكمهم الذي اقتضى إِيثار آلهتهم على الله تعالى، فيما خلق الله ... وقبح عملهم بما لم يُشْرَعْ لهم.

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}. المفردات: {شُرَكَاؤُهُمْ}: أي أولياؤُهم من الشياطين. {لِيُرْدُوهُمْ}: ليهلكوهم. {وَلِيَلْبِسُوا}: وليخلطوا. التفسير 137 - {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ... } الآية. كان من المشركين من يقتل بناتِهِ؛ خشية العار. ومنهم من يقتل أَولاده - ذكورا كانوا أم إِناثا - مخافة الفقر. ومنهم من يذبح آخر أولاده المذكور، إِذا بلغوا عددا معينا. وكان ذلك كله، نتيجة لإغراءِ الشياطين والكهان لهم .. كما فعل عبد المطلب، حينما نذر أَن يذبح آخر أَبنائه. إِذا بلغ عددهم عشرة بنين. وقد جاءَت هذه الآية تنعى عليهم فعلهم، وتخوفهم سوءَ عاقبتهم. والمعنى: وكما زَيَّنَ الشياطِينُ والسَّدَنةُ للمشركين تقسيم هباتهم بين الله وآلهتهم، زينوا لكثير منهم قتل أَولادهم من بنين وبنات؛ ليوقعوهم في الهلاك، وليخلطوا عليهم أَمر دينهم الذي ورثوه عن إِبراهيم وإِسماعيل - عليهما السلام - فإنه كان يحرّم عليهم القتل، وبخاصة قتل الأولاد.

والتعبير عن الكهان والشياطين بأنهم شركاءُ المشركين، لأَنهم جعلوا وَسْوَسَتَهُم وأَمرهم، شرعًا لهم. وبذلك جعلوهم شركاءَ لله في التشريع. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}: أَي: ولو شاءَ الله عدم فعلهم ذلك لعصمهم منه، ولكنه خَلَّاهم وما يفعلون؛ لأَنه علم منهم إِصرارهم على ضلالهم وكفرهم، ولهذا قال سبحانه: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}: أَي: فاتركهم ودعهم - يا محمد - في غَيهم وضلالهم وما يختلقونه من الكذب على الله، فإِنهم مصرون عليه. وسوف نعاقبهم على ما يفترون. وهذا تهديد لهم ووعيد، كما قال سبحانه: { ... نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬1). {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)}. المفردات: {حَرْثٌ}: زرع. {حِجْرٌ}: محجور محرم. {بِزَعْمِهِمْ}: أَي بادعائهم من غير حجة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 178

التفسير 138 - {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ... } الآية. تحكى هذه الآية، نوعا آخر من جهالاتهم وكفرهم، وافترائهم الكذب على الله تعالى. والمعنى: أَن هؤُلاءِ المشركين، حلَّلوا وحرَّموا من تلقاءِ أَنفسهم، فجعلوا بعض الأَنعام وبعض الزروع محجورة محرمة على الناس، لا يأْكلها إِلا من شاءُوا من الكهان القائمين على الأَصنام، ومن الرجال دون النساءِ. {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا}: فلا تُركَبُ ولا يُحْمَل عليها. وهى: البحائر، والسوائب، والوصائل، والْحَوامِى. {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}: عند الذبح، بل يذكرون أسماءَ أصنامهم عليها. وهذه الجملة ليست واقعة في كلامهم المحكى كنظائرهم السابقة، بل مسوقة من جهته تعالى، لبيان عادتهم عند الذبح. وقال مجاهد: كانت لهم طائفة من أنعامهم: لا يذكرون اسم الله عليها في أَي شأْن من شئونها: لا إِن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا إن نُتِجُوا، ولا إِن باعوا، ولا إِن حَمَلُوا. وقيل: معنى {لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}: لا يحجون عليها: لأَن الحج لا يخلوا عن ذكر الله تعالى. {افْتِرَاءً عَلَيْهِ}: لأَنهم كانوا قَسَّموا أَنعامهم هذه الأَقسام الثلاثة، زاعمين أَن الله أمرهم بها، اختلاقًا وكذبًا منهم على الله تعالى. فجعلوا منها قسما حِجْرَّا، وقسما لا يُرْكَبُ، لا يَذْكرون اسم الله عليه. ثم بَيَّن اللهُ جزاءَهم على افترائهم، فقال تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: أَي: سيعاقبهم الله بسبب افترائهم الكذب على الله تعالى.

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}. التفسير 139 - {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الآية. أَي: وقال أُولئك المشركون: ما في بطون هذه الأنعام - من أَجنة البحائر والسوائب - خالصة الحِل لذكورنا، ومحرم أكلها على إناثنا. وذلك إِن وُلِدَتَ الأَجنة حيَّة. كما يُشْعِر به قوله تعالى حكاية عنهم: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ}: أَي: وإِن يكن ما في البطون ميتة حين يولد، فالذكور والإِناث شركاءُ في أَكله. فهو حلال لهم جميعًا. وكل ما ذكر من التحريم والتحليل، ينسبونه إِلى الله تعالى، زورا وبهتانا. ولهذا قال سبحانه: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}: أي: سيعاقبهم الله جزاءً لهم على وصفهم الكذب (¬1) وحكايتهم إياه على الله سبحانه، بادعائهم أنه تعالى، أحلَّ وحرَّم ما أَحلوه وحرموه. إنه عظيم الحكمة والعلم ... ومَن كان كذلك، فلا يفلت هؤُلاءِ. من عقابه الموافق لمقتضى حكمته، المناسب لما علمه من جرائمهم. ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب} النحل من الآية: 62.

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}. المفردات: {خَسِرَ}: خاب. {سَفَهًا}: السفاهة، الخفة والجهالة. التفسير 140 - {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... } الآية. المعنى: قد خاب هؤُلاءِ المشركون، الذين قتلوا أَولادهم بغير سبب سوى سفاهتهم - أَي خفة عقولهم - وجهلهم أَن الله هو الرازق لهم ولأَولادهم. وسبب هذه السفاهة: انتفاءُ علمهم ... وجهلُهم بأَن الله هو الرازق لهم ولأَولادهم، وأَن مكارم الأَخلاق تحمى من الزلل. فلو نشأَت البنت على الفضيلة، لما زلت في كبرها. قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. فقد كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والعار، وأَولادهم خشية الفقر، جهلا منهم بأَن الله هو الرازق لأَولادهم وحده. أَما خسرانهم، فلأَن الولد نعمة عظيمة: أَنعم الله بها عليهم، فيه يبقى الذكر ويشتد الظهر. فإِذا فقده بجريمة الوأْد، فقد خسر خسرانا مبينا في الدنيا والآخرة. أَما خسارته في الدنيا، فلأَنه قطع رحمه، وقتل ولده، وأَزال نعمة الله عليه. وأَما خسارته في الآخرة، فلأَنه استوجب عقاب الله الشديد، وقتل نفسا حرَّم الله قتلها. {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ}: من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي وغيرها.

{افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ}: أَي: كذبا عليه سبحانه وتعالى، حيث زعموا أَن الله أَمرهم بذلك. {قَدْ ضَلُّوا}: أَي أَخطأُوا طريق الحق والصواب. {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}: من الأَصل لسوءِ سلوكهم، وفساد قلوبهم. {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)}. المفردات: {جَنَّاتٍ}: بساتين. {مَعْرُوشَاتٍ}: مرفوعات على ما يحملها. {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} الاشتباه والتشابه؛ بمعنى واحد. والمراد به: التقارب ونحو اللون والطعم. {حَصَادِهِ}: جَنْيِهِ. {وَلَا تُسْرِفُوا}: ولا تجاوزوا الحد في الإِنفاق. التفسير 141 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ... } الآية. هذه الآية - وما بعدها - رَدٌّ لافتراءَات المشركين فيما أحَلُّوه وحَرَّمُوه بأَهوائهم .. وذلك

ببيان أَن الله هو الخالق لكل شيءٍ: من النبات والحيوان. وأَنه أَحلَّ من ذلك ما أَحلَّ وحرم منه ما حرم، على مقتضى حكمته. خلافا لما أَحلوه وحرموه بأَهوائهم. والمعنى: هو الله الذي خلق بساتين مختلفة: بعضها مرفوعاتٌ على ما يحملها من العرائش، كبعض الكروم، وبعضها متروكاتٌ بدون عرائش. {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ}: أَي: وأَنشأَ النخل والزرع مختلفا ثمره وحَبُّهُ: في الهيئة، وفي الطعم. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}: أَي: وأَنشأَ - سبحانه وتعالى - الزيتون والرمان: متشابها في الثمر والشكل والهيئة والطعم، واللون والحجم. وغير متشابه في ذلك. إِبداعا في الخلق والإِعجاز. {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}: هذا أَمرٌ أَباح الله به التناول من ثمر ما ذكر مطلقا، قبل تمام نضجه. بشرط عدم الضرر أو بعده وقبلَ البيع، لعدم تعلق حق شرعى به. قال بعض الفقهاءِ: إِنه رخصة للمالك في الأَكل منه قبل أَداءِ حق الله تعالى فيه، لكن بقدر ودون توسع في الأَكل. ويلاحظ أَن المقصود بأَكل الطعام قبل نضجه، هو تناول نحو القول الأَخضر والباقلاءِ والفريك، ونحو ذلك. {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: الأمر هنا، للوجوب، بخلاف الأَمر في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} فهو للإباحه كما سبق بيانه. ولا يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، عندما تقوم الأدلة على توجيه كل منهما الوجهة التي يستحقها. واختلف العلماء في المراد من: حق الزرع والثمر يوم حصاده، في الآية الكريمة. فمنهم من حمله على الزكاة المفروضة ... وعلى هذا الرأْى كثيرون، منهم ابن عباس وأَنس بن مالك، والحسن. ونقل عن مالك وأَبي حنيفة، وبعض أَصحاب الشافعى رضوان الله عليهم. وقد التزم أَصحاب هذا الرأْى بالقول: بأَن هذه الآية مدنية.

ومن العلماءِ من قال: إِن هذا حق في المال سوى الزكاة، أَمر الله به ندبا بمكة. وعلى هذا جَمْع منهم: عطاءُ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، رضى الله عنهم. فالآية مكية كباقي السورة. أَما الزكاة في الثمار والحبوب، فقد فرضت في المدينة. وقد بين ذلك في السور المدنية، وفي أَحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث ذكرت فيها أصناف الزَّكَوِيَّاتِ، والنصاب الذي تجب فيه الزكاة، ومقدار الزكاة. ولكنا نرجح الرأى الأَول، وهو أَن الآية مدنية، لأَن مكة ليس فيها جنات معروشات وغير معروشات، وليس فيها زرع، وإِنما ذلك في المدينة. {وَلا تُسْرِفُوا}: أَي لا تتجاوزوا الحد فتبسطوا أيديَكم في الإِعطاءِ وقال زيد بن أَسلم: هو خطاب للولاة. أَي: لا تأْخذوا فوق حقكم، وما لا يجب على الناس. وقال إِياس بن معاوية: ما جاوزتَ به أَمر الله، فهو سرف وإِسراف، يعني أَن هذا هو خطاب للمزكِّى: أَنه لا يزيد على ما فرضه الله في الزكاة. لكن مجاهدا حمل الإِسراف في الآية على الإِنْفاقِ في المعصية. فقال: لو كان أَبو قبيس ذهبا فأَنْفَقَهُ في طاعة الله لم يكن مسرفا. ولو أَنفق درهما أَو مُدًّا في معصية - كان مسرفا. غير أَن هذا الرأْى ضعيف. يردُّه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما، أَن ثابت بن قيس بن شماس عَمَدَ إِلى خمسمائة نخلة فجزَّها ثم قسمها في يوم واحد، ولم يترك لأَهله شيئا فنزلت {وَلَا تُسْرِفُوا}. وروى مثله ابن جرير وابن أَبي حاتم عن ابن جريج. والذى ينبغي الاعتماد عليه: أَن التوسط في الإِنفاق هو الأَفضل .. وهذا متفق مع قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ... } (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 29

فإذا جاوز المزكى ما فرضه الله عليه، فليذكر أولاده ... فلا يدعهم فقراء ... فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لأَحد أَصحابه: "إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكففُونَ النَّاسَ" (¬1) {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}: أَي: أنه - سبحانه - لا يرضى عمن يسرف في ماله بإِنفاقه كله - أَو أَكثره - في الصدقة أو المتعة. أو بإِنفاقه في معصية، أو بالتقصير في حق الله الواجب في الزكاة، بأَن يعطِىَ أقلَّ مما يجب عليه ... فكل ذلك إِسراف ومجاوزة للحد. والله لا يرضى عن فاعله. بل يعاقبه. {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}. المفردات: {حَمُولَةً}: تحمل الأَثقال. {فَرْشًا}: ما يفرش للذبح. التفسير 142 - {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا .. } الآية. هذا شروع في تفصيل أَحكام الأَنعام، وإِبطال ما افْتَروْه على الله في شأْنها، بالتحليل والتحريم. والمعنى: وهو - سبحانه وتعالى - الذي أَنشأ لكم من الأنعام، ما يصلح للحمل عليه، وما لا يصلح. ولكنه يُفرَش ويُضْجَع للذبح. ¬

_ (¬1) من حديث أخرجه البخاري.

ويصح أن يكون المراد من كونه فَرْشًا: أَنه يُتَّخَذُ من شعره وصوفه ووبره ما يُفْرَش به. وسيأْتى بيان الأَنعام في الآية الآتية. {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: أَي: كلوا من لحوم هذه الأَنعام وأَلبانها، التي رزقكم الله بها. والأَمر هنا؛ لإِباحة الأَكل، وإِظهار المنَّةِ على عباده، كي يشكروه، ولا يكفروه. {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: أَي: لا تسلكوا سبيل الشيطان في تحريم ما أَحل الله لكم، وتحليل مما حرم عليكم. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: أَي: إِنه بَيَّنُ العداوة لكم، حريص على إغرائكم وإغوائكم. والشيطان جنس، يشمل كل شياطين الإِنس والجن، ممن يحلُّون الحرام ويحرمون الحلال من الحكام وذوى السلطان. تحقيقا للشهوات والنزوات ونحوها. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}.

المفردات: {أَزْوَاجٌ}: جمع زوج. ويطلق على كل واحد من القرينين: الذكر والأُنثى في الحيوانات المتزاوجة، ويطلق أيضًا على مجموعهما. والمراد الأَول. {نَبِّئُونِى}: أَخبروني. التفسير 143 - {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .. } الآية. هذا بيان لجهل العرب قبل الإِسلام، فيما كانوا يحرمون من الأَنعام، ويجعلونها أَقساما وأَنواعا: بحيرة، وسائبة، ووصيلة وغيرها. فبيّن في هذه الآية - وما بعدها - أَنواع الأَنعام وأَصنافها. فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}: أي ثمانية أصناف: أَربعة ذكور من الإِبل والبقر والغنم والمعز، وأَربعة إِناث من كل منها. وكل ذَكَرٍ من هذه الأَصناف يُزَاوِجُ أُنثاه وبالعكس، والمزاوجة: المثاناة. ثم شرع في تفصيل هذه الأَصناف، على النحو الآتي، فقال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ}: أَي من الضأْن زوجين: ذكر وأْنثى. {وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}: أَي ومن المعز زوجين: ذكر وأُنثى .. والمراد كل ذكر وأُنثى من هذين الصنفين الاثنين. {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ}: أَي قل يا محمَّد، لهؤُلاءِ الذين يحرّمون ذكور الأَنعام تارة، وإناثها تارة أُخرى، وينسبون ذلك إلى الله افتراءً عليه - قل لهم: أَكان التحريم في الضأْن والمعز وغيرهما من الأَنعام بسبب الذكورة؟ أَم كان بسبب الأُنوثة؟ أَم هو بسبب الوجود في الرحم؟

فإِن كان التحريم بسبب الذكورة، لزمهم تحريمها، وهم لم يفعلوا ذلك. وإِن كان التحريم بسبب الأُنوثة، لزمهم تحريم جميع الإِناث، ولم يفعلوا ذلك أَيضا. وإِن كان التحريم بسبب اشتمال الرحم على الجنين، لزمهم تحريم جميع الذكور وجميع الإِناث؛ لأَن الكل يشتمل عليه الرحم. ولم يفعلوا. ومثل ذلك. يقال في الإِبل والبقر: الآتيين. {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أَي: أخبروني بأَمر معلوم من جهة الله تعالى، جاءَ به الأَنبياءُ عليهم الصلاة والسلام، يدل على أَن الله سبحانه، حرم شيئا مما ذكر، إِن كنتم صادقين فيما زعمتموه من أَن التحليل والتحريم هما من عند الله. 144 - {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ ... } الآية. أَي: ومن الإِبل اثنين: ذكرٍ وأُنثى. ومن البقر اثنين: ذكرٍ وأُنثى. قل لهم يا محمد، أَكان التحريم بسبب الذكورة في هذين الصنفين؟ أَم كان بسبب الأَنوثة فيهما؟ ... إِلخ ما بَيَّن في الآية قبلها. وإِنما ذكر في هذه الآية، ما ذكر في الآية السابقة - لزيادة الإِلزام والتبكيت والإِفحام. {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}: هذا انتقال من توبيخهم على تحريم ما حرموه بغير علم، إِلى توبيخهم بنفي حضورهم وصية الله بالتحريم. والمعنى: بل أَكنتم حاضرين مشاهدين حين وصاكم الله، وأَمركم بهذا التحريم؟! والمراد نفى الوصية بالتحريم. فلذا لم يشهدوها. والحاصل: أن العلم بالتحريم، إِما أَن يكون عن رسول أَخبرهم به، وإِما أَن يكون عن مشاهدة لله وسماع منه تعالى ... وكلا الأَمرين منتف. وبذلك يبطل تحريمهم كما حرموه عن الله تعالى.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... }: أَي: فلا أَحدٌ أَشدَّ ظلمًا ممن اختلق الكذب على الله تعالى، فنسب إِليه تحريم ما لم يحرم، ليوقع الناس - بجهله - في الضلال والبعد عن المنهج القويم، الذي شرعه الله لعباده. وإِنما وصفوا بعدم العلم - وهم متيقنون بأَن الله لم يحرم ذلك - للتنبيه على أنهم خرجوا في ظلمهم عن الحدود والنهايات. فإِن من افترى على الله حكما غير عالم بصدوره عنه - مع احتمال صدوره - كان بعيد الغاية في الظلم ... فما ظنك بمن افترى عليه تعالى، وهو يعلم أَنه لم يصدر عنه جل وعلا!! {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: أَي: إِن اللهَ لا يرشد إِلى طريق الحق كل من اتصف بالظلم. وإِذا كان المتصف بالظلم لا تناله هداية الله. فما بالك بمن بلغ في الظلم نهاية النهاية!! {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُورَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}.

المفرادات: {طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}: آكِلٍ يأْكله، من ذكر وأُنثى. {مَسْفُوحًا}: أَي سائلا. {رِجْسٌ}: نجس خبيث. والمراد: حرام. {فِسْقًا}: خروجا عما أَحَلَّه الله. {أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: ذُكِرَ اسمُ غير الله تعالى عليه، عند ذبحه. {فَمَنِ اضْطُرَّ}: فَمَنْ حملته الضرورة على تناول شيءٍ من ذلك. {غَيْرَ بَاغٍ}: أَي غير ظالم مضطر مثله. {وَلَا عَادٍ}: أَي ولا متجاوز قدر الضرورة. {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ}: أَي كلَّ ماله أَصبع من الإِبل، والسباع، والطيور. {شُحُومَهُمَا}: جمع شحم. وهو الدهن. {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}: أَي إلاَّ مَا وُجِد من الشحم فوق ظهورهما. {أَوِ الْحَوَايَا}: أي وإِلَّا الشحومَ التي تغطِّى الأَمعاء. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}: أَي وإِلَّا ما اختلط من الشحم بعظم، كالإلية. {بِبَغيِهِمْ}: أَي بسبب ظلمهم. {بَأْسُهُ}: عقابه. التفسير 145 - {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية. بعد أن بين القرآن الكريم - فيما سبق - خطأَ المشركين فيما يفترونه على الله تعالى، في شأْن التحريم والتحليل لبعض الأَرزاق من الثمار والأَنعام، ووبَّخَهم على ذلك - جاءَت هذه

الآية، تأْمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ببيان أَن الوحى هو الطريق الصحيح فيما حرَّمه الله وأَحلَّه. فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}: أي: قل يا محمَّد، لهؤُلاءِ المشركين المفترين: لقد تتبعت جميع ما أوحاه الله إلىَّ، بحثا عن المحرمات، فلم أَجد فيها طعاما محرما على أي آكل من الذكور أَو الإِناث. {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: أَي: لا أَجد طعامًا محرما، إِلا أَن يكون الطعام شيئا من الأَشياءِ الآتية: 1 - (مَيْتَةً) وهو الحيوان الذي زهقت روحه بغير ذبح شرعي. 2 - {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}: أَي دمًا مصبوبا سائلا من الحيوان، بخلاف الكبد والطحال، فإنهما دمَان غير سائلين. 3 - {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}: ومثل لحمه، شحمه، وغضاريفه. فإِن جميع أَجزائه قذر نجس، ولو ذبح. 4 - {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: أَو يكون المطعوم لحم حيوان، ذُكِرَ عليه - عند ذبحه - اسم غير الله تعالى، فإِنه يكون - عند ذلك - فسقًا حيث بَعُدَ، بسبب ذلك، عما أحلَّه الله تعالى. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي: فأَى شخص حملته الضرورة على تناول شيء من المحرمات السابقة، لحفظ الحياة، بسبب فقده الطعام الحلال، فإنه رخص له ذلك، بشرط أَلا يبغىَ بأَكل نصيب مضطر آخر مثلِهِ. وأَلا يتجاوز - فيما يتناوله - مقدار الضرورة التي تحفظ عليه حياته، حتى يصل إلى مكان يجد به الطعام الحلال. {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي: فإن الله عظيم المغفرة والرحمة: لا يؤَاخِذ المضطَّر على تناول شيءٍ من ذلك؛ لأنه أَباحه له لحفظ حياته.

146 - {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ .. } الآية. أَي: وعلى اليهود - دون غيرهم، بسبب ظلمِهم - حرم الله جميع ماله إِصبع غير منفرج: كالإِبل، والطيور، وخصه ابن زيد بالإِبل فقط. {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}: أَي: وحرَّم عليهم دهون البقر والغنم. {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}: أَي: إِلا الدهون التي توجد فوق ظهور البقر والغنم. {أَوِ الْحَوَايَا}: أَي: وإِلَّا الدهون التي تغطى الأَمعاء. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}: أَي: وإِلَّا الدهون التي تكون متصلة بعظم، كشحم الإِلية، فإِنها متصلة بالسلسلة الفقرية. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}: أَي: كان ذلك التحريم، عقابا لهم بسبب عُتُوِّهم وعصيانهم، وتعديهم حدود الله، حيث قتلوا الأَنبياء بغير حق، وأَكلوا الربا، وأَكلوا أَموال الناس بالباطل. كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... } (¬1). وكانوا كلما أَتوا معصية، عوقبوا بتحريم شيءٍ مما أُحِلَّ لهم. وهم ينكرون ويدعون أنها كانت محرمة على الأُمم قبلهم. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}: هذا إِخبار عن الله عَزَّ وجل، بأنه صادق في كل مَا بيَّنه، ومنه بيان صدقه فيما أَحلَّ وحرَّم، بالنسبة لليهود. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 160

147 - {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ... } الآية. أَي: فإن كذبك يا محمد، المخالفون لك من اليهود والمشركين، فيما جئتهم به من الحق والهدى - ومنه ما بينته لهم من أحكام الحلال والحرام من المطعومات - فقل لهم؛ ترغيبا لهم في الطاعة، وإنذارا لهم على استمرارهم على الشرك والضلال. {رَبُّكُمْ}: الذي خلقكم وتعهدكم؛ بالتربية، والإِرشاد، وبيان الحق. {ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ}: أَي صاحب رحمة واسعة، حيث لم يعاجلكم بالعقوبة: مع قدرته على إنزالها بكم. {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}: أن: ولا يقدر أَحد على دفع عقابه إِن أَراد وقوعه بالمجرمين. فكيف لا تخشون عقابه وأنتم أَشد الناس إِجراما؟! {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}. المفردات: {تَخْرُصُونَ}: تقدِّرون تقديرا خاطئا.

{الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}: أَي التامة؛ بإِنزال الكتب، وإرسال الرسل، مع تسليم العقل. {هَلُمَّ}: أَحضِروا. {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}: أَي وهم يُسوُّون به غيره. التفسير 148 - {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ... } الآية. هذا إِخبارٌ من الله تعالى، بما سيقولونه، بعد أن أُفحموا وبطل ما كانوا عليه من الشرك، وتحريم ما أحل الله لهم، وتحليل ما حرم عليهم، ولزمتهم الحجة. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}: أَي لو شاءَ الله أَلَّا نشرك به - نحن ولا آباؤُنا القريبون منهم والبعيدون - ما أشركنا وما أشرك آباؤُنا ... ولو شاءَ أَلا نُحَرِّم شيئا مما حرمناه، لما حدث منا هذا التحريم. فما وقع منا، فهو بمشيئته ورضاه .. أرادوا بذلك، أَنهم على الحق المشروع المرضى عند الله تعالى، وإِلا لَمَا وقع منهم، لأَنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. وقد كذبوا في هذا الاحتجاج؛ فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعاصي. قال تعالى { ... وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ... } (¬1). {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}: أَي: مثل تكذيب هؤُلاءِ لك، في أَن الله نهى عن الشرك والتحليل والتحريم بالرأْى والهوى، وإلباس الحق بالباطل - كذب الذين من قبلهم رسلَهُم، واستمروا على التكذيب، إِلى أَن نزل بهم عقابنا، وأَحاط بهم الهلاك. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}: أَي: قل لهم يا محمد هل يوجد لديكم أَمرٌ معلوم بَيِّنٌ واضح، يصح الاعتماد عليه، فيما زعمتم، فتظهروه لنا كما أظهرنا لكم خطأَكم فيما ذهبتم إِليه؟! ¬

_ (¬1) سورة الزمر، من الآية: 7

{إن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظنَّ وإنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ}: أَي: ما تتبعون - فيما ذهبتم إليه من باطل - إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا ... وما أَنتم إلا تُقدِّرون تقديرا خاطئا، وتكذِبون، إِظهارا للباطل، وإخفاءً للحق الواضح، وهو أنه ليس لديكم ما يصح الاعتماد عليه، والتمسك به. 149 - {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: أَي: قل لهم يا محمَّد، إن فقدتم كل حجة، ودليل على ما زعمتم، حيث لا حجة لكم .... فلله - وحده - الحجة البينة الواضحة، التي بلغت نهاية القوة، وقد لزمتكم بإرسال الرسل إليكم، وإِنزال الكتب عليكم، وقد بلَّغوكم. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: أي: فلو شاءَ الله هدايتكم إلى الحق لوفَّقكم جميعًا إِلى اتباعه، لكنه - سبحانه - شاءَ الهداية للبعض فآمن، دون البعض. 150 - {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ... } الآية. أي: قل لهم يا محمد، أَحضِرُوا من يشهد لكم ويعاونكم، في إثبات أَن الله حرم عليكم ما حرمتموه على أَنفسكم، وعلى أَزواجكم!!. ولن يوجد لهم شاهد يشهد بحق وصدق على ذلك. {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}: أي: فإن أَحضروا شهداءَهم المبطلين معهم، وشهدوا لهم، فلا تشهد معهم، ولا تقبل شهادتهم؛ لأَنها نتيجة اتباع الهوى. {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}: أى: ولا تتبع يا محمَّد، أهواء الذين اتصفوا بتكذيب آياتنا، وعدم الإِيمان بالبعث والجزاء.

{وَهُمْ بَرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}: أي: وهم يشركون بربهم. وقد أَدّى بهم ذلك إلى تسويته بغيره، والعدول عن عبادته وحده. {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}. المفردات: {تَعَالُوْا}: أَقبِلوا وأَحضروا. {أَتْلُ}: أَقرأ. {إمْلَاقٍ}: فقرٍ وفاقةٍ. {الْفَوَاحِشَ}: ما عظم قبحه من المعاصي. {وَصَّاكُمْ بِهِ}: أمركم وأَلزمكم به. {أَشُدَّهُ}: أَي يبلغ قوته البدنيه والعقلية ويحسن التصرف.

{بِالْقِسْطِ}: بالعدل وعدم الجور. {فَاعْدِلُوا}: فاصدُقوا في القول. {وَبِعَهْدِ اللهِ أوْفُوا}: وبما طلب الله منكم من العدل وتأْدية أحكام الشرع، أَوفوا وأَتِمُّوا. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: لكي تتعظوا. التفسير 151 - {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } الآية. بعد أَن أَبطل الله تعالى - في الآيات السابقة - دعاوى المشركين في استنادهم إلى مشيئة الله تبريرا لإشراكهم، وإِشراك آبائهم من قبل، وتحريم ما حرموا، وظهر فساد مسلكهم في الاعتقاد والعمل، والتحليل والتحريم - طلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستدعيهم إلى حضرته؛ ليبين لهم ما حرّمه عليهم، وما أوجب فقال سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .... } الآية. أي: قل لهم يا محمَّد، أَقبلوا واحضرُوا إلىَّ، لأَقرأَ ما حرَّمه ربكم عليكم وما أَوجبه. وبدأَ بالنهي عن أَكبر المحرمات، فقال تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}: أَي: أَلاَّ تشركُوا به - سبحانه - شيئا من الشرك: كالرياءِ، وعدم صدق النية في العمل، أَو شيئا من الشركاءِ، حقيرا كان أو عظيما. والنهي عن الإِشراك يقتضي الأَمر بالإِخلاص لله وتوحيده، فإن النهي عن الشىءِ، هو أَمرٌ بضده. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: هذا من الأُمور التي طلبها الشارع، وحث عليها، بعد الأمر بالتوحيد والإِخلاص لله وحدَه. وقَرن الأَمر بالإِحسان إِلى الوالدين - في هذه الآية وغيرها - بالتوحيد والعبودية

لله؛ لأَن الله هو الموجد الحقيقى لكل إِنسان. وإنما الوالدان سبب عادى في وجوده. فلهما - على الولد - حق الإكرام والطاعة في الخير والبر، ولو كانا كافرين. {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}: بعد أن قرر الله تعالى حق الوالدين على الولد، عقبه بتقرير الأَولاد على والديهم، فنهى عن قتلهم بسبب الفقر، كما كان يحدث في الجاهلية؛ لأَن الله هو الرزاق للوالد والولد، ولكل الكائنات الحية. قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ... } (¬1). {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}: هذا نهى عن الاقتراب من المحرمات كلها على وجه العموم. فضلا عن الوقوع فيها. وخاصة: جريمة الزني التي يترتب عليها اختلاط الأَنساب، وضياع الأموال. {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}: أي: مَا يُفعَل منها علانية، وما يفعل منها سرًّا. {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}: هذا نهى عن قتل النفس التي عصمها الله من القتل: بالإِسلام، أو بالعهد - لأى سبب من الأَسباب - إِلا بالحق. وقد ورد في السنة النبوية، بيان الأَسباب التي تجعل قتل الإِنسان لغيره حقا. كالذي جاءَ في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسلِم إِلاَّ بِإحْدَى ثَلاَث: الثيّبِ الزَّانىِ، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْس، والتَّارِكِ لِدِينِهِ المفارِقِ لِلْجَمَاعَةِ" (¬2) فالذي يزنى - بعد أن سبق له الزواج - يقتل شرعا، والقاتل لغيره - عمدا - يقتل، والتارك لدينه - الذي ارتد بعد أَن دخل في الإِسلام - يُقْتَل ... ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 6 (¬2) رواه الشيخان.

كل هؤُلاءِ، قتلهم يكون بالحق المشروع. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي: ذلك الذي تقدم ذكره من التكاليف الخمسة - أَمركم الله بها أَمرا مؤَكدا؛ لعلكم تستعملون عقولكم في فهم الحِكَمِ التي من أَجلها طلبها الله منكم، وأَلزمكم بها. وبمراعاة هذه التكاليف - كما أمر الله تعالى - تصان الأُسرة والمجتمع، من الفساد، والتفكك، والانهيار. 152 - {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... } الآية. في هذه الآية، نهىٌ عن القربِ من مال اليتيم - في جميع الأحوال - إلا في حال التصرف فيه على أَحسن الوجوه، التي تؤَدى إلى حفظه ونمائه. ويستمر ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده: في دينه ودنياه. وعند ذلك، يُدفَع إليه ماله؛ ليقوم هو على تنميته بنفسه، مع الإِشهاد عليه عند الدفع. قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} (¬1). {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}: هذا أمرٌ من الله تعالى: بالعدل والتسوية، في الكيل والميزان، عند التعامل بالبيع والشراءِ. فلا تطفيف عند الاستيفاءِ من الغير .. ولا نقص عند الكيل والوزن له: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}: أي: لا يطلب الله من عباده ما لا يستطيعون فعله. وقد جىءَ بهذا النص الكريم - بعد الأَمر بالعدل في الكيل والميزان - للإِشارة إِلى أَن مراعاة الدقة التامة، فيما يكال ويوزن، قد يعسر تحققه. وعلى ذلك، فالمطلوب من المكلف: مراعاة العدل - في ذلك - قدر طاقته. وما وراءَ ذلك، يشمله عفو الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة النساء: من الآية: 6

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}: أي: إذا صدر منكم قول - في قضاء أَو شهادة أَو غير ذلك - فالتزموا العدل فيما تقولون، بدون محاباة لأحد، ولو كان أقربَ الناس إِليكم. {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}: أَي: التزموا بما طُلِبَ إليكم الوفاء به، من أَوامر الله ونواهيه. {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: أَي: ما ذكر من التكاليف المتقدمة، أمَرَكم الله به أَمرًا مؤَكدًا؛ لتتعظوا بما احتوته من مصالح دنيوية وأُخروية، فتعملوا بها، وتحرصوا على أدائها؛ لأَن هذه الأَحكام لا تختلف باختلاف الأُمم والأَزمان .. وهي مقررة في جميع الشرائع. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}. التفسير 153 - {وَأَنَّ (¬1) هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}: أَي: ولأن هذا الذي تقدم - في الآيتين السابقتين، من الأوامر والنواهى - هو صراط الله وطريقه المستقيم، الذي رضيه لعباده. فاتبعوه ولا تنحرفوا عنه، إِذ لا عوج فيه ولا انحراف. {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}: أَي: ولا تخرجوا عن الطريق المستقيم، إلى اتباع الطرق المعوجة، فتفرقَكم وتبعدكم عن دينه الحق. ¬

_ (¬1) فتحت همزة أن على تقدير لام العلة، وارتباطها باتبعوه، أي فاتبعوه لأنه مستقيم.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: أي: هذا الذي تقدم - وهو اتباع دين الله والابتعاد عن غيره من الأديان الباطلة - هو الذي أمركم الله بالحرص عليه، والسير على منهاجه؛ رجاءَ أَن تكونوا من الناجين من عذابه بصيانة أنفسكم عن السير في الطرق المعوجة. روى الدارقطني عن ابن مسعود رضي الله عنهما. قال: "خَطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطًّا، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه، وخطوطا عن شماله، ثم قال: هذه سُبُلٌ على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إِليه. ثم قرأ هذه الآية". وأخرجه ابن ماجة أَيضا. {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}. المفردات: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: إِتماما للنعمة على كل من أَحسن القيام به. أو على موسى الذي أحسن تبليغه. التفسير 154 - {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ... } الآية. أي: ثم أَعطينا موسى التوراة؛ لإِتمام النعمة والكرامة، على كل من أَحسن القيام بما اشتملت عليه عن تكاليف. أو إتماما للنعمة على موسى الذي أحسن تبليغ التوراة. أو تماما على الذي أَحسنه موسى وأجاده، من العلم والتشريع، أي زيادة عليه.

{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً}: أي: جاءَت التوراة بيانًا وتفصيلا لكل ما يحتاج إِليه في الدين والدنيا، وإِرشادًا إلى طريق الخير، ورحمة واسعة من الله لعباده. {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}: أي: لعل من نزلت لهم التوراة - وهم: بنو إِسرائيل - بلقاءِ ربهم - بعد البعث - يصدِّقون. وفي هذه الآية، إخبارٌ من الله تعالى، بأن الوصايا التي تقدم ذكرها، ثابتةٌ في الكتب المتقدمة، ومنها التوراة. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}. المفردات: {دِرَاسَتِهِمْ}: قراءَةِ كتبهم. {وَصَدَفَ عَنْهَا}: أعرض عنها. أو صرف الناس عنها.

التفسير 155 - {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... } الآية. أي: وهذا القرآن، كتاب الله العظيم، أوحيناه إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. كثير المنافع والخير: دنيا وأُخرى. {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: أي فاسلكوا - أيها المكلفون - سبيله المستقيم، بالعمل بما فيه من التكاليف، حيث كان منزلا من عند الله تعالى. وذلك موجب لاتباعه، واحذروا مخالفته، رجاءَ أن تعمَّكم رحمة الله. وبذلك تنجون من عذابه الأَليم. 156 - {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ... } الآية. أي: قد أنزلنا هذا الكتاب المبارك؛ كراهة أن تقولوا معتذرين يوم القيامة إِنما أُنزِل ذلك الكتاب - التوراة والإِنجيل - على طائفتين من قبلنا، وهما: اليهود والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما؛ لأَنهما اللذان اشتهرا من بين سائر الكتب السماوية السابقة، قبل نزول القرآن. {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}: أي: وإِننا معشر العرب كُنَّا - عن مطالعة تلك الكتب وقراءَتها - لمنصرفين عن دراستهما وفي هذه الآية قطع الأعذار، وإثبات الحجة عليهم، حيث نزل القرآن بلغة سهلة ميسرة، هي العربية. 157 - {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ... } الآية. أَي: أَو لئلا تقولوا معتذرين بأَمر آخر غير ما سبق - لو أنا أنزل علينا الكتاب - كما أُنزل على اليهود والنصارى - لصرنا أَكثر هداية إِلى الحق منهم، وذلك لجودة إِدراكنا، وفهمنا لما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام والتشريعات. وبهذا انتفى ما يمكن أن يعتذروا به، بعد الاعتذار السابق.

{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}. أَي: فلا مكان لما يمكن أَن تعتذروا به، حيث جاءَكم - على لسان نبي منكم - كتابٌ من ربكم: فيه حجة واضحة على ما شرعه الله من الأَحكام، وإرشادٌ مبين إلى طريق الحق، ورحمةٌ بكم، حيث نزل بلغتكم. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا}: أي: فلا أَحد أكثر ظلما ممن كذَّب بآيات الله تعالى، المشتملة على البيان والهداية والرحمة، وأَعرض عن اتباع الأَحكام التي جاءَت بها، وصرف الناس عنها. فكان بذلك ضالاًّ مضِلاًّ. {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}: أي: سنعاقب الذين يُعرِضون عن اتباع آياتنا، ويصرفون الناس عنها، بالعذاب السىِّءِ، بسبب إعراضهم، ومنعهم غيرهم عن اتباع أَحكامها. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)}. المفردات: {يَنظُرُونَ}: ينتظرون.

التفسير 158 - {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... } الآية. أَي: لا ينتظر هؤلاء الكافرون - بعد البيان السابق - إِلا مجىء الملائكة لهدايتهم ودعوتهم إِلى الإِيمان. أو أَن تأْتيهم ملائكة العذاب، وهم لم يكونوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان العذاب يلحقهم لحوق المنتظِر، شُبِّهوا بالمنتظرين. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: أَوأَن يأتى ربك إليهم، داعيا إياهم إلى الهدى، كما اقترحوا ذلك، في قوله تعالى: { ... لَوْلَا أنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائكَةُ أوْ نَرَى رَبَّنَا ... } (¬1) أَو المراد: إِتيان أمره بالعذاب. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: أي: أو تأْتيهم بعض الآيات التي اقترحوها على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الْأرْضِ يَنبُوعًا} (¬2) الآيات. والخلاصة: أنهم علقوا إِيمانهم - باللهِ ورسوله - على حصول إِحدى هذه العظائم. وشبهت حالهم بحال المنتظرين لها. ومن المفسرين من فسر {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}: بأَشراط الساعة، بدليل قوله عقبه: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}. أَي: يوم يحدث شرط من أَشراط الساعة، لا يُقْبَل من نفس إيمانٌ ولا عملٌ صالح. حصلا بعد ظهور الشرط وحدوثه؛ إِذ لا ينفع النفس إلا ما قدمته قبل ظهور أَيٍّ من أَشراط الساعة؛ لأن وقت التكليف الاختيارى، قد فات. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، من الآية: 21. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 90 وما بعدها.

{قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}: هذا أَمر موجه من الله تعالى، لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأَن يأْمرهم - أمر تهديد ووعيد - بقوله لهم: انتظروا ما يأْتيكم من الآيات التي علقتم إيمانكم عليها، والتي لا تنفعكنم إِن وقعت ... إنا منتظرون وقوع ذلك لكم، حَتى نرى ما يحل بكم من سوءِ العاقبة، وما يحل بنا من حسن المآل. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}. المفردات: {شِيَعًا}: فرقا متعددة. {يُنَبِّئُهُمْ}: يخبرهم ويعلمهم. التفسير 159 - {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... } الآية. المعنى: إن الذين فرقوا دينهم، باختلافهم فية، فعبَدَ بعضهم الأَصنام، وقالوا عنها: هؤُلاءِ شفعاؤُنا عند الله. وعبد بعضهم الملائِكة، وقالوا؛ إنها بنات الله. وبعض ثالث: عبد الكواكب .... ومنهم من قال: عزير ابن الله. ومنهم من قال: المسيح ابن الله. وهذا كله شرك بالله تعالى، وخروج عن التوحيد الذي ارتضاه الله لعباده؛ لأنه الحقيقة المؤكدة: نقلا وعقلا. فكانوا - بهذا الاختلاف والتفرق - شيعا وأحزابا. كل فريق منهم يتبع طريقا يخالف طريق الآخر.

{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}: أَي: لست يا محمَّد من عقاب هؤلاءِ المتفرقين في أمر دينهم في شىءٍ ... فلست مسئولا عن تفرقهم .. وحسبك أنك أديت الرسالة وبلغت الأَمانة، وخرجت من عهدة التبليغ. وقيل: هو نهى عن التعرض لهم، حتى نزل الأمر بجهادهم. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: أَي: ما أَمرهم ومآل حالهم، إِلا إِلى الله وحده. فيجازيهم على أعمالهم وعقائدهم الباطلة - بما يستحقون. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1). {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}. التفسير 160 - {مَن جَاَء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَايهَا .... } الآية. بعد أن بين القرآن الكريم، حال الناس من المؤْمنين وغيرهم، من حيث تمسكهم بالدين والعمل، واختلافهم فيه - شرع في بيان جزاءِ كل عامل: محسنا كان أو مسيئا. فقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: أَي: من عمل عملا صالحا - وهو مؤْمن - فله جزاءٌ عند الله مقدر بعشر أَمثال ما عمل تفضلا عليه من الله تعالى. والْعَشْر أَقل مراتب التضعيف. ولا يقف تضاعف الجزاءِ ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 17

عند هذا. فقد يصل إِلى سبعين وإِلى سبعمائة، وإِلى أضعاف كثيرة، وبغير حساب. حسب إِخلاص العبد، وصدقه في العمل. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}: أَي: ومَن عمل عملا سيئا، من شرك وغيره، فعقابُه مماثلٌ لما عمل، عدلا. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: بنقص شيءٍ من ثوابهم أو الزيادة في عقابهم. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}. المفردات: {دِينًا قِيَمًا}: دينا مستقيما: لا عوج فيه. {حَنِيفًا}: مائلا عن الأديان الباطلة. {وَنُسُكِي}: عبادتي.

{أَبْغِي رَبًّا}: أَطلب. {وَلَا تَزِرُ}: ولا تحمل. {وَازِرَةٌ}: نفس آثمة. {خَلَائِفَ}: خلفاءَ يخلف بعضكم بعضا. {لِيَبْلُوَكُمْ}: ليمتحنكم ويختبركم. التفسير 161 - {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... } الآية. بعد أَن بين الله تعالى. فساد ما عليه المشركون بالحجج والبراهين، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أَن يبين الدين الحق الذي هو عليه وهداه الله إليه، وهم يدعون - زورا - أَنهم عليه مع أنهم قد فارقوه كلية. والمعنى: قل يا محمد، لأُولئك المبطلين: إِننى قد أرشدنى ربي إلى طريق مستقيم، موصل إلى الحق، بما أنزله علىَّ في القرآن، وبما نصبه من الآيات التكوينية: في الأنفس، وفي الآفاق. {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: هذا هو بيان الطريق المستقيم، الذي اختاره الله لرسوله، بأَنه: الدين القيم الذي هدى الله إليه إبراهيم عليه السلام، فسلكه مبتعدا عن كل دين باطل، حيث كان مخلصا في عقيدته وعمله، ولم يك من المشركين. 162، 163 - {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ... } الآيتان. هذا أَمر آخر، من الله تعالى، لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، بأَن يبيّن: أَن صلاته - وسائر عباداته وحياته وموته - خالصةٌ لله رب العالمين - وحده - دون إشراك أَحد معه في تلك الأُمور المذكورة وغيرها.

{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}: أي: وبالإِخلاص لله - وحده - في كل عباداتى، أَمرنى الله سبحانه وتعالى. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}: أي: وأنا أول المنقادين المسارعين إِلى إِطاعة أوامر الله تعالى. وفي هذه الجملة، بيان لموقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الأَوامر التي أَمر بها، وأَنه قدوة للأُمة من حيث المبادرة إلى امتثال الأَوامر، واجتناب النواهى. 164 - {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... } الآية. أَي: قل يا محمد، لهؤلاءِ المشركين بالله، معلنا لهم ما أَنت عليه من إخلاص العبادة لله والتوكل عليه: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا}: أي: أَطلب إلَهًا آخر سوى الله ربا ومعبودا. {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}: أَي: وهو المالك والمربى لكل شيءٍ، فيحفظنى ويرعانى ويكلؤنى، ويدبّر أَمرى، كما يقوم بتربية جميع الأَشياءِ، فيرعاها ويحفظها؟ فلا - ولن - أَتوكل إِلا عليه، ولن أَلجأَ إلا إِليه؛ لأَنه رب كل شيءٍ، وله الخلق والأَمر. وفي هذه الآية: الأَمر بإِخلاص التوكل عليه سبحانه، كما تضمنت الآية التي قبلها، الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا، كما قال تعالى مرشدا لعباده، أَن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1). ومثله: { ... فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَلْ عَلَيْهٍ ... } (¬2). {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا}: هذا إِخبار عما يكون عليه الحال يوم القيامة، من أَنَّ ما يعمله العاملون - من خير وشر - لا يعود إِلا عليهم: ثوابا أَو عقابا. ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬2) سورة هود، من الآية الخاتمة: 123

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: أي: ولا تحمل نفس آثمة إِثمَ نفسٍ أُخرى بل كل نفس بما كسبت رهينة. فالنفوس إنما تجازى بأَعمالها إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}: أي: اعملوا في الدنيا، فأَعمالكم مسطورة عليكم. ثم يكون مردُّكم ورجوعكم إلى ربكم، مالك أَمركم في الآخرة، فيعلمكم بأَعمالكم، ليتبين لكم ما كنتم فيه من غرور وباطل مخالف للحق، ويجازيكم عليها. 165 - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ .. } الآية. أي: وهو الله الذي جعلكم تعمرون الأَرض، أُمة تخلف أُمة، وقرنا بعد قرن، وخلفا بعد خلف. والخطاب - على هذا - عام لجميع البشر. أَو هو الذي جعلكم خلفاءَ الأُمم السابقة ... والخطاب على هذا، للمؤمنين. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}: أي: فضَّل بعضكم على بعض في الرزق، وفاوت بينكم في الأَخلاق، والمحاسن والمساوىءِ. {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}: أَي: ليعاملكم معاملة المختبر - وهو أعلم بكم - فيما أَنعم به عليكم من المال والجاه. هل يقوم الغنِىُّ بحق المال؟ وهل يصبِر الفقير على الحرمان؟. وكما كان التفاوت في الدنيا، فسوف يكون التفاوت في الآخرة، نتيجة التفاوت في الأعمال الصالحة.

{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: في هذا، تخويف وترغيب. فعقابه تعالى سريع - إِذا جاء وقته - لمن عصاه وخالف أمره، ولم يتبع رسله. وهو غفور رحيم، لمن أَطاعه ووالاه، واتبع رسله فيما جاءُوا به. والقرآن الكريم، كثيرا ما يجمع بين الترغيب والترهيب؛ كى يحمل الله تعالى عباده على طاعته، ويبعدهم عن معصيته. نسأَل الله التوفيق.

سورة الأعراف

سورة الأعراف مقدمة: هذه هي السورة السابعة في ترتيب المصحف، وهي مكية، ومن السبع الطوال، وعدد آياتها ست ومائتان. وسميت سورة الأعراف، لورود هذا اللفظ فيها، قال الله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ... } الآية. ونزلت كلها بمكة - كما قال ابن عباس وابن الزبير. واستثنى غيرُهما ثمانى آيات تبتدىءُ من قوله تعالى:. {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ... } إلى أوَّل قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ... } ومنهم من ضم إِليها قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ ... } الآية فتصير بها المدنيات تسعا. ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أَن سورة الأنعام، ختمت بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ... } الآية (¬1). وجاءَت سورة الأَعراف كالتفصيل لذلك. فسردت قصة آدم، وهو أَول خليفة استخلف في الأَرض. ثم تلتها قصة قوم نوح، ثم عاد مع هود، ثم ثمود مع صالح، إِلى آخر ما اشتملت عليه من القَصَص .. كما أَنهما تشتركان في كونهما مكيتين، أنزلتا لحمل المشركين على ترك شركهم وعاداتهم الجاهلية. من مقاصد السورة: جمعت هذه السورة مقاصد شريفة، منها ما يلي: 1 - الدعوة إِلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 165

2 - لا اجتهاد مع النص لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. 3 - حوت قَصَص عدد من الأنبياء مع أُممهم، وما انتهت إِليه أحوالهم؛ لنعتبرَ بما حل بالكافرين، ونتبعَ طريق المؤمنين. 4 - بيان عموم رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. 5 - إِباحة الطَّيبات من الرزق، وأَخذ الزينة عند الذهاب إِلى أماكن العبادة. ومثلها أَماكن الاجتماعات العامة .. 6 - الامتنان على العباد باللباس والرياش، وأَن خير لباس يرتديه الإنسان هو التقوى، التي بها يتفاضل الناس عند الله تعالى. 7 - بيان أَنَّ أوامر الله لعباده كلها خير؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاءِ والمنكر. 8 - بيان أن نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، منصوص عليها في الكتب السماوية السابقة. 9 - بيان أَن العلماءَ مطالبون بالتذكير والموعظة الحسنة، لهداية الناس وإرشادهم إِلى الحق. 10 - ذكر العهد المأخوذ من الله على بني آدم، بأَن يذعنوا ويسلموا بالربوبية لله - وحده - دون سواه. وأنهم أَقروا واعترفوا وسيأتى تفصيل ذلك. 11 - الأمر بالإنصات والاستماع عند تلاوة القرآن، لما اشتمل عليه من الفوائد التي تنفعهم في الدنيا والآخرة: ولما تنزل عند تلاوته بن الرحمات والعطايا الإلهية:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}. المفردات: {كِتَابٌ}: المراد به هنا؛ القرآن. أَو سورة الأَعراف. {حَرَجٌ}: الحرج؛ الضيق. وقد يطلق على الشك مجازا، لأَنه يضيق به صدر صاحبه. {لِتُنْذِرَ بِهِ}: الإنذار؛ التخويف. {وَذِكْرَى}: الذكرى؛ التذكير والوعظ. التفسير 1 - {المص} (¬1): افتتح الله تعالى تسعا وعشرين سورة بأسماءِ بعض الحروف الهجائية. وسورة الأَعراف واحدة منها. ويرى بعض العلماء: أن هذه الحروف، من المتشابه الذي استأْثر الله تعالي بعلمه. ولما سئل الشعبي عنها قال: إِن لكل كتاب سرًّا، وإِن سرَّ هذا القرآن فواتح السور. اهـ ويرى آخرون أنها فواصل بين السور، كما تأتى كلمة (هذا) فاصلة بين الآيات. كما في قوله تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ... } (¬2) إلخ. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه على الفواتح أول سورة البقرة. (¬2) سورة ص، الآيات: 55،56، 57

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أَسلم: هي أَسماءٌ للِسور .. ويستدل بما ورد في الصحيحين عن أَبي هريرة "أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم: السجدة. وَهَل أَتَى عَلَى اْلإنسَانِ". وقيل: هي أَسماءٌ لله تعالى. وقيل: هي فواتح لتنبيه السامعين إلى ما في القرآن من الآيات والعِبر. وقيل: هي رمز إِلى أَن القرآن مؤَلَّف من كلمات عربية، ذات حروف من جنس ما ينظمون منه كلامهم. فإذا عجزوا عن الإتيان بمثله، فمحمّد مثلهم. وذلك دليل على أَنه من عند الله تعالى .. واختاره الزمخشرى. 2 - {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}: هذا القرآن كتاب أنزل إليك - يا محمّد - من ربك؛ لتخوِّف به المشركين والكفار من عاقبة شركهم وكفرهم، حتى يضلعوا عَمّا هم فيه، ولتذكِّر به المؤمنين وتعظَهم، ليزدادوا إِيمانا مع إِيمانهم. فلا يكن في صدرك - يا محمّد - ضيقٌ مِن تبليغه، بسبب تكذيب المشركين إيَّاك، وتَجَمُّعِهم عليك. أو بسبب خوفِك من التقصير في القيام بحقِّه. وكن منشرحَ الصدر، مطمئنَ النفس .. فالله ناصرك ومعينك. والتعبير بقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} بدلا من {أُنْزِلَ إِلَيْكَ} جاءَ على سنن الكبرياءِ، وإِيذانًا بالاستغناءِ عن التصريح بِمَنْ أَنزله، سبحانه وتعالى. وإِنما فسرنا الحرج بالضيق، لأَنه أَصل معناه، ولقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ... } (¬1) الآية. وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 12 (¬2) سورة الحِجْر، الآية: 97

وكما كان يضيق صدرُه الشريف لما يقولون، كان يضيق خوفا من إيذائهم إيّاه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أخَافُ أَنْ يَثْلَغُوا رَأْسِى (¬1) فَيَدَعُوهَا خُبْزَةً (¬2) " أَخرجه مسلم. ولهذا، نهاه الله تعالى، عن أَن يضيقَ صدرُه بذلك. فقد وَفَّر له جميل الرعاية والحماية والتأْييد. والغرض الأساسى من نهيه عن وقوع الحرج في صدره، أَلاَّ يبالِىَ بمعارضة قومه، وأَن يُشعره الله بنصره ومعونته. وتخصيص الذكرى بالمؤمنين؛ لأنهم المنتفعون بها. {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}. المفردات: {مِنْ دُونِهِ}: "دون" له عدة معان، منها أنه بمعنى غير، وهو المناسب هنا. {أَوْلِيَاءَ}: قادة يوجهونكم، أو يلون أمركم في دينكم. {تَذَكَّرُونَ}: أَصله تتذكرون، مخفف بحذف التاءِ. أَي تتعظون. التفسير 3 - {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... } الآية. المعنى: اتبعوا - أَيُّها المكلفون وخاصَّة أَهل مكة - ما أُنزل إِليكم من ربكم من القرآن وسنة الرسول، فإنها من الوحى. ولا تتبعوا من غير ربكم أَولياءَ من الإنس والجن: يزّينون لكم الأَباطيلَ ويصرفونكم عن الحقِّ إِلى الأَهواءِ والبدع، لأَنكم تتعظون قليلًا من الاتعاظ. ¬

_ (¬1) أي يشدخوها ويكسروها، من ثلغ رأسه - كمنع - أي شدخها. (¬2) الخبزة واحدة الخبز، أي يتركوها مثل الخبزة التي تضرب باليد قبل وضعها في التنور، أو مثل الخبزة إذا دقت وضربت بعد خبزها، فإنها تصير محطمة.

ولهذا لا تنفعكم المواعظ. وإنما قلنا: إِن السُّنة من الوحى، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (¬1) وقوله عر وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2) وقوله عزّ مِن قائل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). وقد استفيد من الآية الكريمة: أنه لا يُعْدَلُ عن النص إِلى الاجتهاد؛ فإِن اتِّبَاعَ الاجتهاد - مع وجود النص - اتباع لغير ما أنزل إِلينا من ربُّنا. والتعبير بقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} يحتمل أَن يراد به أنهم يتعظون قليلًا جدا. ولذا أَكد هذه القلَّة بحرف (ما) ولا يلبث هذا الاتعاظ القليل أن ينتهى، فلا يكون له أَثر جذرى في أَعماق النفس. ويحتمل أَن يراد بالقلَّة العدم كما يقال: فلان قلَّما يعضل، أي لا يعقل أصلا .. {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}. المفردات: {وَكَمْ}: خبرية بمعنى كثير. {قَرْيَةٍ}: المراد من القرية أَهلها. {بَأْسُنَا}: عذابنا. {بَيَاتًا}: ليلا. ¬

_ (¬1) سورة النجم، الآيات: 3، 4، 5 (¬2) سورة النحل، من الآية: 44 (¬3) سورة الحشر، من الآية: 7

{قَائِلُونَ}: نائمون أو مستريحون نهارًا وقت القيلولة. وهي النوم أو الراحة نصف النهار. {دَعْوَاهُمْ}: دعاؤُهم. ومنه قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). التفسير 4 - {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}: لما أمرهم الله تعالى باتباع ما أُنزل إليهم، ونهاهم عن اتباع أئمة الكفر والضلال - أتبع ذلك إنذارهم بإنزال العذاب بهم، كما أَنزله بمن قبلهم بسبب إعراضهم عن دين الله، وإصرارهم على أباطيل أوليائهم. والمراد من إهلاك القرى، إرادة إهلاكها، لا إِهلاكها فعلا. لقوله تعالى بعده: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} إذ البأْس لا يجىءُ بعد الإهلاك، بل بعد إِرادته. وذلك كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... } (¬2) الآية. إذ معناه: إذا أَردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا ... إلخ. والمعنى: وكثير من القرى أَراد الله إهلاك أَهلها، فجاءَهم عذابه ليلا - وهم نائمون - كقوم لوط، أَو نهارًا - وهم مستريحون وقت القيلولة غافلون عن مجىء العذاب - كقوم شُعيب. وذلك لكفرهم وإعراضهم عن دين الله. 5 - {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: فما كان دعاؤُهم - حينما نزل بهم عذاب الله - إلا أَن قالوا تندُّمًا وتحَسُّرًا واعترافا بالذنب وطمعا في النجاة: يا ويلنا، إِنا كنا ظالمين لأَنفسنا بتركنا حقّ الله إلى باطل الطاغوت، ولاتَ ساعة مندم. ولات حين نجاة. ¬

_ (¬1) سورة يونس، من الآية: 10 (¬2) سورة المائدة، من الآية: 6

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}. المفردات: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}. وتقدير أَعمال العباد في هذا اليوم هو الحق والعدل. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}: فمن رجحت أَعماله التي توزن وتقدر. التفسير 6 - {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}: يؤَكد الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أَنه سوف يسأَل - يوم القيامة - الأُمم الذين أرسلَ إِليهم رسلَه، قائلا لهم: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (¬1) كما يؤَكد أَنه - تعالى - سَوف يسأل المرسلين، قائلا لهم: "مَاذَا أجِبْتُمْ" (¬2). 7 - {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}: كما يؤَكد الله تعالى - في هذه الآية - أَنه سوف لا يكتفي بشهادة الرسل على أممهم، ولا بإقرار الأمم على أنفسهم بأعمالهم. بل يقصّ الله على الجميع ما كان منهم - بعلم تام - بجميع أحوالهم. ويقرر الله سبحانه: أنه لم يكن غائبا حين كان الرسل يبلّغون أممهم في صدق وإِخلاص، ولا كان غائبا - سبحانه - عن الأمم حسن كانوا يبَلغون: من آمن منهم برسله ومن كفر. فإنه - عزَّ وجلّ - لا يخفى عليه شيء حدث في الأرض أو في السماء. وقد يقال: إذا كان الله تعالى عالما بما كان منهم، وأنه سيقصّه عليهم، فما فائدة سؤالهم الذي دلت عليه الآية السابقة؟ ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 65 (¬2) سورة المائدة، من الآية: 109

فالجواب: أَن سؤال المكلفين من الأُمم - هو سؤَال تقرير وتوبيخ، وسؤال المرسلين هو سؤَال استشهاد وتشريف لرسله. مع تمام علمه بما يسأَلهم عنه، كما أنه تعالى لا يريد أَن ينزل بهم عقابه، لمجرد ما علمه عنهم، حتى يقرّوا به هم على أَنفسهم. فإن قيل: كيف نوفّق بين ما هنا، وبين قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}؟ (¬1). فالجواب أن السؤَال المثبت هنا، يكون في موقف الحساب، والمنفى في سورة الرحمن - يكون في موقف العقاب. ولعل الظاهر من الآية أن سؤَال كلٍّ من الرسل وَمَنْ أُرسِلوا إِليهم، هو سؤَال خاص بتبليغ المرسلين إِياهم، وما نتج عنه من كفر أُممهم أو إِيمانهم بهم. وهذا لا يمنع أَن الناس يُسألون - أَيضا - عن جميع أَعمالهم، كما دلَّ عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّ رَاع مسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ... (¬3) " الحديث .. إِلى غير ذلك من الأَدلة. والسؤَال عن ذلك كله سؤَال تقرير وإِقامة حجة، لا سؤال استعلام ... ويبدو أَن إِخبار الله تعالى الأُمم عن أعمالها، يكون - بتسليمهم - فرادى - كتب أَعمالهم التي تنطق عليهم أَولهم. أَو بإِخبار الملائكة لهم، والله تعالى أَعلم. 8 - {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: المراد من الموازين، الأعمال. والموازين جمع موزون، أَي مقدّر، والمراد من الوزن الحق، التقدير والقضاء العادل - كما قاله مجاهد، والأَعمش، والضحاك. واختاره كثير من المتأخرين. واستعمال الوزن بمعنى القضاءِ والحكم والتقدير، شائع - لغة وعرفا - بطريق الكناية .. وممّن ذهب إِلى ذلك المعتزلة. وحُجَّة أَصحاب هذا الرأى: أن الأعمال أَعراض تفنى. وعلى فرض بقائها، لا تقبل الوزن بالميزان المعروف، الذي لا توزن به إِلا الجواهر والأعيان. وهذا هو رأْى المحققين. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآية: 39 (¬2) سورة التكاثر، الآية: 8 (¬3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

والجمهور، على أَن الوزن حقيقي. ويكون لصحف الأعمال بميزان له لسانٌ وكفتان: ينظر إِليه الخلائق، تأْكيدا للحجة، وإِظهارًا للنصفة، وقطعا للمعذرة .. كما يسأَلهم الله عن أَعمالهم، فتعترف بها ألسنتُهم، وتشهد بها أَيديهم وأرجلهم وجلودهم - ويشهد عليهم كذلك: الأنبياءُ والملائكة وسائر الأَشهاد. ومما يدل على صحة الرأْى الأَول، ما أَخرجه مسلم في صحيحه بسنده قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى (¬1)؟ قال سمعته يقول: "يُدْنَى المؤْمِنُ مِنْ ربِّه يَوْمَ القِيَامة، حتى يضَعَ عليه كنَفَه فيُقَررُه بذنوبه"، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أعرف. قال فإن قد سترتها عليك في الدنيا، وإنى أغفرها لك اليوم، فَيُعطَى صحيفةَ حسناتِهِ ... وأما الكفار والمنافقون، فيناديهم على رءُوس الخلائق: هؤُلاءِ الذين كَذَبُوا على الله. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} كما أن الكتب ليست هي الأعمال، فكيف يبين وزنها حقيقة هذه الأعمال من حسنات وسيئات؟ والاحتياط يقتضي التسليم بالوزن. أَما حقيقة هذا الوزن، فيُترك عليها إلى الله تعالى. فالمعنى: وقضاءُ الله بين عباده في يوم القيامة وتقديرُه لأَعمالهم هو القضاءُ والتقديرُ الحقُّ، فَمَنْ رجحت أعمالُه، وكان لها وزنٌ وقيمةٌ لصلاحها، فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العقاب، والحصول على جزيل الثواب. والآية الكريمة قد حصرت الفلاح في الذين رجحت حسناتهم على سيئاتهم، بقولها: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. 9 - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}: أي وَمَن خفّت أعماله، بأَن كانت لا وزن لها ولا قيمة - لكونها فاسدة - فأُولئك الذين خسروا أنفسهم؛ إذ غيَّروا فطرة الله التي فطرهم عليها كما فطر الناس. وهى فطرة حبِّ الحق، وجلب النفع، ودفع الضر. وقد أَبوا ذلك لأنفسهم، فكفروا، فاستحقوا العذاب، بسبب كونهم مستمرين على تكذيبهم بآيات الله، وَظلمِهم بجحدهم لها. وصدق الله إذ يقول: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬2). ¬

_ (¬1) أيُّ مناجاة الله العبد يوم القيامة، والمناجاة المسارة كالنجوى. وناجاه: سارّه. (¬2) سورة الكهف، من الآية: 49

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}. المفردات: {مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ}: جعلنا لكم فيها مكانا تستقرون فيه. أَو أقدرناكم على التصرف فيها. {مَعَايِشَ}: أَسبابا للعيش. التفسير. 10 - {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}: لما أمر الله المكلفين عامَّة - وأَهل مكة خاصّة - باتباع ما أنزله إليهم، ونهاهم عن اتباع أَولياءِ الضلال، وبيَّن لهم أنهم - جميعًا - مسئولون عن ذلك، ومجزيون عليه، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر، عقَّب ذلك بتذكيرهم - جميعًا - بنعمه الموجبة لشكرهم إِيّاه سبحانه وتعالى: بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. فقال عزَّ من قائل: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ في الْأَرْضِ}: أي: ولقد جعلنا لكم - في هذه الأرض - مكانا تستقرون فيه. وذلك نعمة كبرى يعرف قدرها من سُلِبُوها فَدَأبُوا على الارتحال. أو المعنى: أَقدرناكم على التصرف فيها واستنباط خيراتها. بما أَودعنا فيكم من طاقات. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ}: المعايش: جمع المعيشة. وهي ما يُعَاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أوهى. ما يُتَوَصَّل به إلى ذلك. والله سبحانه وتعالى يَمُنُّ على عباده، بأنه هيأَ لهم معايشهم،

على أي وجه مما تقدم .. وتلك مِنَّةٌ توجب أَن يشكرها العبد لربِّه، بامتثال أَمره واجتناب نهيه. ومن سلبه الله هذه النعمة فهو من الهالكين. {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}: يخاطب الله الشركين - وأَمثالهم من الجاحدين لِنِعَمِه - بهذه الجملة، ناعيا عليهم سوءَ معاملتهم، حيث شكروه عليها شكرا قليلًا، هو بالنسبة إليها بمنزلة العدم فإن الشكر عليها، لا يكون إِلا بدوام توحيده - سبحانه - بالعبادة، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فإذا كان شكرهم - إِن وقع - فهو دون ذلك - كما هو دأْبهم - فلا كفاءَ فيه. وجدير أَن يكون بمنزلة العدم. وخلاصة معنى الآية: ولقد جعل الله لكم - في الأرض - مكانا تستقرون فيه، وأَبدع - لمصالحكم ومنافعكم - أسبابا تعيشون بها، فكان شكركم لها في غاية القلَّة، فاحذروا عقاب التقصير في شكره. ويجوز أن يكون القصود من قلَّة شكرهم لله انعدامه وانتفاؤه، لأنهم كانوا يتجهون بشكرهم إلى أَوثانهم، فهم ينسبون إِليها النفع والضرّ. وإِن كانوا يؤمنون بأن الله خالقهم. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}.

المفردات: {مِنَ الصَّاغِرِينَ}: من أَهل الصَّغار والهوان. {أَنْظِرْنِي}: أمهلنى ولا تُمِتْنى. التفسير 11 - {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... } الآية. الربط: لما ذكَّر الله قريشا بنعمة التمكين لهم في الأرض، وتيسير المعاش، ذكَّرهم عقبه بنعمةٍ تَعُمُّهم وغيرهم، تَقْتضى أجل الشكر، وهي خلقهم وتصويرهم، ضمن خلق أبيهم آدم وتصويره، وأَتبع هذا بذكر عداوة إِبليس للبشر - جميعا - بما كان من وسوسته لأَبيهم آدم، وتسلسل هذه الوسوسة فيهم، ليحذروه. فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}: أي ولقد خلقنا أَباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه، فانتقل إِليكم خلقه وتصويره. وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين من المشركين؛ لأَن لهم نصيبا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السَّلام. وقيل: إِن المعنى؛ خلقناكم نطَفا، ثم صورناكم في أرحام النساءِ. وإِليه ذهب عكرمة وجماعة من النحويين، كعلي بن عيسى والسيرافى. ولكن يرد على هذا أن الله سبحانه وتعالى. قال عقب ذلك: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}؟ وقد أُجيب عنه بأن المراد: ثم إِنَّا نُخبركُم: أَنَّنَا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ... وفيه تكلف .. {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}: ظاهره أَن اللائكةَ أُمِروا بالسجود لآدم بعد تصويره. ولكن ظاهر قوله تعالى: {إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِّن طِينٍ. فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬1) أَنهم أُمروا به قبل خلقه؟. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: 28، 29

وتوفيقا بين هاتين الآيتين، نقول: إِنهم أُمروا بالسجود له مرتين. الأُولى منهما: قبل خلقه، وكان الأَمر فيها معلقا على تسويته ونفخ الروح فيه. والثانية منهما، بعد تمام خلقه، وكان الأَمر فيها منجزا. والله أَعلم. والملائكة - عند جمهور المتكلمين - أجسام لطيفة، قادرة على التشكل بأَشكال مختلفة، بدليل رؤْية الرسل إِياهم كذلك. واختلف فيمن أُمِر منهم بالسجود لآدم، فقيل: ملائكة الأَرض. وقيل: جميع الملائكة. وهو رأى أَكثر الصحابة والتابعين. والسجود في اللغة: الخضوع والتطامن .. وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة. وليس في الآية ما يدل على أن السجود مِن النوع الثاني .. فلهذا يحمل على النوع الأول، لخصوص السجود الشرعى بالله تعالي. وقد أمِروا بهذا السجود، أَي بالخضوع لآدم على الوجه المناسب، تحيَّة له وتعظيما واعترافا بفضله. فقد أنبأَهم بأَسماء كل المسميات وخواصها، بعد أَن علَّمه الله إِيَّاها، حين عجزوا عن إِنباءِ الله بها، وقالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬1). وقيل: المعنى؛ اسجدوا لله، لأجل آدم وخلقه البديع، الذي التقى فيه العالم الرُّوحى والعالم الجسدى، وتكون اللام - على هذا - في قوله (لآدَمَ) للتعليل. كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... } (¬2) أَي لأَجل زوالها عن وسط السماء. {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}: قيل في استثناء إِبليس من الملائكة، إِنه استثناءُ متصل، فإنه - وإن كان من الجن - لقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الجِنِّ} إِلاَّ أَنه لما كان مندمجًا مع الملائكة، يعبد عبادتهم، عُدَّ منهم. كالرجلِ يقيمُ في قبيلة أُخرى غير قبيلته، فيعّدُ منها. وقيل هو استثناءٌ منقطع ... ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 32. (¬2) سورة الإسراء، من الآية: 78

ولعله - على هذا الرأى - مأمور بالسجود لآدم بأمرٍ آخر، غير أَمر الملائكة ... وإِلَّا لما صح اعتباره مذنبًا حين ترك السجود لآدم، لو كان الأمر بالسجود خاصًّا بالملائكة، فإنه ليس منهم ... وكأَن أَصل الكلام: وإِذ قلنا للملائكة ولإبليس: اسجدوا لآدم، فسجدوا إِلاَّ إبليس .. فاختصرت العبارة إِلى ما في النص الكريم لوضوح المراد. والرأى الأَول أوضح وأَقلُّ تكلفا. {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}: تصريح بما فهم من الاستثناءِ السابق، لتأْكيده؛ ولمزيد التشهير بإبليس والتوبيخ له على جريمة عصيانه ربه، سبحانه وتعالى. وخلاصة معنى الآية: ولقد خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صّورناه، فانتقل إِليكم خلقه وتصويره، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لله لأَجل خَلْقِهِ آدمَ على هذه الصورة الجليلة .. أَو اخضعوا لآدم وعظِّموه، اعترافا بفضله، فسجدوا عقب أَمرنا لهم، إلاَّ إبليس لم يكن من الساجدين. 12 - {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ... } الآية. قال الراغب: المنع في الآية الكريمة، بمعنى الحماية. والمعنى - على هذا - ما حماك من عدم السجود. وقال السكاكى: المنع هنا. مجاز عن الحمل. والمعنى ما حملك على أن لا تسجد .. وكلا المعنيين يدور على أَنه من المنَعَةِ وهي العزَّة، فكأَنه تعالى قال له: أَي شيءٍ جعلك عزيزا وحملك على ترك السجود لآدم؟!. وقيل: إِن (لا) صلة لتوكيد المنع. وكأَنه قيل: ما منعك من أن تسجد. ومعنى الآية: - على هذا - قال الله لإبليس - لعنه الله - أَي شيءٍ منعك من أَن تسجد لآدم حين أَمرتك؟!.

{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}: قال إبليس: أنا خير من آدم، لأنك خلقتنى من نار وخلقته من طين. والنار أشرف عنصرا من الطين. والمخلوق من العنصر الأَعلى، لا يسجد لمن خُلِق منْ عنصر هو دونه .. وقد وُبِّخ إِبليس هنا على مخالفة الأمر. وَوُبِّخَ في سورة [الحِجْرِ] على مخالفة الجماعة، بقوله تعالى: {مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (¬1) ووُبِّخ في سورة [ص] على الاستكبار على من خلقه الله بيديه بقوله: { ... مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (¬2) وكل منها ذنب يستحق أَشد التوبيخ عليه. وإبليس بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} يُجِيبُ ربَّه بجواب يرجع إِلى المعنى. ذكره استبعادًا لأَن يؤمر بالسجود لآدم، وهو- في رَأْيه الفاسد - أَفضل منه .. فكأَنه قال: منعنى من السجود أنني أفضل منه. فقد خلقتنى من نار، وخلقته من طين. والفاضل لا يسجد للمفضول .. وهو بهذا يرد أمر ربه له، بسبب القياس الفاسد الذي ذكره. ومن المعلوم شرعا أَن النص لا يصح ردّه بالقياس الصحيح، فكيف بالقياس الفاسد، كالذى قاله إبليس!!. قال ابن عباس والحسن وابن سيرين: أول من قاس: إبليس، فأَخطأ القياس. فَمَنْ قاس الدين برأْيه: قرنه الله مع إِبليس .. وقال ابن سيرين: ما عُبِدَتِ الشمسُ والقمر إِلا بالمقاييس .. وفساد قياس إِبليس ناشئ من أن كلاًّ من التراب والنَّارِ يختص بفوائد ليست لغيره. وكل منهما ضرورى لهذه النشأة. فترجيح أحدهما على الآخر. حاصل بدون مرجح. كما أنه لا يَعْلَمُ أَسرار الترجيح - إِن وُجدت - سوى الخالق جلّ وعلا. على أَنه لا يصحُّ رجوع الفضل إِلى المادة دون النظر إِلى غيرها. فآدم خير منه خَلْقًا، فقد خلقه الله بيديه. أَي بلا واسطة، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ¬

_ (¬1) سورة الحجر آية: 32. (¬2) سورة ص آية: 75

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... } (¬1) أَي بغير واسطة، وذلك اعتناءً بنشأَته، ولا يعتنى المولى سبحانه إلاَّ بمن هو أهل لهذه العناية .. كذلك هو خير منه روحًا، لقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (¬2) بإضافة روحه إِلى الله تعالى، تشريفًا لا تبعيضًا. وهو خير منه غايةً، حيث عهد الله إليه بخلافة الأَرض، وأَهَّلَهُ لها بالعلم. وذلك هو ملاك الأمر. ولهذا أمر الله الملائكة بالسجود له، فسجدوا، بعد ما ظهر لهم أَنه أَعلم منهم، بما يدور عليه أَمر الخلافة في الأرض. 13 - {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}: المعنى: قال الله لإبليس: انزِل مقهورًا من منزلة الكرامة التي أنت بها، فما يصح لك أَن تتكبر فيها، فإنها للخاشعين المطيعين، فاهبط منها إِنك من أهل الصَّغَار والهوان، جزاءَ كبريائك .. وللعلماءِ في معنى {فَاهْبِطْ مِنْهَا}: آراءٌ غير ما تقدم نجملها فيما يلي: قال بعضهم إِن الضمير في (منها) يرجع إلى الجنة، لشهرة أنه كان من سكانها، وهي الجنة التي وعدت للمتقين. والمعنى: فانزِل من الجنة. وقيل: إنه يرجع إِلى السماءِ. أَي فانزِل من السماءِ. ورُدَّ القولان، بأن وسوسةَ الشيطان لآدم، كانت بعد هذا الطرد. فإذا كان آدم في جنة السماء، فكيف يوسوس له فيها بعد أن طرد منها أَو من السماءِ؟. وأُجيب عن ذلك، بأنه مُنِعَ من دخولها تكريما، ولم يمنع ابتلاءً لآدم. ويرى كثير من العلماء: أن الجنة التي أهبط منها - وكان فيها آدم - هي جنة في الأَرض. إذ أَنه خُلِق من تراب الأرض. ولم يَرد نصُّ أَنه رُفع إِلى الجنة أو إلى السماءِ. ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 75. (¬2) سورة الحجر، من الآية: 29

وممن قال بذلك: ابن عباس رضي الله عنهما. فقد رُوِىَ عنه أنه قال: أُمِرَ بالهبوط من روضة بعَدَن. وفيها خُلِق آدم عليه السَّلام. وهذا رأى مقبول ولا يمنع من وسوسة إبليس لآدم؛ لأَنه معه في الأَرض، فيستطيع أن يقترب من جنته ويوسوس له. 14 - {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: قال إِبليس لربه: أمهلنى واتركنى حيًّا إلَى يوم القيامة، الذي يُبْعَثُ فيه آدمُ وذريتهُ. وقد طلب ذلك لغرضين: أَحدهما: أَن يَثْأر من آدم، بالإغواءِ لذريته حتى نهايتهم. وثانيهما: أن ينجوَ من الموت، إِذ لا موت بعد البعث. 15 - {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}: الإنظار: الإمهال. وقد أُطلِقَ هنا، وقيد في سورة [الحِجْر] وسورة [ص] بأَنه إِلى يوم الوقت العلوم، فيحمل ما هنا عليه. والمراد من الوقت المعلوم، يوم النفخة الأُولى التي يموت عندها جميع الخلائق. قال ابن عباس وغيره: أنظره الله إِلى النفخة الأُولى، حين تموت الخلائق. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية، حتى يقوم الناسُ لربِّ العاليين، فأَبى اللهُ عليه ذلك. فإن قيل: ما فائدة إِجابة إبليس إلى طلبه الإِنظار؟ وما حكمة الغواية مع أَن فيها إضرارا بالعباد؟. فالجواب: أن في إِنظاره ابتلاءً لهم، ليُخْتَبَرَ أهلُ الحق، فيثابوا على مجاهدتهم لوساوسه، وأهلُ الضلال والغواية، فيعاقبوا على استجابتهم إِليها. والحكمة في خلْق الله الغواية في الزخارف والملاهى والملاذ، وفيما فطر في الأنفس من حبِّ الشهوات: أَن يمتحن اللهُ بها عبادَه، كما أَن منها ما هو مرض نفسانى، يعصم منه الله

أَهلَ المناعة الروحية وهم الحريصون على الحق والفضيلة وهو يعادل الأمراض الجسدية التي يعصم الله منها أهل المناعة الجسدية. وفي ذلك - أي في المناعة من غواية الشيطان لمن رضي الله عنهم - يقول الله تعالى، لإِبليس عليه لعنة الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬1). {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}. المفردات: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}: الإغواء؛ خلق الغَىّ في القلب. والغىُّ: الضلال. {صِرَاطَكَ}: الصراط؛ الطريق. {مَذْءُومًا}: أَي مذمومًا. من: ذأَمه، إذا ذمَّه. {مَدْحُورًا}: مطرودًا مبعدًا. وفعله: دَحَرَ كجَعَلَ. التفسير 16 - {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}: بعد أَن عرف إِبليس، أَن الله تعالى أَملى له، وأبقاه إِلى قيام الساعة، للحِكَم التي شرحناها في الآية السابقة - قال لربه: فبسبب إِغوائك لي، وجعلى من أَهل الضلال، ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 42

لأَقعدنَّ لآدم وذريته، راصدًا لهم في طريقك المستقيم، الموصل إِلى جنتك، الذي دعت إليه رسلك. وقعود الشيطان لبنى آدم في الصراط المستقيم - وفي تلك الجهات - كناية عن رصده لهم، ومراقبتهم عندما يتجهون إِليه، ليبعدهم عنه. وتفسير الإِغواء بالإِضلال، هو رأْى ابن عباس، ونسبة الإغواء بمعنى الإضلال إِلى الله تعالى، لا يمنعها أَهل السنة. والمحققون منهم: يرون أَن المراد من إضلال الله للعبد: التخلى عن توفيقه إِياه، بعد أن اختار العبدُ سبيل الضلال. والمعتزلة: يمنعون نسبة الإغواء بمعنى الإضلال إِلى الله تعالى، ويقولون: هذا كلام الشيطان فلا يحتج به. كما قالوا أَيضا: يمكن أن يكون المعنى فما خيبتنى من رحمتك أَو فبما أهلكتنى بطردك إياى ولعنك لي .. الخ فكما يطلق الإِغواء لغة على الإضلال، يطلق على التخييب والإِهلاك. 17 - {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ... } الآية. اقتصار إِبليس على تلك الجهات الأربع، دون أن يذكر - فَوْقَهُمْ وتحتهم - لأَنها هي الجهات التي اعتاد العدو الهجوم منها. ومعنى {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}): من أَمامهم. والمقصود من ذكر الشيطان هذه الجهات، هو المبالغة في متابعة إِغوائه لهم. دون حقيقة تلك الجهات. فإن وسوسته لهم قلبية ونفسية. وهو يجرى من ابن آدم مجرى الدم. فلا حاجة له إِلى تلك الجهات. ويجوز أن يكون غرضه من تلك الجهات: أنه سيضلهم عن الحق أينما اتجهوا إليه. إقبالًا أَو إِدبارًا، وميامنة أَو مياسرة. بحيث لا يترك لهم فرصة للإفلات منه. لعنه الله.

ولقد حمى الله سبحانه وتعالى، المؤمنين من هذا الوعيد بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (¬1). فَعلى المؤمنين أَن ينتبهوا إِلى تلك الحقيقة، ويحتموا بإيمانهم من سلطان إِغوائه، فلا يستمعوا لوسوسته، ولا يأْبهوا بتزيينه، فإنه السمُّ الزعاف: متى استطاع استدراج العبد، جعله في ظلام لا يتبين فيه الحقيقة، ووجد صعوبة في العودة إِلى الجادة المستقيمة، فقد أَبعده اللعين عنها. فعلى كل مسلم أن يصده ويعرض عنه، حتى لا تتأثر نفسُه بالاستماع الدائم إِلى وساوسه، وأَن يتذكر عداوته لآدم وذريته، لينجو من شرِّه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (¬2) أَي تذكروا عداوته، فاستعاذوا باللهِ تعالى: يطلبون حمايتهم من شرِّه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3) حمى الله عباده المؤمنين من شرِّه، وهداهم إلي سواءِ السبيل. ومعنى الآية: ثم لآتينهم من كل وجه يتجهون إليه بعد رصدهم ومراقبتهم، ولا تجد أَكثرهم - بسبب إِضلالى إِياهم - مطيعين لك. تلك هي عداوة إِبليس للجنس البشرى. وهذا هو وعيده لهم. فعلى الإِنسان أَن يكون حذرا من وساوسه، لينجو من عواقبها. 18 - {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}: أَي قال الله لإبليس - مؤكدا طرده السابق - اخرج من منزلة الكرامة أو من الجنة، مذمومًا مِنِّى ومن أَهل طاعتى، مطرودا مبعدا من رحمتى أُقسِم: لَمَنْ تَبعَك منهم - في وسوستك له واستمر عليها - لأملأنَّ جهنم منكم أَجمعين: تابعين ومتبوعين. ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآيتان: 99، 100 (¬2) سورة الأعراف، الآية: 201 (¬3) سورة فصلت، الآية: 36

وظاهر النص أن مخاطبات الله لإبليس، كانت بلا واسطة لغرض مزيد التعنيف والتوبيخ والوعيد. واستظهر الجبائى من المعتزلة: أنها كانت بواسطة؛ لأن الله لا يكلم الكافر. {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}. المفردات: {وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}: أخفى عن عيونهما من عوراتهما. {وَقَاسَمَهُمَا}: وأقسم لهما، مبالغا في الإقسام. التفسير 19 - {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}: هذا نداءٌ من الله تعالى لآدم عليه السلام يأْمره فيه بسكنى الجنة والتنعم بثمارها. وتنبيه له إِلى الاهتمام بتلقى الأَمر والعمل به. ولم يشرك معه زوجته في الخطاب، للإيذان بأصالته في تلقىّ الوحى، ومباشرة المأْمور به.

والمعنى: وقلنا: يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة، واستقرا فيها، وتنعما بخيراتها، وكلا من ثمارها - ما أَحببتما - في سعة ورفاهية، من أَي مكان فيها أردتما. ولكن لا تقربا ثمار هذه الشجرة، فتكونا بذلك من الظالمين لأنفسهم، إذ تعديتما حدود الله تعالى. والجنة التي أُمِرَا بسكناها والأكل منها، اختُلِف في المراد منها. فقيل: هي دار الثواب والعقاب؛ لأنها المعهودة شرعا. وقيل: هي بستان في الأرض، فالجنة - في اللغة - بمعنى البستان. واختلف في موقعها، فقيل: بفلسطين .. وقيل: بين فارس وكرمان. وقيل: بعدن. والإِهباط منها: النقل إلى أَرض سواها يكدحان فيها ويعملان لتحصيل رزقهما. ويرجح أَصحاب هذا الرأْى ما ذهبوا إليه، بأن آدم خلق في الأَرض بلا خلاف، ولم يذكر في قصته أَنه رفع إلى السماءِ .. ولو رفع، لكان رفعه أولى بالذكر. ولا يعارض هذا قوله تعالى، فما بعد: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (¬1) فإِن استعمال الهبوط بمعنى الانتقال، وارد في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} (¬2). وقيل: كلا الأَمرين ممكن. والأَدلة متعارضة. فوجب التوقف، وترك القطع. وقد جاءَت هذه الآية في سورة البقرة هكذا {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} فصرَّح فيها بكلمة (رغدا) أي أَكلا واسعا - رافها. والمعنى هنا، على ذلك، وإِن لم يصرح به، أَخذًا من إِطلاق الأكل. واختلف في الشجرة التي نهيا عن القرب منها. فقيل: هي الحنطة. وقيل: هي شجرة العنب. وقيل: هي التينة. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 24 (¬2) سورة البقرة، من الآية: 61

والأولى عدم تعيينها؛ لفقدان الدليل عليه. وتوجيه الخطاب إليهما، في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} لتشريفهما؛ والإيذان بتساويهما في حقِّ الأَكل، ولكى يوجه النهي إليهما صراحة في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}. وخوطب آدم - وحده - في السكن؛ لأن حواءَ تابعة له فيه ..... والمقصود من النهي عن قربهما تلك الشجرة، ألاَّ يأْكلا منها. وعبّر عن ذلك بالنهي عن القرب منها، مبالغةً في تحريم الأكل منها. 20 - {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} الآية. الوسوسة - في الأَصل - الصوت الخفى المكرر. ومنه قيل لصوت الحلى؛ وسوسة. وتطلق أَيضا، على حديث النفس. وقد غلبت في حديث إبليس لبنى آدم، لإِغوائهم. فإِنه خفى. وقد كانت وسوسته - لآدم وحوّاء - بطريق الاسترسال، حتى وصل بهما إلى ما يريد من المعصية وإِخراجهما من الجنة. فقد قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (¬1)؟. وستأْتى بقية كلامه لهما في خفاءٍ وهمس، كما يفعله الناصح الحريص على المصلحة. فإِن قيل: إِذا كان آدم في جنة الجزاءِ وقت وسوسته له، تكون عودته إليهما متعارضة مع طرده منها، ومنعه من دخولها؟ فالجواب: أنه منع من دخولها على وجه التكريم، ولم يمنع من دخولها ابتلاء لآدم وحواء. أَما إِذا كان آدم في جنة الأرض، فلا إِشكال .. فإِن إبليس طرد من جنة الأَرض التي كان فيها آدم خلقا وإِقامة .. فلا تعارض. إذ يستطيع أن يحادث آدم على مقربة منه. وأما على رأْى من يقول: إنَّه أُهبط من منزلة الكرامة عند الله إلى اللعن، بسبب عصيانه لربه، فلا إِشكال في وسوسته لآدم على أي وجه كانت سكناه. ¬

_ (¬1) سورة طه، من الآية: 120

وخلاصة معنى الآية الكريمة: فأَغراهما الشيطان بوساوسه وتزيينه، وقال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} عَنْ أكْل ثمار هذه الشجرة، إِلا كراهة أَن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين في الجنة إن أكلتما منها. والخلد: المكث الطويل، أَو بلا نهاية. واستدل بعض العلماءِ، على أن الملائكة أفضل من البشر بأَدلة .. منها هذه الآية - ومنها قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (¬1) وقوله تعالى: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬2). ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن إِبليس اعتبرهم فيها أَفضل من البشر: وأغوى آدم وحواءَ على الأكل منها ليرتقيا إلى درجة الملائكة، ولم يُنْكَرْ عليه اعتبارُهم أفضل من البشر، بل أُنْكرَ عليه تحريضهما على الأَكل المنهى عنه، ليكونا مثلهم، كما سيأْتي، وأن آدم لو لم يعلم بفضلهم على البشر، لما سعى إِلى درجتهم بارتكابه ما نُهِىَ عنه. وقد أُجيب عن ذلك: بأن ذلك لا يثبت فضل الملائكة على البشر من كل وجه. فقد يكون ما ذكر لكمالاتهم الفطرية، واستغنائهم عن الأطعمة والأَشربة، وفضلهم في ذلك لا يمارى فيه. والراجح عند العلماءِ: أن المطيعين من بني آدم، أفضل من الملائكة؛ لأنهم غالبوا ما رُكِّب فيهم من الشهوة، وما سُلِّط عليهم من وسوسة إبليس، حتى استقاموا. والملائكة ليسوا كذلك، إِذا لا توجد لديهم دواعى المعصية. وفرق بين من أَطاع وهو مجبول على الطاعة، ومن أطاع مغالبا دواعى المعصية. وعلى هذا الرأى ابن عباس وكثير من العلماء، ومنهم الزَّجَّاج. فإن قيل: كيف صدق آدم إبليس في دعوى الخلود، فاعتقده وسعى إِليه. وذلك كفر؛ لأنه يعلم أَنه لا خلود للبشر، فسوف يصعقون عند النفخة الأولى. فالجواب: أن الخلود الذي اعتقده آدم، وسعى إِليه، هو المكث الطويل، ولا كفر في طلبه وتصديق من يقول به ... ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 31. (¬2) سورة النساء، من الآية: 172

وعلى فرض أَنه الخلود الأَبدى .. يُجاب: بأَن آدم لم يكن يعلم - وقتئذ - أنه مقصور على الله تعالى. 21 - {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}: أَي وأقسم لهما - مبالغا في حلفه - إِنى لكما لمن الناصحين، فَكُلَا من الشجرة، واستَمِعَا كلامى. {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}. المفردات: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}: فأنزلهما إلى عصيان الله بخديعة. {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}: فظهرت لهما عوراتهما. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ}: وشرعا يجمعان. {مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ}: استقرار وتمتيع.

التفسير 22 - {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}: التدلية والإدلاء: إِنزال الشىء من أَعلى إلى أَسفل. وإِبليس قد فعل ذلك بآدم وحواءَ، إذ أَنزلهما - بوسوسته - من رفعة الطاعة، إِلى ضعَةِ المعصية .. وقيل: معنى (دلاَّهما): جرأَهما على العصيَان: من الدالَّة بمعنى الجُرأَة، فَأْبْدِلَ حرفُ التضعيف ياءً. والغرور: هو الخديعة. وسبب خديعتهما هو ظنهما: أَن أَحدا لا يقسم باللهِ كذبا، فلهذا صدَّقَاه فيها زعمه من أَن الأكل من الشجرة، يجعلهما مَلَكين أو من الخالدين. وقال بعض المحققين: إنهما لم يصدقاه. بل أَقدما على المنهى عنه بغلبة الشهوة والرغبة في الإِنسان، كما نُقْدِمُ نحن على الفعل الذي نشتهيه، إِذا زينه لنا أَحد من البارعين في الخديعة، وإِن لم نعتقد أن الأكل كما قال. ولعل كلام إِبليس من قبيل المقدمات المثيرة للشهوة. فلهذا نَسِيَا به المنهى الإلهى، فأَقدما على المنهى عنه بلا رؤية .... انتهى باختصار. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}: أَصل الخصف: خرز طاقات النعل ونحوها، بعد إِلصاق بعضها على بعض. والمراد من خصفهما ورق الجنة، هو جمعه وإِلصاق بعضه على بعض، بطريقة تستر العورة قيل: كان من ورق التين. وقيل: من ورق الموز. والله أعلم بالحقيقة. وفي الآية دليل على قيح كشف العورة على كلا الزوجين بلا حاجة، فما ظنك بكشفها على غيرهما؟! {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} ... الآية.

ودعاهما ربُّهما، لتشديد العتاب لهما، على مخالفة النهي، قائلا لهما: أَلم أنهكما عن الأَكل من تلك الشجرة التي أَكلتما منها، وأَقل لكما إِن الشيطان لكما عدوٌّ بَيِّنُ العداوة؟ وذلك القول حكته سورة طه كما يلي: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (¬1). وخلاصة معنى الآية - مجتمعة - ما يلي: فأنزلهما الشيطان عن طاعة الله إلى عصيانه، إِذْ أَكلا من الشجرة المحرّمةِ عليهما بسبب ما خدعهما به من فوائدها، وإِقسامه لهما إنه لمن الناصحين. فلما ذاقا ثمرة هذه الشجرة، ظهرت عوراتهما، بتنحية الله الثياب عنهما؛ عقُوبةً لهما. وشرعا يجمعان عليهما من ورق أَشجار الجنة، لاصقين بعضه على بعض، ليسترا به عورتيهما. وناداهما ربُّهما قائلا لهما - على سبيل العتاب - أَلم أَنهكما عن قربان هذه الشجرة وأَقل لكما - محذرا - إِن الشيطان لكما عدو ظاهر العداوة؟ فكيف خُدِعتما بإغوائه؟. 23 - {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: قال آدم وزوجه. ضارعَينِ إِلى الله، معترفينِ بخطيئتهما، مستغفريْنِ منها: ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفة نهيك وتصديق إِبليس، وتعريضها - بسبب ذلك - لسخطك وعقوبتك. وإِن لم تتجاوز عمَّا فرط منا، وترحمنا بالرضا والفضل - لنكونن من الخاسرين. واستدل بالآية بعضُ العلماءِ، على أن الصغائر يعاقَبُ عليها مع اجتناب الكبائر. فإن آدم لم يرتكب كبائر، فلمَّا فعل صغيرة الأكل من الشجرة المحرَّمة - احتاج إلى استغفار ربه ليغفرها له، فلو كان اجتناب الكبائر يكفى في غفران الصغائر، لا كان هناك داع لاستغفار آدم من زلَّة صغيرة. ¬

_ (¬1) سورة طه، من الآية: 117

ورُدَّ هذا الاستدلال، بأَن آدم إِنما طلب الغفران والرحمة مع صغير زلته استعظاما لها في حقِّ الله تعالى - كما هي عادة الصالحين - وإن كانت مكفرة باجتناب الكبائر وإن لم يتب عنها. وإلى هذا ذهب أَهل السنة والمعتزلة. وحمل الإِمام الرازى زَلَّة آدم الصغيرة على أنها وقعت قبل نبوته إِذ لا تجوز الصغائر والكبائر بعدها على الأنبياءِ. وكثير من أهل السنة، جعلوا طلبه الغفران لما وقع منه، من باب هضم النفس فإن ما وقع منه عن نسيان، فلا صغيرة فيه ولا كبيرة. وقد يقال لهم: إن كانت زلتهُ عن نسيان، فكيف يعاتبه الله عليها؟ وكيف يعاقبه بكشف العورة والإهباط من الجنة ولا عتاب ولا عقاب على النسيان، لأنه قهرى لا كسبى؟ فالظاهر: أَن النسيان في قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬1) بمعنى الإِهمال وترك العزم في تنفيذ ما كلفه الله به. 24 - {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: اختار الفراءُ: أَن الخطاب في الآية لآدم وحواءَ وذريتهما .... ولا مانع من خطاب الذرية وهي لم توجد بعد، لأَن خطاب الأبناءِ تابع لخطاب الآباءِ ولأن المنتظر، هو في حكم الموجود، كما في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}. (¬2) وقيل: الخطاب لآدم وحواءَ، لقوله تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (¬3). والقصة واحدة. والمراد بالجمع في قوله: (اهبطوا) ما فوق الواحد، أَو لأنهما أصل البشر، فكأنهما جميع الآدميين. ¬

_ (¬1) طه، من الآية: 115 (¬2) يس، من الآية: 41 (¬3) طه، من الآية: 123

والمراد بالعداوة في قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}: الظلم. كنا اختاره بعضُهم - والظلم ناشئ من حبَّ الذات ووسوسة إبليس. وخلاصة معنى الآية: قال الله تعالى لهما: أهبطوا من الجنة أَنتما وذريتكما - تبعا لكما - بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض استقرار وتمتع بنعمائه تعالى، إِلى حينٍ تنتهى فيه أَعماركم. 25 - {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}: قال الله أيضا لآدم وحواء وذريتهما: في الأرض تحْيَوْنَ الحياة المقررة لكل منكم وفيها تموتون عند انقضاءِ آجالكم، ومنها تُخْرَجون إلى الحشر عند بعثكم. {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}. المفردات: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} أي خلقناه لكم بأَسباب أنزلناها من السماءِ كالمطر وحرارة الشمس وأَشعتها، أَو ألهمناكم طريقة صنعه، وسيأْتى مزيد بيان بذلك: {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} يستر عوراتكم {وَرِيشًا} المراد به هنا اللباس الفاخر "وقبيله" وجماعته.

التفسير 26 - {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ ... } الآية. هذا خطاب من الله تعالى إِلى الناس كافة. واللباس مخلوق في الأرض، وعَبَّر عن الإنعام به بإنزاله، لصدوره عن الله العلىّ الشأن إلى خلقه. ونظيره قولك: رفعت حاجتى إلي الأمير، ولا رفع في الحقيقة. وإِنما المقصود به التعظيم. قال أبو مسلم: كل ما أَعطاه الله إلى عبده، فقد أَنزله عليه، من غير نظر إلى نقله حقيقة من علو إِلى أَسفل. والمقصود منه التعظيم: أهـ. ومثله قوله تعالى في سورة الحديد: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (¬1). وقيل: معنى {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}: خلقناه لكم بأسباب سماوية، كالمطر الذي ينبت ما يصنع منه الثياب كالقطن. وقيل: المراد قضيناه لكم. والقضاءُ يَنزل من السماء فهو مكتوب في اللوح المحْفوظ. ومعنى {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}: يستر عوراتكم التي تسبَّب إِبليس في كشفها عن أبويكم، حتى اضطرا إلى سترها بأَوراق الشجر، وقد أَغنيناكم عن ذلك ... فالآية واردة على سبيل المنة على أَبناءِ آدم، بعد ما فعله إِبليس بأَبيهم. ولذا ختمت بوجوب اتعاظهم وتَذَكُّرِهم. وقد هدى الله آدم وذريته، إلى المواد التي تصنع منها الملابس، وطريقة الحصول على تلك المواد، وكيفية صنع الملابس منها، على اختلافها، بما أَلقاه في خواطرهم من أسباب المعرفة. فله الحمد على تلك النعمة الساترة للعورات، الحافظة للأجسام، المُضْفِيَةِ للجمال. {وَرِيشًا}: أَي وأنزلنا عليكم ريشا. والريش اللباس الفاخر. {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}: التقوى: الخشية من الله، المستتبعة للأعمال الصالحة. وإِضافة اللباس إِليها؛ لأنها تقى صاحبها من النار، كما يقى اللباس صاحبه من الحر والبرد. فإذا اتقى العبد ربه، ستره من المعايب في الدنيا، ومن العقوبة في الآخرة. ¬

_ (¬1) الحديد، من الآية: 25

[هل نرى الجن]

وخلاصة معنى الآية، ما يلي: يا بنى آدم، قد أنزلنا عليكم، مِن علياء فضلنا، لباسا يستر عوراتكم، وآخر فاخرا تتجملون به فما بينكم. ولباس الخشية من الله. خير لكم مما عداه، لأَنه يقيكم من عذاب الله. ذلك الذي منحناه بني آدم - من أَي نوع كان - هو من آيات الله الشاهدة بقدرته، وفضله ورحمته، لعلهم يتعظون فيتورعون عن معاصيه. 27 - {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ... } الآية. كرر النداءَ لبنى آدم، لأهمية الوصية والوصى لهم. والمعنى: يا بني آدم لا يوقعنكم الشيطان في الفتنة والمحنة بوسوسته بتزيين القبيح وتقبيح الحسن، فَتُحْرَمُوا الجنة وتدخلوا النار - فاحذروا أن تفتتنوا بوسوسته فتعاقبوا .. كما فتن أبويكم آدم وحواء، فأَخرجهما من الجنة بسبب اتباعهما إياه، بعد ما تسبب في نزع لباسهما عنهما ليريهما عوراتهما. وكشف العورات إهدار للآدمية، وإخلال بمستوى البشرية. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}: القبيل: الجماعة. والمراد بقبيل إبليس: جنوده من الجن. وهذه الجملة تعليل للنهى، عن الافتتان بالشيطان، وتأكيد للتحذير منه. فإن العدو إذا كان يستطيع الوصول إليك من حيث لا تراه، كان جديرًا بك أن تحذره أشد الحذر. فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم. فاحذروا خفىّ مكره ومكر قبيله، حتى لا تقعوا في حبائلهم. {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}: إنا جعلنا الشياطين قادة للذين لا يصدقون باللهِ ورسوله، يتولون إغواءهم بسبب إصرارهم على إهدار عقولهم، وإفسادهم فطرة ربهم. [هل نرى الجن] استدل بعض العلماء، بهذه الآية على أن الإنس لا يَرَوْن الجن. وانفسم القائلون بذلك، إلى عدّة فِرق: إحداها: تقرر عدم رؤْيتهم على حقيقتهم، أو متمثلين في أَية صورة.

وبذلك يقول المعتزلة. ومن أَدلتهم: أن القول بقدرتهم على التمثل أَمام بني آدم، يرفع الثقة بحقائق الأشياءِ فمن رأى ولده مثلا، يحتمل أَن يتخيَّل أَنه رأَى جنيًّا، كما أن رؤيتهم - على حقيقتهم - متعذرة لشفافيتهم. وثانيتها: تقول: باستحالة رؤيتهم على حقيقتهم فقط. وأُولئك هم الأَشاعرة. وحجتهم: أَن الله لم يخلق في عيون البشر قدرة على رؤيتهم بحقيقتهم. أما رؤيتهم متمثلين، فجائزة - عند الأشاعرة - مطلقا. وقال النحاس: لا يراهم أحد على حقيقتهم، وإنما يُرَوْن إذا نُقِلوا عن صورهم. ورؤيتهم متمثلين مقصورة على عصر النبوة فحسب؛ لأَنها من المعجزات للأنبياء. فلا تكون إلا في عصرهم، كما حدث لسيدنا سليمان عليه السلام. وقال القشيرى: "أجرى الله العادة، بأنَّ بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الصحيحينِ وغيرهما: "إِنَّ الشَّيْطانَ يَجرى مِن ابنِ آدم مَجْرَى الدَّم". وقال تعالى: "الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناسِ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للمَلَك لَمَّةً، وللشَّيطانِ لَمَّةً .. فأَمّا لَمَّة الملَك فإيعاد بالخير، وأَمَّا لَمَّة ألشيطان فإيعاد بالشَّرِّ وتكذِيبٌ بالحقِّ" أ. هـ". والقشيرى بإنكاره رؤيتهم المطلقة، يذهب مذهب المعتزلة. ويرى كثيرٌ من أهل السنة أن رؤيتهم ممكنة وحاصلة فعلًا. ويشهد لذلك أن عِفْريتًا تَفلَّتَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشغلَه عن صلاته. فأمكنه الله تعالى منه، وأَراد أن يربطه في سارية المسجد، ثم عدل عن ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الناس، الآية: 5.

فقد أَخرج الإِمام مسلم - بسنده - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "واللهِ لَوْلَا دعوة أَخى سليمان لأصبحَ موثقًا يَلعبُ بهِ وِلدانُ أهلِ الدينةِ " ودعوة سليمان هي قوله: " قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِى لِأحَدٍ من بَعْدِىَ" (¬1). وخرّج البخاري عن أبي هريرة قال: "وكلنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِحفظ زكاة رمضان" وحكى قصة طويلة ذكر فيها أَنه أخذ الجنىَّ الذي كان يأْخذ التمر، وأَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ما صنع أَسيرُك البارحةَ" (¬2)؟ أمَّا ما ورد عن الإمام الشافعى من أنه قال: مَنْ زَعم أَنَّه رآهم رُدَّت شهادتُه وعُزِّرَ؛ لمخالفة القرآن؛ فمحمول على مَنْ زعم رؤيتهم على صورتهم الحقيقية، وهم متشكلون - يقول بها أَهل السّنة، والشافعى من خيارهم. وأما القول بأَن رؤيتهم متشكلين، يرفع الثقة بحقائق الأشياءِ، فيجاب عنه: بأَن الله تعالى، كَفَل - لهذهِ الأمة - أَن يرفع عنها مثل ذلك، لاستلزامه الرِّيبة في الدين، ررفع الثقة بالعلماء، لاحتمال أن يكونوا متشكلين من الجن. فاستحال - شرعا - الاستلزام المذكور. وأما استحالة رؤيتهم لِلَطافَتهم، وأن الله لم يقدر العيون على رؤيتهم بهذه اللطافة إِذا ظهروا على حقيقتهم - فيجاب عنه: بأَن ذلك مُسَلَّم، فيما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذ لا مانع أن يخلق الله في بصره - عليه السلام - قوَّة يقدر بها على رؤيتهم على حقيقتهم، كما أقدره على رؤية جبريل على صورته الحقيقية. وقد عمّ الناسَ - قديما وحديثا - القول برؤيتهم متشكلين، وأَصبح هذا حقيقة واقعة معترفا بها في جميع أَنحاءِ العالم. والآية الكريمة مؤولة بأنها لتمثيل دقيق مكرهم وخَفِىِّ حيلهم. وليس المقصود بها نفى رؤيتهم حقيقة. ¬

_ (¬1) سورة ص، من الآية: 35 (¬2) راجع جـ 7 من القرطبى ص: 187

{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}: إِنا خلَّينا بين الشياطين وبين الذين لا يؤمنون، فكانوا لهم أَولياءَ وقادة، بسبب غفلتهم وسوءِ نياتهم وعماهم عن الهدى. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}. المفردات: {فَاحِشَةً} هي الفَعلة الشديدة القبح. ومثلها الفحشاء. {بِالْقِسْطِ} القِسط - بكسر القاف - العدل. وهو التوسط في الأْمور. وضدّه القَسط - بفتح القاف - فهو الظلم. {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: المراد بالوجوه: الأنفس. وبإقامتها: التوجه إِلى الله تعالى وبالمسجد: مكان العبادة، أَو زمانها. {الدِّين}: المراد منه هنا: الطاعة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 129

التفسير 28 - {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ... } الآية. وإِذا فعل العصاة - الذين لا يؤْمنون - سيئة شديدة القبح كعبادة الأوثان، وكشف العورة في الطواف - قالوا محتجين لمن نهاهم عنها: وجدنا آباءَنا مواظبين عليها .... والله أمرنا بها. وجوابهم هذا، يدلّ على أَنهم جعلوا تقليد الآباءِ، شريعةً متَّبعة لهم، وتقديمهم ذلك على أمر الله تعالى في الاحتجاج، يؤْذن بأنه - في نظرهم - أهم منه. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: قل لهم - أيها الرسول - إِن الله لا يأمر بالفحشاءِ والقبائح. وإِنما يأْمر بمحاسن العقائد والأعمال. فهو الحكيم. فكيف تنسبون إِليه تعالى ما لا يصحُّ ولا يليق من العقائد والأعمال؟ أَتقولون على اللهِ ما تجهلون، فتهلكون بنسبة الزور والبهتان إِليه سبحانه؟ وهذا ردُّ لحجتهم الثانية. وقد أَغفل الله الرد على حجتهم الأُولى، وهي: تقليد الآباءِ فيما اعتقدوه وما فعلوه؛ لظهور فساد الاحتجاج بها. وقيل: يجوز أن يكون قوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، ردًّا على الحُجَّتين جميعًا، فإنّه إذا كان اللهُ لا يأمر بالفحشاءِ، بل يأمر بالمحاسن، فكيف يتركون اتباع أَمره، إِلى اتباع آبائهم، فيما يقبح عقلا؟! 29 - {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: قل لهم - أَيها الرسول - أَمَرَ رَبى بالعدل. وهو التوسط في الطاعات بين التفريط والإفراط. فاستقيموا على ذلك، واتجهوا بأَنفسكم نحو الله تعالى عند كلّ مسجد تتعبدون فيه، ولا تنصرفوا عنه إلى سواه. واعبدوه مخلصين له الطاعة.

ومن العلماء من فسَّر قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: تَوَجَّهُوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إِليها في صلاتكم. وهي الكعبة، في أي مكان كنتم ... والظاهر أن الوجه الأول هو المقصود من الآية. وخلاصته: توجهوا بنفوسكم وقلوبكم إِلى الله تعالى - وحده - للعبادة، فإنهم كانوا يتجهون بها إلى الأصنام. ولذا عقبه الله بقوله: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. أمَّا الأمر بالاتجاه إِلى الكعبة، فلا يساعد عليه المقام. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}: أي: كما أنشأَكم ابتداءً - من غير مثال سبق - تعودون إليه انتهاءً. 30 - {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}: أي: فَريِقين؛ فريقا هداهم الله إِلى الحق، واستحقوا بذلك المثوبة بالجنة. وفريقا ثبتت عليهم الضلالة، واستحقوا العقوبة بالنار. ومعنى هداية الله للعبد، توفيقه إِياه، عندما أخذ بأسباب الحق مخلصا. والهداية المذكورة، قد تكون من البداية إلى النهاية، وقد تكون في النهاية بعد بداية غير صالحة. نسأَله - تعالى - حسن الختام. ثم علَّل ثبوت الضلالة. وآثارها عليهم بقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}: أي: وفريقا ثبتت عليهم الضلالة وآثارها؛ لأنهم اتخذوا الشياطين أولياءَ وقادة لهم في أمور دينهم، فأطاعوهم من دون الله، وهم يظنون أنهم - بذلك - مهتدون. وفي الآية تحذير شديد من الوقوع في المعاصي، بأنهم - أَي العصاة - عائدون إلى الله تعالى، لحسابهم على أَعمالهم.

{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. المفردات: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: عند بمعنى: في. ومسجد مصدر ميمى بمعنى السجود. مراد منه الصلاة. أَو هو اسم مكان سماعى للسجود بمعنى الصلاة - أي عند كل مُصَلّى - وهو في كل ذلك مجاز - من إطلاق الجزءِ على الكل. {وَلَا تُسْرِفُوا}: أي لا تتجاوزوا الحد الوسط. {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} المراد بالطيبات: المستلذات. أَو ما أحلَّه الله تعالى. {الْفَوَاحِشَ}: قبائح الذنوب. {سُلْطَانًا}: حُجَّة وبرهانًا. التفسير 31 - {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } الآية. بعد أَن بيَّن الله تعالى - في الآيات السابقة: أنه لا يَشرع الفواحش، وأنه يأْمر بالعدل، وهو التوسط في الأْمور، ويأمرنا بالاتجاه إليه - وحده - في العبادة، وبيّن أَن

الناس فريقان يوم القيامة: مهديون طائعون، وضالُّون عاصون ... وكل بسبب نيته وعمله - بعد أَن بيَّن هذا - عقَّبه، ببيان بعض ما شرعه الله وحرَّمه ... ومن ذلك أن يقولوا على الله ما لا يعلمون. ومعنى هذه الجملة ما يأتى: يا بنى آدم، تجمَّلوا بزينتكم للصَّلاة في كل مصلّى، إِجلالًا لربكم الذي تقفون بين يديه في صلاتكم. فهو - سبحانه - أَحق بذلك من الملوك والرؤَساءِ، الذين يتجمل الناس للوقوف بين أيديهم .... وبهذا المعنى، أخذ جماعة، منهم الحسن بن علي رضي الله عنهما، إذ كان يلبَس أَجود ثيابه إذا قام إِلى الصَّلاة، ويقول: "إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" (¬1) فأنا أَتجمل لربى وهو يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. والأَمر بذلك للندب، إِذ الواجب ستر العورة بأَى ساتر. والزينة شاملة للثياب الجميلة، والتمشط والتطيب، وغير ذلك، ممَّا ورد في السُّنة المطهرة أو شمله عموم اللفظ، ممَّا لا إسراف فيه. وقيل: إن معنى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}: إِلبسوا ثيابكم لستر عوراتكم عند كلّ صلاة أو طواف. فالمسجد - بمعنى السجود - مجاز عن الصلاة والطواف، فإن السجود لغة؛ الخضوع، وهو شامل للصَّلاة والطواف. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وغيره، لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما: أَنه كان هناك أُناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراةٌ حتى النساءِ، فنزلت الآية ليستتروا. والأَمر على هذا، للوجوب. ولكن هذا الرأْى لا يتفق مع ظاهر الآية. ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث رواه مسلم وغيره.

ولو كان الأمر كذلك، لقيل: خذوا ثيابكم، أَو استروا سوءَاتكم عند كل مسجد. وبما أنه طلب في الآية أَخْذَ الزينة، فذلك أَمر تَجاوَزَ طلبَ السترِ، إِلى ما هو أكمل منه، وهو التجمُّل ... فمن تجمّل بالثياب فقد ستر عورته وزاد التجمل ... {مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}: هنا، أكثر علم الصحة والاقتصاد، ملخصا موجزا في بضع كلمات .... والمعنى: وكلوا واشربوا ما طاب لكم، ولا تسرفوا بالتعدى إِلى الحرام، أَو بتحريم الحلال. أو الإفراط فيه. إن الله لا يحب المسرفين. قيل: كان أَهل الجاهلية: يحرمون الدسم وما زاد على القوت الضرورى، أيام حجّهم تعظيما له - فنزلت هذه الآية، لإباحة ذلك، والنهي عن الإسراف. والظاهر: أن الآية قاعدة عامة، تتناول الحجَّ وغيره. نزلت ناهية عن الإفراط والشرَه، في الطعام والشراب، فإن في ذلك أضرارا كثيرة. أَخرج أبو نعيم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال: "إِيَّاكم والبطنة من الطعام والشراب، فإنها مَفْسَدة للجسد، مورثة للسَّقَم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أَصلح للجسد وأَبْعَدُ عَن المسرف، وإِن الله ليبغض الحبر السمين. وإِن الرجل لن يهلك، حتى يؤثر شهوته على دينه". وإِنما يكره الله الحبر السمين، لأَن المطلوب من أهل العلم، التقلل في الطعام والشراب وإيثار الآخرة على الدنيا، وطلب السلامة للجسد. أما العالِم المسرف في طعامه وشرابه، المستكثر من الدسم، فهو مؤْثر لشهوة بطنه، مهتم بدنياه عن آخرته. فلذا يكرهه الله تعالى، لأَنه بذلك أسوأُ قدوة لغيره. ولعل الغرض: أَن الله يكره له ذلك، لا أَنه يبغضه فعلا، فإن الله لا يبغض سوى أَهل المعاصي. وقد أجمع الأَطباءُ - قديما وحديثا - على أَن المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواءِ، وأن الدواء قلَّما ينفع مع عدم الحمّية. وكثيرا ما اعتمد حكماءُ الهند على حمية المريض أَياما، فَيَصِحُّ جسمه بدون علاج آخر.

واختلف في تناول القَدْر الزائد عن الحاجة ... فقيل: حرام. وقيل: مكروه. قال ابن العرب: وهو الصَّحيح. وقدر الشبع يختلف باختلاف البِلدان، والزمان، والسنّ، والأَشخاص. والأفضل: التقليل الطَّعام، فإن فيه السلامة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنه ... بحسْب ابن آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يقمن صلبه .. فإن كان لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه" (¬1). قال بعض العلماء: لو سمع أَبقراط هذه القسمة، لعجب من هذه الحكمة!! ونحن نقول: ما أَعظمَ حكمةَ سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في هذا الدستور، الذي وضعه لحماية الجسم البشرى من شَرَهِ جَهَازِهِ الهضمىِّ فإنَّ الأكل الكثير يورث التخمة، ونتن الفم، والجَشاء؛ لتخمُّر الطعام وفساده، وذلك يستتبع شتَّى العلِل. وقد يموت المرءُ بسكتة قلبّية بسبب امتلاء بطنه، وضغطه على القلب. فلذا ينبغي اتباع هذا الطب النبوى الذي اشتمل عليه الحديث السابق، لتجتنب المعاطب. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}: أي لا يرضي الله تعالى عن إسرافهم، ويكرههم من أجله. والجملة تعليل للنهى عن الإسراف .. وقد جمعت هذه الآية وجوه البلاغة وأُصول الأَحكام، باشتمالها على الأمر والنهي والإباحة والخَبَر، كما جمعت - في نصفها - الحكمة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدى كرب.

تنبيه: ذهب بعض العلماءِ إِلى أن النهي عن الإِسراف، يشمل: اللباس أَيضا، وهو رأى عكرمة وابن عباس أَيضا. فقد أخرج ابن أَبي شيبة، وكذا البُخارى تعليقا قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "كُلْ ما شئت، والبَسْ ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ وَمَخِيَلَةٌ" والمَخِيلة: الكِبر. 32 - {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}: قل يا أيها الرسول لقومك: مَن حرّم زينة الله التي خلقها لنفع عباده وتجملهم؟ ومَن حرَّم الطيبات من الرزق؟ والطيبات من الرزق: ما طاب طعما وكسبا. واستُدِلَّ بهذه الآية: على أن الأَصل في المطاعم وأَنواع التجملات: الإباحة، لأَن الاستفهام في (مَنْ) لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. كما استدل بها من قال بحل لبس الحرير والخزِّ للرجال، نظرا لعمومها. رُوِى عن علي زين العابدين رضي الله عنه، أنه كان يلبَس كِسَاءَ خزٍّ بخمسين دينارا .. يلبسه في الشتاءِ - فإذا كان الصيف تصدق به، أو باعه وتصدق بثمنه .. وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر، مُمَشَّقَيْن (أي مصبوغين بالمَشْق. وهو صبغ أحمر) ويقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. كما روى أَن الإِمام الحسين رضي الله عنه، أصيب وعليه جُبةُ خَزٍّ، والخزُّ: نوع من الحرير. والذي ينبغي التعويل عليه: أن إِطلاق الإباحة هنا، مقيَّد بأَدلة التحريم لبعض ما دخل فيه، كلبس الذهب والحرير للرجال، فقد حُرِّما بالسُّنة النبوية. والتجمُّل بالحلال مستحب. ففي صحيح مسلم، عن ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن في قلبه مثقال ذرَّة من كِبْر" فقال رجل: إِنَّ الرجلَ يُحبُّ أن يكون

آراء العلماء في طيبات الرزق

ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُه حَسَنًا: قال: "إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ .. الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ". وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُعْنَى بزينته في حدود التقشف. روى مكحول، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان نفر من أصحاب رسول الله ينتظرونه بالباب، فخرج يريدهم وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوّى لحيته وشعره .. فقلتُ: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: "نعم، إذا خرج الرجل إِلى إخوانِه فليهيىء من نفسه ... فإِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ". وكذلك كان يفعل الصحابة والتابعون. فهذا ابن عباس عليه رضوان الله تعالى لمَّا بعثه علىّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه، إلى الخوارج، لبس أفضل ثيابه، وتطيَّب بأَطيب طيبه، وركب أحسن مراكبه، فلما رأَوه قالوا: يا ابن عباس: بَيْنَا أَنت خير الناس، جئتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم؟ فتلا هذه الآية. وهذا أبو حنيفة - رضي الله عنه -، كان يرتدى بردا قيمته أَربعمائة دينار!! وكان الحسن - رضي الله عنه - يقول: "ليس البِرُّ في هذا الكساء - يعني الكساءَ الخشن - إِنما الِبرُّ ما وَقَرَ في القلب، وصدقه العمل". قال أبو الفرج الجوزى: "كان السلف يتخيرون أجود الثياب: للجمعة، والعيد، ولقاءِ الإخوان. وقال: إِن اللباس الذي يزرى بلابسه، ويقصد منه إظهار الزهد والفقر، لهو لباس الشكوى منه تعالى ... وهو موجب للاحتقار ... وهذا مكروه. وقال: إِن السلف لم يكونوا يلبسون المرقعات إِلا للضرورة". آراء العلماء في طيبات الرزق قد علمتَ أَن طيبات الرزق، ما طاب طعما وكسبا، وأَن الله تعالى لم يحرمها، بل أَباحها تَنَاوُلًا وتركا. ولكن العلماءَ اختلفوا في درجة الإباحة.

فمنهم من قال بتساوى التناول والإِعراض. ومنهم من قال: الإعراض عنها أَفضل، فهو قربة من حيث إِنه يؤدى إلى الزهد في الدنيا، ليتفرغ للعمل للآخرة، وما يؤدى إلى ذلك يكون مندوبا، والإقبال عليه يكون مكروها، لأَنه يشغل عن الآخرة، ولقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬1). ومنهم من قال: إن حَضَرتْ بلا كُلْفَةٍ فلا كراهة، وإلا كرهت ... وصححه أبو الحسن المقدسي. وعلَّل تصحيحه بأَنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، امتناع عن الطعام لأَجل طيبه. بل كان يأكل العسل، والحلوى، والبطيخ، والرطب، وإنما يكره التكلف، لما فيه من التشاغل بشهوات الدنيا عن مهمات الآخرة. {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: هذا تصريح بِحِلِّ الزينة وطيّبات الرزق ... بعد ما فهم - استلزاما وإشارة - من إنكار تحريمهما السابق ... جىءَ به لتأْكد الحِلِّ .. قل أَيها الرسولَ: زينةُ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزقِ، مباحة للذين آمنوا في الحياة الدنيا: في الحج وغيره. خالصة من العقوبة يوم القيامة فلا وجه لتحريمهما كما فعل أهل الجاهلية. وتخصيص تحليلها بالمؤمنين، مع أَن لغيرهم حق الانتفاع بها؛ لأَن هذا تشريع. والتشريع يوجّه إلى المؤمنين ليعملوا به. ولا يتحرجوا متأثرين بعادات الجاهلية، ولأنه أكَّدَ حِلّها مرة ثانية، فوصفها بالخلوص من العقوبة يوم القيامة .. وذلك خاص بالمؤمنين .. إذَّ الكافرون يعاقبون على التقصير في شكرها بترك الإيمان ... وبعضهم فسَّر الآية بقوله: قل هي - بالأَصالة - للذين آمنوا في الحياة الدنيا؛ لمزيد كرامتهم، والكافرون تبع لهم، خالصة للمؤمنين يوم القيامة: لا يشاركهم فيها غيرهم. وما قلناه - أَوَّلًا - أولى. فإن الآية مسوقة للردِّ على الكافرين في تحريمهم لها في الحجِّ، وتأْثيم من يتعاطاها. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، من الآية: 20

وذلك التفسير يبعدها عن هذا الاتجاه ويخالف ظاهرها. {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: مِثل ذلك التفصيل البَيِّن، نفصِّل الآيات لقوم يفهمون فيعملون بما فهموا .. 33 - {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: قل لهم - أيها الرسول - ما حرّم ربي سوى ما اشتدَّ قبحُه من المعاصي، وما يوجب الإثم من مطلق الذنب (¬1)، وحرّم البغى (¬2) على الناس بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما يستحيل أن يكون له حجة أو برهان، فإن الشرك بالله ظلم عظيم. كما حرَّم أن تقولوا على الله - في الأَحكام والصفات (¬3) - ما تجهلون. أمّا التجُّمل بالثياب، وتعاطى لذائذ الطعام والشراب، فليس مما حرَّمه ربِّى. وتقييد البغى بغير الحق، إخراج البغى بالحق، وهو ما كان عقوبة لمن بغي أولا .. وإطلاق البغى عليه للمشاكلة (¬4). {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}. المفردات: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الأُمة: الجيل من الناس. والأَجلُ: مدّة الشىء. وتد يطلق على غاية الوَقْتِ في الموت وغيره. والمراد به هنا، وقت يموتون فيه وتنتهى به حياتُهم. {لَا يَسْتَأْخِرُونَ}: لا يتأخرون. {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}: ولا يتقدمون. ¬

_ (¬1) هذا تعميم بعد تخصيص. (¬2) وإفراده بالذكر مع دخوله في الفواحش أو في الإثم للبالغة في الزجر عنه. (¬3) كقولهم بتحريم ستر العورة في الطواف، وبوجوب عبادة الأوثان وإسناد شرع ذلك إلى الله. (¬4) والمشاكلة هي التعبير عن الشىء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته، وهي لون من ألوان البديع.

التفسير 34 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}: في الآيات السابقة، حثَّنا الله تعالى، على اتخاذ الزينة عند الصلاة، اعتناءً بشأْنها، كما حضَّنا على عدم الإسراف في الأكل والشرب، وفي الأمر كلّه. وبيَّن لنا - سبحانه - أَنه لم يحرّم الزينة والطيبات من الرزق في حدود الاعتدال. وذكر أَنه مما حرّم إِلَّا الإِثم والبغى والإِشراك باللهِ تعالى، وأَن يقول أَحد عنه - عزَّ وجلَّ - ما لا يَعْلَمُ -. وجاءَت هذه الآية، لتبيّن أن مصير الناس إلى الموت، لكي يحذروا حساب الآخرة فيما أحلّ الله لهم وما حرّم. والمعنى: ولكلّ جيل من الناس، وقت ينتهى إِليه عمر كلّ واحد منهبم، بخيره وشرّه. فإذا جاءَ هذا الوقت، فلا يتقدم عنه أحد منهم زمنا، ولو كان قليلًا، ولا يتأَخر عنه زمنا كذلك. فآجال العباد موقوتة. وموافاتها في حينها محتومة. والله غالب على أَمره .. فلتنظر كل نفس ما قدمت لغد. {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}. المفردات: {يَقُصُّونَ}: يتلون. {وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا}: وتعالَوْا عليها، فلم يقبلوها.

التفسير 35 - {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... } الآية. بعد أن بيَّن الله أَن الموت نهاية كل حىّ - عقبه بمخاطبة بني آدم - تنبيها لهم أَن رسُلَهُ إذا جاءَتهم وأَنذرتهم حساب هذا اليوم، فعليهم أَن يتَّقوا الله ويصلحوا، لينجوا من عقابه، وينعموا بثوابه. والمعنى: يا بنى آدم - إِن يأْتكم رسل من جنسكم: يعرِّفونكم آياتى، ويعرضون عليكم شرائعى، فاستجيبوا إِلى ما يدعونكم إِليه، فإِن من اتَّقى الله تعالى فآمن بهم، وأصلح عمله - وفْقَ ما جاءُوا به عن الله تعالى - فلا خوف عليهم من مكروهٍ ينالهم في الدنيا والآخرة، ولا هم يحزنون على فوت ثوابٍ لصالح أعمالهم. واعلم أن الآية خطاب لكافة الناس. يؤذن بالاهتمام بما يليه. والمحققون على أنه حكاية إجمالية لا وقع من خطاب الله لكل أمَّة من أُمم الرسل. وليس خاصا بأُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. و (ما) في قوله: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} للتأكيد، وليست نافية. 36 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. المعنى: والذين جحدوا آياتِنا، وتعالَوْا عليها - مع وضوحها - فكذّبوا الرسلَ الذين جاءُوهم بها - أُولئك الجاحدون المكذِّبون - هم أَصحاب النار، الملازمون لها، وهم فيها خالدون .. لا يبرحونها. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}.

المفردات: {افْتَرَى}: اختلق وادعى، {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}: حظُّهم ممَّا كتبه الله لهم في الدنيا من النِعَم فلا يحرمون منها مع كفرهم، {ضَلُّوا عَنَّا} غابوا عنا ولم ينفعونا. التفسير 37 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}: افتراءُ الكذب: اختلاقه. والاستفهام في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} للإنكار. والغَرَضُ منه: النفى. والمعنى: لا يوجد أَظلم ممن افترى على الله تعالى الكذب، أَو كذَّب بآياته. وكما أَنه لا يوجد أظلم منه، لا يوجد مَنْ يساويه. فالمراد: أنه أظلم من كل ظالم .. والتكذيب بالآيات يتناول: إِنكار الآيات المنزلة على الرسل، ونفى نزولها من عند الله، كما يتناول عدم الاعتراف بدلالة الآيات الكونية على وحدانية الله تعالى، وسائر صفاته. {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}: المقصود من نصيبهم من الكتاب: حظّهم مما كُتِبَ لهم من الأرزاق والأَعمار. والمعنى: أَولئك المفترون المكذِّبون، ينالهم - في الدنيا - حظهم ممَّا كتبه الله وقدَّره، من الأَرزاق والأَعمار لعباده. فلا يحرمون منه مع كفرهم. ثم يعَقِّب الله تعالى، ذلك، ببيان أن أَمرهم - في الآخرة - مخالف لذلك فيقول: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. أي هم يظلون متمتعين بنصيبهم مما كُتب لهم من الأَرزاق، غير ناظرين إلى عاقبتهم. حتى إذا جاءتهم رسلُنا من الملائكة: يقبضون أرواحهم، قال هؤلاء الملائكة لهم يوبّخونهم: أَين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتحميكم ممّا ينتظركم من العذاب؟ ثم يحكى الله ردَّهم على هذا التوبيخ فيقول: {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.

أَي: قال الكافرون، ردًّا على هذا التوبيخ: غاب آلهتُنا عنا في ساعة المحنة، فلم نعد نراهم .. وأَيقنوا - من هذا - أَنهم خدعوا فيهم، وشهدوا على أنفسهم أَنهم كانوا في دنياهم كافرين بربِّهم، حين عبدوا مِن دونه أُولئك الضَّالين. ثم يحكى الله تعالى ما سيقوله لهم بعد اعترافهم بكفرهم، فيقول سبحانه: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)}. المفردات: {خَلَتْ}: مضت. {لَعَنَتْ أُخْتَهَا}: ذمَّتها، واتهمتها بإِضلالها. {ادَّارَكُوا}: تلاحقوا. {ضِعْفًا}: الضِّعف هو المِثلُ إلى ما زاد. التفسير 38 - {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}: قال الله لهؤلاءِ الكافرين - بعد اعترافهم بكفرهم - ادْخُلُوا النَّارَ بين أُمم كافرة قد مضت من قبلكم - أيها الكافرون - من الجن والإنس.

ثم يبيّن الله حالهم حينما يدخلون النَّار فيقول: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}: اللعن هنا، بمعنى الذم والدعاء بالطرد عن رحمة الله تعالى. والمعنى: كلّما دخلت في النار جماعة كافرة، ذمَّت أُختها، أَو دعت عليها. بزيادة الطرد عن رحمة الله وزيادة العذاب في جهنم فتلعَن التابعةُ المتبوعةَ، لإِضلالها إيَّاها، وتلعن المتبوعةُ التابعةَ، لتسبّبها في زيادة ضلالها. وهكذا تتبادلان اللعنات. ثم يبيّن الله حال المتبوعين والتابعين بعد هذا التلاعن والاجتماع في النار فيقول: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}: أَي يدخلون فوجا فوجا: يكفر بعضُهم ببعض. ويلعن بعضُهم بعضًا. حتى إذا تلاحقوا في النار واجتمعوا فيها، قالت أخراهم في المنزلة - وهم الأَتباع - في حقِّ أَولاهم مقاما - وهم القادة (¬1) - ربنا هؤُلاءِ أَضلونا عن الهدى، فآتهم عذابا مضاعفا من النار - لضلالهم وإِضلالهم. ثم حكى الله تعالى ردَّه عليهم قائلا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ}: قال الله للأتباع: لكل منكم ومن المتبوعين عذاب مضاعف .. فالأتباع: لضلالهم وتقليدهم لرؤسائهم، دون تدبّر للعواقب. والقادة: لضلالهم وإضلالهم تابعيهم .. ولكن لا تعلمون ذلك. فلهذا طلبتم المضاعفة لرؤسائكم، مع تساويكم في فظاعة الإثم. ثم يحكى الله ردّ رؤسائهم عليهم فيقول: ¬

_ (¬1) وقيل: المعنى، قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك.

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}. التفسير 39 - {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: وقالت أُولاهم - وهم الرؤساءُ المتبوعون - لأُخراهم - وهم المرءُوسون التابعون لهم - بعد ما سمعوا جواب الله لهم - فيما كان لكم علينا من رجحانٍ يقتضي تخفيف عذابكم عنا .. فنحن وأَنتم متساوون في مقدار الذنب، واستحقاق مضاعفة العذاب. فذوقوا - مثلنا - العذاب المضاعف، بسبب ما كنتم تفعلونه كل من الكفر والانقياد لنا .. ومن هنا، يتبيّن أن التقليد في عقائد الناس وآرائهم - بدون رويّة - عظيم الخطورة .. فلا بدّ - لكلِّ عاقل - من التدبر قبل الاعتقاد، ضمانا للسلامة. {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}. المفردات: {يَلِجَ الْجَمَلُ}: يدخل البعيرُ، ويطلق الجمل أَيضا على الحبل الغليظ. {فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}: في ثقب الإبرة.

{مِهَادٌ}: فراش وأصله ما يمهد للطِّفل لينام عليه. {غَوَاشٍ}: أَغطية تغشاهم. أي تغطيهم: جمع غاشية. التفسير 40 - {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ... } الآية. بعد أن بين الله - في الآيات السابقة - أن مصير الكافرين النار - تابعيهم ومتبوعيهم - جاءَت هذه الآية الكريمة، لإقناطهم من دخول الجنة. والمعنى: إن الذين كذَّبوا بآياتنا، المثبتة لوجود الله ووحدانيته، وسائر صفاته العليَّة، والدَّالة على صدق الرسل وصحة المعاد والجزاء، وبالغوا في الاستكبار عن الإيمان بها والالتفات إِليها - أُولئك المكذِّبون المستكبرون - لا تفتح - لأَدعيتهم وأعمالهم - أبوابُ القبول في السماء .. أو لا تفتح لأَرواحهم - بعد قبضها - أبواب السماءِ لتتصل بالملائكة، وتنعم بالراحة وتقابَل بالترحيب، كما هو شأْن المؤمنين .. بل يُقال لها عند اتجاهها إليها - كما ورد في الحديث الشريف -: "لَا مَرْحَبًا بِالنفْسِ الخَبيثَةِ، كَانَتْ في الْجَسَدِ الخَبِيثِ. ارْجِعِى ذَمِيمَةً .. لاَ تُفْتَح لَكِ أَبْوَابُ السَّماءِ. فَتُرْسَلُ مِنَ السَّماء. ثم تَصِيرُ إلَى الْقَبْرِ". أَخرجه الإِمام أحمد والحاكم وصححه، والنسائي وغيرُهم عن أبي هريرة برفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذلك بعكس أرواح المؤمنين التي يقال لها إِذا عُرِجَ بها إِلي السماء: "مَرْحَبًا بالنفْسِ الطيِّبةِ كَانَتْ في الجَسَدِ الطيِّبِ .. ادْخُلِى حَميدَةً، وَأبْشِرِىِ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ رَاضٍ غَيْرِ غَضْبَانَ .. فلا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلك، حَتى تَنْتَهِىَ إِلَى السَّماء السَّابعة" أخرجه من ذكرناهم سابقا. {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}: أَي: وكما أُوصدت أبواب السماءِ دون أقوالهم وأعمالهم وأرواحهم. فكذلك أَبواب الجنة موصدة في وجوههم لا يدخلونها بأَى حال. كما لا يدخل البعير، أو الحبل الغليظ في ثقب الإبرة. والمراد: استحالة دخولهم الجنة: والجمله تأكيد للجملة السابقة.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}: ومثك ذلك الجزاءِ الفظيع، نجزى كلَّ المجرمين من أَهل التكذيب بآيات الله، فلا يختص به بعضُهم دون بعض. 41 - {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. المقصود بهذه الآية: أَن النار محيطة بأهل النار من جميع الجوانب. والتعبير بالمهاد والغواشي، للتهكم بهم ... والمعنى: لهم من نار جهنم مجلس ومهاد من تحتهم، وأَغطية ودثار من فوقهم .. فالنَّار محيطة بهم. ومثل هذا الجزاء الشديد، نجزى الظالمين لأنفسهم: بكفرهم بآيات الله وتعاليهم عليها، وانصرافهم عن الحق بعد ظهوره. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}. المفردات: {وُسْعَهَا}: ما تتسع له وتطيقه. {مِنْ غِلٍّ}: من حقد.

التفسير 42 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ... } الآية. بيَّن الله تعالى، في الآيات السابقة: أن الكافرين - وهم في النار - يعادى بعضهم بعضا، ويتزايد الحقد بينهم، ويلقى بعضهم اللوم على بعض في كفرهم ... وأَنَّ عذابهم في جهنم دائم لا نهاية له. وجاءَت هذه الآية - وما بعدها - في إثر ذلك، لبيان أن مصير المؤمنين الجنة: خالدين فيها أَبدا، وأن نفوسَهم خالية من الغِلِّ، وأنهم أُورثوا الجنة بأَعمالهم ... وبضدّها تتميز الأَشياءُ. ومعنى الآية: والذين آمنوا باللهِ وشرائعه المنزلة على رسله، وعملوا الصالحات - حسبما جاءَت في شرائعهم سهلة الأَداءِ - لأَن الله لا يكلف نفسا إلا ما تتسع له طاقتها - أُولئك المؤمنون الصالحون أصحاب الجنة الملازمون لها، هم فيها خالدون: لا يبرحونها ولا يُخْرَجُون منها. 43 - {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}: أَي وأَخرجنا ما في صدورهم من حقدٍ وعداوة، بسبب أُمورٍ جرت بينهم في مطالب الدنيا، حتى تصفوَ المودَّة بينهم في نعيم الجنة، الذي هو صفوٌ كلُّه ... ويجوز أَن يكون المعنى: طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنَّة، فلا يحسد أَحدهم أَخاه على منزلة أَعلى من منزلته، بسبب ما قدَّمه في الدنيا من عملٍ أحسنَ من عمله. وهذا في مقابل ما ذكر عن أهل النار من تخاصمهم ... والتعبير عن نزع الغلِّ. بصيغة الماضى - مع أَنه سيحدث يوم القيامة - للإيذان بتحققه .... ويحتمل أَن المراد إزالته، بتوفيق الله تعالى قبل الموت، بعد ما حدث بمقتضى الطبائع البشرية، والمطامع الدنيوية.

ويمكن أَن يخرَّج على أحد هذين الوجهين، ما روى عن عليٍّ رضي الله عنه: أَنه قال: "إِنِّي لأرْجُو أَنْ أكُونَ منهمْ، أَنَا وعُثمان وطَلْحة والزُّبَيْر". {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}: وقالَ أَهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا النعيم المقيم، بما وفقنا إليه من الإِيمان والعمل الصالح، وما كنا لنهتدىَ إليه لولا أن هدانا الله بتحبيب الإيمان إلينا، وتزيين الطاعة في قلوبنا. {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}: فاهتدينا بهديهم، ونعمنا بالجنة مصداقا لوعدهم. {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: ونودوا من قِبَلِ الله تعالى، بأَن نادتهم الملائكة. أو ناداهم الله تعالى تشريفا لهم، ورفعا لشأْنهم قائلا: تلكم الجنة الرفيعة القدر، العظيمة الشأْن البعيدة المدى، أُعطيتُمُوها بما كنتم تعملون، من الإيمان والعمل الصالح. وعبَّر عن الإِعطاءِ بالتوريث: للإِيذان بكمال الاستحقاق، كما هو شأْن الميراث، بموجب ربط الله الجزاء بالعمل. وإن كانت الجنة في ذاتها أَعلى شأْنا من العمل، بل هو في جانبها لا يعتبر شيئا مذكورا، ولكن الله - بفضله - جعله سببا لاستحقاقها. ويجوز أَن يكون التعبير عن إعطاءِ الجنة بتوريثها، للإِيذان بأَنهم نالوا الجنة دون كسب منهم موجب لها، كما ينال الوارث ما يرثه دون كسب، فإِن كسبهم - مع أنه لا يذكر بجانب الجنة - إنما كان بتوفيق الله ومعونته، ولولا ذلك ما حدث. والباء في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: تحمل - في هذا الوجه - على أَنها للسبب الْجَعْلِى من الله تعالى، لا للسبب الذاتى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنكُمْ الْجَنَّةَ بعَمَلِهِ" أخرجه الصحيحان.

أي لن يدخلها أحد بسبب عمله - وحده - دون فضل الله وهدايته، فإنه - تعالى - خالق النفس ومانحها القوَّة على العبادة، وموفِّقها إليها. فإذا كافأَنا على العبادة بالجنة، فذلك منه تعالى. هو الفضل والمنَّة. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}. المفردات: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ}: فنادى منادٍ. {يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: يمنعون الناس عنها. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}: يطلبونها معوجة ومائلة عن الحق. {الْأَعْرَافِ}: سور بين الجنة والنار. {بِسِيمَاهُمْ}: بعلامتهم المميّزة لهم.

التفسير 44 - {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}: بعد أن بَيَّن الله تعالى سعادة أهل الجنة بنعيمها، ذكر في هذه الآية، ما يحدث منهم من الشماتة فيمن كانوا يستعلون عليهم في الدنيا من الكافرين. وذكر - كذلك - لعن الله للظالمين. والمعنى: ونادى أصحاب الجنة من المؤْمنين - بعد استقرارهم فيها وفرحهم بها - أصحاب النار من الكافرين - وهم يصطلون بحرِّها - يقولون لهم في ندائهم: قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا من النعيم المقيم حقا .... فهل وجدتم ما توعدكم الله به من العذاب حقا؟! قالوا متحسرين يائسين: نعم .... وجدناه حقا. {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}: فنادى منادٍ - بين أهل الجنة وأهل النار - قائلا: لعنة الله تعالى، واقعة على الظالمين لأنفسهم بكفرهم، وطَرْدُهُ - سبحانه وتعالى - إيَّاهم من رحمته، بسبب نفريطهم وجنايتهم على فطرتهم. واختلف في هذا المنادِى فقيل: هو مالك خازن النار .... وقيل: هو صاحب الصور. وقيل: هو ملك غيرهما. وأَيًّا ما كان، فنداؤُه بأَمر الله تعالى. والغرض من ندائه، إِدخال السرور على أَصحاب الجنة بتعذيب أعدائهم أعداءِ الله تعالى. ومضاعفة حسراتهم، بما ظلموا. 45 - {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}:

أَي لعنة الله على الظالمين، الذين يصرفون الناس عن سبيل دينه القويم، ويصرفونهم عن الإيمان به، بإلقاءِ الشبه في أدلته، ويطلبون لها العوج، بأَن تكون على هواهم: تقرّ الشرك، وتدعو إلى ما هم عليه من باطل. وهم بالآخرة كافرون، فلا يُقِرُّون ببعثٍ ولا جزاءٍ. 46 - {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}: المراد بالحجاب: السور الذي يفصل بين الجنة والنار، ويمنع أَثر كلتيهما عن الأُخرى .... وشئون الآخرة لا تقاس بشئون الدنيا .. والأَعراف: أَعالى الحجاب الذي ضرب بين الجنة والنار وهي جمع عُرْف. وهو المكان المرتفع من الشىءِ. أَي أَعلى موضع منه. فهو أَعرف ممّا انخفض منه. ومنه عُرف الديك. وعرف الفرس. والمعنى: وبين الجنة والنار، سور يحجب أَثر كلتيهما عن الأُخرى. وعلى أَعالى هذا السور، رجال يعرفون كلا من أَهل الجنة والنار في المحشر بسيماهم - أي بعلاماتهم المميزة لهم. واختلف في هؤُلاءِ الرجال الذين يعتلون الأَعراف. فقيل: هم من الموحدين: "قصرت بهم سيئاتُهم عن الجنة، ومنعتهم حسناتُهم من النار: فجعلوا هناك، حتى يقضى بين الناس. فبينما هم كذلك، إِذ اطلع عليهم ربُّهم، فقال لهم: قُومُوا فادْخُلُوا الجنة فَإنِّى غَفَرْتُ لَكُمْ" أَخرجه أَبوَ الشيْخ والبَيْهَقِىّ من حُذَيْفة. وإلى هذا. ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل: هم الأَنبياءُ، عليهم السَّلام: أجلسهم اللهُ على أَعالى ذلك السور، تمييزًا لهم عن سائر أَهل القيامة، وإظهارًا لشرفهم وعُلُوِّ مرتبتهم. وقيل: هم عدول الناس من كلِّ أمة. جعلهم الله شهداءَ على أَعمال أَقوامهم.

حكاه الزُّهْرِىُّ. وقيل: هم ملائكة، يُرَوْنَ في صورة رجال وقيل غير ذلك ... والظاهر أَنهم قوم علت درجاتُهم؛ لأَن المقالاتِ الآتيةَ لا تليق بغيرهم. سواء أَكانوا أنبياءَ أَم سواهم. والسيما التي يَعرفون بها كلا الفريقين من أَهل الجنة والنار: هي العلامة التي جعلها الله مميّزة لكل منهم. والقول بأَنها بياض الوجوه لأَهل الجنة، وسوادها لأَهل النار - تضييق للواسع. فينبغى عدم تحديد العلامة، وتفويض ذلك إِلى الله. ومعرفتهم كلا الفريقين بسيماهم، تكون قبل دخول أَهل الجنةِ الجنةَ وأَهل النارِ النارَ. إِذ لا حاجة بعد دخول كليهما - كلٌّ إلى مصيره المحتوم للعلامة. {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}: أَي ونادى أَصحاب الأعراف أصحاب الجنة - بعد أن عرفوهم بسيماهم في المحشر، داعين ومُحَيِّين لهم بقولهم: سلام عليكم. أَو مخبرين لهم بسلامتهم ونجاتهم من المكاره، لم يدخلوا الجنة حين تحيتهم لهم لأَنهم لا يزالون في المحشر، وهم يطمعون في دخولهم إيَّاها. فلذا أَخبروهم بالسَّلامة والنجاة. وقال صاحب الكشاف: جملة {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}: استئناف كأَن سائلًا سأَل عن أَصحاب الأَعراف، فقيل: لم يدخلوها، وهم يطمعون. ولكن هذا الرأْى، مبنى على أن أصحاب الأعراف قوم موحّدون: قصرت بهم حسناتُهم عن دخول الجنة. ولكنَّها منعتهم من دخول النَّار. والرأْى الراجح: هو أَنهم قوم ممتازون: إمَّا من الأَنبياءِ، أَو من الملائكة أَو هم - كما سبق ذكره - عدول الأُمم.

وعلى هذا، ينبغي أَن تكون جملة: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}: في حق المؤْمنين الذي سلّموا عليهم وهم في المحشر، بعد أَن عرفوهم بسيماهم، كما سبق ذكرنا، قبل رأى صاحب الكشاف. {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}. المفردات: {صُرِفَتْ}: حُوِّلت. {تِلْقَاءَ}: جهة. التفسير 47 - {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ... } الآية. لا يزال الكلام موصولا في قصة أصحاب الأعراف، وإنما قيل: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} ولم يقل: وإذا رأَوْهم للإيذان بأنهم لم يكونوا راغبين في رؤْية أهل النار لسوءِ حالهم. والمعنى: وإذا حُوِّلت أبصار أَهل الأَعراف، جهة أصحاب النار، فرأوا سوءَ حالهم قالوا - متعوذين منه - ربنا لا تجعلنا في النار صحبة هؤُلاءِ القوم الظالمين لأَنفسهم بالكفر والطغيان. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}.

التفسير 48 - {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ... } الآية. ونادى أصحاب الأعراف رجالا من أَهل النار، كانوا رؤساء الكفر: يعرفونهم بعلامتهم المميّزة لهم، قائلين لهم: ما أَغنى عنكم جمعكم الأَتباع والأَموال؟ ولا استكباركم المستمر على الخَلْقِ وعن قبول الحق؟! فكلّ ذلك، لم يدفع النار الَّتى تستحقونها، بكفركم واستكباركم. ويصحّ أن يكون قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} من باب الاستفهام التوبيخى، بمعنى أىُّ شيءٍ أفادكم جمعُكم (¬1) واستكباركم؟! 49 - {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}: الإشارة في (هَؤلَاءِ) راجعة إلى ضعفاء المؤْمنين في كل ملَّة سماوية. وهذه الآية حكاية لتوبيخ آخر، صادر من أصحاب الأعراف لرؤَساءِ الكفر، بعد ما وبَّخُوهم على كفرهم واستكبارهم، واعتزارهم بجمعهم وكثرتهم، ونَعَوا عليهم: أن ذلك كلَّه لم يغنِ عنهم من الله شيئًا ... والمعنى: وقال أصحاب الأَعراف أيضًا - موبّخين لرؤُساءِ الكفر - أهؤُلاءِ الضعفاءُ المؤْمنون، هم الذين أقسمتم أَن الله لا ينعم عليهم برحمته، احتقارا منكم لهم؟! ثم أشَاحُوا معرضين عنهم - متجهين إلى هؤُلاء المؤْمنين محتفين بهم، قائلين لهم: ادخلوا الجنة ... لا خوف عليكم من مكروه، ولا أنتم تحزنون على فوت مطلوب. فأنتم في كرامة ومسرّة. ويظهر أن أَصحاب الأعراف قالوا للمؤْمنين: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) يجوز أن يراد من "جمعكم"؛ كثرتكم أي ماذا أفادتكم كثرتكم وقوتكم في دنياكم؟!

وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} حين رأوْهُم يَشرَعُون في دخول الجنة، بعد أن أذِن اللهُ لهم بدخولها ... قالوه فرحا بدخولهم، وكيدا لأَعدائهم. وهذا على القول بأَن أَصحاب الأَعراف من البشر. أَما على القول بأَنهم ملائكة، فلعلَّهم يبلِّغونهم - عن الله تعالى - الإِذن بدخولهم الجنة. وقد دلّت الآية على أَن دخول الجنة تابع للعمل، ربطًا للمسببات بالأَسباب. وفي ذلك حثُّ للناس على العمل الصالح، لكي يكونوا أَهلا لدخول الجنة، ونيل الدرجات العلية فيها. كما دلّت على أن كلاًّ من أهل الشرّ والخير: يُعرَف في المحشر بسيماه. نسأل الله أن يوفقنا - جميعًا - لما نستحق به ثوابه، وننجو به من عقابه. {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}. المفردات: {أَفِيضُوا}: أَكثروا. {يَجْحَدُونَ}: يكفرون.

التفسير 50 - {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: المعنى: ونادى أهلُ النار أَهلَ الجنة - بعد استقرار كليهما في دار جزائه - فقالوا لهم: أنزلوا علينا كثيرا من الماء، أو مما رزقكم الله من النعم؛ لما يحسُّونه من حرِّ العطش، وشدَّة الجوع، ووقع العذاب. {قَالُوَا} لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} لكفرهم، فلا نستطع أَن نعطيكم، ونخالف ما حكم به الله عليكم .. والتعبير بقولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا} يؤْذن بعلو الجنة فوق النار. والمراد من تحريم الماءِ والرزق عليهم، حرمانهم منهما. 51 - {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: معظم المفسرين على أَن هذا من جملة كلام أَهل الجنة لأَهل النار. فهو وصف مِنْهُمْ للكافرين ... وبعضُهم يرى أَنه ابتداءُ كلام من الله تعالى تعليقا على هذا الحوار. فكأَنه قيل: هم الذين اتخذوا دينهم ... والمعنى: الذين جعلوا دينهم الذي أوجبه الله عليهم - مجال عبادة وصلاح وإصلاح - جعلوه وسيلة لهو ولعب وأهواء .. فجحدوا منه ما جحدوا وبدَّلوا منه - وفق هواهم - ما أرادوا أَن يبدلوا. كشأن اللاهين العابثين. وخدعتهم الحياة الدنيا بزخارفها، فنسوا الآخرة .. وممّا وقع من اتخاذهم الدِّين لهوا ولعبا - تحريم بعض العرب، البَحيرة والسائبة ونحوهما، ومنه التَّصْدِية والمُكَاءُ حول البيت، والطواف به - عرايا. أَما البَحيرة: فهي الناقة التي تلد خمسا آخرها ذكر. كانوا يبحرون أُذنها أي يشقونها ويحرِّمون ركوبها وحلبها .. والسائبة: هي الناقة المنذورة: كان الواحد منهم يقول:

إذا شفيتُ من مرضى، فناقتى سائبة. فيحرِّم الانتفاع بها كالبَحيرة. وينسبون تحريم ذلك إلى الله تعالى، كذِبا وزورًا. وأمَّا الْمُكاءُ فهو الصفيرُ، وأمَّا التصدية فهي التصفيق، وكانوا يفعلون ذلك عند الكعبة، ويزعمون أنهما من العبادة. والطواف بلا ساتر كانوا يعتبرونه نُسُكًا حتى نهى عنه الرسولُ في حَجَّة الوداع بقوله: "وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ". {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا}: من معانى النسيان في اللغة: الترك والإهمال. وهذا هو المعنى المناسب للآية. والمعنى: فاليوم نتركهم في النَّار، ونهمل أمرهم. فلا نخرجهم منها، كما أَهملوا لقاءَ يومهم هذا، فلم يفكروا فيه. بل جحدوه. وكما استمرّوا على إنكار آيات الله، وعدم الاعتراف بدلالتها على ما يجب له - سبحانه وتعالى - من التوحيد -، وما يجب لرسوله من السمع، والطاعة، والإذعان .. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}. المفردات: {فَصَّلْنَاهُ}: أنزلناه مفصلَ الأحكام مبيّنها.

{هُدًى وَرَحْمَةً}: دلالة واضحة على الحقِّ ورحمة للناس. {هَلْ يَنْظُرُونَ}: ما ينتظرون. {تَأْوِيلَهُ}: أَي ما يؤُول إِليه أَمره. {وَضَلَّ عَنْهُمْ}: وغاب عنهم. التفسير 52 - {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: الضمير في قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ} عائد على كل أُمة من أُمم الرسل. فإِن الكلام السابق، كان عن أَحوالهم يوم القيامة: ما بين محسن ومسىء، حسبما يرشد إليه قولُه تعالى: { ... لَقَدْ جَآءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ... } (¬1) وقد مضى شرحُها وكما يرشد إليه قوله تعالى: { ... قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ... } (¬2) وسيأْتى شرحها. والمعنى: ولقد جئنا كلَّ أُمة من الأُمم - على لسان رسولها - بكتاب بيَّنَّا فيه العقائد والأَحكام والمواعظ، مفصَّلة على علمٍ تامٍّ منَّا، بما يناسب حالَ كلِّ أُمَّة في الأَحكام الفرعية - جئناهم بهذه النعم - هدى ورحمة لقوم شأْنهم أَن يذعنوا للحق، فهم المهتدون، بهداه المنتفعون بجدواه، دون المعاندين المكابرين. 53 - {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}: المعنى: ما ينتظر هؤُلاءِ الكفار - بعدم إيمانهم بالكتاب المفصَّل، الذي أنزلناه - إِلاَّ ما يؤُول إِليه أَمره يوم القيامَة: بظهور صدق وعده ووعيده. والمراد أنهم في حكم المنتظرين لهذا المآل. وفي بالهم عدم توقع صدق ما جاءَ فيه. والكلام - في الحقيقة - جارٍ مجرى التهديد، والإنذار بأَن ما جاءَ فيه - من عقابهم - واقع لا مفرَّ منه، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 43 (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 53

{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ ... } الآية. وقيل: إنَّ فيهم قومًا يشكون في مآله. ولذلك انتظروه. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}: المعنى: يوم يأتى مآل هذا الكتاب المفصَّل وعاقبته، يقول الذين أعرضوا عنه وجعلوه مهملا - كالمنسى - يقولون - معترفين نادمين - قد جاءَت رسلُ ربِّنا بالحقِّ، فكذبناهم فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا، ليرفع عنا ما نحن فيه من العذاب؟ أو هل نردُّ إِلى الدنيا - فنعمل غير الذي كنا نعمل من الشرك والمعاصي؟ {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: هذا تقرير لعاقبة ما اعتراهم من غرورٍ دنيوى. أي قد أضاعوا أَنفسهم بانصرافهم عن الهدى، واستحقاقهم بذلك عذاب النار. وغاب عنهم ما كانوا يفترونه على الله من الشركاءِ وشفاعتهم عنده، حيث اتضح لهم بطلانه وظهر لهم فساده. وأنه كان سرابا خادعا!!. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}. المفردات: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}: يغطى الليلَ بالنهار، والمقصود، أَنه - تعالى - يزيل ضوءِ النهارِ بظلام الليل.

{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: استولى على الملك والسلطان. {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}: يتبعه سريعا. كأنما يطلبه بلا فتور. {تَبَارَكَ اللَّهُ}: تعالى وتنزَّه. التفسير 54 - {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: لمَّا ذكر الله حال الكفار، مشيرا إلى عِبَادتِهم غيره، احتجَّ عليهم في هذه الآية بمقدوراته التي قدّرها، وكائناته التي أظهرها. ودلَّهم بها - وبنظمها - على أَنه الإِله الواحد، ولا معبود سواه. والربُّ: الخالقُ والمالك والمربّى والمنعم. والمراد من خلق السموات والأرض: هو خَلْقُهُمَا وما فيهما. والمقصود من الأيام الستة: هو أزمان بهذا العدد .. لا يَعْلَمُ مقدار كلِّ منها سواه سبحانه وتعالى. فأَيَّام الله، آمادٌ متفاوتة كأَلف سنة، أَو خمسين ألف سنة، ممَّا نحسبه للدنيا - كما صرَّح به القرآنُ الكريم. وقد تكون أَطولَ من ذلك أَو أَقلَّ، حسب سُنَّةِ الله تعالى في مراحل تطوير الكائنات من الدخان، إِلى المادة التي انتهت إليها النجوم والكواكب والأرض. حسبما نطق به قولُه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬1). وقد أيَّد العلماءُ المعاصرون، ما جاءَ في القرآن، إِذ قالوا: إِن أَصل العالَم، غاز شديد الحرارة، تحوَّل - مع الأزمان الطويلة - إِلى هذه السموات والأرض. ولا يصحُّ أَن يراد من اليوم في هذه الآية، الزمنُ الناشىءٌ عن حركة الأرض حول ذاتها - في مدارها حول الشمس، لأَنه - بهذا المعنى - لم يكن موجودا وقت هذا التكوين. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، آية: 11

والعرش لغة: سرير الملك، ويكنى به عن العزّ والسلطان والملك، فيقال: الملِك (فلان) ثُلَّ عرشه، أي ذهب عزّه وملكه. وأنشدوا لهذا قول الشاعر: إِذا ما بَنُوا مروان ثُلَّتْ عروشُهم ... وأوْدَت كما أودت إِياد وحِمْيَرٌ أي: زال ملكهم .. ومعنى الاستواء: الاستيلاء، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيفٍ ودم مُهْرَاق أي ثُمَّ - بعد تمام الخلق - استولى على الملك والسلطان بلا شريك. والتعبير (بثم) لإفادة رفعة منزلة الاستيلاءِ على سلطان هذا الكون. وليست للترتيب الزمانى مع التراخى، فإنه لا مهلة بين خلق الكون واستيلائه تعالى على سلطانه فيه. فهو الذي خلقه. وسلطانه عليه منذ البداية إِلى أَن تمَّ خلقه. والجديد الذي أفادته هذه الجملة: أَنها بيَّنت أنَّ أَمر الكون - بعد تمامه - إليه تعالى كأَمره عند بدايته: لا يشركه في ذلك أحد. وأَن تدبيره، إليه - وحده -. ولذا، قال - تعالى - عقب ذلك: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}: إلى آخر ما ذكر في الآية من شئون تدبيره. فكأَنه قيل: واستولى - سبحانه وتعالى - على سلطان الكون وحده، ليدير شئونه التي منها: أنه يغشى الليل النهار .. الخ. ومن العلماء من قال: إن العرش جسم محيط بسائر الأَجسام سمّى به، لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك .. ومنه تتنزل أوامرُ اللهِ في شئون الكون، دون أَن يكون الله فيه لاستحالة ذلك عقلا. والاستواء - على هذا أَيضا - بمعنى الاستيلاءِ. وأضاف الاستيلاءَ إلى العرش وحده - مع أنه تعالى مستولٍ على جميع المخلوقات - لأَن من استولى عليه - وهو أَعظمُها - فهو مستولٍ على سواها من باب أَولى.

فكأَنه قال: ثم استولى على الكون كلِّه .. وذلك مثل قولك: استولى عمر بن الخطاب على عرش الفرس .. فذلك كناية عن استيلائه على جميع بلاد الفرس. ومنهم من فسَّر العرش بهذا المعنى، وتوقف في معنى الاستواء. وأحال العلم - بحقيقته - إِلى الله تعالى. وعلى هذا الرأْى: جعفر الصادق، والحسن، وأبو حنيفة، ومالك - رضي الله عنهم -. روى عنهم: الاستواء معلوم. والكيف مجهول. والإيمان به واجب. والجحود كفر. والسؤال عنه بدعة .. أَمَّا تفسير العرش بالسرير، والاستواءِ بالاستقرار - كما يقول المشبِّهة - فهو باطل وكفر. لأنه - تعالى - كان قبل العرش ولا مكان. وهو الآن كما كان، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}: أصل معنى يغشى الليل النهار: يغطِّى اللهُ النهارَ بالليل. وبمَا أَنَّ التغطية تقتضى اجتماع الغطاء والمغطى وجودًا - وذلك لا يتصوّر هنا - لأن النهار أُزيل - تماما - عن السطح الَّذى حلَّ فيه الليل، فضلا عن أن التغطية إِنما تكون للأجسام. والليل والنهار ليسا منها - فلذا تكون التغطية مستعارة للإِزالة، لما في كل من الإِخفاء. فالمعنى المراد لقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يزيل الله ضياءَ النهار بظلام الليل. {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}: أي يطلب الليل النهار سريعا، فالحثيث السريع، ومنه ولَّى حثيثا - أي مسرعًا - والمراد أنه يأْتى عقبه ويحل محلّه، بسرعة وبغير مهلة. وإِنما وصف طلبه له بالسرعة، لأنه ناشىءٌ من دوران الأَرض بسرعة حول نفسها في دورانها حول الشمس. وهي كروية. ففي كل ثانية يختفى الضوءُ عن جزء منها، ليحلَّ فيه الليلُ بدل النهار فورا، ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 11

ولذا قرىءَ بنصب الليل ورفع النهار. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ}: أَي وخلق الله الشمس والقمر والنجوم: خاضعاتٍ لإرادته وقضائه وتصريفه. وتخصيص الشمس والقمر بالذكر - مع دخولهما في النجوم (بالمعنى اللغوى) - لمزيد فوائدهما، بالنسبة لكوكبنا الأرضى. ثم عقَّب الله ذلك بقوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}: لتأكيد ما سبق وتعميم قدرته على ما وراء السموات والأرض. والمعنى: ألا له الخلق والأمر: في كل شيءٍ كان أَو يكون. لا يشاركه في ذلك أَحد .. فيدخل فيه ما ذكر من خلق السموات والأَرض وتسخيرهما - دخولا أَوليًّا. ثم وصف الله نفسه بالتعالى عن العالمين، وربوبيته لهم فقال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: أي تعالى الله مالك العالمين ومربيهم، ومدبر أُمورهم - عن أَن يكون له شريك أو نظير. وخلاصة معنى الآية: أنه تعالى، بيّن فيها للكفار الذين اتخذوا من دونه أَربابا: أن المستحق للربوبية إِله واحد، هوالله - تعالى -، لأَنه هو الذي خلق العالَم ودبَّره أحسن تدبير. أَمَّا آلهتهم، فهى مخلوقة له - تعالى -، وعاجزة عن الخلق والتدبير، فلا تصلح للربوبية. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}.

المفردات: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}: تذلُّلًا وسرًّا. {الْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين الحدّ في كل شيءٍ. التفسير 55 - {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... } الآية لمَّا ذكر الله - سبحانه - دلائل عظمته فيما سبق، طلب هنا، من عباده أَن يدعوه في تذلُّلٍ مُسِرِّين، فإن ذلك هو اللائق بجلال الخالق. والمعنى: ادعوا ربكم الذي عرَّفكم عظمته فيما سبق .. وليكن دعاؤكم إيَّاه في تذللٍ وإِسرار يليقان بالأَدب مع الله تعالى، فإن الصياح في الدعاء تجاوزٌ للأَدب، واعتداءٌ والله - تعالى - لا يحبُّ المعتدين. أَخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ (¬1) فجعل الناسُ يجهرون بالتكبير (¬2) فقال: أَيُّهَا النَّاسُ: ارْبعُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ ... إنَّكُمْ لَسْتُمْ تَدْعُون أصَمَّ ولا غائبًا .. إِنَّكم تَدْعُون سَمِيعًا قريبًا. وهو مَعَكُم .. " الحديث. والاعتداءُ في الدعاءِ أنواع: منها ما كان بالجهر والصياح. ومنها أَن يطلب منزلة نبى أَو يطلب المحال، أَو يُسْهِبَ في الدعاء، أَو يدعو بمعصية. روى ابن مَاجَه: أَن عبد الله بن مُغفل رضي الله عنه، سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأَبيض عن يمين الجنة إِذا دخلتها. فقال له: أيْ بُنَى، سَلِ اللهَ الجنَّة، وعُذْ به من النَّار. فإنِّى سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سَيَكونُ قومٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ". واختُلِف في رفع اليدين في الدعاءِ. فقال قوم بكراهته، ومنهم جبير بن مطعم، وابن المسيب وابن جُبَيْر ومجاهد. واختاروا أن يشير بالسبابة إِيذانا بالإخلاص. رأى شريح رجلا رافعا يديه بالدعاء. فقال مَن تَتَنَاوَلُ بهمَا؟ لَا أُمَّ لك .. ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرى (في غزاة). (¬2) وفي رواية "فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله".

وسندهم في ذلك ما أَخرجه مسلم عن عمارة بن رُوَيْبَة، وأَنَّه رأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوانَ عَلَى المنبر رافعا يديه فقال: قبَّح اللهُ هاتين اليدين. لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد عن أَن يقول بيده هكذا. وأَشار بإصبعه المُسَبِّحة. ورُوى جواز الرفع عن جماعة من الصحابة والتابعين - ورواه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده إلى أبي موسى الأشعرى قال: "دعا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم رَفَعَ يَدَيْه، ثم رأيْتُ بياضَ إِبْطَيْهِ" وعلى هذا يُحمل إِنكارُ من ينكر سُنيَّة رفع اليدين، على أَنه لم يعلم رواية أَبي موسى الأشعرى. ويؤَيد سنيَّة الرفع، ما أخرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: "كان رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذا رفع يديه لم يَحُطَّهُمَا حتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وجْههُ". قال: هذا حديث حسن غريب. قال القرطبى: قلتُ: والدعاءُ حسن .. كيفما تيسر، لإِظهار الحاجة والخضوع له - تعالى - فإن شاءَ الداعى، استقبل القبلة ورفع يديه. وهو حسن. وإِن شاء فلا. فقد فعل ذلك النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - .. انتهى بتصرف. 56 - {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}: أَي ولا تفسدوا فيها بالكفر والمعاصي، بعد إصلاحها ببعثة الأنبياءِ. وقد طلب اللهُ من عباده أَن يكون أَمرهم دائرًا بين الخوفِ والرجاءِ. فقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}: أَي وادعو اللهَ خائفين من عقابه، طامعين في ثوابه. فهما كجناحى الطائر: يحملانه في طريق استقامته. فإن انفرد أَحدهما هلك الإنسان. قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآيتان: 49، 50

وقد بشرنا - سبحانه - بالرحمة لمن أَحسنوا. فقال. {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: أَي إن رحمة الله قريب ممن أَحسنوا بالطاعة، ودار أَمرُهم بين الخوف والرجاء. وعبّر عن الرحمة المؤنثة لفظا بقريب وهو مذكر، إِمَّا لأن المؤنث غير حقيقى فيجوز تذكير خبره، كما قاله الجوهرى وإمَّا لأَن الرحمة والرُّحْم معناهما واحد وهو العفو والغفران كما قاله الزَّجَّاج واستحسنه النحاس. على أَن "فعيلا " يستوى فيه المذكر والمؤنث .. غالبا ومنه ما هنا. {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. المفردات: {بُشْرًا}: أصله بُشُرًا بضمتين. فخفِّف بالإسكات. وهو جمع بشير. أي: مبشرات بالمطر. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: أي قبل المطر الذي هو من رحمة الله. {أَقَلَّتْ}: أي حملت.

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ}: المراد به الأرض الكريمة التربة. {وَالَّذِي خَبُثَ} المراد بالبلد الخبيث: الأَرض السبخة التي لا يجود نباتُها. {لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} أَي: لا يخرج نباته إِلا قليلا عسيرا، عديم النفع. التفسير 57 - {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ... }: لا يزال الكلام موصولا في آيات الله ونعمه. فقد بيَّن الله سبحانه - قبل ذلك - أَنه خلق السموات والأَرض في ستَّة أيام، وأَنه يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا، وأَن الشمس والقمر والنجوم مسخراتٌ بأَمره، وأَن له - وحده - الخلق والأَمر. ثم جاءَت هذه الآية؛ لبيان آية الله في إرسال الرياح، وآثارها. والتعبير بالمضارع في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ} الخ .. للإيذان بتجدُّد هذه النعمة. فإن المضارع يفيد الاستمرار التجددى. والمعنى: والله هو الذي يثير الرياح بعد سكونها، ويرسلها - مبشرات - لعباده بالمطر الذي هو من رحمته تعالى .. حيث - يجعلها بين يديه - أي سابقة له، فَتَبْعَثُ الراحة والطمأْنينة في نفوس الظماءِ، وتجعلهم منتظرين رحمة الله التي عوَّدهم إِيَّاها بعد هبوب الرياح التي اعتادوا أن يروها سابقة للأمطار. فإنها مؤذنة بمثيلات لها تحمل السحب الحوامل بالأمطار - وذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ}: أي حتى إذا حملت الرياحُ سحائب ثقالا، بما اشتملت عليه من الأمطار - ساق اللهُ ذلك السحاب نحو بلد يابس، يشبه الميِّت في بطلان نفعه، لأَجل إحيائه بالسقى والرىِّ. {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: أَي فأَنزلنا - بالبلد الميت - الماء من السحاب بقدرتنا، فأَخرجنا بذلك الماء من كل الثمرات.

أَو فأَخرجنا في هذا البلد اليابس، جميع أنواع الثمرات التي يصلح لها. فتبارك اللهُ القادر: "يُسْقى بِمَاَءِ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأُكُلِ" (¬1). {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: الإِشارة راجعة إِلى إخراج الثمرات أَو إلى إحياءِ البلد الميِّت. وفيما يلي بيان المعنى على الوجه الأخير، لشموله للأَول. المعنى: كما أَحيينا البلدَ الميِّت بالماءِ، بإحداث القوة النامية فيه، حتى جاد بأنواع النبات والثمرات - كما فعلنا ذلك - نُخرج الموتى من القبور، ونحييها: بردّ النفوس والأَرواح إِلى أبدانها، بعد جمعها، وإِفاضة أسباب الحياة على عناصرها، لعلَّكم تذكرون وتتعظون بما تَرَوْن من شئون الأرض الميتة وإِحيائها، فتعلمون أن من قدر على إحيائها وإِنبات النبات فيها، بعد يبسها الشبيه بالموت، فهو- كذلك - قادر على بعث الموتى من القبور وإحيائهم. 58 - {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}: المقصود بالبلد الطِّيب: الأَرض الكريمة ذات التربة الطيبة، التي تجود بخير النبات وكثيره. والمقصود بالبلد الذي خَبُثَ: الأرض الَّتى لا تصلح للإنبات الجيِّد. كالأَرض السبخة. وقد ضرب اللهُ البلدَ الطيِّب للذى ينتفع بالمطر، فيخرج النبات الكثير والثمر الوفير - ضربَهُ مثلًا لمن تدبَّر الآياتِ، وانتفع بها. وضرب البلد الخبيث الذي لا ينتقع بالمطر - ضربه مثلا عن لم ينتفع بالآيات، ولم يرفع لها رأسا. والمعنى: والأرض الطيبة الكريمة التربة، تنتفع بالمطر فَيَخْرُجُ نباتُها زاكيًا، حسنًا، كثيرَ الحَبِّ والثمر، غزير النفع، بتيسير اللهِ ومشيئته .. والأرض الَّتي خَبُثَتْ تُرْبَتُهَا لا تنتفع بالمطر كثيرا. فلهذا لا يخرجُ نباتُها إلا نكدا - أَي قليلا عديم النفع. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآية: 4

{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}: مثل ذلك التبيين الواضح، الوارد في هذه الآية - نبيَّن جميع الآيات، لقومٍ يشكرون نعمة الله، فيتفكرون فيها، ويعتبرون بها. قال الشيخ أَبو السعود - عليه رحمة الله - في هذه الآية: إنها مَثَلٌ لإِرسال الرسل بالشرائع: التي هي ماءُ حياةِ القلوب، إِلى المكلَّفين المنقسمين إلى المقتبسين من أنوارها، والمحرومين من مغانم آثارها: اهـ. وفي ذلك يقول النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ مَا بَعَثَنىِ اللهُ بهِ مِنَ العِلمِ والهُدَى، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكثِيرِ أَصَابَ أَرضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلتِ الماءَ فَأنْبَتَتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثيرَ. وكانت منها أجادبُ أَمسكتِ الماءَ، فنفع اللهُ بِهَا الناسَ، فَشَرِبوا وسَقَوْا وزَرَعُوا .. وأصَابَ منها طائفةٌ أُخْرَى، إنما هِى قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأ. فَذَلِك مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثِنى اللهُ بهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّم. ومَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعُ بْذَلِكَ رأسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِه" أخرجه الشيخان. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} المفردات: {الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} الأَشراف منهم - أَي رؤساؤهم الذين يملئون المجالس بمهابتهم وعلو منزلتهم {ضَلَالٍ مُبِينٍ} بُعْدٍ بَيِّنٍ عن الحق - كما يزعمون.

التفسير 59 - {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ... } الآية. بعد أن ضرب الله الأَرض الطيِّبة، مثلا لمن انتفع بآياته، والأرض الخبيثة، مثلا لمن لم ينتفع بها - عقَّب ذلك بقصَّة قوم نوح، وهم ممَّن لم ينتفعوا بآياته. وكان قوم نوح يعبدون الأَوثان. وكان أَشهرها لديهم: وَدًّا، وسُواعًا، ويغوثَ، ويعوقَ، ونَسرًا. وسيأتي بيان ذلك في سورة نوح، بمشيئة الله تعالى. وقد أرسل الله تعالى إليهم نوحًا - عليه السلام -، فدعاهم إلى توحيد الله، والتوبة من عبادة الأَوثان. والمعنى: وتالله، لقد أَرسلنا نوحًا إلى قومه، فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده، ليس لكم من إله يستحق العبادة سواه. أَمَّا آلهتكم التي صنعتموها بأيديكم، فإِنها لا تستحق أَن تُعبد، لأَنَّها مخلوقة وليست بخالقةٍ، ومصنوعةٌ وليست بصانعةٍ .. إِنِّي أخاف عليكم - إن بقيتم على شرككم - عذابَ يوم عظيم. وهذا اليوم العظيم: إمَّا يوم القيامة، وإمَّا يوم الطوفان، الذي يصلهم بعذاب يوم القيامة. وقد مكث نوح - عليه السَّلام - يدعو قومه إلى الله - تعالى - أَلف سنة إلا خمسين عاما. وقد أمضى فيهم هذه المدَّة في حِجَاجٍ ولَجاجٍ معهم، أَجملته هذه الآية - والتي تليها - على النحو الآتى: 60 - {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: الملأُ: الأشراف، وأَطلق عليهم ذلك لأنهم يملئون العيون والقلوب بوجاهتهم وجاههم. والمعنى: قال الأَشراف من قومه: إنا لنراك في بعدٍ عن الحقِّ واضح. يقصدون بذلك: أَنهم - وقومهم - على الحق، وأن نوحًا يحيط به الضلال والباطل.

61 - {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: المعنى: قال نوح للأَشراف الذين اتهموه بإحاطة الضلال به: ليس بي أي شيءٍ من الضلالة التي زعمتم إحاطتها بي، ولكنى رسول من رب العالمين. ومَن كان كذلك، فهو في تمام الهدى إِلى الحق .. فكيف تتركون عبادة مالك العالمين إلى عبادة ما لا حول له ولا قوَّة؟. وعقب ذلك، بأنه أَبْرَأ ذِمَّتَهُ بتبليغهم رسالة ربِّه ونصحهم. فقال: 62 - {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: المعنى: أُبلغكُم - من آن لآخر - رسالة ربي، المشتملة على توحيده وعبادته، وعلى قواعد السلوك المرتضى، والأَخلاق الفاضلة، وعلى شئون الآخرة، التي ينتهى إليها الناس .. وأنصح لكم باتباعها؛ لتحصلوا على ثوابه، وتنجوا من عقابه، وأَعلم من شئون الله ما لا تعلمون من عظيم القدرة، وشدَّة البطش بمن يظلُّون - على كفرهم - بعد تبليغ رسالاته - أي أَوامره ونواهيه - إِليهم. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}. المفردات: {ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: تذكير ووعظ من خالقكم، (الفلك): السفينة، (قوما عمين): قوما عُمْى القلوب.

التفسير 63 - {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ... } الآية. أنكروا على نوح - عليه السلام - أن يكون رسولًا من رب العالمين - وهو رجل منهم - وكذّبوه. فقال لهم: هل استبعدتم وعجبتم من أن جاءَ وحىٌ مذكِّر لكم من ربكم، على لسان رجل - من جملتكم أو من جنسكم - وقلتم من أجل ذلك ما قلتم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} (¬1). إِلى غير ذلك ممَّا لا خير فيه، مع أَنه جاءَ: لينذركم ويخوفكم عاقبة شرككم ومعاصيكم، ولتتقوا الله في عقائدكم وأعمالكم، ولعلكم ترحمون، إذا امتثلتم، ولم يأْتكم لأَغراض دنيوية تعود عليه منكم. فكيف تتهمونه بالكذب، وتردُّون قوله، وهو رجل منكم تعلمون حاله من الصدق، ولا مصلحة له سوى هدايتكم؟. 64 - {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}: أَي فأصروا على تكذيبه في رسالته، واستمروا على ذلك أَلف سنة إلا خمسين عاما، وكانوا - طيلة هذه المدة - كلَّما جدَّدُوا تكذيبا، جدَّد لهم دعوةً دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، فلم يزدهم دعاؤه إِيَّاهِم، إلاَّ فِرَارًا من الحقِّ، كما قال تعالى حكاية عنه في سورة نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} (¬2). وبعد أن يئس من إيمانهم، دعا عليهم قائلا: { ... رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (¬3). وقد استجاب الله دعاءَه، وأمره ببناءِ سفينة ليركبها مع من آمن معه، حتى ينجو معهم من الغرق بالطوفان الذي قدَّر الله إِهلاك قومه به، استجابة لدعوته - عليه السلام - فلما أَتمَّ بناءَها، أَمره اللهُ أَن يركبها ومَن آمن معه. ثم فجَّر اللهُ عيون الأرض، ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، من الآيتين: 24، 25 (¬2) سورة نوح، الآيتان: 5، 6 (¬3) سورة نوح، الآيتان: 26، 27

وفتح أَبواب السماءِ بماءً منهمر. وعمَّ الطوفانُ أَرض قومه فغرقوا، لتكذيبهم بآيات الله .. وأنجاهُ اللهُ ومَنْ آمن معه، وهم رُكّاب الفُلك - أَي السَّفينة التي صنعها - ثم يعلّل اللهُ إِهلاكَ قومِ نوح بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ}: أَي كانوا عُمْى القلوب غيرَ مستبصرين. قال ابن عباس: عميت قلوبُهم عن معرفةِ التوحيد، والنبوةِ، والمعادِ. وقد كان عدد ركاب سفينته من المؤمنين قليلا، فيهم من أولاده: سام وحام ويافث وزوجاتُهم. وعلى أي عدد كان ركاب السفينة، فإن الله لم يبق من ذريتهم أَحدا، سوى ذرية نوح - عليه السلام -، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (¬1). ولهذا يعتبر نوح - عليه السَّلام -، هو الأَبُ الثَّانِي للبشر، بعد آدم - عليه السَّلام - ... رجميع البشر من أَولاده الثلاثة المذكورين. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}. المفردات: {فِي سَفَاهَةٍ}: السفاهة؛ الخفَّة والحماقة. ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 77

التفسير 65 - {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}: أي وأَرسلنا إلى عاد، أَخاهم هودا. وكانوا يعبدون الأَوثان، بعد ما غيَّروا وبدَّلوا شريعة نوح - عليه السَّلام -. قال لهم هود - بعد ما أُرسل إِليهم - يا قوم اعبدوا الله وحده. واتركوا أَوثانكم. فيما لكم من إلهٍ غيره، أَتغفلون عمَّا حدث لقوم نوح، فلا تتقون الله تعالى؟ وكانت مساكن عاد هذه بين الشَّحْرِ (¬1) وعُمَان، وحضرموت، بالأَحقاف ... وكانوا جبَّارين: طوال القامة. وفيهم يقول الله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ في الْخَلْقِ بَسْطَةً .. } (¬2) وهي التي سمَّاها الله (عادًا الأُولى) فأرسل الله إليهم هودا. وكان منهم. ولذا ذكره الله بقوله: (أخاهم) فدعاهم إلى توحيد الله، وترك ما هم عليه من طغيانٍ وظلم. فكان ردُّهم عليه ما حكاهُ اللهُ بقوله: 66 - {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}: قال الأشراف الذين كفروا من قوم هود - ردًّا على دعوته إِيَّاهم إِلى عبادة الله - وحده - وترك ما هم عليه عن طغيانٍ وجبروتٍ - إِنا لنراك مستغرقا في خفَّة العقل، والطيش، والحماقة. حيث فارقتَ دينَ قومِك إلى ما تدعو إِليه. وإِنَّا لنعتقد أَنَّك من الكاذبين فيما تزعمُ من النبوة والرسالة. ووصفُ الملإ في قوم "هود" بالذين كفروا، يؤذن بأَن من أَشرافهم من سارع إِلى الإيمان به ولم يكذبه، ولكنه كان يكتم إِيمانه، بخلاف الملإِ من قوم "نوح" فإنهم جميعًا كانوا كافرين. فلذا لم يقيِّدهم اللهُ بوصف الكفر، كما قيّدوا به في قوم هودٍ ... وقيل: وصفوا به لمجرد الذم. ¬

_ (¬1) سهل من سهول اليمن الشرقية. (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 69، وسيأتي تفسيره.

67 - {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: قال هود لقومه متلطفا، ردًّا على اتهامهم إِياه بالسفاهة وخفَّة العقل: يا قوم ليس بي أَي سفاهة، ولكنى رسول من رب العالمين: دعوتكم - بمنتهى الوعى والرشاد وحبّ الخير لكُم - لكي تعبدوا ربَّ العالمين الذي أَرسلنى، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك والطغيان. 68 - {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}: أُبلغكم ما أرسلنى به ربي إِليكم من العقيدة الرشيدة، والأَخلاق المجيدة، وأنا ناصح أَمين. حيث نصحتُكم بترك ما أَنمتم عليه، لأَنى أَعلم من الله ما لا تعلمون. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}. المفردات: {لِيُنْذِرَكُمْ}: ليُحَذِّركُم عاقبة كفركُم. {خُلَفَاءَ}: تخلفونهم في مساكنهم أَو أَرضهم. {بَسْطَةً}: سعة في القامة والقوّة. {آلَاءَ اللَّهِ}: نِعَمه. {تُفْلِحُونَ}: تفوزون.

التفسير 69 - {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ... }: أغفلتم عن الهدى، وعجبتم من مجىء تذكير من خالقكم ومربيكم، على لسان رجل منكم، لكي ينذِركم ويخوِّفكم من عاقبة ما أَنتم عليه من شرك وطغيان!! في حين أَن ذلك لا يدعو إِلى العجب، لأَن الرسول - إِذا كان منكم - كان معروفا لكم في صدقه وأَخلاقه. وذلك أَدعى إِلى اطمئنانكم لما جاءَ به. فإن الرائد الصادق لَا يكذب أهله. ولو كان الرسول غريبًا عنكُم، لكان ذلك أَدعى إلى اتهامه، بأَنه تصنّع النبوة، ليخضعكم إِلى قبيلته. ولو كان مَلَكًا لهلكتم إِن كان بصورته الملَكِيّة، ولاشتبه عليكم أَمرَه إِن تشكل بصورة أحدٍ من البشر. وبعد أن خوَّفهم اللهُ من عقابه، ذكَّرهم نعمَه، فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ... } الآية. المعنى: وتذكروا نعمةَ اللهِ عليكم، إذ جعلكم خلفاءَ من بعد قوم نوح. حيث ملكتم مساكنهم وبلادهم. أو أَن المعنى: جعلكم خلفاءَ من بعدهم في السيطرة على الأرض وملكها. وكما جعلكم خلفاءَ الأرض، زادكم في الخلق سِعةً، فأَنتم طوالُ القامة أَشدّاءُ الأَجسام، فاذكروا نعم الله التي تتقلبون فيها، لكي يفضى بكم ذكرها إِلى شكرها المؤدى إلى الفلاح. 70 - {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ...... } الآية. استبعد قومُ هودٍ إفرادَ الله بالعبادة، وترك آلهتهم التي عبدها آباؤُهم من قبلهم. وقديمًا كان التقليدُ سببًا للنكَبات.

والمعنى: قال عاد لهود: أَجئتنا بدعواك لكي نعبد اللهَ وحده، ونترك ما كان عليه آباؤُنا من عبادة الأَوثان؟ فأْتنا بما تعدنا به من العذاب، إن كنت من الصادقين في رسالتك، وفيما أنذرتنا به، إِن نحن لم نؤْمن بها. {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي في أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}. المفردات: {قَدْ وَقَعَ}: أي وجب واستحق. {رِجْسٌ}: عذاب - مأْخوذ من الارتجاس وهو الاضطراب. {سُلْطَانٍ}: حجة لها سلطان على القلوب. {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا}: وأَهكْناهم حتى آخرهم، والدابر الآخر. التفسير 71 - {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ... }: الرجس العذاب، ولم يكن العذاب قد وقع على عادٍ حين قال لهم هود: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ ... } الخ. فلذا يفسر الوقوع: إِما بمعنى الاستحقاق والوجوب، أَو ينزل المتوقَّع منزلة الواقع. كما في قوله تعالى: (أتَى أَمْرُ اللهِ فلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) (¬1). ¬

_ (¬1) أول سورة النحل.

والمعنى: قال هود لعادٍ - حين أَصرُّوا على الكفر وطلبوا إِتيان العذابِ الذي توعَّدهم به - قال: قد وجب واستحق عليكم عذاب وغضب من ربّكم، حتَّى كأَنه نزل بكم ووقع فعلا. {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}: كثيرا ما يطلق الاسم على المسمَّى. ومنه قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1): أَي تبارك ربك وتعالى عن الشبيه والنظير. ومن إطلاق الاسم على المسمى ما جاءَ في هذه الآية الكريمة. والمعنى: أَتخاصموننى وتنازعوننى - بقوّة - في أنصاب وأَوثان سمَّيتموها آلهةً، وليس فيها من مصداق هذه التسمية أي دلالة؟ إِذ المستحق لهذه التسمية هو الموجد لهذا الكون، الخالق له، المدبر لأَمره! أَما هذه الأَنصاب، فهي مخلوقة وليست بخالقة، عاجزة وليست بقادرة .. فكيف زعمتم ألوهيتها، وجادلتمونى فيها، مع أَن الله تعالى هو المستحق للأُلوهية وحده، ولم ينزل سلطانا أَو حجة بعبادتها والتقرب بها إِليه؟! {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: وحيث كنتم مصرِّين على عبادتها - بدون سلطان ولا برهان - فقد وجب عليكم عقاب كفركم باللهِ وعصيانكم لرسوله. فانتظروا هذا العقاب، إني معكم من المنتظرين وقوعه. 72 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}: بعد أَن أَنذرهم هود بأَن عقاب اللهِ آتٍ لا محالة، وأَنَّ عليهم أَن ينتظروه - نَزَل العذاب بهم، فأَنجاه الله والذين آمنوا معه - برحمة منه، واستأَصَل جميع الكافِرينَ بآياتِ اللهِ، فلم يُبْق منهم أَحدا. فإن قطع الدابر كناية عن إِهلاك الجميع. ¬

_ (¬1) آخر سورة الرحمن.

وفائدة ذكر قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} بعد قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} الإيذان بأَنهم لو كانوا مؤْمنين، لما أهلكهم اللهُ. بل كان ينجيهم كما نجَّى المؤْمنين. ويجوز أَن يكون المراد وما كان ينتظر منهم الإيمان. وخلاصة ذكره المفسرون والمؤَرخون من قصة عاد: أَنهم كانوا يسكنون بأَحقاف اليمن، وأَنهم تبسَّطوا في البلاد ما بين عُمَان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها. فبعث اللهُ إِليهم هودا، وكان من أَفضلهم حسبًا، فكذَّبوه وازدادوا عتوًا، وتجبّرًا وأَمسك اللهُ المطرَ عنهم ثلاث سنواتٍ، حتَّى جهدوا - وكان أهل هذه الأَقاليم إِذا نزل بهم بلاءٌ لجأُوا إلى البيت الحرام، وطلبوا من الله أَن يُفرجه عنهم .. وكان أَهل مكة - وقتئذ - هم العماليق، من أَولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام. وسيّدهم معاوية بن بكر، وكان يسكن بظاهر مكة خارج الحرم. فنزل به وفدُ عادٍ. وكانوا سبعين من أشرافهم، وقد جاءُوا يطلبون من اللهِ الغيثَ ورفعَ القحطِ عنهم. فأنزلهم معاويةُ بن بكر عنده وأكرمهم. وكانوا أَخواله وأصهاره، فأَقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، ويسمعون غناءَ القِيان، وشغلوا عمّا جاءُوا من أَجله. وكان معاوية يستحيى أَن يكلمهم، خشية أن يظنُّوا به ثقل مُقامِهم عليه، فأوعز إلى إحدى القينات فغنَّتهم بما ذكَّرهم ما حاءُوا من أَجله. فقال بعضُهم لبعضٍ: إن قومكم بعثوا بكم لِتَتَغوَّثُوا لهم من البلاء، فأبطأْتم عليهم!!! فدخلوا الحرم. وقال رئيسُهم: اللهم اسقِ عادًا ما كنتَ تسقيهم. ولكنهم حقَّت عليهم كلمةُ اللهِ بما عصَوا رسولَهم هودًا واستعجلوا العذاب. فأَنشأَ اللهُ لهم سحائب ظنوها مطرا، خرجت على عاد من وادٍ .. يقال له: المغيث .. فقالت عادٌ: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} بينما كان هو العذاب الذي استعجلوا به، فهو ريحٌ عقيم. فيها عذاب أَليم: تدمرَّ كلَّ شيءٍ بأمر ربها .. سخَّرها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوما. فأَهلكتهم جميعًا. فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنُهم. وأنجى اللهُ هُودا ومَنْ آمن معه. فجاءُوا مكة. وعبدوا اللهَ حتى أدركتهم مناياهم.

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}. المفردات: {بَيِّنَةٌ}: معجزة ظاهرةُ الدلالة. {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}: وأنزلكم فيها مباءَات ومنازل. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ}: النحت نَحْرُ الشىء الصلب. ونحتهم الجبال: اتخاذهم الأَحجار منها. {آلَاءَ اللَّهِ} أَي: نعمه. جمع أَلى وهو النعمة. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ}: ولا تَسعوْا فيها بالإفساد. التفسير 73 - {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: أي وأَرسلنا إلى ثمود أَخاهم صالحا، ليتركوا الشرك بالله، ويعبدوا الله وحده. فقال: يا قوم اعبدوا اللهَ ما لكم مِن إلهٍ غيرُه.

وقوم ثمود: من ولد ثمود بن جَائِر بن أرم بن سام. وكانت مساكنُهم بالحِجْر، بين الحجاز والشام. وكانوا عربا بعد عاد. وقد كثُروا وعَتَوْا وعبدوا غير الله. فبعث اللهُ إليهم صالحا ليهديهم سواءَ السَّبيل. وكان واحدا من أَشرافهم. ولذا قال: {أَخَاهُمْ صَالِحًا} فقالوا له: يا صالحُ قد كنتَ فينا مرجوًّا قبل هذا ... أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤُنا؟ وكان في القوم بنَّاءُون مهرة، فكانوا ينحتون من الجبال أَحجارا، ويتخذون منها بيوتا، وكانوا في سعة من معايشهم. فلم يزل صالح يدعوهم .. فم يؤْمن به إلا قليلٌ منهم من المستضعفين. فلما ألحَّ عليهم بالتخويف والإِنذار، طلبوا منه آية تشهد له بأَنه مرسل من عند الله تعالى. فقال لهم: أيّة آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إِلى عيدنا، في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك وندعوا آلهتَنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإِن استجيب لنا اتبعتنا. فوافقهم صالح. فلما خرجوا في عيدهم، دَعَوْا أَوثانهم فلم تستجب لهم. فأشار رئيسُهم إِلى صخرةٍ وقال لصالح: أخرج لنا ناقةً - وذَكَرَ أَوْصَافَها - فإن فعلتَ صدقناك. فأَخذ عليهم العهود بذلك. ثم صّلى ودعا الله، فتمخضتِ الصخرةُ عن ناقة حسب الأوصاف التي أَرادوها، فقال لهم صالح: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} وإِضافة الناقة إلى اللهِ لتعظيمها، ولأنها جاءِتهم من عنده - سبحانه - بلا وسائط وأَسباب معهودة. ولذا كانت آية. وكان من عظم جسمها وعجيب أَمرها، أَنها إذا وضعت فمَها في الماء شربته كله. فلذا جُعِلَ لها يوم تختص فيه بشرب الماء، ولهم يوم آخر لا تشاركهم في شربه. وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬1) وكانت تعطيهم لبنا بدل الماء في اليوم الذي تختص فيه بالماء، فيشربون ويدخرون. فآمن بـ "صالح" جماعةٌ، بعد ظهور هذه الآية، وكفر به آخرون. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، من الآية: 155

وكانت أَنعامُهم تهرب منها إِذا أَبصرتها ترعى. فشقَّ ذلك عليهم. ولذا قال لهم صالح - عليه السلام -، محذّرا من مسّها بسوءٍ. {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي فاتركوها تأَكل العشب في أرض الله، فإن الناقة ناقة الله، والأرض أَرضه - سبحانه -. فليس لكم أن تحولوا بينها وبين رزقها في أَرض الله، ولا أن تتعرضوا لها بشىءٍ يسوءُها، كمنعها الماء والمرعى، وغير ذلك من أنواع الإيذاءٍ، اتقاءَ أَن يأْخذكم عذاب شديد الإيلام، بسبب إِهانتكم لآية الله. 74 - {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ... } الآية. أَي وتذكروا فضل ربكم عليكم، حين جعلكم خلفاءَ له في الأرض من بعد عاد، أو خلفاءَ لهم من بعدهم في أرضهم، وجعل لكم في أرض الحِجْر - بين الحجاز والشام - منازل أَنزلكم فيها، وبوَّأَكم في مباءاتها ومنازلها. {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا}: هذا استئناف، لبيان كيف بَوَّأهُم اللهُ في الأرض؟. والمعنى: ومَكَّنَكُم اللهُ من الأرض، بحيث تبنون من سهولها قصورا، وتنحتون الجبال بيوتا. أَمَّا بناؤهم من سهولها قصورا، فمعناه: أَن يُحوَّلُوا السهول إِلى مدائن ذات قصور رفيعة البنيان، ممَّا يجلبون إليها من مواد البناءِ، أو أن يجعلوا نفس السهول موادًا للبناءِ، كالآجر وطين اللصق، وكثير ذلك. وأَمَّا نحتُهم الجبالَ بيوتا، فالمراد منه: اتخاذهم من حجارتها المنحوتة - أَي المنجورة المسوّاة - بيوتا، بوضع بعضها فوق بعض، بطريقة هندسية، يستمسك بها البناءُ ولا يتصدع. وهذه النعمة التي يمنّ الله بها عليهم، تدل على أَنهم بلغوا في فن العمارة والحضارة شأْوا بعيدا، في هذا العهد الضارب في القدم، المتوغل في أَوائل البشرية.، حيث كانت البشربة تغطُّ في نومٍ عميق. وتلك تعمة تُوجِبُ على "ثمود" أَن تذكرها لله فتشكره عليها.

ولذا قال تعالى، حكاية عن وعظ صالح - عليه السلام - لهم. {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)}. التفسير 75 - {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ... } الآية. بعد أَن نصح صالح - عليه السلام - قومه ألَّا يتعرضوا لآيةِ اللهِ - وهي الناقة - بسوءٍ، وذكَّرهم نعمة الله عليهم، ونصحهم أَن يشكروها ولا يكفروها، ولا يعثَوا في الأرض مفسدين - قال أَشرافُ قومه المستكبرون، للذين استضعفوهم، وهم المؤمنون منهم، سائلين - بطريق الاستهزاءِ - هل تعلمون أَن صالحا مرسل من ربه، حتى سارعتم إلى الإيمان به؟ فأَجابهم أَولئك المؤمنون - في ثقةٍ واطمئنانٍ وجرأَةٍ - إِنَّا بما أُرسل به من ربّه مؤمنون، لأَننا نعلم أَنه مرسل من ربه بالحق. 76 - {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}: قال الأَشراف المستكبرون للمستضعفين المؤمنين - بعد أَن سمعوا منهم جوابهم - إنا بـ "صالح" الذي آمنتم به كافرون. ولم يقولوا: إِنا بما أُرسل به كافرون، إظهارا لمخالفتهم إيَّاهم وردًّا لمقالتهم.

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}. المفردات: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ}: العقر، الجرح. ويطلق على النحر. {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}: استكبروا عن امتثاله. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}: فأَهلكتهم الزلزلةُ. {جَاثِمِينَ}: خامدين: ميِّتين. التفسير 77 - {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ... } الآية. كان للناقة شرب يوم، ولهم شرب يوم من الماء. ويقال: إِنها كانت تعوِّضهم عن يومها ماءً باللَّبن. كما يُقال: إِنها كانت حين ترعى صيفا أو شتاءً، تهرب منها أنعامُهم لضخامتها - فعقروها، واقتسموا لحمها، وخالفوا بذلك أمر رسولهم صالح - عليه السلام -. فقال لهم: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (¬1). وفي اليوم الرابع، أَتتهم صيحةٌ من السماءِ ورجفة من الأرض: أَسكتت قلوبَهم فهلكوا، فأصبحوا - في ديارهم وأرضهم - جاثمين، خامدين، لا حراك بهم. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 65

وأَصل الجثوم: القعود. ويقال للناس: هم جثوم - أَي قعود لا حراك بهم ولا ينبسون. قال أَبو عبيدة: الجثوم للناسِ والطير، والبروك للإبل. والمراد؛ كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم - فلمّا فوجئوا - وَهم كذلك - بالعذاب، هلكوا وهم على حالهم، من غير اضطراب ولا تحرك. ولا يخفى ما فيه من شدّة الأَخذ وسرعة البطش .. 79 - {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}: أَي فانصرف بعد ما شاهد من حالهم، وقال - متحسرا على ما فاتهم من الإِيمان - لقد أَبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم بالترغيب والترهيب، وبذلت فيكم وسعى. ولكنكم لا تحبُّون الناصحين، فبقيتم على غيِّكم، حتى أَصابكم اللهُ بالهلاك. وظاهر الآية أَنه تولّى بعد أن رأَى حالهم من الهلاك، وأنه خاطبهم وهم موتى بقوله: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} الخ. ومثل ذلك ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بصرعى بدر، حين وقف بهم وخاطبهمُ وهم في القليب قائلا: "إنَّا وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبكُمْ حَقًّا"؟. (¬1) وقيل: إنما تولَّى عنهم قبل نزول العذاب بهم حين شاهد علاماته، وانصرف منكرا ما فعلوا، متوجها إلى فلسطين بمن معه من المؤمنين، ثم رجعوا - بعد هلاك الكافرين - فسكنوا ديارهم. والله تعالى أَعلم. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام وغيرها.

المفردات: {الْفَاحِشَةَ}: الفعلة الشديدة القبح - والمراد بها هنا اللواط. {مُسْرِفُونَ}: مجاوزرن الحد في المعصية. التفسير 80 - {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}: المعنى: وأرسلنا لوطا إِلى قومه حين قال لهم - موبِّخا منكرا زاجرا - أتأْتون الفعلة المتناهية في القبح، المتمادية في الشرّ والسوء؟ ما سبقكم بفعلها أَحد من العالمين، بل اخترعتموها أَنتم. وقد أنكر اللهُ عليهم أَولا: إِتيان هذه الفاحشة. ثم وبَّخهم ثانيًا: على أَنهم أوَّل من ارتكبها، فإنه ليس المراد من قوله تعالى: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} نفى سبق غيرهم لهم فحسب، بل المراد أَيضًا: أَنهم أَسبق العالمين إِليها. فهم أَول من أحدثها. وذلك على حدِّ ما قيل في قوله تعالى: {فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} (¬1)، فليس المراد منها أَنه لا يوجد أَظلم منهم فقط، بل المراد أنهم أَظلم من كل ظالم. ثم بيَّن اللهُ هذه الفاحشةَ المهينة الشائنة فقال: 81 - {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}: إِنكم لتباشرون المذكور لمجرد الاشتهاء الفاجر، تاركين النساء اللاتى جعلهن الله مواضع الاشتهاء، عن طريق الزواج!! بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعاصي. وكان لوط عليه السَّلام يقيمُ بقريةِ "سدوم" فأَرسله اللهُ إلى أَهلها، وكانوا أَهل كفر بالله وعصيانٍ له. وكان من أَخطره: إِتيان الذكران في أَدبارهم، وقطع السبيل على الغرباء لممارسة الفاحشة معهم. وكان من أَمر لوط معهم ما سبق بيانه مجملا في الآيتين الماضيتين. وفيما يلي بيانُ ما أَجاب به قومه وعقاب الله لهم، على إصرارهم ومضيهم في الكفر والفاحشة. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، من الآية: 15

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}. المفردات: {يَتَطَهَّرُونَ}: يتنظفون من الفواحش. {مِنَ الْغَابِرِينَ}: من الباقين. وفي المصباح: غَبَرَ. تُسْتَعمَلُ للماضى وللباقى. فهي من الأَضداد. التفسير 82 - {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ... } الآية. المعنى: وما كان جواب قوم لوط على زجرهم عن الفاحشة، إلا أَن قال بعضُهم لبعضٍ: أخرجوا لوطا ومن آمن معه من قريتكم "سدوم " فإنهم أُناس يتطهرون. وغرضهم من وصفهم بالتطهر الاستهزاءُ والسخرية بتطهرهم من الفواحش، والافتخار بما هم فيه من القذارة الخلقية. كما هو شأْن أَهل الدعارة. 83 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}: المعنى: فأَنزلنا بهم العذاب: فأنجينا لوطا وأَهله، إِلا أمر أَنه كانت من الباقين بالقرية، حتى نزل بأَهلها الكافرين العذاب، فهلكت معهم، لأَنها كانت تُبْطِن الكفر وتظهر الإيمان .. والنفاق أَخطر أَنواع الكفران. والمراد بأَهله الذين أَنجاهم الله معه: المؤمنون من أَهل القرية. سواء أَكانوا من أَقاربه أَم لا. وكانت نجاتُهم بتدبير اللهِ - تعالى -. فقد أَرسل الله جبريل وبعضَ الملائكة معه، لإهلاك قوم لوط، فأخبروه بمقصدهم، وأَمروه أَن يخرج ومن آمن معه إلى الشَّام، ويدع امرأَته فإنها من الهالكين.

وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} (¬1). 84 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}: المعنى: وأَرسلنا عليهم مطرا عجيبا .. بيَّنه اللهُ بقوله: { ... وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (¬2). فهلكوا جميعا. فانظر، أَيها العاقل، متعجبا: كيف كانت عاقبة المجرمين الذين يفسدون في الأَرض ولا يصلحون. وكانت قراهم خمسًا، تسمَّى "المؤتفكة" بين الشام والمدينة المنورة. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، من الآية: 65 (¬2) سورة الحجر، من الآية: 74

المفردات: {مَدْيَنَ}: اسم قبيلة شعيب، وهم أَولاد مدين بن إِبراهيم. وتطلق على المدينة التي كانوا يقيمون فيها، وهي واقعة قرب "معان"، بطريق الحجاز. {بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: حجة واضحة. {تَبْخَسُوا} البخس: النقص مطلقا. ويدخل فيه نقص الكيل والميزان. {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: تمنعون الناسَ عن دين اللهِ. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}: وتطلبون أَن تكون معوجة. {فَكَثَّرَكُمْ}: زاد في عددكم وأَموالكم. {يَحْكُمَ}: يَفصل. التفسير 85 - {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ... } الآية. ذُكِرَت هذه القصة في القرآن الكريم عدّةَ مرَّات. فقد وردت في الأَعراف، وهود، والشعراء. وتخنلف في عدد آياتها إيجازا وإِطنابا. وأَطولها ما ذكر في سورة هود. المعنى: وأَرسلنا إلى أهل مدين واحدا منهم، هو أَخوهم في النسب "شعيب" - عَليه السَّلام -. وهو من سلالة إبراهيم - عليه السلام - من فرع إسحق. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذا ذُكر "شعيب" قال: "ذاك خطيب الأنبياء"، لحسن مراجعته قومه. وقد بعثه اللهُ - عزَّ وجلَّ - رسولا إِلى أهل مدين، فدعاهم إِلى عبادته تعالى، ونهاهم عن أَكل أَموال الناس بالباطل. فكذَّبوه وعاندوا. فأَخذهم اللهُ بالصيحة. وبعثَهُ اللهُ إلى أَصحاب الأَيكة ولم يكن شعيب منهم نسبا، فكذَّبوه فأَخذهم اللهُ بعذاب يومِ الظُّلَّةِ.

وفيما يلي قصته مع أهل مدين. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: هذه دعوة إِلى توحيد اللهِ - عزَّ وجلَّ - وهي دعوة الرسل جميعا .. فيما من نبىًّ إلاَّ دعا قومه إلى توحيد الله تعالى، ونبذ عبادة غيره، وإِفراده بالعبادة. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬1). {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}: أي وقال لهم: قد جاءتكم حجة واضحة ومعجزة ظاهرة، شاهدة على صدق نبوتى من ربَّكم، ومالِك أُموركم. ولم تُذْكَرْ معجزتُه في القرآن، كما لم تُذْكَرْ معجزاتُ بعض الأَنبياءِ عليهم الصلاة والسلام. ويكفى أن الله أخبر بمجيئه بالبينة. الواضحة لهم. أَمَّا تعيينُها بشخصها، فلا ضرورة تدعو إليه. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}: بعد أَن أَمرهم شُعيب بتوحيد الله، وعظهم بالحفاظ على حقوق الناس، بإيفاء الكيل والميزان. ثم قال لهم: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}: أي ولا تنقصوا الناس أَشياءَهم، بأَخذها على وجه البَخْسِ. وهو النقص فيها خفيةً وتدليسًا. ويدخل في البخس، وصفُ الأشياءِ بما ينقص قيمتَها، ويصرفُ الناسَ عنها. ويدخل فيه أَيضا نقصُ الكيل والميزان عند البيع، والمبالغة في استيفائه عند الشراءِ، وغير ذلك مما يسلب الحقوق. {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}: أَي ولا تفسدوا في الأرض بالجور والكفر بعد إصلاح شأْن أَهلها بالشرائع التي جاءَ بها الأَنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام -. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي ذلكم المذكور من العمل بما أَمركم به الله تعالى، من توحيد الله، وإِيفاءِ الكيل والميزان، وترك ما نهاكم عنه من البخس والإفساد في الأَرض - خير وزيادة لكم في كل شىءٍ، لأَن الناس إِذا عرفوكم بالأَمانة والصدق والوفاءِ، رغبوا في معاملتكم لثقتهم فيكم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي إِن كنتم مصدَّقين لي فيما دعوتكم إليه، من توحيد الله تعالى، والعمل بسائر ما شرعه الله لكم من الأَحكام. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الآية: 25

86 - {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}: أَي ولا تقعدوا بكل طريقٍ من الطرق المسلوكة: تخوّفون من آمن بشعيب ودينه بالقتل. أو تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ}: أَي: وتمنعون من آمن بدين الله الذي جاءَ به "شُعَيب" من الاستمرار عليه، وتحملونه - بشَتَّى الأَساليب - على الرجوع عنه، كالطعن في "شُعَيب" بأَنه كذَّاب، جاءَ ليفتن الناس عمَّا هم عليه من تَدَيُّن. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}: أَي وتطلبون لسبيل الله الاعوجاج بوصفها للناس بما يعيبُها وينقصُها. وهي أبعد ما تكون عن العوج والنقص. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}: أي وتذكروا نعمة الله عليكم، حيث كنتم قليلى العدد والمال، فوفَّر عددَكم بكثرة النسل. وزاد أَموالكم فأَغناكم. {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}: أَي وتفكَّروا في عاقبة من أَفسدوا قبلكم من الأُمم المجاورة لكم، مثل قوم نوح، وعاد، وثمود. واعتِبروا بما حلّ بهم بعد عصيانهم. 87 - {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا}: يقول شُعَيب عليه السلام: وإِن وُجدَ منكم جماعةٌ صدّقوا بالذى أُرسلت به من الشرائع والأَحكام، وجماعة أُخرى استمروا على التكذيب، فلم يصدقوا بذلك. {فَاصْبِرُوا}: الخطاب للمؤمنين بشُعيب - عليه السلام -، حثًّا لهم على الصبر، واحتمال ما ينزل بهم من إيذاءِ الكفار لهم. {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا}: أي واصبروا إِلى أَن يقضى الله بيننا وبينهم، وهو- ولا شك - ناصر للمؤمنين، ومنتقم من الكافرين .. فهذا وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي: وهو- عزَّ وجلَّ - خير من يفصل بين الناس بالحق، ويميز المحقَّ من المبطل. فهو الحكم العدل: لا مُعَقِّب لحكمهِ ولا جَور فيه.

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}. المفردات {الْمَلَأُ}: الرؤساءُ وَالوُجَهَاءُ. {قَرْيَتِنَا}: هي مدين {مِلَّتِنَا}: دِيننا {افْتَرَيْنَا}: الافْتِراء: أَقْبَح الْكَذِب. {وَمَا يَكُونُ لَنَا}: أي وَمَا يَنبغىْ وَمَا يَصِحُّ لَنَا (افتَحْ): احكم (الفَاتِحِين): الحاكمين. التفسير. 88 - {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}: بعد أن سمع قوم شعيب مواعظه ودعوته إِياهم إلى التوحيد واتباع الحق قال الرؤساء من قومه غير مكتفين بتكذيبه وعصيانه - قالوا - استعلاء عليه واستكبارًا وتطاولًا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} .. أي والله لنخرجنك يَا شُعَيْبُ وَالَّذينَ آمنوا معك من قريتنا - مدين - قهرا، استصغارًا لشأْنكم واستهانة بدينكم كى نستريح من مواظبتك على دعوتنا لاتباعك، وعقابا لكم على ترك ملتنا. إلا أن تعودوا إليها فنصفح عنكم ونبقيكم في وطنكم.

{قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}. أَي قال شعيب جوابًا لقولهم - أو لتعودن - أنعود في ملتكم حتى في حال كرهنا لها لن يكون منا ذلك مطلقا في أَي حال يعد أَن نجَّانا الله من ظلمة الكفر والضلال ومنّ علينا بنعمة الإِيمان. وتوسيطهم النداء بقولهم (يا شعيبُ) بين تهديدهم له ولمن آمن معه بالإِخراج، لزيادة تهديدهم الناشىء عن غاية طغيانهم واستكبارهم. 89 - {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}: أَي نكون قد اختلقنا على الله كذبًا عظيما بلغ غاية القبح والشناعة إن رجعنا إلى الشرك الذي أنتم عليه بعد أن خلصنا الله منه وهدانا إِلى الإيمان إِذ يكون الرجوع حينئذ اعترافًا منا بظهور أَن ما كنا عليه من الإِيمان والتوحيد باطل وكذب. وما أَنتم عليه من الكفر والضلال حق وصدق - وهذا منتهى التناقض - ولا كذب أَقبح وأَشنع من هذا. {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}: أي وما يصح وما يتصور منَّا الرجوع إلى الشرك في حال من الأَحوال إلاَّ في حال مشيئة الله - تعالى - خالقنا ومربينا، وحاشا أَن يشاء الله - ذلك بعد إنقاذه - سبحانه - لنا من الوثنية والضلال وعنايته بإِرشادنا وإبلاغنا إلى الكمال اللائق بنا فهو ربنا الرحيم بنا، الذي أبلغنا بتربيته لنا إلى ما نحن فيه من الكمال الدينى. {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: أَي أحاط علم خالقنا الذي ربَّانا وأَبلغنا إلى الكمال اللائق بنا، - أحاط علمه - بكل ما كان وما سيكون من الأَشياءِ، ومن جملة ذلك أَحوال عباده ونياتهم فلا يعيدنا إلى الكفر بعد أن أَنقذنا منه ما دمنا معتصمين بحبله المتين ودينه القويم {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}: أَي على الله وحده توكلنا وفوضنا إليه أَمر تخليصنا من الأشرار وتثبيتنا على الإيمان. وبعد أن ظهر لشعيب ما عليه قومه من العتو والطغيان، وأَنه لا أَمل في إيمانهم، أَعرض عنهم ونادى ربه طالبا أَن يفصل بينه وبينهم بالحق. فقال:

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}: أَي يا ربنا اقض بيننا وبينهم بالقضاء الحق حتى يتميز الخبيث من الطيب وأنت خير الحاكمين - والتعبير بقوله "افتح": لأن القضاء بالحق يفتح الأَمر المغلق. {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}. المفردات: {الرَّجْفَةُ}: الزلزلة الشديدة. {جَاثِمِينَ}: باركين على الركب أَذلاء. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: أي كأَن لم يقيموا في مدينتهم. والمراد: أنهم استئصلوا بالمرة يقال غَنِىَ بالمكان يَغْنَى أَقام به - والمَغْنَى - المنزل. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ}: أَعرض عنهم وبعُدَ. {آسَى}: أحزن. التفسير بعد أن بيَّن القرآن الكريم إصرار شعيب ومن آمن معه على دين الله وعدم عودتهم إلى ملة قومهم انتقل إِلى بيان ما قالوه تخويفًا لأَتْباعهم من اتِّباع رسالة شعيب. فقال تعالى:

90 - {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}: أَي وقال الرؤساءُ المستكبرون الذين أصروا على الكفر من قوم شعيب - عليه السلام - بعدما أَيقنوا بصلابته ومن آمن معه في الإيمان وإِصرارهم عليه، وخافوا إقبال الناس على دعوته. اتجهوا إِلى تخويف عامة الناس من قبول دعوته بقولهم: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}: أي لئن اطَعْتُم شُعَيبًا فَدَخَلْتُمْ في دِينِه وَتَرَكتُمْ مِلَّةَ آبَائكمْ إنَّكْم حينَئِذٍ لخَاسِرُونَ دينكم الَّذِى أَنتم عليه، وخاسرون دنياكم بفقدان مزاياكم التي تتمتعون بها بيننا في المسالمة والتبادل التجارى، والرضا عنكم، والإخلاص لكم، وفقدان المكاسب التي تحصلون عليها بالبخس وتطفيف الكيل والميزان وغير ذلك. وبعد أَن حكى القرآن الكريم تكذيب أَهلِ مدين أَخاهم شعيبا وأنهم رفضوا دعوته عُتوًّا واستكبارًا وحث رؤساؤهم أَتباعَهم على عدم اتباعه، شرع يبين كيفية إهلاك هؤلاء الطغاة المتجبرين فقال تعالى: 91 - {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أَي فأَهلكتهم الزلزلة الشديدة فأَصبحوا باركين على ركبهم هالكين هلاك الذلة والصغار في أَماكنهم لا ينتقلون منها. وقد جاءَ في سورة هود أَن قوم شعيب أُهلكوا بالصيحة كما قال - تعالى -: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وفي الشعراءِ أنهم أُهلكوا بعذاب يوم الظلة {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} ويوجَّه هذا الاختلاف فيما أُهلكوا به بأَن شعيبا أُرسل إِلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، فأَما أَصحاب الأَيكة فقد أُهلكوا بعذاب يوم الظلة، كما سيأْتى بيانه في سورة الشعراءِ، وأَما أَهل مدين فقد أُهلكوا بعذابين، أَحدهما سبب والآخر مسبب، فأَما السبب فهو الصيحة، والمراد بها صيحة جبريل عليه السلام بهم، وأَما المسبب فهو الزلزلة فقد أَصابتهم من صيحته رجفة وزلزلة قضت عليهم فنسب هلاكهم تارة إلى السبب الأَول وهو الصيحة، وتارة إلى السبب الثاني وهو الرجفة التي ترتبت على الصيحة - فلا تعارض بين الآيات. وزيادة في إِيضاح ما حل بهم من أَهوال قال تعالى: 92 - {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ}:

أَي: هؤلاءِ الذين كذبوا دعوة شعيب إلى توحيد الله والإِصلاح وترك الفساد في الأَرض. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أَي: كأَنهم بعد إِهلاكهم بالزلزلة الشديدة لم يقيموا أَبدًا بديارهم حيث استُؤْصِلُوا بالرجفة. وكانوا وحدهم الخاسرين في الدنيا بالهلاك الشديد وفي الآخرة بعذاب النار - خسروا وحدهم دون شعيب ومن آمن معه كما كانوا يظنون. اقرأ قولهم فيما سبق: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}. وبمقابلة هذه الآية بما قبلها يتبين أمران: 1 - أن استئصالهم بارتجاف الأَرض حتى كأَنهم لم يقيموا فيها كان في مقابلة تهديدهم لشعيب بقولهم: "لنخرجنك يا شعيب". 2 - أن ما جاءَ في هذه الآية من خسران الكافرين من قوم شعيب وحدهم، جاءَ في مقابلة قول رؤسائهم لأتباعهم تحذيرًا من اتّباع شعيب: "لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذًا لخاسرون". وبهذا ظهر أن جزاءهم كان من جنس ما كانوا يقولون، ولكنه يفوقه في الشدة. 93 - {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}: أي فأَعرض شعيب وابتعد عن قومه حين رأَى الهلاك الذي نزل بهم وقال معتذرًا عن عدم حزنه عليهم وأَسفه على ما حل بهم، ومتبرئًا من ظلمهم يا قوم والله: لقد اجتهدت في إبلاغكم رسالات الله الذي خلقنى وربانى وبينت لكم ما فيها من سعادة دنياكم وأُخرا كم، وبذلت وسعى في توضيح طريقى الخير والشر فلم تستجيبوا لي - وكان الواجب أن تسمعوا قولى وتقبلوا نصحى. فحقت عليكم كلمة العذاب - بما قدمتم - فكيف أحزن على هلاك قوم بالغوا في الكفر، وأصروا عليه، واستكبروا استكبارًا، لن يكون ذلك مني.

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}. المفردات: {بِالْبَأْسَاءِ}: بالبؤس وشدة الفقر. {وَالضَّرَّاءِ} الضراءُ المرض. {السَّيِّئَةِ}: هي كل ما يسوء. {الْحَسَنَةَ}: كل ما يستحسنه العقل والطبع. {عَفَوْا}: أَي كثروا عددًا ومالًا. يقال عفا النبات إذا كثر. {مَسَّ آبَاءَنَا}: أَي: أَصاب آباءَنا. {بَغْتَةً}: فجأة. التفسير 94 - {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ... } الآية: بعد أَن بين القرآن الكريم - فيما سبق - أَحوال الأُمم مع أنبيائهم وذكر منا حل بهم من الهلاك والدمار جزاء تكذيبهم. انتقل في هذه الآية إلى بيان سنة الله - تعالى - في إنذار المكذبين من الأُمم قبل إِهلاكهم: والمعنى: وما أَرسلنا في قرية من القرى المهلكة أىَّ نبى من أَنبيائنا يدعو أَهلها إِلى عبادة الله - تعالى - فكذبوه وآذوه. إلا أَصبناهم قبل إهلاكهم بالشدة والضرر،

كإصابتهم بالمرض ونقص الأَموال والأنفس والثمرات - إِنذارًا لهم - {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}: أَي ابتلاهم الله بذلك رجاء أن يلجأُوا إِليه - سبحانه - طالبين كشف البلاءِ ويتذللوا له، ويخلعوا عن أنفسهم أَردية العتو والاستكبار فيؤمنوا باللهِ ربهم ولا يشركوا به أَحدا. ويجب أَن نلاحظ أَمرين: 1 - أَن إِصابتهم بنحو الفقر والمرض لم تترتب على مجرد الإرسال. بل على تكذيب المرسلين، بعد أَن بذلوا غاية الجهد في إِبلاغ ما أُرسلوا به. 2 - أن تكذِيب الأُمم للرسل مستتبع لنزول البلاء بهم بسبب عتوهم واستكبارهم. وكما أنذر الله المكذبين بالفقر والمرض تارة. كذلك ابتلاهم وامتحنهم بالسعة والصحة مكانهما تارة أُخرى. يدل لذلك قوله تعالى: 95 - {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا}: أَي: ثم أَعطينا أُولئك المكذبين المُصِرِّين على الكفر، مكان ما ساءهم من البأْساء والضراء، أَعطيناهم مكان ذلك السلامة والرخاء. كما قال تعالى: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" واستمر عطاوُّنا لهم حتى كثر مالهم وزاد عددهم فأَبطرتهم النعمة وأَطغتهم الكثرة ولم يشكروها. {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}: أي وقالوا جحودا للنعمة وكفرانا بالإِحسان بعد البأساء والضراء، وإعراضا عن العظة بنزول البلاءِ ورفعه بالنعماءِ: قد أصاب آباءنا من قبلنا البأْساءُ والنعماءُ ولسنا بدعا منهم فما أَصابنا على نمط ما أَصابهم، وهذا شأْن الدهر يداول السراء والضراء بين الناس فليس ذلك إنذارًا لنا. {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: أَي: فأَهلكناهم إثر ذلك أشد الإِهلاك وأقطعَه فجأَة، والحال أنهم لا يحسون أَدنى إِحساس بما سيلحقهم، ودون أَن يفكروا في أن شيئًا من المكاره سيحيق بهم، ليكون ذلك حسرة في قلوبهم وعبرة لغيرهم، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً

فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} فينبغى لكل عاقل أن لا يغتر بالنعماء، وهو مقيم على معصية الله {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}. المفردات: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أَي ليسرنا لهم الخير من كل جانب. {بَيَاتًا}: أي وقت بياتهم. {ضُحًى}: أَي ضحوة النهار وهى أَوله. {مَكْرَ اللَّهِ}: المراد بمكره تعالى إهلاكه لهم من حيث لا يحتسبون. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ}: أفلم يصنع الهداية لهم. {يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}: يخلفون من مضى قبلهم من الأُمم المهلكة.

التفسير 96 - {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .. } الآية: بعد أَنْ بَيَّنَ القُرآنُ الكرِيمُ، عاقبة المُكَذِّبين، جَاءتْ هَذِه الآية وَمَا تَلاهَا لتنْعَى على المكذبين من أَهل مكة ومن كان قبلهم وتوبخهم على إِصرارهم على الكفر إذ كان سببًا في إهلاكهم وحرمانهم من الخير. أَي: ولو أَن كفار مكة والذين أُهلكوا قبلهم بسبب تكذيبهم آمنوا باللُه وبما أَنزله من الشرائع على أَنبيائهم، واعتبروا بما أَصابهم من الضراء والسراء قبل إِهلاكهم، وجعلوا بينهم وبين الكفر والمعاصي وقاية بامتثال أَوامر الله واجتناب نواهيه، ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: أي ليسَّرْنا لهم سبل الخيرات الكثيرة والأَرزاق الوفيرة ووسعناها عليهم من كل باب فأَنرلنا عليهم من السماء ماء مباركًا فأَنبت الزرع وأَدرَّ الضرع وأَخرجنا لهم الكثير من كنوز الأَرض وذللنا لهم ما على ظهرها من الدواب والأنعام {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}. {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أَي ولكن كذبوا الرسل واستمروا على الكفر والقبائح، ولم يؤمنوا ولم يعتبروا بما أَصابهم فعاقبناهم جزاء ما قدمت أيديهم وَعِبْرَة لغَيرهمْ، وَمِن ذلكَ مَا أصَابَ قُرَيْشًا مِنَ الجَدب وَالْقَحْط بَعْدَ هِجْرَة النَّبِي - صَلى الله عليه وسلم - عنهم، لإِصرارهم على الكفر فلما آمنوا فتح الله عليهم بركات من السماء والأرض وقد عبر الله تعالى عن إِفاضة النعم والبركات علي من يؤمن بالأَنبياءِ بقوله: (فتحنا) للإِيذان بأَنها ميسرة وكثيرة كأَنها تتدفق عليهم من أبواب مفتحة. وفي سياق الحديث عن تقريع المكذبين من أَهل القرى يقول الله تعالى: 97 - {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ}: أي أَغفل أَهل القُرَى عَمَّا في الإنْذَار بِالبَأْسَاءِ والضرَّاء مِنَ العِبْرة وما يليه مِنَ الأخْذ وَالإهْلاَك، فأمِنُوا أَنْ ينزلَ عليهم عذابُنا وقت بياتهم في منازلهم وهم غارقون في النوم؟

وأهل القرى كما تقدم - يعلم كفار مكة ومن حولها، والمكذبين للرسل من الأُمم قبلهم، فتكون غفلة كفار مكة عدم اعتبارهم بإنذار من قبلهم ثم إِهلاكهم إنْ أصرُّوا، وغفلة المكذبين من قبلهم عدم اعتبار كل أُمة بإنذار من قبلها ثم إهلاكهم، أَو عدم اعتبار الأُمة الواحدة بإنذار الله لها بالبأْساء والضراء قبل إِهلاكها كما جرت سنة الله في إهلاك المكذبين. ويقول الله تعالى في سياق توبيخهم: 98 - {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}: أَي أَغفل أَهل القرى عما في إِنذار المكذبين ثم إهلاكهم من عظة وعبرة وأَمنوا أَن ينزل عليهم عذابنا في صدر النهار وقت الضحى عند انتشار ضوءِ الشمس إِذا ارتفعت {وَهُمْ يَلْعَبُونَ}: أي وحالهم أنهم يلهون ويشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون لشدة غفلتهم. وجاءت الآية بأْسلوب التوبيخ كسابقتها للمبالغة في التقريع والتشديد. والمراد استنكار أن يأْمن أهْل القرى نزول العذاب عليهم ليلًا أو في أَول النهار، وتقريرًا للاستنكار السابق قال تعالى: 99 - {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}: أَي أَجهلوا سنة الله في خَلْقِه فأمِنُوا استدرَاجه إِيَّاهُمْ بإِغدَاق نِعَمِه عَلَيْهِم، وَأخْذه لَهُم فَجأةً من حيث لا يحتسبون؟ إِن هذا لمنكر وعجيب. لأَنه لا يأْمن نزول الهلاك إِلا الذين خسروا أنفسهم بالكفر. وأضاعوا فطرة اللهِ التي فطر الناس عليها بترك النظر والاعتبار: وإشباعًا لاستنكار كفر المكذبين يعقب الله ما تقدم بقوله: 100 - {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: أَي أَو لم يجلب الهداية للكافرين الذين يرثون الأَرض من بعد إهلاك أَهلها، أن الشأْن لدينا لو نشاءُ لأصبناهم بالعذاب بسبب ذنوبهم، كما أَصبنا مِنْ قبلهم الذين ورثوهم الأَرض بعد هلاكهم بسبب ذنوبهم، فشأْننا في الوارثين هو شأْننا في الموروثين إذا كانوا على سنتهم، والمراد بالوارثين كل من كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.

وكذَّب دعوته {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: أَي ونحن نحكم إغلاق قلوبهم دون الخير بسبب إِساءتهم لأَنفسهم باختيار الكفر والضلال فهم لا يسمعون إِنذارا ولا يتدبرون إِرشادًا ولا يعتبرون بهلاك السابقين. {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}. المفردات: {بِالْبَيِّنَاتِ}: أَي بالمعجزات الواضحة الدلالة. {وَمَا وَجَدْنَا}: أي وما علمنا. {مِنْ عَهْدٍ}: أَي من وفاءٍ بعهد. والمراد ما عهد الله إليهم من الإيمان والتقوى. {وَإِنْ وَجَدْنَا}: إِن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأْق، والتقدير: وإِنه وجدنا أي وإِن الشأْن وجدنا. {لَفَاسِقِينَ}: أَي لخارجين عن الإِيمان والطاعة. التفسير 101 - {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}: أي تلك القرى المهلكة سبب بلوغ أَهلها غاية العتو والاستكبار. نذكر لك يا محمد من أخبارها وأخبار أهلها ما فيه تسلية وعبرة لمن أَرسلك الله إِليهم. وحسبكم في الدلالة على صدقها، ما نقل

إِليكم أَباؤُكم من أَنبائها، وما ترونه من آثار تدميرها، وما تسمعونه من أَهل الكتاب عنها {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. على حين أَن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، أَولى بالتصديق من أهل الذكر، فهو المؤَيد بالمعجزات الباهرات، وهو الصادق الأمين. {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ}: أي وتالله لقد جاء كل أُمة من تلك الأُمم التي خلت، رسولُها الذي بعثه الله إِليها بالمعجزة الخاصة به الواضحة الدلالة على صدقِ رسالته الموجبة للإيمان على ما قضَت به حكمته تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}: أي فما حدث لأُمة من تلك الأُمم الضالة الرجوع عمَّا هم عليه من كفر وضلال إلى هداية الرسل وإرشادهم، بل استمرُّوا على التكذيب وعَدم الإِيمان طول حياتهم ولم تغنهم الآيات والنذر، لكمال عتوهم وشدة طغيانهم، فاستحقوا بذلك ما نزل بهم من العذاب. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ}: أي مثل هذا الختم الذي أغلقَ الله به قلوب هؤلاءِ السابقين بسبب اختيارهم الكفر على الإِيمان يختم الله على قلوب جميع الكافرين، ويجعل عليها سدًّا يغلقها. فلا يسمعون نصحًا ولا يبصرون حقًا، ولا تلين قلوبهم. إذ تركوا الحق واتبعوا الباطل واختاروا طريق الفساد. ثم أضاف القرآن إلى ما تقدم شيئًا مِن سوء سلوكهم فقال تعالى: 102 - {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}: أي وما علمنا لأَكثر الأُمم إلتى مضت من عهد (¬1) - أَي رعاية لحرمة - وإن الشأْن معهم أنا وجدنا أَكثرهم فاسقين خارجين عن القيم الخلُقية والدينية، وما آمن وأَصلح منهم إلا قليل. ¬

_ (¬1) من جملة معانى العهد رعاية الحرمة، وهذا المعنى هو المناسب لقوله تعالى في ختام الآية: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) راجع المادة في القاموس.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}. المفردات: {مَلَئِهِ}: الملأُ رؤَساءُ القوم. التفسير 1030 - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا ... } الآية: أَي: ثم أَرسلنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب الذين تقدمت أَخبارهم أَرسلنا بعدهم - موسى - بآياتنا. أَي: بمعجزاتنا التسع الدالة على صدقه رسالته، وهي العصا تنقلب حية واليد تخرج من جيبه بيضاء، والسنون المجدبة ونقص الأنفس والثمرات، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وطمس الأموال (¬1). {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}: أَي إلى ملك مصر ورؤَساء قومه ووجهائهم. وخصوا بالذكر مع أَن رسالته لفرعون وقومه أَجمعين. لأَنهم يقومون بتدبير الأُمور، وغيرهم تبع لهم. {فَظَلَمُوا بِهَا}: أَي فكفروا بهذه الآيات وكانوا بهذا الكفر ظالمين، لأَنها واضحة الدلالة على صحة رسالة موسى عليه السلام، ولم يؤمنوا بها. أو المعنى: فظلموا أنفسهم إذ عرضوها للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة بسبب تكذيبهم بهذه الآيات، وظلموا غيرهم بمنعهم من الدخول في دين الله. ¬

_ (¬1) هذه الآيات ستذكر في هذه السورة، عَدا طمس الأموال، فهو مذكور في سورة يونس في قوله تعالى: "ربنا اطمس على أموالهم".

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}: أي فتأمل بفكرك مآل هؤلاء الذين أفسدوا في الأَرض بالشرك وقتل الأَنفس البريئة وتعذيب الضعفاء وسلب الأَموال، لا شك في أن مآلهم لا تحيط العقول بأَهواله وشدته. فقد أَغرقهم الله جميعًا بمرأَى من موسى ومن معه وتلك عاقبة الظالمين. {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)}. المفردات: {جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ}: جئتكم بآيات وِاضحة الدلالة على نبوتى. التفسير 104 - {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: لما أجمل القرآن آيات موسى عليه السلام في قوله سابقًا: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} شرع يفصل تلك الآيات في هذه الآية. والمعنى: قال موسى مخاطبًا فرعون: - يا فرعون - إني رسول من عند رب العالمين خالق كل شيء ومربيه ومتعهده، أرسلنى لأُبلغك الحق الذي جئت به. 105 - {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}: أَي إن رسول من رب العالمين محقق الرسالة ثابِتها، ورسالتى قائمة على أن لا أَقول على الله إلا الحق، أَو حقيق بمعنى حريص أي: حريص على أن لا أَقول على الله غير الحق والصدق فلا إِهمال ولا تفريط. أو المعنى: جدير بأن لا أَقول على الله إِلا الحق فتكون (على) في قوله تعالى: {عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} ... إلخ. بمعنى الباءِ إذ أَن كلا منهما يأْتى مكان الآخر.

{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: أَي قد جئتكم بآيات بينة واضحة الدلالة على صدق رسالتى من عند خالقكم ومربيكم الرحيم بكم فكانت صادقة لذلك. {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أَي فخل يا فرعون أَمر بني إِسرائيل وأَطلق سراحهم ولا تعترض طريقهم وأَخرجهم من دائرة قهرك واتركهم أَحرارًا يعبدون الله وحده ولا تعذبهم. {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}. المفردات: {ثُعْبَانٌ}: هو الذكر من الحيات. {مُبِينٌ}: بَيِّنٌ ظاهرَ لا يشك أَحد في أَنه ثعبان. {وَنَزَعَ يَدَهُ}: أَي وأَخرج يده من جيبه. {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي: بيضاء بياضًا خارجًا عن العادة يجتمع الناس عليه لينظروه تعجبًا من شدته. التفسير 106 - {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: أي قال فرعون لموسى حين قال له ما قال: إِن كنت يا موسى جئت بمعجزة واضحة الدلالة من عند إلهك الذي أَرسلك كما تدعى {فَأْتِ بِهَا}: أَي فأَحضرها وأَظهرها لنا، إِن كنت في دعواك الرسالة من جملة الصادقين وفي عدادهم.

107 - {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}: أَي فأَلقى موسى عصاه على الأرض فور طلب فرعون ففاجأَتهم بكونها ثعبانًا عظيم الجثة مفزعًا لا يشك أَحد في أَنه ثعبان يسعى ويتحرك حقيقة لا متخيلا كما في سحرهم، وذلك لظهور أَمره ووضوح شأْنه. وتلك هي الآية الأُولى المؤيدة لصدقه، ثم بيَّن القرآن الكريم الآية الثانية بقوله: 108 - {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}: أَي وأَخرج موسى يده من جيبه بعد أَن أَدخلها فيه أَمامهم على لونها الأَصلى فإِذا هي بعد إخراجها منه قد تغيرت على الفور من لونها الأَسمر إِلى لون أَبيض خارج عن العادة، جعل الناس ينظرون إليها وتتعجبون من أَمرها. {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)}. المفردات: {لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}: لساحر ماهر عظيم العلم في سحره يأْتى بأَفعال عجيبة. {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}: أَي أرجئهما وأَخرهما لننظر في أَمرهما. {الْمَدَائِنِ}: أَي المدن حيث يوجد السحرة. {حَاشِرِينَ}: جامعين. التفسير 109 - {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}: أَي قال الرُّؤساء أصحاب الرأْى من قوم فرعون حينما جاءهم موسى بالآية التي طلبها فرعون - قالوا - فزعًا وخوفًا ومجاراة لفرعون: إِن هذا الذي يدعى أَنه رسول رب العالمين لساحر ماهر في سحره بلغ الغاية في إتقانه.

110 - {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: صَدْرُ هذه الآية من جملة حديث الملأ لفرعون، أَي وقالوا له أيضًا: يريْد موسى الساحر الماهر أَن يخرجكم من أَرضكم - مصر - بسحره العظيم، لينتزع ملكها من أَيديكم، ويرثها من بعدكم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: أَي قال فرعون بعد أن سمع مقالة أَصحاب الرأَى من قومه فبأَى أَمر تأَمرون وبأَى رأْي تشيرون في شأن موسى؟ 111 - {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}: أَي قال أَصحاب الرأْى - إِبداء للمشورة التي طلبها فرعون منهم أَخر القضاء في أَمرهما حتى يتضح للناس أَنهما ساحران حين ظهر عليه بسحرنا، وأَشاروا عليه بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}: أَي وابعث في مدائن مصر وقراها رجالا يجمعون السحرة من حيث يوجدون ويحضرونهم إِليك كما قال تعالى: 112 - {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}: أَي: يجيئوك بكل ساحر ماهر بلغ الغاية في إتقانه علم السحر. {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)}. التفسير 113 - {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}: تحكى هذه الآية أَن فرعون عمل بمشورة ملئه، فاستدعى السحرة من المدائن، فجاءُوه وقالوا له: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}: أي هل يكون لنا أجرٌ مؤَكد، إن تحققت لنا الغلبة بسحرنا على موسى يريدون بسؤَاَلهم هذا أَن يتحققوا من أَن لهم أجرًا على سحرهم إِن غلبوا، حتى يبذلوا الجهد الموصل إلى تلك الغاية بزعمهم، والاستفهام في الآية ملاحظ، وقرىء:

{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا}: بإِظهار همزة الاستفهام، وقد أَجابهم فرعون على استفهامهم هذا بما يطمئنهم على أَن لهم أَجرًا مؤَكدًا، وذلك فيما حكاه الله بقوله: 114 - {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}: أَي قال فرعون استجابة لهم: نعم لكم ما طلبتموه من الأَجر، وإِن لكم عندي زيادة على ذلك المكان القريب والمنزلة الرفيعة، فلا أَقف في تكريمكم عند إِعظام أَجركم وإِغداق المال عليكم. وإِنما أَعلمهم بالأَجر والزلفى عنده قبل أَن يباشروا سحرهم، تحريضًا لهم على بذل الوسع في عمل السحر عند التقائهم بموسى - عليه السلام -. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}. المفردات: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}: بالغوا في إِرهابهم وتخويفهم. التفسير 115 - {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}: أَي قال السحرة عند مواجهتهم لموسى في ساحة التحدى: يا موسى إما أَن تلقى عصاك التي تنقلب حية قبلنا، وإِما أَن نكون نحن الذين نلقى حبالنا التي تنقلب أَفاعى قبل إِلقائك، وكان هذا التخيير في البدءِ، ناشئًا عن ثقتهم بالغلبة، سواء أَتأَخروا عنه أَم تقدموا عليه فكأَنهم قالوا: إِن أَمرك لا يهمنا فالغلبة لنا عليه، سواء أَبدأت أَم كنا نحن البادئين. 116 - {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}: أَي: قال لهم موسى عليه السلام - استهانة بشأْنهم ووثوقًا بتأْييد الله - تعالى - له

{أَلْقَوْا}: أَي ابدأَوا بإِلقاء ما تريدون إلقاءَه فسترون ما يحل بكم من افتضاح أَمركم وظهور كذبكم وتمويهكم. {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}: أَي فلما أَلقى السحرة ما عندهم من حبال وعصى صرفوا أَعين الناس عن إِدراك حقيقة هذه الأَشياءِ لكثرة ما أَتوا من أُمور عجيبة وتمويهات كثيرة أَثرت على الناس تأَثيرًا نفسيا بالغًا فخفيت عليهم الحقائق حتى خيل لهم مالًا حقيقة له كأَنه حقيقة، وأَرهبوهم بذلك إِرهابًا شديدًا وملأُوا قلوبهم رعبًا وخوفًا. {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أَي: وأَتوا في باب السحر بأَنواع كثيرة وأَعمال عجيبة خيل للناظرين أَنها حقائق ثابتة: وليست كذلك فكان سحرهم عظيمًا عندهم لا في واقع الأمر. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}. المفردات: {تَلْقَفُ}: أَي تأْخذ وتبتلع بسرعة. {مَا يَأْفِكُونَ}: ما يكذبون ويموهون الحقائق بقلبها - والإِفك في الأَصل قلب الشىء عن وجهه ومنه قبل للكذاب أَفاك لأَنه يقلب الكلام عن وجهه الحق إِلى الباطل. {فَوَقَعَ الْحَقُّ}: ثبت وظهر. {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: ظهر بطلان السحر الذي كانوا يعملونه. {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}: وعادوا من مبارزة موسى مستسلمين وصاروا أَذلاء.

التفسير 117 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}: أَي: وبعد أَن أَلقى السحرة حبالهم وعصيهم، وجاءُوا بأَنواع كثيرة من السحر البارع الذي سحروا به أَعين الناس، وخيل، لهم ما خيل، وأَرهبوهم إِرهابًا شديدا. بعد ذلك أَمر الله - تعالى - موسى - عليه السلام - بطريق الوحى تقوية لعزمه، وتسكينًا لروحه وإِذهابا للخوف عنه - أَمره - أَن يلقى عصاه فأَلقاها. {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}: أَي فإِذا هي حية عظيمة. تلتقم وتبتلع في سرعة فائقة عجيبة ومخيفة ما قلبوه واختلقوه من السحر. 118 - {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي فثبت وظهر بهذا أَن آيات الله لا تقف دونها الأَباطيل، وأَن موسى رسول رب العالمين، الذي أَعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، بعثه الله إِلى فرعون بالحق المبين، وبطل بهذا التأْييد من الله ما كان يعمله الساحرون. 119 - {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ}: أَي فانهزم هؤلاء السحرة أَمام صدق موسى - عليه السلام - ومعجزته الواضحة التي جاء بها في المكان الذي وقع فيه بحضرة بحضرة تلك الحشود الكثيرة التي جمعها فرعون لشهود ما يجرى بين موسى - عليه السلام - وعلماء السحر يوم الزينة وقت الضحى، ورجع أولئك السحرة صاغرين أَذلاء لهزيمتهم، بعد ما كانوا يزعمون أَنهم هم الغالبون. 120 - {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}: أَي فخر السحرة وقوعًا على وجوههم بقوة - كأَنما أُلقوا من علو ساجدين لله رهبة وخشوعًا، مؤمنين برب موسى مصدقين برسالته حينما وضح الحق لهم، كما قال تعالى - حكاية عنهم. 122،121 - {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}:

: أَي وبعد أن تيقنوا أَن ما شاهدوه من أَن أَمر عصا موسى لا يمكن أَن يجىء من السحر. قالوا آمنا وصدقنا برب جميع المخلوقات ومبدع الكائنات وهو رب موسى وهارون الذي بعثهما إِلى فرعون وملئه بالقول اللين والحجة الواضحة وجاءَ تصديقهم غير مقتصر على ذكر وصفه تعالى بأَنه رب العالمين - بل ذكروا أَيضًا فيه - رب موسى وهارون دفعًا لتوهم أَنهم أَرادوا - فرعون - إذ حكى القرآن عنه قوله لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬1). كما لم يكتفوا بذكر {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} خَشية أَن يتوهم معاند: أَن لموسى وهارون ربًّا سوى رب العالمين. {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}. التفسير 123 - {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}: أي: قال فرعون حينما آمن السحرة بموسى وصدقوا برسالته - قال - موبخا لهم ومهدِّدًا، أَقدمتم أَيها السحرة على التصديق بموسى والإِيمان بالإِله الذي دعاكم إِلى عبادته وتوحيده - أَقدمتم على ذلك بغير إِباحة مني وبدون رضاى فلسوف ترون ما أنزله بكم من العقاب الذي لا طاقة لكم به. وكلام فرعون للسحرة يحتمل الإِخبار ويحتمل الاستفهام التوبيخى على جرأَتهم على الإِيمان به قبل أَن يأْذن لهم، تمهيدًا لوعيده الآتى لهم، وعلى الاستفهام تقدر الهمزة قبل آمنتم، وحذف حرف الاستفهام معهود في لغة العرب. ¬

_ (¬1) سورة النازعات من الآية: 24

{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}: أَي إن إِيمانكم بموسى لم يقع منكم لوضوح حجته وصدق معجزته بل هو حيلة احتلتم بها وخديعة اتخذتموها بالاتفاق مع موسى في مدينة مصر لتخرجوا منها سكانها الأَصليين - القبط - فيزول ملكهم وتدول دولهم ويستقر لكم الأَمر من بعدهم. وقد قصد الطاغية بهذا الأُسلوب: أَن يلقى في أَسماع عامة القبط بشبهتين: الأُولى: أَن إِيمان السحرة كان بناءً على اتفاق سابق وتواطُؤ موسى. الثانية: أَن ذلك كان لإخراج أَهل مصر من ديارهم، وقصده تثبيت أَهل مصر على ما هم عليه من عبادته والخضوع له وإِذكاء نار عداوتهم لموسى وحقدهم عليه إِذ ليس أَشق على النفوس من مفارقة الأَديان، وترك الأَوطان. وبعد أَن أَلقى بهاتين الشبهتين توعد السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام فقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أَي فسوف تعلمون الأَهوال التي سأُنزلها بكم جزاءَ إِيمانكم بموسى وتواطئكم معه. وقد عَقَّب وعيده المجمل بتفصيله كما حكاه الله تعالى بقوله: 124 - {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}: أَي لأَقطعن اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أَو بالعكس. {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}: أَي ثم بعد تقطيع أَيديكم وأَرجلكم على الوجه المتقدم لأَربطنكم بالحبال على جذوع النخل، كما قال تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (¬1). وغرض هذا الأَثيم من صلب السحرة بعد تقطيع أَطرافهم زيادة التنكيل بهم، وأَن يكونوا عبرة لغيرهم. ¬

_ (¬1) سورة طه الآية: 71

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}. المفردات: {مُنْقَلِبُونَ}: راجعون. {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}: أَفِضْهُ علينا وعُمَّنا به. التفسير 125 - {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}: أَي: إِننا إِلى نعيم ربنا الدائم وثوابه الجزيل ورحمته الواسعة لصائرون إِذا نفذت فينا وعيدك. فعجل كى تتحقق أَحب الأَمانى إِلى قلوبنا أَلا وهي الفوز بلقاءِ ربنا. وهذا أَسمى ما ترقى إليه درجات الإِيمان والثبات على الحق. أَو المعنى: إِننا جميعًا إِلى جزاءِ ربنا لراجعون بالموت لا محالة بأَى سبب سواء أكان بطريقتك أَم بغيرها، فلن يزيدنا هذا التهديد إِلا إيمانًا. أَو المراد: إِننا جميعًا نحن وأَنت إِلى حساب ربنا لراجعون بالموت فمصيرنا ومصيرك إِليه تعالى. فيحكم بيننا بالحق وهو خير الحاكمين. 126 - {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا}: أَي وما تنكر منا وما تعيب علينا أَمرا من الأُمور وفعلا من الأَفعال سوى إيماننا بربنا - وهو الحق - وتصديقنا بآياته البينات حينما جاءَتنا واضحة هادية إِلى الخير على يد موسى - عليه السلام - فصدقنا بها وآمنا برب العالمين رب موسى وهارون. والإِيمان باللهِ خير الأَعمال وأَساس كل سعادة، وأَصل المفاخر، فلا نَعدِلُ عنه أَبدًا، طلبًا لمرضاتك يا فرعون ورغبة في رحمتك، أو خوفًا من عقابك.

وتقريرًا لما في قلوبهم من قوة الثبات على ما قالوه رغبوا عن خطاب فرعون ولجأُوا إلى الله يطلبون منه صبرًا جميلًا، وثباتًا على الإسلام إِذ قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}: أَي: يا ربنا أَفِضْ علينا صبرًا عظيما صادقًا يغمرنا كما يغمر الماء الذي يصب بغزارة ما ينزل عليه - صبرًا - يكون عونًا لنا على تحمل الشدائد عند تنفيذ وعيد فرعون كى لا نعود بعد الإيمان كفارًا، وأَمِتْنا ثابتين على الإِسلام غير مفتونين بوعيد فرعون. {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)}. المفردات: {أَتَذَرُ مُوسَى}: أَي أَتترك موسى. {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: ونستبقى نساءهم أَحياءً. التفسير 127 - {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}: أَي وقال أَصحاب الرأْى من قوم فرعون حين شاهدوا صدق موسى وغلبته وإِيمان السحرة به وظهور أَمره. قالوا يحرضون فرعون على إيذاء موسى ويشيرون عليه بمطاردته. والتخلص منه ومن أَتباعه: أتترك موسى وقومه أَحرارًا آمنين يعيثون في أَرض مصر فسادًا يصرفون الناس عن اتباعك ويحولونهم عن عبادتك. ويترك هو تعظيمك وتعظيم آلهتك التي شرعت لهم عبادتها، وجعلت نفسك الإِله الأَكبر لهم. كما حكاه القرآن عنه في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬1) إن هذا لا ينبغى أَن يكون كما زعموا. ¬

_ (¬1) سورة النازعات، من الآية: 24

وأُضيفت الآلهة إِلى فرعون لأَنه الآمر بعبادتها لتقربهم إِليه. ويجوز أَن تكون له آلهة كان يعبدها مثل الشمس والكواكب، فأُضيفت إليه آلهته، إِضاقة المعبود للعابد، وأَما قوله تعالى حكاية عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} فيحملان على أَنه كان يؤله نفسه زاعمًا أَنه يمثل الآلهة السماوية، وأَنه بذلك يكون إِلههم الأَعلى من البشر، وأَنه لا يعلم لهم إِلها يستحق أَن يعبد سواه، لأَنه يمثل الآلههَ، ومثل هذا الاعتقاد موجود في اليابان، حيث يزعم الإِمبراطور أَنه يمثل الآلهة، ولذلك يعبده قومه الذين هم على مذهبه، وبعد أَن استعدى الملأُ فرعون على موسى وقومه بني إِسرائيل أَجابهم بقوله: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: أَي: قال فرعون للملأ من قومه تهديدًا لقوم موسى سنعيد سيرتنا الأُولى معهم فنفعل بهم ما كنا نفعله من قبل فنقتل الذكور عند ولادتهم ونستبقى النساء أَحياء ليزدادوا بهن ضعفا، وليعلم موسى ومن معه أَننا ما زلنا الأقوياء الغالبين، وأَنهم ما زالوا الأَذلاء المقهورين كما قال تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}: أَي وإِننا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان لم يتغير لنا حال ولم يتبدل لنا نظام. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}. التفسير 128 - {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}:

لما سمع أَتباع موسى عليه السلام، وعيد فرعون وتهديده الذي مر بيانه، ملأ الخوف والفزع قلوبهم فدعاهم إِلى الاستعانة بالله وأَمرهم بالصبر ووعدهم النصر كما حكاه القرآن الكريم في هذه الآية. والمعنى: قال موسى - عليه السلام - للمؤمنين به تثبيتًا لقلوبهم وتسلية لهم اطلبوا العون من الله فإِنه وحده القادر على إهلاك أَعدائكم الطغاة الظالمين، واثبتوا على الإِيمان والطاعة واصبروا على أذى فرعون وقومه ولا تجزعوا. {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: أي: اصبروا ولا تجزعوا لأَن الأَرض ملك خالص لله وحده وفي قبضته. يمنح الحكم فيها من يشاء من عباده، فلا تجزعوا لوعيده، فسوف ينجيكم الله بنزع الملك منه، وتوريث الأَرض لمن يشاء توريثه إِياها من عباده، والعاقبة الحميدة لمن يتقى الله. وستكون لكم هذه العاقبة بالنجاة، وسيأْتى الحديث عن عاقبتهم. وفي حزن عميق ومسكنة شديدة رد بنو إسرائيل على موسى فيما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: 129 - {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}: أَي قال بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام - أُوذينا من فرعون وقومه من قبل أَن تأْتينا برسالتك - أُوذينا - بقتل أَبنائنا وبسائر انواع العذاب والاضطهاد، وأُوذينا من بعد ما جئتنا رسولا بكل أَلوان الظلم والجور والاستعباد مع توعده لنا بمزيد من قتل الأَبناء واستبقاءِ النساءِ أَحياء مبالغة في إِذلالنا، ونكاية فيك يا موسى. {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}: أَي قال موسى - عليه السلام - لبنى إسرائيل تسلية لهم وتطييبًا لقلوبهم، وبعثًا للأَمل في نفوسهم: عسى ربكم أَن يدمر عدوكم الذي أَذاقكم العذاب أَلوانا بالقتل والعسف

والجور، ويجعلكم خلفاء في أَرض مصر ولعل هذا الوعد الكريم يشير إلى حكمهم لمصر في عهد يوسف عليه السلام (¬1). {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: أَى فيرى ربكم كيف تعملون في عبادته ومعاملة خلقه حين تحكمون مصر، أَتتبعون سبيل الرشاد فتنجوا وتسعدوا؟ أَم تسلكون سبيل الغى والفساد فتؤاخذوا. ثم بدأَ الله تعالى يحدثنا عن النذر التي سبقت عقابه لفرعون وآله بالإِغراق في اليم وهو مُليم فقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)}. المفردات: {بِالسِّنِينَ}: السنون جمع سنة والمراد بها هنا القحط والجدب، يقال أصابتهم سنة أي جَدْبٌ. {الْحَسَنَةُ}: كل خير والأَقرب هنا السعة والخصب. {سَيِّئَةٌ}: السيئة كل ما يسوء والأَقرب هنا الجدب والقحط. {يَطَّيَّرُوا}: يتشاءموا. {طَائِرُكُمْ}: يطلق الطائر على الحظ والنصيب والعمل والرزق. ¬

_ (¬1) أو لعله يشير إلى حكهم سابقا في أرض فلسطين، فقد كانوا فيها خلفاء لمن قبلهم، فيكونون قد وعدوا بإهلاك عدوهم، وبإبدالهم من بعد العبودية في مصر، ولاية الحكم في فلسطين، وصدْق هذا الوعد أو ذاك يتحقق ولو بمرة، وقد أزال الله دولتهم لبغيهم، وقطعهم في الأرض أمما، فخسروا استحقاقهم الوعد بميراثهم الأرض. واحتمال ميراثهم حكم فلسطين - مؤقتا - هو الأقرب إلى قوله تعالى "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" وسيأتي قريبا الكلام عليها.

التفسير 130 - {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: أي والله لقد أَصبنا فرعون وقومه بالقحط الشديد والجدُوب المتراكمة. وأَنقصنا من ثمرات زروعهم وبساتينهم بتسليط الآفات والأَمراض التي فتكت بأَكثرها لعلهم يتعظون ويتدبرون في أمرهم. فيعلموا أَن ما نزل بهم إِنما هو بسبب كفرهم وطغيانهم فيرجعوا عما هم عليه من العتو والفساد، ويؤمنوا بالله الواحد القهار، فإِن الشدة ترقق القلوب، وترَغِّب فيما عند الله - تعالى - وتفتح أَبواب الضراعة إِليه. كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (¬1) ولكنهم لم يتعظوا وظلوا في طغيانهم يعمهون. 131 - {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ}: أَي: فإِذا جاءَت هؤلاءِ المكذبين بموسى السعة وأَثمرت أَراضيهم وتوالت عليهم الخيرات قالوا هذا حق لنا قد جاءَ لأَجلنا، أَصابنا عن استحقاق له وجدارة به، ينكرون بذلك إِنعام الله عليهم وإِحسانه إِليهم. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}: أَي: وإِن تنزل بهم الخطوب والأَمراض، ويحل بهم الجدب والقحط يتشاءَموا بموسى ومن معه، وينسبوا ذلك إِليهم، ويقولوا ما حلت بنا الكوارث، وما أَصابتنا النوازل إلا بشؤم موسى ومن معه. وذلك لقسوة قلوبهم وتركهم التدبر في الآيات والنذر. {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}: أَي أَلا إن ما قدر لهم من الخير والسعة، وما أَصابهم من السوءِ والبلاءِ، إِنما هو من عند الله وبتقديره، وليس شرهم بسبب موسى وقومه، ولا خيرهم باستحقاقهم، وكل من الشر والخير ابتلاءٌ من الله تعالى لعباده، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي ولكن أَكثر هؤلاءِ الطغاة الجبارين جهلاء لا يعلمون أن ما حل بهم من الشدائد والنوازل ما هو إِلا بلاءٌ من عند الله وحده بسبب ذنوبهم واستعلائهم في الأَرض بغير الحق ليزدجروا، لا بسبب موسى ومن معه. وما أَصابهم من الخير ما هو إلا فتنة لعلهم يتذكرون ربهم فيشكرون. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، من الآية: 51

وقد صدرت جملة - ألا إِنما طائرهم - بأَلا التي للتنبيه لإِظهار كمال عناية القرآن الكريم بردّ قولهم الباطل وزعمهم الفاسد. وأَصل التطيُّر من الطِّيرَة، وقد كانوا إذا أَرادوا سفرًا أو فعل أَي شيءٍ أَثاروا الطير. فإِن اتجه يمينًا تفاءَلوا وأَقدموا على ما أَرادوا سفرًا كان أم غيره. وإِن اتجه شمالًا تشاءَموا وقعدوا. ثم كثر استعماله في معنى التشاؤم. وقد كانت العرب تتيامن بالسانح - وهو الذي يأْتى من جهة اليمين - وتتشاءَم بالبارح - وهو الذي يأْتى من جهة الشمال - وكانوا يتطيرون ويتفاءَلون بغير ذلك فسموا توقع الشر ممّا يزعمون تطيرًا، وسموا توقع الخير مما يزعمون تفاؤلًا، مع أَن كلًا من عند الله. وليس للطير وغيره دخل في قدر الله تعالى. {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}. التفسير 132 - {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}: أَي وقال فرعون وآله بعد ما رأَوا من أَمر العصا والسنين ونقص الثمرات وعاينوا ما عاينوا ولم يعتبروا - قالوا بعد ذلك - أَىُّ آية تأْتينا بها يا موسى وإِن عظمت وكثرت لتسحر أَعينَنا بها وتموه عينا وتصرفنا عن ديننا فلسنا لك بمصدقين ولا برسالتك مؤمنين. {مَهْمَا}: اسم شرط، {تَأْتِنَا}: فعل الشرط، و {مِنْ آيَةٍ}: بيان وتفسير للضمير في {بِهِ} وجواب الشرط {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} - وسموا ما يأْتى به موسى آية - مجاراة لتسمية موسى مع قصد السخرية والاستهزاءِ.

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}. التفسير 133 - {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ... } الآية: أَي: فعاقبنا فِرعون وقومة بأَنواع أُخرى من العقوبات لا أَصروا على الكفر ولم يعتبروا بما رأَوا من الآيات. وتلك العقوبات - هي: 1 - إفاضة الماء الكثير وتسليطه عليهم حتى أَحاط بهم وملأَ بيوتهم وغطَّى أَرضهم وزرعهم. فأَتلف الزروع ومنع الناس من حرث الأَرض والسير في الطرق لقضاءِ حوائجهم وتدبير شئون حياتهم. وسلط عليهم: 2 - الجراد الذي أَكل الزرع والغرس والثمار، وأَلحق بأَبواب بيوتهم وسقوفها التلف والدمار؛ وأَرسل عليهم: 3 - الْقمَّلَ أَيضًا فملأَ ثيابهم وأَجسامهم وشعورهم وعيونهم - وهو الْقَمْل المعروف - وكذلك أَرسل عليهم: 4 - الضفادع فملأَت المنازل والمضاجع والاَّطعمة - والأَشربة حتى أَقلقتهم وصاروا لا يطيقون الحياة معها. وأَيضًا أَصابهم: 5 - الدم الذي اختلط بالماءِ فصاروا لا يستسيغون شربه، أَو ابتلاهم بالرعاف، وكانت هذه الآيات مفصلات، أَي بيّنات واضحات الدلالة على أَنها عقوبات لهم على كفرهم وبغيهم لا يشتبه في ذلك عاقل، وقيل: إِن تفصيلها هو تفريقها في أَزمان مختلفة، لامتحان أَحوالهم. {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}: أَي: فاستكبر هؤلاءِ الطغاة عن الإِيمان بموجب آيات الله وصاروا باستكبارهم قومًا مبالغين في الكفر والعدوان ومصرّين عليهما.

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}. المفردات: {الرِّجْزُ}: العذاب. {يَنْكُثُونَ}: ينقضون العهد بعد توكيده وأَصل النكث فك الغزل ثم استعير لنقض العهد كما هنا. التفسير 134 - {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أَي ولما نزل بفرعون وقومه العذاب الشديد لجأُوا إِلى موسى يطلبون منه أَن يدعو لهم، ويتوسلون إِليه بالنبوة التي هي عهد الله عنده، أَو يطلبون منه الدعاءَ المستجاب الذي هو عهد الله عنده، ووعدوه إِن دعا لهم أَن يؤمنوا به، ويرسلوا معه بنى إِسرائيل، ليذهبوا معه حيث شاء. ثم بيّن القرآن الكريم أَنهم لم يوفُوا بعهدهم ولم يَبَرُّوا بقسمهم بعد أَن كشف الله عنهم ما نزل بهم من ضر، كما قال تعالى: 135 - {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}: أَي فلما كشفنا عنهم ما نزل بهم من العذاب ورفعنا عنهم الضرَّ ورحمناهم بذلك إِجابة لدعاءِ موسى - عليه السلام - ونجيناهم إِلى وقت محدودٍ هم واصلون إِليه يعذبون بعده

بأَنواع المصائب، ثم يهلكون إِن لم يؤمنوا وفاءً بعهدهم لموسى فلما كشفنا عنهم العذاب المذكور، إِذا هم يسارعون إِلى نقض العهد الذي وثقوه على أَنفسهم بالقسم حين قالوا لموسى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} - إِذا هم ينقضون العهد - ويعودون إِلى اللجاج فيما كانوا فيه من التكذيب والطغيان من غير تدبر ولا تفكير. 136 - {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ في الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}: أَي فعاقبناهم بسبب نقض العهد وعودهم إِلى تكذيب الآيات وارتكاب المعاصي والآثام، وكان هذا الانتقام هو إِغراقهم في البحر بإِطباقه عليهم حين أَرادوا اللحاق بموسى وهو يعبره بقومه إِلى سيناءَ بعد أن انشق له بضربة من عصاه، ثم صرح القرآن بسبب إِغراقهم في قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}: أَي كان إِغراق الله لهم في البحر بسبب تكذيبهم بآيات الله التي ساقها إِليهم مفصلة، آية بعد أُخرى لعلهم يعقلون، ولكنهم كانوا عنها غافلين، فلم يتدبروا فيها، ونقضوا العهد الذي قطعوه على أَنفسهم بالإِيمان إِن كشف الله العذاب عنهم، وقد مرّ بيانه وهو عذاب الطوفان والجدب والجراد والقمل والضفادع والدم، وفي هذه القصة زجر للمكذبين بنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الجاحدين لآياته. {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}. المفردات: {وَتَمَّتْ}: تحققت ومضت.

{كَلِمَتُ رَبِّكَ}: وعد ربك بالنصر. {الْحُسْنَى}: تأْنيث الأَحسن صفة للكلمة. التفسير 137 - {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}: أَي وبعد أَن أَغرق الله فرعون وقومه في البحر أَورث بني إِسرائيل الذين ظل فرعون زمنًا طويلا يطاردهم ويستذلهم ويستعبدهم ويذبح أَبناءهم، أَورثهم الأَرض التي عبروا البحر إِليها مع موسى ومكّن لهم بالتصرف في جوانبها الشرقية والغربية التي بارك الله فيها بالخصب وسعة الأَرزاق - مَكَّن لهم ووسع عليهم - بعد أَن أَذاقهم فرعون الهوان أَلوانًا، وهذا لطف عظيم من الله بهم وإِحسان جميل إِليهم. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}: أَي وتحقق وعد الله - تعالى - الخالق الرزاق لبنى إِسرائيل بالنصر والتمكين في الأَرض. وهو ما جاءَ في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬1). وذلك بسبب صبرهم على إِيذاءِ فرعون لهم وتعذيبه إِياهم تنفيذًا لما أَوصاهم به موسى بقوله: {اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا}. {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}: أَي وأَهلكنا ما كان يشيده فرعون وقومه من القصور والصروح والعمارات، وما كانوا يهتمون بغرسه من البساتين والجنَّات. وتلك نهاية عادلة لطغيان فرعون واستعلائه في الأَرض بغير الحق وفيها إِنذار لكل من يسير على دربه. وفي الآية دعوة قوية إلى الصبر على البلاءِ. إِذْ كان صبرهم على الخطوب طريقًا إِلى تفريج الكروب. ¬

_ (¬1) سورة القصص الآية: 5

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}. المفردات: {وَجَاوَزْنَا}: وعبرنا وقطعنا بهم البحر. {فَأَتَوْا}: مَرُّوا، {يَعْكُفُونَ}: يقيمون ويلازمون. {مُتَبَّرٌ}: هالك {وَبَاطِلٌ}: ومضمحل زائل. التفسير 138 - {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ .. } الآية. بعد أَن بين القرآن هلاك فرعون بطغيانه, وتحدث عن إِنجاءِ الله بنى إِسرائيل من ظلمه، وإِنعامه عليهم بنعم لم يعطها أُمة قبلهم - كانت تستوجب الشكر والطاعة - شرع يبيّن ما أَحدثوه من الأُمور الشنيعة كعبادة البقر وطلبهم رؤية الله جهرة وغير ذلك. وذلك تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّا رآه من الكفار ويهود المدينة وإِيقاظًا للمؤمنين حتى لا ينسوا محاسبة أَنفسهم ومراقبة أَحوالهم. والمعنى: وعبرنا ببنى إِسرائيل البحر إِلى شاطئه الشرقى، وسلكناه بهم بعد أَن انفلق وانشق بضربة من عصا موسى - عليه السلام - والمراد بالبحر هنا البحر الأَحمر. والمراد به جزؤُه المسمى الآن بخليج السويس. إِذ العبور كان من الشاطىءِ الغربى. حيث تقع مصر إلى الشاطىءِ الشرقى حيث توجد سيناء.

{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}: أَي: فمر بنو إِسرائيل على جماعة من الناس يقيمون ويواظبون على عبادة أَصنام صنعوها بأَيديهم ويلتزمون بتعظيمها وتقديسها. {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}: أَي: قال بنو إِسرائيل لموسى حين شاهدوا هؤلاءِ الذين مروا عليهم يواظبون على عبادة أَصنام سموها آلهة: اصنع لنا إِلها نختص به وننفرد بعبادته يكون مماثلا لتلك الآلهة التي اختص بها هؤلاءِ وانفردوا بعبادتها من دون الله. {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: أَي قال موسى - عليه السلام - يرد عليهم متعجبًا مما طلبوه بعد ما عاينوا الآية الكبرى والنعمة العظمى. نعمة نجاتهم وإِغراق عدوهم, وكيف حدث ذلك بانشقاق البحر لهم وانطباقه على فرعون وقومه. قال موسى يرد عليهم: إِنكم قوم تتصفون بالجهل التام بما يتعلق بالله الواحد القهار، وتتسمون بالغباءِ الكامل إِذ لم تدركوا عظم نعمة الله عليكم. ولم يكتف القرآن بوصفهم بالجهل والسفه بل أَكد ذلك ببيان مآل الباطل الذي عكف عليه هؤلاءِ في قوله: 139 - {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي: إِن هؤلاءِ الذين عكفوا على عبادة الأَصنام واستمروا على الغلو في الضلال، مدمر وهالك ما انغمسوا فيه من الشرك والفساد، وذاهب كل باطل استمروا على عمله وحرصوا على فعله.

{قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}. المفردات: {أَبْغِيكُمْ}: أَطلب لكم. {الْعَالَمِينَ}: جمع عالَم وهو ما سِوَى الله. والمراد هنا عالمو زمانهم وعصرهم. {يَسُومُونَكُمْ}: يلزمونكم إِياه. يقال: سامه الأَمرَ يسومه. كلفه إياه وأَلزمه به، وأَكثر ما يستعمل في العذاب. {بَلَاءٌ}: اختبار. التفسير وبعد أَن وصف القرآن الكريم بنى إِسرائيل بالجهل في طلبهم إِلهًا خاصًا بهم كما كان لغيرهم آلهة، وبيّن لهم بطلان جميع أَعمالهم، أَنكر عليهم طلبهم ووبخهم على مسلكهم بقوله: 140 - {قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: أَي قال لهم موسى - عليه السلام - إِنكارًا عليهم، وتوبيخًا لهم: أَغير الله المستحق للعبادة وحده أَطلب لكم معبودًا آخر من صنع البشر، أَو من مخلوقات الله في السموات والأَرض، وقد خصكم بنعم عظيمة لم يعطها غيركم من أَهل عصركم. ثم زاد في توبيخهم بتذكيرهم بإنقاذ الله لهم من عذاب فرعون حيث لم يشكروا نعمته فقال تعالى:

141 - {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}: أَي واذكروا وقت أَن أَنقذناكم وخلصناكم من شر فرعون وقوله الذين أَذاقوكم أَشد أَلوان العذاب وسخروكم في أَشق الأَعمال، وأَنزلوا بكم من الذل والهوان صنوفا، وذبحوا أَبناءَكم واستبقوا نساءَكم أَحياءً لتزدادوا ضعفًا وذلا وهوانًا. {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}: وفيما أَصابكم من سوء العذاب وقتل الذكور واستبقاءِ النساءِ لخدمة أَعدائكم، مصاب عظيم وغم جسيم، فاذكروا نعمة الله عليكم, إِذ نجَّاكم من هذا كله، واشكروه على ذلك ليزيدكم من نعمه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}. المفردات: {مِيقَاتُ رَبِّهِ}: أَي الوقت الذي وقته ربه وحدده لمناجاته وتلقى أَلواح التوراة. {تَجَلَّى}: انكشف وظهر، {دَكًّا}: أَي مدكوكًا مُنْهارًا مهدومًا {خَرَّ}: سقط. {صَعِقًا}: مغشيًا عليه.

التفسير 142 - {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الآية. أَي ووعد الله موسى بعد أَن نجاه وقومه من فرعون بعبور البحر - وعده - بإِنزال كتاب يهتدى به بنو إِسرائيل إِلى ما يصلح شئون دينهم ودنياهم ويبيَّن لهم الحلال والحرام ويكون ذلك بعد مضى ثلاثين لَيْلَةً يقضيها في التوجه إِلى الله بالصيام والعبادة. وقد أَكملها - سبحانه وتعالى - بعشر ليالٍ يخلص فيها موسى العبادة لله والمناجاة لخالقه، فتم الزمن الذي وقَّته ربه وحدده لحصول هذه النعمة له أَربعين ليلة، أَنزل الله التوراة بعدها عليه وكلمه عند انتهائها. وتعبير القرآن الكريم عن الميقات بقوله: (ثلاثين ليلة) لأَن التوقيت كان بالحساب القمرى، وهو يعرف بالأَهلة. والهلال يرى بالليل، وقد استفيد من هذا التوقيت: أَن ضرب الأَجل للمواعدة، سُنَّةٌ ثابتة مضت، ومبدأ قديم أَسس الله عليه قضايا العباد وحكم به في شئون الأُمم وأَحوالها، كما استفيد منه أَيضًا أَن التأَنى في الأَعمال هو الطريق إِلى إِجادتها وإِتقانها. ولهذا أَقَّت الله تلك المدة الطويلة لموسى قبل مناجاته لربه، ليحسن الاستعداد لها. {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}: أَي وحين أَراد موسى التوجه لمناجاة ربه تنفيذًا لأَمره قال لأَخيه هارون: كن خليفة عنى في قومى، ترعى شئونهم وتدبر أُمورهم وتراقب أَحوالهم فيما يأْتون ويذرون، واعمل على إِصلاح عيشهم وحياتهم وعقيدتهم حتى أَرجع إِليهم، ولا تسلك طريق الذين انغمسوا في الغواية والفساد ولا تطعهم في ذلك بل ردّهم إلى الحقّ والصواب وبيّن لهم طريق الهدى والرشاد. 143 - {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}: أَي ولما جاء موسى إِلى الجبل، لأَجل ميقات ربه وموعد كلامه معه, قال: يا رب أَسأَلك أَن تمكننى من النظر لكي أَراك. {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}:

أَي قال الله لموسى، جوابًا له: لن ترانى في دنياك، ولكن انظر إِلى الجبل، فإِن رأَيته سكن وثبت في مكانه فسوف ترانى. وقد جاءَ هذا الاستدراك، لبيان أَنه لا يطيق رؤيته - سبحانه وتعالى - ولا يتحمل ذلك لعدم إِعداده بعد لتلك الحالة. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}: أَي فلما ظهر كبرياءُ ربه وبدت عظمته وقدرته جعل الجبل مفككا مهدماً وسقط موسى مغشيًا عليه من هول ما رأَى وشدة ما عانى. {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}: أَي فلما عاد إِلى موسى وعيه وفهمه وذهبت عنه تلك الشدّة قال تعظيما لله وإِجلالا لمقامه: أُنزهك يا رب عن مشابهتك لشىءٍ من خلقك وأُجلُّك عن أَن أَسأَلك شيئًا بغير إِذن منك، وأَنا أول من أَسلم وجهه لك في هذه الأُمة وآمن بكبريائك وعظمتك فيها. والجبل قيل: إِنه جبل زبير أَو جبل أُردن. وقد دلت الآية على أَن الله تعالى كلم موسى، وكلامه تعالى له، مخالف لكلام الحوادث، فليس بحرف ولا صوت ولا يعلمه إِلا الله تعالى وقد دلت الآية أَيضًا على أَن الله تعالى لم يمكِّن موسى من رؤيته، وليس هذا دليلًا على استحالة رؤيته, بل على عدم وقوعها لموسى في الدنيا, لأَنه لم يهيأْ لهذه الرؤية بالتكوين المناسب لها، فإِن رؤْية الحادث للقديم تحتاج إِلى تكوين مناسب لها، كما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، وكما سوف يحدث للمؤمنين في الجنة، ولهذا قال سبحانه لموسى في رده عليه: {لَنْ تَرَانِي} ولم يقل لن يرانى أَحد، أَو لن أُرى من أَحد من خلقى. {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} المفردات: {اصْطَفَيْتُكَ}: اخترتك.

التفسير 144 - {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .... } الآية. أَي قال الله تعالى يخاطب موسى - عليه السلام - بأُسلوب النداءِ إعظامًا لقدره وإِعلاءً لمكانته: إِنى فضلتك على جميع الناس المعاصرين لك، باختيارك رسولا دون أَحد سواك وآثرتك عليهم بإِنزال التوراة تبيانا لطريق الخير وإرشادا إلى ما يأْتون وما يذرون كما آثرتك بكلامى إِياك من غير واسطة. {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}: فتقبل ما أَنعمت به عليك من شرف الرسالة، وارض بنعمة المناجاة وطب نفسًا بجعلك من المصطفين الأَخيار الذين يبلغون رسالات ربهم، واندمج في عداد الشاكرين، بأَداءِ الشكر على تلك النعم بدوام الطاعة والخشوع والإِخلاص لله. وهارون وإن أَرسله الله مع موسى ردءًا يشد به عضده ويصدقه إِلا أَنه كان مأْمورًا باتباعه, فلم يكن صاحب شريعة خاصة به، ولم يكن كليما لله. وفي الآية تسلية عظيمة لموسى - عليه السلام - عن عدم إِجابته إِلى الرؤية التي طلبها. فكأَنه - سبحانه - قال له: إِن مَنَعْتُكَ الرؤيةَ التي طلبتها فقد أَعطيتك نعمًا عظيمة لم يعط مثلها أَحد من أَهل زمانك فاحرص عليها، وثابر على شكرها بدوام العبادة وبذل الجهد في دعوة الناس إِلى شريعة الله. {وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}. المفردات: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ}: أَي وخلقنا له الكتابة فيها؛ والأْلواح الصحف التي كتبت فيها التوراة. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}: أَي فتناولها وتقبلها بجد وعزيمة.

التفسير 145 - {وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: أَي وبينا لموسى في التوراة التي أَنزلناها عليه مكتوبة في الأَلواح والصحف من كل شيءٍ يحتاج إِليه بنو إِسرائيل لإِصلاح شئونهم في الدين والدنيا من المواعظ وتفصيل الأَحكام وبيان الحلال والحرام والحسن والقبيح وغير ذلك من أَنواع الهداية والإِرشاد. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}: أَي وبينا لموسى - عليه السلام - كل شيءٍ في الأَلواح وقلنا له: فتقبلها يا موسى بصدق وتناولها بحرصٍ وعزيمة كما يفعل أُولو العزم من الرسل وأْمر بني إِسرائيل أَن يمتثلوا مواعظها، ويتبعوا أَحكامها وشرائعها البالغة غاية الحسن والكمال بالنسبة لهم: إِذ فتحت أَمامهم أَبواب سعادة الدنيا والآخرة. ويلاحظ أَن التوراة الأَصلية فقدت في الغزو البابلى، أَما توراة اليهود التي بأَيديهم فهى من صنعهم وتأْليفهم {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}: أَي: سأُرى قومك - بنى إِسرائيل - ديار الهالكين، من عاد وثمود وأَمثالهم من الذين خرجوا عن طاعة الله وعصوا أَمر ربهم. والحكمة في ذلك بعثهم على الجد والاجتهاد في امتثال ما أُمروا به، وتحذيرهم من الكفر والعصيان حتى لا يحل بهم ما حل بأُولئك الذين مردوا على الفسوق والطغيان، لأَن رؤية الديار خالية من أَهلها، خاوية على عروشها تدعو إِلى مزيد من الحذر والاعتبار، وقيل معنى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}: سأُورثكم حكم الوثنيين في تلك الديار التي هاجرتم إِليها، بدليل قراءة: "سَأُورِثُكَم دَارَ الفَاسِقِينَ". وقيل: المراد بدار الفاسقين جهنم فإِنها دارهم في الآخرة. وإراءتهم إِياها كناية عن إِدخالهم فيها، إِن عصوا التوراة. وخوطب قوم موسى - عليه السلام - بقوله: - سأُريكم - دون قوله - سأُريهم - التفاتًا إِليهم بعد الغيبة، ليكون أَبلغ في حملهم على الطاعة والامتثال وتخويفهم من اتباع طريق الظالمين.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}. المفردات: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ}: سأُبعد عن التدبر في آياتى, والمراد سأَطبع على قلوبهم وأُغلقها بسبب كبريائهم. {سَبِيلَ الرُّشْدِ}: طريق الحق، {سَبِيلَ الْغَيِّ}: طريق الضلال. {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: بطلت أَعمالهم فلم ينتفعوا بها. التفسير 146 - {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ .. } الآية: بعد تحذير قوم موسى من مخالفة التوراة، جاءَت هذه الآيات لتأْكيد هذا التحذير. والمعنى: سأُبعد عن الانتفاع بآياتى المرشدة إِلى مصالح الدين والدنيا، أُولئك الذين يتطاولون في الأَرض على الناس، ويرون لأَنفسهم مكانة فوق مكانتهم، ويأْنفون من اتباع الحق إصرارًا منهم على التمسك بباطلهم {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا}: أَي ومع تعاليهم على الناس في الأَرض إِن يسمعوا كل آية من الآيات التنزيلية، أو يبصروا أَي معجزة من المعجزات المشاهدة المرئية لا يصدقوا بواحدة منها، بل يكفرون

بجميع ما رأَوا، إِمعانًا منهم في التكذيب والإِعراض، لانغلاق قلوبهم دون الهدى، إِذ أَساءُوا اختيار الطريق. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}: أَي وإِن يبصروا ويعرفوا طريق الهدى والخير لا يتوجهون إِليه ولا يسلكونه. لاختيارهم الشياطين أَولياء لهم من دون الله. {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}: أَي وإِن يتضح لهم طريق الغواية والفساد والانحراف، بتحذيرهم منه، يختاروه لأَنفسهم مسلكًا مستمرًا لا يعدلون عنه، مع وضوح التحذير منه، كى يصلوا إلى تحقيق شهواتهم ومآربهم وإِشباع أَطماعهم. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}: أَي ذلك التكبر وعدم الإِيمان واتباع طريق الغى والإِعراض عن طريق الهدى - ذلك فعلوه - بسبب كفرهم بآياتنا الدالة على صدق ما أَرشدنا إِليه ودعونا إلى التمسك به، وفساد ما أَقاموا على فعله من القبائح والمنكرات، وبسبب غفلتهم عن التأَمل في الحق الذي أَنزلناه، ولو أَنهم تدبروا ما جئنا به وعقلوه لما فعلوا الأَباطيل، ولما سلكوا طريق الشيطان وتأْكيدًا للتحذير قال تعالى: 147 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي الذين لم يصدقوا بآيات الله الداعية إِلى الإِيمان المحذرة من الكفر والعصيان، وضموا إِلى ذلك إِنكارهم لمجىءِ الدار الآخرة ووقوع الجزاء فيها على الخير والشر - هؤلاءِ - بطل ما عملوه في الدنيا من بِرٍّ وصلة رحم وإِغاثة ملهوف وغير ذلك، ولا يجزون إلا على ما عملوه من الكفر والمعاصي، إِذ الشرط في قبول أَعمال الخير والإِثابة عليها في الآخرة تحقيق الإِيمان باللهِ وشرائعه قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النور: الآية 39

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}. المفردات: {جَسَدًا}: جسد عجل مصنوعًا من الذهب لا روح فيه. {خُوَارٌ}: صوت البقر. {سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ}: ندموا ندمًا شديدًا لأَن النادم يعض يده ويسقط ذقنه فيها غما فتصير يده مَسقوطًا فيها. التفسير 148 - {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ .. } الآية. لما توجه موسى عليه السلام لمناجاة ربه وترك أَخاه هارون خليفة عنه في قومه بنى إِسرائيل يرعى شئونهم ويصلح أَحوالهم، ويدعوهم إِلى الثبات على الحق والهدى. صنع لهم السامرى تمثالًا مجوفًا من الذهب على شكل عجل من البقر، وكان دقيق الصنع، ووضعه في مهاب الريح، فإِذا هبت أَحدثت صوتًا كخوار البقر، ثم قال لبنى إِسرائيل: هذا إِلهكم وإِله موسى، ودعاهم إِلى عبادته فعبدوه وتقربوا إِليه، وكان هارون يدعوهم إِلى عبادة الرحمن واتباع أَمره، فلم يستجيبوا له. وظلوا عاكفين على هذا حتى رجع إِليهم موسى، وقد حكى القرآن الكريم تلك الحالة في هذه الآية التي سنشرحها فيما يلى: المعنى: واتخذ قوم موسى من بعد ذهابه - عليه السلام - لمناجاة ربه، اتخذوا من حليهم المصنوع من الذهب الخالص تمثالًا على سورة العجل، يحدث خوارا كخوار البقر وصوتا

كصوته إِذا وضع في مهاب الرياح، بسبب ما وضعه في حلقه من أَداة تحدث هذا الصوت إِذا دخلت الرياح جوفه، وكان السامرى خبيرًا بهذا الفن، وهو الذي صنعه لهم، ودعاهم إِلى عبادته. والمراد من اتخاذهم العجل إِما صنعه - وقد نسب إِليهم لرضاهم به - وإِما جعلهم إِياه إِلهًا بعد أَن صنعه لهم السامرى. {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}: أَي ألم يدركوا حين أَقدموا على هذا المنكر أَن هذا العجل لا يتصف بصفة من صفات الأُلوهية ولا بحكم من أَحكامها إِذ كان لا يقدر على كلام ولا يرشد إِلى طريق، فضلا عن أَنه لم يصل إلى أَحط درجات الحيوان، فكيف يكون إلهًا شأنه أَن يخلق ويبدع ويحيى ويميت؟ ويتكلم ويهدى إِلى سبيل الرشاد. {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} أَي فعلوا ذلك المنكر الشنيع وكان شأْنهم الظلم، والاستمرار عليه دائما - ووضع الأشياءِ في غير موضعها الصحيح، فلم يكن اتخاذهم العجل إِلها بدعا وما كان أَول منكر فعلوه. وكان هذا الاستفهام لتقريعهم على فرط جهالتهم وحماقتهم وسفاهة أَحلامهم وقد كرر القرآن ذمَّهم بذكر "اتخذوه" أَي العجل همزة ثانية للتنبيه على عظم جرمهم والتمهيد لوصفهم بالظلم. 149 - {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: أَي: ولما ندموا أَشد الندم على ما فعلوا من عبادة العجل ومخالفتهم تعاليم موسى وإِرشاد خليفته هارون، واستضعافهم إياه وهمهم بقتله، وعلموا أَنهم بفعل هذه المنكرات قد تنكبوا الصواب وجاوزوا طريق الهدى {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: أَي قالوا مقسمين والله لئن لم يغمرنا إِحسان ربنا ويتقبل توبتنا رحمة بنا، فيكفر عنا سيآتنا ويتجاوز عن خطيآتنا لنكونن من جملة الذين خسروا حسن العمل في دنياهم، وخير الجزاءِ في أُخراهم فكانوا في جهنم خالدين. وفسِّر - سُقِطَ في أَيدِيهم - بما تقدم على طريق الكناية, لأَن النادم المتحسر يعض يده غمًّا وحزنًا فتصير يده مسقوطًا فيها. كما تقدم في المفردات.

والمراد بقوله تعالى: {رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} علموا وتيقنوا ضلالهم. وإِنما عبر العلم بالرؤية للإِشارة إلى أَنهم تبيَّنوا خطأَهم بوضوح كامل حتى كأَنهم رأَوه بأَعينهم. وما حكاه القرآن عنهم من الندم والرؤية، وما قالوه وإِن كان بعد رجوع موسى - عليه السلام - إِليهم من الميقات كما دلت عليه آيات سورة طه. لكن أُريد بتقديمه هنا على رجوع موسى أَن يكون ما صدر عنهم من اتخاذ العجل والندم عليه في موضع واحد، مسارعة إِلى تذكير أَهل مكة، بندم بنى إِسرائيل على اتخاذهم العجل الذهبى الذي يخور خوار البقر، فهم أَحق منهم بالندم على عبادة ما هو دون ذلك من الأَحجار، أَمَّا ما جاءَ في سورة طه فهو تفصيل كامل للقصة يقتضي وضع كل حادث في موضعه. {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}. المفردات: {أَسِفًا}: شديد الغضب أَو حزينا. {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}: أَي بئس ما فعلتموه من بعد غيبتى. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}: أَي أَسبقتم ما أَمركم به ربُّكم من التوحيد فعبدتم العجل قبل أَن يعود موسى من ميقات ربه، ليكون أَمام الأْمر الواقع، يقال: عجل الأْمر سبقه

{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ}: طرحها على الأَرض. {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ}: أَي وأَمسك بشعر رأْس أَخيه يجره به إِليه. {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}: أَي فلا تفعل ما يكون سببًا لشماتتهم بى. التفسير 150 - {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ... } الآية: أَي: ولما رجع موسى - عليه السلام - إِلى قومه من الميقات الذي ناجى فيه ربه - رجع - وهو شديد الغضب والحزن على ما أَحدثه قومه في غيبته من الردة وإِهمال وصاياه، وكان الله - تعالى - قد أَخبره وهو في مكان المناجاة بما أَحدثوه. {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي}: أَي: قال موسى - عليه السلام - بعد رجوعه من الميقات يذم قومه جميعًا المؤمنين منهم والمرتدين: بئس ما أَحدثتموه أَيها المؤمنون وأَيها المرتدون. أَما ذمّه المؤمنين فلأَنهم لم يكفوا عبدة العجل عما فعلوه وأَما ذم المرتدين فلعودتهم إلى الشرك بعد أَن رأوا حرص موسى - عليه السلام - على دعوتهم إِلى توحيد الله، وترك الشرك، وإِخلاص العبادة لله وحده - وواجب الخلفاءِ أَن يسيروا على نهج المستخلف - فالخطاب للجميع ويجوز أَن يكون الخطاب لعبدة العجل فذمهم على ما أَحدثوه من تغيير شريعة الله، كما يجوز أَن يكون الخطاب لهارون والمؤمنين معه، فالَّلوْمُ لهم إِذ لم يمنعوا عبدة العجل مما فعلوا. أَي بئس قيامكم مقامى إِذ لم تراعوا عهدى. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}: أَي أَسبقتم ما أُمرتم به من البقاءِ على ما أَوصيتكم به من التوحيد حتى أَعود إِليكم من الميقات بكتاب من عند ربكم، حين سارعتم إِلى مخالفة أَمرى فغيرتم دينكم وعبدتم العجل. وتراخى المؤمنون في نصحكم. {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ}: أَي وطرح موسى - عليه السلام - أَلواح التوراة جانبًا، ليتمكن من إِمساك أَخيه وتعنيفه حين رأَى قومه وقد فتنوا بالعجل فعكفوا على عبادته.

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}: أَي: وأَمسك موسى بشعر رأْس أَخيه هارون يجذبه إِليه منه، لظنه أَنه أَهمل في توعية قومه وإِرشادهم وإِصلاح حالهم، ونهيهم عن الإِشراك باللهِ. {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}: أَي قال هارون يدفع تهمة التقصير في نصحهم عن نفسه يا ابن أُمى: إِننى بذلت قصارى جهدى في ترشيدهم وتوضيح سوء العاقبة لما فعلوا، حتى قهرونى، واستضعفونى وهموا بقتلى واقتربوا منه. {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ}: أْى: فلا تفعل بي أَمام هؤُلاء الأعداء ما يكون سببا لشماتتهم بى وفرحهم فيما يصيبنى من إِيذاءٍ وتعنيف. والشماتة فرح العدو فيما يصيب عدوه من مكروه. {وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: أَي ولا تنظمنى بغضبك علىَّ في سلك الذين ارتكبوا أَقبح الظلم بعبادة العجل، ونقض العهد والفساد في الأَرض، ولا تجعلنى في عدادهم مع براءَتى من جرائمهم، وفيا بما استخلفتنى فيه. وكان هارون لين الجانب كثير التحمل، ولذا نراه يخاطب موسى مما يرقق قلبه، وهو قوله له (يا ابن أُمَّ) إِلخ إذ الأُم عنوان الحنان وموطن العطف والرحمة، كما يشعر بلين عريكته ما في باقى أُسلوبه من توسل ورجاءٍ. وبعد أَن سمع موسى عليه السلام مقالة هارون - عليه السلام - قال ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى: 151 - {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي}: أَي قال موسى مناديًا ربه يطلب منه غفران فعله بأَخيه من غير جريرة ارتكبها، وغفران ما عساه أَن يكون قد وقع مع أَخيه من تقصير في نصحهم وتحذيرهم. ولا يخفى: أَن كل إِنسان في حاجة إِلى استغفار ربه، طاعة له وطلبًا لرفع الدرجات، مع ما في استغفار موسى لنفسه من الترضية لهارون وإِعلان الشامتين بتمام رضاه عما فعله حتى ترد شماتتهم إِليهم كمدًا وحسرة.

{وَأَدْخِلْنَا في رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: أَى: ومُنَّ علينا بمزيد من الإِنعام بعد غفران ما سلف منا، وشأْنك يا أَلله أَن رحمتك بجميع مخلوقاتك أَعظم من رحمة الخلائق بعضهم ببعض، ومن رحمتهم بأَنفسهم، فلا تحرمنا من واسع رحمتك في الدنيا والآخرة فهي كما قلت سبحانك: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}. المفردات: {غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}: المراد بغضب ربهم عذاب الآخرة. {وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أَي وتشريد في الأَرض وإِخراج من الديار، بحيث لا تكون لهم عزة كعزة أَصحاب الوطن. {الْمُفْتَرِينَ} أَي: المختلقين أشنع الكذب على الله تعالى. التفسير 152 - {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أَي إِن الذين اتخذوا العجل إِلهًا يعبدونه من دون الله واستمروا على عبادته كالسامرى وأَتباعه من بنى إِسرائيل، وأَشربوا في قلوبهم حبه، سيصيبهم في الآخرة عذاب شديد ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: من الآية 32

من خالقهم ومربيهم الذي تفضل عليهم بأَجزل النعم فجحدوها ولم يشكروها، وسينزل بهم في الحياة الدنيا الذل الشديد والهوان المميت بتشريدهم من ديارهم وإجلائهم عن أَوطانهم. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}: أَي: ومثل هذا العقاب الشديد الذي حل ببنى إِسرائيل نعاقب كل مفتر كذاب، وليست هناك فرية أَقبح مما افتراه هؤلاءِ الذين صنعوا العجل بأَيديهم ثم عبدوه وقالوا: هذا إِلهكم وإله موسى، بل لم يعرف أَن أَحدًا افترى مثل فريتهم. ولذا استوجبوا بالأَصالة هذا العقاب الأَليم. وبعد أَن بين القرآن عقاب المصرين على الجرائم، وافتراءِ الكذب على الله، رغَّب في التوبة من السيئات وإِن كثرت وعظمت، ببيان أَن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن أَخلص في التوبة وصدق في الإِيمان باللهِ فقال تعالى: 153 - {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي والذين اقترفوا الكفر وسائر أَنواع المعاصي من الكبائر والصغائر ثم تابوا من بعدها وآمنوا باللهِ، إِيمانًا صادقًا يستتبع ما يقتضيه من أَعمال البر والطاعات، وإِقلاع عن المعاصي, يغفر الله لهم ما وقع من ذنوبهم مهما عظمت, لأَن ربك المنعم عليك بالخلق والتربية من بعد حصول تلك التوبة الخالصة لَعَظِيمُ المغفرة لذنوب التائبين واسعُ الرحمة بالخلق أَجمعين قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فتتسع من صدق في إِيمانه بعد الكفر، وأَخلص في الإِقلاع عن سائر المعاصي والآثام. ولما بين القرآن الكريم طرفًا من قصة موسى مع قومه، شرع يكملها فقال: 154 - {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}: أَي ولما ذهب عن موسى الغضب وسكن وهدأَ روعه بعد اعتذار أَخيه وتوبة من تاب، وبيان أَنه قام بموجبات الخلافة عنه، ولكن القوم كانوا لنصحه كارهين، لما حدث هذا أَخذ ألواح التوراة التي أَلقاها.

وفيما نسخ في هذه الصحائف وكتب فيها، هدايةٌ وإِرشادٌ إِلى خير الدنيا وصلاح الآخرة، ورحمة عظيمة واسعة للذين هم لعظمة مربيهم وحافظهم يخضعون ويخافون سوءَ العذاب. وفي أُسلوب الآية الكريمة من البلاغة ووضوح المعنى وتأْكيده ما يبهر العقول ويأْخذ بالأَلباب، إِذ أَبان أَن الغضب بلغ بموسى - عليه السلام - حدا من الشدة والتسلط جعله كالآمر له بما قال وبما فعل، حتى إِذا سكت هذا الغضب عن إِثارة موسى سكن وأَخذ الأَلواح التي أَلقاها، ومضى في شأْن رسالته. {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}. المفردات: {لِمِيقَاتِنَا}: الميقات المكان الذي حدده الله ليذهب موسى وقومه إِليه. {الرَّجْفَةُ}: الزلزلة الشديدة. التفسير 155 - {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ... } الآية: أَي واختار موسى سبعين رجلًا من فضلاءِ قومه الذين لم يبدلوا دينهم وذهب بهم إِلى المكان والزمان اللذين حددهما الله لهم، ليعتذروا عمن عبدوا العجل وعمن قصروا في نهيهم.

{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ}: أَي: فلما فاجأَتهم الزلزلة الشديدة ورجفوا وارتعدوا حتى كادت تنخلع مفاصلهم وتتمزق أَبدانهم وأَشرفوا على الهلاك وكان ذلك تأْديبا لهم على تقصيرهم في زجر قومهم عن عبادة العجل وسائر المنكرات، - لمَّا حدث ذلك - خشى موسى هلاكهم فتوسل إِلى الله - تعالى - فيما حكاه القرآن في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}: أَي قال موسى راجيًا عفو ربه عنهم في هذا اليوم: يا رب إِنك لو شئت إِهلاكهم من قبل هذا اليوم، حين قصروا في النهي عن عبادة العجل، وعدم مفارقتهم لعبدته حين أَيقنوا فيهم الإِصرار على الكفر والمعاصي، وكذلك لو شئت يا رب إِهلاكى من قبل ذلك حين طلبت رؤيتك، لفعلت يا إِلهى ذلك فقد استوجبنا الهلاك جميعًا بذنوبنا, ولكنك لم تفعل رحمة بنا، وتجاوزًا عما فرط من سيآتنا، فلا عجيب يا رب إِذا أَطْمَعنَا لطفُك السابق في طلب المزيد من عفوك وإِحسانك في هذا الموقف، ثم أَكد موسى - عليه السلام - عظم ثقته في عفو الله فيما حكاه القرآن. {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}: أَي قال موسى - عليه السلام - إِيمانًا بسعة رحمة الله تعالى - وإِيقانا بشمول إِحسانه: لا يكون منك يا عظيم العفو إِهلاكٌ لنا بسبب ما فعله الذين يجهلون قدرتك وما يليق بمقام أُلوهيتك، ولا يثبتون على الحق الذي أَظهرت معالمه وأَوضحت مسالكه فقد وسعت رحمتك كل شيء. {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}: أَي ما كانت عبادتهم للعجل إِلا ابتلاءً منك تهلك بسببه من تشاء إِضلاله بتجاوزه حدود أَوامرك ونواهيك، وترشد به إِلى الحق من تشاءُ هداه فيقوى إِيمانه. {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}: أَي أَنت وحدك يا الله القائم بتدبير أُمور دنيانا وأُخرانا, وناصرنا وحافظنا دون سواك، فاغفر لنا ما اقترفناه من الذنوب والآثام وتجاوز عنه إِذ من شأْن الولى الإِحسان إِلى المقصرين، والتجاوز عن ذنوب الآثمين {وَارْحَمْنَا}: أَي وأَفض علينا من آثار رحمتك التي وسعت كل شيءٍ

ما نسعد به في الدين والدنيا, وأَنت وحدك الذي تغفر السيئآت وتمن بالحسنات، ولا يملك ذلك سواك، وعفو غيرك بتوفيق منك. وخصت المغفرة بالذكر في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} حيث لم يذكر معها الرحمة لأَن المقام مقام اعتذار عن الذنوب فيقتضيها. {وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}. المفردات: {وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً}: المراد بحسنة الدنيا ما يعم العيشة الراضية، والعمل

الصالح والمراد بكتابتها تقديرها وإِبرازها, عبر عنها بالكتابة مجازًا، أو الكتابة على حقيقتها فإِن ما يقدر الله تنفيذه يكتب في اللوح المحفوظ، أو عند الملائكة المدبرات أَمرا. {هُدْنَا إِلَيْكَ}: تبنا إِليك ورجعنا. {إِصْرَهُمْ}: الإِصر في اللغة الأَمر الثقيل، والمراد به هنا التكاليف الشاقة على اليهود بسبب ظلمهم، كتحريم بعض الطيبات عليهم. {الْأَغْلَالَ}: المواثيق الشديدة المشبهة للأَغلال في الأَعناق. {وَعَزَّرُوهُ}: عظموه ووقروه، أَو أَعانوه. التفسير 156 - {وَاكْتُبْ لَنَا في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ... } الآية. بين القرآن الكريم فيما سبق، كيف بدأَ موسى توسله إِلى ربه ودعاءَه إِياه حين رأَى الرجفه تأْخذ الصفوة من قومه في الميقات، وجاءَت هذه الآية لإِكمال توسله. والمعنى: وحقق لنا بفضلك في هذه الحياة الدنيا عيشة طيبة راضية وعافية وافرة، وتوفيقًا في الطاعة، ومُنَّ علينا بنعمك السابغة واجعل لنا في الآخرة المثوبة الحسنى والنعيم المقيم في جناتك الواسعة. {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}: أَي: أَعطنا ذلك لأَننا تبنا إِليك من ذنوبنا توبة صادقة، وأَتيناك مخلصين في الاعتذار عن آثامنا فاقبل دعاءنا - وجاءَت هذه الجملة "إِنا هدنا إِليك" لتعليل ما سبقها من الدعاءِ، رجاءَ قبوله وتحقيقه، وتصديرها بإِن التى هي للتأْكيد، للإِيذان بكمال صدقهم في توبتهم، طمعًا في أَن يقبلها الله الكريم منهم: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ}: أَي: قال الله تعالى جوابًا عما طلب موسى لجميع قومه: شأن عذابى أَن أُصيب به من أَشاءُ تعذيبه ممن لا يتقون الله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}: أَي: وإِحسانى شمل كل شيءٍ من المكلفين وغيرهم ممن شئت له ذلك.

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}: أَي: فسأَجعل رحمتى في الآخرة، للذين يحفظون أَنفسهم من المعاصي؛ بحيث لو أَصابوها تابوا إِلى ربهم، وأَجعلها للذين يؤدون الزكاة لمستحقها. وخصت الزكاة بالذكر مع شمول التقوى لها لثقل إِخراجها على النفوس، إِذ المال عِدْل الروح وسأَجعل رحمتى الواسعة للذين يستمرون على الإِيمان بآياتنا كلها. وفي الآية تعريض ببنى إِسرائيل إِذ كانوا لا يتقون الكفر والمعاصي ولا يخرجون الزكاة لشدة حرصهم على المال، كما كانوا يكفرون بآيات الله العظام التي جاء بها موسى - عليه السلام -. ثم أَكمل القرآن الكريم أَوصاف المتقين الذين وعدهم الله بالحياة الرغيدة في الدنيا والنعيم في الآخرة بقوله تعالى: 157 - {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}: أَي: هؤُلاء المتقون الذين وعدهم برحمته وفضله هم الذين يتبعون محمدا - صلى الله عليه وسلم - - النبىَّ - الذي جاء بأَكمل الاعتقادات والأَعمال والأَخلاق - الأُمىَّ - الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إِلى معلم ولم يخط بقلم ومع ذلك فقد جمع الكتاب الذي جاءَهم به علوم الأَولين والآخرين، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ... } والأُمى نسبة إِلى الأُم كأَنه باق على حاله التي ولد عليها. {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}: أَي أَن الله تعالى يكتب رحمته للذين يؤمنون بالنبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى: يؤمنون بهذا النبي الذي يجدونه مكتوبًا باسمه ونعوته عندهم في التوراة والإِنجيل التي كتمها الكافرون منهم، أو أَساءُوا تأْويلها. ثم شرع القرآن الكريم يفصل بعض آيات محمَّد وعلاماته في التوراة والإِنجيل فقال:

{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}: أَي يأْمرهم النبي الأُمى عن الله تعالى ويكلفهم بفعل كل ما عرفته الفطر السليمة وأَقرته واستحسنته، فإِن فيه خير الدنيا وسعادة الآخرة، وينهاهم عن فعل كل ما أَنكرته الفطر السليمة ونفرت منه، فإِن فيه خسران الدنيا والآخرة. {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}: أَي: ويبيح لهم ما حرم عليهم بسبب ظلمهم ومعاصيهم كالشحوم. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}: أَي: ويحرم عليهم كل ما هو خبيث وضار مما كانوا يتناولونه كالدم والميتة ولحم الخنزير، أَو يفعلونه كالربا والرشوة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}: أَي ويخفف عنهم ما ثقل عليهم من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ من غير شرع الدية، وكقطع الأَعضاء الخاطئة وإِحراق الغنائم. {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}: أَي ويخفف عنهم كذلك الشروط المحرمة والمواثيق الشديدة التي كانت في شريعة موسى - عليه السلام - لتناسب ظلم بنى إِسرائيل وطغيانهم وغلوهم في الفساد والضلال. والأَغلال جمع غُل وهو في الأَصل ما يوضع في العنق أَو اليد من الحديد يستعار للمواثيق الشديدة والتكاليف الشاقة. ثم أَرشد الله تعالى إِلى كيفية اتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن علوَّ منزلة أَتباعه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}: أَي فالذين آمنوا بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصدقوا برسالته وأطاعوه فيما أَمر ونهى من اليهود وغيرهم وعظموه ووقروه وأَعانوه بمنع أَعدائه عنه ونصروه على أَعدائه في الدين واهتدوا بهدى القرآن الذي أَنزله الله مع نبوته ليضىء الطريق أَمام السالكين: وسُمِّى القرآن نورًا لكونه ظاهرا واضحا في آياته، مظهرا للحقائق كاشفا لها، يهدى متبعه إِلى العقيدة السليمة والعمل الصالح، كما يهدى النور الحسى من يتبعه إِلى سواء السبيل. ولا يقال: القرآن نزل مع جبريل فما معنى أنزل معه؟ لأَن المعنى أَنزل مع نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما تقدمت الإِشارة إِليه, لأَنها كانت مصحوبة مشفوعة به.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أَي: أُولئك المتقون الذين علت درجاتهم وسمت منزلتهم، الموصوفون بتلك الصفات الجليلة هم وحدهم دون غيرهم الذين بلغوا غاية الفوز بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}. المفردات: {الْأُمِّيِّ}: المنسوب إِلى الأم، لأَنه لا يقرأ ولا يكتب، فهو على فطرته التي ولدته مه عليها، من حيث عدم القراءَة والكتابة. التفسير 158 - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}: لما حكى الله ما في الكتابين من نعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرف من يتبعه من أَهلهما ونيلهم سعادة الدارين - أَمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ببيان أَن تلك السعادة غير مختصة بأَهل الكتابين إِن آمنوا به بل هي شاملة لكل من يتبعه من جميع الناس، سواء أَكانوا في عصره أَم فيما تلاه من عصور إِلى يوم القيامة. فإِن رسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة لجميع الناس في كل عصر من العصور قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1) فتلك من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه. ¬

_ (¬1) سورة سبأ: الآية 28

أَما سائر الرسل فقد كانوا يبعثون إِلى أُمم خاصة، وقد يتعدد الرسل في وقت واحد لأُمم مختلفة أَو لأُمة واحدة، فقد كان لوط وإِبراهيم مرسلين في عصر واحد، كلاهما إِلى غير أمة الآخر، وكان موسى وهارون مرسلين معا إِلى فرعون وقومه وبنى إِسرائيل. والمعنى: قل يا محمَّد مناديا الناس جميعًا من عاصرك منهم ومن بعدهم إِلى يوم القيامة حيث يبلغ عنك الحاضر منهم الغائب، والموجود منهم من سيوجد: قل يا أيها الناس إِنى رسول الله إِليكم جميعًا الذي له ملك السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما خلقا وملكا وتصرفا، ومن كان كذلك فلا معبود بحق سواه، ولا يصح أَن يكفر برسوله المؤيد بآياته. {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: هذا من جملة ما أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه للناس، مفرع على ما بين لهم من رسالته إِليهم. والمعنى: وحيث كنتُ رسوله إِليكم فآمنوا بالله الذي بينت لكم عظمته وآمنوا برسوله النبي الأمى، الذي جاءكم بكتاب فيه علوم الأولين والآخرين. وهو لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من براهين رسالته، ومع كونه رسولا إِليكم فهو يؤمن باللهِ تعالى وبكتبه التي أَنزلها على رسله السابقين له، ويؤمن بالقرآن الكريم الذي هو من كلمات الله وكتبه، فهو يسبقكم إِلى الإِيمان به، واتبعوه في كل ما دعاكم إِليه فعلا وتركًا رجاء أَن تهتدوا باتباعه إِلى مطلوبكم من سعادة الدارين. ووصفه - صلى الله عليه وسلم - بالنبي الأُمى بعد وصفه بالرسالة لمدحه والإِشارة إِلى نعته في الكتابين - التوراة والإِنجيل - تقريرا لأَمر نبوته حتى يقبلوا على الإيمان به.

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}. المفردات: {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}: يرشدونهم بكلمة الحق. {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}: وبالحق يعدلون في الأَحكام. {أَسْبَاطًا أُمَمًا}: أَي قبائل صارت أمما، وأَصل السبط ولد الابن أَو البنت. {فَانْبَجَسَتْ}: فانفجرت. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ}: وجعلنا السحاب يظلهم من الشمس. {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}: المن صمغة حلوة، والسلوى السُّمانى. التفسير 159 - {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}: كلام مستأنف لدفع توهم حرمان أَسلاف قوم موسى من كل خير، بعد تخصيص من يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابة الرحمة والتقوى والإِيمان بكلمات الله في الآية السابقة، ولبيان أَن اليهود ليسوا كلهم كما حكيت أَحوالهم، بل منهم أُمة يهدون الناس بالحق وبه يعدلون.

والمعنى: ومن قوم موسى جماعة يهدون الناس بهدى الحق، وبالحق يعدلون في الأَحكام الجارية فيما بينهم، وذلك قبل أَن يبدلوا توراتهم، ويدخلوا فيها ما لم ينزله الله تعالى بها، فقد كان فيها هدى ونور حينئذ، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. } الآية (¬1). وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الآيات (¬2). ويجوز أَن يكون المراد بهم من آمنوا منهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأَن يكون المراد بتلاوتهم آيات الله تلاوة القرآن الكريم، وهذا هو الظاهر. 160 - {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا}: شروع في بيان بعض النعم التي أَنعم الله بها على قوم موسى، برهم وفاجرهم واعلم أَن السبط في اللغة معناه ولد الولد، ولما كان بنو إِسرائيل هم ذرية أَولاد إِسرائيل (¬3) الاثنى عشر، فلذا أطلق عليهم أَسباط, لأَنهم أَولاد أَولاده، وقد شاعت هذه التسمية فيهم حتى أَصبحت حقيقة عرفية، وهي فيهم كالقبيلة في ولد إِسماعيل عليه السلام. والمعنى: وصيرناهم اثنتى عشرة أُمة، كل أُمة منهم ترجع إِلى ولد من أَولاده الاثنى عشر فكانوا لهذا أَسباطًا له، أَي أولادًا لأَولاده هؤلاء .. وتأنيث اثنتى مع أَن المعدود مذكر وهو أَسباط، لتفسيره بالأُمم ولأَن الجمع يؤنث وصفه وكذا فعله الذي يسند إِليه. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}: كان العطش قد استبد بقوم موسى، وهم في التيه، فاستسقوه - أَي طلبوا منه أَن يدعو الله تعالى أَن يسقيهم الماء الذي لم يجدوه في صحراء التيه - فاستسقى موسى ربه بأَن دعاه أَن يمن على قومه بالماءِ ليشربوه حتى لا يهلكوا عطشًا، فأَوحى الله إِليه أَن اضرب ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 44 (¬2) سورة آل عمران: الآيات 113 إلى 115 (¬3) إسرائيل هو يعقوب عليه السلام.

بعصاك الحجر ليخرج منه الماء لهم، فضربه فورًا بعصاه كما أَمره ربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بقدرة الله تعالى، لكل سبط من أَسباطهم عين خاصة بهم، عرفوها بذاتها حتى لا يختلفوا على مائهم. ويفهم من ذلك أَن كل سبط منهم كان عدد أَفراده كثيرًا، حتى جعل لهم هذا العدد من العيون بعدد أَسباطهم. وقد أَباح الله لموسى أَن يختار أَىَّ عصا ليضرب بها، وأَى حجر ليضربه بالعصا التي يختارها، فلم يعين له هذا ولا تلك، قال الحسن: ما كان إِلا حجرا اعترضه، وإِلا عصا أَخذها, ولعل الله تعالى أَراد بتكليف موسى - عليه السلام - بضرب الحجر بعصاه، ليكون خروج الماء بذلك معجزة له، حتى يزدادوا بنبوته استيقانا، ويقبلوا على العمل بما جاء به من التوراة، فلقد كان إِيمانهم ضعيفًا، ولذا عبدوا العجل وطلبوا من موسى أَن يرحمهم الله جهرة. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}: كانت حال بنى إِسرائيل في التيه سيئة، فإِن صحراءَ التيه كانت عديمة الشجر مفقودة الظلال، فلذلك كانوا في أَشد الحاجة إِلى ما يقيهم حرارة الشمس التي يزيدها اتقادًا انعكاسها على رمال الصحراء. ولقد تفضل الله فأَزال متاعبهم من جهة الماءِ بتفجير تلك العيون التي مر بيانها، ومن جهة الحر بأَن جعل الغمام يلقى ظلاله عليهم، ويقيهم حرارة الشمس، حيث أَرسل السحاب فوقهم في مقامهم ومسيرهم، فحال دون وصول أَشعة الشمس إِلى حيث يقيمون أَو يسيرون، وبقيت مشكلة الغذاءِ الذي لا مصدر له في التيه ولا يصل إِليهم به أَحد، فتفضل الله عليهم بإِنزال المن والسلوى ليكونا طعامًا لهم. أَما السنن فهو صمغة حلوة تشبه البرَدَ في منظره (¬1)، والشهد في حلاوته، ويسمى الترنجين، وأَما السمانى: فهى طيور معروفة بلذة لحومها، مطبوخة أَو مشوية، فكانوا يتغذون بالسلوى ويتحلون بالمن حيثما شاءُوا. ¬

_ (¬1) البرد: قطع من الثلج كحب الحمص غالبا، ينزل مع المطر.

وحين أَنزلهما الله عليهم، قال لهم متفضلا على لسان نبيه موسى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وبذلك الأَمر الكريم أَباح الله لهم أَن يغتذوا بلذائذ هذا الرزق الكريم الذي أَنقذهم به من الهلاك جوعًا، وهم في تيههم منقطعون عن العالم، وكان من حق هذه النعم أَن تقابل منهم بشكرها. {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أَي وما ظلموا الله ولا بغوا عليه بكفرانهم نعمته، ولكنهم ظلموا أَنفسهم خاصة، فلا يتخطاهم ضرره وسوء عاقبته. {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}. المفردات: {هَذِهِ الْقَرْيَةَ}: هي بيت المقدس أَو أَريحاء - على ما قيل. {وَقُولُوا حِطَّةٌ}: من الحط وهو الوضع والطرح، والمراد بها أَن يطلبوا حط ذنوبهم وطرحها عنهم بغفران الله لهم. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}: وادخلوا باب القرية التي أمرتم بدخولها خاشعين خاضعين لله شكرًا له على تمكينكم من دخولها. {رِجْزًا}: أَي عذابًا.

التفسير 161 - {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}: بين الله في الآية السابقة أَنه أَنعم على بنى إِسرائيل وهم في التيه فأَنقذهم من الهلاك في صحرائه، بما أَخرجه لهم من ينابيع الماءِ،، وأَنزله إِليهم من لذيذ الغذاءِ، كما بين أَنهم ظلموا أَنفسهم بكفران تلك النعم التي لا يستحقونها، وكان عليهم أَن يشكروها ويعتبروا بما أَصابهم من العقوبات على مخالفاتهم. وجاءت هذه الآية وما بعدها في إِثرها لبيان طرف آخر من آثامهم غير ما مر من كفرانهم بتلك النعم الجليلة، والغرض من سوق ذلك كله تذكير اليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنعه أَسلافهم، حيث قابلوا فضل الله عليهم ونعمه بالجحود والتنكر لها، وأَنه إِذا خبث الأَصل كان فرعه مثله، فلا غرابة أَن يتنكروا للحق كما تنكر أَسلافهم. والمعنى: واذكرْ أَيها الرسول لليهود المعاصرين لك، إِذ قيل لأَصولهم من قِبَلِ الله تعالى, على لسان موسى، أَو على لسان يوشع بعد موته - عليهما السلام - اسكنوا هذه القرية - بيت المقدس أَو أريحاء - بعد أَن نصركم الله على قومها الجبارين عباد الأَوثان - حين استجبتم لما أمرتم به من جهادهم. وادخلوا من بابها سجدا خاشعين خاضعين لله شاكرين له على نصركم عليهم، لا دخول المتجبرين المستكبرين أهل البطر والخيلاءِ فإِن نصركم من عند الله لا من عند أَنفسكم فلا يليق بكم أَن تشمخوا بأَنوفكم وتستكبروا على من حولكم، واتجِهوا إِلى ربكم قائلين له: حِطَّةٌ وغفرانٌ منك يا الله لذنوبنا، تأْكيدًا لتواضعكم، واعترافًا منكم بتقصيركم، فإِن فعلتم ذلك يغفر لكم الله ما مر من خطيآتكم، ولا نقتصر على ذلك، بل سنزيد المحسنين على المغفرة ثوابًا لا حد له. وقد كان أَمر بنى إِسرائيل بدخولهم تلك القرية، بعد انتهاء مدة عقوبتهم في التيه وكانت أَربعين سنة يتيهون فيها في صحرائه، ولا يجدون لهم منفذًا إِلى أَرض الله، حتى

موازنة بين ما في البقرة وما هنا

إِذا مرَّت تلك المدة، أَمرهم الله بجهاد الجبارين في تلك القرية، التي تعتبر عاصمة لإِقليمها، فإِذا سقطت في أَيديهم سقط إِقليمها معها. وكان موسى قد أَمرهم بدخولها بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، ولما كان دخولها يستلزم قتال أَهلها، وهم جبناء لا يحبون القتال فلذا أَجابوه بقولهم: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} فانظر إلى فساد عقلهم حيث تمنوا خروج الجبارين طواعية بغير قتال ليحلوا محلهم بعد خروجهم، ولما أَجابوا موسى بهذا الجواب الحقير: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأَصروا على موقفهم وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} فطلب موسى عقابهم بقوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فأَجابه بقوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} راجع الآيات من 21 إِلى 26 من سورة المائدة. فلمَّا مرَّت مدة التيه، دعاهم يوشع لقتال الجبارين بعد وفاة موسى (على الراجح) فاستجابوا له فنصرهم الله تعالى عليهم. موازنة بين ما في البقرة وما هنا جاء الأَمر هنا بالسكنى حيث قيل: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} ولكنه في البقرة أَمر بالدخول حيث قيل: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} ولا تناقض في ذلك، فإِن الدخول لغرض السكنى، وعطف الأَكل هناك بفاء الترتيب (فكلوا) لأَنه يكون بعد الدخول، وعطف بالواو "وكلوا" لأَن السكنى أَمر ممتد، والأَكل يكون معها لا بعدها، والواو للمعية وذكر هناك "رَغَدًا" ولم يذكر هنا, لأَن الأَكل بعد الدخول عقب النصر يكون أَلذ، أَما بعد السكنى والاعتياد على المكان، فإِنه يكون أَقل لذة فلذا لم يذكر معها, ولا تنافى بين قوله هنا: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} بتقديم القول على الدخول، وقوله في البقرة {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} بتقديم الدخول على القول, لأَن المأمور به في الآيتين

هو الجمع بين الفعلين من غير اعتبار الترتيب بينهما، فإِن الواو لمطلق الجمع فلا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبا. 162 - {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}: أَي فبدل الذين ظلموا من هؤُلاء - وكلهم كانوا ظالمين (¬1) - قولًا غير الذي قيل لهم، فقد أُمروا بالتوبة والاستغفار بأَن يقولوا حطة لذنوبنا وغفران لها، فوضعوا مكان ذلك قولًا آخر لا خير فيه تكبرًا وعتوا, ولم يذكروا فضل الله عليهم في الانتصارات ونعمته عليهم بالإِسكان في تلك القرية بعد التشريد في التيه أَربعين عامًا وهكذا يفعل عتاة الجيوش المنتصرة, يتكبرون في الأَرض، ويستَعْلون على الناس وينسبون الانتصار لأَنفسهم، وينسون فضل الله - تعالى - عليهم. ومن المفسرين من ذكروا أَنهم قالوا بدل (حطة) حنطة بزيادة النون، استخفافًا باللهِ واستهزاءً بموسى - لعنهم الله - ولكنا لم نجد نصًا في ذلك يمكن الاعتماد عليه، سوى قوله - تعالى - عقب ذلك: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} فَهُو يفيد أَن التبديل كان بِقَوْلٍ ظالم شديد الظلم بحيث استحقوا بسببه أَن ينزل الله عليهم عقبه (رِجْزًا) أَي عذَابا {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} أَما حقيقة العبارات التي قالوها وظلموا بها ظلمًا فظيعًا، فلم يرد بها نص، فلهذا لم نشأْ أَن نتحمل عهدته ونقدمه للقارىء تفسيرًا لما قالوه. ولا تنافى بين قوله هنا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ}، وَقوله في البقرة: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فإِن ظلمهم يستلزم فسقهم، فهم ظالمون فاسقون فكلا الوصفين فيهم. ¬

_ (¬1) لأن (من) في (منهم) للبيان وليست للتبعيض.

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}. المفردات: {الْقَرْيَةِ}: مدينة أَيلة، {حَاضِرَةَ الْبَحْرِ}: قريبة منه. {يَعْدُونَ في السَّبْتِ}: يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت. {حِيتَانُهُمْ}: المراد بها أَنواع السمك المختلفة. {شُرَّعًا}: جمع شارع أَي: ظاهرة على وجه الماءِ. من شرع علينا إِذا دنا وأَشرف. التفسير 163 - {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ... } الآية: لا يزال الحديث عن سيئات اليهود وآثامهم موصولا، فقد أَمر الله رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية، أَن يسأَل يهود زمانه المعاصرين له سؤَال تقرير وتقريع بما يفيد أَنهم عريقون في تجاوزهم لحدود الله تعالى. والمراد: إِعلانهم بأَن ما أَخفوه عن غيرهم من مآثمهم، أَطلع الله رسوله عليه ولك شاهد بنبوته - صلى الله عليه وسلم - فإِن مثل ذلك لا يقوله إِلا من اطلع على كتبهم، أَو سمعه من علمائهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أُمى لا يقرأُ ولا يكتب, فلا سبيل له إِلى اطلاعه عليها، وعلماؤُهم لا يصرحون له ولا لغيره بما يفضح أَسرار أَصولهم وأَجدادهم من المخازى والسيئات، فلا سبيل إِلى معرفتها إِلا أَن يوحى الله إِليه بها، والقرية التي كانت حاضرة البحر هي أَيلة، وهي قريبة بين مدين والطور، وهذا هو ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعن ابن شهاب هي طبرية. وقيل غير ذلك والمعنى: واسأَل أَيها الرسول

من عاصرك من اليهود عن حال أَهل القرية التي كانت مشرفة عل البحر، حين يظلمون ويتجاوزون حدود الله في يوم السبت بالصيد فيه وهو محرم عليهم، تعظيمًا لهذا اليوم الذي كان يوم راحة وعبادة لديهم، كما حرم عليهم فيه الاشتغال بغيرها، وكانت تأْتيهم حيتانهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماءِ، حيث أَدركت بغريزتها هدوء حركة الصيد في هذا اليوم، فكانت تطفو على وجه الماءِ آمنة. وكأَن الله تعالى - يبعثها على الظهور في هذا اليوم ابتلاء لهم، وحين لا يكونون في يوم السبت لا تظهر على وجه الماءِ ولا تكون كثيرة لديهم. {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: أَي مثل ذلك الابتلاء الشديد نبتليهم بسبب فسقهم وخروجهم على طاعة الله - تعالى - السبت اسم لليوم المعروف، وأضيف إِليهم في قوله تعالى: "يوم سبتهم" لاختصاصهم بأَحكامه، ويجوز أَن يكون مَصْدَرَ سَبَتَ اليهود إِذا عظمت السبت بالتجرد للعبادة فيه ويؤيده قراءة: "يَوْمَ إِسْبَاتِهمْ" وكذا قوله تعالى "وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ": أَي ويوم لا يعظمون السبت, لأَنهم في يوم آخر سواه. {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}. المفردات: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}: قال الأَزهرى؛ المعذرة بمعنى الاعتذار، وَعُدَّىَ بإِلى متضمنة معنى الإِنهاء والإِبلاغ.

{بَئِيسٍ}: شديد، {عَتَوْا}: تكبروا وأَعرضوا. {خَاسِئِينَ}: أَذلاء صاغرين. التفسير 164 - {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا .. } الآية: لا يزال الحديث موصولا عن مساوئ اليهود منذ عهد بعيد، فقد بينت هذه الآية الكريمة: أَن جماعة صالحة من أَهل القرية التي كانت حاضرة البحر ومشرفة عليه، دأَبوا على وعظ أَهلها وتذكيرهم بوجوب تنفيذ أَوامر الله والانتهاءِ عن محارمه، وفي جملة ذلك الصيد في يوم السبت الذي جعله الله يوم عبادة، وحرم الاشتغال فيه بغير العبادة من صيد وسواه، كما بَيَّنَتْ أَن جماعة أُخرى من أَهل الصلاح رأَوا أَن لا فائدة من وعظ أولئك القوم المُصِرِّين على المخالفة والعصيان فقالوا للواعظين: لماذا تشتغلون بوعظ هؤلاءِ المقيمين على العصيان، الذين سيهلكهم الله ويستأْصلهم بذنوبهم، أو يعذبهم عذابًا شديدًا دون استئصال. يريدون بمقالهم هذا أَن يكف الواعظون عن وعظهم لعدم فائدته في قومهم فيجيبهم أولئك الوعاظ قائلين: إِنما نواصل وعظهم اعتذارًا إِلى الله ورجاء أَن يتقى قومنا ربهم بتوالى وعظهم، يقصدون أَنهم باستمرارهم على وعظ أولئك المعرضين، يهدفون إِلى تحقيق غرضين، (أَولهما): أَن يقدموا معذرة إِلى الله حتى لا ينسبهم إلى نوع من التفريط في النهي عن المنكر، فإن الله أَخذ العهد على أَهل العلم أَن يعلموا الناس وأَن لا يقنطوا من عدم الاستجابة السريعة إِلى تعليمهم وإِرشادهم (وثانيهما): أَن يستجيب الناس إِلى الوعظ فكم من عاص تاب إِلى الله بعد حين من وعظه. والموعظة: العذر الذي يُتَنصَّل به من الذنب. وهذا التقاول الذي حدث، إِما أَن يكون بين فريقين من الوعاظ، كأَنه قال بعضهم لبعض: لماذا نشتغل بما لا يفيد، وإِما أَن يكون بين فريق صالح من الأُمة لم يرضهم رفض قومهم للوعظ، وبين طائفة الوعاظ إِشفاقًا عليهم من جهدهم الضائع في أُمتهم، كأَنهم يقولون لهم: كفوا عن وعظهم فإِنه عدم الفائدة.

أَما قولهم: {اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} فالمقصود منه أَن المعاصي والذنوب مآلها الاستئصال بالهلاكِ في الدنيا، أَو العذاب الشديد في الدنيا بدون هلاك، أَو في الآخرة وقد يجمع الله في الدنيا على العصاة الأَمرين الإهلاك وتعذيبهم عذابًا شديدًا، دون الاستئصال أو المراد تعذيبهم في الآخرة، أَو الجمع بين ذلك كله. وليس المقصود من قول السائلين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ ... } إلخ: مجرد السؤال عن سبب وعظهم أولئك المعرضين أَو عن حكمته، بل المقصود منه نهيهم عن وعظهم لعدم فائدته كما تقدم بيانه، وقد عدل به إِلى هذا الأُسلوب, لأَنه آكد في النهي، كأنه قيل: أَي حكمة من الاستمرار في وعظهم مع أَنهم مصرّون على الذنب ومعاقبون من الله عليه أَي: لا حكمة فيه فكفّوا عنه. {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: أَي قال المرشدون للعصاة مجيبين من أنكر عليهم وعظ العصاة ومعتذرين عن مواصلة وعظهم: إِنما نفعل ذلك ليكون معذرة لنا عند الله، حتى لا نكون من المقصرين في النهي عن المنكر، ولعل ذلك يكون سببًا لإِقلاعهم عما هم فيه من المعاصي. 165 - {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: أَي فلما تركوا ما ذكرهم به وعاظهم ترك الشىء المنسى، وأَعرضوا عنه إِعراضًا تامًّا، أَنجينا الذين ينهون عن المعصية التي من شأْنها أَن تسوءَ فاعلها وعاقبنا الذين ظلموا أَنفسهم بمخالفة أَوامر الله ونواهيه، بعذاب شديد لا رحمة فيه، بسبب استمرارهم على الفسق والخروج عن طاعة الله تعالى. 166 - {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}: بينت الآية السابقة أَن الله تعالى عذبهم بعذاب بئيس لا رحمة فيه بسبب معاصيهم لعلهم يرتدعون، وجاءت هذه الآية لتقرر أَنهم لم يتأَثروا بهذا العذاب، بل استمروا في ارتكاب ما نهوا عنه وزادوا في طغيانهم فعوقبوا بمسخهم قردة في خلقهم أَو أَخلاقهم أذلاء بعيدين عن الإِنسانية صورة أو معنى.

وتحويل من عصى بالصيد يوم السبت، إلى قردة حقيقة هو رأْى جمهور المفسرين، ومن العلماء من يرى: أَن ذلك من باب التمثيل لسوءِ رأيهم وعدم اعتبارهم بالمواعظ، فكما أَن القردةَ لا تهتم بما وراء طعامها وإِشباع غريزتها فكذلك هؤلاء فكأَنه تعالى قال لهم: كونوا مثل القردة في عدم الفهم والإدراك وسوء تقدير العواقب. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ في الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}. المفردات: {تَأَذَّنَ رَبُّكَ}: تأَذن بمعنى آذن أَي أَعلم، كتوعد بمعنى أَوعد. {مَنْ يَسُومُهُمْ}: من يذيقهم. التفسير 167 - {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ... } الآية. لا توجد أُمة تلاعبت بشريعتها وعبثت بها، ما بين إِيمان وكفر، وطاعة وعصيان مثل بنى إِسرائيل. ونظرا لتأَصُّل الشر فيهم، وسريانه في دمائهم، وتنقله في أَجيالهم سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إِلى يوم القيامة، كما تشير إِليه هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ... }:

أَي: واذكر يا محمَّد وقت أَن أَعلم ربك الناس بما قضاه على بنى إسرائيل جزاء سيئاتهم وتمردهم المستمر، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم سوء العذاب، من إِجلاءٍ وتشريد، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر، فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقى منهم ثم سلط عليهم الرومان مرة بعد أخرى - بسبب جرائمهم - فشردوهم، وهدموا هيكلهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا (¬1). ولما جاء نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق تآمروا على قتله, وعاهدوا قريشًا عليه في غزوة الخندق، فقاتلهم وأَجلى من بقى منهم، ثم توالى عليهم الإِذلال والتشريد والقتل بعد ذلك, أَما نشاطهم الحالى في كثير من المجتمعات - فإِلى حين، ولسوف يعود إِليهم الإِذلال والتشريد، وما ربك بغافل عما يعملون. ثم ختم الله الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ليشير بذلك إِلى أَنه لا ينبغي لأَحد عصى الله أَن يأْمن جانبه ويطمئن إِلى حلمه فيستمر في معاصيه، فهو سريع العقاب لمن رأَى الحكمة في تعجيل عقابه، ويشير بذلك أيضًا إِلى أَنه عظيم الغفران واسع الرحمة لمن تاب وآمن. 168 - {وَقَطَّعْنَاهُمْ في الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ .. } الآية: توعدهم الله في الآية السابقة بأَن يبعث عليهم - إِلى يوم القيامة - من يذيقهم سوءَ العذاب، وجاءت هذه الآية لتبين أثرا من آثار هذا الوعيد وهو تفريقهم في الأَرض حتى لا تكون لهم شوكة، وهذا التفريق والتقطيع في الأَرض بتسليط الله عليهم من يفرقهم فيها بسبب عصيانهم لله وإيذائهم للأُمم التي يعيشون فيها. والمعنى: وفرقناهم في الأَرض فرقًا وقطعًا (¬2) كل فرقة في قطر من أَقطارها, وقلما يخلو قطر فيها منهم، حتى لا تكون لهم شوكة ومنعة باجتماعهم في قطر واحد يترتب عليه أَذى ¬

_ (¬1) ولما جاءت المسيحية لقوا من أهلها أذى كثيرًا، بغير شفقة ولا رحمة، حيث شردوهم في أنحاء الأرض, وأحرقوهم وفرضوا عليهم أفدح الضرائب واستعبدوهم وكل ذلك بسبب جرائمهم ومؤامراتهم. (¬2) والتعبير عن فرقهم بالأمم في قوله تعالى: "وقطعناهم في الأرض أمما" للإشارة إلى أنهم حينما يتفرقون في الأرض يكونون أمما أَي جماعات، فتراهم يتجمعون ولا يسمحون بدخيل يكون بينهم، يتعرف مكرهم ويطلع على مكايدهم، وينبه الدولة التي هم فيها إلى مؤامراتهم وخطرهم.

كثيرًا لعباد الله، أَلا ترى أَنهم لما اجتمعوا وصارت لهم دولة في فلسطين تنفيذًا لوعد - بلفور - الإِنجليزى في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادى، آذوا جيرانهم من عرب فلسطين والأُردن وسوريا ومصر، وعدوا على أَراضيهم، ولكن الله العلى القدير، سلط عليهم جيش مصر وجيش سوريا في العاشر من رمضان سنة 1393 الموافق 6 من أُكتوبر سنة 1973، فدكا حصونهم وأَوقعا بجيشهم، فقتلا منهم وجرحا وأَسرا عددًا كبيرًا، وحطما أَسلحتهم وأَجهزة الحرب لديهم، من طائرات ودبابات وغيرها، في حرب خاطفة أَذهلت أُمم العالم، وحملتهم على تأييد العرب ضدهم في استردادهم الأَرض التي سلبوها منهم وسيتحقق بإِذن الله للعرب والمسلمين مزيد من النصر عليهم، حتى تزول دولتهم من أَرض العرب، وتنتهى شوكتهم ومنعتهم، ويعودوا إِلى سوءِ العذاب والنكال الذي توعدهم الله به في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ... } الآية. أَمَّا الصالحون منهم في قوله تعالى: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} فالمقصود بهم كما قال الطبرى من آمنوا بالله ورسله الذين أرسلوا إِليهم، وثبتوا على دينهم قبل عيسى عليه السلام. وقيل: هم الذين أَدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، ونسب ذلك إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -. وأَما من هم دون ذلك في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} فالمقصود بهم كفارهم وفساقهم فهم دون الصالحين وأَحط منهم. {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: أَي وامتحناهم بالنعم المختلفة من مال وخصب وعافية وولد وغير ذلك من الحسنات, كما امتحناهم بالمحن المتنوعة من الجدب والتشريد، والقتل والأَسر وغير ذلك من السيئات التي تسوءهم لعلهم يرجعون إِلى طاعة ربهم, ويتوبون من غيهم.

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}. المفردات: {خَلْفٌ}: المراد بهم هنا الأَولاد، وأَكثر ما يستعمل الخلْف بسكون اللام في الشر ومنه: سكت ألْفًا ونطق خَلْفًا، وأَكثر ما يستعمل الْخَلَفُ بفتح اللام في الخير وأَصل الخلف بصيغتيه ما يكون وراء غيره أَو بعده. {عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}: الْعَرَضُ: ما لا ثبات له، وفي النهاية: العرَض - بالفتح - متاع الدنيا وحطامها. والمراد بهذا الأَدنى: الدنيا. وأُشير إِليها "بهذا" وهو للمذكر، على تقدير: هذا الشىءُ الأَدنى (¬1). {مِيثَاقُ الْكِتَابِ}: المراد بالكتاب: التوراة. وبميثاقه: عهده الوثيق المؤكد. {يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}: يتمسكون به. التفسير 169 - {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ... } الآية: ¬

_ (¬1) ويصح أن يكون المشار إليه ملحوظا، وهو متاع الدنيا، والأدنى: صفة لعرض، والمعنى: يأخذون العرض الأدنى من متاع الدنيا وهو الحرام، ولا يقتصرون على حلاله.

أَي: فجاء من بعد الصالحين والطالحين الأَولين من بنى إِسرائيل ذرية خلفهم ورثوا كتاب التوراة عن أَسلافهم - وهم الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاطون العرض الأَدنى من هذا المتاع الدنيوى، وهو ما حرمه الله في كتابهم من الأَموال والعروض والوجاهة القائمة على الأَضاليل، ولا يقتصرون على ما أَحله الله منها، فقد كانوا يأْخذون الرشوة على القضاء لصالح من يدفعها وعلى تغيير حكم الله في التوراة عند الفتوى لقاء عرض زائل (¬1) وعلى تحريفها وسوء تأْويلها لصالح زعمائِهم ليحتفظوا بوجاهتهم لديهم، ويقولون في أَنفسهم لا يؤاخذنا الله بما نأخذ ولا بما نقول، بل سيغفر لنا، زاعمين أَنهم أَبناء الله وأَحباؤُه، ولهذا يصرون على الذنب، وهذا هوالمقصود بقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أَي يرجون المغفرة والحال: أَنهم إن يأْتهم عرض محرم مثل الذي أَخذوه يعودون لأَخذه مصرَّين على الذنب، زاعمين المغفرة مع الاستمرار فيه، فهم لا يرعوون ولا يتوبون {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ}: أَي أَلم يؤخذ على بنى إِسرائيل ميثاق التوراة وعهدها أَن لا يقولوا على الله إِلا الحق ودرسوا ما فيه دراسة تامة، فعرفوا حلاله وحرامه، فما بالهم يتعاطون الحرام ويصرون عليه، ويقطعون بمغفرة الله لذنوبهم. {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: أَي وثواب الدار الآخرة خير للذين يتقون الله فيتوبون إِليه من كفرهم ومعاصيهم وقولهم على الله غير الحق وأَخذهم ما لا يحل لهم، فإِن متاع الدنيا قليل ومتاع الآخرة كثير دائم. 170 - {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}: أَي: والذين يتمسكون في أُمور دينهم بالكتاب، يقال مَسَّك بالشىءِ وتمسك به بمعنى واحد والمراد بهم - كما قال مجاهد وابن زيد - الذين آمنوا من أَهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأَصحابه، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى - عليه السلام - فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة. ¬

_ (¬1) قيل: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون كتاب الله فيحكمون له به, فإذا جاءهم المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم تحريفا وتبديلا لما في التوراة - فحكموا له به.

وقد كان تمسكهم بكتابهم على هذا طريقًا إِلى إِيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله تعالى، وذلك أَنهم رأَوا ما فيه من أَوصاف خاتم النبيين، فوجدوها منطبقة عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به من الهدى، فسارعوا إلى الإيمان به، والعمل بكتابه، تمسكًا منهم بكتابهم الذي يوجب عليهم حينما يتحققون من أَمارات نبوته، أَن يسارعوا إِلى الإِيمان به والعمل بكتابه، فهو مهيمن على جميع الكتب السماوية، مشتمل على أُصول ما جاءَ فيها، فمن عمل بالقرآن، فقد تمسك بجميع الكتب السماوية لاشتماله عليها وانفراده عنها بما جاءَ فيه من الفروع المناسبة لحال الأُمة الإِسلامية، التي جعلها الله خير أُمة أُخرجت للناس. ويئول الأَمر إِلى أَنهم يتمسكون بالقرآن الكريم (¬1). وقال عطاء: المراد من الذين يمسكون بالكتاب أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والمراد من الكتاب القرآن الكريم. ومعنى الآية: والذين يتمسَّكون في أمرهم كله بكتاب الله تعالى ويعلمون بما فيه دائما واهتموا بالصلاة خاصة فأَقاموها في أَوقاتها بأَركانها وشروطها، إِن الله لا يضيع أَجرهم فهم مصلحون، والله لا يضيع أَجر المصلحين. وتخصيص إِقامة الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها في التمسك بالكتاب: لأَنها تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، فإِن من يقف مخلصًا بين يدي ربه خمس مرات في اليوم والليلة يناجيه ويدعوه، يستحى أَن يفعل ذلك وهو مرتكب للفحشاءِ والمنكر، ولهذا اعتبرت عماد الدين (¬2). ¬

_ (¬1) لأن العمل بالتوراة بعد نزول القرآن قد نسخ بوجوب العمل بما في القرآن، فقد اشتمل على فروع تناسب مصالح المجتمع بعد بعثة محمَّد إلى يوم القيامة. (¬2) والتعبير عن التمسك بالكتاب بصيغة المضارع (يمسكون) للدلالة على أن التمسك به يجب أن يستمر ويتجدد في جميع الأزمنة، أما التعبير عن إقامة الصلاة بصيغة الماضي (وأقاموا الصلاة) فلأنها مختصة بأوقاتها الخمسة.

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}. المفردات: {نَتَقْنَا}: رفعنا - {ظُلَّةٌ}: الظلة ما أَظلك. {بِقُوَّةٍ}: بجد وعزيمة - {وَظَنُّوا}: أَي تيقنوا - وكثيرًا ما يستعمل الظن بمعنى التيقن كما هنا. التفسير 171 - {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ .. } الآية: الربط: هذه الآية الكريمة متصلة بالآيات السابقة التي سجلت على بنى إِسرائيل عنادهم وكفرهم بعد ما رأَوا الآيات، وبعد أَن حقق الله لهم كثيرًا من الرغبات التي كانت تقتضى منهم الإيمان والشكر، بدلا مما هم عليه من العصيان والكفر، وقد كان مما طلبوا أَن يأْتيهم نبى الله موسى بكتاب من عند الله، فيه بيان للتشريعات، وتوضيح لمعالم الحلال والحرام، وقد جاءَهم موسى بالتوراة مكتوبة في الأَلواح، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} (¬1). فلما قرأَ عليهم التوراة، بادروا نبيهم بأَن ما فيها لا يتحملونه, لأنه إِصر وحمل ثقيل عليهم لا يطيقونه، وكان هذا منهم عنادًا, فحملهم الله على العمل بما في التوراة بعد أَن لم يجد معهم اللين، بأَن نتق الجبل فوقهم ورفعه رفعا حقيقيا كأَنه ظُلَّة. ¬

_ (¬1) الأعراف: من الآية 145 وقد مضى تفسيرها.

المعنى: واذكر يا محمَّد وقت أَن رفعنا الجبل فوق بنى إِسرائيل فظللهم وتيقنوا أَنه واقع بهم وساقط عليهم لعدم ثبات الأَجسام الثقيلة في الفضاءِ، وقلنا لهم في هذه الحالة المخيفة تقبلوا ما فرضناه عليكم في التوراة، وخذوه بجد وعزيمة وصدق، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: أَي تدارسوا تعاليمه وأَحكامه واذكروها، واعملوا بما فيها حتى لا تنسوها فإِن الدراسة والعمل تجعل كتابكم غير منسىّ ولا متروك, وفي دراسته على هذا النحو تطهير لقلوبكم وتزكية لنفوسكم وسلوك بكم سبيل الوصول إِلى درجة المتقين. وقد يقال: إِن إِيمانهم بعد رفع الجبل فوقهم حاصل بالإِلجاءِ والإِكراه وهو مناف للإِيمان الصادق, لأَنه إِنما يكون بالاختيار. ويردُّ على ذلك بأَن الله قد ترك لهم فرصة الاختيار مدة كافية قبل رفع الجبل، ولم يؤمنوا لقسوة قلوبهم، فكان هذا الإِلجاء في آخر أَمرهم بمنزلة جهاد الكافرين والمشركين بعد أَن وجهت الدعوة إِليهم ليؤمنوا اختيارًا فأعرضوا وفي كلا الأَمرين مصلحة لهم. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}. المفردات: {مِنْ ظُهُورِهِمْ}: من أَصلابهم - {الْمُبْطِلُونَ}: المتبعون للباطل.

التفسير 172 - {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ .... } الآية: الربط جاء فيما سبق بيان أَخذ العهد على بنى إِسرائيل ليأْخذوا التوراة ويعملوا بما فيها، وفي هذه الآيات بيان أَخذ العهد على بنى آدم جميعًا ويدخل فيهم بنو إِسرائيل لتتأَكد مسئوليتهم عن عهدهم بدخولهم في العهد العام. المعنى: واذكر يا محمَّد الوقت الذي أَخذ الله فيه العهد على ذرية آدم في عالم الغيب. {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: أَي طلب منهم أَن يعترفوا ويقروا بأَن الله ربهم ومالك أمرهم، وأَنه لا إِله إِلا هو، بعد أَن غرس في نفوسهم ذلك وفطرهم عليه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1) وفي الصحيحين: عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كل مولود يولد على الفطرة ... " وبعد أَن هيأَهم الله لقبول ذلك وجَّه إِليهم الخطاب بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فكان جوابهم أَن {قَالُوا بَلَى} أَي أَنت ربنا وحدك لا شريك لك، وبذلك الاستفهام التقريرى من الله بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} والإِجابة منهم بقولهم: (نعم) تَمَّ أَخْذُ الميثاق من الله على عباده. {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}: أَي: قال الله شهدنا عليكم بما اعترفتم به حتى لا ترجعوا يوم القيامة فيما أَقررتم به معتذرين بقولكم: إِنا كنا عن هذا العهد غافلين - أَي لا علم لنا به - ولا ندرى أَننا عاهدنا هذا العهد، ويجوز أَن يكون بنو آدم هم الذين قالوا {شَهِدْنَا} تأْكيدًا لموافقتهم على العهد بقولهم {بَلَى} فتكون هذه الشهادة من جملة مقول القول. ويقول بعض المحققين: إن هذا العهد تمثيل لخلقه تعالى إِيَّاهم على الفطرة السليمة، الصالحة للاستدلال بالآيات الكونية على وجوده وربوبيته لهم، وأن ذلك هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يُولد على الفِطْرة .. " الحديث. ¬

_ (¬1) سورة الروم: من الآية 30

173 - {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ .. } الآية: أَي أَن الله تعالى أَخذ عليهم العهد بربوبيته حتى لا يعتذروا عن شركهم بغفلتهم، كما مر في الآية السابقة، أَو يعتذروا بأَن يقولوا: إِنما أشرك، آباؤُنا من قبلنا وكنا ذرية لهم من بعد شركهم، فأَشركنا بشركهم، ونشأْنا نقتدى بهم - كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1). والمراد بيان أَن الله أَثبت بالحجة على كل نفس أَنه أَخذ الميثاق عليهم بتوحيده وأَنه لا يقبل منهم عن الشرك الاعتذار بالغفلة والجهل أَو التقليد للآباء. {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}: أَي أَتؤَاخذنا فتعذبنا بما فعل المشركون من آبائنا والذنب ذنبهم وتجعل عذابنا مثل عذابهم، مع قيام عذرنا بتقليدنا لهم وحسن الظن بهم؟ ولكن هذا الاعتذار لا يجديهم، بعد إِرسال الرسل مرشدين لهم، مؤيدين لفطرة الله فيهم. 174 - {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: أَي ومثل هذا البيان البليغ الواضح نبين الآيات الناطقة بمصير المقلدين لآبائهم ليتفكروا هم ومن على شاكلتهم، ولعلهم يرجعون عن غيهم وجهلهم وتقليدهم، ويعودون إِلى الرشد والهداية الصحيحة, بحيث يعرفون ما وجب عليهم نحو خالقهم. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف من الآية 23.

المفردات: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}: واقرأ عليهم - {نَبَأَ}: خبر - {فَانْسَلَخَ مِنْهَا}: فخرج منها وتركها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ}: أَدركه وتمكن من الوسوسة له. {الْغَاوِينَ}: المُبْعَدِين في الضلال - {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}: مال وسقط. {يَلْهَثْ} اللهث: التنفس الشديد مع إِخراج اللسان. {سَاءَ}: كلمة ذمٍّ مثل بئس ومعناها قبح. التفسير 175 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا (¬1) ..... } الآية: أَي واقرأ يا محمَّد على من بعثت إِليهم ومنهم اليهود، خبر الذي آتاه الله الدلائل والبراهين الدالة على الهدى والداعية إِلى الرشاد فترك العمل بها كلية ونبذها وراء ظهره ولم يعرها التفاتًا وتفكرا، فأَدركه الشيطان بالوسوسة والغواية، وصار قرينًا وملازما له، وازداد عصيانًا وضلالا بذلك {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}: أَي فصار من الراسخين في الغواية والضلال بإِعراضه عن الآيات البينات التي آتاه الله إياها. 176 - {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا .. } الآية: أَي ولو أَردنا هدايته إِلى الحق بما أَعطيناه من الآيات، لرفعناه إِلى الانتفاع بها والعمل بمقتضاها والوصول إِلى الدرجات العالية والمنازل الرفيعة. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ}: أَي ولكنه مال إِلى الهبوط بسوءِ اختياره. {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}: بالإِعراض عن تلك الدلائل الواضحة، فانحط أَشد انحطاط وارتدَّ أَسفل سافلين. وحرم بذلك من مشيئتنا هدايته، ورفعه من كبوته. ¬

_ (¬1) اختلف في تعيين الشخص الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، فقيل هو بلعم بن باعوراء, أو بلعام بن ياعر من الكنعانيين, أوتى علم بعض كتب الله تعالى, فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، وقيل هو أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل في هذا الزمان رسولًا ورجا أن يكون ذلك الرسول، فلما بعث نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حسده وكفر به، وقد أغفلنا ذكر اسم هذا الغاوى في التفسير، نظرًا للاختلاف فيه، ولأنه ليس هناك سند مقبول يعتمد عليه. في تعيينه، والله أعلم به والمهم هو مغزى قصته لا شخصه لأن شخصه لا يتعلق بتعيينه غرض، فلذا غفل القرآن ذكر اسمه، وقد تبعناه في ذلك.

ثم ضرب الله لصاحب هذه القصة مثلا يصور مبلغ تسفله وانحطاطه فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}: أَي فصفة وحال هذا العالم في الخسة والدناءَة كصفة وحال أَخس الحيوانات في أَخس أَحواله، وهي اللهث دائمًا في حالتى الراحة والتعب، كما قال سبحانه: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}: أَي إِن تطارده بالضرب والإِهانة يخرج لسانه من آثار الإِرهاق والمطاردة وإِن تتركه دون مطاردة وإِيذاء يخرج لسانه كذلك، فشأَنه واحد في الحالين، كذلك شأن ذلك العالم الذي آتاه الله علم آياته ولم يعمل بعلمه، فإِنه لم ينتفع بما علمه سواء أَوَعَظْتَهُ أَم تركته فهو في الحالين باق في ظلمات الجهل، والمراد من التشبيه ذم هذا الذي آتاه الله الآيات البينات، فترك العمل بها. {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}: أَي ذلك المثل الذي تقدم هو صفة وحال كل الذين كذبوا بآياتنا التي أَوضحت لهم سبل الهداية والرشاد فلحقهم الذم لهذا الوصف القبيح {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: أَي فاذكر يا محمَّد لقومك المخالفين لك والمكذبين لرسالتك قصص المكذبين السابقين عن عناد واستكبار رجاءَ أَن يتدبروا أَمرهم ويعتبروا بما في القصص من عبر ومواعظ {لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬1) ثم ختم الله هذه الآيات بقوله: 177 - {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... } الآية: أَي قَبُح مثلا حالُ المكذبين لآياتنا التاركين لها عنادا واستكبارا مع وضوحها، وقد ظلموا أَنفسهم دون غيرهم حيث عرضوها للعذاب والعقاب بسبب ما اختاروا من التكذيب والعصيان. والمراد من هذه الآية المبالغة في ذم هؤُلاءِ الذين جمعوا بين التكذيب بالآيات وظلم أَنفسهم بالمعاصى. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: من الآية 111

{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}. المفردات: {ذَرَأْنَا}: خلقنا - {لَا يَفْقَهُونَ}: لا يفهمون ولا يدركون. {الْغَافِلُونَ}: التاركون لما ينفعهم الساهون عنه. التفسير 178 - {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: لما أَمر الله النبي عليه الصلاة والسلام بأَن يقص على أُمته - عظة واعتبارا - قصص الذي آتاه الله الآيات فتركها عنادا واستكبارا، عقب ذلك بقوله: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ليبين أَن الهداية إِلى الحق بتوفيق الله للعبد؛ وذلك لا يكون إِلا لمن نظر في آيات الله، وسلك سبيل هداه. والمعنى: من يهده الله إِلى دينه الحق بعد أَن سلك طريق هداه، فهو المهتدى دون سواه، ممن سلك سبيل هواه, ومن يتركه في ضلاله لغفلته عن هداه، فأولئك هم الخاسرون دنياهم وأُخراهم.

179 - {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا ... } الآية: أَي والله لقد خلقنا لدخول جهنم والتعذيب فيها خلقا كثيرا من الثقلين؛ الجن والإِنس، بسبب صرف وسائل الإِدراك والمعرفة التي أَودعناها فيهم إِلى طريق الشر، لسوءِ اختيارهم، وكان من الممكن أَن يسلكوا بها طريق الخير لو استعملوا عقولهم وأَسماعهم وأَبصارهم فيما ينفعهم، فاستعملوا عقولهم في فهم الآيات التي أَنزلها الله إِليهم، وأَسماعهم في سماع الحجج التي أَتتهم على لسان رسلهم، وأَبصارهِم في النظر في آيات الله التي نصبها لهم في الآفاق، وحثهم على النظر فيها والاعتبار بها ولكنهم لم يفعلوا فاستحقوا الخلود في جهنم. {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: أَي هؤلاءِ الموصوفون بتلك الصفات المتقدمة، الذين أَوغلوا في الضلالة من الجن والإِنس، قد انحطت منزلتهم إِلى الحضيض، فأَشبهوا الأَنعام التي لا تعقل ولا تدرك إِلا بعض وسائل معيشتها {بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: أَي بل هم أَكثر ضلالا منها؛ لأَن الأَنعام عندها شعور بالحاجة إِلى الغذاءِ، والبعد عما يضرها، وهؤلاءِ ليسوا كذلك، حيث عرفوا ما يؤدى إِلى هلاكهم ووقعوا فيه، {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}: أَي أُولئك المماثلون للأَنعام بل الأضل منها هم الكاملون في الغفلة، عما ينفعهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه الآية الكريمة تقرير لمضمون ما سبق في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}. التفسير 180 - {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ... } الآية: بعد أَن بين القرآن الكريم غفلة الغافلين التامة عن الله سبحانه وتعالى، وما يحيق بهم من العذاب، جاء يعلم المؤْمنين كيف يذكرونه تعالى، وكيف يعاملون

المخلين بذلك، الغافلين عن الله، وعما يليق بمقامه العظيم؟ فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا .... } الآية: أَي ولله تعالى وحده أَجمل الأَسماءِ الدالة على أَحسن المعانى وأَشرفها فسموه أَيها المؤمنون بتلك الأَسماء العظيمة التي علمكم إِياها في دعائكم إِياه وندائكم له إِجلالا لقدره وتعظيما لمقامه {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ}: أَي واجتنبوا الذين يميلون عن الحق في أَسمائه تعالى - حيث اشتقوا منها أَسماء لآلهتهم، كاشتقاقهم "اللاَّت" من الله، "والعُزْى" من العزيز، "ومَنَاةَ" من المنان - أَو معنى يلحدون في أَسمائه، يسمونه سبحانه بغير ما سمى الله تعالى نفسه به، مما لم يرد به كتاب ولا سنة, لأَن أَسماءَ الله تعالى توقيفية - فيجوز أَن يقول المؤمن في دعائه مثلا: يا جواد - ولا يجوز أَن يقول يا سخى، ويجوز أَن يقول: يا عالم، ولا يجوز أَن يقول: يا عاقل، وهكذا .... {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي سيعاقبون بإِلحادهم فلا تتبعوا سبيلهم كى لا يحل بكم من العقاب ما سينزله الله بهم عقوبة ضلالهم المبين، وانحرافهم عن الحق بتسميته بما لم يأْذن به الله. وبعد أَن أَوضح القرآن حال الملحدين ومصيرهم، شرع يبيَّن حال المهتدين الداعين إِلى الخير وإِلى الصراط المستقيم، القائمين بالعدل بين الناس فقال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}.

المفردات: {أُمَّةٌ}: جماعة، {كَذَّبُوا}: جحدوا. {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}: والاستدراج النقل درجة بعد أخرى صعودا ونزولا والمراد منه هنا نقلهم وتقريبهم إِلى الهلاك بالنعم التي اغترُّوا بها ولم يؤدُّوا حقها. {كَيْدِي}: تدبيرى. {مَتِينٌ}: قوى. {وَأُمْلِي}: أمهل. التفسير 181 - {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ .. } الآية: أَي وممن خلق الله من الثقلين جماعة تمسكوا بالحق، وعملوا به، ودعوا الناس إِلى اتباعه والتزام طريقه، فكانوا كاملين في أَنفسهم مكملين لغيرهم. {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}: أَي وبالحق يقيمون العدل بين الناس والوزن في قضاياهم بالقسطاس المستقيم، حتى يكونوا على الحق في كل شئونهم، وأطلق على الطائفة الهادية المهتدية كلمة - أُمة - لأَنها تطلق على الطائفة، التي توحدت كلمتها، واتخذت منهجا واحدا في طريقها إِلى الحق، فسلكت سبيل الله المستقيم الذي دعا إِليه. 182 - {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}: بعد أَن ذكر القرآن الكريم حال الهادين المهديين، بين حال المكذبين بآيات الله التنزيلية والكونية ومآلهم، ترغيبا في طريق الأولين وتنفيرا من سبل المكذبين فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}: أَي والذين أَنكروا وجحدوا آياتنا ولم يعملوا بها، بعد أَن علموا عظيم نفعها وعلو شأْنها، وأنها معيار الحق، ومصداق الصدق، وميزان العدل، كما يستفاد من إضافة الآيات إِلى نون العظمة في - آياتنا - {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي جزاؤهم أَننا سننقلهم ونقربهم إِلى الهلاك شيئًا فشيئا وقليلا قليلًا بسبب النعم التي اغتروا بتواليها عليهم فقد كانوا كلما أَتوا ذنبا أعطوا نعمة (¬1) استدراجًا لهم (¬2) فظنوا لعظم غفلتهم عن الله وعن سننه في خلقه أَن ذلك إِكرام لهم، حتى يكون أَخذه على حين غفلتهم عن العبرة به أَخذا قويا، كما يشير إِليه قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}: أَي وامهل ¬

_ (¬1) ونسوا الشكر عليها. (¬2) قال في الشهاب: إذا رأيت الله أنعم على عبده وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه استدراج.

هؤلاء المكذبين وأَمدّ لهم في حبل النعم. {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}: أَي إِن انتقامى للممستدرَجين قوى لا يدافع, وسمّى الانتقام كيدًا لأَن فيه أَخذ الظالمين المكذبين وعقابهم على خلاف ما كانوا يظنون، فقد كانوا مغرورين بتوالى العطاء، ويظنونه لطفًا بهم وإِكرامًا لهم، ليكون العقاب شديدًا ومضاعفا عند المفاجأَة، وتلك نتيجة الغفلة عن الله، فيكون الجزاء من جنس العمل حيث يأْتيه على حين غفلة منه فينزل به بأْس الله {بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}. أَي في الوقتين اللذين هما مظنة الراحة والأَمن والطمأْنينة. {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}. المفردات: {جِنَّةٍ}: بكسر الجيم جنون، {مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أَي العوالم التي اشتملت عليها السموات والأَرض {يَذَرُهُمْ}: يتركهم، {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون. التفسير بعد أَن بين القرآن الكريم تكذيبهم بالآيات التي جاءَت بها الرسل لهدايتهم، شرع ينكر عليهم عدم تدبرهم في رسالة الرسول مع قيام الأَدلة على صحة رسالته وسلامة عقله فقال تعالى: 184 - {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ... } الآية: أَي أَغفلوا عما امتاز به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم من رجاحة العقل، وصدق القول، والأَمانة الكاملة

فقد عرفوه بالصادق الأَمين والمفكر السليم، ولم يسبق منه ما يقتضي وصفه بخلاف ما عرفوه به، فكيف أجازوا لأَنفسهم وصفه بالجنون، بعد أن جاءهم بالهدى والبينات من ربه؟ إِن هذا لشىء عجاب، فقد صاحبوه أربعين سنة قبل البعثة عرفوه فيها بسلامة العقل وصدق الحديث، وبما أن وصفه بالجنون صادر عن حقد وحسد دون تدبر ودون إنصاف فلذا أنكره الله عليهم، وخصه بكونه منذرا ومبلغا لهم عن ربهم بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: أَي ما محمَّد إلا محذر ومخوف من عقاب الله مُبين شرع الله بالحجة الواضحة والبرهان الصادق. ثم وجه الله تعالى أَنظارهم إِلى ما في الكون من آيات مرئية تثبت قدرته تعالى وحكمته في إرسال الرسل لتصحيح عقائدهم الباطلة، والسير بهم إِلى ما يوصلهم إِلى نعيم الآخرة التي أَنكروا مجيئها، وكذبوا بالبعث بعد الموت فقال تعالى: 185 - {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ... } الآية: أَي أعَمُوا عن التدبر فيما بين أَيديهم من آثار قدرته تعالى، ولم ينظروا نظر اعتبار وتدبر فيما يشاهدونه في عالم السموات، وعالم الأَرض، وفي مخلوقات الله جميعًا {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}: أَي أَغفلوا كذلك ولم ينظروا إِلى انتهاء حياتهم بالموت الذي يقتربون منه يوما بعد يوم ولحظة بعد لحظة فيقطع عليهم آجالهم وآمالهم قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (¬1). وفي هذا حث أَكيد على المبادرة إِلى التدبر فيما يرشدهم ويردهم إِلى الصواب، ويردعهم عما هم فيه من ضلال قبل ذوات الأَوان بحلول الموت الذي يعقبه الثواب والعقاب. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}: أَي وإِذا لم يؤمن هؤلاء بالله ولم يصدقوا بالقرآن الكريم فبأَى حديث بعد القرآن يصدقون؟ - ولا حديث أَصدق منه -، فقد اشتمل على ما يحقق سعادة العباد في الدنيا والآخرة، فقد كثر فيه الحديث عن ثواب الطائعين ترغيبا في الطاعة، كما أَنذر العصاة كثيرًا ليقوِّم اعوجاج العاصين، قال تعالى: {اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. 186 - {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ... } الآية: أَي - من يوقعه الله في الضلال الذي اختاره فلا يجد هاديا يهديه من دون الله لأَنه وحده يهدى من يشاء ويضل من يشاء ¬

_ (¬1) الأنبياء: الآية 1

{وَيَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: أَي ويتركهم في تجبرهم الذي جاوزوا به حدود الله التي بينها لعباده وأَرشدهم إِلى الوقوف عندها - يعمهون - يتحيرون ويتخبطون في ظلمات البغى والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)}. المفردات: {السَّاعَةِ}: المراد بها هنا يوم القيامة وقد يراد بها لغة جزء من الزمن. {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}: أَي متى حصولها. أَو متى وقوعها؟ {لَا يُجَلِّيهَا}: لا يظهرها ويكشفها على وجه التحديد. {ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: عظم أَمرها على أَهل السموات والأَرض لما فيها من الأَهوال. {بَغْتَةً}: فجأَة. {حَفِيٌّ عَنْهَا}: بالغ العلم بها. التفسير بعد أَن تحدث القرآن الكريم في الآيات السابقة عن المهتدين والضالين، تحدث عن الساعة التي هي مبدأ القيامة، وبعدها يكون الثواب والعقاب فقال تعالى: 187 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا .... } الآية: أَي يسأَلك الناِس يا محمَّد عن وقت مجىء الساعة التي يموت فيها الناس جميعًا استبعادا لحصولها وتكذيبا لوقوعها إِن كان السؤال من المشركين أَو اختبارًا لصدق نبوتك إِن كان السؤال من جهة أَهل الكتاب، {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أَي متى يكون مجيئها وثبوتها.

وليس لهم من هذا السؤال هدف صحيح، وإنما قصدوا التهكم والإِنكار أَو امتحان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في صدق رسالته كما تقدم وفي ذلك يقول الله تعالى حكاية عنهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، وقد أَمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَن يجيب السائلين بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ}: أَي قل لهم يا محمَّد: لا يعلم وقت مجيئها واستقرارها إِلا الله وحده لا يتعداه إِلى أَحد من خلقه، حتى الأَنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}: أَي لا يظهرها ولا يأتى بها في وقتها غير الله تعالى وحده، وفي هذا القول تأكيد بليغ وزيادة تقرير لما سبق من اختصاص علم الله تعالى بذلك {ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أَي عظم أَمرها واشتد وقعِها على أَهل السموات والأَرض بعد أَن أَعلمهم الله تعالى بما سيكون فيها من الشدائد والأَهوال كما قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)}، {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}: أَي لا تأْتيكم إلا فجأَة وعلى حين غفلة، وحينئذ تشعرون بثقلها لهول المفاجأَة بها، وبشدائدها وعقابها وفي هذا تقرير لنفى العلم بوقتها عمّن سوى الله تعالى واختصاصه سبحانه، به وحده. {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}: أَي يسأَلك الناس يا محمَّد عن وقت وقوع الساعة، مقدرين أَن علمك بها كعلم من أَحاط بالشيء وأَدركه على حقيقته، وهم مخطئون، في تقدير إحاطتك بوقت وقوعها، يوضح ذلك أَمره تعالى لنبيه بإعادة ما سبق أَن ردّ به عليهم حيث قال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ}: لا يعلم وقت مجىء الساعة إلا الله وحده دون سواه، وفي هذا تأْكيد وتعميق للمعنى المستفاد من الرد الأَول مع ما يفيده ذكر لفظ الجلالة من هيبة ورهبة في مقابلة جهلهم وتعنتهم في طلب أُمور لا يعلمها إلا الله وحده. وفي ختم الآية بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} إِشعار بأَن منشأَ السؤال هو جهل أَكثرهم وأَنهم لا يعلمون اختصاص الله بالعلم بها كما تقرر فيما سبق ولا يعلمون حكمة هذا الاختصاص، وكلمة {أَكْثَرَ}، تدل على أن القليل من الناس يعلمون تلك الحكمة بإِرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) سورة الملك: الآية 25

وفي إِخفاء أَمر الساعة حمل للمكلفين على العمل والجد في الطاعة قبل أَن تأْتيهم بغتة، إذ لو علموا وقتها لأَهملوا واستمروا في لهوهم وعصيانهم إلى أَن يقترب وقتها فيتوبوا وقد لا يستطيعون ذلك لمفاجأة الموت لهم أَو لتمكن عادة العصيان في نفوسهم، ومن هذا القبيل إِخفاءُ وقت الموت، وإِخفاء قبول الدعاء، وإِخفاء ليلة القدر، ليظل المكلف مقيما على عبادة الله تعالى وطاعته، وقد استأْثر الله بعلم الساعة لمصلحة المكلفين كما فهم مما تقدم، غير أَنه ورد في "السُّنَّةِ" ذكر علامات تدل على قرب وقوعها منها ضياع الأَمانة. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}. المفردات: {نَذِيرٌ}: منذر بوعيد الله للعصاة والكافرين. {وَبَشِيرٌ}: ومبشر بوعد الله لكل من يؤمن بالله. التفسير 188 - {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ .... } الآية: أَي قل يا محمَّد لهؤلاء الذين يسأَلونك عن وقت مجىء الساعة لا أَملك جلب نفع لنفسى ولا دفع ضر عنها، {إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ}: أَي إلا الشىء الذي أراد الله تعالى تمكينى من فعله، فإنى أَقدر عليه وأَستطيعه باختيارى إِياه، وبهذا الاستثناء لا يقال: كيف لا يملك الإنسان لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، مع مشاهدته. يفعل ما يصلح شأنه، ويبتعد عما يضره؟ {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}: أَي ولو كنت أَعلم الغيب، والمناسبات التي تربط بين الأَشياءِ، ويصح بها ترتيب المسببات على أَسبابها لحصلت كثيرًا من الخير الذي ينفعنى ويمكن للإِنسان تحصيله بأَفعاله الاختيارية، وفي هذا القول الكريم برهان واضح

على نفى علم الأَنبياء بالغيب، إذ لو ثبت لهم ذلك لاستكثر - صلى الله عليه وسلم - من الخير الذي ينفعه, وابتعد عما وقع له من ضرر وسوء وبخاصة في سبيل تبليغ الدعوة، وفي جهاد الكفار والمشركين، {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: أَي ما أَنا إِلا رسول من البشر اصطفاه الله لإنذار العصاة والكفار من النار، وبشارة الذين يؤمنون باللهِ بالجنة، خصنى الله بمعرفة ما يتعلق بهما من العلوم الدينية والدنيوية لا أَتعدى ذلك إِلى العلم بالغيب الذي لا يتوقف العلم بالأَحكام والشرائع عليه، قال تعالى: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}. وقد كشف الله من أَمر الساعة ما يتعلق بمصلحة الإِنذار من أَنها آتية لا ريب فيها وأَنها اقتربت. وأَما تعيين وقتها فليس مما يقتضيه الإِنذار، بل مما يضربه؛ لأَن إِيهام وقتها أَدعى إِلى التخويف والترهيب، ويجوز أن يكون قوله تعالى {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} متعلقا بالوصفين [النذارة والبشارة]، ولا يقال حينئذ إِذا كان الله قد أَرسله بشيرًا ونذيرا للناس كافة، فما وجه التقييد بقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأَن ثمرة الرسالة بالبشارة والنذارة إِنما ظهرت في المؤمنين خاصة، فنص القرآن على محل النفع والفائدة، على حد قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}. المفردات: {زَوْجَهَا}: الزوجة والمراد بها حواء.

{لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}: ليطمئن إِليها. {تَغَشَّاهَا}: غشيها وهو كناية عن الوقاع. {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}: أَي كان حملها خفيفا لا يمنعها من القيام والقعود وقضاء المصالح. {فَمَرَّتْ بِهِ}: فمضت به وترددت في قضاء مصالحِها من غير مشقة ولا كلفة. {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}: صارت ذات ثقل بسبب كبر الولد وقرب وضعه. {دَعَوَا اللهَ}: تضرُّعا إِليه. التفسير 189 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا .... } الآية. بَيَّن الله في أَول السورة إِجمالا كيفية خلق الناس، وتصويرهم ضمن خلق آدم أَبي البشر وتصويره، ثم حتمها بنوع من التفصيل لكيفية هذا الخلق فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: أَي هو الله العظيم الذي بدأَ خلقكم وحده أَيها الناس، من نفس واحدة، هي نفس آدم عليه السلام، دون أَن يكون له شريك في ذلك، فتمت بهذا أَعظم نعم الله على عباده، أَلا وهى إِخراجهم من العدم إِلى الوجود، فالخلق هو النعمة الأولى على الإِنسان. والخطاب في {خَلَقَكُمْ} لبنى آدم، و {مِنْ} هنا ابتدائية كما أُشير إِليه في المعنى كما أَفادت الجملة الحصر - أَي هو وحده الذي خلقكم. ووصف النفس بواحدة للإِشارة إِلى وحدة الأبوة، وللتعجيب بقدرته تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أَي وصيّر من جنسها زوجها وهى حواء، وكانت من جنس النفس إِتماما للنعمة، إِذ الجنس إِلى الجنس أَميل، حتى يتم الإنس بين الزوجين، والزوج يطلق على الاثنين اللذين بينهما تزاوج، {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} أَي ليستقر نفسًا ويطمئن قلبا إليها، وتزول الوحشة الحاصلة بالانفراد، ويصير منهما بعد ذلك الذكر والأنثى، فيبقى الجنس كما شاءَ الله بسبب التزاوج بين الرجل والمرأَة، وفي هذا النص بيان للغاية المقصودة من الزوجة المجانِسة، وهي سكون الروح وإِيناس النفس وبقاء الجنس وعمارة الأَرض

فأَنت ترى أنه لما أَراد الله تعالى بقاءَ العمران في الدنيا وشاءَ له أَن يكون منظمًا ومستقرًّا جعل السكن بين الزوجين، حتى لا يملاَّ من الاختلاط، فينصرف كل منهما عن الآخر فينقطع النسل، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}: أَي فلما غَشى الزوج منكم زوجته {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}: أَي حملت حملا خفيفا في بادئ الأَمر، لا يمنعها من القيام والقعود وقضاءِ المصالح، فإن كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة أَخف مما يكون في المراتب التي بعد ذلك. {فَمَرَّتْ بِهِ}: أَي فمضت به، وترددت في قضاء المصالح من غير مشقة ولا عناء {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ}: أَي فلما صارت ذات ثقل، وقرب وقت وضع حملها، وأَشفقا أَن يكون غير سوى، واهتمت هي وآدم بهذا الأَمر الذي لم يعهداه من قبل، تضرعا إِلى الله ربهما كما قال تعالى: {دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}: أَي تضرعا إلى الله ربهما المتولى وحده شئونهما بالتربية والرعاية، القادر دون سواه على تحقيق رجائهما وإِجابة دعائهما أَن يعطيهما ولدا صالحا، إِذ قالا مقسمين: والله لئن أَعطيتنا ورزقتنا ولدا صالحا سويا مستقيم الخلقة لنكونن من المخلصين لك في الشكر على نعمائك التي لا تحصى، ومن أَعظمها تلك النعمة الجليلة، نعمة الولد الصالح السوى. 190 - {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ... } الآية. أَي فلما استجاب الله تعالى دعاءَ الزوجين من ذرية آدم وحواء, وأَعطاهما ولدا صالحا، أَي كامل التكوين والخلقة {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}: أَي جعل الزوجان من ذرية آدم وحواءَ لله تعالى شركاءَ في الولد الصالح في تكوينه، حيث نسباه لبركة أوثانهم مع الله تعالى فالاشتراك وقع من ذرية آدم وحواء. ويجوز أن يكون التأْويل في قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} بتقدير مضاف محذوف أَي جعل أَولادهما لله شركاءَ، وجعل الكلام على حذف مضاف كثير ومعهود. ومنه قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}: أَي واسأَل أَهل القرية - وبهذا التفسير أو ذاك يندفع ما عساه يفهم من ظاهر الآية الكريمة من أَن آدم وحواءَ هما اللذان جعلا لله شركاءَ فيما آتاهما، وذلك يتنافى مع مقام خليفة الله في الأَرض الذي يقتضي التوحيد والشكر على إِنعام الله باستجابة دعائه وزوجه.

ومما يدل على استبعاد وقوع الشرك من آدم وحواءَ أَنفسهما قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فإِنه يدل على أَن الذين وقع منهم الشرك جماعة أَكثر من اثنين، وكذلك قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. {فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أَي فَعَلا مقام الله وارتفع، وسما قدره وتنزه اسمه عمَّا يشركه معه هؤلاء الأَغبياء، ويسوونهم به في إِطلاق اسم الله عليهم ومن أوثانهم، حيث اعتبروها شريكة الله في الولد الذي أَتاهما. ولصاحب الانتصاف تأويل في الآية قال: وأسلم الأَقوال أَن يكون المراد بالتثنية جنس الذكر والأنثى من غير قصد إِلى معين بالشخص، فكأَنه قال جل شأنه، خلقكم جنسا واحدًا، وجعل أزواجكم منكم أيضًا لتسكنوا إِليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى وقع من هذين الجنسين ما قد كان من شركَ، وكَيْتُ وكَيْتُ، فالتثنية في قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ} مراد بها الجنسان من ذكر وأنثى وليس المراد خصوص آدم وحواء اهـ وهذا التأْويل هو الذي نرتضيه ويشبه ما قلناه أولا. ثَم بيَّن الله بعد هذا جهلهم وسخافة عقولهم، وفساد آرائهم بهذا الشرك فقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}. المفردات: {صَامِتُونَ}: تاركون دعوتهم.

التفسير 191 - {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا}: أَي أَبعد أَن منح الله هؤلاء المشركين العقل وأَرسل إِليهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم -، داعيا إِلى توحيد الله، وسراجا منيرا، أَبعد هذا كله يشركون معه سبحانه في الألوهية صنما أَو غيره من مخلوقات الله مما ليس له قدرة على أَن يخلق شيئًا ولو كان ذبابا {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}: أَي والحال أَن ما عبدوهم يُخْلَقُون، والمخلوق يكون محتاجا إلى غيره فلا يصلح أَن يكون إِلهًا معبودا. وقد أَفاد أسلوب الاستفهام في الآية الكريمة الإِنكار عليهم، والتعجيب من حالهم وتوبيخهم على أَن أَشركوا مع الله ما لا يصلح أَن يكون إِلهًا، كما نَبَّه على سخافة عقولهم، وبطلان عقيدتهم. ثم بين القرآن الكريم: أَن هذه الأَصنام التي لم تخْلُقْ شيئًا بل إِنها مخلوقة وعاجزة، لا تنفع غيرها ولا تدفع التفسير عن نفسها فقال تعالى: 192 - {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}: أَي ولا يستطيع هؤلاء الشركاء دفع أَي ضر ينزل بمن عبدوهم مع الله ولا تحقيق أَي نفع لهم، بل ولا يستطيعون نصر أَنفسهم بدفع أَي معتد عليهم، وإِن بلغ هذا المعتدى غاية الضعف كالذباب أَو ما هو دون الذباب قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} (¬1) وفي هذا بيان لتمام عجزهم وغاية ضعفهم. ثم انتقل القرآن الكريم يبين عجزهم عما هو أَيسر من نصر أَنفسهم وعابديهم، وهو مجرد إِرشاد عابديهم إِلى طريق مطالبكم دون تحصيلها فقال تعالى: 193 - {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ}: أَي وإِن تدعوا أَيها المشركون آلهتكم من دون الله لهدايتكم وإِرشادكم إلى مصالحكم .... لا يَتبعوكم إِلى مرادكم ولا يجيبوا لكم طلبا بإِرشادكم، ولا يحققوا لكم رغبة، كما يحقق الله رغبة العباد إِذا لجأُوا إِليه، فالخطاب للمشركين، وضمير "هم" لآلهتهم، ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية 73

ويجوز أَن يكون الخطاب للمؤمنين، والضمير "هم" في تدعوهم للمشركين. أَي وإِن تدعوا أَيها المؤمنون هؤلاءِ المشركين إِلى الهدى والعمل الصالح لا يتبعوكم، ولا يستجيبوا لكم, لأَن الله طمس على بصيرتهم، وختم على قلوبهم، والقول الأَول هو الظاهر المناسب للسياق، ليكون الكلام سائرا على نمط واحد في مرجع الضمائر ... {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} أَي سواءٌ عليكم أَيها المشركون في عدم الإِفادة من هذه الآلهة طلبكم منها، وعدم طلبكم، فحالكم لا يتغير في الحالتين، كما أَن حالها لا يتغير فإِنها لا تضر ولا تنفع ... وفي هذا الأسلوب البليغ إِرشاد إلى عدم اتباع هذه المعبودات الباطلة. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}. المفردات: {تَدْعُونَ}: تعبدون. {وَلِيِّيَ اللهُ}: متولى أَمرى وناصرى. التفسير 194 - {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ .... } الآية: في الآيات السابقة طائفة من الحجج والبراهين جاءَت لإبطال الشرك وتسفيه عقول المشركين.

ونظرًا لتأصل عادة الشرك في نفوس المشركين بتقليد من قبلهم واتباعهم إِياهم، فقد جاءَت هذه الآيات الكريمة، تحكى طائفة اخرى من الحجج التي تدحض الشرك وتدمغ المشركين بالخزى والجهل والعار، مع بيان الفرق بين من تجب عبادته لقدرته، وما لا تصح عبادته لعجزه، حتى يمكن اقتلاع تلك العقيدة الفاسدة عن جذورها واستئصالها من منابتها، لتنتصر كلمة التوحيد وتعلو على أَساس ثابت، وتتضح بدليل قاطع فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ .... } الآية: أَي إِن الأَصنام وسائر الآلهة التي تعبدونها أَيها المشركون من دون الله وتنادونهم لنصرتكم في الشدائد، عباد مماثلون لكم في العبودية, لأَنهم مخلوقون لله ومسخرون وخاضعون لما خلقوا له مثلكم، والأَصنام جمادات، مسخرة لأَمر الله كما سخرت الأَرض والسموات لأَمره سبحانه وسنته في الكون. وإِذا كانوا أَمثالكم فإِنه يمتنع عقلا، أَن تطلبوا منهم ما قد عجزتم عن مثله. وإِذا كان الذين تدعون من دون الله أَحياء مثلكم، فالمماثلة تقتضى عجزهم كما عجزتم، وإِن كان ما تدعونه جمادا فهو أَقل منكم حيث لا حياة له ولا عقل، بل هو دون المماثلة لكم حينئذ، فكيف ترفعونهم إلى مقام الألوهية، وهم مثلكم أو أَعجز منكم وأَقل شأْنا، وفي قوله تعالى: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: تقرير لعجزهم أَي فنادوا أَيها المشركون هذه الأَصنام، فإِذا سمعوا نداءَكم فلتكن منهم الإِجابة لكم، إِن كنتم صادقين في زعمكم أَنهم قادرون على النفع والضر - ولام الأَمر في "فليستجيبوا" للتعجيز والسخرية والتهكم بهم. وبعد أَن قرعهم القرآن الكريم على عبادة عباد مماثلين لهم في التسخير والخضوع لأَمر الله، عاجزين عما عجز عنه العابدون لهم، أَكد تقريعهم ببيان غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم، إِذ أَوضح أَنهم أَحط منهم مرتبة وأَقل درجة لفقدانهم وسائل جلب النفع ودفع التفسير في قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا .... } الآية:

أَي ليس لهؤلاءِ الأَصنام أَرجل يمشون بها كما تمشون بأَرجلكم إِلى أَغراضكم، بل ليس لهم أَيد يأخذون بها بالعنف والقوة ما يريدون من غيرهم أويدفعون بها عن أنفسهم وعابديهم بل ليس لهم أَعين يبصرون بها أَحوالكم ليحققوا لكم أَغراضكم، بل ليس لهم آذان يسمعون بها كلامكم، ليستجيبوا لرغباتكم، وإذا كان هذا هو شأن الجمادات التي تعبدونها من دون الله، فلماذا ترفعونهم إِلى مقام الألوهية، ثم ترفضون الاستماع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاستجابة لأَمر الله تعالى؛ ومن كان هذا شأنه فهو أَحط منزلة من مستوى المماثلة بينكم وبينهم، فكيف يكون لهم مقام الألوهية والعبودية، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، تعالى الله عما يشركون. وبعد أَن بين القرآن الكريم أَن شركاءَهم لا يقدرون على شيء أَصلا، وأَنهم أَحط منهم درجات، أَمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَن يلزم المشركين ويفحمهم بعجزهم وعجز آلهتهم. فطلب منهم أَن يلحقوا به ضررا ما فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ .... } الآية: أَي قل يا محمَّد لهؤلاء المشركين للتهكم بهم وإفحامهم وإِلزامهم الحجة، نادوا شركاءَكم وأَحضروهم واستعينوا بهم علىَّ، ثم اجتمعوا أَنتم وهُمْ وبالغوا في بذل أَقصى ما تستطيعون في تدبير الكيد والمكر فلا تمهلونى ساعة بعد ترتيب أُموركم وإِحكام مكركم، ولا تؤخروا مما قررتم إنزاله بى من عقاب فإِنى لا أبالى بكم ولا أَعبأ بمكركم، وأَساس هذا القول عظم الثقة باللهِ تعالى وأَنه ولى الصالحين, كما قال تعالى. حكاية عن حال نبيه {إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}: أَي لا أَبالى بكم وبشركائكم، لأَن المتولى لأَمرى وناصرى هو الله وحده، الذي نزل الكتاب الناطق بأَنه وليَّى وناصرى وأَن شركاءَكم لا يستطيعون نصر أَنفسهم فضلا عن نصركم {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}: أَي وقد جرت سنته تعالى، أَن يتولى وحده رعاية الصالحين من عباده، وحفظهم، وأَنه ينصرهم ولا يخذلهم. وممّا تقدم يتبين أَن الاستفهام في قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} ... الخ للإِنكار المراد منه النفى، كما أَفاد الأسلوب غاية التهكم بهم والسخرية من تدبيرهم.

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}. المفردات: {تَدْعُونَ}: تعبدون. التفسير 197 - {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ .... } الآية: بعد أَن بيَّن الله في الآية السابقة، أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عزيز بولاية الله ومعتصم بنصرته، جاءَ ببيان أَن الأَصنام التي يعبدها المشركون من دون الله عاجزة لا تستطيع نصرهم في الشدائد، بل ولا تستطيع دفع التفسير عن نفسها إِذ قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ... } الآية: أَي والأَصنام التي تعبدونها أَيها المشركون من دون الله لا تستطيع نصركم في الشدائد والنوازل، بل ولا تستطيع دفع التفسير عن نفسها إِذا هو لحق بها. وهذه الآية وإِن تقدم معناها، إِلا أَن تكرار هذا المعنى مطلوب لاقتلاع جذور الشرك التي تأَصلت في نفوس المشركين، ثم ذكر القرآن الكريم حالة أخرى من أَحوال ضعفها وهوانها تنفرهم من عبادتها، والاعتماد عليها فقال تعالى: 198 - {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}: أَي وإِن تنادوا أَيها المشركون آلهتكم من الأَصنام لترشدكم إِلى ما تطلبون من صلاح الحال لا يسمعوا نداءَكم ولا يستجيبوا لطلبكم لتمام عجزهم وضعفهم: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.

أَي وتراهم أَيها الناظر يقابلونك بعيون وصورة كأنها ناظرة إِليك وهى لا تنظر، إِذ هي جماد لا يرى ولا يبصر. ويجوز أَن يكون الخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وضمير {تَدْعُوهُمْ} للمشركين أَي وإِن تدعو أَيها النبي هؤلاءِ المشركين إِلى الهدى والإِيمان لا يسمعوا لك سماع فهم وإِدراك، لأَن سبل الهداية قد سدَّت عليهم بسوء اختيارهم، وتراهم أَيها النبي ينظرون إليك وهم لا يبصرون رفعة مقامك وجلال قدرك لعمى قلوبهم وطمس بصيرتهم فلم يدركوا ما في دعوتك من الهدى والرشاد. وعلى هذا تكون الآية السابقة للتنديد بنفس الأَصنام، وهذه الآية للتنديد بعبَدة الأَصنام والأَوثان. وفي هذا التفسير - على الرأْى الثاني - إشارة لطيفة تؤخذ من قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}: لإِدراك الفرق بين طمس البصيرة في الكافرين حتى ينظروا وهم لا يبصرون، وبين ما منحه الله للمؤمنين من منارة الإِيمان التي تنير للبصيرة ما هو كامن مستتر في بعض النفوس بمجرد النظر إِليها ثم يتبين له صدق فراسته بالمخالطة والمعاشرة، كما يشير إِلى ذلك قول الله عَزَّ وَجَلَّ في خطابه لنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (¬1) فالكافر ينظر ببصره، وهو أَعمى البصيرة، بسبب ما ران على قلبه من حجب الكفر والمعاصي والمؤمن ينظر بالفطرة مع فراسة الإِيمان، فيرى ببصيرته بعض صفات المرئى, قبل أَن ينطق ويتكلم، ولهذا كان يوجّه إِلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - سؤال واحد في الأُسلوب من عدة أَشخاص، فيجيب بعضهم بقوله: "اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ" ويجيب آخر بقوله: "أطِعُ أَبَوَيْكَ"، ويجيب ثالثا بقوله: "أَحْسِنْ إلَى جَارِكَ"، ومنشأ ذلك أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كالطبيب, فيوصى كل شخص بما يناسبه حسب ما انكشف له من التقصير والعيوب بإِلهام من الله، ونور بصيرته، وهكذا من هذا القبيل نظرة سيدنا أَبي بكر - رضي الله عنه - إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استجاب له من غير تردُّدٍ, لأَنه رأَى منه بأَصل الفطرة ما لم يَرَهُ غيره، وكذلك السيدة ¬

_ (¬1) سورة محمَّد، من الآية: 30

خديجة - رضي الله عنها - حينما أَدركت فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمست فيه كمال صفاته، فآمنت به، وكانت من قبل قد اختارته زوجًا لها مع فقره وغناها، وكان ذلك بعد أَن رفضت كثيرا من أَشراف قريش ليكون أَحدهم زوجًا لها. {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}. المفردات: {الْعَفْوَ}: السهل اليسير من أَخلاق الناس. {بِالْعُرْفِ}: بالمعروف وهو ما شرعه الله لعباده وعرف حسنه شرعا وعقلا من عادات الناس. التفسير 199 - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: لما بين الله في الآيات السابقة فساد عبادة الأَصنام وعناد الكافرين جاءَ بعد ذلك بإِرشاد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، إِلى اللين في معاملة الناس عامَّةً تيسيرا عليهم وتأْليفا لقلوب الجاحدين، وتسكينا لثورة جماحهم لعلهم يعودون إِلى الحق وحسن الاستماع فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}: أَي أَقبل يا محمَّد السهل اليسير من أَخلاق الناس، وتساهل معهم فيما اعتادوه، من أَعمال وعادات لا تخالف ما جئت به, وأْمرهم بما شرعه الله لهم، وهو ما تقر بحسنه وصلاحيته العقول السليمة وذهب بعض المفسرين إِلى أَن معنى العفو: الفضل الزائد عن حاجة الناس من أَموالهم، ليكون الأَخذ مستعملا في المُحَسّ دون تجوز، كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}. أَي الزائد عن حاجتهم. والأَظهر حمل الآية على المعنى الأَول، وهو العفو بمعنى القبول .... مع مراعاة تقييده بقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أَي بالمعروف لك عن طريق الوحى، فلا عفو حينئذ فيما هو مطلوب شرعا، ويبقى العفو عامًّا فيما يجوز التسامح فيه.

قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا الطَّاعَةُ في الْمَعْرُوفِ" والمعروف مأْمور به في العبادات والمعاملات، ومنها المبايعات وأَحكام النكاح، ولأَن المعروف هو شريعة الله للناس، وعليه يتوقف إِصلاح حالهم في الدنيا والآخرة جاءَ القرآن الكريم مقررا له في آيات كثيرة، من ذلك: ما حكاه عن التوراة والإِنجيل من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذلك في قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وما جاءَ في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وفي مبايعة النساء: {وَلَا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ} وفي معاشرتهن بالمعروف، وفي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. ولما كان الأَمر بالمعروف قد يؤدى إِلى سفاهة بعض الجاهلين وإِيذائهم للنبي - عليه السلام - أمره الله تعالى بالتسامح في قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}: أَي وأَعرض عن سفاهة الجاهلين الناشئة عن حقدهم وحسدهم، وجهلهم، واترك مؤاخذتهم بمثل سفههم، فقد يؤثر الحلم والعفو في السفيه فيرجع إِلى الصواب ويلوم نفسه. ولقد كان لحلمه - صلى الله عليه وسلم - وإِعراضه عما يسوءه من قومه أثر كبير في إِسلام من كان يسفّه ويعارض، بعد أَن لمسوا منه - صلى الله عليه وسلم -، هذا الخلق الكريم، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا بُعِثْتُ لأِتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ" وإِنما يحسن العفو إِذا لم يؤد إِلى تعطيل ما شرعه الله. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}.

المفردات: {يَنْزَغَنَّكَ}: يَجُرَّنَّك للشر والإِفساد، ونَزْغُ الشيطان وساوسه. {فَاسْتَعِذْ}: استَجِرْ باللهِ وتحصن. التفسير 200 - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: روى عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَكَيْفَ الغَضَبُ يَا رَب؟ " فنزل قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أَي وإن يوسوس لك الشيطان أَيها المؤْمن وسوسة شديدة ويدفعك إلى فعل الشر والإِفساد دفعا قويا بالتشكيك في الحق وتزيين الباطل، {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ}: أَي فالتجئ إِلى الله وتحصن واستعن به على دفع وساوسه ونزغاتك {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَي إِنه تعالى وحده عظيم السمع لكل مسموع، {عَلِيمٌ} محيط علمه بكل شيءٍ فيسمع دعاءَك ويعلم إخلاص قلبك وصدق نيتك فإِذا صدقت في القول وأَخلصت في التضرع إِليه عصمك من شره، والخطاب في الآية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أمته لأَن الله قد عصم رسوله - صلى الله عليه وسلم - من نزغات الشيطان وقبول وسوسته. وفيما يلى بيانه: فإِن العبد إِذا التجأَ إِلى الله واستعان به، دخل في مقام العبودية الخاصة، فيتحصن بها من الشيطان، وقد قال جل شأْنه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. فالشيطان لا سبيل له يسلكه إِلى قلب العبد إِلا إِذا وجد في عمله ثلمة يدخل منها إِلى قلبه، كما يؤخذ ذلك من قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. فالانسلاخ من الآية ثُلْمة نَفَذَ منها الشيطان لمن انسلخ عن آياته

ثم أتبع هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}. المفردات: {مَسَّهُمْ}: أَي أَصابهم. {طَائِفٌ}: أَي خاطر. {الْغَيِّ}: الضلال والفساد. التفسير 201 - {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}: أَي إِن الذين اتقوا ربَّهم وخافوا عذابه فامتثلوا أَوامره واجتنبوا نواهيه، من عادتهم أَنهم إِذا نالهم وأَصابهم خاطر من خواطر الشيطان، وأَصابتهم منه وسوسة تزين لهم المعصية، تذكروا مقام ربهم، واستحضروا هيبته وجلاله، وتذكروا أَوامره ونواهيه، ووعده، ووعيده، فإذا هم مبصرون بنور ربهم طريق الهدى والرشاد. والمراد بالشيطان شيطان الجن. 202 - {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}: بعد أَن نبه الله، وحذر من وسوسة شياطين الجن، جاءَت هذه الآية للتحذير من إِخوانهم شياطين الإنس. أَي وإخوان شياطين الجن من شياطين الإِنس مثلهم في الإِفساد يساعدونهم في الإِغواء فما يزالون يعضدونهم بتزيين المعاصي لبعض الناس، {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}: أَي لا يمسكون عن إِغوائهم، حتى يُصِرَّ من وقع في حبائلهم على تنفيذ غوايتهم، وسلوك طريق الضلال.

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}. المفردات: {اجْتَبَيْتَهَا}: طلبتها. {بَصَائِرُ}: ما تبصر به عقولكم من الآيات. {فَاسْتَمِعُوا}: فاقصدوا سماعه. {وَأَنْصِتُوا}: واسكتوا متأَملين معناه. {تَضَرُّعًا}: تذللا. {وَخِيفَةً}: وخوفًا. {الْغُدُوِّ}: أَول النهار. {الْآصَالِ}: جمع أَصيل: وهو آخر النهار والمقصود من الغدو والآصال هنا جميع الأَوقات. التفسير 203 - {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ... } الآية. بدأَت هذه الآيات ببيان نوع من الغيِّ المشار إِليه في الآية السابقة {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} وذلك ما حكاه الله بقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} الآية.

أَي وإذا لم تجىء إِليهم أَيها الرسول بما طلبوا من الآيات والمعجزات قال هؤلاءِ المتعنتين ساخرين: هلاَّ جئتنا بما طلبناه من الآيات كى نصدق رسالتك. فأَمر الله نبيه أَن يسمعهم الجواب الشافى ردًّا على سخريتهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}: أَي قل لهم يا محمَّد ليس لى طريق أَتبعه سوى اتباع ما يوحى به الله إِليَّ من شرائعه أَعمل بها وأَبلغها وليس لى أَن أَقترح شيئًا من المعجزات والآيات، ثم أَرشِدْهم يا محمَّد إلى أَن هذا القرآن هو أَعظم المعجزات وقيل لهم: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}: أَي هذا القرآن الذي أَوحاه الله إليَّ يبصِّر عقولكم ويهدى قلوبكم إِلى قبول الحق {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: وهذا القرآن أَيضا بما اشتمل عليه من الحجج الواضحة والدلالات الظاهرة يوصلكم إِلى أَعلى درجات الإِيمان وهو كذلك رحمة شاملة جاءَ بها نبى الرحمة المهداة. وتلك الهداية وهذه الرحمة لا ينالهما ساخر ولا مستهزىء. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. 204 - {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: أَشار الله تعالى إلى القرآن وثمراته في نفع العباد بقوله في الآية السابقة: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وفي ذكر هذه الفوائد حمل للناس على أَن يقرأوا القرآن ليتعبدوا بتلاوته، وليتبصروا في آياته، حتى يكون لهم هدى ورحمة. وأَشار في هذه الآية إِلى ما ينبغي إِذا قرئ القرآن من الاستماع والإِنصات إِليه توصلا إِلى الانتفاع به. أَي وإِذا قرئ القرآن من أَي قارئ، فيجب على من حضر مجلس القرآن، أَن يحسن الاستماع إليه بوعى وقصد وتدبر، وأَن ينصت فلا يتكلم احتراما لكلامه العزيز، وتعظيما له، راجين بحسن الاستماع والإِنصات إِليه رحمة الله. وإِنما جمع بين الاستماع والإِنصات, لأنهما معا أَعون على الفهم والتدبر وأَتمُّ في الانتفاع وأَرجى لرحمة الله سبحانه وتعالى، فضلا عما فيه من الأَدب مع الله واحترام كلامه جلّ شأْنه؛ والأمر بالاستماع والإِنصات عند قراءة القرآن عام في جميع الأَحوال التي يقرأ فيها القرآن.

205 - {وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ .... } الآية. بعد أَن أَمرنا الله تعالى بالاستماع والإِنصات لتلاوة القرآن، أَمرنا بذكره تعالى بصفة عامة، تزكية للنفس. أَي واذكر ربك أَيها المسلم في نفسك بينك وبين ربك، بعيدا عن الرياءِ والسمعة: متذلِّلًا، خاشعا لربك، خائفا من عذابه، واذكره بلسانك ذكرا وسطا بين السر والجهر: كما تذكره في نفسك، وليكن ذكرك له في الغدو والآصال، أَي في أَول النهار وآخره, والمراد بهما هنا جميع الأَوقات، حسبما يتيسر للذاكرين، ثم ختم الله الآية الكريمة بقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}: أَي ولا تكن أَيها المسلم من جملة الغافلين عن ذكر ربك بأَن لا تذكره تعالى، أَو بأَن تكون غائب القلب حين الذكر. 206 - {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}: أَي: إِن الملائكة الذين هم في مكان الرفعة عند ربك، والقرب من رضاه، لا يستكبرون عن عبادته، بل يؤدونها حسبما أُمروا بها كاملة وافية كما أَمر الله، وينزهونه عن كل ما لا يليق به سبحانه، وله وحده يخضعون. ويتذلَّلون. والمقصود من ذكر الملائكة حث البشر على أَن لا يستكبروا عن عبادته، ولا يقصروا في أَدائها في أَوقاتها، فإِنهم أَولى بالتزلف إِلى الله لشدة احتياجهم إِلى عفو الله عن ذنوبهم، من الملائكة الذين خلقوا للطاعة: {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.

سورة الأنفال

سورة الأنفال آيات هذه السورة خمس وسبعون آية، وهي مدنية إِلا من قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. } الآية (30) إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ .. } الآية (36) لأَن موضوعها ائتمار قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة. وشأْن هذه السورة شأْن سائر المدنى من القرآن، إِذ يكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، كالجهاد والغنيمة والأَسرى وأَحكام القتال. موجز لما اشتملت عليه السورة: 1 - بدئت سورة الأَنفال بالسؤال عن الغنائم، ومن له الحكم فيها وجاءَ من بعده ما يلي: 2 - صفات المؤمنين الكاملين. 3 - ذكر نعمة الله على المؤمنين بإِمداده إِياهم بالملائكة تبشيرًا لهم. 4 - بيان حرمة الفرار من القتال إِلا لخُطَّة مرسومة كأَن يكون الفَارُّ متحرفا لقتال أَو متحيزا إلى فئة. 5 - بيان أَن النصر بتوفيق الله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}. 6 - الأَمر بطاعة الله ورسوله والنهي عن الإعراض عنه. 7 - الاستجابة لأَمر الله ورسوله قبل فوات الأَوان. 8 - وجوب اتقاء الفتن حتى لا تصيب الصالحين بشؤم الظالمين. 9 - النهي عن الخيانة. 10 - تقوى الله سبب للنصر وتكفير السيئات. 11 - ذكر نعمة الله الخاصة برسوله - صلى الله عليه وسلم -، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. }.

12 - عناد الكفار ووصفهم القرآن بأَنه أَساطير الأَولين، وطلبهم العذاب إِن كان القرآن حقا بدلا من أَن يطلبوا الهداية. 13 - إِنفاق الكفار الأَموال للصد عن سبيل الله، ثم تكون عليهم، حسرة وسببا للغلبة عليهم. 14 - بيان أَن دخول الكفار في الإِسلام سبب لغفران ما سبق من ذنوبهم. 15 - الأَمر بقتال الكفار حتى ينتهى الشرك ويكون الدين لله. 16 - بيان مستحقى الغنائم. 17 - ذكر نعم الله على المؤمنين في "بدر". 18 - بيان أَن أسباب النصر على الأَعداءِ: هي الثبات وذكر الله تعالى، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، والصبر، وترك الرياء والبطر، والتوكل على الله تعالى. 19 - ذكر عاقبة تزيين الشيطان للكفار. 20 - بيان أَن تغيير أَحوال الأُمم والأَقوام أَثرٌ لتغيير ما بأَنفسهم من الأَخلاق والعقائد والأَعمال. 21 - بيان أَن نقض العهود سبب للتنكيل بمن غدر ونبذ العهد. 22 - وجوب الاستعداد للعدو بقدر الطاقة للإِرهاب، حتى لا يُؤْخَذُوا على غرة. 23 - الحث على الإنفاق في سبيل الله. 24 - الجنوح للسلم متى جنح العدو لها لأَن الحرب في الإِسلام ضرورة تقدر بقدرها. 25 - إيجاب الله على المؤمن قتال عشرة ثم تخفيف ذلك بأَن أَوجب عليه قتال اثنين. 26 - بيان أَن قتل الكفار أَولى من أَخذ الفدية في بدءِ الإِسلام. 27 - الأَمر بعرض الإِسلام على الأَسرى وإِنذارهم سوءَ عاقبتهم إِن خانوا. 28 - ذكر ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، والإنذار بسوءِ عاقبة الفرقة.

29 - بيان أَن الكفار بعضهم لبعض ولى، وأَن المؤمنين أَولى بذلك. 30 - بيان أَن المهاجرين والأنصار هم المؤمنون حقا، وأَن ثوابهم عظيم. 31 - بيان أَن المتأَخرين في الإِسلام والهجرة مؤمنون، وأَن أُولى الأَرحام بعضهم أَولى ببعض في كتاب الله. بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}. المفردات: {الْأَنْفَالِ}: هي الغنائم واحدها نَفَل بتحريك الفاء، وقد تطلق على ما يعطى زيادة على السهم من المغنم. {فَاتَّقُوا اللهَ}: فاجعلوا لأَنفسكم وقاية من عقوبة الله تعالى بالإِيمان والعمل الصالح {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: وأَصلحوا الأَحوال التي بينكم بالمساواة والمساعدة، وقال الزجاج: معنى ذات بينكم: حقيقة وصلكم، والبين: الوصل أَي: فاتقوا الله وكونوا مجمعين على ما أَمر الله ورسوله. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: خافت وفزعت.

وجه المناسبة بينها وبين سورة الأعراف

التفسير 1 - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ .. } الآية. وجه المناسبة بينها وبين سورة الأَعراف: جاءَ في الأَعراف بيان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أَقوامهم، وجاءَ في الأَنفال: ذكر ما جرى بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قومه. وجاءَ في الأعراف: أَن القرآن هدى ورحمة، وذلك في قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، كما جاءَ فيها الأَمر بالاستماع له إِذا قرئ، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وجاءَ في الأَنفال: ذكر حال المؤمنين عند ذكر الله فيه، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، إِلى غير ذلك من المناسبات. وقدمت سورة الأَنفال على التوبة لتصديرها بالبسملة، وحذفها من التوبة ليكونا كسورة واحدة فإِن موضوعهما واحد. سبب النزول: أَن المسلمين اختلفوا في قسمة غنائم "بدر" فسأَلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها, للمهاجرين، أَم للأَنصار، أَم لهم جميعًا، فنزلت الآية لبيان أَن الحكم في قسمتها بين المقاتلين يرجع إِلى الله ورسوله. والأَنفال الغنائم، وسميت الغنائم أَنفالا, لأَنها زيادة فيما أَحلَّ الله لهذه الأُمة، مما كان محرما على غيرها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث له: "وَأُحِلَّتْ لى الْغَنَائِمُ وَلمْ تُحلَّ لِأَحدٍ قَبْلىِ" أَو لأَنها عطية من الله تعالى زائدة على ما هو أَصل الأَجر في الجهاد من الثواب الأُخروى أَو زيادة على السهم لمصلحة يراها الإِمام. والسائلون هم أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد سأَلوه عن قسمة الغنائم، وعمّن له الحكم فيها كما تقدم في بيان سبب النزول، فأُجيبوا بقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أَي حكمها مختص بالله ورسوله، يحكم الله فيها بحكمته، والرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى، وليس الأَمر في قسمتها مفوضا إلى رأْى أَحد.

وقد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم غنائم بدر بالسواءِ. {فَاتَّقُوا اللهَ}: أَي إِذا كان أَمر الغنائم لله وللرسول، فاجعلوا لكم وقاية تقيكم من شر الاختلاف والتخاصم والتنازع وذلك بالرضوخ لحكم الله ورسوله، لتنجوا من عذاب الله تعالى، أَو فاتقوه تعالى في كل ما تأْتون وتذرون من النِّيَّات والعقائد والأَعمال، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أَي: وأَصلحوا ما بينكم من الأَحوال والصلات التي تربط بعضكم ببعض، وإِصلاحها بالوفاق والتعاون، والمساواة، وترك الأثرة، لأَن إِصلاح ذات البين واجب، يتوقف عليه قوة الأُمة وعزتها، ومنعتها، وتحفظ به وحدتها. {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ}: أَي في أَمر الغنائم وغيرها بامتثال أَمر الله، واجتناب نهيه حسبما أبلغنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالرسول يطاع في أَمر الدين، لأَنه مبلغ عن الله تعالى، ومبين لوحيه بالقول والفعل والحكم. ويتوقف على طاعة الله ورسوله النجاة والفوز بالثواب في الآخرة. عن أَبي أمامة الباهلى قال: سأَلت عبادة بن الصامت عن الأَنفال فقال: "فِينَا مَعْشرَ أَصحابِ بدرٍ، نزلتْ حين اختلفنَا في النَّفَل، وساءَت فيه أَخلاقُنا فنزعه اللهُ من أَيدينا، وجعله إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسَّمه عن بَوَاءٍ - يقول على السواء" يفسر الراوى البواءَ بالسواءِ، فكان ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين. وعن عطاء: كان الإِصلاح بينهم أن دعاهم وقال: اقسموا غنائِمكم بالعدل فقالوا: قد أَكلنا وأَنفقنا فقال: لِيَرُدَّ بعضُكم على بعضَ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: أَي إِن كنتم مؤْمنين، فاتقوا الله، وأَصلحوا ذات بينكم وأَطيعوا الله، ورسوله، فإن كمال الإِيمان يدور على امتثال هذه الأَوامر. ولأَهمية إصلاح ذات البين، وكمال العناية به وسط الأَمر به، بيْن الأَمر بالتقوى والأَمر بطاعة الله ورسوله. وفي التعبير بقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تنشيط للمخاطبين، وحث لهم على المسارعة إِلى الامتثال. 2 - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}:

قال العلماءُ: هذه الآية تحريض على التزام طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أَمر به من قسمة الغنيمة، والمراد بالمؤمنين الكاملو الإِيمان، والمراد بذكرهم الله تعالى ذكرهم بقلوبهم لعظمته وسلطانه وجلاله، أَو لوعده ووعيده، ومحاسبته لخلقه، سواء صحب ذلك ذكر اللسان أَم لم يصحبه، وسواء ذكروه بأَنفسهم أَم ذُكِّرُوا به. وقد وصف الله تعالى المؤْمنين بخمس صفات: الأُولى: أَنهم إِذا ذكر الله تعالى، خافت وفزعت قلوبهم، استعظاما لشأْنه الجليل وتهيبا منه، ولا شىءَ أَعظم من القرآن في التذكير بالله والتخويف من مخالفته، قال تعالى في سورة الزمر: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬1) والاطمئنان المذكور في قوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬2) لا ينافى الخوف من الله تعالى، لأَنه عبارة عن شرح الصدور بنور المعرفة والتوحيد، وهو يجامع الخوف، وقيل ذكر الله: هو أَن الرجل يهم بمعصيه فيقال له: اتق الله، فيبتعد عنها خوفا من عقابه عز وجل. الصفة الثانية: أَنه إذا تليت عليهم آيات الله تعالى قوى إِيمانهم وتصديقهم وتيقنهم بربهم، ونشاطهم في أَعمالهم، وزيادة الإِيمان ثابتة بنص القرآن، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬3)، والآيات كثيرة في ذلك، وأَيضا فإِن كثرة الأَدلة تقوى المدلول عليه، وتثبته. الصفة الثالثة: أَنهم على ربهم يتوكلون، فلا يعتمدون على غيره ولا يفوضون أُمورهم لسواه، والتوكل أَعلى مقامات التوحيد، فالمؤْمن يتوجه إليه، وإِياه يدعو فيما يطلب منه، مع الأَخذ بالأَسباب وعدم تركها، ومراعاة سنن الله في الكون التي لا تتبدل، ولا تتغير، ومن تركها كان جاهلا مؤَاخذا. ¬

_ (¬1) الزمر: الآية 23 (¬2) الرعد الآية: 28 (¬3) الفتح: الآية 4

الصفة الرابعة: إِقامة الصلاة، وإِقامتهم الصلاة، قيامهم بها مستوفية لأَركانها من قيام وركوع وسجود، وقراءَة وذكر، ومحافظتهم على مواقيتها، مع الخشوع لله، والاتعاظ بتلاوة القرآن، وهذه هي الإقامة التي يستفيد بها صاحبها ما جعله الله تعالى ثمرة للصلاة، الانتهاءُ عن الفحشاءِ والمنكر. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: أَي ومما أَعطيناهم من الرزق، ينفقون في وجوه البر والخير، امتثالا لأَمر الله عز وجل، ثم وصف الله تعالى إِيمانهم بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}: أَي أُولئك الذين ذكرت صفاتهم الحميدة، هم المؤْمنون حيث جمعوا، بين أَفاضل الأَعمال القلبية، وأَعمال الجوارح، وفي التعبير بقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} إِشارة إِلى علو مكانة أُولئك المؤْمنين، المتصفين بتلك الصفات، وانحصار الإِيمان فيهم، حتى كأَن سواهم ليسوا بمؤْمنين، لأَن الإِيمان بلا ثمرة، هو والعدم سواء، ثم بين جزاءهم بقوله عز وجل: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من الكرامة والزلفى، والدرجات العلية في الجنة، وفي التعبير بقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} إيذان بأَن ما وعدهم الله به من الدرجات، متيقن الحصول، مأْمون الفوات حيث إِنه ربهم ومالك أَمرهم. {وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَي وستر لذنوبهم وعطاء كريم لا ينقضى أَمده، ولا ينتهى عدده، وهو ما أَعده لهم في الجنة مما لا عين رأَت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والكريم من كل شيءٍ أحسنه.

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ في الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}. المفردات: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ}: أَي أَخرجك من بيتك بالمدينة إلى بدر {بِالْحَقِّ}: أَي بالحكمة والصواب {يُجَادِلُونَكَ}: يراجعونك، {في الْحَقِّ} المراد بالحق هنا القتال - وسيأتى بيانه {إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ}: العير أَو النفير. {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ}: الشوكة الشدة والقوة، ويقال: السلاح، وغير ذات الشوكة: العير التي ليس فيها قتال. {يُحِقُّ الْحَقَّ}: يظهره ويعلنه - {بِكَلِمَاتِهِ}: بأَمره لكم بالقتال أَو بوعده لكم بإِظهار الدين وإِعزازه. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ}: ليظهر الإِسلام - {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}: المراد بإبطال الباطل أَن لا يجعل له شوكة.

التفسير 5 - {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}: هذه الآية الكريمة هي بداية الحديث عن غزوة بدر، وقد تقدمها بيان حكم الأَنفال، أَي الغنائم, لأَن السورة نزلت بعد اختلاف المسلمين على قسمة أَنفالها - كما تقدم بيانه - فكانَ بيان حكمها أَهم ليحسم الخلاف بين المسلمين. قال المبرد في معنى الآية ما يلى: الأَنفال ثابتة لله والرسول وإِن كرهوا، كما أَخرجك ربك من بيتك بالحق وإِن كرهوا، وقال غيره: امض لحكم ربك في الغنائم وإِن كرهوا، كما مضيت لأَمر ربك في الخروج من البيت لطلب العير وإِن كرهوا. وأَقرب المعانى في وصل هذه الآية بما قبلها أَن يقال: حال المؤْمنين في كراهتهم قسمة الغنائم بحكم الله بعد اختلافهم عليها كحالهم في كراهتهم القتال حينما أَخرجك ربك من بيتك بالحق - وهو الظفر بإِحدى الطائفتين العير أَو النفير - وهم لقتال النفير كارهون - وسبب كراهتهم لقتال الكفار في غزوة بدر، أَنهم خرجوا وهم غير مستعدين استعدادا كاملا للقتال, فإِنهم خرجوا للقاءِ أَبي سفيان ومن معه للاستيلاء على القافلة التي قدموا بها من الشام بتجارتهم، ولم يكن فيها سوى قلة من الرجال وكان الاستيلاء عليها أَمرا يهم المسلمين، لأَن ذلك يقصم ظهور المشركين الذين أَخرجوهم من ديارهم وأَموالهم واستولوا عليها، وتفصيل ذلك أَن عير قريش لما أَقبلت أَخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقدمها، فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين أَن يخرجوا للاستيلاءِ عليها، فأَعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أَهل مكة خبر خروجهم فنادى أَبو جهل فوق الكعبة: يا أَهل مكة. النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أَموالكم إِن أَصابها محمَّد لم تفلحوا بعدها أَبدا، فخرج أَبو جهل بجميع أَهل مكة، فقيل له: إِن العير أَخذت طريق الساحل ونجت فأرجع بالناس إِلى مكة فقال: واللات والعزى لا يكون ذلك أَبدا حتى ننحر الجزر ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف بِبَدْرٍ، فيتسامع جميع العرب بخروجنا وأَنَّ محمدا لم يصب العير، وأَنَّا قد أَخفناه، فمضى بهم إِلى "بدر" (¬1)، فنزل ¬

_ (¬1) بدر: اسم بئر حفرها بدر بن قريش بين مكة والمدينة، كان العرب مجتمعون حولها في سوق سنوية لهم.

جبريل عليه السلام، وقَال يا مُحَمِدُ إِنَّ اللهَ وعَدكم إِحدى الطائفتينِ، إِمّا العيرُ، وإِمّا النفير - أَي مشركى مكة - فاستشار النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصحابه فقال ما تقولون؟ إِن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أَحب إِليكم أَم النفير .. ؟ فقالوا: بل العير أَحب إِلينا من لقاءِ العدو، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رد عليهم فقال: "إِنَّ العيرَ قد مضَت على سَاحِل البحر، وَهَذا نَفِيرُ قريشٍ قَد أَقبَلَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ عَليَك بالعيرِ ودعِ العدو ... فقام أَبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فتحدثا فأَحسنا، ثم قال المقداد بن عمرو رضي الله عنه: يا رسول الله، امض لما أَمرك الله فإِنا معك حيثما أَحببت، لا نقول لك كما قال بنو إِسرائيل لموسىِ عليه السلام: "اذْهَب أَنتَ وربُّك فقاتِلا إِنَّا هَاهنَا قَاعِدونَ؛ وَلَكنِ اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا مَعَكُما مُقاتِلُونَ .... ، فوالَّذِى بعثَك بالحقِّ لو سِرتَ بنَا إِلى بَرْك الغِماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له - صلى الله عليه وسلم - خيرا ودعا له ثم قال: أَشِيرُوا عَلىَّ أَيُّها الناسُ - وهو يريد الأَنصار - لأَنهم قالوا له حين بايعوه عند العقبة, إِنَّا برآء من ذمتك (¬1) حتى تصل إِلى ديارنا، فإِذا وصلت إِلينا فأَنت في ذِمَّتِنا، نمنعك مما نمنع منه أَبناءَنا ونساءَنا، فكان - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن تكون الأَنصار لا ترى عليهم نصرته، إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأَنك تريدنا يا رسول الله: قال: أَجل، قال: آمنَّا بِك، وصدَّقناك وشهدنا أَنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ وأَعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعةِ، فامضِ يا رسولَ اللهِ لما أَردتَ فنحنُ معك، فوالَّذى بعَثك بالحقَّ لَوْ استعرضتَ بِنَا هذا البحرَ فخضتَه لخضنَاه معك ما تخلف منَّا رجل واحد، وما نكره أَن تَلقى بِنَا عدونا، وإِنَّا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاءِ، ولعلَ الله يُريك منَّا مَا تقرّ به عينُك, فَسِر بِنَا على بركة الله ... ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسرّه قول سعد بن معاذ ثم قال: سيروا على بركة الله، وأَبشروا فإِن الله قد وعدنى إِحدى الطائفتين والله لكأَنى الآن أَنظر إِلى مصارع القوم. 6 - {يُجَادِلُونَكَ في الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}: المعنى: يراجعونك في الحق - وهو لقاءِ النفير - أَي جيش العدو - ويؤثرون عليه لقاءَ العير للاستيلاءِ على تجارتهم، مع أن في لقاءِ النفير عز المسلمين وإِلقاء الرعب في قلوب أَعدائهم، فلقد قال بعضهم: إِنما خرجنا للقاءِ العير، ولم نستعد للقاءِ العدو. ¬

_ (¬1) الذمة: العهد.

وقد وعدهم الله تعالى إِحدى الطائفتين من غير تعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام لأَنها كسب عظيم لهم لا يحتاج إلى مشقة كبيرة، في إحرازه والحصول عليه لضعف حاميته، ولذلك لم يستعدوا للقاءِ العدو، وتخلف كثير من الصحابة بالمدينة. ثم ظهر لهمَ أنَّها فاتتهم وقد بنت، وأَن طائفة النفير قد خرجت من مكة بكل ما عند قريش من قوة، وقد قربتَ منهم، وأَنه تعيّن عليهم قتالها، وأَنها هي الطائفة التي وعدهم الله - تعالى - لأَنه لم يبق غيرها، فصعب على بعضهم لقاؤها لقلة عددهم وعُدَدِهم، ولعدم استعدادهم، فطفقوا يعتذرون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبين لهم الحق، فقالوا ما قالوه من عبارات الإِقدام على لقاءِ العدو كما مرّ بيانه. {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}: أَي كأنهم لفرط جزعهم ورعبهم يساقون إِلى الموت سوقا لا مهرب منه، وهم ينظرون إِليه بأَعينهم، ولم يدر بخلدَهم أَن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين الظفر بالمشركين وذلك ما حكاه الله بقوله: 7 - {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ}: هذا كلام مستأْنف مسوق لبيان جميل صنع الله بالمؤمنين مع ما هم فيه من الجزع وقلة الحزم، لعدم استعدادهم الحربى لقتال جيش فاجأَهم، ولم يكونوا يدرون أَنه ملاقيهم، فقد خرجوا للقاءِ - العير كما تقدم -. والمعنى: واذكروا وقت أَن وعدكم الله إِحدى الطائفتين - العير أَو النفير - أَنها لكم تتسلطون عليها، وتتصرفون فيها كيف شئتم: طائفة أَبي سفيان مع التجارة، أَو طائفة أَبي جهل مع الرجال الذين خرجوا من مكة لحربكم. {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}: المراد بغير ذات الشوكة: العِير، فإنها لم يكن لها شوكة أَي قوة لقلة الرجال فيها حيث لم يكن فيها إلا أَربعون فارسا. وفي هذا التعبير تعريض بكراهيتهم للقتال وطمعهم في المال. {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}: هذا معطوف على تودون منتظم معه في سلك التذكير ....

والمعنى: واذكروا وقت وعده تعالى إِياكم إِحدى الطائفتين، وأَنتم تحبون ملاقاة أَدناها، والله يحب أَن تلاقوا أَعلاها ليظهر الحق الذي أَراده بوعده لكم إِحدى الطائفتين من غير تعيين، وبينه بكلماته المنزلة على رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - في محاربة ذات الشوكة، أَو يريد الله ذات الشوكة ليثبت الحق ويعليه بأَمره الملائكة بإِمدادكم، وبما قضى من أَسر المشركين وقتلهم وطرح صناديدهم في قليب بدر، وإِظهار الدين وإعزازه. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}: أَي ويفنى آخر مشركى مكة وأَعوانهم ويستأْصلهم فإِن دابر القوم آخرهم الذي يكون من ورائهم، ولن يصل إِليه الهلاك إِلا بهلاك من قبله, والمراد إِهلاكهم جميعا، وقد هلك أَكابرهم وعصابة المستهزئين، وهم أَئمة الكفر في مكة ... والمعنى: أَنكم تريدون سَفْسَافَ الأُمور، والله يريد معاليها، فإِنه يريد ما يُعْلِى كلمة الحق، ويسمو برتبة الدين وأنتم تريدون الغنائم السهلة، وشتَّان بين المرادين. 8 - {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}: أَي يقره ويُثَبَّتهُ لأَنه الحق والمراد به الإِسلام أَي أَنه تعالى اختار لكم ذات الشوكة: ليظهر الإِسلام - وهو الحق - ويبطل الباطل - وهو الشرك، بنصركم على أَهله. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}: أَي ولو كره المشركون أَصحاب الاعتداءِ والطغيان. وليس في الآية تكرار، فالحق الأَول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر، والحق الثاني هو الإِسلام، وهو المقصد: والأَول هو الوسيلة له. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}. المفردات: {تَسْتَغِيثُونَ}: تطلبون الغوث والنصر على عدوكم، والغوث التخليص من الشدة. {فَاسْتَجَابَ}: فأَجاب دعاءَكم.

{مُرْدِفِينَ}: أَي مُتْبِعين بعضهم بعضا، بأَن يكون بعضهم في إِثر بعض، أَو مُتْبِعين المؤْمنين لهم، بأَن يكونوا خلفهم. {وَلِتَطْمَئِنَّ}: لتسكن. {عَزِيزٌ}: لا يغالَب في حكمه. {حَكِيمٌ}: يفعل ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. التفسير 9 - {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}: سبب النزول: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى أَصحابه وهم ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلًا، ونظر إِلى المشركين فإِذا هم أَلف وزيادة، فاستقبل نبى الله القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: اللهم أَنجز لى ما وعدتنى، اللهم إِن تَهْلَكْ هذه العصابةُ لا تُعْبدْ في الأَرض، فما زال يهتف مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أَبو بكر - رضي الله عنه - فأَخذ رداءه فأَلقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال يا نبى الله: كفاك مُنَاشدَتَك ربّك فإِنه سينجز لك ما وعدك. فأَنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية .... فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا وأُسر سبعون. وقد جاءت هذه الآية الكريمة تذكيرًا للمؤمنين بأَنه تعالى لم يتخل عنهم حين لجأْوا إِليه واستغاثوا به، وقتما رأَوا قلتهم وضعف استعدادهم أمام جيش المشركين الكثير العدد، القوى الاستعداد، بل أَمدهم بالملائكة من عنده. وقد أسندت الاستغاثة في الآية إِلى المؤمنين، مع أَن سبب النزول الذي تقدم ذكره يحكى أنها كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم - , لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعبّر باستغاثته عمّا في نفوس المؤمنين، وجرت به أَلسنتهم من لجوئهم إِلى الله - تعالى - لينصرهم.

والمعنى: واذكروا أَيها المؤمنون حين كنتم تستغيثون ربكم، وتطلبون منه النصر على عدوكم الذي جاء بخيله ورجله، وعَدَدِه، وعُدَّتهُ، وأَنتم لم تكونوا مستعدين للقائه حيث كنتم تريدون العِير، ولا علم لكم بالنفير، فأَجاب استغاثتكم ودعاءَكم بأَنى ممدكم بأَلف من الملائكة مردفين أَي متتابعين، بعضُهم في إِثر بعض، كأَنما يردف بعضهم بعضا، أَي يتبعه إِياه .... ويجوز أَن يكون معنى {مُرْدِفِينَ} متبعين المؤمنين لهم بأَن يتقدموهم في المعركة ليطمئنوهم ويثبتوهم. 10 - {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}: أَي وما جعل الله إِمدادكم بالملائكة عيانا لأَمر من الأُمور، إِلا ليبشركم بأَنكم منتصرون، ولتطمئن به قلوبكم، وتسكن به نفوسكم، ويزول خوفكم واضطرابكم. فتثبتوا ويتم لكم النصر. وفي قصر الإِمداد بالملائكة على البشرى والطمأْنينة: إِشعار بعدم مباشرتهم للقتال وأَن الغرض منه هو تقوية قلوب المؤمنين المقاتلين، وتكثير عددهم. أَمام المشركين، وسيأْتى بسط الكلام في ذلك قريبا. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ}: أَي وما النصر في الحقيقة إلا من عند الله تعالى، ولكنه - سبحانه - أَجرى سنته على ربط المسببات بالأَسباب، ليأْخذ بها العباد. {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ}: لا ينَازَعُ في حُكْمِه، ولا يغالَبُ في أَقضيته. {حَكِيمٌ}: يفعل كل ما يفعله لحكمة ومصلحة، ولذا أَمدكم بأَسباب النصر على عدوكم، فتمَّ لكم بفضله النصر عليهم، وكذلك يسلط الله الحق على الباطل ليدمغه فإِذا هو زاهق، فثقوا باللهِ وتوكلوا عليه، ولا تقنطوا من حصول النصر إذا كثر أَعداؤكم، بل أَدوا واجبكم من الثبات والصبر، والكفاح على قدر طاقتكم، والله يعينكم وينصركم، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) البقرة: الآية 249

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}. المفردات: {يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ}: أَي يُغَطِّيكم الله ويشملكم بالنعاس، والنعاس فتور في الحواس وأَعصاب الرأْس، يعقبه النوم، يضعف الإِدراك ولا يزيله. {أَمَنَةً مِنْهُ}: أَي أَمنا من الله وطمأْنينة. {رِجْزَ الشَّيْطَانِ}: أَي وسوسته وتخويفه لهم. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}: الربط الشد، ويقال لكل من صبر على أَمر ربط على قلبه. {الرُّعْبَ}: الخوف والفزع. {كُلَّ بَنَانٍ}: أَي كل طرف من أَطراف الأَصابع من اليدين والرجلين، وقيل: كل أصبع من الأَصابع، وتطلق البنان أيضًا على كل طرف من أَطراف الإِنسان كاليد والرجل. {شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ}: المشاقة: المعاداة والمخالفة.

التفسير 11 - {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية. بعد أَن ذكر الله سبحانه استغاثة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤْمنين بربهم في غزوة بدر، واستجابته لهم، بإِمدادهم بالملائكة للبشرى بالنصر، ولاطمئنان قلوبهم، ذكر منَّةً أُخرى، هي جعله النعاس غالبا عليهم، مغطيا لمشاعرهم، تأْمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم، من الفَرْق العظيم بينهم وبين عدوهم، في العدد والعدة. وإِنما كان النعاس مانعا من الخوف, لأَنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر، وكان في الليلة السابقة للقتال، لتستريح أَعصابهم، فيصبحوا مقبلين على المعركة بجد ونشاط، وقد جاء في هذا النعاس عن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - أَنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأَسود ولقد رأَيناه وما فينا إِلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يصلى تحت شجرة حتى أَصبح. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ .... } الآية. تحكى هذه الجملة نعمة أُخرى، كان لها شأْن كبير في النصر على المشركين، وكان جيش المسلمين قد نزل بعدوة الوادى القريبة من المدينة، بعيدا عن الماءِ في أَرض رملية وسبخة، أَمّا المشركون فقد نزلوا على ماءِ بدر بالعدوة القصوى في أَرض جلدة، فأَصبح المسلمون لا يجدون الماء ليشربوا ويغتسلوا ويتوضأُوا. فكان هذا الموقف مزرعة لأَحاديث الشيطان النَّفْسِيَّة، المحطمة للعزائم المدمرة للقلوب، فلقد حدثهم أَن العطش سوف يضعف قواهم، ويساعد المشركين في القضاء عليهم، فأَدرك الله المؤمنين بلطفه، وأَنزل عليهم من السماءِ مطرا سال به الوادى، فشربوا واتخذوا الحياض على عدوة الوادى الدنيا، واغتسلوا وتوضأُوا وملأُوا الأَسقية وتلبدت الأَرض السبخة حتى ثبتت عليها الأَقدام، على حين كان المطر كارثة على المشركين، فقد تحولت به أَرضهم الجلدة إلى أَو حال لا يقدرون معها على الحركة في القتال. وبهذه النعمة أَذهب الله عن المسلمين رجز الشيطان ووسوسته وحقق لهم النصر، والمعنى: وينزل عليكم من السماءِ غيثا، لكي يطهركم به من الأَحداث، ومن وعثاءِ السفر، ولكى

يذهب عنكم وسوسة الشيطان، وليربط على قلوبكم ويشدها بالصبر والطمأْنينة وليثبت به الأَقدام عند لقاءِ المشركين. 12 - {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}: أَي واذكر يا محمَّد للمؤمنين نعمة أُخرى أَنعم الله بها عليهم، حين يوحى ربك إِلى الملائكة أَنى معكم في تثبيتكم للمؤمنين، فثبِّتوا الذين آمنوا لينتصروا على أَعدائهم. واختلفوا في كيفية تثبيت الملائكة للمؤمنين في غزوة بدر الكبرى، فقال جماعة: إِنهم ثبَّتوهم بالبشارة وتكثير عددهم، ونحوهما، مما تقوى به قلوبهم، وتشتد عزائمهم في القتال، فإِن الآية لم تصرح بأُسلوب التثبيت حتى يحمل عليه فيها, ولم يكن تثبيتهم بالقتال معهم، لأَن الملك الواحد كفيل بإِهلاك قريش لو كان يقاتل المشركين مع المؤْمنين، فحيث كان المثبتون من الملائكة أَلفا أَو أَكثر، فلا بد أَن تثبيتهم معنوى لا قتالى، ولذا - قال تعالى -، عقب الأَمر بالتثبيت: {سَأُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقد روى أن الملك كان يتشبه بالرجل الذي يعرفونه، فيقول: أَبشروا فإِن الله ناصركم. وقال آخرون: أُمروا بمحاربة المشركين، وجعلوا قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} تفسيرًا لقوله سبحانه: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} روى أَنهم كانوا يرَوْن رءُوسا تسقط عن الأَعناق من غير ضارب، وروى عن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال: لقد رأَيتُنا يوم بدر، وإن أَحدنا ليشير بسيفه إِلى المشرك، فتقع رأْسه عن جسده قبل أَن يصل إِليه السيف. والمتأَمل في هذه الروايات يجدها بلا أَسانيد صحيحة، فلا يمكن التعويل عليها، فالراجح أَن الملائكة لم يقاتلوا، بل كانوا يثبتون المؤمنين بالقول ويكثرون عددهم أَمام العدو، ليُصابُوا بالرعب منهم. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} خطابا للمؤمنين، فكأَنه - تعالى - يقول لهم: سأُلقى في قلوب الذين كفروا الفزع والخوف منكم، لتتمكنوا من إِصابتهم، فاضربوهم فوق الأَعناق، واضربوا منهم كل بنان،

فلن يقدروا عليكم، والمراد بالضرب فوق الأَعناق، ضربهم في أَعاليها سواء أَكان الضرب في الرقاب أَم في الرءوس، والمراد بضرب كل كان: أَن يضربوا أَصابعهم أَو أَطراف أَبدانهم، كالأيدى والأَرجل، فكل ذلك يطلق عليه كان، حقيقة أَو مجازا. 13 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: أَي ذلك الذي تقدم من الجمع بين ضرب الرقاب وضرب الأَطراف، حاصل بسبب أَنهم خالفوا الله ورسوله، ومن يخالف الله ورسوله ويتنكر لدينه، عاقبه الله فإِن الله شديد العقاب وقد عاقبهم الله بذلك في الدنيا، وسوف يعاقبون بأَشد منه في الآخرة، ولذا عقبه - تعالى - بقوله: 14 - {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}: أَي ذلكم العقاب العاجل في الدنيا فذوقوه، وأَن لكم في الآخرة عذاب النار بسبب كفركم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}. المفردات: {زَحْفًا}: الزحف في الأَصل مصدر زحف الصبى إِذا دبَّ قليلًا قليلًا وهو جالس، أَو حبا وهو يجُرُّ رجليه، ثم أُطلق على المشى الثقيل المتوالى وعلى الجيش إذا كثر، لأَن حركته بطيئة بالنسبة لحركة الفرد، والمراد به في الآية المعنى الأَخير. {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}: فلا تديروا ظهوركم لهم، والمقصود نهيهم عن الفرار من قتال العدو بأَية صورة.

{إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ}: قال في مجمع البيان: التَّحرُّفُ في الأَصل الزوال عن جهة الاستواء إِلى جهة الحرف. اهـ والمقصود من قوله: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} إباحة استدبار العدو والفرار من وجهه لغرض حربى، كالوقوف في موقف أَصلح للقتال، أَو قتال طائفة أُخرى أَهم ممن يلاقونهم. {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}: أَي منحازا ومنضما إلى جماعة أُخرى من المؤمنين ليقاتل معهم. {بَاءَ}: أَي رجع. التفسير 15 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}: هذا خطاب للمؤمنين الذين هم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن سيأْتى بعدهم إِلى يوم القيامة، كلفهم الله فيه بالثبات عند لقاءِ الكفار في حروبهم معهم، جىءَ به في تضاعيف قصة بدر، إظهارًا للاعتناء به، وحثًّا على المحافظة عليه، فإِن فيه عزّ المسلمين وسلامتهم وسلامة دينهم. والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا إذا لقيتم في القتال أَعداءكم الكفرة، وهم جمع كثير، وأنتم عدد قليل - كما كان الحال في غزوة بدر - أَو كنتم مثلهم أَو أكثر منهم عددا، فلا تولوهم أَدباركم، ولا تَفرُّوا من لقائهم، بل اصبروا واثبتوا، فإِن النصر مع الثبات والصبر. 16 - {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ .... } الآية. ومن يولّ الكفار يوم اللقاء دبره، ويفر من القتال، إِلا متحرفا لقتال بأَن يترك موقفه إلى موقف أصلح منه للظفر بالعدو، أَو يتجه إِلى قتال طائفة أُخرى من الأَعدءِ، أَو كان منحازا إِلى جماعة أُخرى من المؤمنين ليقاتل معهم: من يول الكفار في القتال دبره في غير هذه الأَحوال المستثناة، فقد رجع من الغزو بغضب عظيم من الله، ومرجعه في الآخرة ومآله جهنم وبئس المرجع والمصير.

وفي الآية دليل على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف لقتال أَو المتحيز إِلى فئة - أَخرج الشيخان وغيرهما عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنه قاله: "اجْتَنِبُوا السَّبعَ الموبقَاتِ، قالوا يا رسول الله وما هنَّ؟ قال: "الشِّرْكُ بالله، والسِّحْرُ، وقتلُ النفسَ الَّتي حرَّم اللهُ تَعَالَى إِلَّا بالحقِّ، وَأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، والتولىّ يومَ الزَّحفِ، وقذفُ المحصَناتِ الغافِلَاتِ المؤمِناتِ". واعلم أَن أَكثر أَهل العلم ذهبوا إِلى أَن حرمة الفرار إذا لم يكن العدو أَكثر من الضعف، لقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1) وأَخرج الشافعى وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه قال: من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فَقَدْ فَرَّ. وعن محمَّد بن الحسن: أَن المسلمين إذا كانوا اثنى عشر أَلفا لم يجز الفرار أصلا لحديث ورد في ذلك (¬2). والظاهر أَن الأمر متروك لقائد المعركة الأَمين الشجاع، فإِن رأَى الثبات أمام العدو: ثبت، وإِن رأَى غير ذلك: انسحب بجيشه حتى تتاح فرصة الاستعداد القَوِىِّ للقاء العدو، لئلا يلقى بجنود الله إلى التهلكة في معركة غير متكافئة بسبب كثرة العدد، أَو قوة الأَسلحة وفتكها الذريع. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية: 66 (¬2) جاء في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة" وأحد رواة هذا الحديث أبو سلمة العاملى، وهو متروك الحديث.

المفردات: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}: أَي وليعطى الله المؤمنين إعطاءً حسنا من عنده، فهو من الإِبلاء بمعنى الإِعطاء، ومنه قول زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فَأَبْلاَهمَا خير البلاء الذي يُبْلَى (¬1) {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}: أَي مُضعِفُ كيد الكافرين ومبطل حيلهم. التفسير 17 - {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ}: عادت هذه الآية بالحديث إِلى غزوة بدر. والمعنى: إِذا كان الله تعالى: قد أَمدكم أَيها المؤمنون بأَسباب النصر، من إِنزال الملائكة لتأْييدكم وإِنزال المطر عليكم، وأَمره لكم بالثبات وغير ذلك، فأَنتم لم تقتلوهم بقوتكم وقدرتكم، ولكن الله قتلهم بتأْييدكم وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتسليطكم عليهم. وقيل إِن المعنى: إِن افتخرتم بقتلهم فلا وجه لافتخاركم، فأَنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وذلك لما روى أَنهم حين انصرفوا من معركة بدر غالبين غانمين، أَقبلوا يتفاخرون، بقول قائلهم: قتلت وأَسرت، وفعلت وتركت، فنزلت الآية لينتهوا عن الافتخار، وليعْزُوا النصر إِلى الفاعل المختار سبحانه وتعالى. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}: بعد أَن خاطب الله المؤمنين بما تقدم، خاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ليبين للمؤمنين أَن الأَمر لله في شأْن رسوله، كما أَن الأَمر له - سبحانه - في شأْنهم، حتى يتمكن هذا المعنى من نفوسهم، ويستقر في قلوب المؤمنين إِلى يوم الدين. والمقصود من رميه - صلى الله عليه وسلم -، ما حدث منه من قذف التراب في وجوه المشركين كما ذكره الحافظ بن حجر وأيَّده بعدة طرق، فعن حكيم بن حزام (¬2) قال: (لما كان يوم بدر، ¬

_ (¬1) أَي فأعطاهما خير العطاء الذي يعطى. (¬2) كان حكيم بن حزام مشركا في وقت غزوة بدر، ثم من الله تعالى عليه بالإِسلام، وكان من خيرة المسلمين.

أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فأَخذ كفًّا من الحصى فاستقبلنا به، فرمى به وقال: (شاهت الوجوه) فانهزمنا، فأَنزل الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} أَخرجه الطبرانى وإسناده حسن. وعن ابن عباس أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلى: نَاوِلنى كفًّا من حصى، فناوله فرمى به وجوه القوم، فما بقى أَحد من القوم إِلا امتلأَت عيناه من الحصباء، فنزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} الآية. أَخرجه الطبرانى، ورجاله رجال الصحيح (¬2). وقد اشتمل النص الكريم على نفى الرمى من النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ} وإِثباته له بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} وليس هذا من باب التناقض بنفى الشىءِ وإِثباته، فإِن النفى منصب على الرمى من جهة خلقه وخلق آثاره، فِإنه فعل الله وليس فعل الرسول، والإِثبات موجه إِلى كسب الرسول أَي إلى فعله الظاهر. المعنى: وما رميتَ يا محمَّد الحصباء المخلوطة بالتراب بقدرتك الذاتية، حين رميتها يوم بدر في وجوه المشركين، فامتلأَت بها عيونهم، وشغلوا بها عن قتالكم، ولكن الله تعالى هو الذي أَلهمك إِلقاءها، وأقدرك على رميهم بها، وأَوصلها مع قلتها إلى عيون المشركين جميعهم، - وهم نحو الأَلف - فالله تعالى هو الذي رماهم بها حقيقة، وأَما رميك لهم فهو بإِقدار الله، ربطا للمسببات بأَسبابها الظاهرة، ولولا ذلك ما حدث الرمى ولا آثاره، واستدل بالآية على أَن أَفعال العباد بخلقه تعالى، وإِنما لهم كسبها ومباشرتها، قال الإِمام الرازى: أَثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا، ونفى كونه راميا، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا، والله رمى خلقا. وقال ابن المنبر: علامة المجاز أَن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته، ثم قال: فلمَّا أَثبت الله سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم، دل على أن نفيه على الحقيقة، وثبوته على المجاز بلا شبهة. ¬

_ (¬1) أَي أمر عليا - رضي الله عنه - بإحضار كف من حصباء الوادى فأحضرها فأخذها الرسول - الخ وسيأتى في الحديث التالى ما يدل على ذلك. (¬2) مجمع الزوائد جـ 6 ص 84

وقد كتب علماء التوحيد في خلق أَفعال العباد، وكتب علماء التفسير في هذه الآية كلاما طويلًا، فمن شاءَ المزيد فليطلبه في المطولات. {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي ولكى يعطى المؤمنين عطاء حسنًا في غزوة بدر، سمع استغاثتهم وعلم إِخلاصهم فنصرهم، إن الله سميع لدعائهم واستغاتهم ولكل مسموع، عليم بنياتهم وإِخلاصهم وبكل معلوم. 18 - {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}: الإِشارة بـ {ذَلِكُمْ} راجعة إِلى ما تقدم من البلاء الحسن، والبلاء بمعنى العطاء كما تقدم بيانه. والمعنى: ذلكم البلاء أَي العطاء الحسن للمؤمنين، وتوهين الله كيد الكافرين وإِبطاله، هما المقصودان من تهيئة أَسباب النصر للمؤمنين على الكافرين. {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}. المفردات: {تَسْتَفْتِحُوا}: تطلبوا الفتح وهو النصر. {فِئَتُكُمْ}: جماعتكم. التفسير 19 - {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... } الآية. الخطاب في هذه الآية للمشركين، نزلت بعد غزوة بدر وسبب خطابهم بما جاءَ فيها، أَنهم حين أَرادوا الخروج تعلقوا بأَستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أَعلى الجُنْديْن، وأَهدى الفئتين، وأَكرم الحزبين، وفي رواية أَن أَبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا، ديننا القديم، ودين محمَّد الحديث، فأَى الدينين كان أَحب إليك وأَرضى عندك، فانصر أَهله اليوم.

والمعنى: إِن تطلبوا - أَيها المشركون - الفتح - أَي النصر - فقد جاءَكم النصر على خلاف ما تشتهون - حيث نصر الله رسوله ودينه - عليكم وعلى دينكم، وإِن تنتهوا عن حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاداته، فالانتهاء خير لكم من مواصلة حربه، فقد ذقتم بسببها القتل والأَسر والهوان، وإِن تعودوا إِلى قتاله، نعد إِلى نصره عليكم، وتمكينه من إِذلالكم، ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئًا من الأَضرار ولو كثرت حشودكم ومقاتلوكم، وحقيقة الأَمر أَن الله مع المؤمنين بالنصر والتأْييد. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}. التفسير 20 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}: بعد أَن بين الله تعالى في آخر الآية السابقة أَنه سبحانه مع المؤمنين، أَمرهم بطاعته. والمعنى: يأَيها الذين آمنوا أَطيعوا الله ورسوله، بالعمل بما أَنزله الله إِليكم في كتابه، وبينه لكم رسوله، ولا تنصرفوا عن رسوله فيما بيَّنه لكم عن الله، وأَنتم تسمعون القرآن الناطق بالحثِّ على طاعته والثواب عليها، والزجر عن مخالفته والعقاب عليها. 21 - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: أَي ولا تكونوا أَيها المؤمنون مثل المنافقين الذين قالوا بأَفواههم، سمعنا القرآن موهمين بذلك القول أَنهم تَقبَّلُوا ما سمعوه وآمنوا به، وهم في الحقيقة لا يسمعونه سماع تقبُّل وإِذعان، بل سماع نفاق وإِدهان.

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}. المفردات: {الدَّوَابِّ} جمع دابة، وتتناول الإِنسان والحيوان، مأْخوذة من دبَّ على الأَرض أَي مشى على هِينتِهِ. {الصُّمُّ}: الذين لا يسمعون. {الْبُكْمُ}: الذين لا ينطقون. {لَتَوَلَّوْا}: لانصرفوا. التفسير 22 - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}: تضمنت هذه الآية الكريمة، بيان سوء حال المشبه بهم في الآية السابقة، وهم الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، مبالغة في تحذير المؤمنين من التشبه بهم. والمعنى: إِن شر من يدب على الأَرض ويمشى عليها، هم أُولئك الصم الذين لا يسمعون، البكم الذين لا ينطقون، الذين لا يعقلون شيئا لفقدهم عقولهم، وقد وصف الله الكافرين بتلك الأَوصاف مع أَنهم يسمعون ويتكلمون ويعقلون، تنزيلا لهم منزلة مَنْ حُرِم من هذه المزايا العظيمة, لأَنهم تركوا الاهتداءَ بها إِلى الحق، وأَهدروا الانتفاع بها فيما يسعدهم في الدنيا والآخرة، فكانوا كمن فقدها، وقد جاءَ وصفهم بأنهم لا يعقلون، بعد وصفهم بالصم البكم تأْكيدًا لسوءِ حالهم، فإِن الأَصم الأَبكم إِذا كان له عقل، يستطيع أَن يَفْهم ويُفهِم غيره بالإِشارة، فإِن فقد العقل فقد بلغ الغاية في سوءِ الحال. 23 - {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}:

أَي ولو علم الله في هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، خيرًا يؤدى بهم إلى الحق، لأَسمعهم سماع تدبر، ينتهى بهم إِلى أَن يعقلوا الحق وينطقوا به، ويسيروا على منهاجه، ولو أَسمعهم القرآن مع ما هم فيه من فقدان الخير وسوء الحال، لانصرفوا وهم معرضون عن تقبُّله والإِيمان به، والعمل بموجبه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}. التفسير 24 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}: بعد أَن تحدث الله عن الكافرين بأَنهم صم بكم لا يعقلون، عاد بالحديث إِلى المؤمنين، ليرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، وقد تكرر نداؤهم بوصف الإِيمان لتنشيطهم حتى يقبلوا على امتثال ما يَرِدُ بَعْدَهُ من الأَوامر، وتنبيههم إِلى أَن اتصافهم بالإيمان يستوجب ذلك. والمعنى: يأَيها الذين شرفهم الله بالإِيمان المستوجب لكل خير، استجيبوا لله وللرسول بحسن الطاعة، إِذا دعاكم الله على لسان رسوله لما يحييكم في الدارين حياة طيِّبة، من الجهاد والاستقامة على منهاج الحق والعدل، والعلم النافع، والعمل الصالح، وثواب الآخرة. واستدل بعض العلماء بالآية على وجوب إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا نادى أَحدًا وهو في الصلاة، فإِن الأمر يشملها، وعن الشافعى أَن ذلك يبطلها، وأَيد القول بذلك

بما أَخرجه الترمذي والنسائى عن أَبي هريرة أَنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على أُبىِّ بن كعب وهو يصلى، فدعاه فعجل في صلاته، ثم جاءَ فقال له النبي: (ما منعك من إِجابتى؟) قال: كنت أصلى، قال: "أَلَمْ تُخْبَرْ فيما أُوحِىَ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال: بلى ولا أَعود إِن شاء الله تعالى، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لأُعلمنَك سورةً أَعظمَ سورةٍ في القرآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثانى". ورأَى بعض العلماء أَن إِجابة الرسول في الصلاة، وإِن كانت واجبة كما دل عليه الحديث والآية، إِلا أَنه لا دلالة فيهما على أَنها لا تقطع الصلاة، بل يجب استئنافها من جديد بعد أَن قطعت بإِجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحكى الرويانى أَنها لا تجب، وتبطل الصلاة بها، فإِن المصلى قائم بين يدي ربه، وهو مشغول بطاعته، وما جاءَت الرسالات إِلا لذلك، وإِنما تجب الاستجابة التي دعت الآية إِليها، فيما عدا وقت الاشتغال بالصلاة، ولعل القائلين بذلك لم يطلعوا على هذا الحديث ... وتوسط بعض العلماءِ بين الرأْيين فقال: إِذا نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَحدًا وهو يصلى فإنه يقطع صلاته إذا كان الدعاء لأَمر يفوت بالتأْخير، ومثل ذلك مثل ما إِذا رأَى المصلى رجلًا أَعمى وصل إلى بئر, ولو لم يحذره لهلك، فإِنه يقطع صلاته ويحذره، ثم يستأْنفها، وحمل أَصحاب هذا الرأْى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبى بن كعب الذي ورد في الحديث على أَنه كان لأَمر هام بدليل قوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فلذلك قال له الرسول: (ما منعك من إجابتى؟) يريد بذلك أَنه كان عليه أَن يقطع صلاته ليجيبه - صلى الله عليه وسلم -. ونحن نقول: إن الظاهر أَن ذلك كان في صلاة النافلة، فإِنها لو كانت فرضا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى بالمسلمين جماعة وفيهم أُبَىُّ بن كعبِ راوى الحديث، فلا يكون حينئذ مجال لنداء الرسول له، فالأَولى قصر الكلام على صلاة النافلة. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: قبل الكلام على تفسير هذا النص الكريم نقول: الحول بين الشيئين الفصل بينهما، تقول هذا الشىء يحول بينى وبينك، تعنى أَنه يفصل بينكما، قال صاحب القاموس: (كل ما حجز بين شيئين فقد حال بينهما) يعني فقد فصل بينهما.

وهذا المعنى غير مُتَصَوَّرٍ في حق الله تعالى، فإِنه - سبحانه - ليس جسما متوسطا بين المرءِ وقلبه، يحول بينهما ويفصل اتصالهما, ولهذا يجب تأْويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} بما يتفق مع القواعد الشرعية، وقد ذهب المفسرون في تأْويلها مذاهب نختار منها ما يلى: يرى الحسن وقتادة: أَن هذه مجاز عن شدة قربه - تعالى - من عبده بعلمه فهى، مثل قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وفي هذا المعنى تنبيه إِلى أَنه - تعالى - مطلع على مكنونات القلوب، حتى ما يغفل عنه أَصحابها، وأَنه ينبغي أن يبادر العباد إلى تصفيتها من علائق الشيطان، حتى تكون مخلصة لوجه الله الكريم، فكأَنه - سبحانه - بعد أَن أَمرهم في صدر الآية بالاستجابة لله ورسوله، أشار لهم هنا إِلى وجوب الإخلاص في الاستجابة، لأَنه تعالى قريب من قلوبهم بعلمه، يعلم إِخلاصها ونظافتها، ويعلم ضد ذلك، فيجزى كلاًّ منهم حسب حالهم. والمعنى على هذا: واعلموا أَيها المؤمنون أَن الله - تعالى - قريب من قلب عبده، يعلم إِخلاصه ونفاقه في الاستجابة لله ولرسوله، واعلموا أَنكم إِليه يوم القيامة تحشرون لا إِلى غيره، فيجزيكم حسب مراتب أَعمالكم التي أَحاط بها علمه. ويجوز أَن يكون المراد من الآية الحث على المبادرة إِلى الاستجابة لله ورسوله، بالعمل الصالح والنية الطيبة قبل أَن يدرك الإِنسان الموت، فيندم على التقصير. وكأَنه قيل: واعلموا أَن الله يحول بين المرءِ وقلبه بمنع إِمداده له بالدم الذي هو مادة الحياة، إِذ يقبض روحه، ويبطل نبضه ويمنعه بذلك من التصرف، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من العمل الصالح، وإِخلاص النية، فليبادر المرءُ إِلى الاستجابة لله ورسوله، قبل فوات الفرصة، واعلموا أَنكم إِليه تحشرون للحساب والجزاءِ. ويمكن أَيضا أَن يكون المعنى: واعلموا أن الله يحول بين المرءِ وقلبه إِن لم يستجب لله ورسوله، وذلك بأَن يطمس على قلبه فلا يهتدى إِلى رشاد، واعلموا أَنكم إِليه تحشرون، فلا يجد المسىء ما ينقذه من عقابه. 25 - {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}:

أَي واتخذوا لكم وقاية من ذنب لا يقتصر وباله على الذين ظلموا أَنفسهم، بتوريطها في المعاصي، بل يعمهم وغيرهم بشؤمهم. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: يعاقب من خالفه ولم ينفذ أَوامره، أَو وافق على مخالفته، أَو ترك الإِنكار على المخالفين، وأَهمل وعظهم وتذكيرهم. والآية الكريمة خطاب للمؤْمنين في كل عصر، فلا يقتصر حكمها على أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمقصود من الآية أَن لا يترك العصاة بدون زجر، بل يؤْخذ على أَيديهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من رأَى منكم منكرا فليغيره بيده فإِن لم يستطع فبلسانه، فإِن لم يستطع فبقلبه وذلك أَضعف الإِيمان" (¬1) فإِن لم يفعل المؤْمنون ذلك، وقعوا في الفتنة، أَي أثموا وأَذنبوا, لأَنهم قَصَّرُوا في الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك لم تقتصر الفتنة - أَي الذنب - على من باشر المعصية وحده، بل عمته وغيره، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الناس إِذا رأَوا الظالم فلم يأْخذوا على يده، أَوشك أَن يعمهم الله - تعالى - بعقاب" أَخرجه الترمذي وأَبو داود عن قيس بن حازم عن أَبي بكر - رضي الله عنه -، وأَخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما وقعت بنو إِسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤُهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ". {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ في الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}. ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مسلم.

التفسير 26 - {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ في الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ... } الآية. الخطاب هنا للمهاجرين من أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: واذكروا أَيها المؤمنون من أهل مكة وقتما كنتم مستضعفين من مشركيها، يؤْذونكم بالقول والفعل، لضعفكم وقلّتكم وهوانِكم عليها، فكنتم لذلك تخافون دائما أَن يتخطفكم مشركو مكة، ويأخذوكم بالإِيذاءِ وسلب الأَموال من آن لآخر، فآواكم الله بالمدينة حين هاجرتم إِليها، إِذ أَنزلكم من أَهلها في مأوى يقيكم شرَّ من استضعفوكم وآذوكم، وأَيدكم وقواكم بنصره بمظاهرة الأَنصار, والإِمداد بالملائكة في بدر، فثأَرتم بذلك ممن أَخرجوكم وآذوكم, ورزقكم الله من الطيبات بما نلتم من المغانم, ولم تحل لأَحد قبلكم، منحكم الله كل هذه النعم لكي تشكروه على إِسدائها. وقيل: الخطاب عام للمؤمنين في كل عصر، يذكرهم الله فيه بإِنعامه عليهم حين يكون عدوهم أَكثر منهم، يخافون أَن يتخطفوهم لكثرتهم، فإِنه - تعالى - حينئذ يؤويهم، أَي يحل لهم مأْوى يتحصنون به من أَعدائهم، ويؤَيدهم وينصرهم عليهم، ويرزقهم من طيبات الأَرض التي يستولون عليها منهم، كما يرزقهم من مغانمهم. والرأى الأَول أنسب بالحديث عن غزوة بدر التي جاءت هذه السورة لتفصيل شئونها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}. المفردات: {لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ}: الخيانة بمعنى الانتقاص ممّا ائتمنت عليه، والمراد بها هنا عدم العمل بما أَمر الله به ورسوله.

{فِتْنَةٌ}: أَي ابتلاء وامتحانا، أو سبب فتنة، أَي سبب إثم وعذاب إِذا خولف أَمر الله في الأَموال والأَولاد. التفسير 27 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ .... } الآية. لا يزال الحديث موصولا مع المؤمنين، وسبب نزول الآية، على ما رواه الزهرى وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاصر يهود بنى قريظة واحدا وعشرين ليلة وفي رواية البيهقي خمسا وعشرين ليلة، فسأَلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح كما صالح إِخوانهم بنى النضير، على أَن يسيروا إِلى إِخوانهم بأَذرعات من أَرض الشام، فأَبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أَن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ (¬1)، فأَبوا وقالوا أَرسل لنا أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر، وكان مناصحا لهم؛ لأَن ماله وعياله كانوا لديهم فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَتاهم، فقالوا: يا أَبا لبابة ما ترى؟ أَننزل على حكم سعد بن معاذ، فأَشار بيده إِلى حلقه - يعني أنه الذبح فلا تفعلوا - قال أبو لبابة: والله ما زالت قَدمَاىَ عن مكانهما، حتى عرفت أَنى قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشد نفسه على سارية من سوارى المسجد، وقال: والله لا أَذوق طعاما ولا شرابا حتى أَموتَ أو يتوب الله علىَّ، فلمَّا بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره قال: أَمَا لو جاءنى لاستغفرت الله له، أما إِذ فعل ما فعل، فإنى لا أطلقه حتى يتوب الله عليه، فمكث سبعة أَيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرَّ مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أَبا لبابة قد تيب عليك، فقال والله لا أَحل نفسى حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يحلنى، فجاءه عليه الصلاة والسلام فحله بيده، ثم قال أَبو لبابة: إِن تمام توبتى أَن أَهجر دار قومى التي أَصبت فيها الذنب، وأَن أَنخلع من مالى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يَجْزيك الثلث أَن تصَّدَّق به، ونزلت هذه الآية. ¬

_ (¬1) وسبب امتناع الرسول عن إجابتهم، أنهم خانوا عهدهم معه وانضموا إلى قريش في غزوة الخندق، وكادت تحصل بانضمامهم لهم كارثة للمسلمين، لولا لطف الله، راجع قصتهم في السيرة.

وذكر آخرون في سبب النزول غير ما تقدم، ولا مانع أَن تنزل الآية لعدة أَسباب من نوع خيانة الأَمانة. ومضمون الآية شامل لجميع المؤمنين، ولكل مأمور به أَو منهى عنه، فإِن أمانات الله ورسوله تشمل جميع التكاليف ولذا جاءت بالأسلوب العام. والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا ما كُلِّفتم به من التكاليف فهي أمانات الله لديكم, فلا تتركوا فريضة فرضها عليكم، ولا تباشروا منهيا عنه حرمه عليكم كإِفشاء سرٍّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَو للمسلمين، أَو إِنكار أَمانة مودعة لديكم، أَو غُلول في مغنم، وأَنتم تميزون الحلال من الحرام، والحسن من القبيح والضر من النفع, وتعلمون تبعة خيانة الأَمانة وعقابها. التفسير 28 - {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَي وليكن معلوما لديكم ومستقرا في نفوسكم أَن أموالكم وأولادكم امتحان من الله لكم، فلا تجمعوا أَموالكم من مصادر أَثيمة، ولا تصرفوها في أَغراض محرمة، ولا يحملنكم حبكم لأَولادكم على معصية الله تعالى بسرقة مال أَو طلب رشوة، أَو سوء تربية أو غير ذلك مما حرمه الله، واعلموا أن الله عنده أجر عظيم وثواب جزيل، لمن مال إِليه وآثر رضاه على محارم الله، فكسبوا أَموالهم من حلال، وصرفوها في غير معصية، وربوا أَولادهم على طاعة الله وحذروهم من نقمته.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}. المفردات: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}: يجعل لكم هداية تفرقون بها بين الحق والباطل, أَو نصرا يفرّق بين حقكم وباطل سواكم. التفسير 29 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ..... } الآية: بعد أَن نهى الله المؤمنين عن خيانة الله ورسوله، وخيانة الأَمانات، وحذرهم من الفتنة بالأَموال والأَولاد، كلفهم هنا بأَن بتقوه في أَمرهم كله، ووعدهم على ذلك خير الجزاء. والمعنى: يأَيها الذين آمنوا إِن تتقوا عقاب الله وتخافوا غضبه وسخطه، يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، من الإِلهام إِلى الخير والطاعة والإِعانة عليهما وكراهة الشر والمعصية والوقاية منهما، ومن النصر الذي يفرق بين حقكم وباطل سواكم بإِعزازكم وتكثير سوادكم، وتوسعة رقعة أَرضكم، وإِذلال الكافرين وانتقاص عددهم والاستيلاء على بلادهم، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يكفر عنكم سيئاتكم ويسترها لكم في الدنيا، ويغفرها لكم ولا يعاقبكم عليها في الأخرى، والله صاحب الفضل العظيم على عباده، فلا يضيق فضله عن تكفير سيئاتكم، وغفران ذنوبكم، وأنتم أَولياؤه.

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}. المفردات: {يَمْكُرُ}: المكر؛ تبييت نية الشرِّ، {لِيُثْبِتُوكَ}: ليحبسوك ويوثقوك. {وَيَمْكُرُ اللهُ}: أَي يحبط مكرهم. التفسير 30 - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ .... } الآية. هذه الآية نقلت الحديث من تحذير المؤمنين من مخالفة الله ورسوله، إِلى بيان عداوة الكافرين وسوء مقاصدهم نحو رسولهم ودينهم، وأن الله محبط كيدهم. وسبب نزولها: أَن قريشا لما رأَت أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَصبحت له شيعة وأَصحاب من أَهل المدينة، ورأَوا هجرة مسلمى مكة إليهم، وعرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأَصابوا من أَهلها منعةً، فَحَذِرُوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا أَنه قد أَجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصى بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضى أَمرا إِلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمره - عليه الصلاة والسلام - فقال بعضهم لبعض: إِن هذا الرجل كان من أَمره ما رأَيتم, وإنا والله ما نأمنه، فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأَغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به أَن يصيبه ما أصاب أَشباهه الشعراء قبله من الموت، فاعترض آخر قائلا: لئن حبستموه كما تقولون، ليخرجن أَمره من وراء هذا الباب إِلى أَصحابه، فَلأوْشكوا أَن يثبُوا عليكم فينزعوه من أَيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أَمركم. ما هذا برأى، فقال آخر: نخرجه من أَرضنا وننفيه من بلادنا، فإِذا خرج عنا؛ فلا نبالى أَين ذهب، وفرغنا منه فأَصلحنا أَمرنا، فرد قائل: والله ما هذا برأى، أَلم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأْتى به، والله

لو فعلتم ما أَمِنْتُم أَن يحل على حىٍّ من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه، ثم يسير بهم إِليكم، فيطؤكم بهم في بلادكم، فيأْخذ أَمركم منكم، ثم يفعل بكم ما أَراد، فَكِّروا في رأى آخر، فقال أَبو جهل: أَرى أَن نأْخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدًا، نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى سيفا صارما، ثم يعمدون إِليه، فيضربونه بسيوفهم ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإِنهم إِن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فرضوا عنا بالعقل (¬1) فعقلناه لهم فقال قائل: هذا هو الرأى؛ فوافقوا عليه، وتفرَّقوا على ذلك. فأَتى جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة (¬2) من الليل، اجتمعوا على داره يرصدونه متى ينام؟ فيثبون عليه، فلما رأَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانهم، قال لعلىٍّ - كرم الله وجهه -: ثم على فراشى وتَسَجَّ ببردى (¬3) فإِنه لن يخلص إِليك شيء تكرهه منهم وكان الرسول إِذا نام ينام في برده هذا - انتهى: من ابن إِسحاق بتصرف. والمعنى: واذكر يا محمَّد حين يمكر بك الذين كفروا من مشركى مكة ويُبِيَّتُون نية الشرّ نحوك ليجعلوك حبيسا في محبس يعدونه لك ويقيِّدونك فيه بالحديد، حتى لا يتصل بك أَحد ممن تدعوهم إِلى الإِسلام، أَو يقتلوك بسيوفهم على أَيدى شبان أَقوياء أَنسباءَ منهم، فيتفرَّق دمك في القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أَن ينتقموا لك منهم، أَو يخرجوك من مكة، ويمنعوك بذلك من الاتصال بأَهلها لدعوتهم إِلى الإِسلام، ويحرموك بهذا الإِبعاد من وطنك {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: المكر: تبييت نية الشر مع قصد الضرر بالخصم، فإِذا استعملت هذه الكلمة في جانب الله فالمقصود بها المجازاة على المكر كما هنا؛ لأَنه - تعالى - لا يبيِّت نية الشرّ لعباده، ويحب أَن يتوبوا فيرضى عنهم ويغفر لهم. ¬

_ (¬1) العقل: الدية. (¬2) العتمة: ثلث الليل الأول. (¬3) أَي تغط ببردى, والبرد: ثوب مخطط.

والمعنى: ويمكر مشركو مكة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بتبييت نية قتله بأَيدى شبان من جميع القبائل، ليتفرق دمه بينها، فلا يقدر بنو عبد مناف على قتال جميع العرب، ويرضون بديته، ولكن الله محبط مكرهم، بتيسير خروجه من بين أولئك الشبان الذين اجتمعوا أَمام بابه ليقتلوه عند خروجه. وذلك أَنه - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم ليلا وهم أَيقاظ وبأَيديهم سيوفهم، وكان يقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} فعموا عنه ولم يبصروه، وسار حتى التقى برفيق هجرته - أَبي بكر رضي الله عنه - وسارا حتى بلغا الغار الذي أَويا إِليه حتى ينقطع الطلب، ثم استأنف رحلته مع أَبي بكر على ظهر ناقتين وافاهما بهما عبد الله بن أريقط - وكان هاديا ماهرا أَمينا وكان على دين قومه - حتى وصلا إلى المدينة بسلامة الله تعالى، وبذلك أحبط اللهُ مكرَ قريشٍ، والله خير من يحبط المكر ويجزى أَهله (¬1). {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}. المفردات: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: ما سطره الأَولون من القَصَص. التفسير 31 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ... } الآية: المعنى: وإِذا تتلى على قريش آياتنا التي أنزلناها على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قالوا ¬

_ (¬1) انظر تفصيل قصة الهجرة في كتب السيرة، فقد حدثت فيها أحداث نجى الله رسوله منها "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".

عنادا وإِباءً للحق: لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي جئتنا به، ما هذا إِلا ما سطَّرهُ الأَولون من القصَصِ والحكايات، وليس كلام الله تعالى، وحيث كان كذلك فنحن قادرون على الإِتيان بمثله. وجمهور المفسرين على أَن قائل هذا هو النضر بن الحرث، كان يذهب إِلى أَرض فارس والروم يتسمع أَخبارهم عن كبارهم، ويذهب إِلى اليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإِسناد هذا القول إِلى قريش, لأَنه كان من زعمائهم وكانوا موافقين على ما يقول. وهذا القول واضح البطلان، فإنه تحداهم عشر سنين أَن يأتوا بمثله، وجعل يتحداهم حتى نزل بهم إلى سورة واحدة، فلم يستطيعوا إِلى تحقيق زعمهم سبيلا، ثم قارعهم بالسيف فعجزوا عن تحقيق زعمهم، ولو كانوا قادرين لأَبطلوا حجته في إِعجازه وبذلك ينتهى أمره، ولم يزل يكافحهم حتى دانوا للقرآن، ودخلوا في دين الله أَفواجا هم وغيرهم من العرب وسواهم. ولا يزال هذا التحدى باقيا إِلى أَن تقوم الساعة، وسوف يعجز غيرهم كما عجزوا بل غيرهم أَجدر بالعجز منهم، فهم فرسان البلاغة، والمالكون لأَزمة الفصاحة فكيف بسواهم، وإِعجاز القرآن ليس مقصورا على بلاغته وفصاحته، بل لأنه أيضًا شامل لأَخبار الأَنبياء، مصحح لما جاءَ عنها خطأ في التوراة والإِنجيل، كما هو شامل لما جاءَ فيهما من تشريعات صالحة للبقاء ويزيد عليهما ما هو صالح للجنس البشرى إِلى أَن تقوم الساعة ومن إِعجازه أنه تحدث عن خلق هذا الكون من دخان (غاز) ولم يعرف ذلك العلماء إِلا حديثا، كما تحدث عما سوى ذلك من الكونيات التي أَقرها العلمُ الحديث، إِلى غير ذلك مِن فنون إِعجازه، وكل ذلك جاءَ به سيَّدٌ كريم لا يعرف القراءَة ولا الكتابة كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} (¬1). ¬

_ (¬1) العنكبوت الآية: 48، 49

{وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}. المفردات: {يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: أَي يمنعون المسلمين من الطوافِ بالمسجد الحرام عام الحديبية، حيث كانوا يريدون العمرة. التفسير 32 - {وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ .... } الآية. لا يزال الحديث موصولا في بيان معارضة قريش للدعوة الإِسلامية. وقائل هذا الكلام هو أَبو جهل بن هشام، كما أَخرجه البخاري والبيهقي في الدلائل, وقيل: قائله النضر بن الحارث، روى أَنه لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال له: ويلك إِنه كلام الله تعالى فقال: { ... اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ... } الآية. والمعنى: واذكر أَيها الرسول حين قالت قريش تهكما وكذبا، على لسان زعمائهم: اللهم إن كان هذا الذي جاءَنا به محمَّد هو الحق المنزل من عندك فأَنزل علينا حجارة كثيرة من السماءِ،

أَو ائتنا بعذاب شديد الإِيلام غير إِنزال الحجارة، ليكون ذلك برهانا لنا على أَنه من عندك، أَو ليكون عقوبة لنا على إنكاره ولو كان هؤلاء طلاب حق لطلبوا الهداية إِليه، بدل طلبهم إِنزال العذاب بهم، ولكنه العناد والتكبر على حق جاءَ به سواهم، وإسناد القول إليهم جميعًا مع أن القائل أحدهم، لموافقتهم على ما قال: 33 - {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}: جاءَت هذه الآية لبيان السبب في إِمهالهم وعدم التعجيل بعقوبتهم استجابة لدعائهم والمعنى: وما كان الله ليستأصلهم بالعذاب الذي طلبوه وأَنت بينهم، فقد أَكرمهم الله برسالتك فيهم، فمنع عنهم عذاب الاستئصال الذي كان ينزل بمن قبلهم لكفرهم برسلهم. والمقصود من الآية الكريمة الإِخبار بأَن تعذيب قريش بعذاب الاستئصال - والنبى - صلى الله عليه وسلم - بين أَظهرهم - غير مستقيم في حكم الله وقضائه. {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: أَي وما استقام في حكمنا وقضائنا أيضًا أن يعذبهم الله وفيهم من يستغفره، وإِسناده الاستغفار إِلى جميعهم، مع أَنه صادر من المؤمنين وحدهم، لأَنهم موجودون بينهم. وعن ابن عباس أَن المراد بالاستغفار استغفار من سيؤمن بعد: والمقصود من كلام ابن عباس أَن السبب الثاني لعدم تعذيبهم، هو أَن الله ادخر لهم الإِيمان, وأَنهم سوف يستغفرون الله تعالى بعده، وقد حدث ذلك عام فتح مكة. 34 - {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: وأَى سبب لهم يقتضي أَن لا يعذبهم الله، وهم يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام، ويمنعونهم منه حقيقة كما كان ذلك عام الحديبية، أَو حكمًا كما فعلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه، حتى أَلجئوهم إِلى الهجرة، وحرموهم بذلك من المسجد الحرام، ولكن الله تعالى إِنما حماهم من عذاب الاستئصال لوجود الرسول فيهم، واستغفار المؤمنين منهم، ولولا ذلك لاستحقوا العذاب لصدهم عن بيت الله وعن دينه.

{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: وما كان أولئك المشركون الصادون عن المسجد الحرام مستحقين ولاية أَمره حتى يصدوا المؤمنين عنه بحكم ولا يتهم له، وما المستحقون لولايته إلا المتقون الذين آمنوا بالله ورسوله، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، فلذا كان منهم ما كان من صدهم المؤمنين عنه. ونسبة عدم العلم إِلى أَكثرهم، يؤذن بأَن بعضهم يعلمون ذلك، ولكن يجحده عنادا، أَو المراد بالأَكثر الجميع، كما يراد بالقلة العدم، يقال: هذه أَرض قلَّما تنبت، أَي لا تنبت أصلًا. {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}. المفردات: {صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ}: المراد بالبيت الكعبة، وبصلاتهم عنده الصلاةُ في المسجد الحرام حوله. {مُكَاءً}: صفيرا، من مكا يمكو إذا صفر. {تَصْدِيَةً}: تَصفيقًا، من الصَّدى، وهو رجع الصوت، أَو منِ الصَّدِّ وهو المنع معَ قَلْب إِحدى الدالين ياء. {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ}: ليمنعوا الناس عن دينه، فهو سبيل موصل إلى رضوانه. {حَسْرَةً}: نَدَمًا وَغمًّا. {يُحْشَرُونَ}: يساقون. التفسير 35 - {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: تضمنت الآية السابقة أَن المشركين لا يصلحون لولاية المسجد الحرام، وجاءَت هذه الآية والتي تليها لبيان السبب في عدم صلاحيتهم لذلك، وهو عدم استقامتهم في عبادة ربهم، وصدَّهم الناس عن دين الله.

روى أَنهم كانوا يطوفون عراة رجالا ونساءً، مشبكين بين أَصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، فنزلت الآية لذلك، وعلى هذا تكون تسمية الطواف صلاة لأَنهم يفعلون ذلك عبادة وصلاة في زعمهم، أَو لعلَّهم كانوا يدعون الله - تعالى - أَثناء ذلك والدعاء يسمى في اللغة صلاة. وروى أَنهم كانوا يفعلون ذلك عندما يصلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يزعمون أَنهم يصلون، في حين أَنهم كانوا يزيدون بذلك أَن يخلطوا على الرسول صلاته، فنزلت الآية تحكى قبح ما صنعوا. والمعنى: وما كان دعاؤهم عند البيت الحرام، أَو ما يسمونه صلاة ويضعونه موضعها، إِلا صفيرا وتصفيقا، ومن كانوا كذلك فلا يصلحون لولاية أَمر البيت ولا يصح لهم أَن يصدُّوا ويمنعوا الناس عنه، إذ أَنهم لا يعرفون ما ينبغي في عبادة رب هذا البيت. {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: قيل: المراد بالعذاب القتلُ والأَسر يوم بدر، وقيل: عذاب الآخرة ويبدو من إطلاق العذاب، أَن الآية وعيد لهم بما يعمُّ عذاب الدنيا والآخرة، لا بأَحدهما. والمعنى: وحيث كانت صلاتكم عند البيت على هذه الصورة من الصفير والتصفيق فإنكم تستحقون عذاب الله، فذوقوا العذاب بسبب كفركم باللهِ وبما يجب له من الإِعظام والإِجلال، في العقيدة والعبادة. 36 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ .... } الآية. نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثنى عشر رجلًا، يطعم كل منهم يوما يذبح فيه عشرا من الإِبل، والآية عامة الحكم وإِن نزلت بسببٍ خاص.

والمعنى: إِن الذين كفروا بما جاءَ به دين الإِسلام، ينفقون أَموالهم الآن في حرب المسلمين، ليصدُّوا الناس عن دين الله، فسينفقونها مستقبلا في هذا الغرض، ثم تكون عاقبتها عليهم ندما وغمًّا، لضياعها وتلفها دون تحقيق مرادهم، ثم يغلبون آخر الأَمر. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}: بعد أَن بين الله في صدر الآية المصير الدنيوى للذين ينفقدن أَموالهم ليصدّوا عن سبيل الله، وهو الحسرة والندامة والهزيمة بيّن - سبحانه - في عجزها المصير الأخروى للكافرين، محاربين وغير محاربين. والمعنى: والذين أَصرُّوا على الكفر، إلى جهنم يُساقون لا يبرحونها، فليس بعد الكفر ذنب. {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}. المفردات: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ}: ليعزله ويفرزه: {فَيَرْكُمَهُ}: فيجمعه ويضم بعضه إِلى بعض، قال صاحب القاموس: مازَه يَمِيزُه مَيْزًا عزله وفرزه. التفسير 37 - {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ... } الآية. هذه الآية مرتبطة بالآية السابقة.

والمعنى: والذين كفروا يُحشرون ويُساقون إِلى جهنم لكي يميز الله الكافر والخبيث المستحق للعقاب، ويفرقه ويعزله عن المؤمن الطيِّب المستحق للثواب، ويجعل الله الخبيث من الكفار بعضه على بعض، فيجمع هذا الصنف الخبيث كله، فيجعله في جهنم جزاء وفاقا لما فعلوا، أولئك هم الخاسرون الكاملون في الخسران، لأَنهم خسروا أَنفسهم والنعيم المقيم الذي فاتهم. ويجوز أن يكون المعنى: والذين كفروا يُحشرون إِلى جهنم، ليميز الله الخبيث من الطَّيِّب من الناس والأَموال، ويجعل الخبيث من الكفار وأَموالهم، بعضه على بعض، فيجمعه جميعًا، فيجعله في جهنم .... الخ. وإِنما جمعت أَموالهم معهم على هذا الرأْى ليزداد بها عذابُهم، كما هو الشأْن فيمن يكنزون الذهب والفضة، كما قال تعالى: { ... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} (¬1). {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}. المفردات: {سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}: طريقتهم في انتقام الله منهم، {فِتْنَةٌ}: شركٌ وضلال، {مَوْلَاكُمْ}: ناصركم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآيتان: 34، 35

التفسير 38 - {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}: تحدثت الآيات السابقة عن مساوئ الكافرين, من الصدِّ عن المسجد الحرام وعن الإِسلام، وإِنفاقهم المال في سبيل ذلك، كما بيَّنت عقوبتهم عليهما. وجاءَت هذه الآية لتفتح لهم باب الأَمل في رحمة الله وغفرانه إن انتهوا عن غيهم، وتتوعَّدهم إِن هم أَصرُّوا على كفرهم بالانتقام منهم. والمعنى: قل أيها الرسول للذين كفروا فأَشركوا باللهِ وأَنفقوا المال ليصدوا عن سبيله - وهو الإِسلام - قل لهم: إِن ينتهوا عمَّا هم فيه ويتركوه ويؤمنوا بما جئتهم به، يغفر لهم ما قد مضى من شركهم ومعاصيهم - فإِن الإِسلام يطهرهم من ذنوبهم قبله - وإِن يعودوا إِلى مناوأة الإِسلام، مصرِّين على عداوته والكفر به، فلينتظروا انتقام الله منهم، فقد مضت سنة عقاب الأَولين الذين تَحزَّبُوا على رسلهم وكفروا بهم إِذ عاقبهم الله بشتى العقوبات، ونصر أَنبياءَهم عليهم، وأَعلى كلمتهم، ولستم بأَعظم شأْنا منهم, وقد رأَيتم باكورة انتقامه منكم في غزوة بدر. 39 - {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: وقاتلوا أَيها المؤمنون هؤلاء المشركين إِن لم ينتهوا عمَّا هم عليه من الشرك - وقاتلوهم - حتى لا يوجد شرك بالقرب منكم، ويكون الدين حولكم لله لتأمنوا غدرهم وشرَّهم، فإِن انتهوا عن الكفر بعد ما أَظهرتم الشدة عليهم، وكَفُّوا عن القتال فكُفُّوا عنهم ودعوهم لله، فإِن الله بما يعملون بصير، فيجازيهم على إِسلامهم، وما يحدث منهم بعده من طاعة ومعصية. 40 - {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: وإِن استمَروا على توليهم وإِعراضهم عن الإِسلام، فاستمِروا على قتالهم، واعلموا أن الله - تعالى - متولّ أُموركم، فثقوا به وتوكلوا عليه ولا تبالوا بهم، نعم المولى لا يضيع من تولى أَمره، ونعم النصير لا يغلب من نصره.

بسم الله الرحمن الرحيم {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ في الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ في مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ في الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}. المفردات: {غَنِمْتُمْ}: الغَنِيمَةُ؛ من الغنم وهو الفوز، والمراد بها هنا ما أُخذ من أَموال الكفار بالقتال. {الْجَمْعَانِ}: جمع المؤمنين وجمع الكفار. {الْعُدْوَةِ}: طرف الوادى وحافته. {الدُّنْيَا}: أَي القريبة من المدينة.

{الْقُصْوَى}: البعيدة من المدينة. {الرَّكْبُ}: العير وراكبوها وهم أَبو سفيان ومن معه. {عَنْ بَيِّنَةٍ}: أَي عن حُجَّة واضحة. {لَفَشِلْتُمْ}: لجبنتم وتهيبتم لقاءَ العدو: من الفشل وهو ضعف مع جبن. {بِذَاتِ الصُّدُورِ}: أَي بما تنطوى عليه القلوب. التفسير 41 - {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ..... } الآية. أَمر الله رسوله بقتال الكفار حتى تنقطع فتنتهم، بقوله قبل هذه الآية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} الآية. وجاءَت هذه الآية تبين حكم الغنائم المتخلفة من قتالهم، وطريق قسمها. والمعنى: واعلموا أَيها المقاتلون في سبيل الله أَن ما أَخذتموه من الكفار قهرا فواجب أَن لله تعالى وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خُمْسَهُ، أَما أَخماسه الأَربعة، فهى للمقاتلين. وذِكرُ الله تعالى مع الرسول وذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل مع أَنه تعالى لا يأْخذ من الغنائم شيئًا، لتعظيم حق هذه الجهات في الخمس، ولهذا كان الخمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُخَمَّسُ خمسةَ أَسهم تُوَزَّعُ على هذه الجهات الخمس وأَما بعده - صلى الله عليه وسلم - فيسقط سهمه، أما سهم ذوى القربى فقد اختلف فيه، فقيل إِنه باق بعده، فيعطى منه للغنى والفقير منهم، وقيل إنه لا يعطى منه لغنيهم، بل يدخلون في سهم اليتامى والمساكين ويسقط سهمهم، فيعطون لفقرهم، وقيل إِن الأَمر مفوض في شأْنهم إِلى اجتهاد الإِمام، وقيل غير ذلك.

ورأَى بعض الفقهاءِ أَن سهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفق في مصالح المسلمين, كشراءِ السلاح، وتحصين الحدود، وبناءِ المدارس والمستشفيات وغير ذلك، والمراد بذوى القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون من عداهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبَّك بين أَصابعه". ولاقتصاره - صلى الله عليه وسلم - في القسم عليهم دون غيرهم من بني نوفل وعبد شمس قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إِسلام" كما في البخاري. واليتامى: هم أَطفال المسلمين الذين مات آباؤهم. والمساكين: أَهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل: هو المسافر المحتاج، بشرط أَن يكون سفره في غير معصية. وقد اختلف العلماءُ في قسمة الأَربعة الأَخماس التي يستحقها المقاتلون، فالذي عليه عامة أَهل العلم، فيما ذكره ابن المنذر أَنه للفارس منهم سهمان، وللراجل سهم، وممن قال بذلك الإِمام مالك والشافعى وأَبو حنيفة، ويرى الصاحبان أَن للفارس ثلاثة أَسهم وهو رأَى ابن عمر، وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَخرجه البخاري. ثم أَكد الله تعالى قسمة الغنائم على هذا النحو بقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ}: أَي إِن كنتم مؤمنين باللهِ فانقادوا وسلموا الأَمر لله فيما أَعلمكم به من حال قسمة الغنيمة: بأَن يكون خمسها لله وللرسول وذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأَربعة أَخماسها للمقاتلين، فاقنعوا بذلك ونفذوا أَمر الله في شأْن الخمس. {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}: أَي إِن كنتم آمنتم باللهِ وبما أنزلناه على عبدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والملائكة والنصر في يوم بدر، الذي جعله الله فرقانا بين الحق والباطل، يوم التقى الجمعان من المؤمنين والكافرين، وكان أولَ مَشْهَدٍ شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه، وكان فيه رؤوس المشركين، التقوا يوم الجمعة لسبع عشرة من

رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة وأَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين ألف وتسعمائة فهزم الله المشركين وقُتل منهم سبعون وأُسر منهم مثل ذلك، وانتصر الإِسلام على الشرك وأَصبحَت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى: ومن هنا سمى يوم الفرقان، والإِضافة في (عبدنا) لتشريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث نسبه إِليه تعالى بالعبودية له، ثم ختمت الآية بقوله سبحانه: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ليعلموا أَن نصرهم على أَعدائهم، ما كان يمكن تحقيقه إلا بمعونة الله الذي هو على كل شيء قدير، فقد كانوا قليلى العدد, ولم تكن معهم أَسلحة كافية، ولا مراكب، كما أَنهم لم يخرجوا للقتال، بل لتلقى العير، فلذا يعتبر نصرهم على المشركين من خوارق العادات، التي لا يقدر عليها إِلا الله القادر على كل شيء. ولما علَّم سبحانه عباده المؤمنين كيفية قسم الغنائم وتوزيعها وبيان المستحقين لها، ذكر شيئًا من نعمه تعالى عليهم في غزوة بدر ليبين أَن عونه تعالى وتأْييده لهم كان ظاهرا في هذه الغزوة حيث خرجوا إِلى هذا المكان لأَخذ العير واجتمعوا على غير ميعاد ولم يكونوا مستعدين للقتال، فقال سبحانه: 42 - {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ في الْمِيعَادِ}: والمعنى: اذكروا نعمة الله عليكم معشر المسلمين إذ كنتم بشط الوادى القريب من المدينة، والمشركون بطرف الوادى المقابل البعيد عن المدينة، وركب أبي سفيان وأَصحابه أَسفل منكم أَيها المؤمنون، حيث كانوا ناحية الساحل ومعهم عيرهم على بعد ثلاثة أَميال من بدر. {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ في الْمِيعَادِ}: أَي ولو تواعدتم مع المشركين على القتال، ثم علمتم ضعفكم وقوتهم، لاختلفتم أنتم في الميعاد، هيبة منهم، ويأْسا من الظفر عليهم.

{وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}: ولكن جمع الله بينكم على غير ميعاد، ليبرز أَمرا كان لا بد من وقوعه طبقا لعلم الله تعالى وقضائه، وهو نصر أَوليائه، وإِعزاز دينه. قال الزمخشرى: فإِن قلت - ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين: وأَن العير كانت أَسفل منهم - قلت - الفائدة فيه: الإِخبار عن الحال الدالة على قوة شأْن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهيد أَسباب الغلبة له وضعف شأْن المسلمين والْتبَاس أَمرهم (¬1) وأَن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إِلا صنعا من الله سبحانه ودليلا على أَن ذلك أَمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته. وذلك أَن العدوة القصوى التي أَناخ بها المشركون. كان فيها الماء. وكانت أَرضا لا بأْس بها للحرب. ولا ماءَ بالعدوة الدنيا وهي رملية سبخة تسوخ فيها الأَرجل ولا يمشي فيها أَحد إِلا بتعب ومشقة وكانت العير وراءَ ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها (¬2) تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها ثباتهم. وفي ذلك تصوير ما دبر الله سبحانه من أَمر وقعة بدر، ليقضى الله أَمرا كان مفعولا من إِعزاز دينه، وإِعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إِحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأْخذوا العير راغبين في الخروج وشخص (¬3) بقريش مرعوبين مما بلغهم، من تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأَموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، فأَناخ المسلمون بالعدوة الدنيا وأَناخ المشركون بالعدوة القصوى ووراءَهم العير. يحامون عليها حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان. اهـ من الكشاف باختصار. ¬

_ (¬1) التباس الأمر اختلاطه والتفافه عل صاحبه، ويطلق الالتباس أيضًا على الضعف. (¬2) أَي الدفاع عنها. (¬3) أَي أَتى الله بهم إلى المعركة بأشخاصهم.

وإِنما فعل الله ذلك: 42 - {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي فعل الله لقاءَكم من غير ميعاد، ليموت من يموت عن بيِّنة وعبرة شاهدها، وحجة قامت عليه بأَن الله ينصر أَولياءَه على أَعدائهم، وليعيش من يعيش عن بينة كذلك. وقال محمَّد بن إِسحاق في معنى الآية: ليصدر كُفر من كَفر وإِيمان، من آمن عن وضوح وبينة، فقد فسر ابن إسحاق الهلاك بالكفر، والحياة بالإِيمان, إِذ الكفر طريق الهلاك، والإِيمان طريق الحياة الأَبدية. فإِن واقعة بدر من الآيات البينات التي من كفر بعدها كان مكابرًا للحق, ظالمًا لنفسه وهالكا، ومن أسلم فقد أَسلم عن يقين وعلم بأَن الإِسلام دين الحق الذي يجب التمسك به، للتأْييد الواضح له من الله - تعالى - في هذه الغزوة فأَحيا بهذا الإِسلام نفسه {وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي وإِن الله لعظيم السمع لكل مسموع، محيط علمه بكل معلوم، ومن ذلك كفر الكافرين، وإِيمان المؤمنين, فيجزى كلا حسب حاله. 43 - {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ في مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ في الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: واذكر لهم يا محمَّد عظيم صنع الله وبالغ علمه بمصالح من اتبعك من المسلمين، وقت أَن أَراك الله المشركين في منامك قليلًا، فأَدركت بذلك قلَّة شأْنهم عند الله، لتخبر بذلك أَصحابك تَثْبِيتًا لهم، وتشجيعًا على عدوهم. ولو أَراكهم كثيرًا كواقع أَمرهم لفشل أَصحابك وهابوهم وجَبُنوا عن لقائهم، وتنازعوا في الرأْى وتفرقت كلمتهم فيما عساهم أن يصنعوهُ مع عدوهم. {وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ}: أَي سلَّمكم من القتل والتنازع وعصمكم من الاختلاف، وأَنعم عليكم بما أَراه لنبيه ليخبركم به.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: يعني أَنه يعلم بكل ما سيكون في قلوبكم من الجراءَة والجبن والصبر والجزع، فلذا لطف الله بكم، فأَرى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعداءَكم في منامه قليلًا، لتثبتوا ولا تجزعوا. 44 - {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ}: أَي: واذكر يا محمَّد ومن معك من المؤمنين وقت أَن أَراكم الله إِياهم عند لقائكم بهم في المعركة عددًا قليلًا في رؤيا العين, ليتحقق لكم صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أَخبركم به مما رآه في النوم فيزداد يقينكم فتجدّوا وتثبتوا في لقاءِ عدوكم. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لقد قُلِّلوا في أَعيننا حتى قلت لرجل إِلى جنبى أَتراهم سبعين. قال: أَراهم مائة فأَسَرْنا رجلًا منهم فقلت له كم كنتم؟ قال: أَلفًا. فعل الله ذلك مع المسلمين عند اللقاء ليزدادوا ثباتًا، كما قلل المسلمين في أَعين الكافرين قبل القتال ليجترئوا عليهم, ولا يستعدوا لهم، ثم كثرهم عند اللقاءِ حتى رأَوهم مثليهم، لتفاجئهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم. روى أَن أَبا جهل حين رأَى المسلمين قبل القتال، استقلَّهم وقال: إِنما هم أَكَلة جزور خذوهم أَخدًا، واربطوهم بالحبال، فلما أَخذوا في القتال عظم المسلمون في أَعينهم فكثروا كما قال تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (¬1). وفي هذا المعنى يقول الزمخشرى: فإِن قلت: الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض من تقليل المؤمنين في أعين الكفار؟ قلت: قد قللهم في أَعينهم قبل اللقاءِ ليجترىءَ الكفار على المؤمنين لقلة عددهم وعدم المبالاة بهم ثم كثركم في أَعينهم عند اللقاءِ لتفجأَهم الكثرة فَيُبْهتُوا ويهابوهم وتقل شوكتهم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية: 13

حين يرون ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم وذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}. ولئلا يستعدوا لهم. وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البيِّنة من قلتهم أَولا - وكثرتهم آخرًا. {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}: أَي قلل الله المؤمنين في نظر الكافرين أَولا ثم كثَّرهم عند اللقاءِ لِيُنَفِّذَ الله قضاءَه بهزيمة الكافرين ونصر المؤمنين، وقد كرَّر قوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}. لأَنَّ ما عَلَّل له أَوَّلًا هو اجتماعهم على غير ميعاد، وما عَلَّلَ له ثانيًا، هورؤية المؤمنين قلة في أَعين الكافرين أَولا وتكثيرهم ثانيًا، فاختلفت الجهتان فلزم التكرار. والأَمر المفعول الذي قضاه الله هو أَن يَنْصر المؤمنين فكان ما قضى وحكم. {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: أَي وإلى الله - وحده - ترجع أُمور الناس لا إِلى غيره, فيدبرها كما يشاءُ ويحاسب عليها يوم القيامة حسبما يشاءُ. ولما انتهى الحديث عن المدد المعنوىِّ الذي قوَّى به نفوسهم وقت التقاءِ الجمعين استعداد كلٍّ منهما للقتال أَخذ يعلّمهم فنون الحرب فقال جل شأْنه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}. المفردات: {فِئَةً}: جماعة. {وَلَا تَنَازَعُوا}: ولا تختلفوا.

{تَفْشَلُوا}: تجبنوا وتضعفوا والفشل في الأَصل: الخيبة والنكول عن إِمضاءِ الأَمر وأَكثر أَسبابه: الضعف والجبن ولذلك فسَّروه هنا بهما. {تَذْهَبَ رِيحُكُمْ}: تذهب قوتكم. {بَطَرًا}: طغيانًا وتجبرًا - والبطر في اللغة: الفخر والاستعلاء بنعمة الغنى أَو الرياسة أَو غيرهما، يعرف في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ. {رِئَاءَ النَّاسِ}: مرائين الناس. والرياء والمراءَاة: إِظهار العمل رغبة في ثناء الناس والإِعجاب به وهو محبط للأَعمال الأُخروية. {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}: رجع القهقرى، أَي تولى إِلى الوراء جهة العقبين، والمراد كف الشيطان عن وسوسته وذهب ما خيله من المعونة لهم. {جَارٌ لَكُمْ}: أَي مجير وناصر، والجار الذي يجير غيره أَي يؤمنه ممَّا يخاف. {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}: أَي خدع هؤلاءِ المسلمين دينهم، فظنوا أَنهم ينصرون به فأَقدموا على ما أَقدموا عليه مما لا طاقة لهم به. التفسير 45 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: ينادى الله - تعالى - المؤمنين مبيِّنًا لهم آداب الحروب في الإِسلام فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: بالله وبرسوله وبكتابه إِذا جاهدتم جماعة من الكفار فأثبتوا لقتالهم ولا تفروا أَمامهم، أَمَّا قتال المسلمين بعضهم لبعض فله حكم آخر مذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬1). {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: ¬

_ (¬1) سورة الحجرات الآيتان: 9، 10

أَي واذكروا الله - تعالى - عند لقاءِ العدو، بأَن تتذكروا نصرته للمؤمنين، فتتضرعوا إِليه كثيرًا، مع اليقين بأَنه لا يعجزه شىءٌ وذلك أَن تقولوا كما قال مَنْ قبلكم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). ثم ذكر الغاية من ذكره - سبحانه - فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَي رجاءَ أَن تظفروا بمرادكم من النصرة والمعونة على أَعدائكم. وكان رسول الله وأَصحابه يكثرون من الدعاءِ خصوصًا عند اللقاءِ. رجاءَ النصر من الله - تعالى - ولما أَمرهم الله تعالى بذكره ودعائه عند اللقاءِ، أَتبعه الأَمر بطاعة الله ورسوله وعدم التنازع لتتوفر لهم أَسباب النصر، فقال - سبحانه -: 46 - {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}: أَي واستجيبوا لأَمر الله ورسوله واعملوا به، فإِن طاعة القائد من أَهم أَسباب النصر. والاختلاف عليه يُفضى إِلى الهزيمة، فما ظنُّكم إِذا كان القائد رسول الله المنفذ لأَوامر الله فلا تختلفوا عليه ولا تتنازعوا فما بينكم، فتتفرق كلمتكم وتذهب قوتكم ودولتكم، وتجرى الأُمور على غير ما تريدون من النصر. {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}: أَي واصبروا على ما تكرهون وما تلاقون من بأْس العدو، إِن الله مع الصابرين بالعون والنصر. قال - تعالى - يمدح الصابِرين في الشدائد: {وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 250 (¬2) سورة البقرة (177)

47 - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}: أَي امتثلوا ما أُمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه، ولا تكونوا كأَعدائكم المشركين الذين خرجوا يوم بدر لنصرة العير ومعهم القيان والمغنيات، فأَتاهم رسول أَبي سفيان وهم بالجحفة أَن ارجعوا فقد سَلِمَتْ عِيرُكم. فأَبى أَبو جهل وقال: "والله لا نرجع عن قتال محمَّد حتى نَرِدَ بَدْرًا، فنشرب فيها الخمر، وتعزف علينا القيان، وننحر الجُزُرَ ونطعم بها من حضرنا من العرب" فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإِطعامهم. قال الزمخشرى: فوافوها فسُقُوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فنهاهم الله أَن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين الناس بأَعمالهم، وأَمرهم أَن يكونوا من أَهل التقوى مخلصين أَعمالهم لله. ثم ختمت الآية الكريمة بقوله: {وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}: أَي والله - وحده - محيط علمًا بجميع ما يعمله هؤلاءِ المشركون، من البطر والمراءَاة والصدِّ عن سبيل الله، والمكر والتدبير لإِحباط دعوة الرسول فيجازيهم عليه، وقد جازاهم في الدنيا بالقتل والأَسر وأَخذهم أَخذًا شديدًا بالهزيمة يوم بدر ولهم في الآخرة عذاب أليم لا نهاية له. وقد أَتبع الله تعالى هذه الآية، بيان ما أَصاب المشركين من الهزيمة، بعد تزيين الشيطان لهم بالنصر، واغترارهم بذلك فقال: 48 - {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}: أَي واذكر لهم يا محمَّد وقت أَن حسن الشيطان للمشركين أَعمالهم في معاداة الرسول، وبلغ به التزيين أَن قال: لا غالب لكم اليوم من المؤمنين وإنى معين لكم وناصر.

{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}: العقب: مؤخر القدم، ونكوصه على عقبيه، رجوعه إِلى الوراءِ، والمراد به بطلان كيده. والمعنى: فلما أَبصر كلٌّ من الفريقين الآخر، وقد رجحت كفة المؤمنين بإِمداد الملائكة لهم، بطل كيد الشيطان وتزيينه، بظهور عجزه عن نصرتهم وتبرئه منهم، وانتحاله العذر لنفسه في خلف وعده، وذلك ما يحكيه الله بقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ}: أَي إني برىءٌ من نصرتكم لأَننى أَرى من أَسباب نصرة المسلمين ما لا ترون. {إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: أَي إِنى أَخشى عقاب الله، والله شديد العقاب، ذكر الكشاف عن الحسن - رحمه الله -: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب فكاد ذلك يثنيهم فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الشاعر الكنانى - وكان من أَشرافهم - في جند من الشياطين معه راية. وقال: لا غالب لكم اليوم إِنى مجيركم من بني كنانة فلما رأَى الملائكةَ تَنْزل نكص. وفي موطأ مالك أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رأَى الشيطان نفسه يومًا هو فيه أَصغر ولا أَحقر ولا أَدحر ولا أَغْيَظَ منه في يوم عرفة، وما ذاك إِلا لِما رأَى من تنزل رحمة الله، وتجاوزه عن الذنوب العظام، إلا ما رأَى يوم بدر - قيل وما رأَى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أَما إِنه رأَى جبريل يَزَع (¬1) الملائكة". ثم ذكَّر الله المؤمنين بموقف المنافقين ليحذروهم فقال: ¬

_ (¬1) يزع الملائكة: أَي يصفهم ويغريهم، والوازع في الأصل الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر ويطلق أيضًا على الرادع الذي يزجر غيره.

49 - {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}: المنافقون: هم الذين أظهروا الإِيمان وأَبْطنوا الكفر. والذين في قلوبهم مرض: إِما المنافقون والعطف للتفسير، وإِما أَنهم قوم أَسلموا حديثًا, ولم تطمئن قلوبهم بالإِيمان, وإِما أَنهم المشركون لمرض قلوبهم. والمعنى: واذكر يا محمَّد حين يقول المنافقون ومرضى القلوب من هؤلاءِ أَو أُولئك، خدع هؤلاءِ المؤمنين دينهم، فخرجوا مع قلتهم وضعف استعدادهم لقتال المشركين مع كثرتهم وقوة استعدادهم، إِذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا, ولم تكن معهم أَسلحة كافية ولا إِبل ولا خيل إِلا قليلًا فقد خرجوا للقاءِ عير قريش، ولم يخرجوا لقتالهم كما تقدم بيانه، وكان عدد المشركين ثلاثة أَمثالهم. وقد جاءُوا مستعدين تمام الاستعداد لقتال المسلمين، فزعم المنافقون كما زعم مرضى القلوب أَن المسلمين خرجوا مغترين بدينهم ظانِّين أَنهم ينصرون به فيرد الله - تعالى - عليهم قائلًا: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أَي ومن يكل أَمره إِلى الله مؤمنًا بأَنه ناصره, ينصره الله فهو - سبحانه - يكفى المؤمنين ما أَهمهم، وينصرهم على أَعدائهم وإِن كثروا وعظم استعدادهم، وهو كذلك حكيم يضع كل أَمر في موضعه، على ما جرى عليه النظام والتقدير في سننه، ومنه نصر الحق على الباطل، وكثيرًا ما تدخل عنايته بالمتوكلين في باب الآيات وخوارق العادات. وكم لله من لطفٍ خفىّ ... يدق خفاه عن فهم الذكىِّ 50 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}: أَي ولو عاينت يا محمَّد وشاهدت حال هؤلاءِ الكفار حين تتوفاهم الملائكة ببدر وتنتزع أَرواحهم، وهم يضربون وجوههم عند اللقاءِ وظهورهم عند الفِرار، لشاهدت أمرًا فظيعًا يدل على شدّة ما أَصابهم من الخزى والعار والهزيمة. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: أَي تضرب وجوههم وظهورهم، وتقول لهم: ذوقوا عذاب اللهيب المحرق، والمراد بضرب وجوههم وأَدبارهم، ضربهم من كل ناحية.

51 - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}: ويقولون لهم أَيضا: ذلك العذاب الذي حل بكم بسب ما فعلتموه من الآثام، وأَن الله عادل في جزائه، وليس بظالم لعبيده، حين يعاقبهم على معاصيهم الَّتي حذَّرتهم منها رسلهم. جاءَ في الحديث القدسى: "يا عِبَادِى إِنَّى حَرَّمْتَ الظُّلْمَ عَلىَ نَفْسى، وَجَعلْتُه بيْنكُم مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا .. إِنَّما هِى أَعْمالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ فَمَنْ وَجَد خَيْرًا فَمِنَ اللهِ، وَمَنْ وَجَد غَيْرَ ذَلكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَه" أَخرجه مسلم. {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}. المفردات: {كَدَأْبِ} الدأْب: العادة التي يدأَب عليها الإِنسان ويعتادها. التفسير 52 - {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: المعنى: شأْن هؤلاءِ في عنادهم المستمر ومقاومتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشأْن آل فرعون والأُمم التي كانت قبلهم، في استمرارهم على كفرهم باللهِ ورسوله

إِذْ كذبوهم وعاندوهم وكفروا بآيات الله وعظيم الدلائل على قدرته ووحدانيته، فأَخذهم الله بسبب ذنوبهم وكفرهم، أَخذا شديدا، ثم أَكد ذلك وقواه وعلله فقال: {إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ}: غالب لا يغلبه أَحد. {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: لمن خرج عن طاعته وأَصر على كفره وعناده. 53 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: المعنى: ذلك العذاب الذي نزل وينزل بهم, بسبب أَنهم غيَّروا وبدَّلوا نعمة الله عليهم كفرا، فقابلوا الأَمن والعافية والسَّعة بالكفر والصدِّ عن سبيل الله، فبدَّل الله نعيمهم عذابا، والله لا يغيِّر نعمةً أَنعمها على قوم بنقمة، إلاَّ لأَنهم بدَّلوا نعمة الله عليهم كفرا، فوضعوه مكان الشكر. {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي ذلك الجزاءُ على كفرهم بسبب تبديلهم نعمة الله كفرا، وبسبب أَنَّ الله قوى السَّمع لِمَا يقولون محيط علمًا بما يعملون. 54 - {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}: قارىءُ هذه الآية يظن أَنها مكررة مع مثيلتها السابقة، والذي يبدو لنا أَنها لا تكرار فيها، فقد جاءَت الآية السابقة لبيان أَن عادة هؤلاءِ وأُولئك الكفر، أَما هذه الآية فقد أَفادت أَن الله تعالى غيَّر نعمته عليهم لأَنهم لم يغيِّروا ما هم فيه من التكذيب، بدليل قوله تعالى قبل هذه الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. فكأَنه قال عقبها: كدأَب آل فرعون. غير الله نعمته عليهم لمداومتهم التكذيب بآيات الله فأَهلكهم وانتقم منهم، فقوله تعالى في الآية الأُولى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} تفسير لدأْبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وقوله سبحانه في الآية الثانية: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} تفسير لدأْبهم الذي فُعِل بهم، من تغييره - تعالى - ما بهم من نعمته بإِهلاكهم، وأَما دأْب قريش في العقوبة، فمستفاد من تشبيههم بآل فرعون، والمقصود جنس العقوبة لا نوعها، فإن آل فرعون أُهلكوا بالإِغراق، أَما قريش فقد أُنذروا بعقوبة مطلقة، ويرى بعض المفسرين: أَنها مؤكدة ومقررة لِما أَفادته مثيلتها السابقة.

والمعنى: أَن أَمر كفار قريش، مثل ما اعتاده قوم فرعون والذين من قبلهم من الكفار، كذبوا بآيات ربهم المنزلة على رسلهم وبآياته الكونية، واستمروا على ذلك فأَهلكهم الله جميعًا بذنوبهم، وكان عقاب آل فرعون الإِغراق، وكل من هؤلاءِ الكفار المكذِّبين كانوا ظالمين: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ولسوف يعاقب الله أَشباههم من قريش إِن استمرُّوا على تكذيبهم, كما عاقب آل فرعون، فليسوا أَشد منهم قوة، ولا أَكثر جمعا. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ في سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}. المفردات: {الدَّوَابِّ}: جمع دابة وهي كل ما يدب على وجه الأَرض. {يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ}: أَي يفكُّونه، والمراد أَنهم لا يوفون له.

{تَثْقَفَنَّهُمْ}: تلقاهم وتجدهم. {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ}: فافعل بهم فعلا يخيف مَنْ وراءَهم ويشُرِّدُهم. والتشريد: التبديد والتفريق. {تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}: أَي تتوقع من قوم خيانة بنقض العهد ونكثه. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}: فاطرح إِليهم عهدهم على طريق سوى من العدل بأَن تخبرهم بذلك. {سَبَقُوا}: فاتوا وأَفلتوا من عقابنا. {لَا يُعْجِزُونَ}: لا يفوتون ولا يفلتون من عقاب الله بل هو قادر عليهم. {مِنْ قُوَّةٍ}: من كل ما يتقوى به في الحرب. {رِبَاطِ الْخَيْلِ}: المكان الذي ترابط فيه الخيل المعدَّة للقتال. {تُرْهِبُونَ}: تُخَوِّفون. {لَا تَعْلَمُونَهُمُ}: لا تعرفونهم بأَعيانهم أَو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة. التفسير 55 - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: نزلت الآيات في بني قريظة. عاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن لا يمالئوا عليه أَعداءَه فنكثوا بأَن أَعانوا مشركى مكة بالسلاح وقالوا نسينا وأَخطأَنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا مع الكفار يوم الخندق، وكان كعب بن الأَشرف قد انطلق إِلى أهل مكة قبل غزوة الخندق فحالفهم على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزو المدينة، فأَنزل الله هذه الآيات، ليبيِّن أَنهم شرّ من دب على وجه الأَرض في حكم الله وقضائه، لا شرُّ الناس فقط، وفي ذلك إِشارة إِلى أَنهم بمعزل عن الناس، فهم من جنس الدَّواب ومع ذلك فهم شرُّ من جميع أَفرادها، ومثله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}. والمعنى: إِن شر جميع ما يدب على وجه الأَرض، هم اليهود الذين كفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاءَ به، فهم مستمرُّون على عدم إِيمانهم به، مع قيام الحجة عليهم

وثبوت أَماراته في كتبهم، ثم استمر في بيان قبائح هؤلاءِ الكفار الموصوفين بأَنهم شرُّ الدواب فقال: 56 - {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}: بيَّنت هذه الآية الكريمة أَن هؤلاءِ اليهود الذين هم شر الدواب عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فغدروا, ثم عاهدهم فغدروا، وتكرَّر منهم نقض العهد في كل مرة، وهم لا يتقون الله، ولا يخشون عقابه لهم على نكث العهد، وما يجره عليهم من نكبات تحلُّ بهم. 57 - {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}: المراد من (ما) في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} التأْكيد، والمعنى: إِذا كان حالهم ما ذكر من نقض العهود، ففي أَي وقت أَو مكان تصادفهم وتظفر بهم في الحرب فشتِّت بقتالهم والتنكيل بهم مَنْ خلفهم من الناكثين للعهود، والمتربصين لقتال المسلمين، لعل الأَعداءَ من ورائهم يتعظون بما فعلت مع هؤلاءِ من حرب ونكاية وتشريد. 58 - {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}: المراد من لفظ (ما) في قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ} التأْكيد كسابقتها. والمعنى: وإِن خفت في أَي وقت، من قوم خيانة في عهد بينك وبينهم، بأَمارة تلوح لك كما ظهر من بني قريظة وبنى النضير, فاطرح إِليهم عهدهم وأَعلمهم بذلك وأَنه لا عهد بعد اليوم، ولتكن أَنت وهم في ذلك العلم وطرح العهد على سواءٍ، أَي مستويًا أَنت وهم في ذلك، لئلاَّ يتهموك بالغدر إِن أَخذتهم بغتة قبل أَن تبلغهم. ثم علل هذا الأَمر بقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}: أَي لا يرضى عن الغادرِين الذين يغدرون بمن كان في أَمانٍ وعهدٍ، هذا إِذا لم يتحقق نقضهم للعهد، وإِلاَّ حاربهم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقريش، حينما

نقضوا عهد الحديبية، حيث لم يوجه إِليهم من يعلمهم بنقض العهد، بل توجه بجيشه إِلى مكة حتى فتحها، دون سابق إِنذار بذلك، بل أَخفى قصده إِليها. ثم أَخبر أَن من أَفلت يوم بدر من القتل أَو الأَسر لن يعجز الله أَن يوقع به فقال: 59 - {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}: أَي: ولا يظنَّن الذين كفروا من قريش أَنهم سبقوا عقاب الله بأَن أَفلتوا ونجوا منه؛ كلاَّ إِنهم لا يعجزون الله في الدنيا والآخرة، فلسوف يذيقهم الله ذلّ الهزيمة والقتل والأَسر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة، خالدين فيها أَبدا، وفي الآية بشرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما يطمئن قلبه على مستقبل الدعوة الإِسلامية, وأَنها إِلى نصر وأَن أَعداءَه إِلى هزيمة، ثم أَمر الله - تعالى - بإِعداد العدة للقاءِ أَعداءِ الإِسلام حتى لا يؤخذ المسلمون على غرَّة وضعف فقال: 60 - {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}: أَي وأَعدوا لهؤلاءِ الكفار الناقضين للعهد، كل ما تستطيعون إِعداده لقتالهم، من أَنواع السلاح وأَدوات الدفاع، حسب المتقدم العلمى في جميع ما يتقوى به على العدو في الحرب، فكل ما يستعان به في الجهاد فهو من جملة القوة المأْمور بإِعدادها. ومن ذلك إِحكام التدبير، وتدريب الجنود على استعمال الأَسلحة، وتقوية الروح المعنوية، ببيان فضل الثبات والاستشهاد في سبيل الله. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}: رباط الخيل: هو المكان الذي ترابط فيه الخيل عند الحدود، ليحرس فرسانه الثغور، ويراقبوا العدو، وقد كان رباط الخيل في عهد نزول الآية الكريمة، أَهم الأَسباب لتحقيق ذلك، فلذا نص عليه فيها, ولكن الحروب تطورت، ورباط الخيل لا يكفى فلذا يعتبر ضربَ مثل لكيفية حراسة الثغور، والمناسب في عصرنا هذا هو إِقامة حصون

ثابتة، مزودة بأَحدث الأَسلحة والمناظير القوية البعيدة المدى، لإِحكام مراقبة تصرفات العدو عن بُعد، وتنبيه قيادة الجيش إِلى خططه، والمسارعة إِلى ردِّه إِن باغتهم، وأَمَّا تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقوة بقوله: "أَلاَ إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْى" كما رواه مسلم. فالمقصود به ما يعم الرمى بالسهام والنبال - كما كان ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - والرمى بالقنابل والصواريخ وغير ذلك مما يرمى به العدو لكسب المعركة منه. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}: أَي تُرهْبُون وتخيفون بما أَعددتم من أَسباب القوة, عدوَّ الله وعدوَّكم من الكافرين الذين يجاهرونكم بالعداوة، وترهبون به أَيضًا أَعداءً آخرين من وراءِ أُولئك المجاهرين، لا تعلمونهم لتستّرهم في عداوتهم، والله - تعالى - يعلمهم، ويعلم ما انطوت عليه جوانحهم، ولا شك أَن العدو المجاهر والمستخفى إِذا عرف قوة استعدادنا الحربى فإِنه يجبن عن قتالنا، وأَن يجرب حظه في الهزيمة منا. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ في سَبِيلِ اللهِ}: أَي وأَى شيءٍ تقدمونه من مال قل أَو كثر في إِعداد الجيوش ومراعاة أُسرهم بما يحتاجون إِليه. {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}: أَي تعطون جزاءَه وافيًا من الله - تعالى -: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}: أَي وأَنتم لا تنتقصون شيئًا من ثواب أَعمالكم مهما قلت وقد جاءَ في فضل تجهيز الغزاة في سبيل الله أَحاديث كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من جهَّز غازيا فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيا في أَهله بخير فقد غزا" رواه البخاري أَي أَن تجهيز الغازى أَو رعاية أَهله من ورائه يعتبر في الثواب كالجهاد في سبيل الله تعالى، وثواب الجهاد شىءٌ عظيم.

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}. المفردات: {جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}: مالوا إِلى المسالمه والصلح. {فَاجْنَحْ لَهَا}: فصل إِليها. {يَخْدَعُوكَ}: يظهروا لك السلم ويبطنوا الغدر والخيانة. {حَسْبَكَ اللهُ}: كافيك الله. {أَيَّدَكَ}: قواك. {أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: جمع بين قلوب الأَوس والخزرج. التفسير 61 - {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: يقول الله سبحانه وتعالى: وإِن مال الذين يحاربونك من الكفار إِلى المسالمة ونبذ الحرب، بالدخول في الإِسلام أَو المهادنة أَو المصالحة, فاجنح لما جنحوا إِليه من السلام، وعاهدهم عليه، وتوكل على الله وفوض أَمرك إِليه فهو وحده الذي يستطيع أَن ينصرك ويحفظك من خياناتهم، على أَن يقترن ذلك بالحذر منهم. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أَي إِنه تعالى هو العظيم السمْع لكل مسموع، الواسع العلم لكل معلوم، ومن ذلك أَقوالكم وأَقوالهم وأَعمالكم وأَعمالهم من وفاءٍ وغَدْر، والآية أَصل عظيم من أُصول الإِسلام فهو دين سلام لا حرب، سلام لمن سالمنا حرب لمن حاربنا أَو مكر بنا.

62 - {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ}: يقول الله سبحانه وإِن يريدوا أَن يخدعوك بجنوحهم إِلى السلم ظَاهرًا، فلا تخف من إِبطانهم المكر والخديعة، فإِن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم, ومن تولى الله كفايته وحفظه لا يضره شيء. {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}: أَي هو الذي قضى بأَن يؤيدك بنصره في حربك معهم، ويؤيدك بالمؤمنين من الأَنصار والمهاجرين ونفَّذَ ما قضى به وحقَّقَه. 63 - {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: إِذ أَلف بين قلوب الأَوس والخزرج من الأَنصار، وقد كانت الحرب سجالا بينهما فكان تأْليف قلوبهم وجمعها من آيات الله الكبرى. كما أَلف بالإِيمان بين قلوب المؤمنين من الأَنصار والمهاجرين، وجعلهم حربًا على أَعدائك، حتى قاتَل الرجل أَباه وأَخاه بسبب الدين، ثم بين عظم هذه الآية فقال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}: أَي: لو جمعت يا محمَّد ما في الأَرض من مال وأَنفقته في سبيل جمع قلوبهم على كلمة واحدة، ما ألفت بينهم ولكن الله أَلف بينهم بفضله وكرمه، لأَن قلوبهم بين يديه يقلبها كيف يشاء، فلذا نزع ما في قلوبهم من غل وحقد، وملأَها حبًّا ورحمة ومودة وعطفًا، فأَصبحوا بنعمة الله إِخوانًا. {إِنَّهُ عَزِيزٌ} غالب لا يعجزه أمرٌ أَراده. {حَكِيمٌ} لا يخرج شيء عن حكمته، وإِذا كان الله تعالى قد أَكرمك؛ بالنصر في بدر وتأْليف قلوب المؤمنين، فلا تخف من خديعتهم لك إِن جنحت لمسالمتهم بعد أَن يجنحوا لها، فإِنه تعالى سيحفظك من مكرهم وخداعهم. ثم نزل في بدر بالبيداء قبل بدء القتال في غزوة بدر.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}. المفردات: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}: حثهم وحضهم. {لَا يَفْقَهُونَ}: لا يدركون ولا يفهمون. التفسير 64 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: المعنى: يأَيها النبي كافيك الله تعالى ومن معك من المؤمنين في تحقيق النصر الذي وعدك به على أَعدائك المخادعين. والآية وما بعدها رفع لروح المؤمنين المعنوية بالوعد بتأْييد الله لرسوله عند الجهاد. 65 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}: بعد ما بين الله كفايته إِياهم بالنصر، أَمر نَبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بترتيب مبادئ نصره وإِمداده.

والمعنى: يأَيها النبي رغِّب المؤمنين في القتال وسهل لهم مشقته ببيان فائدته وعظيم أَثره من الفوز أَو الشهادة. ثم قال تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}: يعني: أن الله معكم بنصره وعونه ولو قل عددكم وضعفت عدتكم: فإِن وجد منكم عشرون صابرون عند لقاء العدو فيهم قوة وشجاعة يغلبوا مائتين من الكفار، لأَنهم وإِن كثروا فلا قوَّة لهم، لأَنهم يحاربون للدنيا لا للآخرة، وللطاغوت لا لمالك الملك والملكوت. {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: وهذا وما قبله خبر بمعنى الأَمر أَي ليقاتل العشرون منكم مائتين والمائة الأَلف ثم علل هذا الأَمر بقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}: أَي ما ذكر من كفاية الواحد منكم لعشرة منهم، بسبب أَنهم جهلة بالله واليوم الآخر، فهم لا يقاتلون احتسابًا وامتثالا لأَمر الله تعالى وإِعلاءً لكلمته وابتغاءَ رضوانه كما يفعله المؤمنون طالبين الفوز أَو الشهادة، وإِنما يقاتل أولئك الكفار لحمية الجاهلية، واتباع خطوات الشيطان فلا تثبت أَقدامهم في القتال أَمامكم - مع قلتكم وكثرتهم - ثم لما شق ذلك على المسلمين خفف الله عنهم فقال: 66 - {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}: بين الله في الآية السابقة أَنه أَوجب على المسلمين أَن يثبت الواحد منهم لعشرة، لقوة الواحد بالإِيمان، وضعف العشرة بالكفر، ولما شق ذلك عليهم خفف عنهم بما جاءَ في هذه الآية من وجوب ثبات الواحد لاثنين. والمعنى: الآن خفف الله عنكم إِيجاب ثبات الواحد لعشرة، وقد علم أَن فيكم ضعفا يستوجب التخفيف، فإِن يكن منكم مائة صابرة عند اللقاءِ ثابتة في محاربة الأَعداء مطمئنة إِلى نصر الله للصابرين، فإِنهم يغلبون مائتين من الأَعداء، وإِن يكن منكم أَلف صابرون يغلبوا أَلفين، بالنصر والمعونة الإِلهية.

فإِن قلت: قد علم الله ضعف المؤمنين في الحالين، فلماذا أَوجب اللهِ عليهم أَولًا الثبات لعشرة أَمثال من الكفار، ثم عاد فخفف عنهم بإِيجاب الثبات لمثلين. فالجواب: أَن الضعف وإِن كان موجودًا في الحالين، لكن الأَعداءَ كانوا شديدى الطمع - أَولا - في المسلمين لقلتهم، فلما ثبتوا لهم وهم عشرة أَمثالهم، وقهروهم وظهرت قوتهم عليهم مع قلتهم، تفضل الله فخفف عنهم، فقد نصروا بالرعب وآن أَوان التخفيف عنهم؛ ومع هذا يجب على القائد أَن يقدر الموقف، ويفعل ما فيه المصلحة، فإِن كانت في الثبات وجب الثبات، وإِن كانت في الانسحاب لترقب فرصة أَفضل فله أَن يتخذ القرار الملائم. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ في أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}. المفردات: {أَسْرَى}: جمع أَسير وهو من يؤخذ في الحرب حيًّا، وتُشَدُّ يده بالإِسار وهو القيد.

{يُثْخِنَ في الْأَرْضِ}: أَي يبالغ فيها بالقتل والجرح حتى تظهر شوكة المسلمين وقوتهم. {عَرَضَ الدُّنْيَا}: حطامها - سمى عرضا لسرعة زواله. {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}: أَي لأَصابكم بسبب ما أَخذتموه من الفدية. {خِيَانَتَكَ}: أَي الغدر بك بنقض العهد. {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}: لأَقدرك عليهم قتلًا وأَسرًا. التفسير 67 - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ .... } الآية. سبب نزول هذه الآية: أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، استشار أَصحابه في أَسارى بدر بعد انتهاء وقعتها, فقال أَبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله: أَهلك وعشيرتك فَمُنَّ عليهم بالفداء، وقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله: لقد آذوك وأَخرجوك فاقتلهم فإِنهم أَئمة الكفر، فأَخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأى أَبي بكر وأَطلق سراحهم في مقابل فدية من كل واحد منهم، فنزلت الآية، وظاهرها أَنها عتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين الذين وافقوا على قبول الفدية، ولكن المقصود بها الإِيذان باستحقاق أولئك الأَسرى أَن يقتلوا بسبب موقفهم من الدعوة الإِسلامية ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بمكة وبعد الهجرة، وأَنهم ليسوا أَهلا لهذه المنَّة التي مَنَّ بها عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: ما ينبغي لنبى ومن معه من المؤمنين، أَن يستبقوا الأَسرى أَحياءً، قبل أَن يثخنوا في الأَرض ويغلظوا فيها بقتل الأَعداء، حتى تتربى المهابة في نفوس المشركين وكان هذا مشروعًا في أَول فرض الجهاد، ثم أَنزل الله تعالى بعد ذلك: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.

وبهذه الآية شرع الفداء للأَسرى بعد أَن ذاق المشركون بأْس المؤمنين وعرفوا قوتهم، ووقر في قلوبهم الرعب منهم. {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أَي: تريدون أَيها المؤمنون عرض الدنيا وحطامها بأَخذ الفداءِ والرضا به، والله يرضى لكم الآخرة أَي ثوابها بقتلهم، إِعزازًا لدين الله بتخويف المشركين وإِذلالهم بالقتل، والله غالب عظيم الحكمة، ولذلك دعاكم إِلى ما فيه عزتكم وذل أَعدائكم. 68 - {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: لولا قضاء مكتوب من الله سبق بأَنه لا يعذب قومًا حتى يبين لهم ما يتقون من المحاذير، لأَصابكم بسبب ما أَخذتم من فداء الأَسرى عذاب عظيم. 69 - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: روى أَنهم أَمسكوا عن الغنائم، ولم يمدوا أَيديهم إِليها حتى نزلت الآية لتبيح لهم الغنائم، وقد كانت الغنائم لا يحل أَخذها لأَحد قبل هذه الآية. فلما نزلت أَباحت لهم أَخذ الغنائم، والانتفاع بها أَكلا وغير أَكل، وإِنما عبر بلفظ الأَكل لأَنه المقصود المهم. {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي وخافوا الله في أَمركم كله، فإِنكم إِذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم. 70 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ في أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ في قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي: يأَيها النبي قل لمن وقع في أَيديكم من الأَسرى إِن يعلم الله في قلوبكم خيرًا وحبًّا للدين وخلوصَ إِيمانٍ ونيَّة. يؤتكم في الدنيا والآخرة خيرًا مما أُخذ منكم من الفداء ويغفر لكم ما فرط منكم من الذنوب، والله تعالى عظيم الغفران والرحمة. 71 - {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}:

أَي: وإِن يُرِدِ الأَسرى خيانتك حينما وعدوا أَن لا يحاربوك ولا يعاونوا عليك أَحدًا من المشركين, فقد خانوا الله من قبل بدر بالكفر، فأَمكنك منهم في بدر فليتوقعوا مثل ذلك إِن عادوا إِلى خيانتهم لله ورسوله، والله عليم بخلقه، حكيم في صُنعِه، ثم تحدث القرآن عن الروابط بين المهاجرين والأَنصار ومن تصح موالاتهم ومن لا تصح فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}. المفردات: {آوَوْا}: أَي آووا المهاجرين في المدينة وأَسكنوهم.

{مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}: أَي ما لكم من توليهم في الميراث وإِن كانوا من أَقرب أَقاربكم حتى يهاجروا. {تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ}: تحصل فتنة بظهور الشرك. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: في الجنة. {فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}: أَي من جملتكم أَيها المهاجرون والأَنصار. {أُولُو الْأَرْحَامِ}: أَصحاب القرابات. التفسير 72 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} الآية. المعنى: إِن الذين آمنوا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهاجروا من مكة إِلى المدينة فرارًا بدينهم، وبذلوا أَموالهم ونفوسهم في سبيل الله دفاعًا عن الدين بقتال أَعدائه. والذين آوَوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين من أَهل المدينة، فأَسكنوهم منازلهم، وبذلوا لهم أَموالهم، وآثروهم على أَنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ونصروا دين الله بنصرة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: أَي أُولئك المهاجرون والأَنصار بعضهم أَولياءُ بعض في الميراث، وكان المهاجرون والأَنصار, يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأَقارب (¬1)، حتى نزل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فتوارثوا بالقرابة مع الإِسلام، ونسخ التوارث بالهجرة والمؤاخاة، وكان الأَنصار يؤثرون المهاجرين على أَنفسهم ولو كان بهم خصاصة، كما كانوا يتعاونون معهم في نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في أَن ذلك كله كان فيه عز الإِسلام ومجد المسلمين. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}: ¬

_ (¬1) أَي دون الأقارب الذين لم يهاجروا أو كانوا مشركين.

والذين آمنوا باللهِ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأَقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة ولم يلحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشتركوا مع المؤمنين المهاجرين والأَنصار في نصر الدين وحرب الكافرين ما لكم شيء من توليهم، فلا إِرث بينكم وبينهم - أَيها المهاجرون والأَنصار - وإِن كان بينكم وبينهم قرابة حتى يهاجروا، والحكمة في عدم التوارث بينهم مع قرابتهم. إِيثار المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأَنصار عليها, لما كان لها من أَثر بعيد في عز الإِسلام والمسلمين. {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}: المعنى: أَن المؤمنين الذين لم يهاجروا من أَهل مكة إِن استنصروكم في الدين يجب عليكم أَن تنصروهم على أَعدائهم، ما لم يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم معاهدة سلام، فلا تعينوهم حتى لا تنقضوا العهد الذي بينكم وبين الكفار، وهذا ما حدث في صلح الحديبية، فقد حافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على عهدهم معهم، وردوا من لجأَ إِليهم من المسلمين الذين كانوا بمكة قبل صلح الحديبية. {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: فلا تخالفوا أمره حتى لا يحل بكم عقابه. 73 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}: المعنى: والذين كفروا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بعضهم أَولياءُ بعض في الميراث، فلا يرثهم المسلمون، ولا يرثون المسلمين، كما أَنهم أولياءُ بعض في المؤازرة والنصرة, فلا تستعينوا بهم - أَيها المؤمنون - فإِنهم لا يوالونكم ولا يحبون الخير لكم، وإِنما يوالى بعضهم بعضا، فكونوا على حذر منهم. {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ في الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}: أَي: إِلا تفعلوا ما أَمرتكم به من التناصر والتوارث والتواصل والتعاون، وقطع الصلات بينكم وبين الكفار حتى تجعلوا قرابتهم كلا قرابة، إِلا تفعلوا ذلك كله، تحصل

فتنة في الأَرض وفساد كبير، لظهور الشرك وغلبَته, لأَن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على أَعدائهم، طمع فيهم أولئك الأَعداء واستولوا على ديارهم، كما حدث في الحقبة التي غفل فيها المسلمون عن موالاة بعضهم لبعض، واتخذوا أَعداءَهم أولياءَ لهم. 74 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: المعنى: والذين آمنوا بالله ورسوله وهاجروا من وطنهم وجاهدوا أعداء الإِسلام في سبيل طاعة الله ونصرة دينه، والذين آووا رسول الله والمهاجرين وأنزلوهم في ديارهم. ونصروهم على من أَخرجوهم من وطنهم، أُولئك هم المؤمنون المستكملون لعناصر الإِيمان حقا لأَنهم حققوا من إِيمانهم مقتضاه، من هجرة الوطن ومفارقة الأَهل، والانسلاخ عن الأَموال لأَجل الدين، كما حقق الأَنصار نصرة النبي وإِيواءَه والمهاجرين في بيوتهم. وقد ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وعدا سخيًّا من الله لهم على ما تقدم من صفاتهم، والمراد من الرزق الكريم، الثواب الجزيل الذي ينعمون به في رياض الجنة، أَكلا وتفكها من غير منة ولا تبعة ولا مسئولية، ويلاحظ أَن هذه الآية ليست متكررة مع ما قبلها، فإِن هذه للثناء عليهم والشهادة بفضائلهم, مقترنة بالوعد الكريم بالمغفرة والرزق الكريم، أَما تلك فهي للأَمر بالتواصل والتوارث والنصرة بينهم. 75 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}: أَي: والذين آمنوا وهاجروا من بعد هجرة الرسول إِلى المدينة، كالذين هاجروا بعد بيعة الرضوان في الحديبية، ثم جاهدوا معكم فهؤلاءِ من جملتكم أيها المهاجرون، فلهم مثلكم حق النصر والموالاة، وقد رفع عنهم إِثم التأَخر في الهجرة. وبقى وجوب الهجرة على المسلمين حتى فتحت مكة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" وهذا عندما يكون المسلم آمنا على عقيدته، فإِن خاف الفتنة وجبت عليه الهجرة إِلى مكان يأمن فيه على نفسه وأَهله ودينه وماله.

سورة التوبة

{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللهِ}: أَي: وأَصحاب القرابات، بعضهم أَحق ببعض في التوارث بالقرابة، وبذلك النص انتهى حكم التوارث بالمؤاخاة والحلف والمعاهدة والتبنى وثبت حكم التوارث بالقرابة. {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: أَي أَن علمه تعالى محيط بكل شيء وفي جملة ذلك امتثال المؤمنين وتنفيذهم أمر الله، بالتوريث بالقرابة، أَو مخالفتهم له، فيثيب الأوَّلين ويعاقب الآخرين. سورة التوبة مقدمة سورة التوبة من السور المدنية، إلا الآيتين الأَخيرتين منها فهما مكيتان على الراجح وتشتمل على تسع وعشرين ومائة آية. قال ابن كثير: هذه السورة من أَواخر ما نزل من القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أَخرجه البخاري عن أَبي إِسحق قال: سمعت البراءَ يقول آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ}. وآخر سورة نزلت "براءَة" وقد جاءَ ترتيبها في المصحف بعد الأَنفال لما يلى: 1 - أَن في سورة الأَنفال حثا على الوفاءِ بالعهود وفي سورة التوبة دعوة إلى نبذها مع الكفار الناكثين لها. 2 - أَن الأَنفال قد اختتمت بفرض الموالاة بين المؤمنين وأَن التوبة قد بدئت بوجوب قطعها بينهم وبين الكفار. 3 - أَن التوبة تشتمل على تفصيل كثير للإِجمال الذي جاءَت به الأَنفال. 4 - أَن كلتا السورتين نزلتا في القتال، وأَنهما دعامتا النظام العسكري في الإِسلام، وفيهما تقرير لأصول إِسلامية كثيرة. ودعوة إِلى تكوين المجتمع الإِسلامى المعتمد على القوة، والاستعداد العسكري القائم على الإِيمان والعلم والطاعة، والحرص على تحمل

المسئولية, والمحافظة على الأَمانة والإِخلاص، وبذل المال في سبيل الله، ومحاربة النفاق والمنافقين. وسمّيت هذه السورة "سورة التوبة": لما فيها من توبة الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأَنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، وعلى الثلاثه الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك - وسيأْتى بيان ذلك. وفي التوبة تحديد لعلاقة المسلمين بأَعدائهم في آخر عهد النبوة وكانوا ثلاث طوائف: 1 - طائفة مشركى العرب، وقد دعت السورة إلى نبذ عهود الذين لم يوفوا عهودهم منهم وأُمهلوا فيها أَربعة أَشهر يسيحون في الأرض. كما دعت إِلى الوفاءِ بالعهد إِلى مدته مع الذين لم ينقضوا عهودهم، لتخلص جزيرة العرب للمسلمين وحدهم، حتى تكون كلمة الله هي العليا في مشرق الإِسلام. 2 - أَهل الكتاب الناكثين لعهودهم فعلا، ومن قامت الأمارات القوية على أَنهم بصدد خيانتها ونكثها، وقد أَمَر الرسول بقتالهم حتى يخضعوا ويدفعوا الجزية. 3 - المنافقين وقد فضحوا في هذه السورة وكشفت أَسرارهم، وأُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بجهادهم والحذر منهم والإِعراض عنهم. وجملة القول: أَن الله - تعالى - أَعلن في سورة التوبة وجوب انتهاءِ الشرك من الجزيرة العربية، وحرب أَهل الكتاب وقتالهم إِن لم يؤمنوا أَو يدفعوا الجزية. وتحدث عن الذين جاهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ومنزلتهم في الدنيا والآخرة، وعن الذين تخلَّفوا عن الغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظم جريمتهم، ثم توبة الله على ثلاثة منهم اعترفوا بزلتهم وأَحسنوا التوبة منها. وحارب النفاق حربا شديدة تماثل حربه للشرك أَو تزيد، كما بين الله فيها منزلة الشهداءِ ومكانتهم عند الله، ودعا إِلى تعلم العلم وجعل طلبه فريضة.

وقد ختم الله سورة التوبة ببيان حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المؤمنين, ووجوب الإِقبال على الإِسلام وعدم التولى عنه. وتسمى هذه السورة بأَسماءٍ أُخرى. منها: سورة براءَة. وسورة العذاب. وسورة الفاضحة لأَنها فضحت المنافقين، وكشفت نفاقهم الذي أجهدوا أَنفسهم في إِخفائه, إِلى غير ذلك من أَسمائها. {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا في الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}. المفردات: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}: المراد من البراءَة قطع العهد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين الناكثين للعهد من المشركين. {عَاهَدْتُمْ}: عاقدتم.

{فَسِيحُوا في الْأَرْضِ}: فسيروا فيها أَحرارا. {غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ}: أَي غير مفلتين من انتقامه. {مُخْزِي الْكَافِرِينَ}: مذلُّهم في الدنيا والآخرة. {وَأَذَانٌ}: الأَذان، الإِعلام بأَمر مهم، وشاع إِطلاق الأَذان على النداءِ للصلاة. {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}: المراد به يوم عيد النحر وقيل، يوم عرفة. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: أَي وأَنذرهم بعذابه فإِن التبشير كما يستعمل كثيرًا في الإِخبار بما يسرُّ، يستعمل قليلًا في الإِخبار بما يسوءُ، لغرض الإِهانة والتحقير. {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ}: أَي ولم يعينوا عليكم ... التفسير 1 - {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: انفردت سورة التوبة بترك البسملة في أَولها، دون باقى سور القرآن، لأَنها بدئت بالبراءَة من المشركين الناقضين لعهودهم وإِنذارهم، والبسملة فيها رحمة لا تلتقى مع هذا الإِنذار. روى أَنه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى تبوك، جعل المشركون ينقضون العهود التي كانت بينهم وبين رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِلا بعض القبائل، منهم بنو ضَمْرة وبنو كنانة، فأَمره الله بنبذ عهود الناكثين، وأُمهلوا أَربعة أَشهر يسيرون في الأَرض أَحرارًا كيف شاءُوا. والمعنى: براءَة صادرة من الله أَمرًا، ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - تبليغًا إِلى المشركين، الذين خانوا عهودهم ونقضوها. والمقصود من هذه البراءة، إِنهاء حكم الأَمان الذي تتضمنه هذه العهود بسبب سبق المشركين إِلى نكثها. 2 - {فَسِيحُوا في الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}:

أَي فسيروا في الأَرْض آمنين على أَنفسكم من قتال المسلمين مدَّة أَربعة أَشهر، لا تتعرضون للإِيذاءِ فيها، واعلموا أَنكم غير معجزى الله بسياحتكم في الأَرض أَو قتالكم المسلمين، وأن الله مخزى الكافرين في الدنيا بالهزيمة، وفي الآخرة بسوءِ العذاب. وقد عُلِم من الآية الكريمة أَن الناكثين لعهودهم يمهلون أَربعة أَشهر، سواء أَكانت مدتهم كذلك، أَم أقل منها أَم أَكثر، وابتداء هذا الأَجل من يوم الحج الأَكبر، وانقضاؤه بعد تمام أَربعة أَشهر كوامل. 3 - {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}: أَي وإِعلام من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الناس كافة مسلمهم وكافرهم في يوم الحج الأَكبر، أَن الله برىءٌ من عهود المشركين الناكثين، وأَن رسوله - صلى الله عليه وسلم - برىءٌ منهم كذلك (¬1)، والمراد بيوم الحج الأَكبر يوم النحر، أَما العمرة فهي الحج الأَصغر، وقد تولى إِبلاع هذا الإِعلام أَبو بكر وعلى - رضي الله عنهما -، كما رواه البخاري وغيره، وخلاصة تلك الروايات أَنه - صلى الله عليه وسلم - أَمَّر أَبا بكر - رضي الله عنه - على موسم الحج سنة تسع، ثم أَتبعه عليا - رضي الله عنه - على ناقته العضباء، ليقرأَ صدر سورة التوبة على أَهل الموسم، فقيل له عليه الصلاة والسلام: لو بعثت بها إِلى أَبي بكر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤَدِّى عَنِّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنِّي" وذلك لأَن عادة العرب أَن لا يتولى أَمر العهد والنقض على القبيلة إِلا رجل منها، فلما قَرُبَ عَلىٌّ سمع أَبو بكر صوت ناقة مقبلة فقال هذا رغاءُ (¬2) ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما لحقه علىٌّ قال له أَبو بكر: أَمير أَم مأْمور، قال بل مأْمور، ومضيا، فلمَّا كان قبل يوم التروية خطب أَبو بكر - رضي الله عنه - وحدثهم عن مناسك الحج، وقام على - رضي الله عنه - يوم النحر عند جَمْرَة العقبة فقال: يأَيها الناس إِنى رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِليكم فقالوا بماذا؟ فقرأَ عليهم ثلاثين أَو أَربعين آية من أَول سورة التوبة ثم قال: أُمرت بأَربع: أَن لا يقرب ¬

_ (¬1) ولا تكرار بين ما جاء في هذه الآية، وما جاء في الآية الأولى، فإن الأولى فيها إخبار بثبوت البراءة من الناكثين لعهدهم وأما هذه ففيها وجوب إعلام جميع الناس بذلك، ولم يخصه بالمعاهدين. (¬2) الرغاء: صوت الإبل.

البيت بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إِلا كل نفس مؤمنة، وأَن يُتَمَّ إِلى كل ذى عهد عَهْدُه. والمقصود من براءَة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين الناكثين لِعهودهم، هو مقابلتهم بمثل ما فعلوا، وذلك بقطع عهودهم بعد مهلة أَربعة أَشهر، يتدبرون فيها أَمرهم، حتى لا يؤخذوا على غِرَّة, ولكى يكون لديهم وقت كاف في التدبر في قبول الإِسلام - وترك الشرك. {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ}: أَي فإِن رجعتم خلال هذه المهلة عمَّا أَنتم فيه من الشرك وسائر المعاصي، فرجوعكم هذا أَنفع لكم في دنياكم وأُخراكم، وإِن أَعرضتم عن الإِيمان، وآثرتم البقاءَ على ما أَنتم عليه من الشرك وآثامه، فاعلموا أَنكم لا تعجزون الله عن الانتقام منكم، فهو قادر عليكم وقاهر لكم. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: أَي وأنذر يا محمَّد أُولئك الذين كفروا بالإِسلام وعادَوْه ووقفوا له بالمرصاد، أَنذرهم بعذاب شديد الإِيلام في الدنيا بالقتل والخزى والنكال، وفي الآخرة بالمقامع والأَغلال. والتعبير بالتبشير عن الإِنذار, لغرض التهكم والسخرية بمن يتولى عن الإِيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع وضوح الحق في جانبه. كما أَن العدول عن خطابهم بالوعيد، إِلى تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه إياهم، يشعر أُولئك المنذَرِين بأَن الوعيد أَمر تقرر نزوله بهم ولا بد منه، إِلى جانب إِيلامهم بالإِعراض عنهم. 4 - {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا ... } الآية. أَمر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أَن ينبذ المسلمون عهود المشركين، وجاءَت هذه الآية، لتبين أَن هذا النبذ ليس عامًّا لهم جميعًا، بل هو خاص بأُولئك الذين تلاعبوا بعهودهم، وظاهروا على المسلمين.

والمعنى: ولا تمهلوا الناكثين لعهودهم فوق أَربعة أَشهر، لكن الذين عاهدتموهم، ثم لم ينقصوكم شيئًا مما عاهدوكم عليه، ولم يعينوا عليكم أَحدًا من أَعدائكم، فلا تعاملوهم معاملة الناكثين لعهودهم, بالمسارعة إِلى قتالهم بعد هذه المهلة المضروبة للناكثين، بل أَتموا إِليهم عهدهم مهما كانت مدتهم، وقد ختم الله الآية بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}: للتنبيه على أنَّ عدم مراعاة حقوق العهد مع الوفى ولو كان مشركًا ليست من التقوى في شيءٍ. والآية تدل على أَن الوفاءَ بالعهد من فرائض الإِسلام، ما دام العهد معقودًا، وعلى أَن العَهْدَ المؤقت لا يجوز نقضه إِلا بانتهاءِ وقته، وأَنَّ شرط وجوب الوفاء به علينا أَن يحافظ العدو عليه بحذافيره فإِن أَخل بشىء منه أَو عاون أَحدًا من الأَعداءِ ضدنا وجب نبذ عهده. {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}. المفردات: {انْسَلَخَ}: انقضى. {وَخُذُوهُمْ}: وَأْسِرُوهم، والأَخيذ؛ الأَسير. {وَاحْصُرُوهُمْ}: وضيقوا عليهم وامنعوهم من الإِفلات. {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: وراقبوهم في كل مكان يرى فيه تحركهم، حتى تمنعوهم من التجمع ضدكم، أَو الفكاك منكم.

{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}: أَي فاتركوهم أَحرارًا. {اسْتَجَارَكَ}: أَي سأَل جوارك ليكون في حماك وأَمانك. {فَأَجِرْهُ}: أَي فأَمَّنْه. التفسير 5 - {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... } الآية. المراد بالأَشهر الحرم، الأَشهر الأَربعة التي أُبيح للمشركين الناكثين لعهدهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَن يسيحوا فيها في الأَرض آمنين، وجعلت حُرُمًا لأَن الله حرم قتالهم فيها، وقد علمت من قبل أَنها بدأَت من يوم النحر. والمعنى: فإِذا انقضت الأَشهر الأَربعة التي حرم فيها قتال المشركين الناكثين العهودهم - لعلهم يثوبون فيها إِلى رشدهم - فاقتلوهم حيث وجدتموهم في حل أَوحرم، لإِصرارهم على الخيانة والشرك. {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}: وَأْسروهم وضيقوا عليهم، وترصدوا لهم في كل مكان لئلا ينتشروا في البلاد. ويستثنى من هؤلاءِ النساءُ والرهبان والشيوخ والصبيان والضعفاءُ فهؤلاءِ لا يتعرض لهم بقتل ولا تضييق إِلا إِذا عاونوا أُولئك الناكثين. {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أَي فإِن رجعوا عن الشرك فأَسلموا وأَقاموا الصلاة بشروطها في أَوقاتها، وأَدُّوا الزكاة لمستحقيها، برهانًا على صدق توبتهم وإِيمانهم، فخلوا سبيلهم ولا تتعرضوا لهم بشىءٍ مما تقدم، إِن الله عظيم الغفران والرحمة، فلهذا يقبل توبتهم من الغدر والكفر. وقد جاء بمعنى هذه الآية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ الله وَيُقيمُوا الصَّلاة ويُؤتوُا الزَّكاة" الحديث. أَخرجه الشيخان. وقد استند أَبو بكر - رضي الله عنه - إِلى الآية والحديث فحارب مانعى الزكاة.

6 - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ... } الآية. أَي وإِن أَحد من المشركين طلب جوارك ليكون في حماك وأَمانك، فأَجبه إِلى طلبه حتى يسمع كلام الله، أَي القرآن تقرؤه عليه، وتذكر له شيئًا من أَمر الدين تقيم به عليه حجة الله، ثم أَبلغه مكان أَمنه إِن لم يسلم. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي أَنَّ تأْمينهم وإِسماعهم كلام الله بسبب أَنهم قوم يجهلون حقيقة الإِيمان وما تدعوهم إِليه، فلا بد من تمكينهم من ذلك ببذل الأَمان لهم، حتى يزول عذرهم وتقوم لك الحجة عليهم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} ... الآية. والآية تظهر سَماحة الإِسلام وحرصه على السلام وتهيئة أَسباب الوصول إِلى الحق في غير إِكراه ولا إِعْنَاتٍ، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}. المفردات: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ}: فما وفوا بعهدهم لكم. {يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}: يغلبوكم. {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}: لا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدًا.

التفسير 7 - {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... } الآية. هذه الآية الكريمة شروع في بيان الحكمة في البراءَة من عهود المشركين بعد أَن نكث بعضهم عهودهم، والغرض من الاستفهام (بكيف) استبعاد أَن يكون لهم عهد مع الله ورسوله ولا ينقضوه مع أَن صدورهم مليئة بكراهية المسلمين، أَو استبعاد أَن يفى الله ورسوله بالعهد وهم ناكثوه. والمعنى على هذا: كيف يوجد لهؤلاءِ المشركين عهد معتد به عند الله وعند رسوله يستحق أَن تراعى حقوقه، ويحافظ عليه إِلى إتمام المدة؟ لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فتربصوا بهم، وانظروا أَحوالهم، وعاملوهم حسب تصرفهم، والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام، لزيادة بيان أَصحابها (¬1)، والإِشعار بسبب توكيد احترامها وتنفيذها. {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}: فَأَىَّ وَقْتٍ استقام أُولئك المشركون الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام، وكانوا أَوفياء بمعاهدتهم، فاستقيموا لهم بإِتمام عهدهم إِلى مدتهم، فإِن هذا من التقوى، والله يحب المتقين. 8 - {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ... } الآية. في تكرار الاستفهام بكيف، تكرار وتأْكيد لاستبعاد ثباتهم على العهد أَو بقاء حكمه مع التنبيه على السبب. والمعنى على الثاني: كيف يكون للمشركين عهد مُعْتَدٌّ به، ومراعاةٌ لأَحكامه عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحالهم أَنهم إِن يظفروا بكم أَيها المؤمنون ويظهروا عليكم ويغلبوكم، لا يراعوا في شأنكم قرابة ولا عهدًا، فإِذا كانوا لا يراعون عهودهم وقرابتهم معكم، فكيف تحافظون على عهود ضيعوها ونكثوها، وشرط وجوب مراعاة حقوق العهد، أَن تكون محترمة من المتعاقدين، فإِن ضيعها أَحدهما، حلَّ للآخر معاملته بالمثل. ¬

_ (¬1) وهم بنو بكر - كما قال محمَّد بن إسحاق - أَي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا عهدهم بعد.

{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}: يرضيكم أُولئك المشركون بإِظهار الوفاءِ والمصافاة بأَفواههم، ويؤكدون ذلك بالأَيْمَانِ الفاجرة، ويتعللون عند ظهور خلافه بالمعاذير الكاذبة، وتمتنع قلوبهم عن إِقرار ما نطقت به أَلسنتهم، وأَكثرهم متمردون على الفضائل، فلا عقيدة تكفهم ولا مروءَة تردعهم. وتخصيص الأَكثر بِوصْفِ الفِسْقِ والغدر لما في بعض الكفرة من البعد عن الغَدْرِ، والتعفف عما يؤدى إِلى سوء الأُحدوثة وقبح السيرة. {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}. المفردات: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ}: استبدلوا بالقرآن. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}: فأَعرضوا عن دينه الموصل إِليه. التفسير 9 - {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ... } الآية. استبدل المشركون بالقرآن الذي هو أَعظم آيات الله التنزيلية، استبدلوا به شيئًا حقيرا من حطام الدنيا هو اتباع أهوائهم وشهواتهم، فأَعرضوا عن دين الله الموصل إِلى مرضاته، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأَنوا إِليها، إِنهم بئس الذي كانوا يعملونه من إِعراضهم عن الحق وإِقبالهم على الباطل.

10 - {لَا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}: هذه الآية الكريمة نعت على المشركين عدم مراعاتهم لحقوق المؤمنين على الإِطلاق، أَما مثيلتها السابقة، فقد نعت عليهم ذلك عندما يظهرون عليهم، كما أَن في هذه الآية توكيدًا لما جاءَ في الآية السابقة. والمعنى: لا يراعى المشركون في مؤمن قرابة ولا عهدًا في أَي حال، فقلوبهم مفعمة بكراهيتهم، وأولئك هم المغالون في الاعتداء، بعدم مراعاة حقوق أَهل الدين الحق. {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}. التفسير 11 - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ ... } الآية. فإِن رجعوا عما هم عليه من الكفر ومعاداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، والتزموا إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة في مواقيتهما، وفق ما شرعه الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهم إِخوانكم في الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، ونبيَّن الآيات المتعلقة بأَحوال المشركين من الناكثين وغيرهم، الموضحة لأَحكامهم حالتى الكفر والإِيمان، نبيِّنها لقوم يعلمون ويفهمون ما فيها من الأَحكام فيطبقونها عند مقتضياتها.

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}. التفسير 12 - {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ... }. بينت الآية السابقة كيف نعامل المشركين إِن تابوا عن الشرك وأَقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وجاءَت هذه الآية لتبين كيف نعاملهم إِن ظلوا على شركهم ونقضوا العهد بيننا وبينهم. والمعنى: وإِن نقض هؤلاء المشركون ما وثقوه من العهود بالأَيمان ولم يوفوا بها وطعنوا في دينكم وعابوه بصريح التكذيب وتقبيح الأَحكام، فقاتلوا أَئمة الكفر وأَصحاب القدوة فيه، لنقضهم عهدهم وحنثهم في أَيمانهم، إِنهم لا يقصدون بأَيمانهم توثيق عهدهم حقيقة بل يقصدون بها الخداع والمكر مع تبييت نية الشر، فهم لا أَيمان لهم يوثق بها ويركن إِليها, وليكن غرضكم من قتالكم لهم أَن ينتهوا عما هم فيه من الشرك والطعن في الدين، لا إِيصال الإيذاءِ لهم كما هي طريقة أَهل الإِيذاء والشر. {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}. التفسير 13 - {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ....... } الآية.

في هذه الآية تحريض على قتال أُولئك الناكثين لعهودهم، مؤكد للأَمر السابق بقتالهم. والمعنى: لا ينبغي أَن تتأَخروا عن قتالهم، بل تقبلون عليه: أَلا تقاتلون قوما نقضوا عهودكم وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم أَعداءَكم، وهموا بإِخراج الرسول حين تشاوروا في دار الندوة على التخلص منه. ونسب إِليهم الهمُّ بإِخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينسب إِليهم إِخراجه، لأَن الله تعالى هو الذي أمره بالخروج، بعد أَن أَعلمه بما دبروه من قتله. {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: بالقتال في بدر. {أَتَخْشَوْنَهُمْ}: أَتخافونهم أَيها المؤمنون فتتركوا قتالهم خوفا على أَنفسكم لا ينبغي ذلك منكم. {فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ}: أَي فالله أَجدر بأَن تخافوا عقابه إِذا تركتم قتالهم، وأَن تحذروا سخطه عليكم فإِن هؤلاءِ المشركين لا يملكون لكم نفعا ولا خيرا والله تعالى وحده هو الذي بيده النفع والضر. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فاخشوه وحده، فإِن شأْن الإِيمان أَن يدفع أَصحابه، إِلى عدم الخوف إِلا من الله تعالى. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}. التفسير 14 - {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}:

بعد أَن بين الله فيما سبق ما يستوجب قتال المشركين، ووبخ على التراخى فيه، وتوعد على تركه، أَتبعه الأَمر بقتالهم والتبشير بالنصر عليهم في هذه الآية. والمعنى: قاتلوا المشركين، ولا تخافوهم واحرصوا على النصر، فإِنكم إِن صدقتم في القتال: {يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ}: قتلا. {وَيُخْزِهِمْ}: أَسْرًا {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}: عاقبة {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}: موتورين من هؤلاءِ المشركين. وقيل المراد من القوم المؤمنين هنا؛ بطون من اليمن وسبإِ. قدموا مكة فأَسلموا فلقوا من أَهلها أَذى كثيرا، فبعثوا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكون إِليه فقال - صلى الله عليه وسلم - "أَبشروا فإِن الفرج قريب" وعزى هذا القول لابن عباس. وقيل هم خزاعة فإِن قريشًا أَعانت بني بكر عليهم، وكانت خزاعة حلفاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأَنشد رجل من بني بكر هجاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رجل من خزاعة لئن أَعدته لأَكسرن فمك، فأَعاده فكسر فاه وثار بينهم قتال: فقتلوا من الخزاعيين أَقوامًا، فخرج عمرو بن سالم الخزاعى في نفر إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَخبره بما حدث، فدخل منزل ميمونة وقال: "اسكبوا إِليَّ ماءً" فجعل يغتسل وهو يقول: "لا نُصِرت إِن لم أَنْصُر بني كعب" ثم أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتجهز والخروج إِلى مكة فكان الفتح. ونسب هذا القول إِلى مجاهد - ولكن العبرة بعموم اللفظ، فقد فعل المشركون مع المؤمنين بمكة منذ أَول الدعوة الإِسلامية حتى الفتح، ما يقتضي الثأْر منهم للمؤمنين. 15 - {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}: أَي ويذهب الله بنصركم على المشركين غيظ قلوبكم أَيها المؤمنون بسبب ما نالكم منهم من متاعب ومشاق، وقد أَنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أَحسن الوجوه، فكان إِخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة له. {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}: هذا كلام مستأْنف يُنبِىءُ عما سيكون من إِيمان بعض

المشركين؛ حسب مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة، وقد تحقق ذلك حيث أَسلم كثير منهم. {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: والله شامل العلم فيعلم تحول قلوب هؤلاءِ من الكفر إِلى الإِيمان فيعينهم على توبتهم وإِيمانهم، والله عظيم الحكمة في إِقامة دينه وإِظهاره على الدين كله، وإِعانة التائبين على متابهم. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}. المفردات: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ}: لما حرف يفيد نفى وقوع الفعل إِلى زمن التكلم مع توقع وقوعه في المستقبل، والمراد أَنه إِلى الآن لم يتحقق وقوع الجهاد منكم، لعدم حصوله وقت نزول الآية، ولكنه ينتظر وقوعه وفق ما في علم الله. {وَلِيجَةً}: الوليجة الصديق الذي تطلعه على سرك وخفايا أَمرك من الولوج وهو الدخول، ويطلق عليه لفظ بطانة أَيضًا، لأَنك تباطنُهُ بأَسرارك. التفسير 16 - {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ... } الآية. هذه الآية إِلى خاتمة السياق في الآيات التالية، جاءَت كسابقتها للحث على جهاد المشركين لتطهير جزيرة العرب من الشرك حتى يسلم المسلمون ودينهم من أَذى أَهله.

وفي الآية توبيخ للمسلمين ولوم لهم على ظنهم أَن يتركوا دون أَن يبلوهم الله بجهاد المشركين، ليتبين المخلص في إِيمانه وجهاده من غيره، إِثر توبيخهم في الآية السابقة على تراخيهم في الجهاد. والمعنى: بل أَظننتم أَن تتركوا على ما أَنتم عليه من القعود عن الجهاد دون اختبار منا بتكليفكم به، ولما يتحقق بعد الذين جاهدوا في سبيل الله بإِخلاص وهمة، غير متخذين لهم أَولياءَ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين يباطنونهم بأَسراركم الخفية، ويطلعونهم على عوراتكم. {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: أَي والله عظيم العلم بما يعمله عباده، فلا تخفى عليه منهم خافية، فإِن هم جاهدوا - بإِخلاص؛ أَحسن مثوبتهم، وإِن هم قعدوا عنه أَو قَصَّروا فيه أَو أَبلغوا أَسراره وخططه إِلى أَعداءِ الإِسلام أَغلظ عقوبتهم. {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}. المفردات: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ}: أَي ما صح ولا استقام لهم. {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}: المراد من شهادتهم على أَنفسهم إِظهارهم آثاره، من نصب الأَوثان حول البيت وعبادتها - وإِن أَبوا أَن يعترفوا بكونهم كفارًا.

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}: أَي بطلت فلا ينتفعون بها. {مَسَاجِدَ اللهِ}: أَي أَماكن عبادته. التفسير 17 - {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}: أَمر الله تعالى قبل هذه الآية بقتال المشركين الذين أَخرجوهم من ديارهم وأَلا يتخذوا منهم بطانة، وفي هذه الآية يبين الله تعالى أَن هؤلاءِ المشركين ليسوا أَهلا لعمارة المسجد الحرام ولا للإِقامة حوله، وإِنما أَهل ذلك هم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى فلذا ينبغي أَن يبعدوا المشركين عن جوار البيت وشرف عمارته، بقتالهم ما لم يهتدوا إِلى دين ربهم. والمعنى: ما صح ولا استقام في دين الله وشرعه أَن يتولى المشركون عمارة الأَماكن المعدة لعبادة الله المبنية على اسمه وحده لا شريك له، فضلًا عن عمارتهم المسجد الحرام الذي هو أَشرفها وأَعزها، إِذ كيف تستقيم عمارتهم له وهم معترفون بكفرهم شاهدون به على أَنفسهم، بما قَدَّسُوه من أَوثان، وما قدموه لها من قربان، وإِن زعموا أَنهم بذلك غير كافرين. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}: أُولئك الذين يفخرون بعمارة المسجد الحرام والقيام على خدمته، بطلت أَعمالهم البارَّة جميعًا فصارت هباءً منثورًا، لاقترانها بالشرك وكبائر الذنوب، فلا هم عليها يثابون بل هم في النار خالدون. روى أَن المهاجرين والأَنصار أَقبلوا على أَسارى "بدر" يعيرونهم بالشرك، وطفق على - رضي الله عنه - يوبِّخ عمه العباس بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقطيعة الرحم، وأَغلظ له في القول، فقال العباس: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا، فقال: ولكم محاسن؟ قالوا نعم: إِنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة، ونسقى الحجيج ونفك العانى (¬1) فنزلت هذه الآية وما بعدها ردًّا عليهم. ¬

_ (¬1) العانى: بمعنى الأسير.

18 - {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ... } الآية. المعنى: إِنما الجدير بأَن يعمر مساجد الله ويثاب على عمارتها، من آمن بالله - وحده - ربًّا ومعبودًا، وصدَّق باليوم الآخر موعدًا ومصيرًا، وحسابًا وجزاءً، وأَدى الصلاة على وجهها المشروع في مواقيتها، وأَعطى الزكاة بأَنواعها ومقاديرها لمستحقيها، وفقًا لما جاءَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وامتثالا لأَمره وإِيمانًا به، ولم يخف في الحق غير الله تعالى، فهؤلاءِ الجديرون وحدهم بعمارة مساجد الله دون من أَشرك بالله وكفر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}: كلمة (عَسَى) من الله تفيد وقوع ما بعدها حتما، قال ابن عباس وغيره: "عسى" من الله واجبة، وقال محمَّد بن إِسحق: عسى من الله حق. نقول: ومن ذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}. أَي أَنه تعالى سيبعث نبيَّنا يوم القيامة ذا مقام يحمده له الأَولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة العظمى وأَن ذلك حاصل بفضل الله ولا بد من حصوله. والمعنى: فعسى أُولئك المؤمنون باللهِ واليوم الآخر المقيمون الصلاة المؤتون الزكاة الخائفون من الله - وحده - عسى هؤلاءِ أَن يكونوا من المهتدين إِلى ما يحبون، من الجنة وما فيها من المطالب العلية. وإِنما عبر عما ينتظر هؤلاءِ الكرماءَ على الله، من الاهتداءِ إِلى مطالبهم العليَّة، بعبارة تفيد التوقع دون القطع، لتنحسم أَطماع المشركين في الانتفاع بأَعمالهم التي حسبوا أَنها نافعة لهم، ولتوبيخهم بقطعهم أَنهم مهتدون، فإِن المؤمنين - على ما بهم من الكمالات - إِذا كان أَمرهم دائرا بين "لعل وعسى" فما بال الكفرة، كما أَن فيه ترغيبًا للمؤمنين في أَن يكون لهم مع الرجاءِ في فضل الله خوفٌ من عقابه على ما عسى أَن يكون لهم من تقصير في العمل أَو النية.

والآية شاهد على فضل عمارة المساجد بالبناءِ أَو العبادة، وفي ذلك يروى الترمذي بسنده عن أَبي سعيد الخدرى أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا رأَيْتُم الرَّجُلَ يعتادُ المسْجدَ فاشْهدوا لَهُ بالإِيمان". {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}. المفردات: {سِقَايَةَ الْحَاجِّ}: المراد من الحاج جنس الحجاج ومن سقايتهم إِعطاؤهم ما يَشْرَبون. التفسير 19 - {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ}: لما زعم المشركون أَن لهم محاسن تقتضى فضلهم على المؤمنين، أَنكر الله عليهم حتى مجرد المساواة بهم فضلا عن سبقهم، ووبَّخهم على زعمهم الفاسد الذي خدعوا به أَنفسهم، روى أَن المشركين سأَلوا اليهود قائلين: نحن سقاة الحاج وعمَّار المسجد الحرام، أَفنحن أَفضل أَم محمَّد وأَصحابه، فقالت اليهود عنادًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنتم أَفضل - فردَّ الله على الجميع مُنْزِلًا هذه الآية الكريمة. والمعنى: أَجعلتم أَصحاب سقاية الحجاج في طريقهم إِلى مناسكهم أَو عند عودتهم منها وهم مشركون بالله، أَجعلتموهم مشابهين لمن آمن باللهِ ورسوله وآمن باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاءِ، وجاهد الكفار في سبيل الله وطلبًا لمرضاته.

وبعد أَن أَنكر الله على المشركين زعمهم أَفضليتهم على المؤمنين، عن طريق إِنكاره لما هو أَخف منه من المشابهة، حكم الله تعالى بعدم تساويهما عنده، وتوعَّد المشركين فقال: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: أَي: لا يستوى المشركون - وإِن تقربوا إِلى الله بالسقاية وعمارة المسجد الحرام - مع المؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر المجاهدين في سبيل الله، فالأَولون خالدون في النار أبدًا، والآخرون خالدون في الجنة أَبدًا، والله - تعالى - لا يهدى إِلى الرشد من ظلم نفسه، وظلم الحق بإِصراره على الشرك بالله، والكفر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاءَ في سبب نزول هذه الآية رواية أُخرى في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: "كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل ما أُبالى أَن لا أَعمل عملا بعد الإِسلام إِلا أَن أَسقى الحاج، وقال آخر: ما أُبالى أَن لا أَعمل عملا بعد الإِسلام إِلا أَن أَعْمُرَ المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أَفضل مما قلتم: فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أَصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة ولكن إِذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه فأَنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... } الآية. وهذا المساق يقتضي أَن الآية نزلت عند اختلاف المسلمين في الأَفضل من هذه الأَعمال، وأَن الآية نزلت بتمامها إِلى قوله تعالى: {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} في شأْن خلافهم، وهذا مشكل بالنسبة إِليهم. فإِنهم مهديون وليسوا بظالمين. وأُجيب عن هذا الإِشكال بأَنه لما قرأَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية ظن الراوى أَنها نزلت حينئذ فقال إِنها نزلت بهذا السبب في حين أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا استفتاه عمر فيما اختلفوا فيه قرأَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية التي نزلت من قبل بشأْن المشركين، مستدلًا بها على أَن الجهاد أَفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد

الحرام، ليعلم المختلفون الحكم، فالآية في الحقيقة لم تنزل بسبب هذا الخلاف، والراوى أَخطأَ في ظنه نزولها بسببه أَو تسامح في التعبير. قال القرطبى: نقلا عن غيره: لا يستبعد أَن ينتزع ممَّا أُنزل في المشركين أَحكام تليق بالمسلمين، قال عمر: إِنا لو شئنَا لاتخذنا سلائق وشواءً وتُوضَعُ صَحْفَةٌ، وتُرْفَعُ أُخرى، ولكنَّا سمعنا قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬1). وهذه الآية نص في الكفار ولكن عمر - رضي الله عنه - فهم منها زجر المسلمين أيضًا عمَّا يناسب أَحوال الكافرين بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أَحد من الصحابة فهذه الآية من هذا النوع - قال القرطبى: وهذا تأْويل نفيس وبه يزول الإِشكال اهـ. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}. المفردات: {وَهَاجَرُوا}: تركوا مكة إِلى المدينة خوفًا على دينهم وأَمنا على أَنفسهم من أَذى المشركين. {يُبَشِّرُهُمْ}: البشارة الإِعلام بالخبر السَّار، وسمَّيت بذلك لظهور أَثرها على البشرة. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف من الآية: 20

التفسير 20 - {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ... } الآية. لما أَنكرت الآية السابقة استواءَ الذين يسقون الحجاج ويعمرون المسجد الحرام - وهم مشركون - مع المؤمنين المجاهدين في سبيل الله, جاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان عظيم درجاتهم عند الله، بسبب ما اتصفوا به من الكمالات: والمعنى: الذين آمنوا بالله تعالى ربًّا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا، وهجروا وطنهم مكة إِلى المدينة، حماية لدينهم وأَمنا على أَنفسهم وعقيدتهم، وجاهدوا الكفار بأَموالهم وأَنفسهم، في طريق مرضاة الله وإِعزاز دينه، لا طلبًا للشهرة والاتسام بالشجاعة والفتوة، ولا تهافتًا على نيل الغنيمة من غير تطلع إِلى جانب الله، أُولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ}. أَعلى رتبة وأَكثر كرامة ممن لم يتصف بها من هؤلاءِ الذين أَشركوا بالله، وخلطوا بشركهم سقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام. وأَفعل التفضيل في قوله تعالى: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} على غير بابه، فليس للمشركين أَي درجة من الفضل والثواب بسبب شركهم، ولذلك عقبه بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}: وأُولئك المنعوتون بهذه الكمالات هم المختصون بالفوز العظيم والظفر بالبغية دون سواهم، فكيف يزعم أُولئك المشركون علوهم في الفضل على المؤمنين، من أَجل سقايتهم الحجاج وعمارتهم المسجد الحرام وهم بربِّهم يشركون: ثم يبين الله عظيم درجاتهم وفوزهم ويبشِّرهم فيقول: 21 - {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}: يخبرهم الله مُبَشِّرًا برحمة عظيمة منه في دنياهم وأُخراهم، ورضوان كريم عن فضائلهم، وجنات يقصر الوصف عن بيان عظمتها, لهم فيها نعيم لا يقادر قدره، دائم لا نفاذ له ولا شك في أَن الإِخبار بذلك يسرُّهم ويرضى قلوبهم ويَغيظ عدوهم.

22 - {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}: أَي أَن الله تعالى يبشرهم بدخولهم تلك الجنات خالدين فيها لا يخرجون منها أَبدًا، فإِن الله لديه أَجر عظيم، فلا يبخل به على أَوليائه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}. المفردات: {أَوْلِيَاءَ}: أَحباءَ وأَصفياء. {وَعَشِيرَتُكُمْ}: أَي أَقرباؤكم، من العشرة وهي الصحبة. {فَتَرَبَّصُوا}: فانتظروا. {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: أَي لا يعينهم على الهدى لخروجهم عن طاعة الله بموالاة أَعدائه.

التفسير 23 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}: بعد أَن بين الله فيما تقدم أَن المشركين لا يستوون عند الله مع المؤمنين مهما قدَّموا من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وغيرهما، - وأَن المؤمنين أَعلى منزلة وأَعظم كرامة لديه منهم، فهم الفائزون دونهم برحمة الله ورضوانه ونعيمه المقيم. بعد أَن بيَّن الله ذلك أَتبعه في هذه الآية نهى المؤمنين عن موالاة أَقاربهم إِن هم استمروا على كفرهم وشركهم، وهذه الآية نزلت في المهاجرين، فإِنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا إِن هاجرنا قطعنا آباءَنا وأَبناءَنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا وهلكت أَموالنا، وخربت ديارنا وبقينا ضائعين، فنزلت: فهاجروا، فجعل الرجل يأْتيه ابنه أَو أَبوه أَو أَخوه أَو بعض أَقاربه فلا يلتفت إِليه، ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم في ذلك: والآية عامة الحكم وإِن كان السبب خاصًّا. والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا يَتَّخذ أَحد منكم أَباه أَو أَخاه حبيبًا يصافيه ويخلص له الودَّ إِن استحب الكفر وآثره على الإِيمان، وأَصرَّ عليه إِصرارًا لا يرجى منه الإِقلاع عنه. والنهي عن موالاتهم في تلك الحالة يقتضي جواز موالاتهم قبلها، على أَمل أَن تؤدي بهم إِلى الإِسلام، بسبب شعورهم بسماحته. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: ومَن يحبهم ويخلص لهم الودَّ، وهم على ما هم عليه من الإِصرار على الكفر بالله ورسوله، فأُولئك هم الظالمون - وحدهم - دون سواهم فإِن ظلم غيرهم يتلاشى أَمام ظلمهم، لأَنهم أَحبُّوا من كفر باللهِ ورسوله، وليس بعد الكفر ذنب، فكيف يحبون من يتصف به. 24 - {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ .. } الآية.

تضمنت هذه الآية أَمرًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أَن يقوى عزائم المؤمنين على الانتهاءِ عما نهوا عنه، من موالاة الأَقربين من المشركين ومن يجرى مجراهم. والمعنى: قل أَيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين إِن كانَ آباؤكم وأَبناؤكم وإِخوانكم وأَزواجكم وأَقرباؤكم الذين نهيتم عن موالاتهم لكفرهم، وأَموالكم التي اكتسبتموها بسعيكم، وبضاعتكم التي اشتريتموها لتجارتكم وتخشون كسادها بهجرتكم أَو بجهادكم، ومنازل تعجبكم الإِقامة فيها، وتودون أَن لا تبرحوها. إِن كان كل ذلك أَو بعضه أَحب إِليكم من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن الجهاد في سبيله. {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}: فانتظروا حتى يأْتى الله بما يأْمر به من عقوبة عاجلة أَو آجلة لكم. {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: والله لا يوفق إِلى الرشد القوم الخارجين عن طاعته فيما أَمرهم به، من ترك موالاة أَقاربهم الكافرين، والهجرة لإِعزاز الدين، والجهاد لحماية الإِسلام والمسلمين، وقد استفيد من الآية الكريمة، وجوب أَن يكون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أَحب، إِلى المسلم مما سواهما، وأَن يكون لهذا الحبِّ أَثره من طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أَمر به الله أَو نهى عنه، أَخرج الإِمام أَحمد بسنده عن زهرة بن معد عن جده قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، قال: واللهِ لأَنت يا رسول الله أَحب إِلىَّ من كل شيء إِلا من نفسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أَحدكم حتى أَكون أَحب إِليه من نفسه، فقال عمر: فأَنت الآن والله أَحب إِلىَّ من نفسى فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر".

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ في مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}. المفردات: {حُنَيْنٍ}: وادٍ بين مكَّة والطائف، حدثت فيه المعركة التي نسبت إِليه وكانت عقب فتح مكة. {بِمَا رَحُبَتْ}: أَي برحبها وسعتها، والباءُ فيه بمعنى "مع". {سَكِينَتَهُ}: رحمته التي تسكن عندها النفوس. التفسير 25 - {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ في مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ... } الآية. بيَّن الله في الآيات السابقة فضل الجهاد، وأَنذر المؤمنين عاقبة التقصير فيه وفي حبِّ الله ورسوله بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} وبيَّن في هذه الآية أَنه تعالى عودهم النصر حين يخلصون في جهادهم، ويعتمدون فيه على ربهم، وأَن كثرة الجنود لا تنفع بغير معونة الله وإِخلاص النية لله. والمعنى: لقد نصركم الله - أَيها المؤمنون - في مواقع كثيرة خصم فيها معارك مع أهل الشرك، كبدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر ومكة، وذلك لأَنكم نصرتموه بصدق

جهادكم فهيأَ لكم ثمار النصر، وفاءً بوعده الكريم في قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} وقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}: أَي ونصركم يوم حنين مع أَنكم قصَّرْتُم فيه، إِذ أَعجبتكم كثرتكم، فتراخَيْتَم في القتال اعتمادا عليها، فلم تفدكم هذه الكثرة شيئًا في دفع العدو. {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}: وضاقت عليكم الأَرض مع رحبها واتساعها من شدَّة الرعب والفزع، فقد خيِّل إِليكم أَن رحابها أَغلقت في وجوهكم، فلا تجدون فيها موضعا تطمئنون فيه وتثبتون، فصرتم بذلك كمن ضاقت عليم الأَرض مع اتساعها، فلا يجدون فيها مكانا يسعهم ثم انصرفتم من وجه العدو متقهقرين. وكانت هذه الغزوة بعد فتح مكة مباشرة، وسببها: أَن أَشراف هوازن وثقيف اجتمعوا وتشاوروا قائلين: إِن محمدا قد فَرَغَ من قتال قومه ولا ناهِيَةَ له عنَّا، فلنبدأْه بالغزو قبل أَن يغزونا، وأَجمعوا أَمرهم على ذلك، واجتمعت إِليهم عدة قبائل، منهم قبيلة سعد بن بكر الذي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسترضعا فيهم، وجعلوا قيادتهم لمالك بن عوف النصرى (¬1)، وكانوا عددًا كثيرًا، فلما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك, أَزمع المسير إِليهم، وخرج معه اثنا عشر أَلفا، منهم عشرة آلاف ممن شهد فتح مكة من المهاجرين والأَنصار، والباقون من الطلقاءِ، أَي من أَهل مكة الذين أَسلم كثير منهم، وعفا عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال لهم: اذهبوا فأَنتم الطلقاءُ، وكان فيهم بعض المشركين. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأَنصارى: لن نغلب اليوم من قلة، فساءَت هذه الكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاقتتلوا قتالا شديدًا، فانهزم المشركون وتركوا ذرياتهم ونساءَهم وأَموالهم، وكانوا قد جعلوهم خلفهم في المعركة ¬

_ (¬1) من بنى نصر بن مالك.

ليقاتلوا مستبسلين دفاعًا عنهم فأَكبَّ المسلمون على الغنائم، فنادى المشركون يا حماة السوءِ: اذكروا الفضائح، فتراجعوا يحملون على المسلمين فانكشف المسلمون منهزمين، فقد أَدركهم شؤم إِعجابهم بكثرتهم وتراخيهم بسبب ذلك في القتال إِلى جانب اشتغالهم بجمع الغنائم والسبايا، ووجود عناصر مشركة وأُخرى حديثة العهد بالإِسلام من أَهل مكة، لم يزل للشرك أَثر في نفوسهم، حتى قال أَبو سفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر وقال أَخ لصفوان بن أُمية: الآن بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه: اسكت فَضَّ الله فَاكَ، والله لأَن يَرُبَّنى رجل من قريش خير من أَن يَرُبَّنى رجل من هوازن. 26 - {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: ثم بعد أَن ضاقت عليكم الأَرض بما رحبت ووليتم مدبرين منهزمين، أَنزل الله رحمته التي تسكن بها القلوب، أَنزلها على رسوله وعلى المؤمنين، فأَما سكينته التي أَنزلها على رسوله، فقد كان من أَثرها ثباته في أَرض المعركة، وأَمره العباس أَن ينادى المنهزمين ليعودوا إِلى لقاءِ العدو، وأَمَّا سكينته التي أَنزلها على المؤمنين فقد كان من أَثرها بقاءُ عدد منهم حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعودة المنهزمين إِلى أَرض المعركة، حين رأَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال فيها يُنَازل العدو، وحوله نحو مائة من أَصحابه وقد سمعوا العباس بن عبد المطلب يناديهم بأَعلى صوتة - وكان جَهْوَرِىَّ الصوت - ليعودوا إِلى أَرض المعركة، وكان الرجل من المهزومين، إِذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع، لبس درعه ثم انحدر عنه وأَرسله، ورجع بنفسه إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجعت شرذمة منهم، أَمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أَن يصدقوا الحملة، وأَخذ قبضة من التراب ودعا ربه واستنصره قائلا: "اللهم أَنجز لي ما وعدتنى"، ثم رمى بها القوم، فما بقى إِنسان إِلا أَصابه منها في عينه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فتبعهم المسلمون يقتلون ويأْسرون، ثم جاءُوا بالأَسارى بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تلك هي خلاصة القصة مستقاة من مصادرها من السنَّة (¬1). ¬

_ (¬1) راجعها مفصلة في ابن كثير والقرطبى وأبى السعود وسيرة الخضرى.

ومما جاءَ عنها في الصحيحين: أَن البراءَ بن عازب قال له رجل: يا أَبا عمارة: أَفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فقال: لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر، إِن هوازن كانوا قوما رماة، فلمَّا لقيناهم وحَمَلْنا عليهم انهزموا, فأَقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس، فلقد رأَيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأَبو سفيان بن الحرث آخِذٌ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاءِ وهو يقول: "أَنا النبي لا كذب، أَنا ابن عبد المطلب" (¬1). وأَخرج مسلم عن أَنس قال: "قال العباس: وأَنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَكُفُّهَا إِرادةَ أَلاَّ تسرع، وأَبو سفيان (¬2) آخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَي عباس: ناد أَصحاب السَّمُرةِ (¬3) - وكان رجلًا صَيِّتًا - فقلت بأَعلى صوتى: أَين أَصحاب السَّمُرة، قال: فوالله لكأَن عَطْفَتَهُمْ حين سمعوا صوتى، عطفةُ البقر على أَولادها، فقالوا: "يا لبيك يا لبيك: قال: فاقتتلوا والكفار" .. الحديث - وفيه قال - ثم أَخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزَمُوا وربِّ محمَّد، قال: فذهبت أَنظر، فإِذا القتال على هيئته فيما أَرى، قال: فوالله ما هو إِلا أَن رماهم بحصياته، فما زلت أَرى جَدَّهم - أَي حظَّهم - كليلا وأَمرَهُم مُدْبِرًا قال أَبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أَسلم من المشركين ممن شهد حنينا أَنه قال: وقد سئل عن يوم حنين: "لقينا المسلمين فما لبثنا أَن هزمناهم واتبعناهم حتى انتهينا إِلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلمَّا رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا وأَخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال: شاهت الوجوه فلم تبق عين إِلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أَنفسنا أَن رجعنا على أَعقابنا" (¬4). ¬

_ (¬1) ابن كثير ج 4 ص 70 طبعة الشعب. (¬2) هو أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وليس أبا سفيان بن حرب والد معاوية. (¬3) واحدة من شجر السمر، وكانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية. (¬4) انظر القرطبى - 8 ص 98 مطبعة دار الكتب.

{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}: المراد بهؤلاءِ الجنود الملائكة، أَنزلهم الله تعالى ليُقَوّوا المؤمنين بما يُلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفوا الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، أَخرج البيهقي عن مصعب بن شيبة عن أَبيه قال: "خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، والله ما أَخرجنى إِسلام ولا معرفة به ولكنى أَبيت أَن تظهر هوازن على قريش فقلت وأَنا واقف معه: يا رسول الله: إِنى أَرى خَيلا بُلْقًا، فقَال: يا شيبة إِنه لا يراها إِلا كافر، فضرب بيده في صدرى، ثم قال: اللهم اهدِ شيبة، ثم ضربها الثانية ثم قال: اللهم اهد شيبة، ثم ضربها الثالثة ثم قال: اللهم اهد شيبة، قال: فوالله ما رفع يده عن صدرى في الثالثة حتى ما كان أَحد من خلق الله أَحبّ إِلىَّ منه" الحديث. وهو يدل على أَن الملائكة نزلت على خيل بلق، وأَن المسلمين لم يروها مصداقا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} بل كان يراها الكافرون، ولذا رآها - شيبة راوى هذا الحديث - رآها قبل أَن يسلم فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدره ودعا له فاهتدى، وكان الغرض من إِنزالها إِلقاء الرعب في قلوب الكافرين، حين يرونهم في صفوف المؤمنين، قال سعيد بن السائب بن يسار عن أَبيه قال: "سمعت يزيد بن عامر السوائى وكان شهد حنينا مع المشركين يوم حنين، فكان يأْخذ الحصاة فيرمى بها في الطست فَيَطِنُّ (¬1)، فيقول: كنا نجد في أَجوافنا مثل هذا" يقصد بذلك تصوير أَثر الرعب في قلوبهم. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}: المراد بتعذيبهم ما حدث لهم من القتل والجرح، والسبى وغنيمة الأَموال، والهزيمة بعد الانتصار، روى أَن عليًّا - رضي الله عنه - قتل بيده أَربعين رجلًا في هذه الغزوة وذلك غير ما فعله سواه من المقاتلين، وكان قتلاهم عددًا كبيرًا، وسبق أَصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَربعة آلاف نفس وغنموا اثنتى عشرة أَلف ناقة, سوى مالًا يحصى ¬

_ (¬1) أَي فيحدث طنينا، والطنين الصوت كالرنين.

من الغنائم كما روته السنن, وفي هذه الغزوة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من قتل قتيلا له عليه بيِّنة فله سلَبهُ" وجرح خالد بن الوليد في هذه الغزوة جراحات بالغة، وأَسلم ناس كثيرون من مشركى مكة، لما رأَوه من عناية الله بالمسلمين. والذي حدث في هذه الغزوة كان درسا استفاد منه المسلمون، فإِن الأَخلاط من حديثى العهد بالإِسلام والمشركين والأعراب، كانوا من أَسباب الهزيمة فيها أَول الأَمر، فلذا ينبغي أَن لا يكون في جيش المسلمين مَنْ لم يخالط الإِسلام دمه، ويثبت في أَعماق نفسه. 27 - {ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ...... } الآية. أَي ثم يوفق الله من بعد تلك الغزوة من يشاءُ من هؤلاءِ ومن غيرهم، ليتوب من تركه ويؤمن بالله ورسوله. {وَاللهُ غَفُورٌ}: يتجاوز عما سلف من الكفر والمعاصي بقبول توبتهم. {رَحِيمٌ}: فيتفضل بقبول توبتهم. لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين بالجعرانة، أَتاه وفد هوازن مسلمين، راغبين في عطفه عليهم، وقالوا: يا رسول الله إِنك خير الناس وأَبَرُّ النَّاس، قد أَخذت أَبناءَنا ونساءَنا وأَموالنا، فقال لهم: إِنى قد استأْنيت بكم، وقد وَقَعت الْمَقَاسِمُ وعندى من ترون، وإِنَّ خَيْرَ القول أَصدقُه، فاختاروا إِمَّا ذراريكم وإِمَّا أَموالكم فقالوا: لا نعدل بالأَنساب شيئًا، فقام خطيبا وقال: "هؤلاءِ جاءُونا مسلمين وخيَّرناهم، فلم يعدلوا بالأَنساب، فَرَضُوا بِرَدِّ الذرية، وما كان لي ولبنى عبد المطلب فهو لهم، وقال المهاجرون والأَنصار، أَمّا ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وامتنع الأَقرع ابن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أَن يردُّوا عليهم شيئًا ممَّا وقع لهم في سهامهم، وامتنع العباس بن مِرداس السُّلَمىُّ كذلك، وطمع أَن يساعده قومه, كما ساعد الأَقرعَ وعُيينةَ قومُهُمَا، فقالوا ما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤيدوه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من ضَنَّ منكم بما في يديه فإِنا نعوضه منه" فرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءَهم وأَولادهم، وعوَّض مَنْ لم تَطِبْ نفسُه بترك نصيبه أَعْوَاضًا رضوا بها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}. المفردات: {نَجَسٌ}: المراد بنجاستهم خبث باطنهم: فكأَنهم عين النجاسة، لشدة خبثهم وكراهتهم للإِسلام والمسلمين. {عَيْلَةً}: فقرًا. التفسير 28 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}: المقصود من خطاب المؤمنين بذلك أَن لا يمكنوا المشركين من دخول المسجد الحرام بعد العام الذي نزلت فيه هذه الآية، وهو العام الهجرى التاسع الذي كان أَبو بكر - رضي الله عنه - يحج فيه بالناس، واختلف في المراد من نجاستهم، فقيل هي خبث طويتهم وشركهم - وهو الراجح - وقيل هو عدم تطهرهم من النجاسات العينية. والمراد من عدم قربهم من المسجد الحرام بعد هذا العام أَلا يحجوا ولا يعتمروا بعده، وأَن تختص شعائر الحج والعمرة بالمسلمين، ولهذا نادى علي بن أَبي طالب بعد قراءَته التوبة في موسم الحج المذكور بأَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلا: أَلا لا يحج البيت بعد عامنا هذا مشرك (¬1). ¬

_ (¬1) والتعبير عن ذلك بالنهي عن قربهم من المسجد الحرام للمبالغة في منعهم من أداء المناسك.

أَما دخول الكفار الحرم والمسجد الحرام لغير الحج والعمرة فجائز عند الحنفية كسائر المساجد أَما الشافعية فيمنعونهم من المسجد الحرام خاصة، وعند مالك يمنعون من جميع المساجد (¬1). والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا لا تمكنوا المشركين من أَداءِ مناسك الحج والعمرة بعد عامهم هذا, حتى لا يحج البيت إِلا من يوحد الله ويمجده وحده دون سواه. ولما كان هذا المنع سيترتب عليه حرمانهم من الأَرزاق التي تأْتى مع هؤلاءِ المشركين، طمأَنهم الله وبشرهم بالغنى من فضله فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: أَي وإِن خفتم فقرا بسبب انقطاع المشركين عن الحج والعمرة، وفقدان ما كانوا يجلبونه من الأَرزاق والمكاسب، فاطمئنوا فسوف يغنيكم الله من فضله بوجوه أُخرى - إِن شاءَ - إِن الله محيط العلم، بليغ الحكمة، فلهذا شرع لكم ما شرع ودبر لكم من الأَرزاق، أَوسع مما فاتكم. ولقد بَرَّ الله تعالى بوعده، فأَرسل السماءَ عليهم مدرار، ووفق أَهل تبالة وجرش فأَسلموا وجاءُوهم بالأَرزاق والنعم وكانت أَرضهم مخصبة، ثم فتح الله عليهم البلاد والغنائم، وتوجه إِليهم الناس من أَطراف الأَرض قاصيها ودانيها. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك العلامة أبو السعود: والصحيح أن الشافعية كالمالكية يحرمون دخول الكفار جميع المساجد إلا بإذن لمجرد المرور، وذكر القرطبى أنه يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم كله، فإذا جاء رسول منهم خرج الإِمام إلى الحل ليسمع ما يقول ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات، نبش قبره وأخرجت عظامه، وهذا هو المفهوم من مذهب عطاء وفي المسألة آراء نفيسة تراجع في الموسوعات. ويلاحظ أن المراد بالمشرك فيما تقدم كل كافر.

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}. المفردات: {الْجِزْيَةَ}: هي ضريبة لنا على أَهل الكتاب جزاءَ حمايتهم وحقن دمائهم. {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}: أَي عن يد مواتية منقادة وهم خاضعون. {يُضَاهِئُونَ}: المضاهأَة والمضاهات المشابهة. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: كيف يصرفون عن الحق إِلى الباطل. التفسير 29 - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... } الآية. يأْمر الله المؤمنين في هذه الآية الكريمة بقتال أَهل الكتاب، بعد ما أَمرهم من قبل بقتال المشركين، ومنعهم من قرب المسجد الحرام بحج أَو عمرة. والتعبير عن أَهل الكتاب بالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, لأَن إِيمانهم بهما كالعدم، فاليهود قالوا عزير ابن الله وأَنكروا أَن يعذبهم الله في الآخرة بذنوبهم,

والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وإِن الله ثالث ثلاثة، وإِن قتل المسيح وصلبه سبب لغفران ذنوبهم يوم القيامة، فضلا عن قولهم جميعًا نحن أَبناءُ الله وأَحباؤه، وغير ذلك من العقائد الفاسدة. والمعنى: قاتلوا أَيها المؤمنون برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أولئك الذين لا يصدقون باللهِ ولا باليوم الآخر، على الوجه الذي يعتبره الله إِيمانا وتصديقا, ولا يلتزمون تحريم ما حرم الله ورسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أَو رسوله الذي يزعمون أَنهم أَتباعه وأَنهم يعملون بشرعه، مع أَنهم يخالفونه اعتقادا وعملًا، فأَقوالهم مناقضة لعقائدهم وأَفعالهم، ولا يدينون دين الإِسلام الحق الناسخ لدينهم، قاتلوا هؤلاءِ الذين اجتمعت فيهم كل هذه النقائص من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم يهودا أَو نصارى. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}: أَفاد هذا النص الكريم أَننا لا نكف عن قتالهم إِلا إِذا استسلموا وأَعطوا الجزية وهم أَدلاءُ مغلوبون، حتى لا تكون لهم شوكة ضد المسلمين فيفتنوهم عن دينهم. والجزية مأْخوذة من جزى دينه إِذا قضاه، والمقصود أَنها جزاء مقابل للعفو عن القتل وحمايتهم من الأَذى وتوفير الحرية لهم في دينهم ودنياهم، ويقابلها في الإِسلام الزكاة على المسلمين. والمراد من إِعطاءِ الجزية عن يد، دفعها بانقياد. وطاعة وأَنهم يسلمونها بأَيديهم مباشرة بغير توكيل، أَو اليد بمعنى الغنى، ولذلك لم تجب على الفقير العاجز، أَو عن يد من المسلمين أَي إِنعام منهم عليهم، فإِن إِبقاءَهم بالجزية نعمة من المسلمين على أَهل الكتاب. المعنى: قاتلوا أَهل الكتاب إِلى أَن يستسلموا ويدفعوا الجزية منقادين أَو منعما عليهم منكم وهم أَذلاءُ لا شوكة لهم.

ويرى الشافعية أَن الجزية لا تؤخذ إِلا من أَهل الكتاب والمجوس، أَما أَهل الكتاب فمن هذه الآية، وأَما المجوس فمن السنة قال - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سنة أَهل الكتاب" أَخرجه مالك في الموطَّأ (¬1) فلا تقبل عندهم من المشركين لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2) ورأَى الحنفية رأْيهم. أَما المالكية فإِنهم يرون أَخذ الجزية من جميع أَصناف الشرك والجحد عربا كانوا أَو عجما إِلا المرتد، وقال الأَوزاعى مثل قولهم فقد قال: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أَو نار أَو جاحد أَو مكذب. وقال ابن القاسم وأَشهب وسحنون، تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأُمم كلها، وأَما عبدة الأَوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأَرض منهم أَحد وإِنما لهم القتال أَوالإِسلام، ولابن القاسم رأى آخر بأَخذ الجزية منهم كمالك، ونقل القرطبى عن الشافعى أَنه يؤخذ من الغنى والفقير من الأَحرار البالغين دينار لا ينقص منه شيء، وإِن صولحوا على أَكثر من دينار جاز. ولأَهل المذاهب فيما تقدم آراء مفيدة يرجع إِليها في الموسوعات. 30 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ}: بعد أَن شرع الله في الآية السابقة قتال أَهل الكتاب إِلى أَن يستسلموا أَو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أَتبعه بيانا لبعض ما كفروا به واستوجبوا بسببه القتال وفرض الجزية. وقد أَفادت الآية، أَن كلا من اليهود والنصارى كفروا بادعاء البُنُوَّة لله تعالى، فأَما اليهود فقد زعموا أَن عزيرا ابن الله، وأَما النصارى فقد زعموا أن المسيح ابن الله، وسبب قول اليهود مقالتهم، أَن بختنصر أَخذ جميع نسخ التوراة منهم وأَعدمها لمَّا غزاهم، ولم يوجد فيهم بعد حين من يحفظها، حتى ظهر عزير فأَملاها عليهم حفظا كما ¬

_ (¬1) وذلك لأن لهم شبهة كتاب: قال ابن عطية: روى أنه قد كان بعث فيهم نبى اسمه زرادشت والله أعلم. (¬2) سورة التوبة من الآية: 5

زعموا، فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما ذاك إِلا أَنه ابن الله، والدليل على أَن هذا القول كان فيهم؛ أَن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب، فإِن كانوا ينكرون ذلك اليوم ويدعون أَنهم أَهل التوحيد، فذلك رجوع منهم عما كانوا يقولونه من قبل. والمحققون من المؤرخين يقولون إِن عزيرا (عزرا) جمع محفوظات من صدور القوم ومن أَوراق متناثرة، وسماها التوراة، ولا يوجد دليل على أَنها طبق الأَصل، فإِن الأَصل مفقود، كما أَن فيها وصف الله بما لا يليق به كالندم والضعف أَمام إِسرائيل وغير ذلك مما يقطع بوضعها. وسبب قول النصارى ذلك، ادعاؤهم أَن عيسى عليه السلام ما كان يستطيع إِبراءَ الأَكمه والأَبرص وإِحياءَ الموتى إِلا لأَنه ابن الله، لأَن ذلك من خصائص الأُلوهية، ولهذا ملأُوا كتبهم المقدسة لديهم بدعوى البنوة، وقد شاءَ الله أَن يكذبهم ويكشف جهلهم وزيفهم بما تضمنته أَناجيلهم من التصريح بأَنه ابن الإِنسان، وتكرار هذا التصريح عشرات المرات في كل إِنجيل من أَناجيلهم. {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}: يريد الله بهذه الجملة الإِشعار بأَنه قول مجرد عن البرهان وخال عن الدليل، فإِن مجىء عزير بالتوراة - على فرض صحته - لا يقتضي بنوته لله، فلم لا يكون بإِلهام أَو بوحى، وقد علمت أَنه لم يصح، وإِحياء عيسى للميت وإِبراؤه الأَكمه والأَبرص، معجزة لتأْييد نبوته - كشأْن معجزات الأَنبياء، فكلها بفعل الله وخلقه، وليس جريانها على يديه بفعله لأَنه ابن الله، كما ادعى النصارى ولذا كانت حوادثها محدودة على قدر قيام المعجزة المؤيدة لرسالته، وشأْنه في ذلك كشأْن (موسى) في أَمر عصاه، بل هي أَعظم إِعجازا، فإِن جعل الحياة في العصا حتى تبتلع السحر، أَبلغ من إِحياءِ الميت، لأَن العصا ليست أَهلا للحياة بخلاف الميت فإِنه أَهل لها، كما أَنها أَعظم من إِبراءِ الأَكمه والأَبرص بالأَولى. {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}: أَي يشابه أَهل الكتاب المعاصرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قالوه في عزير

وعيسى من سبقهم من أَهل ملتهم، فالكفر قديم فيهم، أَو يشابهون المشركين الذين قالوا الملائكة بنات الله. {قَاتَلَهُمُ اللهُ}: هذا التعبير ظاهره الدعاء عليهم بالإِهلاك، فإِن من قاتله الله هلك، والمقصود منه التعجب من شناعة قولهم، حكى النقاش أَن أَصل (قاتله الله) الدعاءُ، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه في التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء، وأَنشد الأَصمعى: يا قاتَلَ اللهُ ليلى كيف تعجبنى ... وأَخبر الناس أَنى لا أُباليها {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: كيف يصرفون عن الحق مع قيام الدليل عليه، والغرض من الاستفهام هنا التعجيب والتوبيخ. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}.

المفردات: {أَحْبَارَهُمْ}: جمع حبر بكسر الحاء وفتحها لغتان كما قال الفراء - ويطلق على العالم مطلقا وغلب في عالم اليهود. {وَرُهْبَانَهُمْ}: جمع راهب مأْخوذ من الرهبة وهي الخوف، والمراد به هنا عابد النصارى الذي اعتزل ملذات الحياة. التفسير 31 - {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ ... } الآية. لا يزال الكلام متصلًا في عقائد أَهل الكتاب التي كفروا بسببها فقد بينت هذه الآية أَنهم تجاوزوا زعم البنوة لعزير والمسيح إِلى ما هو أَشد وهو اتخاذهم أَحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أَربابا. والمعنى: اتخذ اليهود علماءَ دينهم أَربابا من دون الله فأَطاعوهم في تحريم ما أَحلّ الله وتحليل ما حرّم الله وجعلوهم بطاعتهم لهم كأَنهم آلهة لهم يطاعون فيما يشرعون، ظانين أَنهم مقدسون، مع أَن كثيرا منهم آثمون، كما سيبينه الله تعالى، قال الربيع: قلت لأَبى العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إِسرائيل قال: ربما وجدوا في كتاب الله - يعني التوراة - ما يخالف قول الأَحبار، فكانوا يأْخذون بأَقوالهم، ويتركون حكم كتاب الله: اهـ. واتخذ النصارى رهبانهم - أَي علماءَهم المتعبدين - اتخذوهم آلهة من دون الله بأن أَطاعوهم فيما لم يحل، كما يطاع الله فيما شرعه لعباده مع أَنهم آثمون. روى الترمذي عن عدى بن حاتم قال أَتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقى صليب من ذهب (وكان نصرانيا وقتئذ) فقال: ما هذا يا عدى اطرح عنك هذا الوثن, وسمعته يقرأُ في سورة براءَة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} ثم قال: "أَما إِنهم لم يكونوا يعبدونهم كانوا إِذا أَحلوا لهم شيئًا استحلوه, وإِذا حرموا عليهم شيئًا حرموه" وقد أَسلم عدى بعد ذلك وكان من خيرة الصحابة.

{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}: أَي واتخذ النصارى المسيح، ابن مريم إِلهًا (¬1)، وكان ذلك على صور شتى فمرَّة عبدوه على أَنه ابن الله، وأُخرى عبدوه على أَنه إِله، وثالثة على أَنه ثالث آلهة ثلاثة، وكل ما فعله هؤلاءِ لم يأْمر به الله ولذا قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أَي وما أَمرهم الله في كتبه التي أَنزلها إِليهم، إِلا ليطيعوا إِلها واحدا فيما أَمرهم به أَو نهاهم عنه، هو الله لا إِله إِلا هو، فلا يصلح أَن يطاع أَو يعبد غيره - سبحانه - وتنزيها له عن أَن يكون له شريك بأَية صورة مما يفعلون. 32 - {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}: المقصود بنور الله، إِما حجته النيرة الدالة على وحدانيته، وتنزهه عن الشركاء والأَولاد، أَو القرآن العظيم الناطق بذلك، فهو الذي أَنار العقول والقلوب بالحق كما تنير الشمس وجه الأَرض. والمعنى: أَن أَهل الكتابين يريدون أَن يطفئوا نور القرآن الذي أَوضح الله به وجه الحق، وكذبهم في دعاوى بنوة عزير وعيسى لله وربوبية الأَحبار والرهبان والمسيح ابن مريم، وبين شرائع الله على وجهها الحق، حيث يحاربونه بأَلسنتهم وأَقاويلهم الباطلة الخارجة من أَفواههم، وأَنى لهم إطفاؤه وهو نور الله تعالى. ويجوز أَن يكون المقصود تشبيه حالهم في محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم، بحال من يريد طمس نور عظيم نشره الله في الآفاق وإِطفاءَه بنفخة بالفم، والمقصود بهذا التشبيه إِقناطهم من نيلهم ما يبتغون من هدم الإِسلام ورسالته الهادية، ولهذا قال سبحانه عقب ذلك: ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه عن السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في ربع (إن الله اصطفى) وما بعده من سورة آل عمران, وفي ربع (إنا أوحينا إليك) في آخر سورة النساء، وفي الربع الأخير من سورة المائدة.

{وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}: أَي ولا يريد الله إِلا أَن يتم نوره بإِعلاءِ كلمة الإِسلام، وإِتمام مجده ولو كره الكافرون ذلك، فسواء رضي أَهل الكتاب أَم كرهوا، فنور الإِسلام سيتم ويعم المشارق والمغارب فهذا ما يريده الله ويأْبى نقيضه. 33 - {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}: هذه الآية جاءَت لتؤكد ما تضمنه قوله تعالى في الآية السابقة: {وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} مع بيان ظهوره على جميع الأَديان. والمعنى: هو الله الذي بعث رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن الذي يهدى الناس إِلى معرفة ربهم، وبدين الإِسلام المشتمل على الحق الواضح الذي لا يعتريه شك، أَرسل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليظهر دين الحق على الأَديان كلها ولو كره المشركون، وإِظهاره عليها إِما بالنسخ، وإِما بالحجة والبرهان إِلى جانب النسخ وإِما بالغلبة والقهر لأَهلها، وقد حدث كل هذا وسيحدث بعون الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الْأَرْضِ}. طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الادارة محمَّد حمدى السعيد رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1979 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1548 - 1979 - 25004

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}. المفردات: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}: المراد بأَكلها بالباطل: أَخذها بغير حق. {يَكْنِزُونَ}: أَي يجمعون, والكنز لغة: الضم والجمع, ويطلق أَيضا على كل شيءٍ مجموع بعضه إِلى بعض في بطن الأَرض أَو على ظهرها. {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: أَي فأَنذرهم, والتعبير بالتبشير عن الإِنذار للتهكم وتشديد الوعيد. {جِبَاهُهُمْ}: جمع جبهة, وهي من الوجه ما بين الحاجبين إِلى منابت شعر الناصية. التفسير 34 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ... } الآية. بعد أَن عاب الله على أَهل الكتاب اتخاذهم أَحبارهم ورهبانهم أَولياءَ, وتقديسهم كأَنهم أَرباب, وكراهيتهم الإِسلام الذي هو نور الله, بَيَّن سوءَ أَخلاق أُولئك الأَحبار والرهبان, حتى يعلم أَهل الكتاب أَنهم غير جديرين بتقديسهم لهم والأَخذ عنهم.

والمعنى: يَا أَيُّهَا الذَّيِنَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِن أَحبار اليهود ورهبان النصارى ليأْخذون أَموال الناس بالباطل, حيث يرتشون بها للتخفيف والمسامحة في تنفيذ شرع الله. وتغيير الأَحكام والشرائع إِرضاءً لمن يرشونهم, كما كانوا يأْخذون من أَتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وشئون الدين, ويستولون عليها أَو على بعضها لشهواتهم وأَغراضهم, ولا يكتفون بذلك بل يصدون أَتباعهم ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام واتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: المقصود بهم أُولئك الأَحبار والرهبان الذين يأْكلون أَموال الناس بالباطل, مبالغة في وصفهم بالحرص على المال, والاهتمام بكنزه وجمعه بأَى صورة. ويجوز أَن يراد بهم أَهل الكتاب والمسلمون الذين لا يزكون, فالمراد بعدم إِنفاقهم لها في سبيل الله أَنهم لا يخرجون زكاتها. ولما نزلت هذه الآية ظن المسلمون أَنه لا يحل كنز المال وأَنه يجب إِنفاقه كله في سبيل الله, فكبر ذلك على المسلمين فقال - صلى الله عليه وسلم - "مَا أُدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكنزٍ" (¬1) أَي فليس بكنز معاقب عليه بما جاءَ في الآية. وروى البخاري من حديث الزهرى عن خالد بن أَسلم قال: "خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال: هذا قبل أَن تنزل الزكاة, فلما نزلت جعلها الله طهرًا للأَموال". وقال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}. وكان أَبو ذر الغفارى يرى أَن الكنز ما فضل عن الحاجة, وقد حدث خلاف بين معاوية وبينه في تفسير الآية, رواه البخاري في حديثه عن زيد بن وهب قال: "مررت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة.

بالربذة (¬1) فإِذا أَنا بأَبى ذر فقلت له: ما أَنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أَنا ومعاوية في: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ} فقال معاوية: نزلت في أَهل، الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إِلى عثمان يشكونى، فكتب إِلىَّ عثمان أَن اقْدَمِ المدينة فقدمتُها, فأكثر علىَّ الناس حتى كأَنهم لم يرونى قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إِن شئت تنحَّيت فكنتَ قريبا، فذاك الذي أَنزلنى هذا المنزل، ولو أَمَّروا علىَّ حبشيًّا لسمعتُ وأَطعتُ". وقد علمتَ ممَّا تقدم مذهبه الذي اختلف بموجبه مع معاوية وهو أن الكنز ما فضل عن الحاجة وأَن الآية في المسلمين وأَهل الكتاب، وتفسير الكنز بذلك انفرد به أَبو ذر، وهو من شدائده المنقولة عنه كما قال القرطبى، وقد عرفت آراءَ غيره في الآية قبل الحديث عن مذهبه. وقيل: الكنز مَا لَمْ تُؤَدَّ منه الحقوق العارضة، كفك الأَسير وإِطعام الجائع وغير ذلك من الحقوق، والله تعالى أَعلم. والمعنى: والذين يجمعون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو ما تشتد حاجة المسلمين إليه من زكاة وفك أَسير وإِطعام جائع وتفريج ضائقة، وغير ذلك من الحقوق التي أَوجبها الشرع في المال، فأَنذرهم بعذاب أَليم، وهو ما بينه الله بقوله: 35 - {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ ... } الآية. أَي يعذب الكانزون يوم يوقد على أَموالهم من الذهب والفضة، في نار جهنم، فتكوى بها بعد إِحمائِها واتقادها جباههم التي يترفعون بها على الناس، وجنوبهم التي يعرضون بها عن الفقراء وظهورهم التي أَداروها لهم، ويقال لهم تأْنيبا وتوبيخا: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}: أَي هذا جزاءُ كنزكم المال لأَنفسكم، دون أَن تؤَدوا حق الله فيه. {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}: فذوقوا وبال كنزكم للمال وتأَلموا بعذاب حرمانكم للمستحقين فيه. ولما كان الكى في الوجوه أَشنع، وفي الجنوب والظهور أَوجع، خصت من بين سائر الأَعضاءِ، وقال بعض العلماءِ: إِنما خصت هذه الأَعضاءُ؛ لأَن الغنى إذا رأَى الفقير جمع ¬

_ (¬1) الربذة: موضع قريب من المدينة.

ما بين عينيه وقبض وجهه, وإِذا سأَله طوى كشحه - أَي جنبه - فأَعرض عنه, وإِذا زاده في السؤَال وأَكثر عليه ولاه ظهره, فرتب الله العقوبة على حسب حال المعصية, والله تعالى أَعلم. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}. المفردات: {عِدَّةَ الشُّهُورِ}: أَي عددها. {في كِتَابِ اللهِ}: المراد به, إِمَّا علمه تعالى, أَو اللوح المحفوظ, أَو ما كتبه وأَوجبه. {حُرُمٌ}: جمع حرام, والمراد من كون الشهر حراما أَن القتال محرم فيه. {الدِّينُ الْقَيِّمُ}: الدين المستقيم السليم من العوج {كَافَّةً}: جميعًا. التفسير 36 - {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .... } الآية. بعد أَن أَوجب الله تعالى قتال أَهل الكتاب حتى يعطوا الجزية, وبيَّن أَنهم يريدون أَن يطفئوا نور الله وهو الإِسلام, بدعايتهم المسمومة الخارجة من أَفواههم, وأَنهم مشركون باتخاذهم أَحبارهم ورهبانهم أَربابا من دون الله, عقب ذلك بذكر آثام المشركين تمهيدا للأَمر بقتالهم. والمعنى: إِن عدد المشهور المعتبر عند الله تعالى اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله وقدَّره يوم أَبدع السموات والأَرض, وأَوجد الليل والنهار, وأَضاءَ الليل بالقمر, ونوَّر النهار

بالشمس، فلا يصح أَن يزاد عليها كما كان يفعله المشركون, والمراد منها الشهور القمرية التي يعرفها العرب، وعليها يدور كثير من الأَحكام الشرعية. {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}: من هذه الشهور الإِثنى عشر، أَربعة حرم، حرم الله فيها القتال منذ شريعة إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السَّلام، وهي ثلاثة متتالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد هو رجب الذي بين جمادى وشعبان، قال - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "أَلا إِنَّ الزمانَ قَدِ استَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوَم خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرضَ، السنة اثنا عشر شهرا، منها أَربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" إِلى آخر الحديث - وقد أَخرجته كتب الصحاح. ومعنى: استدارة الزمان كهيئته، رجوع الأَشهر إِلى ما كانت عليه من الحل والحرمة كل منها في موضعه من الزمان، وعاد الحج إِلى ذى الحجة في حجة الوداع سنة عشر وكانت حجة أَبي بكر في ذى القعدة سنة تسع قبل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}: الإِشارة هنا راجعة إِلى تحريم الشهور الأَربعة المحرمة في مواضعها. والمعنى: ذلك التحريم لهذه الشهور في مواضعها التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدين القويم الذي دان به إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السلام وتوارثه العرب منهما. {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: المراد من عدم ظلمهم أَنفسهم فيها: أَن لا يهتكوا حرمتها بارتكاب ما حرم فيها من القتال ومحرمات الإِحرام، ما لم يعتد العدو على بلادنا أَو يكون وشيك الاعتداءِ عليها فيحل قتاله. عن عطاءِ: أَنه لا يحل للناس أَن يغزوا في الحرم ولا في الأَشهر الحرم، إِلا أَن يُقاتَلوا، لقوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ

كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أَي وقاتلوا المشركين مجتمعين غير متفرقين, كما يقاتلونكم كذلك. ومن العلماءِ من قال: إِن الآية أَوجبت القتال على كل قادر, ثم نسخ ذلك فجعل فرض كفاية, وقد أَنكر ذلك ابن عطية قائلا: لم يعلم قط عن شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنه أَلزم الأُمة جميعًا النفر, وإِنما معنى هذه الآية الحض على قتال المشركين وجمع الكلمة. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}: هذه بشارة وضمان لنصر المؤمنين بسبب تقواهم, أَي واعلموا أَيها المؤمنون أَن الله تعالى مع أَهل التقوى بالنصر والمعونة على الأَعداءِ. {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}. المفردات: {النَّسِيءُ}: تأْخير حرمة الشهر إِلى شهر آخر. {لِيُوَاطِئُوا}: ليوافقوا. {عِدَّةَ}: عدد. التفسير 37 - {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ... } الآية. كان العرب إِذا جاءَ شهر حرام وهم محاربون أَحلوه واستمروا في القتال, وحرموا شهرا آخر مكانه, حتى رفضوا خصوص الأَشهر الأَربعة, واعتبروا مجرد العدد, وربما

زادوا في عدد الشهور، بأَن يجعلوها ثلاثة عشر أَو أَربعة عشر، ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أَربعة أَشهر من السنة حرما كما يريدون، ولذلك نص على العدد المعين في كتاب الله حتى يتركوا ما هم عليه. والمعنى: إِنما تأْخير حرمة شهر إِلى شهر آخر زيادة في الكفر، لما فيه من تحليل ما حرمه الله وتحريم ما أَحله الله، فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم، يُضَلُّ به المرءوسون الذين كفروا من رؤسائهم, حيث يأْتمرون في التحريم والتحليل بأَمرهم. فيزدادون بذلك ضلالا فوق ضلالهم. {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ}: أَي: يحلون الشهر الحرام عاما ويجعلون مكانه في التحريم شهرا حلالًا، ويحافظون على حرمته كما كان في شرع إِبراهيم عاما آخر، إِذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، يفعلون ذلك لكي يوافقوا عدد ما حرَّم الله كل من الأَشهر الحرم، وهو أَربعة أَشهر، فينتهى أَمرهم فيما فعلوا إِلى أَن يحلوا ما حرم الله، وهو تغيير حكم الشهور من حرمة إلى حل، ومن حل إِلى حرمة. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}: أَي جُعِلت لهم أَعمالهُم السيئة حسنة، بأَن زينها لهم رؤساؤهم وشياطينهم، فعدوها حسنة مع أَنها قبيحة، لمخالفتها أَحكام الله تعالى والله لا يهدى القوم المصرين على كفرهم. قيل أَول من أَحدث النسىء جنادة بن عوف الكنانى، وكان مطاعا في الجاهلية كان يقوم على جبل في الموسم فينادى بأَعلى صوته: إِن آلهتكم قد أَحلت لكم المحرم فأَحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول: إِن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، وقيل غير ذلك.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}. المفردات: {انْفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ}: اخرجوا للجهاد في سبيله. {اثَّاقَلْتُمْ}: تباطأْتم. {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: المراد من متاعها التمتع بلذائذها. التفسير 38 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ..... } الآية. لما ندب الله المؤمنين قبل هذه الآية لقتال أَهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقتال المشركين كافة، جاءَت هذه الآية وما بعدها لحث المؤمنين وتقوية عزائمهم على قتال هؤلاءِ وأُولئك. وسبب نزول هذه الآية وما بعدها: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - استنفر أَصحابه ليخرجوا معه في غزوة تبوك، وكان الحر شديدا وبالناس عسر وقحط، وقد أَدركت ثمار المدينة وطلبت ظلالها، وكانت تبوك تبعد عن المدينة، والعدو قوى وكثير فشق عليهم ذلك وتباطأُوا في الاستجابة.

ويروى أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج في غزوة غزاها إِلا ورَّى بغيرها، ما عدا تبوك، فإِنه - صلى الله عليه وسلم - بين المقصود فيها؛ ليستعدوا لها، والخطاب لعموم المؤمنين، وإِن كان التثاقل في طائفة منهم ليشعر من تثاقل منهم بالتقصير، وليزداد حرص من نفروا للقتال على دوام الاستجابة للجهاد مهما كانت الأَحوال، حتى لا يقعوا تحت طائلة اللوم والتوبيخ كهؤلاءِ المقصرين، وليجتهدوا في أَن لا يكون بينهم من يتكاسَل في تلبية نداءِ الجهاد في سبيل الله. والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا، أَي شيء حصل لكم فثبطكم عن النهوض للجهاد، حين قال لكم النبي - صلى الله عليه وسلم - انفروا واخرجوا للقتال في سبيل الله في غزوة تبوك، تثاقلتم وتباطأْتم وحرصتم على البقاءِ في الأَرض التي أَنتم بها، مائلين إِلى لذائذ الدنيا وشهواتها السريعة الفناءِ، وكرهتم مشاق الغزو ومتاعبه، وتعللتم للتخلف بِأَعذار ليس من شأْنها أَن تمنعكم من شرف الجهاد. {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}: أَرضيتم بمتاع الحياة الدنيا ولذائذها الزائلة، بدلا من متاع الآخرة ونعيمها الدائم، إِن ذلك فساد في الرأْى والاختيار، فما متاع الحياة الدنيا في جنب متاع الآخرةِ إِلا قليل لا ينبغي أَن يحرص عليه. 39 - {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ... } الآية. أَي إِلا تخرجوا للقتال في سبيل الله حين يطلب منكم الخروج إِليه، يعذبكم الله عذابًا شديدا بما يصيبكم به في الدنيا من البلايا والمحن، ويأْت بقوم آخرين بدلا منكم، يسارعون إِلى نصرة الحق وتأْييد رسوله ويؤثرون الآخرة على الدنيا. {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أَي ولاَ تضروا الله شيئًا بتخلفكم وتثاقلكم، فهو الغنى عنكم وعن جهادكم والله على كل شيء قدير، فلا يصعب عليه أَن يؤيد دينه بغيركم، كما لا يشق عليه أَي شيء يريده في ملكه.

{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}. المفردات: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}: أَي أَحد اثنين، هما الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وأَبو بكر - رضي الله عنه -. {الْغَارِ}: هو في اللغة فجوة في الجبل تشبه البيت، كالمغارة والكهف، والمراد به هنا غار جبل ثور الواقع على بعد ساعة سيرا من مكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أَيام. {سَكِينَتَهُ}: طمأْنينته التي تسكن عندها القلوب. التفسير 40 - {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ... } الآية. أَي إِلا تنصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يطلب منكم الجهاد معه فسينصره الله بغيركم، فقد نصره في وقت أَشد وأَقسى مما هو فيه، وذلك حين أَخرجه الذين كفروا من مشركى مكة، حيث حملوه بمؤامرتهم وتوالى إِيذائهم له على الهجرة، وهو واحد من اثنين فحسب, إِذ كان معه أَبو بكر - رضي الله عنه - فقد حماهما الله تعالى وهما يسيران وحدهما نحو الغار للاختفاءِ فيه حتى ينقطع الطلب عنهما، ثم حماهما وحرسهما بينما كانا في الغار ثلاث ليال، حين كان يقول الرسول لصاحبه أَبي بكر الصديق وهو مشفق عليه من أَن يصل إِليه المشركون: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} بالعون والحماية من المكاره، فلن تصل إِلينا أَيديهم بسوءٍ.

روى أَن المشركين طلعوا فوق الغار, فأَشفق أَبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" فأَعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وفي ذلك أَخرج البخاري ومسلم عن أَنس أَن أَبا بكر حدثه قال: "قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار - لو أَن أَحدهم نظر إِلى قدميه لأَبصرنا تحت قدميه, قال: فقال: "يا أَبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}: أَي فأَنزل الله طمأْنينته على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال لصاحبه ما قال, وأَيده بجنود خفية لم تقع عليها أَبصاركم, فلم يستطع أَعداؤه بسبب هذه الحراسة الربانية, أَن يصلوا إِلى مأْربهم فيه, وإِن وصلوا إِلى الغار الذي يؤْويه وعادوا خائبين. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: أَي وكان من تمام نصره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أَنه تعالى جعل كلمة الشرك التي يتمسك بها المشركون ويحرصون عليها, جعلها هي السفلى, حيث غلبت على أَمرها, وكلمة الله التي يفادى بها الإِسلام هي العليا, التي تغلب ولا تُغلب. وذلك بتمكينه من الهجرة إِلى المدينة ونصره على أَهل الشرك, في المعارك التي حدثت بينه وبينهم قبل غزوة تبوك, والله عزيز يقهر كل جبار عنيد, حكيم في أَمره وتدبيره, فلا تخالفوا أَمره وأَمر رسوله.

{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}. المفردات: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}: أَي اخرجوا للجهاد على أَي حال، سواءٌ سهل على نفوسكم فخفت ونشطت، أَو شق عليها فثقلت. {عَرَضًا قَرِيبًا}: نفعًا سهل المأْخذ. {سَفَرًا قَاصِدًا}: سفرًا قريبًا سهلًا. {الشُّقَّةُ}: المسافة التي تقطع بمشقه. التفسير 41 - {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ... } الآية. قيل: المراد من الخفاف والثقال الشباب والشيوخ، روى ابن عباس عن أَبي طلحة في قوله تعالى: {خِفَافًا وَثِقَالًا} قال: شبانًا وكهولا، ما سمع الله عذر أَحد (¬1)، فخرج إِلى الشام فجاهد حتى مات. ويروى بعض المفسرين أَن ذلك إِنما يجب إِذا غلب العدو على بلد من بلاد الإِسلام أَو كاد، فيتعين الجهاد على الشباب والشيوخ من أَهله جميعًا كل على حسب طاقته، كما يتعين مثل ذلك على من قارب هذا البلد، إِذا عجز أَهله عن دفعه. أَما في غير هذه الحالة، فالجهاد قد يكون فرض كفاية، وقد يكون سنة، وتفصيل ذلك في الموسوعات. ¬

_ (¬1) أَي ما قبل الله عذر أحد في التخلف عن القتال.

وفسر بعض العلماءِ الخفة بالغنى والثقل بالفقر وقيل: إِن الخفاف هم الذين يسبقون إِلى الحرب كالطليعة وهم مقدمة الجيش, والثقال الجيش بأَسره. والمعنى: اخرجوا للجهاد في سبيل الله على أَي حال كنتم شبانًا أَو شيوخًا، أَغنياءً أَو فقراءَ، نفوسكم خالية مما يشغلها، أَو لديها من الشواغل ما يثقلها، وارضوا بمواقعكم في الجيش كيف كانت، وجاهدوا في سبيل الله بأَموالكم وأَنفسكم، ولا تدخروا وسعًا في تجريد نياتكم لله والحصول على النصر، ذلكم الذي أَمرناكم به خير لكم وأَنفع من تركه، إِن كنتم تعلمون مصلحتكم فاعملوا به ونفذوه، ففيه عز الإِسلام ومجد المسلمين. 42 - {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ... } الآية. أَي لو كان ما دعوا إِليه نفعًا دنيويًا قريب المنال سهل المأْخذ، وسفرًا متوسطًا لا مشقة فيه، لاتَّبعوك طمعًا في الحصول على المغانم السهلة القريبة، ولكن بعدت عليهم المسافة الشاقة من المدينة إِلى تبوك، فلهذا تخلفوا عن اتباعك، وآثروا الراحة والدعة. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: وسيحلف بالله أُولئك المتخلفون عن تبوك، بعد رجوعك منها، قائلين على سبيل الاعتذار عن تخلفهم: لو كنا نستطيع الخروج معك إِلى تبوك لخرجنا إِليها، يريدون بذلك أَنهم لم تكن لهم قدرة على الجهاد لضعف الصحة، أَو عدم وجود المال أَو الراحلة, أَو غير ذلك من الأَعذار، يهلكون أَنفسهم بهذه اليمين الفاجرة يقسمون بها على الادعاءِ الكاذب، والله يعلم إِنهم لكاذبون في أَيمانهم واعتذارهم، فقد كانوا يستطيعون الخروج ولم يكن لهم عذر في التخلف، فكيف يجرءُون على الكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع" (¬1). {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}. المفردات: {عَفَا اللهُ عَنْكَ}: لم يؤاخذك بالإِذن لهم في التخلف. {ارْتَابَتْ}: وقعت في الريب وهو الشك. {يَتَرَدَّدُونَ}: يتحيرون. التفسير 43 - {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}: قال مجاهد أُنزلت هذه الآية في أُناس قالوا: استأْذنوا رسول الله فإِن أَذن لكم فاقعدوا وإِن لم يأْذن لكم فاقعدوا. وهؤلاءِ المعتذرون كانوا منافقين ولذا قال الله في شأْنهم: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... } الآية. وسيأْتى الحديث عنها. ¬

_ (¬1) وفي مجمع الزوائد للهيثمى حديث طويل عن أبي هريرة جاء في آخره "اليمين الغموس تذهب المال وتثقل في الرحم وتذر الديار بلاقع"، وفي المتفق والمفترق للخطيب عن علي - رضي الله عنه - إياكم واليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع والكذب كله إثم.

وتصدير الآية بقوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنْكَ} قَبْل عتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإِذن لهم بالتخلف، من باب التلطف في العتاب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أَذن لهؤلاءِ المنافقين بالتخلف من غير وحى نزل فيه، قال قتادة وعمرو بن ميمون: ثنتان فعلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بهما، إِذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه، ولم يكن له أَن يمضي شيئًا إلا بوحى، وأَخذة من أَسارى بدر الفدية، فعاتبه الله كما تسمعون. قال المحققون: وهذا ترك للأَولى، وليس من باب ارتكاب المحرم؛ لأَنه لم يكن هناك أَمر خالفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: عفا الله عنك أَيها النبي فلم يؤاخذك في الإِذن لبعض المنافقين في التخلف عن الغزو، لماذا أَذنت لهم بذلك بعد اعتذارهم، ولم تنتظر حتى يظهر لك الصادقون فيما أَبدوه من المعاذير، وتعلم الكاذبين فيها منهم، ثم شاءَ الله تعالى أَن يفضحهم بعد أَن تستروا بمعاذيرهم الكاذبة فقال سبحانه: 44 - {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ .. }: أَي ليس من عادة المؤمنين الصادقين أَن يستَأْذنوك في الجهاد بأَموالهم وأَنفسهم في سبيل الله، بل يبادروا إِليه من غير إِذن، إِذا سمعوا النداءَ العام إِلى الجهاد، فضلا عن أَنهم لا يستأْذنونك في التخلف، وحيث استأْذنك هؤلاءِ في التخلف كان ذلك دليلًا على نفاقهم، فكان الأَولى أَن لا تأْذن لهم فيه حتى يتخلفوا دون إِذن فينكشف حالهم لك وللمؤمنين، ويتجلى للجميع أَنهم غير صادقين في إِيمانهم لتخلفهم عن الجهاد بدون عذر. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}: أَي أَنه تعالى محيط علمه بالمتقين وما اشتملت عليه قلوبهم من الإِخلاص في سبيل الله والاستجابة لداعى الجهاد بنشاط وهمة، فيجزيهم على ذلك الجزاءَ الأَوفى. 45 - {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}:

أَي إِنما يطلب منك الإِذن بالتخلف عن الجهاد، الذين لا يصدقون في قرارة نفوسهم بالله ولا باليوم الآخر، وارتابت قلوبهم فيما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم في شكهم يترددون بين الإِقدام على الجهاد والإِحجام عنه، ويتحيرون في قبول الحق الذي جاءَ به القرآن أَو رَدِّه، ولهذا تخلصوا من حيرتهم بطلب الإِذن بالتخلف عن الجهاد، محافظة منهم على الشكل الظاهرى وقلوبهم لا تستقر على حال. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}. المفردات: {انْبِعَاثَهُمْ}: نهوضهم للخروج. {فَثَبَّطَهُمْ}: فحبسهم وعوَّقهم. {خَبَالًا}: فسادًا وشرًّا. {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}: ولسعوا فيما بينكم بالنميمة والوشاية، وهومأْخوذ من أَوضعتُ البعير أَي حملته على السرعة، يقال: وضع البعير أَي أَسرع، وأَوضعته أَنا، أَي جعلته يسرع. {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}: يطلبون لكم الفتنة والشر بإِيقاع الخلاف بينكم. التفسير 46 - {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ... } الآية. لا يزال الكلام متصلًا بشأْن المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج، في غزوة تبوك، زاعمين أَنهم كانوا يريدون الخروج ولكن منعهم أَن أَسبابه لم تتيسر لهم. والمعنى: ولو أَراد هؤلاءِ المعتذرون أَن يخرجوا معكم في غزوة تبوك لأَعدوا له مبكرين ما ينبغي من الزاد والراحلة والسلاح، وغير ذلك مما لا بد منه للسفر، وهو مقدور لهم،

ولكنهم لم يريدوه لأَن الله - تعالى - كره انبعاثهم ونهوضهم للخروج معكم، لما فيه من المفاسد التي سيأْتى بيانها، فلذلك ثبطهم وحبسهم عن الخروج، بما استقر في نفوسهم من الجبن والكسل وكراهة الغزو في سبيل الله. {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}: يحتمل أَن يكون هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله لهم للإِذن بالتخلف بعد اعتذارهم، وهو يحمل في طيات عبارته اللوم والذم، وكأَنه يقول لهم: اقعدوا مع القاعدين بعذر أَو بغير عذر، فأَنتم لا تستحقون شرف الجهاد في سبيل الله والثواب المترتب عليه. ويحتمل أَن تكون العبارة من قول بعضهم لبعض متأَثرين بجبنهم الكامن في نفوسهم، وكراهيتهم للدفاع عن الإِسلام قالوها تنفيذًا لتثبيط الله لهم. والمعنى على هذا: وقال بعضهم لبعض: اقعدوا عن الخروج في هذه الغزوة مع القاعدين، فلا مصلحة لنا فيها, ولا يهمنا الغرض الذي خرج الغزاة من أَجله، وقيل: غير ذلك وحسب القارىءُ ما تقدم. 47 - {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}: أَي لو خرج هؤُلاءِ المنافقون فيكم وأَنتم ذاهبون إِلى تبوك، ما زادوكم بخروجهم إِلا شرًّا وفسادًا, ولم يزيدوكم قوة وتأْييدًا، فهم دعاة فتنة وليسوا أَسباب قوة. {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}: هذا تصوير للخبال والفساد الذي كان ينتظر من المنافقين لو خرجوا في غزوة تبوك. بجعلهم كالذين يسرعون بركائبهم خلالهم، مبالغة في إِسراعهم بالنميمة والوشاية بينهم. والمعنى: لو خرجوا فيكم لأَسرعوا بركائبهم بينكم، يسعون بالنمائم والوشايات وإِفساد الصلات، رغبة في توهين عزائمكم، وصرفكم عن الجهاد أَو هزيمتكم، وفيكم ضعاف خفاف يتأَثرون ويهتمون بسماعهم ونقل نمائمهم, والله عليم بهؤلاءِ الظالمين فهو محيط - بضمائرهم وظواهرهم، وما فعلوه فيما مضى وما سيفعلونه فيما سيأْتى.

وقد تضمنت هذه الآية أمرين: (أَحدهما) أن من أَذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم الخروج من المنافقين كانوا دعاة فتنة، وأَنهم لو خرجوا فيهم زادوهم خبالا، وإِذا كان أَمرهم كذلك فلماذا عاتب الله رسوله على الإِذن لهم بالتخلف مع أَن تخلفهم فيه مصلحة للجيش، والجواب: أَنهم كانوا سيتخلفون عن الغزوة قطعًا, وقد تآمروا على ذلك، إِذ قال بعضهم لبعض: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وكان الأَولى أَن لا يأْذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ليكون قعودهم بغير إِذن، حتى يظهر نفاقهم بين المسلمين من أَول الأَمر، فلا يقدروا على مخالطتهم والسعى فيما بينهم بالأَراجيف, ولا يتسنى لهم التمتع بالعيش إِلى أَن يظهر حالهم بنزول الآيات التي كشفتهم. (والأَمر الثاني) الذي تضمنته الآية: أَن الجيش الذي سافر لغزوة تبوك كان فيه بعض ضعاف الإِيمان بدليل وصفهم بقوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فلماذا أَخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معه مع خطورتهم على الجنود. والجواب: أَنهم لم يكونوا في كيفية الفساد وكمية العدد بحيث يخل مكانهم بين المؤْمنين بأَمر الجهاد، وكأَن وجودهم فيه منفعة تكثير سواد المسلمين، على أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معذور في استصحابهم فإِنه لم يكن يعلم بحالهم قبل أَن يكشفهم الله تعالى له فهو الذي يعلم أَسرار القلوب. {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا في الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}. المفردات: {ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ}: طلبوا تفريق المسلمين. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ}: اجتهدوا في استعراضها لتدبير المكايد من أَجلك. {وَلَا تَفْتِنِّي}: ولا توقعنى في المعصية بتخلُّفِى من غير إِذن.

التفسير 48 - {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ}: أي لقد رغبوا في فتنة المسلمين من قبل هذه الغزوة، فقد أَرادوا تشتيت أَصحابك أَيها الرسول وتفريقهم من حولك، وكان ذلك يوم أُحد حين انصرف رأْس المنافقين عبد الله بن أُبى بن سلول من الطريق، بعد أَن خرج مع الجيش للمشاركة في غزوة أُحد يريد بذلك أَن تضعف قلوب المجاهدين، وتتحلل عزائهم برجوعه ومن تبعه من المنافقين، وقد كرروا هذه المأْساة في غزوة تبوك، فقد تخلف ابن سلول بمن معه بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إِليها مع أَصحابه، ووصولهم إِلى ذى جُدَّةٍ أسفل من ثنية الوداع، وقد كانت لهم في الفتنة صفحات سوداءُ يطول الحديث عنها، وحسبنا ما ذكرنا. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}: أَي: وقلبوا من أَجلك الأُمور ورددوها, ليدبروا لك الحيل والمكايد، وعرضوا الآراءَ المختلفة لإِبطال أَمرك، حتى ظهر الحق على الباطل وانتصر عليه، على الرغم منهم وهم لذلك كارهون. وهذه الآية والتي قبلها لتسلية الرسول والمؤْمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله لأَجله، وهتك أَستارهم وإِزاحة أَعذارهم. 49 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا في الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}: أَي ومن هؤلاءِ المنافقين من يقول لك أَيها الرسول: ائذن لي في التخلف عن الغزوة ولا توقعنى في الفتنة - أَي المعصية - إِذا تخلفتُ بدون إِذنك (¬1)، متظاهرًا بالحرص على رضاه، وهو خبيث النية سىءُ الطوية - أَلا فليعلم هو وأَمثاله أَنهم في الفتنة الكاملة المهلكة سقطوا، وذلك بعقدهم العزيمة على التخلف بلا عذر، والجراءَة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة والتماسهم الأَعذار الكاذبة, ونفاقهم وعدم إِخلاصهم. ¬

_ (¬1) ومن العلماء من فسر "ولا تفتنى" بمعنى ولا تلقنى في الهلكة فإنى إن خرجت هلك مالى وعيالى لعدم من يقوم بمصالحهم. وقيل: أن الجد بن قيس قال للرسول: قد علمت الأنصار أنى مشتهر بالنساء فلا تفتنى ببنات الأصفر - يعني الروم - ولكن أعينك بمالى فاتركنى: فنزلت الآية.

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}: هذا وعيد لهم على ما فعلوا، أَي: وإِن جهنم لجامعة لهؤُلاءِ المنافقين يوم القيامة محيطة بهم من كل جانب لكفرهم، ويجوز أَن يكون المعنى: وإِن جهنم لمحيطة بهم الآن، تنزيلا للعذاب المحقق وقوعه مستقبلا منزلة الواقع، أَو وضعًا لأَسباب التعذيب بجهنم موضع جهنم، فإِن مبادىءَ إِحاطة النار بهم من الكفر والمعاصي محيطة بهم من كل جانب وقت نزول الآية - وقيل غير ذلك. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}. المفردات: {حَسَنَةٌ}: نعمة، والمراد بها هنا: النصر والغنيمة. {مُصِيبَةٌ}: شدة، كهزيمة أُحد. {كَتَبَ اللهُ}: أثبت في علمه أَو في اللوح المحفوظ. {مَوْلَانَا}: متولى أُمورنا. {تَرَبَّصُونَ}: أَصله تتربصون فخفف بحذف إِحدى التاءَين، ومعناه تنتظرون. {الْحُسْنَيَيْنِ}: الغايتين المستحسنتين النصر والشهادة في سبيل الله. التفسير 50 - {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ ... }:

هؤُلاءِ المنافقون الذين استأْذنوك في التخلف عن الجهاد ليس عندهم شىءٌ من الميل نحوك، ولا الرغبة في مرضاتك كما يزعمون، ذلك أَنه إِن تصبك نعمة من الله بنصر وغنيمة تسؤْهم وتحزنهم، لفرط حسدهم وكراهتهم لك، وإِن تُصِبْكَ مصيبة تؤْلمك كالذى أَصابك يوم أُحد من الجراح والهزيمة، يقولوا مغتبطين لتخلفهم، حامدين لرأْيهم وسياستهم، قد احتطنا وأَخذنا أَمرنا من قبل المصيبة بتلافى ما يهمنا، حيث اعتزلنا المقاتلين، وقعدنا عن الحرب، ودارينا الكفرة بذلك، حيث اعتزلنا المسلمين وهم في قوتهم قبل أَن يهزموا، وسلمنا مما أَصاب المقاتلين من قتل وجرح. {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}: أَي وينصرفوا عن المجلس الذي كانوا يتحدثون فيه حديثهم هذا، وهم كثيرو الفرح بهزيمة المسلمين، ونجاة أَنفسهم بأَخذهم حذرهم واحتياطهم بالتخلف عنهم، ...... وقيل: المراد بتوليهم إِعراضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهزيمة. 51 - {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: قل أَيها الرسول لهؤُلاءِ المنافقين الشامتين ردًّا على شماتتهم: لن يحدث لنا إِلا ما قدره الله علينا، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، فإِن نصرنا فلا أَثر لكم في النصر إِن وجدتم معنا، وإِن هزمنا فلا أَثر لكم في الهزيمة إِن تخلفتم عنا، والله وحده هو ناصرنا، وعليه لا على غيره فليعتمد المؤْمنون. 52 - {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} قل أَيها الرسول لهؤُلاءِ المنافقين الشامتين إِمعانًا في الرد عليهم، وبيانًا لحسن عاقبة المؤْمنين المجاهدين: ما تنتظرون بنا إِلا إِحدى العاقبتين الحسنيين - وهما النصر والشهادة - وما تتمنونه لنا وتفرحون به من القتل لتتخلصوا منا، هو أَنفع لنا من النصر والغنيمة اللذين تعدونهما منفعة لنا، وتتأَلمون من حصول المجاهدين عليهما. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}:

ونحن ننتظر بكم أَن يصيبكم الله بعذاب من عنده، كما أَصاب من قبلكم من الأُمم المهلكة كعاد وثمود، أَو بعذاب بأَيدينا هو القتل، وهذا أَو ذاك بسبب كفركم الذي انطوت عليه قلوبكم، وتربصكم بنا الموت والهزيمة، وكراهتكم للإِسلام والمسلمين، وإِذا كان أَمرنا وأَمركم ما تقدم فانتظروا بنا ما ترونه شرًّا ونراه خيرًا - وهو الشهادة في سبيل الله -، إِنا معكم منتظرون ما تستحقونه من عذاب الله أَو العذاب بأَيدينا. {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}. المفردات: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}: أَي طائعين أَو كارهين. {فَاسِقِينَ}: متمردين خارجين على حدود الله بإِبطان الكفر مع إِظهار الإِيمان وبغير ذلك من المعاصي. {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}: وتخرج بصعوبة، والزهوق الخروج بمشقة. التفسير 53 - {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}: لا يزال الكلام متصلًا بشأْن المنافقين.

والمعنى: قل أَيها النبي لهؤلاءِ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وعرضوا المساهمة في تفقاتها بأَموالهم: أَنفِقوا أَموالكم في سبيل الله طائعين راضين، أَو متورطين كارهين، فلن يتقبل الله منكم ما تنفقون، ولن يثيبكم عليه، ولن يشفع لكم في تخلفكم عن تبوك لأَغراض خبيثة في نفوسكم، إِنكم كنتم وما زلتم قومًا عتاة متمردين، فقد أَبطنتم الكفر ونافقتم الإِسلام، فكيف يتقبل الله من الكافرين المرائين، وقد بين الله فسقهم الذي كان سببًا في عدم قبول إِنفاقهم بقوله: 54 - {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ}. الآية. أَي: وما منعهم شىءٌ من قَبُول نفقاتهم إِلا كفرهم القلبى باللهِ وبرسوله، وأَنهم لا يؤدون الصلاة في نشاط وإِقبال بل يؤدونها وهم كسالى متثاقلون، ولا ينفقون من أَموالهم في سبيل الله عن رضا وراحة نفس، بل يفعلون ذلك وهم كارهون، لأَنهم لا يرجون بها ثوابا, ولا يخافون على تركها عقابا. 55 - {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}: فلا تستحسن أَموالهم ولا أَولادهم يأَيها المتأَمل ولا تكن مغتبطا مسرورا بحالهم، فكل ذلك وبال عليهم واستدراج لهم، فما يريد الله بتلك النعم إِلا تعذيبهم بها في الحياة الدنيا، بما يكابدون من المشقة في تحصيل الأَموال وحفظها، ومن المتاعب في تربية الأَولاد، وما يريد لله بها أَيضا إِلا أَن تخرج أَنفسهم وأَرواحهم من أَجسادهم بعد ذلك بمشقة شديدة، وهم كافرون باللهِ ورسوله، حيث شغلتهم دنياهم عن أُخراهم، وغفلوا عما أُعد لهم فيها من عذاب مقيم.

{وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}. المفردات: {يَفْرَقُونَ}: يخافون. {مَلْجَأ}: مكانا حصينًا يلجأُون إِليه. {مَغَارَاتٍ}: كهوفًا في الجبال. {مُدَّخَلًا}: (¬1) نفقا في الأَرض. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ}: لانصرفوا نحوه. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}: وهم يسرعون أَشد الإِسراع. التفسير 56 - {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}: ويحلف هؤلاءِ المنافقون بالله تعالى إِنهم من جملتكم في الدين والعمل، يريدون بذلك أَن يدلسوا على المؤْمنين بعد افتضاح أَمرهم، والحقيقة أَنهم ليسوا منكم أَيها المؤْمنون، فقلوبهم خالية من الإِيمان الذي امتلأَت به قلوبكم، ولكنهم قوم يخافون خوفا شديدا من أَن يفعل بهم ما يفعل بالمشركين، فلهذا يظهرون الإِسلام ويشاركونكم في شعائره ويؤَيدون ذلك بالأَيمان الفاجرة، ولو استطاعوا لهربوا منكم وفي ذلك يقول الله تعالى: 57 - {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأ أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}: هذه الآية مقررة لما جاءَ في الآية التي قبلها من أَن المنافقين ليسوا من المؤمنين، وأَن نسبتهم أَنفسهم إِلى المسلمين أَرادوا بها أَن يحموا أَنفسهم من القتل. والمعنى: لو يجد أُولئك المنافقون مكانا حصينا في جبل أَو قلعة أَو نحوهما يلجأُون إِليه، أَو كهوفا خفية يخفون فيها أَنفسهم، أَو نفقا في الأَرض يدخلون فيه ويندسون، ¬

_ (¬1) على وزن مفتعل من الدخول.

لانصرفوا إِليه عنكم، وهم يسرعون إِسراع الفرس الجموح الذي لا يثنيه اللجام، إِيثارا للإِقامة في هذه الأَماكن على الإِقامة مع المؤمنين، حتى يكونوا فيها على سجيتهم من الكفر، ولا يخشون من المؤمنين انتقاما. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59)}. المفردات: {يَلْمِزُكَ}: يعيبك سرا. {في الصَّدَقَاتِ}: في شأْن قسمة أَموال الزكاة. {يَسْخَطُونَ}: يغضبون. {حَسْبُنَا اللهُ}: أَي كافينا. التفسير 58 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا ... } الآية. نزلت هذه الآية في أَبي الجواظ المنافق قال: أَلا ترون إِلى صاحبكم إِنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أَنه يعدل. وقال أَبو سعيد الخدرى: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم مالًا إِذ جاءَه حُرْقُوص بن زهير - أَصل الخوارج - ويقال له: ذُو الخُوَيْصِرة التميمى، فقال: أَعدل يا رسول الله، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ويلك ومن يعدل إِذا لم أَعدل"؟ فنزلت الآية - حديث صحيح أَخرجه مسلم بمعناه - وعندها قال عمر - رضي الله عنه -: دعنى يا رسول الله فأَقتلَ هذا المنافق، فقال: "معاذ الله أَن يتحدث الناس أَنى

أَقتل أَصحابى، إِن هذا وأَصحابة يقرأُون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمِيَّةِ". المعنى: ومن هؤلاءِ المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات زاعمين أَنك تركت بعض من يستحقون وأَنهم منهم، وأَعطيت بعض من لا يستحقون، وهذا زور وبهتان، فإِن هؤلاءِ الكاذبين لو أُعطوا منها كما يشتهون رضوا ولم يلمزوا ولم يعترضوا، وإِن لم يعطوا منها كما يحبون يفاجئون الناس بالسخط والغضب، ويعيبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقسيمها، فرضاهم وسخطهم ليسا لوجه الحق والدين، بل لحظوظ أَنفسهم، وإِيثارهم لها على أَهل الاستحقاق. 59 - {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ}: ولو أَن هؤلاءِ اللامزين المعترضين أَخذوا ما أَعطاهم الله ورسوله من الصدقات ونفوسُهم راضية بما أَخذوه وإِن قل، وقالوا: كافينا فضل الله وما قسمه لنا في هذه المرة، سيعطينا الله من فضله ورسوله بعدها من صدقات أَو مغانم أُخرى حسبما نرجو ونأْمل، إِنا إِلى الله راغبون في زيادة الخير والفضل، لو أَن ذلك كله حدث منهم، لكان خيرا لهم وأَزكى مما قالوه، واستحقوا غضب الله من أَجله. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}. المفردات: {لِلْفُقَرَاءِ}: جمع فقير وهو من لا مال له، أَو له مال لا يقع موقعا من كفايته. {وَالْمَسَاكِينِ}: جمع مسكين، وهو من لا مال له، أو له مال يقع موقعًا من كفايته، فالفقير أَسوأُ حالًا من المسكين وقيل بالعكس.

التفسير لما عاب المنافقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسم الصدقات بقولهم: أَترون إِلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أَنه يعدل، جاءَ القرآن الكريم يقرر صواب طريقته وأَنه أَعطاها لمن يستحقونها, ولم يأْخذ لنفسه شيئًا منها فقال تعالى: 60 - {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية. أَي إِنما تصرف الصدقات للفقراءِ والمساكين، والمراد بالصدقات ما يشمل أَنواع البر المختلفة من زكاة مفروضة، أَو صدقة متطوع بها، والفقير والمسكين كلاهما لا يجد ما يكفيه، وهل الفقير أَسوأُ حالا من المسكين أَو العكس خلاف بين الفقهاءِ. {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}: أَي وتصرف الصدقات أَيضا للذين يعملون في جمعها وتحصيلها، ويقومون بكتابة ما أَعطاه أَرباب الأَموال، وجمع المستحقين لها وتوزيعها عليهم. {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}: وهم أَصناف، فمنهم قوم أَسلموا ولم يستقر الإِسلام بعد في قلوبهم، فكان رسول - صلى الله عليه وسلم - يؤلف قلوبهم بإِجزال العطاءِ لهم، ومنهم أَشراف من العرب كان الرسول يتأَلفهم ليسلموا، ومنهم آخرون أَقوياءُ الإِيمان كانوا يُعطون أَملا في إِسلام نظرائهم، فينتصر، بهم الإِسلام. {وَفِي الرِّقَابِ}: أَي ويصرف منها في فك الرقاب وذلك بإِعانة المكاتبين بشىء منها على أداء مال الكتابة وتخليص الأَسارى من أَيدى الكفار، وشراءِ الأَرقاءِ وعتقهم، لتحرير رقاب الجميع من ربقة الرق والعبودية. {وَالْغَارِمِينَ}: وهم الذين استدانوا في غير معصية، فيعطون منها ليتمكنوا من أَداءِ ديونهم إِذا لم يكن لهم مال يفى بديونهم، أَو هم الذين غرموا في سبيل الإِصلاح بين الناس وإِن كانوا أَغنياء. {وَفِي سَبِيلِ اللهِ}: أَي ويصرف منها للغزاة القائمين بالجهاد، ليستعينوا بها على القتال في سبيل نصرة الدين. {وَابْنِ السَّبِيلِ}: وهو المسافر الذي قطعه السفر عن أَهله وماله، فيأْخذ منها ما يستعين به على الوصول إِلى غرضه. هؤلاءِ الثمانية تصرف لهم الصدقات وتختص بهم وحدهم، لا يعطى منها أَحد سواهم، وإِذا كانت الصدقات لا تعطى لغيرهم، فما لهؤلاءِ الذين لا يستحقون شيئًا منها يعيبون قاسمها ويتكلمون في شأْنه وشأْنها بما لا يليق.

{فَرِيضَةً مِنَ اللهِ}: أَي فرض الله لهؤلاءِ المذكورين الصدقات فريضة محكمة ثابتة لإِصلاح شئونهم، فلا يعطى منها غيرهم ولا يمنع منها من وجد منهم. {وَاللهُ عَلِيمٌ}: أَي والله محيط علمه بكل شيء فيعلم أَحوال الناس وما يصلح شئونهم. {حَكِيمٌ}: يفعل كل شيء بحكمة بالغة ومنها وضع الصدقات في مواضعها النافعة. {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}. المفردات: {أُذُنُ}: يسمع كل ما يقال ويصدقه، كأَنه من فرط استماعه صار آله للسماع. {يُحَادِدِ}: يجانب ويخالف ويعادى. {الْخِزْيُ}: الذل والهوان. التفسير كان جماعة من المنافقين يعيبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتكلمون في شأْنه بما لا ينبغي، فقال بعضهم لا تفعلوه خشية أَن يبلغه ذلك فيعاقبنا، وقال بعضهم: قولوا ما شئتم ثم إِذا بلغه ذلك ذهبنا إِليه وأَنكرناه وحلفنا فيصدقنا، فإِنه أُذن يسمع كل ما يقال له فيصدقه، فأَنزل الله قوله تعالى: 61 - {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ... } الآية.

أَي ومن المنافقين جماعة يؤْذون النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعييبه والطعن في رسالته فيما بينهم, ويزيدون في تعييبه وتنقيصه أَن يسموه فيما بينهم أُذنًا، يريدون بذلك أَنه يسمع كل كلام يلقى إِليه ويقتنع به ويصدقه. فأَمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لهم: {هُوَ أُذُنٌ} كما تقولون ولكن لا من الجهة التي تذمونه بها وهي سماعه كل ما يقال، بل من حيث إِنه كثير الاستماع إِلى الخير والحق يقبله ويعمل به. ثم بين القرآن الكريم كونه أَذن خير بقوله: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}: أَي يصدق باللهِ الذي لا يشك فيه عاقل، ويصدق المؤْمنين ويُسَلِّمُ لَهُمْ، لظهور إِخلاص نياتهم واطمئنان قلوبهم. وكان إِيمانه - صلى الله عليه وسلم - باللهِ واطمئنانه إِلى المؤمنين خيرًا للمخاطبين ولسائر العالمين, لأَنه الإِمام الداعى إِلى التوحيد وإِلى كل خير. {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}: أَي وهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة للذين أَظهروا الإِيمان منكم، إِذ قبله لا تصديقًا لهم، بل رفقا بهم، فلم يهتك لهم سترا, ولم يكشف لهم سرًّا، بل أَحسن إِليهم وتجاوز عن سيئاتهم، رجاءَ أَن يتوبوا من نفاقهم، ويخلصوا الإِيمان لربهم. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ} - صلى الله عليه وسلم - بتهوين شأْنه والانتقاص من قدره بما قالوا. {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: شديد الإِيلام بسبب إِيذائه. والإِخبار في نهاية الآية عن شدة عذاب الذين يؤْذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتهديد والوعيد على إِيذائه، وفي ذكره - صلى الله عليه وسلم - بوصف كونه رسول الله تعالى إِعظام لشأْنه وإِجلال لقدره، وتنبيه على أَن إِيذاءَه موجب لسخط الله تعالى. وكان المنافقون يتحدثون بما يؤْذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعيبه وينتقص من قدره، ثم يجيئون إِلى المؤمنين وينكرون ذلك ويؤكدون إِنكارهم بالإِيمان ليرضوا عنهم، فبين القرآن الكريم أَنهم كاذبون في إِنكارهم بقوله تعالى:

62 - {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}: أَي يقسم هؤُلاءِ المنافقون باللهِ لكم أَيها المؤْمنون، أَنهم ما أَساءُوا إِلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بكلام يعيبه وينتقص من قدره، يريدون بذلك أَن ترضوا عنهم، بتصديقهم في نفى ما نقل عنهم من قالة السوءِ في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعنيهم إِرضاءُ الله ورسوله باتباع سبيل المؤْمنين، مع أَنه هو الواجب كما قال الله تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}: أَي والله أَحق أَن يرضوه بإِرضاءِ رسوله إِن كانوا صادقين في إِيمانهم، وذلك باتباعه فيما جاءَ به عن ربه، والقيام بما يجب له من الإِجلال والإِكبار حاضرا وغائبًا، فطاعته طاعة لله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ}. 63 - {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}: أَي أَغاب عن هؤُلاء المنافقين ولم يصل إِلى علمهم، أَنه من يعادى الله ورسوله فإِن له نار جهنم، يعذبه الله بها ماكثًا فيها لا يخرج منها، ذلك العذابُ الدائمُ الذي بلغ الغاية في الهول والشدة، هو العار الفاضح والذل الدائم، والهوان الشديد، حين يفتضح أَمرهم وينكشف حالهم يوم القيامة على رءُوس الأَشهاد. {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا في قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}.

المفردات: {يَحْذَرُ}: يخاف. {اسْتَهْزِئُوا}: استخفوا واسخروا. {مُخْرِجٌ}: مظهر. {نَخُوضُ}: ندخل ونمضى في الكلام نشغل به أَنفسنا. {وَنَلْعَبُ}: ونعبث. {لَا تَعْتَذِرُوا}: لا تطلبوا قبول المعذرة والحجة التي تبرئون بها أَنفسكم. {مُجْرِمِينَ}: مرتكبين للجرم وهو الذنب العظيم. التفسير 64 - {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا في قُلُوبِهِمْ ... } الآية. أَي: يخشى المنافقون ويفزعون أَن ينزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شأْنهم سورة تتلى عليهم وتخبرهم بما أَخفوه في قلوبهم، وبما كانوا يتحدثون به فيما بينهم، من سخرية واستهزاءٍ بالرسول، وبما أَنزل الله عليه من كتاب، واستخفاف بالمؤْمنين، وفي إِنزالها على الرسول وتلاوتها عليهم، إِعلام للناس تنكشف به أَستارهم، وتفتضح به أَحوالهم، فهم لذلك يخافون نزولها ولا ينفعهم حذرهم هذا بشىءٍ. {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}: أَي قل لهم أَيها الرسول: استهزئوا واسخروا من النبي والمؤْمنين ما شئتم، وبالغوا في حذركم وتخفيكم ما أَردتم إِن الله معلن ومظهر ما تخافون إِظهاره، وتخشون انكشافه, من مخازيكم التي تضمرونها في قلوبكم وتخفونها في صدوركم. أَخرج ابن المنذر وابن أَبي حاتم عن قتادة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوته إِلى تبوك، إِذ نظر إِلى أُناس بين يديه من المنافقين يقولون: أَيرجو هذا الرجل أَن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فأَطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك، فقال: احبسوا علىَّ الركبَ، فأَتاهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: قلتم كذا وكذا, قالوا يا نبى الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت. وفي رواية: قالوا: يا نبى الله - لا - والله ما كنا في شيءٍ من أَمرك ولا من أَمر أَصحابك، ولكن كنا في شيءٍ مما يخوض فيه الركب ليُقَصِّر بعضنا على بعض السفر فكشف الله أَحوالهم في قوله تعالى: 65 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ... } الآية.

أَي: والله لَئِن سألتهم يا محمَّد عما كانوا يتحدثون به استهزاء وهم سائرون معك إِلى تبوك، بعد أَن فضح الله أَمرهم بما أَوحاه الله إِليك. {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}: أَي ليقولن معتذرين كذبًا، إِنما كنا ندخل ونمضى في أَحاديث مختلفة للتسلية وتقصير السفر، ولم نكن جادين فيما تحدثنا به، بل كنا لاهين ولاعبين، لا نقصد بذلك سخرية ولا استهزاء، فلما قالوا ذلك أَمر الله تعالى، رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أَن يقول لهم ردًّا لاعتذارهم: {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}: أَي قل أَيها النبي لهؤلاءِ المنافقين، غير ملتفت إِلى اعتذارهم فليسوا فيه بصادقين، - قل لهم - تقريعا: أَبالله القادر على كشف أَسراركم، وآياته المجيدة ورسوله الصادق، كنتم تلهون وتعبثون وتسخرون، إِنّ هذا منكم لمنكر وعجيب لا يصدر إِلا عن كفر عميق وعقل مريض. 66 - {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... } الآية. أَي: لا تشغلوا أَنفسكم بتلمس المعاذير وانتحالها، رغبة في دفع اللوم والعتاب عنكم، لتحقق كذبها وظهور بطلانها، فإِنكم قد كفرتم بالاجتراءِ على الله والاستهزءِ به وبآياته وبرسوله، بعد أَن أَعلنتم الإِيمان وأَظهرتم الإِسلام. {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}: أَي إِن نتجاوز عن ذنوب جماعة منكم - فلا نعاقبهم بها - لصدق توبتهم وإِخلاص إِيمانهم، وابتعادهم عن الإِيذاءِ والاستهزاءِ، بعد أَن خاضوا في ذلك مع الخائضين. {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}: أَي نعاقب جماعة أُخرى بالعذاب الشديد لإِصرارهم على الكفر والنفاق ومضيهم في السخرية والاستهزاءِ.

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}. المفردات: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ}: هم الذين يظهرون غير ما يضمرون. {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}: أَي متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان. {يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} كناية عن شدة بخلهم. {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}: أَي تركوا حق الله عليهم فحرمهم فضله. {الْفَاسِقُونَ}: الخارجون عن دين الله. التفسير 67 - {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .. } الآية. بعد أَن بينت الآية السابقة عدم قبول أَعذار المنافقين لبطلانها وكذبها واجترائهم على الله واستهزائهم بآياته ورسوله، بيَّن سبحانه هنا صفات المنافقين وشرح طريقتهم وأَخلاقهم مع الله ورسوله كاشفًا سبب عقابهم فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}: أَي متشابهون في أَخلاقهم وسلوكهم، وشرح تشابههم في ذلك بقوله سبحانه: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}: أَي يأْمرون بالمعاصى وكل ما هو قبيح في الشرع والطبع السليم وينهون عما عرف حسنه من الإِيمان والطاعة. {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}: على المال ضنا به وحرصًا عليه وشُحًّا به، فقبض اليد كناية عن شدة بخلهم بالإِنفاق في أَي وجه من وجوه البر والخير والطاعات، وأَنهم لا يخرجون من أَموالهم واجبًا ولا مندوبًا {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}: أَي تركوا حق الله عليهم وأَغفلوا أَمره حتى لم يعد يخطر لهم على بال فتركهم الله تعالى ولم يُقم لهم وزنًا، فهم بمعزل عن فضله ورحمته. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: أَي إِن المنافقين الذين تقدم شرح حالهم، هم الذين بلغوا الغاية في الخروج عن دين الله وطاعته والتمرد عليه.

{وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}. المفردات: {حَسْبُهُمْ}: كافيهم. {وَلَعَنَهُمُ}: وطردهم من رحمته. {مُقِيمٌ}: دائم لا يزول ولا يتحول. {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ}: فتمتعوا بنصيبهم الذي قدر لهم من الملاذ والشهوات. {وَخُضْتُمْ}: ومضيتم في أَحاديث الاستهزاءِ والسخرية. {حَبِطَتْ}: بطلت وضاع ثوابها. التفسير 68 - {وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ ... } الآية. بعد أَن بين القرآن الكريم طائفة من جرائم المنافقين والمنافقات جاءَت هذه الآية ببيان جزائهم وعقابهم في الآخرة وكذلك عقاب الكفار الصرحاء في الكفر فقال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ ... }: والمعنى: وعد الله المرائين بالإِيمان والمبطنين للكفر، من الرجال والنساء، كما وعد الكفار الصرحاء {نَارَ جَهَنَّمَ} يصلون سعيرها، {خَالِدِينَ فِيهَا} لا يبرحونها, ولا ينقطع عنهم عذابها {هِيَ حَسْبُهُمْ} أَي جهنم وحدها تكفيهم عقابًا وعذابًا على نفاقهم وكفرهم، {وَلَعَنَهُمُ اللهُ} أَي وأَبعدهم عن رحمته وطردهم منها {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أَي ولهؤلاءِ نوع شديد من العذاب في النار دائم لا يفارقهم, جزاءَ ما اقترفوا من جرائم وآثام.

69 - {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ... } الآية. أَي: أَنتم أَيها المنافقون وكفار مكة حالكم مثل حال الذين مضوا من المنافقين والكفار من الأُمم المهلكة قبلكم, في الاستمتاع بالحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة, والجرأَة على الحق, واستحقاق العقاب, وذلك أَنهم كانوا أَعظم منكم قوة أَيها المخاطبون, وأَكثر أَموالًا وأَولادًا, فتمتعوا بنصيبهم الذي قدر لهم من حظوظ الدنيا وطيباتها, وأَفرغوا كل جهد لهم في التمتع بالملذات والشهوات, ونسوا حق الله عليهم ولم يلتزموا بطاعته, واستخفوا بأَنبيائهم وسخروا منهم, فكذلك كنتم بعدهم مثلهم انتفعتم بنصيبكم الذي قدر لكم من متاع الدنيا وزينتها, وحرصتم عليه وجعلتم الاشتغال به غاية الغايات, كما تمتع الذين من قبلكم. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}: أَي ودخلتم أَيها المنافقون والكافرون في الباطل وانغمستم فيه كانغماس الذين مضوا قبلكم من الأُمم. {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: أَي أُولئك الذين انغمسوا في الباطل إِلى الأَذقان من الفريقين، وجعلوا كل همهم التمتع بالشهوات - أُولئك المذكورون - بطلت أَعمالهم المشتملة على الخير، فلم تنفعهم في الدنيا والآخرة, إِذ لا اعتبار للعمل الطيب بغير إِيمان وتصديق. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: أَي وأُولئك هم الذين خسروا خسرانًا مبينا لا خسران بعده، إِذ قضوا حياتهم فيما يضرهم ولا ينفعهم. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}. المفردات: {نَبَأُ}: خبر له شأْن. {الْمُؤْتَفِكَاتِ}: المنقلبات وهي قرى قوم لوط. {بِالْبَيِّنَاتِ}: بالحجج الواضحات.

التفسير 70 - {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ ... } الآية. بعد أَن حكى القرآن الكريم طائفة من جرائم المنافقين ووعيد الله لهم بالعذاب بالنار وحكى مشابهتهم لمن قبلهم في النفاق وتوعدهم بالعقاب انتقل في هذه الآية إِلى توبيخهم على عدم اعتبارهم بإِهلاك من قبلهم حين كذبوا برسلهم فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ}: والمعنى: أَلم يصل إِلى علم هؤُلاءِ المنافقين والكافرين خبر الذين كفروا من قبلهم, الجدير بأَن يكون عبرة لهم ولغيرهم كما يتضح مما يأْتى: وهؤُلاءِ هم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إِبراهيم وأَصحاب مدين والمؤْتفكات. {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: أَي جاءَ كل رسول قومه بالآيات الظاهرة والحجج الواضحة، الدالة على وحدانية الله، الشاهدة بصدق رسالته، فلم يؤْمنوا، وكذبت كل أُمة برسولها، وآذته، فأَهلكهم الله بذنوبهم، وما كان الله ليعذب أَحدًا بغير ذنب. {فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أَي فما صَحَّ وما استقام في سنة الله في خلقه أَن يعاقبهم بغير ذنب فيظلمهم بذلك، ولكن هؤُلاءِ الطغاة ظلموا أَنفسهم بالكفر والفسوق والعصيان، حيث عرضوها بذلك لأَشد العقاب، وظلم النفس أَشدُّ أَنواعِ الحمق والقبح. وقد أَهلك الله قوم نوح بالطوفان، وعاد - وهم قوم هود - بالريح العقيم، وثمود - وهم قوم صالح - بالرجفة، وعاقب قوم إِبراهيم بنصره عليهم والانتقام منهم، وأَصحاب مدين - وهم قوم شعيب - بالنار يوم الظلمة. (والمؤْتفكات): أَي المنقلبات هي قرى قوم لوط التي قلبها الله عليهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأَمطر عليهم حجارة من سجيل؛ والأُمم المعاقبة أَكثر من هذه الست، ولكنه تعالى اقتصر عليها لأَن آثارهم وبلادهم بالشام والعراق واليمن وهي قريبة من أَرض العرب فكانوا يقرون عليها ويعرفون أَهلها.

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}. المفردات: {أَوْلِيَاءُ}: جمع ولى وهو المحب. {خَالِدِينَ فِيهَا}: ماكثين فيها مكثًا دائمًا. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: أَي جنات إِقامة وخلود، يقال عدن بالمكان عدنا وعدونا أَقام به. التفسير بعد أَن بين القرآن الكريم سوءَ حال المنافقين والكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بيان حسن حال المؤْمنين في الدارين تنفيرًا من اتباع أُولئك وترغيبًا في التأَسى بهَؤُلاءِ، فقال - تعالى: 71 - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .. } الآية. أَي: والمؤْمنون والمؤْمنات بعضهم محب لبعض، يجمعهم الإِيمان وحسن الصحبة والتناصر، ويتولى بعضهم بعضًا بما يعود عليه بصلاح الحال في الدنيا والآخرة، ومن مظاهر ولاية بعضهم لبعض أَنهم يأْمرون بما عرف من الشرع والطبع السليم أَنه حَسَنٌ مباح، وينهون عما عرف من الشرع والطبع السليم أَنه مُنْكَر وقبيح، ويؤَدون الصلاة قويمة

سليمة مستوفية الشروط والأَركان، ويعطون الزكاة لمستحقيها، ويطيعون الله ورسوله بامتثال أَوامره واجتناب نواهيه. {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ}: أَي أُولئك الموصوفون بتلك الفضائل العظيمة سيفيض الله عليهم من آثار رحمته ما به ينصرهم على أَعدائهم، ويؤيدهم في كفاحهم وجميع أَحوالهم، ويسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. أَي إِنَّ الله غالب قوى لا يمتنع عليه شيء، فهو قادر على إِعزاز أَوليائه وقهر أَعدائه. {حَكِيمٌ}: يضع كل شيء في موضعه بحكمة بالغة، فينعم على المؤْمنين بسعادة الأُولى والآخرة ويعاقب الكافرين والمنافقين بخسران الدارين. 72 - {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية: أَي: وعد الله المصدقين والمصدقات باللهِ ورسوله وبما أَنزله من شرع وأحكام، أَن يجزيهم على إِيمانهم الصادق وعملهم الصالح جنات تجرى من تحت قصورها وأَشجارها الأَنهار، إِتماما لنعيمها وتكريما لأَصحابها، وقدر لهم الخلود فيها ووعدهم - سبحانه - مساكن طيبة في جنات خلود وإِقامة، يسرون بجمالها وسعتها وما فيها من نعيم مقيم. وأَعظم من ذلك كله رضوان الله تعالى عنهم، فإِن الشعور بلذة رضوان الله أَكبر من الشعور بلذة نعيم الجنة. {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أَي ذلك الذي وعدهم الله إِياه من النعيم المقيم في دار الخلود الدائم، وما تفضل به عليهم من رضاه هو الفوز الذي بلغ الغاية في العظم فينبغى الحرص عليه والعمل له والتنافس فيه.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ في الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}. المفردات: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}: واشدد عليهم ولا تأْخذك بهم رأْفة ورحمة. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}: أَي ومكانهم ومقرهم الذي يأْوون إِليه وينزلون فيه جهنم. {الْمَصِيرُ}: المآل والمرجع. {قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}: أَي نطقوا بما يدل عليه من الأَلفاظ. {وَهَمُّوا}: المراد من الهم هنا العزم - أَي عزموا. {بِمَا لَمْ يَنَالُوا}: بما لم يستطيعوا الوصول إِليه. {نَقَمُوا}: كرهوا وأنكروا. {وَلِيٍّ}: صديق ينفعهم، أَو سيد متولى أَمرهم. التفسير 73 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... } الآية. يا أَيها النبي جاهد الكفار الصرحاءَ الذين يجهرون بالكفر، وجاهد المنافقين الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر, أُولئك الكفار بالسيف والسلاح، وهؤلاءِ المنافقين بالحجة والبرهان وإِقامة الحدود {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}: أَي وكن أَيها النبي شديدًا عليهم في جهادك فلا تلاينهم ولا تأْخذك بهم رأْفة ولا رحمة، هذا جزاؤهم في الدنيا. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: ومقرهم الذي يأْوون إِليه في الآخرة جهنم يعذبون فيها بالنار, وبئس المرجع الذي سيصيرون إِليه والنهاية التي سينتهون إِليها - نار جهنم.

ثم انتقل القرآن الكريم يحكى ما ارتكبوه من جرائم استوجبوا بها ما مر، من الأَمر بجهادهم والغلظة عليهم فيه, ودخول جهنم في الآخرة فقال تعالى: 74 - {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا ... } الآية. روى أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَقَام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمعه من كان منهم معه، فقال الجلاس بن سويد لئن كان ما يقول محمَّد حقا لإِخواننا الذين خلَّفْناهم - وهم ساداتنا وأشرافنا - لنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستحضره فحلف بالله ما قاله, فنزلت الآية فتاب الجلاس وحسنت توبته. والمعنى: يقسم هؤلاءِ المنافقون بالله أنه ما صدر عنهم ما نسب إِليهم من القول السَّيَّىِء والنطق بكلمة الكفر، وهُمْ كاذبون في دعواهم حانثون في يمينهم، ولهذا كذبهم الله قائلا: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}: أَي: ولقد صرحوا بكلمة تدل على كفرهم الذي كتموه وتفضح نفاقهم، إِذ قالوا لو كان ما يقوله محمَّد في حق إِخواننا حقا لنحن شر من الحمير، وأعلنوا ما خبأُوه في قلوبهم من الكفر بعد أَن قالوا كلمة الإِسلام بأَفواههم. {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}: أَي وهموا بفعل ما لم يصلوا إِليه ولم يقدروا عليه من قَتْل النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أَن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادى إِذا تَسنَّم العَقبَة بالليل، فأَخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة يسوقها فبينما هما كذلك إِذ سمع حذيفة بوقع أَخفاف الإِبل وقعقعة السلاح، فقال: إِليكم يا أَعداءَ الله, فهربوا. وقيل هموا بإِخراج الرسول والمؤمنين من المدينة، أَو بأَن يُتَوِّجوا عبد الله ابن أُبَىٍّ ملكا عليها فأَحبط الله مُؤَامرتهم. {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}: أَي وما حَمَل هؤلاءِ المنافقين والكفار على بغض الرسول والذين آمنوا معه وكراهتهم لهم - ما حملهم على ذلك - شيء يستوجب البغض والكفر، بل المحبة والإِيمان, فقد كانوا قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة في غاية من ضنك العيش وشدة الحياة

فأَغناهم الله تعالى من خيره الوفير بمقدم نبى الرحمة، ووسع عليهم أَرزاقهم من الغنائم وغيرها، وقتل للجلاس مولى، فأَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديته اثنى عشر ألف درهم فاستغنى، وعرفهم بآياته على لسان رسوله فأَسلموا فحملهم لؤم الطبع وظلام القلب على البغض والحقد والكراهية، بدل أن يشكروا هذا الإِنعام بطاعة الرسول والدخول في دين الإِسلام. {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}: أَي ومع ذلك فإن يرجع هؤُلاءِ الكفار عما هم عليه من الكفر إِلى الإِيمان ويتوبوا إلى الله من جرائمهم يقبل توبتهم ويكن ذلك خيرا لهم في الدنيا والآخرة. {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: أَي وإِن يعرض هؤُلاءِ عن الإِيمان والتوبة، ويستمروا على ما هم عليه من الكفر والنفاق، يعذبهم الله عذابا شديد الإِيلام في الدنيا بالقتل والأَسر والإِذلال، وفي الآخرة بأَشد العذاب في النار. {وَمَا لَهُمْ في الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: أَي وليس لهم في الأَرض على سعتها وكثرة أَهلها صديق ولا ناصر يدفع عنهم عذاب الله. {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}. المفردات: {مِنْ فَضْلِهِ}: زيادة خيره وإِنعامه. {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا}: أَي جعل الله عاقبة بخلهم نفاقا، أَو أورثهم البخل نفاقا. {أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ}: جعلوا وعدهم لله بالتَّصدُّق خلفهم,

والمراد أَنهم لم يوفوا بما وعدوا الله به من الصدق والصلاح. {سِرَّهُمْ}: أَي ما انطوت عليه قلوبهم من النفاق. {نَجْوَاهُمْ}: أَي ما تحدثوا به علنا فيما بينهم بعيدا عن المؤمنين. التفسير بعد أَن بين القرآن الكريم فيما سبق طائفة من جرائم جماعات من المنافقين جاءَت هذه الآيات تحكى قبائح خاصة بفريق منهم. روى أَن ثعلبة بن حاطب أَتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ادع الله أَن يرزقنى مالا، فقال عليه الصلاة والسلام: "يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تؤَدِّى حَقَّهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ" فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقنى الله مالًا لأُعطين كل ذى حق حقة، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتخذ غنما فنمت وكثرت حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديًا وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأَل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل،: كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال: يا ويح ثعلبة، ثم بعث اثنين ممن يعملون في جمع الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسأَلاه الصدقة وأَقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه الفرائض فقال: ما هذه إِلا جزية ما هذه إِلا أُخت الجزية، فارجعا حتى أَرى رأْيى، فنزلت فيه وفي أَمثاله من المنافقين تلك الآيات. 75 - {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ... } الآية. أَي ومن المنافقين من أقسم وأعطى العهد لله قائلا: والله لئِن أعطانا الله من واسع رزقه ومزيد خيره، لنتصدقن على الفقراءِ وعلى من يستحقون الصدقة، ولنكونن في عداد الصالحين الذين يقيمون حدود الله، فنعمل في أَموالنا ما يعمله أَهل الصلاح في أموالهم من الإِنفاق في سبيل الله وسائر وجوه البر والخير وصلة الأَرحام. 76 - {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}: أَي فلما حقق الله لهم ما سأَلوه وأَعطاهم من واسع فضله ما كثرت به أَرزاقهم ضنوا بما أَنعم الله بهِ عليهم، ومنعوا حق الله فيه فلم يعطوا منه لأَهل الاستحقاق شيئا.

{وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}: أَي وأعرض هؤُلاءِ مدبرين عن طاعة الله، وشأْنهم دائما التولى والإِعراض عما يجب الاتجاه إِليه من مقاصد الخير، والإِقبال على صنائع المعروف. 77 - {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: أَي فجعل الله عقب بخلهم بما رزقهم الله إِياه من واسع فضله, نفاقا متمكنا فِي قلوبهم كالداءِ العضال, يظل فيها إِلى يوم يموتون ويلقون الله وهذا النفاق المتمكن: {بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ}: أَي بسبب أنهم لم يوفوا بما وعدوا الله به من التصدق على المستحقين حتى كأَنهم جعلوه خلف ظهورهم. {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}: وكذلك بسبب استمرارهم على الكذب في جميع أَقوالهم، ومنها كذبهم فيما عاهدوا الله عليه. 78 - {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: أَى أَغاب عن علم هؤُلاءِ المنافقين الذين حنثوا في أيمانهم، ونقضوا ما عاهدوا الله عليه، أن الله يعلم ما يخفونه في صدورهم من النفاق، وما يجهر به بعضهم لبعض بعيدا عن المسلمين من الطعن فيما شرعه الله للناس، ومن ذلك طعنهم في الزكاة والصدقات بتسميتها جزية أَو أُختها. {وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: أَي وهل غاب عنهم أيضًا أن الله محيط علمه بكل ما يغيب عنهم وعن غيرهم فلا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماءِ، فكيف يتوهمون أنه تعالى يغيب عنه نفاقهم وسرهم ونجواهم.

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}. المفردات: {يَلْمِزُونَ}: يعيبون بالكلام الواضح أَو بالإِشارة بالعين أَو الرأْس، مع كلام خفى. {سَبْعِينَ مَرَّةً}: المراد به المبالغة في العدد {الْمُطَّوِّعِينَ}: المتصدقين تطوعا. التفسير 79 - {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .. } الآية. روى أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَثَّ الناس على الصدقة ودعاهم إِلى إِخراجها فجاءَ عبد الرحمن بن عوف بأَربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أَربعة، وأَمسكت لعيالي أَربعة، فقال - صلى الله عليه وسلم - بارك الله لك فيما أَعطيت وفيما أَمسكت, فبارك له حتى صولحت تماضر رابعة نسائه عن رُبْع الثُّمُن على ثمانين أَلفا، وتصدق عاصم بن عدى بمائة وسق من تمر، وجاءَ أَبو عقيل الأَنصارى بصاع تمر فقال: بِتُّ ليلتى أَجُرُّ بالجَرير (¬1) على صاعين، فتركت صاعا لعيالى وجئت بصاع، فأَمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون، أَي عابوهم, وقالوا: ما أَعطى عبد الرحمن وعاصم إِلا رياء، وإِن الله ورسوله لغنيان عن صاع أَبي عقيل ولكنه أَحب أَن يُذكَر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت هذه الآية. ¬

_ (¬1) الجرير: حبل يحمل للبعير ليجر به, فهو كالزمام للدابة.

والمعنى: هؤلاءِ المنافقون البخلاءُ، الحانثون في أيمانهم، الناقضون لعهودهم مع الله بالتصدق والصلاح والاستقامة، هم الذين يعيبون المتبرعين الأَغنياءَ, فيتهمونهم بالرياءِ فيما بذلوه بسخاءٍ، ويعيبون الفقراءَ فيما تبرعوا به من طعام قليل حصلوا عليه بجهد ومشقة وعيالهم بحاجة إِليه، فيسخرون منهم ومن تبرعهم القليل، زاعمين أَنهم يذكرون بأَنفسهم ليعطوا من الصدقة. {سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ}: أَي جزاهم على سخريتهم بالإِذلال والإِهانة في الدنيا، ليكونوا موضع سخرية الناس واستهزائهم حزاءً لهم من جنس عملهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أَي ولهم يوم القيامة عذاب شديد الإِيلام. 80 - {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}: روى أَن عبد الله بن عبد الله بن أَبىٍّ وكان من المخلصين الصادقين، سأَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن يستغفر لأَبيه في مرض موته ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِكراما لهذا الصحابي الجليل، وذلك قبل النهي عن ذلك فنزلت الآية: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}: أَي سواءٌ طلبت المغفرة يا محمَّد لهؤلاءِ المنافقين أَو لم تطلبها لهم فإِن الله لا يغفر لهم، حتى إِن بالغت في الاستغفار لهم بأَكثر من هذا العدد. فلن يغفر الله لهم. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ}: أَي ذلك الوعيد بعدم المغفرة لهم، بسبب أَنهم كفروا بالله ورسوله، حين أَشركوا مع الله غيره وكذبوا رسوله ولم يؤمنوا بالدين الذي جاءَ به هدى للناس، وكان أَمرهم معه نفاقا في الظاهر وفسوقا وخروجا عليه في الباطن. {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}: والله لا يهدى القوم المتمردين الذين تجاوزوا الحدود، بل يتخلى عن معونتهم وتوفيقهم لإِصرارهم على الضلالة مع وضوح الحجة. والتعبير بسبعين مرة يراد به الكثرة لا خصوص العدد، فلو زاد على السبعين في الاستغفار فلن يغفر الله لهم، لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}. المفردات: {الْمُخَلَّفُونَ}: الذين تخلفوا عن الجهاد بأَعذار كاذبة. {بِمَقْعَدِهِمْ}: بقعودهم. {خِلَافَ رَسُولِ اللهِ}: أَي بعده أَو مخالفة له. التفسير 81 - {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ .. } الآية. أَي فرح المنافقون الذين حملهم الكسل والنفاق على الاعتذار الكاذب عن الخروج إِلى غزوة تبوك، فرح هؤلاءِ بقعودهم عن الغزو بعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - وكرهوا أن يجاهدوا بأَموالهم وأَنفسهم في سبيل الله لا إيثارًا للراحة والسلامة فحسب، بل استجابة أَيضًا لما استقر في قلوبهم من النفاق الذي أَورثهم بغض الجهاد الذي تتحقق به أَشرف الغايات، ولم يكتفوا بتخلفهم عن الجهاد وفرحهم بهذا القبح، بل كانوا يثبطون غيرهم عن الخروج بقولهم لا تخرجوا في الحر وتتركوا بيوتكم، فإنكم لا تطيقون شدته، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن يرد على جهلهم بقوله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}: أَي قل لهم أيها النبي: نار جهنم التي سيدخلونها بسبب نفاقهم وتخلفهم عن الجهاد هي أَشد حرا من الصيف الذي تخافونه وتحذَّرون الناس منه. {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}: أَي لو كان هؤلاءِ المنافقون يدركون أَن نار الآخرة أَشد حرا، لما فعلوا ما يستوجب العقاب بها، من تخلفهم عن الجهاد والاعتذار عنه بالأَباطيل، وحث غيرهم على عدم الجهاد في الحر.

82 - {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أَي فليضحك هؤلاءِ المنافقون سرورا بقعودهم وتثبيطهم غيرهم وسخرية من المؤمنين فليضحكوا ضحكا قليلًا مهما طال وكثر، لقصر زمنه بفنائهم {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}: أَي وليبك هؤلاء بعد انتهاء حياتهم بكاء كثيرًا في الآخرة، حينما ينزل بهم عذاب الله ويقاسون شدائده أَبدًا. {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}. المفردات: {رَجَعَكَ اللهُ}: ردك، والمراد هنا الرجوع من تبوك إِلى المدينة، حيث بقيت فيها جماعة من المتخلفين. {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ}: طلبوا منك أَن تأْذن لهم في الخروج إِلى غزوة أُخرى. {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}: فاقعدوا مع المتخلفين، لعدم لياقتهم للجهاد، كالنساءِ والأَطفال والعجزة. التفسير 83 - {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ... } الآية. أَي فإِن ردك الله أَيها النبي إِلى المدينة، حيث تقيم جماعة من هؤلاءِ المتخلفين المنافقين، ثم أَردت الخروج إِلى غزوة أُخرى، فاستأَذنك الذين أقعدهم النفاق عن غزوة تبوك، لتسمح لهم بالخروج معك، فقل لهم أيها الرسول: لن تنالوا شرف الخروج معى أبدا, ولن تقاتلوا معى عدوا، فلستم أهلًا لنيل هذا الشرف، ولأَنكم رضيتم بالقعود عن الغزو وفرحتم بذلك في غزوة تبوك {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}: أَي فاقعدوا عقوبة لكم مع الذين لا يصلحون للقتال من الشيوخ العاجزين والنساءِ والأَطفال.

{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوالطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}. المفردات: {أُولُو الطَّوْلِ}: أصحاب الغنى والسعة. {ذَرْنَا}: اتركنا. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: أَي ختم عليها بطابع, والمقصود أَنها لما لم تقبل هدى الله. التفسير 84 - {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ... } الآية. روى أَنه لما مرض رأْس المنافقين عبد الله بن أُبَىِّ بن سلول, أَرسل إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأْتيه, فلما دخل عليه قال عليه الصلاة والسلام: "أَهلكت حب يهود" فقال يا رسول الله: أَرسلت إِليك لتستغفر لي لا لتُؤَنِّبَنى, وسأَله أَن يكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلى عليه, فلما مات دعاه ابنه عبد الله - وكان مؤْمنا صالحا - فأَجابه عليه السلام تسلية له, ومراعاة لجانبه, وأَرسل إِليه قميصه فكفن فيه, فلما هم بالصلاة عليه نزلت الآية.

والمعنى: ولا تصل أَيها النبي أبدًا على من مات من المنافقين ولا تدع له في أَي وقت كان. {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}: أَي ولا تقف عند قبره لدفنه، ولا تذهب لزيارته والدعاءِ له، لأَنهم جحدوا وحدانية الله تعالى وكذبوا رسوله، وأَنكروا شريعته وانتهت حياتهم بالموت، وهم خارجون عن الإِيمان وطاعة الرحمن. 85 - {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ... } الآية. أَي لا تنل إِعجابك وتقديرك أَيها العاقل أَموالُ المنافقين الكثيرة، ولا أَولادهم الذين يعتزون بهم، ولا تحسبن ذلكِ إِكراما لهم، فقد جعله الله استدراجا لهم ووبالا عليهم. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا في الدُّنْيَا}: أَي إِنما قدر تعذيبهم بهذه الأَموال والأَولاد في الدنيا، بسبب ما يقاسونه في جمعها وحفظها من المتاعب، وفي رعاية الأَولاد من المشاق والصعاب. {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}: أَي وتخرج أَرواحهم من أَبدانهم عند انتهاءِ آجالهم بشدة وصعوبة، والحال أَنَّهم كارهون للموت، لتعلقهم بالدنيا وزينتها، والاشتغال بذلك عن الإِيمان بالله والعمل للدار الآخرة، فكان ذلك نقمة لا نعمة. وقدمت الأَموال على الأَولاد في هذه الآية وفي آيات أَخرى مع أَن الأَولاد أَعزّ لحاجة كل فرد إِلى المال في كل وقت وزمان، بخلاف الولد فلا يطلب إِلا بعد بلوغ مبلغ الأُبُوَّة. 86 - {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ... } الآية. أَي وإِذا أنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - سورة من القرآن، يأْمرهم فيها بالإِيمان بالله والتصديق بوحدانيته، ويدعوهم إِلى الجهاد مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - إِعزازا لدين الله وإِعلاءً لكلمته. {اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}: أَي طلب منك أَيها النبي أَصحاب الغنى والسعة والقدرة على الجهاد بأَنفسهم وأموالهم، - طلب منك هؤُلاءِ - أَن تأْذن لهم في التخلف عنه وقالوا اتركنا يا محمَّد نقعد مع الذين قعدوا في المدينة، لأَعذار تخلفوا بسببها.

ثم بين القرآن الكريم سوءَ صنيعهم وعدم امتثالهم لما أُمروا به في قوله تعالى: 87 - {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ... } الآية. أَي اختار هؤُلاءِ المنافقون القادرون، وقبلوا أَن تنحط أَقدارهم، بقعودهم في المدينة مع العجزة والضعفاءِ من الرجال والنساءِ والأَطفال. {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}: أَي وختم الله على قلوبهم بخاتم أَغلقها دون الخير لسوءِ اختيارهم، فهم بسبب ذلك لا يدركون ما في الإِيمان بالله تعالى واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - من خير وسعادة، وما في الجهاد من رفعة وشرف، وما في التخلف عنه من هوان وهلاك. {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}. المفردات: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ}: لهم أنواع خيِّرة من نعم الدنيا وثواب الآخرة. {الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون. التفسير 88 - {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ... } الآية. هذه الآية مرتبطة بما قبلها ارتباطا واضحًا لا يحتاج إِلى بيان. والمعنى: أَن ذاك الذي تقدم حديث عن الذين انحطت أَقدارهم ورضوا بالخسارة والدناءَة، لكن الرسول والذين آمنوا معه بالله وبما جاءَ به من شرائع وأَحكام كان لهم شأْن آخر يعلى أَقدارهم، ويعظم الخير لهم، إِذ جاهدوا ببذل أَموالهم وأنفسهم رخيصة في سبيل الله، فنالوا الشرف والرفعة، وأُولئك الموصوفون بتلك الصفات العظيمة لهم الخيرات، من النصر والغنيمة وغير

ذلك في الدنيا، والتمتع في الآخرة بأَنواع من النعيم لا تحصى، وأُولئك هم الفائزون حقا بما يقصده ويطلبه أَصحاب الفطر السليمة، دون من رضوا بمتاع الدنيا غرضا ومقصدا. ويستفاد من الآية الكريمة أَنه وإِنْ تخلف هؤُلاءِ المنافقون عن الجهاد، فقد نهض به وأَخلص فيه مَنْ هم خير منهم وأَصدق نِيَّة، ومن كانوا فيه كأَعظم ما يكون المجاهدون، حين بذلوا أَموالهم وأَنفسهم، ثم خصَّ القرآن الكريم فوزهم وفلاحهم في الآخرة بالبيان في قوله تعالى: 89 - {أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: هؤُلاءِ المؤمنون مع ما يفوزون به في الدنيا من النصر والغنيمة، هيأَ الله لهم في الآخرة جنات من نعيمها أَن الأنهار تجرى من تحت قصورها وأشجارها {خَالِدِينَ فِيهَا}: أَي ماكثين فيها أَبدا فلا ينقطع عنهم نعيمها بالموت أَو الخروج منها {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أَي ذلك الجزاءُ المذكور من إِعزازهم في الدنيا وإِنعام الله عليهم في الآخرة، هو الفوز العظيم والذى أَعلى الله به قدرهم ورفع ذكرهم. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}. المفردات: {الْمُعَذِّرُونَ}: المقصرون المعتذرون بالباطل. {الْأَعْرَابِ}: سكان البوادى. التفسير بعد أَن بين القرآن الكريم أَحوال منافقى أَهل المدينة، جاءَ ببيان أَحوال منافقى الأَعراب في قوله تعالى: 90 - {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ... } الآية.

جاءَ فيما روى أن أَسدا وغطفان جاءوا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأْذنون في التخلف عن الخروج للجهاد معتذرين كذبا بالجهد وكثرة العيال, فأَذن لهم فنزلت الآية تكشف كذبهم. {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ}: أَي وجاءَ إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المقصرون من سكان البادية, الذين يظهرون أَن لهم عذرا ولا عذر لهم, جاءُوا يطلبون منه - صلى الله عليه وسلم - , أَن يأْذن لهم في التخلف عن الجهاد, ويعتذرون بكثرة عيالهم وما بهم من جهد ومشقة {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ}: أَي وقعد فريق آخر من منافقى الأَعراب حيث كانوا فلم يجيئوا ليعتذروا ويطلبوا الإِذن بالتخلف, وقد ظهر بذلك أَنهم كذبوا على الله ورسوله في ادعاءِ الإِيمان والطاعة. ثم بين سبحانه عقاب من كفروا منهم بقلوبهم بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أَي سيقع على الذين كفروا بالله وكذبوا برسوله من هؤُلاءِ الأَعراب عذاب مؤْلم شديد الإِيلام, في الدنيا بالقتل والأَسر والإِذلال, وفي الآخرة بعذاب السعير. {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}. المفردات: {حَرَجٌ}: المراد به الإِثم والذنب, ومعناه في الأَصل: الضيق ويطلق على الذنب لأَنه

تضيق به صدور المؤمنين. {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}: أَي إذا قاموا بما استطاعوا من قول وفعل يعود بصلاح الحال على الإِسلام والمسلمين. {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}: أَي ما عليهم من طريق إِلى عقابهم أَو عتابهم {تَوَلَّوْا}: انصرفوا راجعين {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}: أَي تسيل عيونهم دمعا غزيرا فياضا. التفسير بعد أَن بين القرآن الكريم أَحوال الذين اعتذروا كذبا والذين لم يعتذروا من منافقى الأَعراب جاءَت هاتان الآيتان لبيان حال الذين أَعفاهم الله من وجوب الجهاد لقيام أَعذارهم فقال تعالى: 91 - {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ... } الآية. أَي: ليس على الضعفاءِ - كالشيوخ والنساءِ والصبيان - ولا على الذين طرأَ عليهم المرض أَو بهم مرض ملازم - كالعمى والعرج - ولا على الذين لا يجدون ما ينفقونه في شراءِ أُهبة السفر وعدة الجهاد، ليس على هؤلاءِ جميعا إِثم ولا عتاب في التخلف. {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}. أَي إِذا أَخلصوا النصح لله ورسوله، بصدق الإِيمان واتباع شريعة الإِسلام، وقاموا بما يستطيعون من قول وفعل يعود بصلاح الحال على المجاهدين، وبهذا يكونون قد أَحسنوا في جميع أَعمالهم وأَقوالهم حسب طاقتهم، فليس عليهم سبيل إِلى عقاب أَو عتاب، لدخولهم في عداد المحسنين. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. أَي والله عظيم المغفرة واسع الرحمة يغفر للمسىءِ التائب وتسعه رحمته إِن شاءَ فكيف بالمحسنين؟ 92 - {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ... } الآية.

أَي: وكذلك لا حرج ولا إِثم في التخلف عن الجهاد على المؤْمنين الذين إذا ما جاءُوك يطلبون منك أَن تحملهم على ظهور الخيل والإِبل والدواب، أَو تعينهم بما يمكنهم من الغزو معك وليس عندك ما يحقق رغبتهم، فقلت لهم تطييبا لقلوبهم واعتذارا لهم: لا أَجد من الدواب ما أَحملكم عليه، وعندما قلت ذلك انصرفوا وأَعينهم تسيل دمعا غزيرا لحزنهم الشديد بسبب أنهم لا يجدون من المال ما ينفقونه في شراء سلاح الحرب وعدة القتال وأُهبة الجهاد ومراكبه. وهؤُلاءِ الذين جاءُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم، هم سبعة من الأَنصار، معقل بن يسار، وصخر بن خنساءِ، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن مغفل، وعُلْبَةُ بن زيد، أَتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك، فقال عليه السلام: لا أَجد ما أَحملكم عليه، فتولوا وهم يبكون وكان يطلق عليهم (البكاءُون). طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الإدارة محمَّد حمدى السعيد رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1979 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 7441 - 1979 - 25004

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)} المفردات: (السَّبيلُ): الطريق. (الْخَوَالِفِ): المتخلفين، ويطلق أيضًا على النساء والصبيان، وهو جمع خالفة. (وَطبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ): ختم عليها حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. التفسير لما رفع الله تعالي الإثم والعقوبة في الآيتين السابقتين، عمن تخلفوا بأعذار ونصحوا لله ورسوله، بين - سبحانه - من يستحق المؤاخذة بقوله: 93 - {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ .... } الآية. أي إنما سبيل المحاسبة والمؤخذة على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم واجدون القدرة على الجهاد بأَموالهم وأَنفسهم ولا عذر لهم في التخلف، ثم أنكر عليهم رضاهم بهذا التخلف بقوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ}: أي رضوا بالدناءَة والضعة حين رضوا الانتظام في جملة الخوالف من النساء والصبيان ومن لا يقوى على الجهاد إيثارًا للسلامة والرحاة والدعة. {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي وأَغلق الله قلوبهم عن الحق بسبب نفاقهم فهم لهذا لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدنيا والدين وما في التخلف عنه من وخامة العاقبة وسوء الحساب.

وقد عرفنا من الآية الكريمة، أَن الأَعمال تابعة لحالة القلوب ودرجات الإيمان، فإن كان الإيمان واهنا، والقلب مريضا، كانت الأَعمال منحرفة عن سواءِ السبيل، وإن كان الإيمان والقلب في عافية وسلامة، كانت الأَعمال في طريق الاستقامة، وكل إناءٍ ينضح بما فيه. {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}. التفسير 94 - {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ .... } الآية. أَي يعتذر إليكم هؤلاء المنافقون المتخلفون عن الجهاد، بالأَعذار الباطلة إذا رجعتم إليهم من غزوة تبوك. {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}: قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا فليس لكم عذر صحيح حتى نستمع إليه ونتقبله منكم لن نصدِّق معاذيركم الكاذبة، لأَن الله قد أَعلمنا بالوحي بعض أخباركم المنافية للصدق مما باشرتموه من الشّرِّ والفساد، وأَضمرتموه في أَنفسكم من الأكاذيب، فلن نخدع بعد ذلك بأَعذاركم. {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}: هذه الجملة يحتمل أَن تكون حثا لهم على التوبة، والمعنى على هذا: وسيعلم الله ما سيقع منكم في المستقبل من توبة أَو إصرار، ويسجله لكم عند وقوعه ويجزيكم عليه، والمقصود أَن حالهم سينكشف في المستقبل، وسيعاملون بمقتضاه: إِن خيرًا فخيرٌ وإِن شرًا فشرٌّ.

ويحتمل أنهم وعدوا بأَن ينصروا المؤمنين في المستقبل، وأن الله ينذرهم بالعقوبة إنْ هُمْ نكثوا وعدهم، أَي وسيعلم الله ما يحدث منكم من الوفاءِ أَو الغدر، ويجازيكم بمقتضاه. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي ثم ترجعون إلى الله العالم بكل خفى وظاهر فيخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملونه في الدنيا، ويجازيكم عليه. {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} المفردات: (انْقَلَبْتُمْ): رجعتم. (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ): لتصفحوا عنهم. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ): فاتركوهم. (رِجْسٌ): أَي نجس وقذر، والرجس الخبيث من كل شيء. (وَمَأْوَاهُمْ): ومقرهم الذي يأْوون إِليه. (الْفَاسِقِينَ): الخارجين عن الطاعة. التفسير 95 - {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ}: أَي أَن هؤلاءِ المنافقين لا يكتفون بالاعتذار عن تخلفهم، بل يؤكدونه بالقسم تمويها عليكم، وتأكيدا لصدقهم المزعوم في اعتذارهم.

والمعنى: سيحلفون بالله لكم أَيها المؤمنون إذا رجعتم إِليهم من الغزو بأَنهم لم يتخلفوا عنكم إِلا لعذر، وغرضهم من ذلك أَن تعرضوا عنهم وتصفحوا عن تخلفهم. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ .... } الآية. أَي فاتركوهم أَيها المؤمنون، واجتنبوا مجالستهم والاطمئنان إليهم، ودعوهم وما اختاروه لأَنفسهم من النفاق وعدم الإخلاص في الإِيمان، لأَنهم نجس وقدر، فبواطنهم خبيثة وأَعمالهم قبيحة، ومرجعهم ومقرهم جهنم جزاءً بما استمروا على اكتسابه من النفاق والعصيان. 96 - {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}: أفادت هذه الآية أنهم لا يقصدون بحلفهم الإِعراض عن لومهم والصفح عنهم فحسب بل يحلفون لكم لترضوا عنهم وتطمئنوا إليهم بعد الصفح عنهم، ولكن الله ينهاكم عن الرضا عنهم، فإن ترضوا عنهم فقد خالفتم ربكم لأن الله تعالى لا يرضى عن القوم الفاسقين فكيف ترضون عنهم. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} المفردات: (الْأَعْرَابُ): سكان البادية، والعرب: أَهل الحضر والبادية فهو أَعم. التفسير 97 - (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا): لما تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد، عقبها الله سبحانه بهذه الآية وما تلاها، لتضمنها الحديث عن نفاق الأَعراب وكفرهم، وزيادته عما عليه المنافقون بالمدينة.

والمعنى: أَن أَهل البادية من الأَعراب، أَشد كفرًا ونفاقًا من كفار العرب ومنافقيهم المقيمين بالحواضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وهذا هو الشأن الغالب فيهم، إِذ ليس كلهم بهذا الوصف؛ كما يتبين ذلك مما يأْتي: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}: أي أَن هؤلاءِ الأَعراب هم أحق وأَولى بأن يجهلوا حدود ما أنزله الله على رسوله من الفرائض والأَحكام، لجفاءِ طباعهم وقسوة قلوبهم ونفرتهم من كل ما يخالف ما أَلفوه من عقائد وعادات. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: والله تعالى عظيم العلم والحكمة، فلا يخفى عليه منحرف عن طاعته، ولا يفلت من عقابه من يستهين بشريعته. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)} المفردات: (يَتَّخِذُ): يعد ويعتبر. (مَغْرَمًا): غرما وخسارة. (وَيَتَرَبَّصُ): وينتظر.

(الدَّوَائِرَ): جمع دائرة والمراد بها هنا تقلب الزمان من حسن إلى سيىءٍ ومعناها في الأَصل ما يحيط بالشىءِ. (السَّوْءِ): ما يُسىءُ ويؤذي. (قُرُباتٍ): جمع قربة وهى ما يتقرب به العبد إلى ربه تعالى. (صَلَوَاتِ الرَّسُولِ): دعواته صلى الله عليه وسلَّم. التفسير 98 - {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ}: بعد أن بين الله سبحانه أن الأعراب في جملتهم أَشد كفرًا ونفاقًا ذكر في هاتين الآيتين أَنهما فريقان، فريق يُضْمِرُ الشر للمسلمين، وفريق آخر مخلص في إيمانه. والمعنى: وبعض الأعراب يعتقد أَن المال الذي ينفقه في سبيل الله غرم لا غنم، ولهذا لا ينفقه إِلا خوفًا من المسلمين أَو مُرَاءَاةً لهم ولم يرد به وجه الله تعالى، وفاته أَن الصدقات طهارة ونماءٌ للمال، وكما يعتبر ما ينفقه مغرمًا ينتظر بكم تقلب الزمان وتغيُّرَه، فتتبدل حالكم من قوة إلى ضعف ومن نصر إلى هزيمة. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: هذا وعيد من الله تعالى لهؤلاءِ الأَعراب بأَن تدور عليهم الدائرة وينزل بهم من البلاءِ ما تمنوه للرسول وأَصحابه، وأنهم لا يرون فيهم إِلا ما يسوءُهم من نصر ورفعة شأْن. {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي والله تعالى عظيم السمع واسع العلم فلا تخفى عليه خافية مما أَضمروه من النفاق وإِرادة السوءِ بالمؤْمنين وهو محاسبهم ومجازيهم أَشد الجزاءِ. {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}: هذا هو الفريق الثاني وهو الذي يصدِّق بوجود الله تعالى وبصفاته وباليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، ويعتبر أَن كل ما ينفعه في سبيل الله هو وسيلة إلى رضا الله

والتقرب منه، كما أَنه سبب في دعاء الرسول واستغفاره لهم حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعو للمُصَّدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، عند أَخذه الزكاة الواجبة والصدقات المندوبة ليوزعها على مستحقيها، ولذلك كان من السنة الدعاءُ للمتصدق بالخير والبركة، لكن ليس له أَن يدعو بلفظ الصلاة كما فعله عليه الصلاة والسلام مع بعض المتصدقين، فقد ورد أَنه قال: اللهم صلى على آل أَبي أَوفى فإن ذلك كان مختصًّا به، يتفضل به على من يشاءُ، ثم أَخبر الله عن قبولها منهم بقوله: {أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ}: أَي أَلا إن إنفاقهم الصادر عن الإخلاص لله قربة عظيمة لهم عند الله تعالى. وقد وعدهم الله عليها بإِدخالهم الجنة في قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}: أَي يشملهم ويغمرهم برحمته وفضله جزاءَ إخلاصهم. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: إنه تعالى عظيم المغفرة واسع الرحمة لا يخلف وعده، فيثيب هؤلاءِ على إخلاصهم في عملهم لله تعالى. {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}. التفسير لما ذكر الله تعالى فضائل بعض الأَعراب الذين يتخذون ما ينفقونه قربات عند الله وصلوات الرسول وما أُعد لهم من الثواب، أَتبعه ذكر فضائل خيار المسلمين فقال تعالى:

100 - {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}: فالسابقون الأولون من المهاجرين هم الذين بادروا بالإسلام في فجر الدعوة، ثم هاجروا فرارًا بدينهم، أَما السابقون الأَولون من الأَنصار فهم أَهل بيعة العقبة الأُولى والثانية والذين سارعوا إلى الإسلام عند قدوم مصعب بن عمير، وكان الرسول قد أَرسله بعد البيعة الثانية لينشر الدعوة الإسلامية بين أَهل المدينة وقيل السابقون من المهاجرين والأَنصار هم الذين صلُّوا إلى القبلتين أَو من حضر بيعة الرضوان. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}: أَي والذين جاءُوا بعدهم متصفين بالإخلاص وبكل خصلة حسنة، أَو المراد والذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة من فريقي المهاجرين والأَنصار وغيرهم إلى يوم القيامة. وقرىءَ الأَنصار بالرفع فعلى هذا فالسابقون الأَولون من المهاجرين فقط، والتابعون عند علماءِ الحديث هم الذين جاءُوا بعد الصحابة رضوان الله عليهم أَجمعين ثم أَخبر الله عن الجميع بقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}: بقبول طاعتهم، وارتضاءِ أَعمالهم. {وَرَضُوا عَنْهُ}: بما أَنعم الله به عليهم من النصر والتمكين في الأَرض في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: أَي وهيأَ لهم في الآخرة جنات تجرى من تحت قصورها أَو من تحت أَشجارها الأَنهار، مع الإِقامة الدائمة فيها، كما قال تعالى: "وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ". {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أي ذلك الجزاءُ الذي بلغ الغاية في العظم هو الفوز الذي لا فوز يَعدله أو يدانيه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أَبو سعيد الخدرى: "لا تسُبُّوا أَصحابِى فَلَوْ أَنَّ أَحَدكم أَنْفق مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلغ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نصِيفهُ" أَخرجه الشيخان وغيرهما.

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}. المفردات: (حَوْلَكُمْ): أَي حول المدينة بلدكم. (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ): أَي مرنوا عيله واعتادوه. (لَا تَعْلَمُهُمْ): لا تعرف حقيقة أَمرهم لعراقتهم في النفاق. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ): قبل الآخرة بالفضيحة وعذاب القبر. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ): ثم يردون في الآخرة إلى عذاب بالنار عظيم. التفسير 101 - {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ}: هذا شروع في ذكر أحوال المنافقين النازلين حول المدينة والمقيمين بها. والمعنى: ومن الأَعراب النازلين حول المدينة أُناس منافقون ومن أهل المدينة نفسها منافقون كذلك. {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}: أي مرن هؤلاءِ وأُولئك على النفاق وبلغوا مبلغًا جعلهم مهرةً فيه، حتى لأن لهم أَمره وسلس لهم قياده ولا تكاد تستعمل كلمة مَرَدوا إلا في الشر.

(لَا تَعْلَمُهُمْ): أي لا تعرفهم أَنت أَيها الرسول بعنوان نفاقهم لأَنهم بلغوا من المهارة فيه، والبعد عن مواقع التهم مبلغًا يُخفى حالتهم عنك، مع كمال فطنتك وصدق فراستك. (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ): أَي أَن الله تعالى هو الذي يعلم حالهم لأَنه لا يخفى عيله من سرائرهم شيءٌ مهما بالغوا في إِخفاءِ أَمرهم. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ): هذا وعيد بأَنه تعالى سيعذبهم مرتين قبل يوم القيامة، وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما: "أَن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا يوم الجمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق فأَخرج ناسًا وفضحهم" فهذا هو العذاب الأَول، والثانى إما القتل وإما عذاب القبر وقيل غير ذلك. (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ): ثم يرجعون في الآخرة إلى عذاب غليظ هو عذاب النار في الآخرة، وبهذا يعلم أَنه تعالى يعذبهم ثلاث مرات مرتين قبل يوم القيامة كما تقدم ومرة يوم القيامة كما يفيده ختام الآية. {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}. التفسير 102 - (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ): هذا بيان لحال طائفة أُخرى من المسلمين ضعيفة الهمة في أُمور الدين.

والمعنى: ومن أهل المدينة قوم آخرون اعترفوا بتخلفهم عن الغزو إيثارًا للدعة مع إِيمانهم وتصديقهم بما جاءَ به الرسول، ولم يخفوا ما صدر منهم وندموا عليه، ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة كغيرهم من المنافقين، وهم رهط من المتخلفين، منهم أَبو لبابة وجماعة معه (¬1) أَوثقوا أَنفسهم على سوارى المسجد عندما بلغهم ما نزل في المتخلفين من القرآن فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين كعادته الكريمة، ورآهم على تلك الحالة فسأل عن شأْنهم فقيل له إنهم أَقسموا أَلا يحلوا أَنفسهم حتى تحلهم أَنت فلما أَنزل الله هذه الآية أَطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم. (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا): المراد بالعمل الصالح ما سبق أَن عملوه من الطاعات، ومنها خروجهم إِلى المغازى السابقة وما لحق ذلك من الاعتراف بذنب التخلف وندمهم على ذلك، والمراد بالعمل السيىءِ ما صدر منهم من المعاصي، ومنها التخلف عن تبوك دون عذر. (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ): أَي يرجى أَن يقبل الله توبتهم المفهومة من اعترافهم بذنوبهم، وتقوية لهذا الرجاءِ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): أَي أَنه تعالى واسع الغفران والرحمة، فلهذا يرجى رجاءً قويًّا أن يتقبل بفضله توبتهم النابعة من إِخلاصهم، وصدق طويتهم. ¬

_ (¬1) قال ابن عباس نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سوارى المسجد، وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل "خذ من أموالهم صدقة" ذكره المهدوى.

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}. التفسير سبب النزول: أَنه لما أَطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح المعتذرين قالوا يا رسول الله: هذه أَموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال ما أُمرت أَن آخذ من أَموالكم شيئًا، فنزلت وأَخذ منها الثلث وترك لهم الثلثين. 103 - (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً): هذه ليست الزكاة المفروضة وإنما هي كفارة لذنوبهم كما ينطق به قوله تعالى: (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا): والمعنى أن الله تعالى أَمر رسوله صلى الله عليه وسلم أَن يأْخذ هذا القدر ليكون تطهيرًا لهم مما لحق بهم من آثام التخلف، وتزكية تنمى بها حسناتهم إلى مراتب المخلصين. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ): المراد من الصلاة هنا الاستغفار لهم والدعاءِ بقبول توبتهم. والمعنى: واستغفر لهم أَيها الرسول، واطلب الرحمة لهم فإِن صلاتك ودعاءك إقرار لنفوسهم المضربة وطمأْنينة لقلوبهم الحائرة، وإِيذان بأَن الله سيقبل توبتهم. (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ): أي والله تعالى عظيم السمع، محيط العلم فسمع اعتراف هؤلاءِ بذنوبهم، وعلم صدقهم في توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم.

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} المفردات: (أَلَمْ يَعْلَمُوا): استفهام يرادُ به التقرير أَي قد علموا. (يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ): يقبلها ويثيب عليها. (وَسَتُرَدُّونَ): وسترجعون. (الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ): الخفى والظاهر. التفسير 104 - (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): أَي أَلم يعلم هؤلاءِ التائبون، أَن الله تعالى هو وحده الذي يقبل التوبة الصحيحة الخالصة من عباده المخلصين رحمة بهم ورأْفة وكرمًا، وأَنه يقبل صدقاتهم التي يؤدونها ابتغاءَ مرضاته، يطهرهم بها من آثامهم، ويزيد من حسناتهم، وأَنه تعالى هو عظيم التوبة على عباده كثير الرحمة بهم، فذلك شأْنه الدائم وسنته المستمرة. 105 - (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): جاءت هذه الآية لزيادة ترغيبهم في العمل الصالح، وتخويفهم من اقتراف السيئات، ومع هذا فهى عامة لجميع المكلفين، فلا يختص حكمها بالمتخلفين عن تبوك.

والمعنى: وقل يا محمد تبليغًا لهؤلاءِ ولجميع المكلفين، اعملوا وراقبوا الله تعالى فيما تعملون، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون في دنياكم، مهما حاولتم إِخفاءَها فاجتهدوا في أَن تكون أَعمالكم في حدود البرِّ والطاعة، بعيدة عن الإثم والمعصية، ليحمدها الله ورسوله والمؤمنون، وستردون في أُخراكم إلى عالم كل غائب خفى، وظاهر جلى، فيخبركم بما كنتم تعملون في دنياكم، فيجزيكم عليه، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًا فشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِى صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لها بَابٌ وَلاَ كُوَّةٌ، لخرَجَ عَمَلُه لِلنَّاسِ كائِنًا مَا كَانَ" أَخرجه أَحمد وأَبو يعلى وغيرهما عن أَبي سعيد. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)} التفسير 106 - (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ ... ) الآية. نزلت هذه الآية كما قال ابن عباس في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أُمية، فإنهم لم يسرعوا إلى التوبة والاعتذار عن تخلفهم في غزوة تبوك، كما اعتذر أَبو لُبابة وأَصحابه بعد أَن ندموا على تخلفهم، وحزنوا حزنًا شديدًا جعلهم يشدون أَنفسهم على سوارى المسجد، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاءِ الثلاثة، ونهى عن أَن يسلموا عليهم ويكلموهم، حتى يكون أَمرهم عبرة لغيرهم فلا يحاول أَحد أَن يتخلف عن الجهاد وهو قادر عليه، وكان هؤلاءِ الثلاثة من أَصحاب بدر فهجرهم الناس وكانوا مختلفين في شأْنهم، فمن قائل هلكوا، ومن قائل عسى الله أَن يغفر لهم، فصاروا عندهم مرجئين لأَمر الله تعالى، وقد صح رأْى هؤلاءِ فيهم، وبه نزل القرآن الكريم.

والمعنى: ومن المتخلفين عن غزوة تبوك من أَهل المدينة ومن حولها من الأَعراب، قوم آخرون غير المعترفين المذكورين، لم يحاولا أَن يختلقوا أَعذارًا، وأَن يكذبوا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاءِ مرجئون ومؤخرون لأَمر الله في شأْنهم، إِما أَن يعذبهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بدون عذر وقد دعوا إليها، وكانت آخر مغازيه صلى الله عيه وسلم، وإما أَن يقبل توبتهم بعد أَن تتمحص نفوسهم وتخلص قلوبهم من الإِخلاد إلى الدعة، وإِيثار ذلك على الجهاد، والله واسع العلم، فيعلم أَحوالها ويعامله بمقتضاها، حكيم فيما فعل بهم من الإِرجاء وما بعده، حتى يعودوا إلى مثل ذلك، وليكون أَمرهم عبرة لغيرهم. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)} المفردات: (ضِرَارًا): مضارة للإِسلام وأَهْلِه. (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ): أَي فَصْلًا بينهم، بصرف بعضهم عن مسجد قباء الذي يجمعهم ويوحد كلمتهم. (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): وانتظارًا للراهب الفاسق الذي حارب الله ورسوله ليصلى فيه. (الْحُسْنَى): أَي الخصلة الحسناء. التفسير 107 - (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. نزلت هذه الآية في جماعة من المتخلفين عن تبوك، بنوا مسجدًا غير مسجد قباء، بقصد المضارة وتفريق المؤمنين.

وتفصيل ذلك أَن بنى عمرو بن عوف، لما بنوا مسجد قباء بعثوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن يأْتيهم فيصلى بهم في مسجدهم فلما فعل النبيى صلى الله عليه وسلم ما طلبوه منه، حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وقالوا نبنى مسجدًا ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيه، ويصلى فيه أَبو عامر الراهب أَيضًا إِذا قدم الشام، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه سلم الفاسق. وكان قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: لا أَجد قومًا يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، فلم يزل يفعل ذلك إِلى يوم حنين، فلما انهزمت هوزان يومئذ ولى هاربًا إلى الشام، وأَرسل إلى المنافقين أَن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإِنى ذاهب إِلى قيصر وآت بجنود، وَمُخْرِجٌ محمدًا وأَصحابه من المدينة، فبنوا مسجدًا إلى جنب مسجد قباءَ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجدًا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أَن تصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنى على جناح سفر وحال شغل، وإِذا قدمنا إِن شاء الله تعالى صلينا فيه فلما قَفَل صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، سأَلوه إِتيان المسجد فنزلت هذه الآية عليه، فدعا بمالك بن الخشم ومَعْن بن عدى وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة وقال لهم: "انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا المسجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدمُوهُ واحْرِقُوهُ، ففعلوا": وأَمر أَن يتخذ مكانه موضعًا لإِلقاءِ القمامة، حتى لا تقوم له قائمة، وهلك أَبو عامر الفاسق بقُنَّسْرين. والمعنى: ومن المتخلفين عن غزوة تبوك، المنافقون الذين بنوا بجوار مسجد قباء، مسجدًا لمضارة الإِسلام والمسلمين، وللتفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد قباء متجمعين تلبية لنداءِ ربهم، يريدون ببنائه أَن يجتذبوا بعضهم إِلى مسجدهم، وإِلى صفوف نفاقهم، كما بنوه أَيضًا لغرض خفى خطير، وهو انتظار وترقب الراهب الفاسق الذي حارب الله ورسوله من قبل، لكي يصلى فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ): وليحلفن بنو غانم الذين بنوا مسجد الضرار، ما أَردنا ببنائه إلى خصلة الحسنى وهى الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين، والله يشهد إِنهم لكاذبون في يمينهم، فقد بنوه للمضارة وغيرها من الأَغراض الفاسدة التي بينتها الآية الكريمة.

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} المفردات: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا): لا تؤد فيه الصلاة وغيرها من الطاعات في أَي وقت دائمًا. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى): يعنى مسجد قباء. (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا): أَي يرغبون في التطهر الحسى والمعنوى. التفسير 108 - (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ): لا تقم أيها الرسول للصلاة وغيرها من الطاعات في مسجد الضرار في أَي وقت من الأَوقات فقد بنى للإِضرار بالإِسلام وأَهله، والله لمسجد قباء الذي أَسَّسَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَقامه على تقوى الله ورضوانه من أَول أَيام تأْسيسه أَحق وأَولى أَن تقوم فيه للصلاة وأداءِ الطاعات أَنت وسائر المؤمنين. وقيل المراد بالمسجد الذي أُسس على التقوى هو المسجد النبوى بالمدينة فعن أَبي سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: "سَأَلْتُ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّم عن المسْجِدِ الَّذِى أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فأَخَذَ حَصْباءَ، فضرَبَ بِها الأَرْض وَقالَ: مَسْجِدُكُمْ هَذا مَسْجِدُ الْمَدِينةِ". (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ): أَي في هذا المسجد الذي بنى على تقوى الله رجال صادقون في إِيمانهم وتقواهم، يحبون أَن تتطهر نفوسهم وأَبدانهم من الذنوب والأَوزار طلبا لمرضاة الله، والله يحب الحريصين على الطهارة ويرضى عنهم ويحسن ثوابهم.

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)} المفردات: (شَفَا جُرُفٍ): الشفا؛ الحرف والحافة والطرف - (والجُرُف) بضمتين ما جرفه السيل أَي استأْصله وحفر ما تحته، فبقى واهيًا. (هَارٍ): مشرف على السقوط وأصله (هائر) (¬1). (فَانْهَارَ بِهِ): فسقط به. التفسير 109 - (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ ... ) الآية. ضرب الله في الآية مثلًا للذين بنوا مسجدهم على تقوى الله ورضوانه، بمن بنى بنيانه على أساس ثابت متين، وضرب مثلا آخر للذين بنوا مسجدهم للإضرار بالإسلام، بمن أَقام بنيانه على أَساس واه مهلك بين والغرض من المثلين أَنهما لا يستويان فالأَول معمر والثانى مدمر. والمعنى: أَفمن أَسس بنيان دينه على قاعدة محكمة، وهى تقوى الله تعالى، وطلب رضوانه خير عند الله تعالى، أَم من أَسس بنيانه على قاعدة منهارة، وهى الباطل والنفاق، فكان ذلك سببا في سقوطه في النار: وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: "صَيَّرهُمْ نِفَاقُهمْ النَّارِ لأَنَّهُمْ بَنَوا المسْجِدَ، قَاصِدينَ بِهِ الكُفْرَ وَالنَّفَاقَ وإِضْرَارَ المؤْمنينَ "لهذا كان أَرْدأ البناء وأحقره، وأَمَّا الأَوَّلُونَ فَكَانَ بِنَاؤهُمْ أَشْرف البناء وأَرضى للهِ تَعَالَى. ¬

_ (¬1) اسم فاعل من هار يهور إذا أشرف على السقوط، فقدمت لامه على عينه، وأجرى في الإعراب مجرى غاز ورام.

(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): أَي لا يوفقهم لفعل الخير والطاعة، لأَنهم لا يريدون ولا يميلون إِليه، فالتوفيق للإيمان لا يكون إِلا لمن علم الله فيهم إِقبالا وإِصرارا على السير في طريقه والتزامه "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ". {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}. المفردات: (رِيبَةً): شكا ونِفَاقًا. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ): أَي لا يزال المسجد الذي بنوه شاهدا على تمكن الريبة في قلوبهم من جهة الإِسلام، حتى كأنَّهُ نفس الريبة والشك. التفسير 110 - (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ): أَي لا يزال المسجد الذي بنوه شاهدا على تمكن الريبة في قلوبهم من جهة الإِسلام حتى كأَنه نفس الريبة والشك. أَما أَنه ريبة حال بنائه: فلكونه بنى لتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت وحدتهم وَلِيُثَبِّتُوا ما في قلوبهم من كفر وضلال، وليدبروا فيه المكائد للمسلمين، وأَما أَنه ريبة حال هدمه، فلأنه ثَبَّتَ ما كان في قلوبهم من الشر فتضاعفت آثاره، وظهرت مفاسده غيظا وحقنا على المسلمين. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ): أَي إِلا أن تتمزق قلوبهم قطعا وأَجزاءً فحينئذ يذهب الشك والريبة، والمراد أَنهم لا يزالون كذلك ما داموا أَحياء، فإذا ماتوا انتهت تلك الريبة.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَي والله تعالى شامل العلم بجميع أَحوال العباد، عظيم الحكمة، يضع الأشياءَ في مواضعها في كل ما حكم به ودبر، ومن جملتها أمره تعالى الوارد في حقهم. وفي الآية تحذير للمسلمين من خداع المنافقين، وتنبيه على اليقظة من الوقوع في حبائلهم. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} المفردات: (اشْتَرَى): استبدل. (وَمَنْ أَوْفَى): لا أَحد أَعظم وفاء. (فَاسْتَبْشِرُوا): أَي فافرحوا غاية الفرح. 111 - (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ): هذا ترغيب من الله للمؤمنين في الجهاد ببيان فضيلته وثوابه بعد بيان حال المتخلفين عنه. وسبب النزول كما قال محمد بن كعب القرظى: "أَنه لما بايعت الأَنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربى أَن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسى أَن تمنعونى مما تمنعون منه أَنفسكم وأَموالكم قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا ... ؟ قال النبي صَلى الله عَليه وَسَلم: الجنة. قالوا ربح البيع لا نُقيل ولا نَسْتَقيل" فنزلت.

قال أهل المعانى: - لا يجوز أن يشترى الله شيئًا هو له في الحقيقة، لأَن المشترى إِنما يشترى ما لا يملك، والأَشياء كلها ملك لله تعالى. ولهذا قال الحسن: أَنفسنا هو خلقها وأَموالنا هو إِياها، لكن جرى ذلك مجرى التلطف في الدعوة إلى الطاعة، والجهاد وذلك لأَن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل، أَو أَنفق ماله في سبيل الله عوضه الجنة في الآخرة جزاءً لما فعل في الدنيا، فجعل ذلك استبدالا واشتراءً - فهذا معنى أَنه تعالى اشترى من المؤمنين أَنفسهم وأَمواله ... الخ. (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ): أَي يقاتلون أعداءَ الإِسلام، في سبيل دين الله ورفع كلمته، فيقتلون بعضهم تارة، ويكفون أَذَاهم عن المسلمين ويَقتَلُون منهم تارة أُخرى، راضين ببذل النفس في سبيل الله ربهم. (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ): يعنى أَن وعد الله للمجاهدين بأَن لهم الجنَّةَ، هو وعد حق ثابت في التوراة والإِنجيل وفيه دليل على أَن الجهاد موجود في جميع الشرائع، ومكتوب على الجميع الملل السماوية. (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ): أَي لا أَحد أَعظم وفاءً بالعهد من الله تعالى، لأَن خلف الوعد لا يقدم عليه الكرام من الناس، فكيف بالله الغنى الذي لا تفنى خزائنه، وهو أَكرم من كل كريم. وهو المتصف بالكمال المطلق، "وَمن أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا" والمتأَمل لا يرى ترغيبا في الجهاد أَحسن ولا أَبلغ من هذه الآية الكريمة. (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ): أَي فليفرح غاية الفرح، من قام بمقتضى هذا العقد، ووفى بهذا العهد - فليفرح - بالفوز العظيم والنعيم المقيم.

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} التفسير 112 - (التَّائِبُونَ): إلى آخر الأَوصاف الآتية، مدح للمؤمنين الذين اشترى الله منهم أَنفسهم وأَموالهم بأَن لهم الجنة: والمراد من توبتهم تركهم للشرك، وبعدهم عن النفاق والمعاصي، ويجوز أَن يراد بالآية، كل من تاب، فيكون المعنى على هذا كل من تاب واتصف بهذه الصفات يكون من أَهل الجنة أَيضا: واعلم أَنَّ التوبة المقبولة إِنما تحصل بأُمور أَربعة: أَولها: الإِقلاع عن الذنب. ثانيها: الندم على فعل المعاصي فيما مضى. ثالثها: العزم على تركها في المستقبل. رابعها: أَن يكون الحامل عليها رضا الله تعالى. فإن كانت من ذنب يتعلق بحقوق الآدميين، زيد عليها شرط خامس، وهو ردّ الحقوق إلى ذويها أَو استعفاؤهم، فإن كان الغرض منها تحصيل مدح الناس ودفع مذمتهم، أَو تحصيل أَي غرض دنيوى، فلا تكون توبة مقبولة. (الْعَابِدُونَ): أَي الذين يأْتون بالعبادة على وجهها الصحيح مخلصين لله تعالى مواظبين على أَدائها في أَوقاتها.

(الْحَامِدُونَ): أَي الذين يحمدون الله تعالى في السراءِ والضراءِ وفي كل حال. (السَّائِحُونَ): قال ابن مسعود هم الصائمون، لأن الصائم مستمر في طاعة الله والسائح مستمر في سياحته قال النبي صلى الله عليه وسلم: "السائحون هم الصائمون" (¬1). وقيل: هم المهاجرون، وقيل: هم طلبة العلم، وقيل: هم السائحون في الأَرض المتنقلون فيها فإِن السياحة أَثرا عظيما في تهذيب النفوس، لأَنه قد يتعرض السائح للبؤس وللضراءِ، فلا بد له من الصبر، وقد يلقى في سياحته العلماءَ والصالحين فيستفيد علما وحسن سلوك، ويرى عجائب وآثار قدرة الله تعالى، فيصل من طريق ذلك إلى بذل الجهد في طاعة الله تعالى. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ): يعنى المصلين، وعبر بالركوع والسجود عن الصلاة لأَن بهما تتميز الصلاة عن غيرها، ولأَنهما من أَهم أَركانها. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ): أَي الذين يأْمرون الناس بكل خير من إِيمان وطاعة ينهون الناس عن الشرك والمعاصي. والأَمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بهما صلاح الأُمة واستقامتها، فإِن ضاعا التبس الحلو بالمر، وضاعت أَخلاق الأُمة، وفسدت معايير الاستقامة فيها. (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ): بالعمل بأَحكام الشريعة والوقوف عند أَوامر الله، والبعد عن نواهيه ويَحْمِلُ الناس على طاعة الله تعالى وأَدائها على الوجه الأَكمل. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ): أَي وأَخبرهم يا محمد بما يسرهم مما وعد الله به من دخول الجنة فإِنه تعالى واف لهم بما وعد. "وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ". ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة ورمز له بالصحة.

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)} المفردات: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا): أَي ما صح وما استقام للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا): أَن يطلبوا الغفران. (أُولِي قُرْبَى): أَصحاب قرابة. (مَوْعِدَةٍ): وَعْدٍ. (تَبَرَّأَ مِنْهُ): بَعُد عنه وتنزه عن مصاحبته. (أَوَّاهٌ): أَصل التأَوه قول الرجل آه، أَي أَتوجع وأَواه للمبالغة والمراد: كثير التأوه من خوف الله. (حَلِيمٌ): صبور على الأَذى، صفوح عن الجناية، يقابها بالإِحسان والعطف. (مَا يَتَّقُونَ): ما يجب اتقاؤه والبعد عنه. (وَلِىٍّ): والٍ يلى أُموركم ويدبر شئونكم. (وَلاَ نَصِيرٍ): ينصركم على أَعدائكم ويمنعكم من أَذاهم.

التفسير 113 - (مَا كَانَ لِلنَّبِى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَستَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصْحَابُ الْجَحِيمِ): هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَراد أن يستغفر له، فنهاه الله عن ذلك، فقد روى الزهرى قال حدثني سعيد بن المسيب عن أَبيه قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أَبا جهل وعبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة فقال: أَي عم قل لا إِله إِلا الله كلمة أَحاج لك بها عند الله، فقال أَبو جهل وعبد الله بن أَبي أُمية بن المغيرة: أَترغب عن ملة عبد المطلب ... فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: أَنا على ملة عبد المطلب، وأَبي أَن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنه عن ذلك، فأَنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِى وَالَّذِينَ آمَنُوَا أن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشركِينَ ولَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى): وأنزل الله في أَبي طالب: "إنَّك لَا تَهْدِى منْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنِّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ". هذا لفظ البخاري في تفسير الآية. والمعنى: ما صح وما استقام في حكم الله تعالى للنبي والذين آمنوا أن يطلبوا للمشركين المغفرة، ولو كانوا أَصحاب قرابة بعد ما ظهر لهم أَنهم أَصحاب النار، بإِصرارهم على الكفر وموتهم عليه، أو بِعِلْم الرسول بالوحى أَنهم سيموتون على الكفر. 114 - (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيم لأبِيهِ إلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ):

جاءت هذه الآية لدفع ما يتوهم من التعارض بين الآية السابقة عليها وبين ما جاءَ في سورة الشعراءِ من استغفار إبراهيم لأبيه حيث قال: "وَاغْفِرْ لأبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ" (¬1). والموعدة التي جاءَت في الآية، صدرت من آزر لإبراهيم عليه السلام، قال ابن عباس: كان أَبو إِبراهيم وعد إِبراهيم الخليل، أَن يؤمن باللهِ ويخلع الأَنداد فلما مات علم أَنه عدو الله، فترك الدعاءَ له. والمعنى: لا حجة لكم أَيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأَبيه، فإن ذلك كان عن موعدة من آزر لابنه إبراهيم بالإيمان، فلما تبين له أَنه مستمر على كفره ترك الدعاءَ له، فلهذا يجب عليكم أن تعملوا بما صدر لكم من النهي عن الاستغفار للمصرين على الشرك ولو كانوا أُولى قربى. وقيل الواعد إِبراهيم عليه السلام، فقد وعد أَباه أن يستغفر له، فلما مات مشركا تبرأَ منه، ودل على هذا قوله: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبىِّ" قال القاضى أبو بكر بن العربى: تعلق النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبى طالب بقوله تعالى: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبىِّ" فأخبره الله تعالى أَن استغفار إِبراهيم كان وعدا قبل أَن يتبين الكفر منه، فلما تبين له الكفر منه تبرأَ منه، فكيف تستغفر أَنت لعمك وقد شاهدت موته على الكفر. والمراد: باستغفاره له طلبه من الله أَن يوفقه للايمان ويهديه إليه. (فَلَمَّا تَبيَّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوٌّ لَلهِ تَبرَّأَ مِنْهُ): أي فلما ظهر لإبراهيم بالوحى أَن أَباه مصر على الكفر غيرْ مؤمن أبدًا، بَعُدَ عنه وتجنبه ونزه نفسه عن مصاحبته، وترك الاستغفار له. (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأوَّاهٌ حَلِيمٌ): أي إن إبراهيم عليه السلام كثير التأَوه من خوف الله تعالى متضرع إليه، كثير الدعاء والتوبة، رحيم بعباد الله، عظيم الحلم، كثير الصفح، والمراد وصفه برقة القلب، وسعة الصدر وعظيم الرأْفة والرحمة، وأنه يقابل الإساءة بالإحسان واللطف. ¬

_ (¬1) الآية (86) من الشعراء.

115 - (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ): والمعنى: ما صح وما استقام في حكم الله تعالى وحكمته أَن يقضى ويحكم على قوم بالضلال بعد أن هداهم للإِسلام، ووفقهم للإِيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى يبين لهم ما يجب اتقاؤه والبعد عنه من محظورات الدين، فلا ينزجروا عما نهوا عنه، وأَما قبل ذلك فلا يحكم عليهم بالضلال ولا يؤاخذون بفعله وكأَن هذه الآية تسلية للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك، وفيه دليل على أَن الغافل الذي لم يبلغه الدليلُ السَّمْعِىُّ غير مكلف بما لا يستقل به العقل (¬1). 116 - (إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ): المعنى أنه تعالى وحده هو مالك السموات والأرض وما فيهما، خلقا وتدبيرا يحكم فيهما بما يشاءُ، يحيى من يشاءُ على الإِيمان ويميته عليه، ويحيى من يشاءُ على الكفر ويميته عليه، تبعا لحكمته وتطبيقا لسنته تعالى في الهداية والضلال والإِضلال. (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ): والمعنى: وليس لكم أَيها المكلفون من غير الله وال يلى أُموركم ويدبر شئونكم، ولا نصير ينصركم على عدوكم ويعينكم عليه، فهو وحده نعم المولى ونعم النصير. ¬

_ (¬1) انظر الآلوسى في تفسير هذه الآية.

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} التفسير 117 - (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ): معنى توبته تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم عدم مؤاخذته بإِذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهى كقوله تعالى: "عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ" (¬1). فإِذنه لهم من باب ترك الأَولى لا من باب فعل الذنب. لأَنه لم يكن هناك أَمْرٌ خَالفَهُ صلى الله عليه وسلم، وأَما معنى توبته على المهاجرين والأَنصار فلأَجل ما وقع في قلوبهم من الميل إِلى القعود عن غزوة تبوك، لأَنها كانت في وقت شديد، ثم أَعانهم الله على التغلب على ما حدثتهم به نفوسهم من القعود، فسافروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعوه في ساعة العسرة كما قال تعالى: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ): أَي الذين خرجوا معه لقتال الأَعداء في غزوة تبوك، وكانت في وقت شديد الحرارة وضيق في الرواحل، وبعد في المسافة مع كثرة العدو، مما يدعو إِلى إِيثار التخلف فاستعانوا بالله واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية (43) من سورة التوبة.

(مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ): أَي من بعد ما قرب أَن تميل قلوب بعضهم من أَجل الشدة والمشقة إِلى التخلف والدعة والراحة، ولكن الله ثبتهم وأَيدهم وقواهم. وزيغ القلب وانحرافه إِن كان في أَصل الدين كان كفرا، وإن كان في شريعته كان بحسب الحكم الذي مال عنه، فإن زاغ عن مجمع عليه الكفر، وإِن زاغ عن راجح عصى. (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ): أَي أَنه تعالى علم إخلاص نيتهم، وصدق توبتهم فتقبلها منهم. (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ): فلهذا منَّ عليهم بالتوبة وقبلها منهم وثبتهم عليها. {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} المفردات: (خُلِّفُوا): أُخِّرَ أَمرُ قبولِ توبتهم. (بِمَا رَحُبَتْ): أَي مع رحابتها وسعتها، والرحب سعة المكان. (لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ): لا مفر ولا منجى من سخطه وعقابه. التفسير 118 - (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) الآية. قصة هؤلاءِ الثلاثة يرويها ابن هشام فيقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عائدا من تبوك، وكان تخلف عنه رهط من المنافقين، وتخلف أُولئك الثلاثة

من المسلمين المخلصين من غير شك ولا نفاق، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أُمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَصحابه، لا تكلمُن أَحدا من هؤلاءِ الثلاثة - لأَنهم لم يقدموا عذرا عن تخلفهم - وأَتاه من تخلف من المنافقين، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاملة لهم بظاهرهم، واعتزل المسلمون أُولئك النفر الثلاثة، ثم نزلت هذه الآية معلنة قبول توبتهم وعفو الله عنهم. والمعنى: وتاب الله أَيضا على هؤلاءِ الثلاثة الذين أَخر قبول توبتهم، إِلى أَن ضاقت عليهم الأَرض مع سعتها ورحابتها، من شدة الأَمر عليهم، والحيرة التي حلت بهم، كأنهم لا يجدون في الأَرض مكانا يستقرون فيه ويطمئنون إليه، لشدة حزنهم وقلقهم، وكذلك ضاقت عليهم أَنفسهم، بسبب إعراض الناس عنهم، وتأَخر قبول توبتهم، واعتقدوا أَن لا عاصم ولا منجى من سخط الله وعقابه، إلا الرجوع إِليه، وطلب الغفران منه. (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): أَي ثم أَنزل الله قبول التوبة منهم، ليصيروا في جملة التوابين، وليستمروا ويثبتوا على توبتهم، إِن الله تعالى كثير التوبة والعفو عن عباده إن تابوا ولم يصروا على ما فعلوا، عظيم الرحمة بقبول توبتهم وإن كثرت ذنوبهم مع استحقاقهم لأَنواع العقوبات. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} التفسير لما تاب الله على هؤلاء الثلاثة، لصدقهم في القول وإِخلاصهم في التوبة، وبعدهم عن النفاق، أَمر الله المؤمنين أَن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين، ويبتعدوا عن النفاق والمنافقين وفي جملة من أُمروا هؤلاءِ الثلاثة.

والمعنى: يا أَيها الذين آمنوا بالله ورسوله، اتقوا الله بامتثال ما أَمر به، واجتناب ما نهى عنه، ولا تتخلفوا عن رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم من الجهاد والبذل في سبيل الله، وكونوا مع جماعة الصادقين المخلصين في جهادهم إِذا جاهدوا، وفي عهودهم إِذا عاهدوا، وفي أَقوالهم ووعودهم إِذا حدَّثوا ووعدوا، وفي توبتهم إِذا أَذنبوا أَو قصَّروا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصِّدق فَإِن الصدقَ يهدى إِلى البرِّ وإِن البرَّ يهدى إِلى الجَنةِ، وما يزالُ الرجل يَصدقُ ويتحرَّى الصِّدق حتى يكتبَ عِند الله صِدَّيقًا، وإِياكم والكذب فإِنَّ الكذب يهدى إِلى الفجور، وإِنَّ الفُجورَ يهدى إِلى النَّار، وما يَزالُ الرَّجل يكْذب ويتحرَّى الكَذِب، حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا" أَخرجه مسلم. والحكم المأْخوذ من الآية الكريمة يتناول المؤمنين في جميع الأَجيال. {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} المفردات: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه): أَي لا يؤثروا أَنفسهم على نفسه. (وَلَا نَصَبٌ): ولا تعب.

(وَلاَ مَخْمَصَةٌ): ولا مجاعة. (وَادِيًا): الوادى هو الأَرض التي تكون بين جبلين. التفسير 120 - (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ... ) الآية. أَي ما صح وما استقام لأَهل المدينة ومن حولهم من الأَعراب المؤمنين أَن يتأَخروا عن تلبية دعوة رسول الله إِذا دعاهم إِلى الجهاد في سبيل الله ولا يؤثروا أَنفسهم على نفسه، بأَن يطلبوا السلامة بالتخلف عن الجهاد معه فعليهم أَن يصحبوه على البأْساءِ، والضراءِ، وأَن يكابدوا معه الأَهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأَن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه الشريفة، مع العلم بأَنها أَعز نفس عند الله وأَكرمها عليه، وذلك يقتضيهم أن يبذلوا أَنفسهم دون نفسه، وأَن يدافعوا عنه بأَنفة وحمية، لا أَن يتخلفوا عنه بغير عذر كما فعل بعضهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِن وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين" (¬1). (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... ) الآية. ذلك الذي تقدم من وجوب مصاحبة الرسول في الجهاد وإِيثاره على أَنفسهم بسبب أَنهم لا يصيبهم شىءٌ من العطش والتعب والمجاعة في طريق الجهاد من أَجل دين الله، ولا يمشون في مكان يغيظون فيه الكفار، بأَن يحلوا في أَرضهم، ويتصرفوا فيها تصرفا يضيق صدورهم، ولا يصيبوا من عدو إِصابة بقتله أَو أَسره أَو هزيمته أَو الغنيمة منه، إِلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يستحقون به أَكرم الثواب. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ): أَي أنه تعالى يجزل ثواب المحسنين الذين يمتثلون أَمر الله ورسوله ولا يضيع لهم أَجرا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب حب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو متفق عليه.

واعلم أَن خروج المؤمنين للجهاد إِذا دعاهم الإِمام فرض كفاية، ما لم يتعين لأَسباب تقتضى ذلك، أَما خروجهم إِليه إِذا دعاهم الرسول فهو فرض عين (¬1). والذين تخلفوا في بدر لم يدر بخلدهم أَنهم سيقاتلون جيشًا قدم لإِنقاذ العير، ولذلك تخلفوا مترخصين بأَنهم لم يدعوا للجهاد، وبالجملة فإِن التخلف عن دعوة الرسول للجهاد كالنكث للبيعة فلذلك اشتد الرسول مع هؤلاءِ الثلاثة، حتى لا تتكرر من المؤمنين. 121 - (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): أَي ولا ينفقون في سبيل الله نفقة قليلة ولا كثيرة من مال أَو زاد أَو غير ذلك، ولا يجتازون واديًا إِلى عدوهم إِلا كتب الله لهم ذلك، وجعل في حسناتهم، ليجزيهم الله على كل عمل كسبوه وإِن قل جزاءَ أَفضل عمل عملوه، فيعطى على القليل جزاءً الكثير، كرمًا منه وفضلا. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}. ¬

_ (¬1) ويرى ابن زيد أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة). وأن حكم وجوب الخروج للجهاد بدعوة الإمام المفهوم من قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) الآية - إنما كان وقت قلة المسلمين، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء ويرى فريق آخر أنها محكمة، وأنها لأول هذه الأمة وآخرها، ولكن التفصيل الذي ذكرناه أرجح والله تعالى أعلم.

المفردات: (لِيَنْفِرُوا كَافَّةً): ليخرجوا للجهاد ونحوه جميعًا. (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ): فهلا خرج من كل جماعة كثيرة منهم، جماعة قليلة. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): وليحذروهم من المخاوف والعواقب السيئة لعصيان الله وعدم التَّدبُّر في الأُمور. التفسير 122 - (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ... ) الآية. كما أوجب الله الخروج للجهاد ووعد بالثواب الجزيل عليه في الآيات السابقة عقبها بهذه الآية ليحض المؤمنين فيها على التفقه في الدين فإِنه أَساس الجهاد، لأَن به الدفاع عن الدين بالحجة وهو الأَساس الأَول للبعثة المحمدية، وباجتماع شعبتى الجهاد للمؤمنين جهاد السيف وجهاد العلم، يتم لهم النصرة والعزة بين العالمين. والمعنى: وما صح ولا استقام أَن يخرج المؤمنون جميعًا للجهاد ونحوه من المقاصد الشريفة كطلب العلم، ويتركوا عيالهم دون عائل أَو راع، فإِن ذلك مضيعة لأُسرهم، فَهَلاَّ خرج من كل بلدة أَو قبيلة أَو جماعة كثيرة، طائفة قليلة ليتعلموا الدين ويتفهموه ويعرفوا براهين عقائده، وأُصول أَحكامه وفروعها، وليخوفوا قومهم من عصيان الله عند رجوعهم إِليهم، ويرشدوهم إِلى مناهج الهدى ومسالك العزة لكي يحذروا ما يضرهم في دنياهم وأخراهم ويقبلوا على ما ينفعهم ويعلى قدرهم، ويستتبع العزة والكرامة لهم. وبعض المفسرين اتجه بمعنى الآية وجهة أُخرى حيث جعل حكمها فيما إِذا لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد وبعث بالمجاهدين في بعض المغازى والمعنى على هذا وما كان المؤمنون ليخرجوا جميعًا للقتال، والنبى صلى الله عليه وسلم مقيم لم يخرج فيتركوه وحده، فلولا خرج من كل فرقة منهم طائفة في السرية التي لا تحتاج إِليهم جميعًا، ليتفقه الباقون منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين إِذا عاد

الذين خرجوا في السرية، أَعلمهم المقيمون ما تعلموا من أحكام الشرع، وما تجدد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن وعلى أَي وجه فقد أَفادت الآية إِيجاب التفقه في الكتاب والسنة على سبيل الكفاية، وقد جاءَ إِيجابه عن أَنس بن مالك أَنه قال: "سَمعت رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: طَلَبُ الْعِلْمِ فَريضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ". وحكم المسلمة حكم المسلم وجاءَ في فضله من حديث أَبي الدرداءِ قال: "سَمعتُ رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم يقول: مَن سَلكَ طَريقًا يَلتَمسُ فيه عِلمًا، سَلكَ الله به طَريقًا إِلى الْجَنةِ. وَإِن الملائِكةَ لَتَضَعُ أَجْنحَتها رَضًا لطَالب الْعِلم وإِنَّ العَالِم ليَستغفر لهُ من في السمواتِ ومن في الأَرْض والحيتَان في جَوْف الماءِ، وإِنَّ فَضلَ العَالم عَلى العَابد كَفضْل القَمر ليلةَ البَدْر عَلى سَائر الكَواكب وإِنَّ العُلمَاء وَرثةُ الأَنْبيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبيَاءَ لمْ يُوَرِّثُوا دِينارًا وَلا دِرهمًا، وإِنما وَرَّثوا العِلم، فَمَنْ أَخَذَ بهِ أَخَذَ بحَظ وافِر" أَخرجه الترمذي، وجاءَ في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُردِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفقِّهُهُ فِى الدِّين" وحسبك في فضله قوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} التفسير بعد ما أَوجب الله على المؤمنين أَن يتسلحوا بالفقه ويزودوا أَنفسهم بالعلم إِلى جانب اقتدارهم على الجهاد ليتسنى لهم نشر الإِسلام بالأَمرين جميعًا، أَمرهم في هذه الآية أَن يتدرجوا في قتال الكفار وأَن يبدأُوا أَولا بقتال الأَقرب من العدو ثم الذين يلونهم ولهذا بدأَ الرسول بقتال اليهود الذين حول المدينة لنقضهم عهده، وصد هجمات المشركين من

العرب حينًا، وبدأَهم بالقتال حينًا آخر، لوقاية الإِسلام من تربصهم به والتآمر عليه فلما فرغ منهم أَوكاد قصد الروم بالشام، ليحيط الإِسلام في معقله بحزام أَمن واستقرار ولتكون كلمة الله هي العليا. والمعنى: يأَيها الذين آمنوا قاتلوا الأَقرب لكم من الكفار فالأَقرب، بعد أَن تدعوهم إِلى الإِسلام فلا يستجيبوا، وأَغلظوا في قتالهم واشتدوا فيه حتى يحسوا بذلك فيسلموا لكم ويضعفوا أَمامكم، واعلموا أَن الله مع المتقين بالنصر والمعونة. {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)} التفسير 124 - (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ... ) الآية. بعد أن بين الله ما يجب على المؤمنين في قتالهم لأَعدائهم، ذكر أَحوال المنافقين المنكرة توبيخًا لهم وتحذيرًا من شرورهم.

والمعنى: وإِذا أَنزلنا عليك يا محمد أَية سورة من سور القرآن فمن المنافقين من يقول لإِخوانه تثبيتًا لهم على النفاق، أَيكم زادته هذه السورة إِيمانًا، ومنحته يقينًا، يريدون بذلك أَنها لم تؤثر فيهم ولم تنتزع الشك والكفر من نفوسهم. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ): هذا وما بعده جواب من جهته تعالى يبين به حال أَهل ايقين، وحال أُولئك المنافقين. والمعنى: فأَما الذين آمنوا بقلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله مخلصين، فقد زادتهم السورة يقينًا بتدبُّرِهم فيها، ووقوفهم على ما فيها من الحقائق، وانضمام إِيمانهم بما جاء فيها إلى إيمانهم السابق، وهم يسرون بنزولها وبما فيها من المنافع الدينية والدنيوية. 125 - (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ): وأَما الذين في قلوبهم مرض من كفر وسوءِ عقيدة، فزادتهم السورة التي أَنزلناها كفرًا بها مضمومًا إلى كفرهم بغيرها، وعقائد باطلة وأَخلاقًا ذميمة، وماتوا وهم على هذه الحال المنكرة من الكفر والمفاسد. 126 - (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ): المراد من فتنتهم كشف نفاقهم وفضيحتهم على رءُوس الأَشهاد، وكان ذلك مرة أَو مرتين في كل عام كالذى حدث في غزوة أُحد، حين رجعوا من الطريق وكالذى حدث في غزوة الخندق حين قالوا: "إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا". وغير ذلك مما حدث منهم من المخالفات الخطيرة التي كشفها الله، وفضح فيها نفاقهم وكشف أَستارهم مرة بعد أُخرى.

والمعنى: أَيغفلون ولا يعلمون أَنهم يمتحنون في كل عام مرة أَو مرتين، وذلك بكشف نفاقهم في الأَحداث الجسام، ثم لا يتوبون عن هذا النفاق الذي كان سببًا في فضيحتهم، ولا هم يستغفرون الله مما حدث منهم، تحقيقًا لتوبتهم وندمًا على ما كان منهم، وعدولا عن تلك الأَساليب الذميمة التي توهن من شأْن المجاهدين عند لقاءِ المشكرين. 127 - (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا): بعد أَن بين الله مقالتهم السيئة وهم بعيدون من مكان نزول الوحى، وهى قولهم لإِخوانهم المنافقين: "أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا". جاءَ بهذه الآية لبيان حالهم السيئة، عندما يكونون في مكان نزوله. والمعنى: وإِذا نزلت سورة من القرآن وهم حاضرون، نظر بعضهم إِلى بعض متغامِزيِن بالعيون سخرية بها أَو غيظًا مما جاءَ فيها كشفًا لمخازيهم، يقول بعضهم لبعض إِشارة أَو همسًا: هل يراكم أَحد من المسلمين إِذا خرجتم من المجلس متسللين، ثم انصرفوا جميعًا من مجلس الوحى متفرقين مَللًا من سماع القرآن أَو هربًا من افتضاح أَمرهم. (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ): أَي صرف الله قلوبهم عن الإِيمان وفرائضه بسبب انصرافهم عن القرآن والتدبُّر فيه وجازاهم بعقوبة من جنس عملهم.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} المفردات: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ): شاق عليه ما تكرهون من مشاق الحياة، والعنت: المشقة. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ): لا يفرِّط فيما يصلحكم. (رَءُوفٌ رَحِيمٌ): الرأْفة شدة الرحمة، ولا تكون مع الكراهية، أَما الرحمة فقد تكون مع الكراهية. التفسير 128 - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... ) الآية. أَي لقد جاءَكم يا معشر العرب رسول منكم عربى مثلكم ومن أَكرم بيت فيكم، وقد نشأَ بينكم فعرفتموه منشأ وخُلُقًا، وهذا الرسول يشق عليه كثيرًا ما يشق عليكم، حريص عليكم فلا يفرط في أَمر فيه خيركم ومنفعتكم، وبالمؤمنين منكم ومن غيركم عظيم الرأْفة والشفقة، وافر الرحمة. قال الحسن بن فضيل: "لَمْ يَجْمعِ اللهُ لأَحدٍ منَ الأَنبياءِ بينَ اثنينِ من أَسمائه إِلاَّ لِلنَّبى صلَى الله علَيه وسلَّم فَقَد سمَّاه رَؤُوفًا رَّحِيمًا".

وقد جاءَ في طيب أَصله من رواية الإِمام مسلم بسنده عن وائلة بن الأَسقع قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِن وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ واصْطَفَى قُرَيْشًا مِن كنانَة، واصْطَفَى مِن قُريْشٍ بَنِى هاشِمٍ، وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ". ويرى بعض المفسرين أَن الخطاب في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. . .) الآية. للناس عامَّة، لأَن بعثته صلَّى الله عليه وسلَّم عامَّة لجميع الناس في جميع العصور، لقوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ". والمعنى: لقد جاءَكم أَيها الناس رسول من أَنفسكم أَي من جنسكم فهو بشر مثلكم إِذ لو كان من الملائكة، لضعفت قُوَّة البشر عن سماع كلامه والأَخذ عنه، ولا تعارض في هذا الرأْى مع الرأْى السابق، فإِن رسالته للعرب لا تنافى رسالته للناس أَجمعين. 129 - (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ): أَي فإِن أَعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل لهم: يكفينى الله ويعيننى عليكم، لا معبود بحق سواه، عليه وحده توكلت واعتمدت، فلا أَرجو سواه، ولا أَخاف إِلا منه، ولا أَستعين إِلا به، وهو رب العرش العظيم. والمراد من العرش إِما الفلك الأَعظم الذي تتنزل منه الأَحكام والمقادير، أَو السلطان والملك العظيم - والله تعالى أَعلم. * * *

سورة يونس

سورة يونس مكية كلها على المشهور وآياتها تسع ومائة ووجه المناسبة بينها وبين سورة التوبة التي قبلها أَن التوبة جاءَ في آخرها الثناءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزيد شفقته على المؤمنين، حيث وصف بأَنه يشق عليه ما يلحقهم من المكروه ويحرص عليهم وهو بهم رؤُوف رحيم، وجاءَ في أَول يونس توبيخ الناس على تعجبهم من أَن يوحى الله إِليه وهو رجل منهم - بأَن ينذر الكافرين ويبشر المؤمنين - وجاءَ في الأُولى بيان ما يفعله المنافقون عند نزول سورةٍ من القرآن. "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا ...... " الآية. وجاء في الثانية بيان ما يقوله الكفار في القرآن، فقد جاء فيها قوله تعالى حكاية عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} الآية (38). وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ... } الآية (15). وجاء في الأُولى ذم المنافقين بعدم التوبة وعدم التذكر والاتعاظ إِذا أَصابهم البلاءُ في قوله سبحانه: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} الآية (126). وجاء في هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوى عن إثمه ثم يعود ثانية إليه وذلك في قوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ... " الآية (12). وقوله: "فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... " الآيتين (23،22). وفي الأُولى براءَة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، في قوله تعالى: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ": وفي هذه أَمره بالإعراض عنهم في

مقدمة السورة

قوله سبحانه: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} الآية (41). وقد اشتركت السورتان في إقامة معالم التوحيد وتجلية آياته إِلى غير ذلك من المناسبات. مقدمة السورة افتتحت هذه السورة الكريمة بوصف القرآن الكريم، بأنه الكتاب الحكيم، وبيان أنه لا عجب في أَن ينزل الله الوحى على رجل من البشر لينذرهم بالعقوبة إن ظلوا كافرين، ويبشرهم بالمثوبة إن استجابوا مؤمنين، ثم تلا ذلك بيان أنه تعالى: أَبدع السموات والأَرض في ستة أَيام، وأنه لا شفيع إلا بإِذنه وأن المرجع إليه بعد الموت فكما بدأ الخلق يعيده، ثم ذكر الله بعد ذلك بعض آياته الكونية وما اشتملت عليه من المنافع لخلقه، ثم حذر من الاطمئنان إلى الحياة الدنيا والغفلة عن آياته، وانذرهم بقوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وبشر المؤمنين بجنات النعيم بقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ثم بين أنه تعالى أهلك القرون السابقة لكفرهم وجعل المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - خلفاءَ في الأرض من بعدهم لينظر كيف يعملون. ثم ذكر تبجيح المشركين بطلبهم أن يأَتيهم الرسول بقرآن غير هذا أو يبدله، فأمر رسوله بأن يقول لهم: إن ذلك ليس من شأْنه فإنه يتبع ما يوحى إليه، وأَنه لبث فيهم عمرا وهو معروف بينهم بالصدق والأمانة فكيف لا يعقلون أَن مثله لا يفترى على الله.

ثم نعى عليهم عبادة غير الله وزعمهم أَن الأَصنام شفعاء لهم عنده، في حين أَن الله لا يسمح لها بالشفاعة فهو أَعلم بحالها، فلماذا ينبئون كذبًا بما هو أعلم بحقيقته من عدم صلاحيتها للشفاعة ولا لضرهم ونفعهم بأَى وجه من الوجوه. ثم ذكر فضله عليهم بتسييرهم في البر والبحر وأنهم حين تحيط بهم أَسباب الهلاك في البحر يدعونه لينقذهم، فإذا أَنقذهم عادوا إلى بغيهم في الأَرض مع أن بغيهم على أنفسهم. ثم ضرب مثلا للحياة الدنيا يفيد أَنها سريعة الزوال فقد مثلها بالأَرض المخضرة، التي أَصاب زرعها اليبس والجفاف فجأَة، فكانت حصيدًا كأَن لم تغن بالأَمس، وذكر أَنه تعالى يدعوهم إلى دار السلام، ويهدى عباده إلى صراط مستقيم فمن آمن فله الحسنى وزيادة، والذين كسبوا السيئات ليس لهم من الله من عاصم، ثم بين أنه هو الذي يرزق عباده من السماءِ والأَرض، ويمنح السمع والبصر ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأَمر كله أَما شركاؤهم فليس لهم من ذلك ولا من غيره شيء. ثم بين أنه ليس مستقيمًا ولا معقولًا أن يفترى محمَّد القرآن، وتحداهم أن يأْتوا بسورة مثله ويستعينوا على ذلك بمن شاءُوا من دون الله، ونعى عليهم أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وهددهم بمصير من تقدمهم من المكذبين. ثم بين أَنهم ينقسمون في شأْن القرآن إيمانًا وكفرا، وأَمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لمكذبيه: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. ثم بين أَن مرجعهم إِلى الله وأَنه شهيد على ما يفعلون، وأَنه سيقضى بين الأُمم بالقسط وهم لا يظلمون، وأن مصير الكافرين الظالمين لأنفسهم عذاب الخلد جزاء بما يكسبون من الكفر والمعاصي، وبين أنه لا مجال لقبول فدية من عذاب الله في الآخرة، ثم قال في حق القرآن الكريم.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}. ثم بين أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم هم. {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ}. ثم أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو على قومه لتذكيرهم نبأَ نوح وقومه، كذبوا بآيات الله ولم ينفعهم تذكيره لهم، فنجاه الله ومن معه في الفلك من المؤمنين واغرق جميع المكذبين. ثم ذكر طائفة من أنباءِ المرسلين، وما أصاب أَقوامهم من إِهلاك بسبب تكذيبهم لهم ثم قال في أعقاب قصصهم: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ثم بين أَن كل قرية لو أَنها آمنت قبل أَن ينزل بها العذاب، لنفعها إيمانها، ولكشف الله عنها عذاب الخزى كما فعل بقوم يونس، فإنهم لما آمنوا قبيل مجىء العذاب كشف الله عنهم عذاب الخزى، ومتعهم إلى حين فكانوا مثلا حسنًا في حسن الرأْى ونضج التفكير. ثم أمر الله نبيه أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ في شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. ثم أمره في آخر السورة أن يخبر الناس بأن الحق جاءَهم من ربهم. {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} وحضه في ختامها على الصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} المفردات: {آلر}: قال السلف فيها وفي أَمثالها: الله أَعلم بمراده: ويأْتى تفصيل الحديث عنها في الشرح. {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: القرآن المشتمل على الحكمة وهي إِصابة الحق. {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}: مكانة سابقة محققة في حسن الجزاءِ عند ربهم في الجنة والقدم والقدمة بضم فسكون: السابقة في الآمر. {لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: أي لساحر بين السحر واضحه: كذا قال الكافرون وهم كاذبون. التفسير 1 - {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: {الر} تقدم الكلام مبسوطا على فواتح السور المماثلة لهذه في البقرة وآل عمران والأَعراف ونجمله هنا فنقول: إن السلف يعدونها من المتشابه الذي استأْثر الله بعلمه ولذا فهم يفوضون في مثل ذلك قائلين: الله أَعلم بمراده، وكثير من العلماءِ جنح إلى التأويل، فمنهم من قال إنها أَسماءٌ للسور التي تصدرتها، ومنهم من قال: هي فواصل بين

السور التي قبلها والسور التى تليها، ومنهم من قال غير ذلك: وخير ما قالوه: إنها أَسماءُ حروف عربية جعلت في صدر السور لتنبيه الأسماع والقلوب إِلى ما فيها من أعظم أَساليب البلاغة والفصاحة وما اشتملت عليه من التشريعات الحكيمة وأَخبار الغيب ونواميس الأخلاق الكريمة، وغير ذلك من الروائع الناطقة بإعجاز القرآن للبشر وصدوره عن الله تبارك وتعالى كما أن فيها الرمز إِلى التحدى، بالإشارة إلى أن القرآن مؤلف من جنس ما ينظم العرب منه كلامهم، فإذا عجزوا عن الإتيان بمثله، وجب التسليم بأنه من عند الله وأن محمدا لايستطيع أن يأْتى به فهو فوق مستوى البشرية جميعًا كما هو فوق مقدرة الإِنس والجن مجتمعين {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}. {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: هذه الآيات الرفيعة الشأْن، التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة هي آيات القرآن العظيم الذي أُحكمت آياته، واشتمل على ضروب الحكمة وشتي فنونها فهو خاتمة الكتب السماوية والمهيمن عليها. 2 - {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ..... } الآية. كان للمشركين في شأْن الرسالة مواقف، فتارة بنكرون أن يكون الرسول بشرا، كقولهم {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} ويرون أنه تعالى لو أَراد أن يرسل رسولًا فإنه يختاره من الملائكة، وذلك ما حكاه الله عنهم بقوله: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} روى عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: أَن الكفار قالوا لما بعث محمد: إن الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وتارة يزعمون أن الله لو أَرسل رسولًا من البشر، فإنه يرسله من عظماء قومه في المال والجاه، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬1) ومن أَقبح ما جهلوا به في هذا الشأْن قولهم الْعجب أن الله تعالى لم يجد رسولًا يرسله إِلى الناس إِلا يتيم أبي طالب، وتلك النظرة الجاهلة ناشئة عن فرط ¬

_ (¬1) آية 31 من سورة الزخرف.

قصورهم في التفكير، وجهلهم بحقيقة الوحى والنبوة، وقد كان أَكثر رسل الله خفاف الحال في شئون الدنيا، ثقال الموازين في الشرف وطيب المحتد، وكان صلى الله عليه وسلم واسطة عقدهم في جلائل الأَخلاق وشرف المنبع، فقد كان من أَعز أرومة في الجزيرة العربية والآية تنكر عليهم عجبهم من أَن يكون الرسول بشرا. والمعنى: لا يصح لهؤلاءِ الناس أَن يتعجبوا من أننا أَوحينا إلى رجل منهم، أن ينذر الناس ويخوفهم عقاب الله إن عصوه وكفروا به، ويبشر الذين آمنوا برسالته، وعملوا الصالحات بأَن لهم سابقة محققة في الفضل وحسن الجزاءِ عند ربهم، فالنبوة للبشر لا للملائكة، كما تشهد به الكتب السماوية والتفاوت بين الناس ليس بالمال، ولا بالزعامة بل بالعقل والكمال والاستقامة، ورب رجل في أَعلى عليين بعقله وفضله، وآخر في أَسفل سافلين بجهله وحمقه، فما لهؤلاء المشركين ينكرون نُبُوةَ البشر ويطلبون رسلا من الملائكة، مع أنهم يستسيغون أُلوهية الحجر، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. وسميت سابقة الفضل قَدَمًا؛ لأَن السبق غالبا يكون بالقدم، فهي التي يسعى بها المؤمن إِلى الصالحات، في أَكثر الحالات، كما سميت النعمة يدا لأَنها تعطى باليد غالبا. وأَضيفت القدم إِلى الصدق للإيذان بأَنهم ينالونها بصدق القول والعمل والنية {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: أي قال الكافرون إِن محمدا لساحر ظاهر السحر، والآية تشير إلى أن الرسول لم تقصر معجزاته على القرآن الذي هو أَقوى معجزاته، بل أَظهر لهم خوارق ومعجزات أُخرى غير القرآن الكريم، فوصفوه لهذا كله بأَنه ساحر مبين، وقد كذبوا فيما زعموه، فما هي إِلا آيات الحق المبين: وكيف يترك الله ساحرا متقولًا علي الله ولا ينتقم منه، وصدق الله إِذ يقول {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} المفردات: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: أي في ستة أَوقات لا يعلم مداها إلا الله تعالى أمَّا اليوم المعروف فإنه لم يحدث إلا بعد خلق السموات والأرض. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: ثم استولى عليه، ومنه قول الشاعر استوى بشر على العراق. من غير سيف ودم مهراق. أي ثم استولى على العرش ليدبر شئونه وشئون الكون كُله، ولم يغلبه عليه أَحد، فهو وحده الخالق الدبر، وسيأتى في المعنى الحديثُ عن العرش. {بِالْقِسْطِ}: بالعدل. {شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ}: شراب من ماء شديد الحرارة. التفسير 3 - {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: جاءَت هذه الآية لإظهار بطلان تعجبهم من أن الله أَرسل إليهم رجلًا منهم لينذرهم ويبثسرهم، ولبيان خطيئتهم في وصفه بأنه ساحر مبين.

والمعنى: إن ربكم ومالك أموركم هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أَوقات بعيدة المدى لا يعلمها إِلا الله، اقتضاها تطوير خلقها من دخان إِلى نجوم وكواكب وأرضين يابسات، ثم استوى على العرش وملك سلطان الكون وهيمن عليه، فكيف تعجبون من أَنه أَوحى إلى رجل منكم هو في أعلى درجات الكمال الإنسانى ليبلغكم شريعته، ويحذركم نقمته إن عصيتموه، ويبشركم بحسن العاقبة إن أطعتموه، وكيف تصفونه وهو الصادق المصدوق بأنه ساحر مبين، مع أنه لم يمارس السحر طول حياته وقد عرفتموه فيما بينكم بالصادق الأَمين، فهل يعقل عاقل أن يؤيد الله رب هذا الملك والكون وخالق هذه الأرض والسموات وصاحب هذا العرش والسلطان، كيف يعقل أن يؤيد بشرًا بالمعجزات وهو غير صادق في دعوى الرسالة وكيف تصفون من أيده الله بأنه ساحر مبين. واعلم أيها الأخ المسلم، أنه لا ينبغى أَن تورط نفسك في فهم المراد من اليوم، فأَيام الله من شأْنه وحده، ولا علم لنا بها، فتارة يكون يومه تعالى كألف سنة مما تعدون، وأخرى يكون كخمسين أَلف سنة، وثالثة يكون أقل أو أكثر من ذلك بما لا يعلمه إلا الله، واليوم في هذه الأيام الستة يمثل طورًا من أَطوار التكوين، وربما جاوز ملايين السنين فدع تقديره لمن هو أعلم به جل وعلا. أما اليوم الذي يطلق تارة على النهار الواحد أَو على مجموع ليل ونهار فإنه لم ينشأَ إلا بعد تكوين الشمس والقمر والأرض ودورانها حولها وهو خاص بأَرضنا هذه، ولكل كوكب نهاره وليله اللائقان بحجمه وبما خلق من أَجله. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: ويطلق العرش في اللغة حقيقة على سرير الملك ومجازًا على العز والسلطان، ويطلق الاستواء على الاعتدال وعلى الإقبال وعلى الاستيلاء. والمعنى اللائق باستوائه سبحانه على العرش هو استيلاؤه على سلطان الكون وتمكنه منه ومن تدبيره دون شريك، أَما تفسيره بمعنى الاعتدال والجلوس على سرير الملك، فهو أمر يجب تنزيه المولى عنه؛ لأنه ليس جسما ولا مادة وكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

والسلف لا يؤولون ويأْخذون بظاهر النص، ولكنهم ينزهون المولى عن أَن يكون استواؤه على العرش، كالذى يحدث من الملوك، بل هو أَمر يليق ينزهه تعالى عن مشابهة الحوادث ويجل عن تصور العقول. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: شروع في بيان شئونه المترتبة على ملكه وسلطانه سبحانه وتعالى، وتدبير الأمر معناه لغة النظر في أَدبار الأُمور وعواقبها، لتجىءَ محمودة العاقبة. والمعنى: يقدر الله أمور الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به مشيئته، ومن ذلك أَمر الرسالات والرسل كما قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1). {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}: في هذا النص الكريم تقرير لعظمته عَزَّ وَجَلَّ واستقلاله في التدبير، ورد على من زعم منهم أَن آلهتهم تشفع لهم عند الله. والمعنى: ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأَوقات، إِلا من بعد إذن الله المبنى على الحكم الباهرة، وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأَخيار، والمشفوع له ممن تليق به الشفاعة من عصاة المؤمنين. {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: ذلكم الموصوف بتلك الأوصاف الجليلة هو الله ربكم المنعم المتفضل عليكم الذي يدعوكم رسوله محمد إلى عبادته، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، أَتغفلون عن مصلحتكم فلا تتعظون بتلك المواعظ وغيرها مما ينزل به القرآن الكريم. 4 - {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}: إلى الله تعالى وحده رجوعكم جميعًا بالبعث والحشر لا إلى غيره، وعد الله ذلك وعدا حقا لا خلف فيه، فامتثلوا أمره واجتنبوا نههيه، لتنالوا ثوابه وتنجوا من عقابه. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: (54)

ثم بين قدرته على البعث والحكمة فيه فقال: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ..... }: إنه يبدأُ الخلق لا على مثال سبق، ثم يعيده في النشأَة الأُخرى على ما كان عليه، ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات بعدله تعالى على حسب أعمالهم كما وكيفا، ويزيدهم من فضله. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}: والذين كفروا بالله ورسله، ولم يهتموا بالآيات والنذر ولم يؤمنوا بيوم الحساب، لهم شراب من ماءٍ شديد الحرارة يغلى في البطون كغلى الحميم، ولهم فوق ذلك عذاب شديد الإيلام بسبب إصرارهم على كفرهم واستمرارهم عليه. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} المفردات: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}: أَي جعلها ذات ضياءٍ، ويصح أَن يكون هذا التعبير على المبالغة، بجعلها نفس الضياء، ومثل ذلك يقال في جعل القمر نورًا. {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ}: أَي وقدر كلا من الشمس والقمر ذا منازل، ينزل فيها وينتقل إِليها بنظام دقيق في مداره الفلكى. {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}: أَي ما خلقه إلاَّ مقرونا بالحكمة والمصلحة.

{إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: أَي في تعاقبهما وكون كل واحد منهما خِلفة للآخر، أَو في تخالفهما ظلمة وضياء وطولا وقصرًا وغير ذلك. التفسير 5 - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}: بعد أَن نبه الله عباده إِلى أنه سيعيدهم في النشأة الآخرة كما بدأَهم في النشأة الأُولى، ليجزيهم بما عملوا بالحق والعدل نبههم إِلى آيات قدرته وآثار رحمته، ومظاهر نعمته بجعل الشمس ضياءً والقمر نورًا ليشكروه ولا يكفروه، ويرجوه ويحذروه. والمعنى: هو الذي جعل الشمس مصدر ضياءً ذاتى ساطع تنبعث منه الحرارة، فتنشأُ الكائنات الحية من نبات وحيوان، وتعيش وتنشط بما تبثه فيها من أَسباب الحياة والخفة والنشاط، وتسعى في سبيل رزقها مستضيئة بأَشعتها. وجعل القمر ذا نور هادىءٍ يهتدى به السارون في البر، والماخرون في البحر بعد أَن غابت الشمس بضيائها تحت الأُفق، وأَرخى الليل سدوله على وجه الأَرض. {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}: وقدر الله كل واحد من الشمس والقمر ذا منازل في مداره الفلكى ينتقل إِليها، لتعلموا بانتقال كل منهما إِليها عدد السنين التي تمر بكم وتصبطوا بها مصالحكم ومواقيتكم في مواثيقكم ومختلف شئونكم، ولتعلموا حساب الأوقات من الشهور والأيام، التي نيطت بها مصالحكم الدنيوية والأُخروية ونسبة الضياء إِلى الشمس والنور إِلى القمر؛ لأن ما كان بالذات يطلق عليه ضياء، وما كان بالعرض يطلق عليه نور، ولما كانت أشعة الشمس ذاتية أطلق عليها ضياء، ولما كانت أَشعة القمر منعكسة عليه من أشعة الشمس، أُطلق عليه نور وقيل النور أعم من الضوء، فالنور يشمل القوى والضعيف بخلاف الضوء فإنه خاص بالقوى فلذا يقال نور الشمس وضوؤها أما القمر فيضاف إليه النور دون الضوءِ، وقيل غير ذلك، وبانتقال الشمس في هذه البروج ذات المنازل توجد الفصول الأربعة في العام الشمسى وبانتقال القمر في هذه البروج ذات المنازل تكون أَوائل الشهور وأواخرها والله تعالى أَعلم.

{مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}: ما خلق الله ذلك الذي تقدم من الشمس والقمر وأَحوالهما إلا مقرونا بالحق، مراعى فيه الحكمة والمصلحة، فلم يخلقه عبثا ولا باطلا. {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: يفصل الله تعالى هذه الآيات الكونية وغيرها مما اشتمل عليه القرآن الكريم، يفصلها لقوم من ذوى العلم والعقل ليتدبروها ويؤمنوا بمبدعها، ويمتثلوا أَمره ويجتنبوا نهيه. {يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. 6 - {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ}: بعد أَن بين آياته ونعمه في الشمس والقمر، عقَّبها بالإِشارة إِلى آياته في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض. والمعنى: إن في تعاقب الليل والنهار، وكون كل منهما خلفا للآخر، وفي اختلافهما بالظلام والضياءِ، ليكون الليل بظلامه قرارًا والنهار بنوره نشورًا، وفي تمايزهما بالزيادة والنقصان بالتداول بينهما - إن في ذلك كله - وفيما خلق الله في السموات والأرض من بدائع رائعة، ومنافع كثيرة، ونعم شاملة لآيات شاهدات بوجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته ووافر فضله ورحمته لقوم يتقون المعاطب تنبههم إلى طريق السلامة.

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المفردات: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: لا يتوقعون الرجوع إلى الله تعالى. {مَأْوَاهُمُ}: مسكنهم ومقرهم. التفسير 7 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ}: هذه الآية والتي تليها تبين مصير من كفر بالبعث وغفل عن آيات الله تعالى. والمعنى: إِن الذين لا يتوقعون لقاءَ الله يوم الحساب، ورضوا بالحياة الدنيا معتقدين أنها لا حياة بعدها، فعملوا لها وغفلوا عن غرورها وخداعها، وسكنوا فيها سكون من لا يبرحها آمنين من المزعجات، والذين هم غافلون عن آيات الله في كونه وعلى أَلسنة رسله فلم يتزودوا ليوم الوعيد. 8 - {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أُولئك الذين تقدمت صفاتهم السيئة، مرجعهم النار بما واظبوا على كسبه من الكفر والمعاصي.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} المفردات: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ}: تجرى من تحت قصورهم في الجنة. {دَعْوَاهُمْ فِيهَا}: أي دُعَاؤهُم فيهَا. التفسير 9 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: بعد أن بين الله في الآيتين السابقتين أن الكافرين بلقاء الله الغافلين عن آياته مأْواهم النار، بسبب ما كانوا يكسبونه من الكفر والمعاصي، جاءَ بهذه الآية والتي تليها لبيان أَن مصير المؤمنين الجنة، بسبب إيمانهم الممزوج بالعمل الصالح، وَبضِدِّها تتميز الأشياءُ. والمعنى: إن الذين آمنوا بلقائنا وبكل ما يجب الإِيمان به، وعملوا ما ينبغي لهذا الإيمان من الأَعمال الصالحات، يهديهم ربهم بسبب ذلك إِلى مأْواهم الذي أَعده لهم في الجنة، حسب درجات أَعمالهم، فينزلون فيه مكرمين، تجرى من تحت قصورهم الأنهار في جنات النعيم الخالص من كل شائبة تنغص حياتهم. 10 - {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}: الدعوى هنا بمعنى الدعاء، أَي: دعاء المؤمنين الصالحين في الجنة قولهم سبحانك اللهم.

وقد جرى عرف الشرع على إطلاق الدعاءِ على التهليل والتحميد والتمجيد والتسبيح ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أكْثر دعائى ودُعَاء الأَنبيَاءِ قَبْلى بِعَرفات: لَا إِله إِلَا الله وَحْدهُ لا شَريكَ لهُ، لَه الملْك ولَه الحَمد، وهُوَ علىَ كلِّ شَىءٍ قَدير"، وفي تعليل ذلك يقول ابن الأثير: إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء، لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه. وفي الحديث: "إذا شَغَل عَبْدى ثَنَاؤُه علىَّ من مسْأَلتى، أَعطَيتُه أفضَل ما أُعطى السَّائِلينَ". {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}: وما يُحيَّونَ به في الجنة لفظ السلام الدال على الأمن والطمأْنينة والسلامة من كل مكروه. وهذا السلام يقوله الله تعالى لهم، كما قال تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ويقوله بعضهم لبعض، ويقوله الملائكة لهم توكيدًا لمعانى الأَمن والسلامة والطمانينة دائمًا. {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أي وآخر دعائهم وذكرهم لربهم أنهم يقولون الحمد لله رب العالمين، ويُرَى من الترتيب الذكرى في الآية الكريمة أنه حكاية للترتيب الوقوعى في الجنة، وذلك أَن أهلها من المؤمنين حين يشرعون في الدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام، وهو دعاء بالسلامة من كل مكروه تقوله الملائكة لهم، ويقوله الله تعالى لا دعاء بل طَمْأنَةً وتحيه لهم منه جل وعلا، ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين، وهكذا يستمر شأنهم بكرة وعشيًّا كما يشير إليه حديث في وصف أَهل الجنة "يُسَبحُونَ الله بُكْرَةً وَعشِيًّا" أي يسبحونه تعالى من آن لآخر.

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} المفردات: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}: لانتهى الأجل الذي قدره ألله لعذابهم وأُميتوا جميعا وما أُمهلوا لحظة واحدة. {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: لا يتوقعون الرجوع إلينا لإنكارهم البعث. {فِي طُغْيَانِهِمْ}: الطغيان؛ مجاوزة الحد في الظلم والمراد هنا إِنكارهم البعث وتكذيب الرسل وارتكاب ما يترتب على ذلك من المفاسد والموبقات. {يَعْمَهُونَ}: يترددون ويتحيرون. {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ}: وإِذا أَصابه أَي ضرر. {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}: تضرع إلينا وهو مضطجع على جنبه أَو دعانا قاعدا أَو قائما، طالبا إِزالته عنه.

{مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}: أَي مضى واستمر على ما كان عليه قبل البلاء من التكديب، كأَنه لم يلجأ إلينا لإزالة ما أَصابه. {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: حسن للمتجاوزين الحد في ارتكاب القبائح ما عملوه منها. التفسير 11 - {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ}: بعد أَن ذكر القرآن الكريم طائفة من جرائم الذين ينكرون البعث والجزاءَ، جاءَت هذه الآية تحكى معصية أُخرى من أَشنع معاصيهم المترتبة على ذلك، وهي استعجالهم لنزول العذاب الذي توعدهم القرآن به، مبالغة منهم في الاستهزاءِ بمجيئه والتكذيب بوقوعه. والمعنى: ولو يعجل الله تعالَى لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا يتوقعون الرجوع إِلى الله الواحد القهار، لو يعجل لهم - سبحانه - العذاب الذي كانوا يستعجلون به، مثل إسراعه بتحقيق الخير لهم عند استعجالهم به وطلبهم إِياه. {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}: أي لأَنهى الله إليهم مدتهم التي قدرها الله لعذابهم، واستؤْصلوا بإهلاكهم جميعًا عن آخرهم، وما أُمهلوا لحظة واحدة جزاءَ جرأَتهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ...... } (¬1) ولكنه سبحانه يمهلهم ولا يعجل لهم الشر الذي طلبوه ولا ينهى إِليهم أَجلهم، وإنما يتركهم إمهالا لهم واستدارجا، كما قال تعالى: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: أَي فنترك الذين لا يتوقعون لقاءنا يوم البعث ولا يصدقون بيوم القيامة، غارقين في ظلمهم الذي تجاوزوا فيه ¬

_ (¬1) سورة فاطر الآية: 45

الحدود، وهو إنكارهم البعث وتهاويهم في التكذيب وارتكابهم كل قبيح من الأَقوال والأَفعال - ندعهم في هذا الحال السيء يترددون ويتحيرون، ولا نترفق بهم بسبب تماديهم في البغى. 12 - {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}: في الآية السابقة إشارة إلى أن الكفار كانوا يستعجلون نزول العذاب الذي توعدهم الله به استهانة بشأْنه، وفي هذه الآية الكريمة بين سبحانه أنه لو نزل بالإنسان أَدنى مكروه، فإِنه يدعو الله في كل حال راجيا إنقاذه منه وإزالته عنه لعجزه عن احتماله وحيث كان أَمرهم كذلك فكيف يستعجلون عذابه. والمعنى: وإذا أَصاب الإنسان أَي ضرر من مرض أو فقر أَو غير ذاك من الشدائد دعا الله طالبا كشفه عنه وتخليصه منه - دعاه - في حال اضطجاعه على جنبه أَو في حال قعوده، أَو في حال قيامه. والمراد أنه يتضرع إلى الله ليكشف ضره على أي حال يكون، وإنما خصت هذه الثلاثة بالذكر لأَنها أَغلب أَحوال الإنسان، ثم بين القرآن أَن هذا الذي تضرع إلى الله لرفع ما نزل به من البلاء رجع بعد تخليصه منه إلى الكفر والضلال، فقال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}: أَي فلما استجبنا له وأَزَلْنا عنة الضُّرَّ الذي نزل به، مضى واستمر على طريقته التي كان عليها من التكذيب والعناد قبل أن يمسه الضر، وَنَسِى ما كان فيه من الجهد والبلاءِ كأَن لم يدعنا إلى كشف ضُرٍّ مسه، وإزالةِ مكروه نزل به. {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي مثل هذه الحال العجيبة التي تنكروا فيها لله تعالى ورجعوا إلى الضلال الذي كانوا فيه، زين الشيطان للمسرفين في الكفر والمعاصي، ما كانوا يعملونه من الانغماس

في الشهوات، والانهماك في الفجور والعصيان، والإعراض عن التوحيد والطاعات، وسموا مسرفين لأَن الله أَنعم عليهم بنعمة الفِكْر والعَقْل وسائر قوى الإدراك، ليستعملوها في تحصيل الخير وعمل الصالحات وتعلم العلوم النافعة، فاستحبُّوا العمى على الهدى واستعملوها في الظلم والتكذيب والفساد، وذلك هو الإسراف، ويستفاد من الآية الكريمة ذم الذين يتركون دعاءَ الله فى الرخاءِ ويتضرعون إِليه عند نزول البلاءِ، والجدير بالمؤْمنين أَن يلجأُوا إلى الله في السراءِ أَيضا، فإن ذلك أَرجى للإجابة في الضراء ففي حديث البخاري: "تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِى الرَّخَاءِ يعْرِفْكَ في الشِّدةِ". وفي حديث الترمذي عن أَبي هريرة: "مَنْ سَرَّهُ أَن يَسْتَجِيبَ الله - تَعَالَى - لَهُ عِنْدَ الشدَائِدِ وَالْكُرُوب فَلْيُكْثِر الدُّعَاءَ في الرَّخَاءِ". والآثار في ذلك كثيرة، والمراد من الإنسان: الجنس المتحقق في الكافر الذي يلجأُ إلى الله في الشدة وينساه بعد إنقاذه منها. ثم أخبر القرآن الكريم المخاطبين بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بإِهلاك المكذبين من الأُمم السابقة ليكون إنذارا لمن جحدوا نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: 13 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: أي ولقد أهلكنا الأُممَ الماضية من قبل زمانكم يا أَهل مكة مثل قوم نوح وعاد وثمود وأَمثالهم حين ظلموا بتماديهم في الغى والضلال وتكذيبهم لرسلهم، وقد جاءوهم بالآيات الواضحة والحجج الظاهرة الدالة على صدقهم، كذبوهم في هذه الحالة التي لا ينبغى فيها التكذيب والكفران، لأنها تدعو إِلى التصديق وتقتضى الإيمان.

ثم بين القرآن أَن هؤلاء لا يستقيم منهم إيمان، ولا يصح منهم إِذعان لفساد فطرتهم بإصرارهم على رد رسالات الله في قوله: {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}: أَي وما صح لهؤلاءِ المُصِرين على الكفر والفساد أَن يؤْمنوا لبعدهم عن الإيمان، إذ أَفسدوا فطرتهم بسوء اختيارهم الضلالة على الهدى، مع وضوح الحجة وسطوع البرهان. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: أي مثل ذلك الجزاءِ الألَيم الذي حلّ بالمكذبين من الأُمم الماضية، نجزى كل طائفة أَجرمت وطغت وبغت وكفرت بأنعم الله. وفي الآية تهديد لكفار مكة بأَن يصيبهم ما أصاب المكذبين قبلهم، فقد اشتركوا مع المهلكين السابقين فما يقتضي الإهلاك وهو كفرهم برسل الله. {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. المفردات: {خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}: خلفاءَ في الأَرض بعد إهلاك المكذبين السابقين. التفسير 14 - {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: بعد أن أوضحت الآية السابقة سبب إِهلاك الأُمم السابقة وهو أَنهم أَتتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، جاءَت هذه الآية توضح لأُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم أَنهم خلف للأمم السابقة، وفي محل الاختبار فقال تعالى:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: أَي: ثم جعلناكم أيها المخاطبون بشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم خلفاءَ في الأرض تصلحون ولا تفسدون، من بعد أن أَهلكنا المكذبين قبلكم، الذين تسمعون أخبارهم وتشاهدون آثارهم. {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}: أي استخلفناكم من بعدهم. لنعلم واقعًا منكم وموجود أَي عمل تعملون خيرًا كان أَو شرًّا، مع ثبوت علمنا أَزلا بما سيكون منكم، ليكون الجزاءُ على ما يقع منكم فعلا. والمراد: أنه تعالى يعاملكم معاملة من يختبر إِنسانًا، ليظهر من أَمركم، ما علم أَزلا أَنه سيحدث منكم باختياركم لتقوم به الحجة عليكم، فيجازيكم على ما صدر منكم. وأُسلوب الآية يشعر باستمالة المخاطبين نحو الإيمان، إذ الأصل أَن يكون الاستخلاف بعد اختيار، فإذا شعر المخاطب أَنه اختير لما استخلف فيه، لَانَ قلبهُ وانجذبتَ نفسه نحو القيام بعمل الصالحات. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}

المفردات: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: لا يتوقعون مجىءَ البعث، والمراد أَنهم ينكرونه. {وَلَا أَدْرَاكُمْ}: ولا أعلمكم الله بالقرآن عن طريق الوحى به إلىَّ. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ}: أَي فقد أقمت بينكم زمنًا طويلا من قبل نزول القرآن علىَّ. {لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}: أيُّ لا ينجون مما يحذرون ولا يفوزون بما يطلبون. التفسير 15 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ....... } الآية. في الآية السابقة خطاب من الله تعالي لأهل مكة يخبرهم فيه باستخلافهم في الأرض، بعد إهلاك المكذبين من الأُمم الماضية، تليينًا لقلوبهم، واستمالة لهم إلى الإِيمان، ثم جاءَت هذه الآية تعدد بعضًا من جرائمهم الدالة على أَنهم لم يستجيبوا لدعوة الإيمان، ولم يقوموا بما يقضى به استخلافهم، فقد بينت إصرارهم على الكفر بآيات القرآن البينات، والتكذيب بكل ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، كدأْب من أُهلكوا قبلهم بتكذيبهم. والمعنى: وإذا تتلى منك أيها الرسول علي هؤلاءِ المكذبين المعاندين آياتنا العظيمة الصادقة، التي أنزلناها عليك واضحة في دلالتها على التوحيد وإِبطال الشرك، مرغِّبة في الإيمان منفِّرة من العصيان. {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}: أَي وإذا تلوت عليهم أَيها الرسول آياتنا العظيمة الصادقة قال الذين لا يتوقعون البعث ولا يؤمنون بيوم القيامة ردًّا لها وكفرًا بها، أحضر يا محمد قرآنًا غير هذا القرآن الذي تتلو منه علينا.

أَي جىءَ بكتاب آخر نقرؤه لا تكون فيه آيات تخبر عن وقوع البعث ويكون خاليًا مما نكره، من ذم آلهتنا ووعيد من يعبدها بالعقاب الشديد، وهم بهذا الطلب يريدون تغيير القرآن كله، بما فيه مما ينكرونه أما قولهم: (أوْ بَدِّلْهُ) فهم يريدون به تبديل الآيات التي تسفه عقولهم وعقول آبائهم وتثبت البعث والعقاب على الشرك بآيات خالية عن ذلك مع استبقاءِ سواها. ولا شك في أنهم قصدوا من هذا الطلب الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناءً على طمعهم في تحقيق إِجابته لهم، ليتوسلوا بذلك إلى الاستهزاء به والسخرية منه، وإلزامه بما جاءَ به مما يوافق هواهم ورأْيهم في آلهتهم، كما اقترحوه عليه، وحينئذ لا يبقى له ولا لنبوته شأْن فيهم. وقد أَمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن يرد عليهم بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي}: أَي قل أَيها الرسول لهؤلاء المتعنتين، ما يصح وما ينبغي لى أَبدًا أَن أضع آية مكان آية أُخرى من جهتى وبرأْيى دون أَمر من الله سبحانه وتعالى. والمراد بهذا الجواب رد الاقتراحين معًا لأن تبديل آية مكان آية، أخف من الإتيان بقرآن غير هذا القرآن الذي نزل، وإذا امتنع السهل واستحال امتنع الصعب واستحال بالطريق الأولى، ومما أمر به - صلى الله عليه وسلم -، بيانا بشأْنه وحاله في تلقى الشريعة وإِبلاغها للناس قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}: أَي ما أَتبع أَيها الناس فيما أَفعل وأَترك إلا ما ينزل به الوحى من عند الله دون أَن أُغَيِّر منه شيئًا، وكذلك أَمر الله أن يقول تعليلا لاتباعه الوحى وامتناعه من التبديل: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: أي إني أَخاف إن عصيت مولاى الذي أرسلنى، بترك السير في طريق الوحى المستقيم، أَخاف عذاب يوم عظيم تكثر فيه الأهوال وتشتد الكربات وهو يوم القيامة. 16 - {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ ...... } الآية. بعد أَن بين القرآن الكريم في الآية السابقة أن لا سبيل إلى ما اقترحوه تعنتًا، جاءَت هذه الآية الكريمة تثبت أن القرآن حق، وأنه من عند الله العزيز الحكيم.

والمعنى: قل أَيها النبي لهؤلاءِ المنكرين عنادًا واستكبارًا: لو شاء الله تعالى أَن لا يجعلْنى رسولًا إِليكم ما تلوته عليكم ولا أَدراكم به عن طريقى، فإِن ذلك مما لا سبيل لى إليه. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: أَي فقد أَقمت بينكم زمنًا طويلًا مقداره أَربعون سنة، عرفتم فيها جميع أَحوالى وأحطتم خيرًا بكل أَقوالى وأَفعالى من قبل أن ينزل القرآن على، فقد كنت لا أتكلم بينكم بما يشبه القرآن فى نظمه المعجز، ومعناه الموضح لأحكام الشريعة من عبادات ومعاملات وأَخلاق، وأَخبار الأمم الماضية مع رسلهم، وغير ذلك مما جاء به القرآن، كما كنت معروفًا بينكم بالصدق والأَمانة، أَتغفلون عن ملاحظة ذلك فلا تدركون وجوب كونه من عند الله العزيز الحكيم، ولا تعقلون امتناع صدوره عن مثلى، وكيف يعقل أَن أُعرف بينكم في هذا العمر الطويل، بأننى لا أَكذب على الناس، ثم أَكذب على الله المنتقم الجبار، إِن استحالة صدوره عني أمر لا يخفى على من كان له أَدنى فكر وأقل تدبر. 17 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}: بعد أَن أَفادت الآية السابقة أن القرآن الكريم نزل بأمر الله تعالى ومشيئته على رسوله صلى الله عليه وسلم جاءَت هذه الآية تبين للناس أَن من اختلق كلامًا من عند نفسه ونسبه إلى الله تعالى يكون أَظلم الظالمين. والمعنى: إذا كنت التزمت الصدق والأمانة مع الناس لأن الكذب ظلم، فلهذا يستحيل أن أفترى الكذب على الله فلا أحد أَعظم ظلما من الذين يختلقون على الله ما لم ينزله عليهم، أو يكذبون بآيات الله سبحانه وتعالى. والمراد بيان براءَته - صلى الله عليه وسلم - مما جوزه المشركون في حقه من الافتراءِ عل الله والتنبيه على أنهم هم أظلم من كل الظالمين، إذ كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وكفروا بجميع ما جاءَ به من عند ربه.

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}: أَي إِن الشأْن الثابت عنه تعالى في علمه القديم - أَنه لا يفوز أَي مجرم بمطلوب بطلبه ولا يسلم من مكروه يخافه فلا ينجوا الذين افتروا على الله وكذبوا آياته بالأَولى لأَن جرمهم أَشد وأَشنع. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} المفردات: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}: أَي أتخبرون الله بشفعاء لا يعلمهم في السموات ولا في الأرض، والمراد نفى وجودهم إِذ لو وجدوا لعلمهم الله سبحانه. {أُمَّةً وَاحِدَةً}: جماعة متفقة على الحق في أصل الفطرة. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ}: أَي ولولا قضاءُ الله بتأْخير الفصل بين المحق والمبطل إلى يوم القيامة. التفسير 18 - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ...... } الآية.

بعد أَن ذكرت الآيات السابقة طائفة من جرائم الكفار أهل مكة، جاءت هذه الآية الكريمة تحكى عنهم جناية أُخرى لعلها السبب في تلك الجنايات السابقة. أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول إذا كان يوم القيامة شفعت لى اللات والعزى فنزلت هذه الآية. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}: أَي ويعبد هؤلاء المشركون من أهل مكة غير الله أَصنامًا جعلوها له سبحانه شركاءَ في العبادة في حين أنها لا تستطيع أَن تلحق بهم ضررًا ولا أَن تجلب لهم نفعا، وشأْن المعبود أن يكون قادرًا على الضر والنفع. {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}: أي ويقول هؤلاء المشركون تبريرًا لعبادتهم لها: هؤلاءِ الأوثان شُفَعَاؤُنَا في الحياة الدنيا نتوسل بها إِلى الله لإصلاح معاشنا وكل ما يهمنا من شئون هذه الحياة، وشفعاؤنا في الآخرة إن كان هناك بعث أَو نشور كما زعمتم، يشفعون لنا في تخفيف العقاب عنا. وبهذا التأْويل ظهر أنه لا تنافى بين ما فهم من هذه الآية وبين الآيات الدالة على إِنكارهم البعث كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} وأمثاله. وحال هؤلاء المشركين إِن دل على شيءٍ فإنَّما يدل على فرط جهالتهم وفظاعة حماقتهم، إذ تركوا اللجوءَ إِلى الخالق النافع الضار، وتوسلوا بما يقطع الحس والنظر بأَنه لا يضر ولا ينفع. ثم أمر الله تعالى، رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لهم تبكيتًا وتقريعًا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}: أَي قل أَيها الرسول لهؤلاءِ الحمقى إنكارًا عليهم وتوبيخا لهم، وسخرية منهم، أتخبرون الله تعالى بشىءٍ لا وجود له أصلًا في السموات ولا في الأرض، وهو أَن الاصنام شفعاؤُكم

عند الله تعالى إذ لو وجد ذلك فيهما وثبت، لعلمه الواحد الصمد علام الغيوب في جميع الكائنات، فما لا يعلمه فهو معدوم وليس له وجود، فالمراد من نفى علمه تعالى به نفى وجوده فما لا يعلمه فهو معدوم وليس له وجود. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أَي تنزيهًا لله تعالى عن إِشراكهم الذي بنوا عليه هذا القول الزائف، وعن الشركاءِ الذين يشركونهم في العبادة معه تعالى. 19 - {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: بعد أَن أشار القرآن الكريم إِلى أن التوحيد هو الدين الحق وأَن الشرك والانحراف ظلم عظيم، وجهالات ابتدعها أهل الغى والضلال، جاءت هذه الآية تؤكد هذا المعنى وتقرره، إذْ أَفادت أن التوحيد ملة قديمة اجتمعت عليها الأُمم قاطبة فطرة وتشريعًا. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}: أَي وما كان الناس كافة من لدن آدم عليه السلام إلا متفقين على الحق والتوحيد، وظلوا كذلك حتى أَغوى الشيطان فريقًا منهم فكفر، وثبت الآخرون على التوحيد الذي فطروا عليه فخالف كل من الفريقين الآخر. {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}: أي: ولولا أَن قضى الله في سابق علمهِ بتأْخير الفصل بين المؤمنين وغيرهم إلى الأَجل الذي حدده في سابق علمه وهو يوم القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: أي: لحكم بينهم عاجلًا في الدنيا بإهلاك المبطلين.

{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} التفسير 20 - {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}: تحكى هذه الآية الكريمة جناية أُخرى من جنايات أهل مكة، حين بينت أَنهم علقوا إيمانهم على نزول آية سوى ما أنزله الله تعالى من المعجزات وفي مقدمتها القرآن الكريم. والمعنى: ويقول الكافرون من أهل مكة - تعنتًا وعنادًا - هلا أَنزل الله على محمد آية من الآيات التي اقترحناها لنؤمن به رسولا من عند الله. فأَنت تراهم لفرط عتوهم وشدة تماديهم في المكابرة والضلال، لم يعدُّوا ما جاءَ به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات كافيًا لقبولهم الهدى والدخول في دين الله وقد أُمر صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم في قوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: أي فانتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين، لكننى منتظر ما يفعله الله بكم، لاجترائكم جحود آياته. {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} المفردات: {أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً}: أَنعمنا عليهم بالرحمة والمراد بها الصحة والسعة.

{مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ}: أَي من بعد ضراءَ أَصابتهم حتى أَحسوا بشدتها عليهم. {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}: المراد بالمكر هنا الطعن في آيات الله وعدم الاهتداءِ بها والاحتيال في ردها، والمكر في الأَصل تدبير الكيد في خفاء. {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا}: المراد بيان أن الله أعجل عقوبة وأشد أخذًا. التفسير 21 - {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ ..... } الآية. روى أن الله جل شأْنه سلط على أَهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان، فلما دعا لهم واستجاب الله دعاءَه ورحمهم بإِنزال المطر، أخذوا يطعنون في آيات الله تعالى ويكيدون لرسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. والمعنى: وإذا أنعمنا على هؤلاءِ الكفار وأمثالهم بنعمة الصحة والسعة، وأَفضنا عليهم أَنواع الخير ورحمناهم بكشف ما نزل بهم من المصائب الأليمة والمكاره الشديدة التي خالطتهم وأَحاطت بهم حتى أَحسوا بشدة وطأتها عليهم وسوءِ أَثرها فيهم، إذا رحمناهم بكشفها سارعوا سرًّا وفي خفاءٍ إِلى تدبير ضروب الكيد لآياتنا التي أنزلناها على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم واحتالوا في دفعها وبالغوا في تكذيبها. {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا}: أى قل أيها الرسول لهؤلاءِ الماكرين تهديدا لهم ووعيدًا: الله جلت قدرته أَعجل عقوبة وأَشد أَخذًا فلن يصل من كيدهم شىءٌ إِلى رسول الله، ولا إِلى الحق الذي جاءَ به من عند الله، وتسمية عقاب الله مكرًا لذكره مع مكرهم في سياق واحد (¬1)، ثم أكد القرآن الكريم تهديدهم حين قال تعالى: ¬

_ (¬1) وهذا نوع من البلاغة يسمى مشاكلة.

{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي: إِن ملائكتنا الذين أَمرناهم بحفظ أَعمالكم وإحصائها عليكم، مستمرون على كتابة ما دأَبتم على تدبيره من الكيد في خفاءٍ، ولم يخف عنهم ما بالغتم في إِخفائه، وكيف يخفى على منزل الآيات علام الغيوب: وفي إخبار الله بإحصاءِ الحفظة لكيدهم بهذا الأُسلوب المؤكد تحقيق لعقابهم على وجه بليغ. {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المفردات: {الْفُلْكِ}: السفن. {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}: بريح لينة الهبوب تسير بهم إلى المقصد. {رِيحٌ عَاصِفٌ}: شديدة الهبوب، وعصفت الريح: اشتدت، وهو من باب جلس يجلس. {الْمَوْجُ}: ما علا وارتفع من الماء بسبب اضطراب مياه البحر من أَثر اشتداد الريح.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}: أَي حوصروا بالشدة. {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ}: أي يسارعون إلى الإفساد في أنحاء الأرض متجاوزين حدود ما أمر الله به، والبغى التعدى والطغيان. التفسير 22 - {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ..... } الآية. في هذه الآية والتي بعدها حكاية جناية أُخرى من جناياتهم مترتبة على ما مر من اختلاف أَحوالهم تبعًا لاختلاف ما ينزل بهم من السراءِ والضراءِ. سبب النزول: عن سعد بن أبي وقاص قال: "لمَّا كان يوم الفتح فرّ عكرمة بن أَبي جهل فركب البحر فأَصابهم عاصف فقال أَصحاب السفينة لركابها: أَخلصوا فإِن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئًا فقال عكرمة: لئن لم ينجنى في البحر إلا الإخلاص ما ينجينى في البر غيره، اللهم إنَّ لك عهدًا إِن أَنت عافيتنى مما أنا فيه، أن آتى محمدا حتى أضع يدى في يده، فلأَجدنه عَفُوًّا كريمًا قال: فجاءَ فأَسلم" أخرجه أبو داود والنسائى وغيرهما. والمعنى: هو الله الذي يُيَسِّر لكم أيها الناس سبل السير في البر مشاة وركبانًا - وفي البحر - على ظهور السفن. ثم حكى القرآن الكريم ما كان من أحوالهم بعد ركوبهم السفن وسيرها بهم في البحر في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}: أي حتى إذا ركبتم السفن أَيها الناس وجرت تلك السفن بمن فيها جريًا هادئًا مريحًا، بسبب هبوب ريح لينة تتجه بسفنهم إِلى الجهة التي يقصدونها، وفرح الراكبون بتلك الريح الطيبةِ الهادئة التي تسير بسفنهم في أَمان واطمئنان إِلى ما يريدون.

{جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}: أي حتى إذا كان راكبو تلك السفن على هذه الحال من الهدوءِ والاستقرار، هبت على تلك السفن ريح شديدة سريعة السير أَهاجت مياه البحر، فارتفعت الأَمواج واضطربت، وأحاطت بالسفن وبمن فيها من كل جانب، وتقاذفتها من موجة إلى أُخرى، وظن راكبوها أن مسالك النجاة قد سدت أمامهم، وأَن الهلاك قد أحاط بهم من كل جانب، وأنهم لا محالة هالكون في هذه الشدة. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: أَي في هذا الوقت الذي أوشكوا فيه على الهلاك، رجعوا إلى أصل فطرتهم، فدعوا الله وحده مخلصين له الدين، غير مشركين معه سبحانه شيئًا من الآلهة التي عبدوها من دون اللهِ، دعوا الله قائلين في دعائهم: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}: أَي والله لئن أَنقذتنا من هذه الكارثة المحيطة بنا، لنكونن حتما بعد نجاتنا مما نزل بنا من أَهوال من جملة الشاكرين دائما لنعمك الوفيرة وأَفضالك العميمة، فنشكر تفضلك علينا بالخلاص من أَهوال البحر استجابة لدعائنا. 23 - {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}: أي فلما استجاب الله تعالى لهم وأنفذهم مما نزل بهم من الأَهوال والكربات، بعد تضرعهم إِليه، سارعوا إِلى الإفساد في أَقطار الأَرض بغير حق، ممعنين في ذلك ومستمرين هذا الظلم الظاهر القبيح. ثم خاطب القرآن الكريم هؤلاء الطغاة الباغين بما فيه تهديد لهم ووعيد بليغ على ظلمهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: أَي ياأيها الناس الطغاة المعتدون إنما ضرر هذا الظلم الشديد الذي ترتكبونه في الأرض، يعود في نهاية الأمر عليكم أنتم، ولا يعود شيء منه على الذين تجاوزتم الحدود في ظلمهم -

فإن ما أَصابهم من آثار ظلمكم لهم في الدنيا، لا قيمة له ما داموا من أهل النعيم الدائم في الآخرة، والآخرة خير وأبقى - وأما أنتم يا أيها الطغاة فإِنما تتمتعون بثمرة بغيكم على الآمنين تمتُّعًا قاصرًا على الحياة الدنيا، ومتاع الدنيا قليل لا يعتد به، فهو سريع الزوال جالب للنكال مستتبع لعقاب العزيز القهار. ثم زاد القرآن الكريم في تهديدهم، وأكد وعيدهم حين قال: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي ثم إلينا وحدنا رجوعكم أيها الباغون يوم القيامة لنذيقكم عقاب ما قدمتم في حياتكم الآثمة، فنخبركم بما كنتم مستمرين عليه في الدنيا من البغى والإفساد في الأرض - نخبركم بذلك - زيادة في إِيلامكم والتنكيل بكم. {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} المفردات: {مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: صفة الحياة الدنيا من حيث سرعة انقضائها وزوال مُتَعِها. {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}: أي فاختلط بسببه نبات الأَرض، بأن كثر فتشابك بعضه ببعض. {وَازَّيَّنَتْ}: أَي وتزينت بأنواع النباتات وأشكالها وألوانها المختلفة.

{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}: ظنوا أنهم متمكنون من تحصيل ثمرات الأرض. {أَتَاهَا أَمْرُنَا}: أي نزلت بها الآفات التي اجتاحت النبات والثمار. {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}: أي فجعلنا نبات الأَرض هالكا كأَنه لم يوجد في الأَرض قبل هلاكه. التفسير 24 - {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ......... } الآية. بعد أَن بين القرآن الكريم في الآية السابقة أن التمتع بالبغى على الناس قاصِرٌ على الحياة الدنيا، جاءَت هذه الآية تقرر هذا المعنى، ببيان قصر أَمدها وسرعة زوال نعيمها، فلا ينبغي قصر الهمة عليها وحدها. والمعنى: إِنما مثل الحياة الدنيا وصفتها العجيبة في سرعة انقضاءِ زمنها وزوال متعها وزينتها وجاهها، بعد إقبالها على الناس واغترارهم بها وركونهم إليها - مثل هذه الحالة - كمثل الحالة الناشئة من نزول المطر من السماءِ على الأَرض، وإِنبات الله به أنواع النبات مما يطعم الناس والأَنعام، واستمرار نموه بالماءِ حتى كثر وتشابك بعضه ببعض، وتزينت الأَرض بأنواع النباتات المتعددة وأشكالها المتفاوتة وأَلوانها المختلفة وطعومها المتنوعة، وصارت كالعروس التي ازدانت بأَلوان الثياب وأنواع الزينة الفائقة، وظن أَصحاب تلك الأرض أنهم متمكنون من تحصيل ثمراتها، جامعون لخيراتها في هذه الحالة. {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا}: أَي أَتاها الهلاك الذي قضاه الله وأَمر به في وقت الغفلة وفي وقت اليقظة، فهما سواءٌ في أَن أَصحاب تلك الأرض التي دنا جنى قطافها لا يستطيعون دفع أَمر الله عنها وحين أصابتها الآفات صيَّر الله نباتها مستأْصلا هالكا كأنه لم يكن موجودا في الأَرض قبل نزول الجوائح.

والخلاصة: أَن القرآن صور للناس حال الدنيا في سرعة انقضاءِ زمانها وزوال نعيمها، بعد إِقبالها على الناس واغترارهم بها واطمئنانهم إِليها - صورها - بصورة ما على الأَرض من أنواع النباتات التي زالت بهجتها ونضارتها فجأَة وصارت حطاما ولم يبق لها على الأرض من أَثر، بعد أَن ترعرعت ونمت وقويت سيقانها وتزينت الأرض بألوانها المختلفة، وأوشك الناس أن يجنوا قطافها وظنوا أنها قد سلمت لهم من المهالك. {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. التفسير 25 - {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}: بعد أن حذر القرآن الكريم من الاغترار بالحياة الدنيا والعمل لها وحدها رغَّب في العمل للفوز بدار السلام وهي الجنة. والمعني: والله - تعالى - القادر على كل شيءٍ الغنى عن العالمين يدعو الناس إلى دار السلام - وهي الجنة - بِدَعْوَتِهِم إِلى الإِسلام والعمل بشريعة القرآن. وسميت الجنة دار السلام لسلامة أهلها من كل آفة ومكروه، أَو لأن الله تعالى يسلم عليهم فيها، أو لأن الملائكة على أَبوابها يقولون للداخلين فيها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار}. أَو لأن أهل الجنة يسلم بعضهم على بعض فيها كما قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}. {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أَي ويرشد الله من أَراد هدايتهم وهم الذين وفقهم إِلى اختيار الهدى على الضلالة - يرشد هؤلاء - إِلى طريق معتدل لا عوج فيه وهو الإِسلام والعمل بشرائعه.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. المفردات: {الْحُسْنَى}: أَي المثوبة الحسنى في الجنة، وهى تتفاوت حسب تفاوت درجات الإحسان. {يَرْهَقُ}: يغشى ويغطى. {قَتَرٌ}: أي غَبَرَةٌ فيها سواد كالقترة، ومن معانيهما في اللغة الدخان الكثيف من شواء أو فحم أو حطب أَو غيره. التفسير 26 - {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}: في الآية السابقة دعا الله إلى دار السلام، فمن الناس من أَحسن استجابة الدعوة والعمل بها، ومنهم من انصرف عنها، وقد جاءَت هذه الآية لتبين جزاءَ من أَحسن الاستجابة، وأَول درجات الإحسان بعد الإيمان فعل الواجبات وترك المنهيات، وأكمل درجاته: "أَن تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُن تَرَاهُ فَانهُ يَرَاكَ" كما جاءَ في حديث رواه مسلم. وقد وعد الله تعالى في الآية بمكافأة المحسنين وزيادتهم فوق ما يستحقون، وفي بيان ذلك روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّة يَا أَهْلَ الْجَنَّة فيَقولُون: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعَدَيْكَ وَالْخَيْر في يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ بِى؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْط أَحَدًا منْ خَلْقكَ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطيكُم أَفْضَلَ منْ ذَلكَ؟ فَيَقُولُونَ: وَأَى شَىْءٍ أَفْضَل منْ ذَلكَ؟ فَيَقُول: أُحلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانى فَلَا أَسْخَط عَلَيْكُمْ أبَدًا".

وللمفسرين والمتكلمين في الزيادة المذكورة في الآية آراءٌ: فعن الحسن رضي الله عنه أنها مضاعفة الحسنة إِلى عشر أَمثالها فأكثر إِلى سبعمائة ضعف أَو تزيد: وعن مجاهد رضوان الله عليه، هي مغفرة الله تعالى ورضوانه، ويرى جمهرة أهل السنة. أَنها النظر إِلى وجه الله سبحانه بعد حصولهم على ثوابه في الجنة، كما قال تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1). أَي يوم القيامة، فقد أَثبتت هذه الآية لأَهل الجنة أَمرين أَحدهما النضارة وهى حسن الوجوه، والثانى النظر إِلى وجهه الكريم، وإلى الأَول يشير قوله تعالى هنا: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَي أَن أُولئك المحسنين مكرمون أَيضًا بأَن تتأَلق وجوههم بنضرة النعيم، فلا يلحقها قتر وهو الغُبْرة في سواد، ولا تلحقها ذلة وهي الخجل والانكسار، والقتر حالة حسية والذلة حالة نفسية، وقد أَخبر الله بعد ذلك بأَنهم أَصحاب الجنة، وذلك يشعر بأَنها كالملك لهم {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: لا يخرجون منها أبدًا، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬2). والآية في أُسلوبها تقصر الحسنى بجميع أَنواعها على المحسنين وحدهم ثم تفيد أَن الله يفيض عليهم زيادة عن الحسنى أَنواعًا من الإِنعام لا تعد ولا تحصى، وأَعلاها النظر إِلى وجهه الكريم، كما جاءَ في الآية السابقة، وأَن يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أَبدًا. كما جاءَ في حديث الشيخين الذي تقدم ذكره، وقد أَعد الله لخيار المحسنين منازل في عليين، وهي أَعلى مكان في الجنة، وفيهم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّجُل منْ أَهْلِ علِّيِّينَ لَيُشْرِفُ عَلَى أهْلِ الْجَنَّةِ فَيُضِىءُ الْجَنَّةَ بوَجْهِه كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّىّ" أَخرجه أبو داود. ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآيتان: 23،22 (¬2) سورة الحجر، من الآية: 48

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المفردات: {كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ}: عملوا المعاصي من كفر وغيره. {مِنْ عَاصِمٍ}: من حافظ ومانع. {أُغْشِيَتْ}: غطيت. التفسير 27 - {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}: بينت الآية السابقة جزاءَ المحسنين، وجاءَت هذه الآية لتُبين عقاب المسيئين، وقد أَفادت أَنهم يجازون بالعدل المطلق، فلا تضاعف سيئاتهم كما ضوعفت حسنات المحسنين بل يجزون بقدرها وهم لا يظلمون، ونظرًا لترقُّبِهم وقوع سوء الجزاءِ تعلوهم وتحيط بهم ذِلة وهوان من شدّة الخزى وعقاب الله لهم، فهم بين أَلم حسى وألم نفسى وليس لهم من دون الله منقذ أَو مدافع يحميهم من عذابه الاَّليم، ثم بين الله تعالى أثر حيرتهم ويأسهم على وجوههم فقال: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}: فإن زيادة آلامهم وشعورهم بالمذلة قد جعل وُجُوَهَهم كأنها مغطاة بقطع متراكمة من الليل المظلم لفرط سوادها وشدّة ظلمتها {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية: 40

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَي أُولئك الموصفون بالصفات الذميمة السابقة أَصحاب النار المستحقون لها فهي مقصورة عليهم لسوء فعلهم جزاءً وفاقًا: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} المفردات: {فَزَيَّلْنَا}: فرقنا وفصلنا. التفسير 28 - {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}: تعرض الآية الكريمة وما تلاها مشهدًا من أَهوال البعث والنشور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) إِذ ينساق الخلائق إِلى موقف الحشر من مشركين وما عبدوه من دون الله ومِن غيرهم لا يتخلف منهم أَحَدٌ، وفي حشر المشركين وما يعبدون يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2) فإذا تقدموا سمعوا زجرًا عنيفًا حين يقال لهم بأمر الله: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}: أَي الزموا مكانكم أَنتم وشركاؤُكم للسؤال والجزاء قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) المطففين، الآية: 6 (¬2) الفرقان، من الآية: 17 (¬3) الصافات، الآية: 24

{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: أَي ففرقنا بين المشركين والشركاء، أَي قطعنا الصلة التي كانت بين العبدة ومعبوداتها في الدنيا، فقد تبين الحال وخابت فيهم الآمال، ولم يعد لهم أَمل في شفَاعَتهمْ فيئسُوا منهم، وابتعدوا عن اللجوء إِليهم، وقيل إن التفريق بينهم في الموقف حسِّىٌّ، والأول هو اللائق بالمقام، وحينئذ تبرأَ الشركاءُ من عابديهم، قائِلين لهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة في الحقيقة، بل كنتم تعبدون شهواتكم وشياطِينكم التي دعتكم إِلى الإشراك، وهؤلاء الشركاءُ المتبرئون إما أَصحاب عقل وإِدراك كالملائكة والبشر، وإِما غيرهم كالأصنام والكواكب، أما تبرّؤ الأَولين من عابديهم فلا يحتاج إلى تأَويل، وأَما تَبرُّؤ نحو الأَصنام، فيكون بلسان الحال أو المقال، بأَن ينطقها الله الذي أَنطق كل شيءٍ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (¬1). 29 - {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}: بَعْدَمَا تبرأَ الشركاءُ من عبادة عابديهم، استشهدوا باللهِ على براءَتهم منها، قائلين: فيكفينا الله شهيدًا بيننا وبينكم على براءَتنا من إشرَاككُمْ، فأننا لم نجبركم عليه، ولا أَشرنا عليكم به وإِن شأْننا معكم أَننا كنا عن عبادتكم لنا غافلين: والمراد من الغفلة هنا عدم رضاهم عنها. {هُنَالِكَ تَبْلُوكُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} المفردات: {تَبْلُو}: تعرف يقينًا ما قدمت. ¬

_ (¬1) البقرة، الآية: 166

التفسير 30 - {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}: أَي: في هذا المكان، وهو موقف الحساب، تعرف يقينًا كل نفس مؤمنة أَو كافرة، سعيدة أَو شقية، ما عملت في الدنيا من خير أَو شر، فتراهما في كتَاب { ..... لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1). وفي قراءَة أخرى (تَتْلُو) أَي تقرأُ صحيفة أعمالها قراءَة تعطيها صورة واضحة صادقة لكل ما عملته في الدنيا {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (¬2). {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: أي ورجعوا إلى الله في الآخرة وعرفوا أَنه تعالى هو المالك الحق وحده دون ما اتخذوه من الأَنداد والشركاء، وهكذا غاب وذهب عنهم ما كانوا يدعون زورًا وبهتانًا من الشفعاءِ والشركاء، وظهر ضلاله وبطلانه، فلم يجدوا أَحدًا ينقذهم ولا ينصرهم من دون الله {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (¬3). {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} المفردات: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: يصرف شأْن الكائنات بنظام دقيق وحكمة بالغة. ¬

_ (¬1) الكهف الآية: 49 (¬2) الإسراء من الآية: 14 (¬3) الانفطار الآية: 19

التفسير 31 - {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: بعد أَن صورت الآيات السابقة مشهدًا رهيبًا من مشاهد القيامة يهيىءُ النفوس للتوبة والإِنابة إلى الله، جاءَت هذه الآية وما بعدها تناقش المشركين في قضية الأُلوهية أَهم القضايا الدينية، وتضعهم أَمام البراهين العقلية الواضحة، وتحذرهم وتنذرهم بعد ذلك من الخروج عن دائرة الحق، واعلم أَن المشركين يؤمنون في قرارة نفوسهم بخالق واحد يصرف الأُمور وهوالله تعالى، ولكنهم يتخذون إِليه الشفعاءَ ليقربوهم إِليه زلفى، وقد أَمر الله رسوله أَن يسأَلهم سؤال إِفحام وإِلزام، ليعدلوا عما هم فيه من الإِشراك في العبادة فقال له: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: وهو سؤال يتناول أُمورًا حسية تتعلق بكيانكم وحياتكم اليومية وهو الرزق المتجدد من السماءِ بإِنزال المطر، ومن الأرض بإِنبات النباتات وخلق الحيوان وتربيته، والإمداد بأَنواع المعادن المختلفة والمياه الجوفية، وما تستخرجونه من البحر من أَسماك وخيرات، وما يدرج على الأَرض أو يحلق في السماءِ من أَنواع الطيور وغير ذلك من سائر الأَرزاق، فلا شك أن هذا الرزق بأَنواعه هو من عند الله تكريمًا لكم وحفظًا لحياتكم - كما سيجىءُ بيانه في آخر الآية: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}: هذا هو السؤال الثاني الذي أَمر الله رسوله أَن يوجهه إلى المشركين، أَي أَخبرونى من يملك أَداة السمع وما أُعد فيها من أَسباب إِدراك المسموعات؟ ومن يملك أَداة البصر، وما هيئت به لإِدراك المبصرات؟ وقد جاءَ لفظ السمع مفردًا ولفظ الأَبصار جمعًا لأَن السمع يتناول نوعًا واحدًا هو الأَصوات، أَما الأَبصار فتتناول الأحجام والأَبعاد والأَلوان والأَشكال، والسمعُ والأَبصارُ يدركان الغالبية العظمى من المحسات. {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}: هذا هو السؤال الثالث، أَي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله فيخرج الأَحياءَ والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث أَو تموت، وذلك كالإنسان خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون وهو ميت ثم سواه ونفخ فيه من روحه فدبت فيه الحياة، فهذا

مثل لإخراج الله الحى من الميت وهو الصلصال بعد الحمأْ المسنون، أَما الميت يخرجُهُ اللهُ من الحى، فكالجنين يخرجه الله من أُمه ميتًا، وكالحيوان يميته الله بعد أَن كان حيًّا، وقيل في معناه: يخرج المؤمن من الكافر. والكافر من المؤمن. وقيل غير ذلك. {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}: أَي ومن يقوم بتدبير أُمور العالم كله بعد إيجاده، فسيكون جوابهم أَن فاعل ذلك كله هو الله رب العالمين وحده بلا تردد في الجواب ولا تأْخير، إذ لا مجال للمكابرة لوضوحه غاية الوضوح، ولأنهم معترفون به، ثم يأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لهم تبكيتًا وتوبيخًا بقوله: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. أَي أَتقرون بأَن الله هو الرزاق، وهو الذي يهب السمع والأبصار ويملكهما، والذي يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى، والذي يدبر أَمر الكائنات بحكمته - أَتقرون بذلك - فلا تقون أَنفسكم من عذابه بترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيءٍ من هذه الأُمور. أَليس الأَجدر بمن يقرون بذلك كله أَن يؤمنوا بالله وحده، ويتقوه ويعبدوه مخلصين له الدين. {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. المفردات: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}: أَي فكيف تتحولون عن الحق. {فَسَقُوا}: خرجوا عن طاعة الله، وأصل الفسق الانسلاخ عن الجلد، ومنه فسقت الرطبة عن قشرها، أَي انسلخت منه، والفاجر فاسق لانسلاخه عن طاعة الله.

التفسير 32 - {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}: أَي فذلكم القادر على الحق المتصرف فيه باعترافكم هو الله المربى لكم على موائد كرمه، الذي تتوالى عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، الحقُّ الجدير بأَن يعبد وحده دون شريك. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}: في هذا تقرير بأَن المعبود الحق واحد لا يتعدد وضده الباطل، ولا وسيط بينهما فلا يجتمع الإيمان والشرك في قلب واحد، وهذا استفهام للنفى والتوبيخ. والمعنى إِذا كان الله هو الرب الحق وانصرفتم عن إِفراده بالعبادة فليس بعد ترك الحق إلا الضلال، وهو إِشراك الأَصنام مع الله في العبادة، وهو أَمر لا يختاره عاقل. {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}: يعني إِذا عرفتم هذه الأُمور الواضحة فكيف تنصرفون عن عبادة الله، وكيف تتحولون عن الحق إِلى الضلال بعد العلم بأَنه هو الرازق المحيى المميت المدبر للأمر كله. 33 - {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي وكما ثبت أَن الحق ليس بعده إِلا الضلال أَو كما ثبت أَنهم انصرفوا عن الحق بعد معرفته وجب وثبت حكمه تعالى على الذين تمردوا على طاعته أَنهم لن يكونوا مؤمنين ما داموا مصرين على ما هم عليه، والمقصود من الآية أَن الله يتخلى عنهم فلا يعينهم على الإيمان، فمن بَعُدَ عن الله بَعُدَ الله عنه، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1) والمراد من كلمة (الله). حكمه وقضاؤه كما تقدم في بيان المعنى. ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 117

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} المفردات: {أَنَّى}: كيف. {تُؤْفَكُونَ}: أي تصرفون عن الحق إِلى الباطل. التفسير 34 - {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}: بعد أن احتج الله على المشركين بما سبق بيانه، جاءت هذه الآية تحكى احتجاجًا آخر على ثبوت التوحيد وبطلان الإشراك، بإظهار كون الشركاء لا يتصفون بصفات الإلَه الحق. والمعنى: قل لهم أَيها الرسول سائلًا إياهم على سبيل الإنكار والتوبيخ والإلزام، هل يوجد من بين هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء لله في العبادة من له القدرة على بدءِ الخلق ثم إِعادته بعد الفناء؟ ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عليه لإنكارهم البعث والمعاد: أمر الله رسوله أَن يبين لهم من يستطيع ذلك وهو الله تبارك وتعالى فقال: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}: لأنه هو القادر وحده على البدءِ باعترافهم، ومن قدر على البدءِ، فهو قادر على الإعادة، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬1) وفي قوله تعالى {ثُمَّ يُعِيدُهُ} تهديد بالعقاب لهم يستدعي التفكير في التوبة من الشرك. {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: أَي إِذا ثبت أَن الله هو القادر على البدءِ والإعادة فكيف تعدلون به غيره فتنقلبون من الحق إِلى الباطل، وتتركون التوحيد إلى الشرك إِن فعلكم هذا لعجيب لا يصح أَن يكون. ¬

_ (¬1) الأعراف، من الآية: 29

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} المفردات: {يَهْدِي}: يهتدى. {يُهْدَى}: أَي إِلا أَن يهديه الله تعالى. التفسير 35 - {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}: هذا احتجاج آخر على حَقِّية التوحيد وبطلان الشرك، جىءَ به إِلزامًا بعد إِلزام، والمعنى قل لهم أَيها الرسول هل من هؤلاءِ الشركاءِ من يستطيع أن يرشد عابديه إلى الحق ببيانه أَو بإلهامه وتوفيقه؟ وهو أَقل صفات الأُلوهية، فإِذا قالوا: لا، ولا بد لهم من ذلك: فقل الله وحده يهدى ويرشد إلى الحق بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق، وبإرسال الرسل وإِنزال الكتب قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (¬1). {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}: أَي إِذا كان الله هو الحق وهو الذي يهدى إِلى الحق وحده فهل الذي يهدى إِلى الحق أولى بالاتباع، أَم الآلهة الذين عبدتموهم من دونه وهم لا يهتدون إِلى مقصد من المقاصد إِلا أَن يهديهم الله إِليه، ولا شك أَن جواب هذا السؤال يتعين عند العقلاءِ أَن يكون: من يهدى إلى ¬

_ (¬1) الكهف من الآية: 17

الحق - وهو الله - أَحق بالاتباع والعبادة من هؤلاءِ الشركاءِ العاجزين عن الاهتداءِ إلى المقاصد إِلا بهدايته لو أَراد جل وعلا، وكما أَنه لا وجه للموازنة بين القادر والعاجز، ولا بين القوى والضعيف، فكذلك لا وجه للمقارنة بين الهادي وبين من يحتاج إلى الهداية، ولذا عقبه بما يفيد التعجب من حالتهم، وذلك في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}: أَي فما الذي حملكم على اتخاذكم هؤلاءِ شركاءَ لله سبحانه وتعالى وكيف تحكمون هذا الحكم الجائر وأَنتم تعرفون بطلانه؟ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} التفسير 36 - {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا}: بعد الأَسئلة السابقة والأَجوبة عليها التي دلت على حقية التوحيد وبطلان الشرك: جاءَت هذه الآية توضح سبب خطئهم في اعتقادهم وهو اعتماد أَكثرهم على الظن في أَحكامهم. والمعنى: وما يتبع أكثر هؤلاءِ المشركين في معتقداتهم وأَحكامهم إِلا أوهامًا يتوارثونها عن آبائهم وأَجدادهم، دون أَن يكون لهم عليها من دليل يدعو إلى الاطمئنان واليقين، والمراد بأَكثرهم جميع المشركين، فكلهم عقائدهم ظنية، ناشئة عن أوهام وخيالات، وقيل الضمير في أَكثرهم للناس جميعًا، وما يتبع أكثر الناس إِلا الظن (¬1)، ثم بين القرآن الكريم أَن الظن لا يقوم مقام اليقين الناشئ عن البراهين القطعية في شئون العقائد فقال: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}: أَي إن الظن لا تثبت به الحقائق، ولا يقوم مقام العلم اليقينى في الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع ولا يغنى عنه شيئًا، فكيف سميتم معبوداتكم آلهة زورًا وبهتانا وعبدتموهم من دون الله بغير برهان، وصدق الله إذ يقول في شأْنها: {إِنْ هِيَ إِلَّا ¬

_ (¬1) وعلى هذا فالتعبير بأكثر على حقيقته.

أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (¬1). والمراد هنا من الحق ما ثبت بطريق وحى سماوى، أو دليل عقلى مبنى على الآيات الكونية، وقد استدل العلماء بهذه الآية وبما ورد في قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬2) على أَن العلم اليقينى واجب على كل مسلم في أصول العقائد. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}: أَي إِنه تعالى واسع العلم فيعلم أَفعالهم، من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق. وفي الآية إِنذار مؤكد لأُولئك الجاحدين بأنهم سينالون ما يستحقون من عقاب أَليم {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (¬3). {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} المفردات: {وَمَا كَانَ}: ما صح ولا استقام. {يُفْتَرَى}: يختلق. {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أَي ولكن أَنزله تصديقًا للكتب السماوية التي سبقته في أصول العقائد والأحكام قبل تحريفها. {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}: تبيين ما كتب وأثبت في الكتب السماوية. ¬

_ (¬1) النجم من الآية: 27 (¬2) سورة النجم من الآية: 28 (¬3) سورة البروج من الآية: 20

التفسير 37 - {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}: بعد أن تناولت الآيات السابقة بالأَدلة القاطعة إِثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى، وقدرته وحكمته وتدبيره، جاءَت هذه الآية وما بعدها تبين استحالة أَن يكون القرآن مفترى من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - نفيًا لما زعم المشركون. والمعنى: ليس يصح في شأْن القرآن وهو على ما هو من العلو أسلوبًا ونهجًا وغاية، أَن يكون مفترى من عند محمد وأَعانه عليه قوم آخرون كما افتراه عليه المشركون، فإِن هذا غير ممكن فهو {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (¬1) فانظر إِليه في أسلوبه ومعانيه واتساق آياته، وفيما جمع من تشريعات. وعقائد وأَخلاق وآداب، وحكم وأَمثال وكشوف غيبية وحقائق علمية، جاءَت في أَقصى درجات الفصاحة والبلاغة والدّقة، وفي أَنماط سامية وآفاق عالية، فإِنك تقطع بأَنه لا يقدر على الإتيان بمثله أَحد من الإِنس والجن {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬2) وتتأكد أَنه من عند الله وحده {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬3). {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أَي ولكن أَنزله الله مصدقًا وموافقًا لما تقدم من الكتب السماوية، في أُصول العقائد والأَحكام قبل أَن يعتريها التحريف، مصححًا للعقائد التي عبثت بها أَهواءُ القسيسين والأَحبار والرهبان حيث ردها القرآن إِلى التوحيد الخالص. {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أي وأَنزله أيضًا تفصيلا لما أَجملته الكتب السماوية السابقة من عقائد وتشريع ومواعظ ومن شئون الاجتماع وسنن الله في خلقه وزادها تكميلا، فلا محل لأَى شك في أَنه كلام الله رب العالمين، الذي تعهد النوع الإِنسانى بالتربية والتعليم والهداية. ¬

_ (¬1) سورة هود من الآية: 1 (¬2) سورة الإسراء من الآية: 88 (¬3) سورة النساء من الآية: 82

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} التفسير 38 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}: بعد أن بين الله في الآية السابقة أن القرآن يستحيل أن يفترى على الله، وَبَيَّنَ أيضا أَنه أنزل من عند الله مصدقا ومفصلا للكتب السابقة، جاء بهذه الآية حكاية لزعم المعاندين الجاهلين أن محمدًا افتراه، وتعجيبا من قولهم وردا لفريتهم والمعنى: بل أيقولون افتراه محمد عليه الصلاة والسلام واختلقه من قبل نفسه، قل لهم أَيها الرسول الكريم موبخا لهم ومبرهنًا على بطلان مقالتهم: هاتوا سورة مثل أيَّةِ سورة من سوره حتى يصح زعمكم أَن محمدًا افتراه على الله، فأَنتم أَرباب فصاحة وبلاغة، وأَنتم تعرفون أَنه أُمى كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُومِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬1). ولم يكن هذا أول ادعاءٍ لهم بالافتراءِ، فقد تكرر منهما إذ تحدثوا به أَول الأَمر فتحداهم القرآن أن يأْتوا بمثل القرآن كله فلم يستطيعوا، وبعد فترة شعروا بقوته تتزايد فعاودوا دعوى الافتراء معاندين، فعاود القرآن التحدى لا فى مثله بل في عشر سور منه فلم يتمكنوا، وتزايد عليهم العجز وظهروا مفحمين لا يجدون جوابًا، ولكنهم عاودوا بعد فترة زعمهم القديم، فعاد القرآن لتحديهم هذه المرة أَن يأْتوا بسورة مثله وهو ما جاءَ في هذه السورة حتى يلجئهم إِلى صمت العاجزين، وهكذا أَثبت القرآن عليهم وعلى أَمثالهم العجز العام عن محاكاته، فمن عسى أَن يزعم مثل هذا الزعم اليوم، فعليه أن يجيب على هذا التحدى وإِلا فليطبق فمه، وليمضغ أَكاذيبه، ومن عجب أن ترى من أعداء الإِسلام اليوم من يزعم أن محمدًا عليه الصلاة والسلام هو صاحب القرآن وقائله: رغم هذا التحدى ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت الآية: 48

الدائم: وهكذا كان الإلحاد الجديد صورة منسوخة من الأَول القديم وماله عليه من دليل، وقد بقى القرآن العظيم شامخًا شموخ الجبال الرواسى وتحطمت على صخوره كل مفترياتهم. {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: في هذه الجملة من الآية الكريمة توسع القرآن في دائرة التحدى وطلب منهم أَن يستعينوا بمن يستطعون الاستعانة به بشرًا أَو آلهة، وأَمهلهم ما شاءُوا ولا يزال في تحديه للبشر، ولكنهم - آخرهم كأَولهم - أمام إعجاز بما هو متنوع متفرع، فمنه الإعجاز اللغوى ومنه العلمى والتشريعى والغيبى، وكل منها لم يعارض، ولو كان ممكنًا لأَتُوا بمثله ولكن ظهر عجزهم وبطل ما قالوه ولزمهم الإفحام. وكلمة (إِن) في قوله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: تفيد التشكيك في صدقهم، ليشعروا بهوانهم وبُقصورهم عن شرف الصادقين، وقوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يشير إِلى أَنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى. وصدق الله إذ يقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1) {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} التفسير 39 - {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}: لما ظهر عجزهم عن الإتيان بسورة مثله وتبين أَن ما قالوه باطل لا وجه له من الصواب بين في هذه الآية ما حملهم على تكذيب القرآن المشتمل على الحق الذي لا غاية وراءَه. ¬

_ (¬1) سورة فصلت الآية: 42

والمعنى: أَن هؤلاءِ الكفار لم يحكموا على القرآن بأَنه مفترى من دون الله بمقتضى برهان يؤدى إِلى ما ذهبوا إِليه، بل كذبوا بكتاب عظيم من غير إِحاطة بعلم ما فيه ولا تدبر لمعانيه، ولا وقوف على ما جاءَ به من الأَدلة الشاهدة بصدقه، من تشريع حكيم، وآداب وحكم عالية، وغير ذلك من أَسرار إِعجازه، ولم يأْتهم بَعْدُ تأويل ما فيه من الإِخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أَنه صادق وليس بكاذب، أَو المعنى: ولم يبلغ أَذهانهم ما فيه من المعانى الدالة على عُلوِّ شأْنه. والمقصود: أَن القرآن آية كبرى على صدق الرسول صلى الله علية وسلم، ولكنهم سارعوا بالتكذيب قبل أَن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه والتعبير بلفظ (لَمَّا) المفيدة لوقوع تأْويله مستقبلا، للإيذان بأَنهم لو تريثوا ولم يسارعوا بالتكذيب، لأدركوا تأْويله، وعرفوا فضائله ومعانيه السامية، ولتحققوا من صدقه. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}: أَي مثل هذا التكذيب الناشىءِ عن عدم التدبر كذب الذين من قبلهم رسلهم، فكلما جاءَهم رسول بما لا تهوى أَنفسهم كذبوه، وكان هذا سببًا في أَن حل بهم جزاءُ ما كانوا به يستهزئون، فكانوا سلفًا ومثلا للآخرين، يعتبر به كل عاقل، فانظر يا محمد أنت وأُمتك والناس جميعا مآل الظلم والظالمين، وصدق الله إِذ يقول: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) العنكبوت من الآية: 40

{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} التفسير 40 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ}: أَي ومن أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من سيؤمن بالقرآن وما جاءَ به ويتخلى عن عناده بعد الإِحاطة بعلمه وظهور حقيقته، ومنهم من يصر على الكفر والعناد فلا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرًا، لفرط عناده وغباوته واختلال تمييزه، ويجوز أَن يكون المعنى: ومن هؤلاءِ المشركين من قومك من يصدق به في نفسه، ولكنه يكفر به عنادًا، ومنهم من لا يصدق به في نفسه لفرط جهله فيكفر به اعتقادًا. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}: أَي وربك يا محمد أَعلم بأُولئك المفسدين في الأَرض بعقائدهم الزائفة وأعمالهم الفاسدة، وسوف يجازيهم بما يستحقون: وهذه الجملة وعيد للمصرين على الكفر مع وضوح البرهان. 41 - {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...... } الآية. أَي وإِن كذبك هؤلاءِ الكفار - مع علمهم بأَنك الصادق الأَمين - فقل لهم يا محمد: لي جزاءُ عَمَلى، ولكم جزاءُ عملكم، فلا أَحد منا يتحمل مسئولية عمل الآخر، ثم أَمر الله نبيه أَن يؤكد هذا المعنى بأَن يقول لهم: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ}: فلا تتحملون مسئوليته {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}: فلست مسئولا عنه، ولعل هذه السياسة تترك أَثرًا حسنًا في نفوسهم، يتصاعد شيئًا فشيئًا حتى يستدنى

القلوب، ويأخذ بالأَلباب ويرد العقول الشاردة كما قال الله تعالى: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬1). {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} المفردات: {الصُّمَّ}: فاقدى حاسة السمع. {لَا يُبْصِرُونَ}: أَي لا يدركون ببصيرتهم. التفسير 42 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}: لمَّا ذكر القرآن الكريم في الآية السابقة ما أَمر الله به رسوله من أن يقول للمكذبين: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} مُعلنا براءَته منهم، بين له هنا مثل الذين فقدوا الاستعداد للإِيمان فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}: أَي ومنهم ناس يستمعون إِليك عند قراءَتك للقرآن وتعليمك الشرائع للناس، ولكنهم لا يستمعون حقًّا، إِذًا لا يتدبرون القول، ولا يعقلون ما يراد منه، ولا يفقهون ما يرمى إِليه، وكان شأْنهم في سماعه كما قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (¬2). فلهذا أنزلهم الله منزلة الصم بقوله: ¬

_ (¬1) الشورى من الآية: 15 (¬2) الأنبياء الآية: 2، 3

{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ}: أي أَنهم لم يستمعوه استماع تفهم وإِقبال، حيث أَغلقوا نوافذ العقل والعلم، فلهذا اعتبرهم الله صمًّا لا يسمعون، وأنزل على رسوله هذه الجملة معذرا له في عدم استفادتهم من تبليغه. والمعنى: أَفأَنت تسمع من فقدوا حاسة السمع، ولو كانوا مع صممهم لا يعقلون، كهؤلاء الذين أَعرضوا عن الإيمان بما دعوتهم إليه، يعني أَن هؤلاء المشركين جمعوا إِلى صممهم عدم العقل {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (¬1). {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬2). 43 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ}: أَي يتأمل في شأْنك ويعاين دلائل نبوتك ويشاهد عبادتك وسيرتك في حياتك العملية الكريمة، ومع هذا لا يزال مقيمًا على عناده مصرًّا على كفره وتكذيبه. {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}: المراد بكونهم لا يبصرون، أَنهم لا بصيرة في قلوبهم، ولا تفكير لديهم، والمعنى: أَفأَنت تستطيع أن تهدى من فقد البصر فكيف إِذا انضم إلى فقد البصر فقدان البصيرة، والمقصود من الآيتين: أن هداية الدين كهداية الحس لا تكون إلا للمستعد لها، ولهذا كان لا بد في هداية الدين من هداية العقل، وهدايةُ العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد التماسا لهداية الله، وليس عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬3) وفي هذا مواساة كريمة من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام. 44 - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: لما بين فيما سبق امتناع اهتدائهم لأَنهم عطلوا أَسماعهم وأَبصارهم وعقولهم، بين في هذه الآية أَنه تعالى لم يظلمهم حيث وهب الناس الأَسماع والأَبصار والعقول وسائر الحواس، ليصرفوها فيما خلقت من أَجله، وشدَّ أَزرَ الحواس بالعقل، وأَزر العقل بالهدى عن طريق إِرسال الرسل والكتب، وسخر لهم ما في السموات وما في الأَرض {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة فاطر من الآية: 8 (¬2) الشورى من الآية: 48 (¬3) البقرة من الآية: 272 (¬4) النساء من الآية: 165

فلا عذر لأَحد بعد ذلك، ولكن من الناس من عطل مشاعره وقواه، وصرفها عن استعمالها فيما يهديه، فظلم نفسه ومجتمعه والإِنسانية كلها، فاستحق من الله الجزاءَ العادل. والمعنى: إِن الله لا يظلم الناس شيئًا من الظلم حين يعاقبهم يوم القيامة على معاصيهم فقد منحهم سائر القوى التي تمكنهم من فعل الخير وتمنعهم عن الشر، فصرفوها في غير ما خلقت له، ولكنهم هم الذين ظلموا أَنفسهم حيث استمروا على السيئات الموجبة للتعذيب فكان عقاب الله لهم جزاءً وفاقًا، فهو عدل من الله تعالى لا ظلم فيه. وفي الآية إشارة إلى أَن عاقبة ظلمهم مقصورة عليهم، وأن للعبد كسبًا وليس مسلوب الاختيار كما زعمت الجبرية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬1). {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} التفسير 45 - {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ}: هذه الآية للتذكير بمقدار ظلم الظالمين المشركين لأَنفسهم وخسارتهم في الآخرة بسبب تكذيبهم بها، وكفرهم بالحساب والجزاءِ فيها. والمعنى: وَحَذِّرْهم أَيها الرسول يوم يحشرهم الله ويجمعهم بعد بعثهم من القبور في موقف الحساب والجزاءِ، وحينئذ يدركون قصر مدة مكثهم في الدنيا كأَنها مقدار ساعة قضوها وحين يخرجون من قبورهم يتعارفون بينهم، فلا ينسى أحد منهم من كان يعرفه من قبل، ثم تنقطع المعرفة عندما يشاهدون أَهوال القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬2). ¬

_ (¬1) الطور من الآية: 21 (¬2) سورة عبس الآيات: 34 - 37

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ}: في هذه الجملة حكم من الله تعالى بخسران المكذبين وتعجيب من حالهم حيث لم يستعدوا ليوم الدين بالإِيمان وعمل الصالحات المزكية للنفوس، وآثروا عليها الدنيا القصيرة الأَمد، المليئة بالأَكدار، والتى يرونها يوم الحشر كأَنها ساعة من نهار، وقد بين الله تعالى ضلالهم فيما ذهبوا إليه فقال: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}: أَي وما كانوا مهتدين إلى الصواب فيما ذهبوا إِليه واختاروه لأَنفسهم، من إِيثارهم الفانى على الباقي. وهو الأَعمال الصالحة التي هي ثمرات الإِيمان الصحيح. والعاقل من يستعمل عقله ويأْخذ حذره، ويختار الأَصلح والأَنفع والأَبقى، والمقصود من لقاءِ الله: حسابه وجزاؤه في الآخرة قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} التفسير 46 - {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}: أَي أن هؤلاءِ المشركين لن يفلتوا من عقابنا عاجلا أَو آجلا، فإِمَّا أَن ننزله بهم في الدنيا ونريك بعض ما توعدناهم به من قبل وفاتِك. وإِما أَن نتوفاك فإِلينا رجوعهم للحساب والعقاب على ما كسبوا من جرائم، فتراه ماثلا أَمام عينيك. {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}: هذه الجملة فيها تأْكيد للوعيد السابق، والمراد منها أَن أَعمالهم محصاة عليهم وأَنها معلومة بدقائقها لله تعالى، فهو شهيد على ما يفعلون ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية: 108

في دنياهم من الشرك والمعاصي، وأَنه لن يفلت أحد من عقابه. والتعبير بـ (ثُمَّ) للإِيذان بسمو شهادة الله عليهم، وعلوّ مرتبة علمه بهم، فإِنه لا تفوته صغيرة ولا كبيرة، وفي ذلك ما فيه من تأكيد الوعيد. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} التفسير 47 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ}: أَي ولكل أُمة من البشر رسول يبعثه الله إليهم ليهديهم إلى التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق بشريعة خاصة بهم، فيها صلاح معاشهم ومعادهم، وذلك لأَنه سبحانه يعلم قصور العقل البشرى عن إدراك ما فيه صلاح أُمورهم الدنيوية والأُخروية، مع وجود الصوارف النفسية والشهوانية التي جبل عليها الإنسان، وكثيرًا ما تغريهم بالضلال، فلذلك اقتضت حكمته تعالى أَن لا يعذب عباده، قبل أن يبعث إليهم رسولًا ليبصرهم بعواقب الأُمور، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬1) وقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬2). {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: أي فإذا جاءَ كل أُمة رسولهم مؤيدًا من الله بالمعجزات المثبتة لرسالته، وانقسموا بشأْنه بين مصدق ومكذب قضى الله تعالى بينهم بالحق وهم لا يظلمون بفوت ثواب أَو زيادة عقاب. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء من الآية: 15 (¬2) سورة النساء من الآية: 165

48 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أَي ويقول المشركون من أُمتك وغيرهم استبعادًا لوقوع ما توعدهم به الرسل واستهزاءً بهذا الوعيد، متى يتحقق ما أَنذرتمونا به إن كنتم صادقين في هذا الوعيد. {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} التفسير 49 - {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ..... } الآية. لما استبعد الكفار وقوع ما توعدهم به القرآن من العذاب، وكانوا يستعجلونه استهزاءً وتكذيب أمر الله رسوله أن يقول: (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) أَدفعه عنها، أو نفعًا أَجلبه إليها، لكن ما شاء الله من ذلك وقع، فكيف أملك إِخباركم بالموعد الذي حدده الله لعقوبتكم، أَو استعجال وقوعه. {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}: أَي لكل أُمة وقت مضروب لهلاكهم، إذا جاءَ هذا الوقت فلا يتأَخرون ساعة عنه، ولا يتقدمون، فلا يصح لهم أَن يستعجلوه مستهزئين مستنكرين. ولا يمكن أَن يجىء قبل أَوانه، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت من الآية: 53

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} المفردات: {أَرَأَيْتُمْ}: أَي أخبرونى. {بَيَاتًا}: أَي ليلًا، وقت نومكم وغفلتكم. {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}: أَي شيءٍ يستعجل المجرمون من العذاب. {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}: أي أَبعد ما يقع العذاب حقيقة تؤمنون به، ودخول همزة الاستفهام على (ثُمَّ): لإِنكار تأْخيرهم الإِيمان إِلى وقت وقوع العذاب وتوبيخهم عليه. التفسير 50 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا}: أمر الله - تعالى - رسوله أَن يبكِّت المشركين على كفرهم واستعجالهم العذاب بأَن يقول لهم ما معناه: أَخبرونى ما حالكم وما شأْنكم إن أَتاكم عذاب الله في ليلكم وأَنتم نائمون، أَو ي نهاركم وأنتم غافلون عنه باشتغالكم في معاشكم. والمراد: أخبرونى عن حالكم إِذا باغتكم العذاب في أَي حال. {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}: يعني أَي شيءٍ من أنواع العذاب يستعجله المشركون؟ وليس شيءٌ منه يقتضي الاستعجال، فمن له عقل سليم لا ليق به أن يستعجله، فإِنه موجب للفرار منه، لا لاستعجاله.

51 - {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}: أَي أتستعجلون العذاب متهكمين ساخرين، ثم إِذا دهمكم آمنتم به حين: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (¬1) فالله تعالى ينكر عليهم تأخير إِيمانهم إلى الوقت الذي لا يكون فيه إلا الحسرة والندامة قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (¬2). 52 - {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: أَي ثم قيل لهم في الآخرة إهانة وإِذلَالًا وتبكيتا، ذوقوا عذاب الخلد في النار، هل تجزون هذا الجزاءَ إِلا بسبب ما كسبتمونه في دنياكم من الكفر بالحق، وغشيان المعاصي على اختلاف أَنواعها، والإصرار عليها. والمراد من قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: إِثبات عدل الله تعالى ونفى الظلم عنه، ببيان أَن إِصرارهم على الباطل هو الذي انتهى بهم إلى هذا المصير. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} المفردات: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ}: أَي ويطلبون منك النبأَ وهو لخبر. {إِي وَرَبِّي}: نعم وحق ربي. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 158 (¬2) سورة غافر، الآية: 85

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أَي وما أَنتم بمفلتين من عذاب الله. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ}: قال أَبو عبيدة: معناه وأَظهروا الندامة، وقال غيره: وأخفوا الندامة - فهو من الأضداد. {بِالْقِسْطِ}: القسط بكسر القاف بمعنى العدل أَما بفتحها فبمعنى الظلم وليس له موضع هنا. التفسير 53 - {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ}: لا يزال الكلام متصلًا في نقاش الكافرين، والنبأُ: الخبر الهامّ والاستنباءُ: طلب النبإِ. والمعنى: ويطلبون منك أَيها الرسول أن تخبرهم عن العذاب أَحق وصدق هو. وأَنهم ملاقوه لا يفوتهم، وهم بسؤالهم هذا لا يريدون الجواب بل يقولونه مستهزئين، معتقدين أَنه وعد باطل. ثم أَمر الله رسوله أَن يجيبهم فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي قل لهم أَيها الرسول - غير مكترث باستهزائهم - نعم وحق رَبِّى إِن العذاب الذي أُوعدتموه وأُنذرتم به لحق ثابت لا شك في وقوعه، فهو مقدور لله وما أنتم بمفلتين منه. 54 - {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ}: أَي ولو أَن لكل نفس ارتكبت الظلم بعصيان ربها، لو أَن لها جميع ما في الأَرض لقدمته فدية من هذا العذاب إِن كان الافتداء يجديها. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}: أَي وأَخفوا الندامة على كل ما فعلوا من الظلم، ولم يظهروها لا تصبُّرا ولا تجلدا، بل لأنهم بهتوا عند رؤيتهم فظاعة الحال وشدة الأَهوال التي لم تخطر لهم على بال، فلم يقدروا على النطق بشىء، أَو أَنهم كتموها في أَنفسهم لأنهم رأَوا أَن لا نفع في إِظهارها وقتئذ، وقيل: معناه وأَظهروا الندامة تأَلما وتضجرا. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: أي وحكم بينهم بالعدل التام الذي لا ظلم فيه بوجه من الوجوه {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 33

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} التفسير 55 - {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .... } الآية. افتتح الله تعالى هذه الآية بكلمة (ألَا) لينبِّه الغافلين إِلى ما جاءَ فيها من دلائل ربوبيته، والمعنى: ألا إِن للهِ وحده ما في السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما من الكائنات: له كل ذلك خلقا وملكا وتصرفا، فلا يشاركه فيه شريك، وليس لغيره فيه سلطان، ثم نبه الله عقب ذلك على أَن ما وعد به حق فقال: {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}: أَي كل ما وعد به الله على لسان رسله حق وواقع لا شك فيه، وفي جملة ذلك البعث والحساب، فهو القادر الذي لا يخلف الميعاد. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي ولكن أَكثر الناس لا يعلمون ذلك، لا عن طريق النظر والاستدلال، ولا عن طريق الكتب السماوية، فإِن معظمهم كفار بذلك عند نزول القرآن. {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. التفسير 56 - {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي هو المتصرف وحده بالإحياءِ والإِماتة، وإليه وحده ترجعون يوم القيامة للحساب والجزاءِ، ومَن شَأْنه ذلك يجب أن يحذر عقابه العقلاءُ، وأَن يسارعوا إلى الإبمان بما أنزله على رسوله لهداية عباده.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} التفسير 57 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}: جاءَت هذه الآية خطابًا لمشركى مكة، لاستمالتهم نحو الحق، بعد تحذيرهم من عاقبة ما هم عليه من الضلال بما تقدم من الآيات التي تنعى عليهم سوءَ عاقبتهم، ومع أن الخطاب فيها لأَهل مكة، ولكن الحكم فيها عام لكل من على شاكلتهم من الناس كما يدل عليه لفظ: (يَأيهَا النَّاسُ) حيث عبر به بدلا من يا أهل مكة، والمراد من الموعظة التي جاءَت من ربهم القرآن الكريم، وقد وصف في الآية بأَربعة أَوصاوف، وهي أَنه موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. والمعنى: يا أَيُّهَا الناس الذين أَعرضتم عن الإِسلام، قد جاءَكم من مالككم ومربيكم الرءُوف بكم، جاءَكم منه كتاب يدعوكم إلى الإِسلام، اجتمعت فيه أربع صفات أَولها: أَنه موعظة وتذكير منه لكم، فقد عرفكم بالخصال الكريمة، وحثكم عليها، وبيَّن لكم حسن عاقبتها، وكشف لكم عن الخصال الذميمة ونهاكم عنها، وبيَّن لكم سوءَ عاقبتها. وثانيتها: أَنه شفاءٌ لما في الصدور فقد بيَّن الحق وأَقام عليه الدلائل والبراهين المطمئنة للنفوس الحائرة، وبيَّن الباطل وأَقام البراهين على بطلانه ووجوب تركه، ولم يترك مجالا لأمراض الصدور عند العقلاء المنصفين، فهو لهذا كله شاف لما في الصدور من الأَمراض كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها من العقائد الفاسدة، فكأَنه نفس الشفاءِ.

وثالثها: أَنه هدى، فهو هادٍ إلى طريق الحق واليقين، بالإِرشاد إِلى أَدلته، فكأنه نفس الهدى. رابعها: أَنه رحمة للمؤمنين، فقد نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إِلى نور الإِيمان وانتقلوا به من استحقاق العذاب أَيام كفرهم، إِلى استحقاق النعيم المقيم بسبب إِيمانهم. 58 - {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}: هذه الآية مرتبطة بكل ما جاءَ في الآية التي قبلها. والمعنى: قل يا محمد: أَيها الناس قد جاءَكم القرآن واعظًا لكم وشافيًا لصدوركم وهاديًا لقلوبكم، ورحمة للمؤمنين منكم، وهذا كله بفضل الله - تعالى - وبرحمته، فبذلك وحده فليفرح الناس جميعًا، فإِنه خير وأَبقى مما يجمعون من متاع الدينا، فهو زاد الآخرة الذي ليس له فناء، أَمَّا الدنيا ومتاعها فإلى زوال وإلى هباءٍ. هذا: وقده قرئ: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} بأُسلوب الخطاب وبهذه القراءَة وافقت الآية أُسلوب الخطاب الذي جرى في الآية قبلها (¬1). ¬

_ (¬1) يلاحظ أن قراءة حفص التي نقرأ بها (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) جاءت بأسلوب الغيبة على طريق الالتفات من الخطاب في الآية السابقة إلى الغيبة هنا، وهو لون من ألوان البلاغة في التعبير، أما قراءة (فلتفرحوا هو خير مما تجمعون) بأسلوب الخطاب فقد جاءت علي نسق الخطاب في الآية التي قبلها، فلا التفات فيها.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُوفَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} المفردات: {رِزْقٍ}: الرزق في اللغة، ما ينتفع به، ومعلوم أنه ليس كله نازلا من السماءِ، وإِنما الذي أُنزل من السماء هو التشريع الذي أَحله أَو أسبابه التي حدث بها كالمطر والهواء وأشعة الشمس، وعلى هذا فالمراد من إنزال الرزق من السماء هو إنزال تشريعه أَو أسبابه، وفسر بعض العلماء إنزال الرزق بمعنى خلقه، وعليه فلا إشكال. التفسير 59 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا .... } الآية. لما بين الله تعالى فضله على الناس ورحمته بهم بإنزال القرآن الهادى لهم، شرع يناقشهم فيما حرموه من رزق الله الذي أحله لهم، ويوبخهم على هذا التحريم المخالف لما شرعه لعباده، فقال جل ثناؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ..... } الآية. والمعنى: قل أيها الرسول للمشركين الذين يحرمون بعض ما أَحل الله للناس من الرزق أخبرونى: ما خلق الله لكم من رزق، أنزل حله في شريعة إبراهيم وإسماعيل، فجعلتم بعض هذا الرزق حرامًا، وحرمتم منه أَنفسكم، وبعضه حلالًا وتناولتموه، فقد قلتم:

{هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} (¬1) وحرمتم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى وقلتم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} إلى غير ذلك مما حرمتموه واحللتموه، مع أنه كله حلال. {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}: قل لهؤلاء الذين يحرمون رزق الله الحلال، هل الله أذن لكم في هذا التحريم، أم لم يأذن لكم، بل تفترونه عليه، ثم توعدهم على هذا الافتراءِ فقال: 60 - {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .... } الآية. الافتراءُ هو الكذب، وجمعهما معا في قوله تعالى: {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} لإظهار مزيد قبح ما افتعلوه. والمعنى: وأى شيء ظن أُولئك المفترون فيما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم، أَو لا يجازون عليه، أَم أَنهم يجازون جزاءً يسيرا، ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون كلا إِنهم سيلقون أَشد العذاب؛ لأن معصيتهم أشد المعاصي، ومن أَظلم ممن افترى على الله كذبا. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}: إن الله لذو فضل عظيم على الناس جميعا، حيث أَنعم عليهم بالعقل المميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح، ورحمهم بإِنزال الكتب وإرسال الرسل، ليبين لهم بذلك الأحكام التي لا تصل إِليها عقولهم، وأَرشدهم إلى ما يهمهم من أَمر المعاش والمعاد، وأَحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث ولكن أكثرهم لا يشكرون تلك النعم، فلا يصرفون قواهم ومشاعرهم إلى ما خلقت له ولا يتبعون دليل العقل فيما يستقل به، ولا يتبعون دليل الشرع فيما لا يدرك إلا به، مع أَنه قد بين لهم ما سيلقونه يوم القيامة إن أعرضوا عن الحق، ولكنهم لا يلتفتون إليه. ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآيتين 139،138 من سورة الأنعام والآية 103 من سورة المائدة.

{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُومِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} المفردات: {فِي شَأْنٍ}: في أَمر تقصده. {كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}: كنا رقباء مطلعين عليكم. {تُفِيضُونَ فِيهِ}: تخوضون وتندفعون فيه، وأَصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أَو بقوة. {وَمَا يَعْزُبُ}: ولا يغيب. {مِثْقَالِ ذَرَّةٍ}: المثقال، الوزن، والذرة: النملة والهباء (¬1). {كِتَابٍ مُبِينٍ}: المراد به اللوح المحفوظ أَو هو كناية عن علمه تعالى، ومعنى مبين بين واضح. التفسير 61 - {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ..... } الآية. جاءَت هذه الآية إِثر بيان دعوة المشركين إلى الإيمان بالقرآن، والفرح بما جاء فيه من آيات الحق، ليبين أَن الله يعلم حال الرسول مع قومه في تبليغهم أَمر ربه، وحال قومه معه في شأْن ما دعاهم إِليه وأَنه سيجازى كلا حسب حاله. والمعنى: وما تكون يا محمد في شأن من شئون الإِسلام، وما تتلو من شأْنك هذا من قرآن، ولا تعملون من عمل يا أيها الناس الذين بلغتكم دعوته، واستمعتم منه قرآن ربه، إلا كنا عليكم رقباء وحافظين، حين تخوضون في شأْن هذا القرآن وتندفعون في حقه بالباطل، وما يغيب عن علم ربك من شيء في وزن الهباء الدقيق، سواء أَكان ¬

_ (¬1) يطلق الهباء على الغبار وعلى ما يشبه الدخان وعلى دقاق التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض قاموس، وفسرت الذرة في المعجم الوسيط بأَصغر جزء في عنصر ما.

ذلك الشئ الدقيق في الارض أو في السماءِ، ولا أصغر من ذلك الهباء ولا أكبر منه إلا في علمه تعالى لا يغيب عنه منه شيء فكيف تخفى عليه تعالى أعمالكم، وكيف يغيب عنه كفركم. {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} المفردات: {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ}: أَولياءَ: جمع ولى، ومن معانيه لغة القريب، وقد أَطلق الأَولياء في عرف القرآن على المؤمنين الصادقين، لقربهم الروحى من الله تعالى. {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}: البشرى: مصدر أُريد به المبشر به، وبشرى الحياة الدنيا خيراتها العاجلة كالنصر والفتح والغنيمة وغير ذلك، وبشرى الحياة الآخرة ما أُعد لهم فيها مما لا عين رأَت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. التفسير 62 - {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: قَبْلَ هذه الآية توعد الله المفترين عليه بما أشار إليه من عقوبتهم يوم القيامة بقوله: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: وعقَّب ذلك ببيان أنه تعالى مطلع على جهد نبيه في أُمته، وعالم بما أفاض فيه المشركون نحو دعوته، مشيرًا بذلك إلى أنهم سيجزون عليه وعلى كفرهم سوء الجزاء، وجاءت هذه الآية وما بعدها، لتطمئن المؤمنين على أنفسهم وتبشرهم بالخير الحميم في الدنيا والآخرة، وقد صدرت الآية بحرف التنبيه وهو (أَلاَ) لاسترعاءِ انتباههم إِلى ما بعده من البشائر الإلهية العظيمة، كما أكد مضمونها بحرف (إِنَّ) وبالجملة الإسمية.

والمعنى: أن أحباء الله المقربين إليه بالإيمان والعمل الصالح لا خوف عليهم في الدنيا من قضاءِ أَعدائهم عليهم، فقد مكن لهم في الأرض، وآتاهم فيها العزة كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1) ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة كما بشَّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا مجال للخوف عليهم في دنياهم، ولئن أَصاب منهم أعداؤهم في بعض المواقع، فإن الدائرة بإذن الله ستكون لهم عليهم، فهم في ظل رعاية الله وحمايته، ما داموا على طاعته والإعداد لنصرة دينه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). وبالجملة فإنه لا يعتريهم في دنياهم ما يوجب الخوف عليهم ما داموا على ولاية الله والتقرب إليه بالتقوى والاستقامة، والحذر من الاعداءِ، والتأهب لدفع عدوانهم بما استطاعوا من قوة، وكما أنهم لا خوف عليهم في دنياهم فلا خوف عليهم في أُخراهم، فهم في الدنيا دائمو الخشية من الله، يؤدون ما كلفهم به من الطاعات، وينتهون عما نهى عنه من المنهيات، ويستصغرون ما أدوه نحوه من حقوق العبودية، ويجتهدون في تجريد أعمالهم من الرياء، ويرجون منه الفضل بالقبول، ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا خوف عليهم أيضًا في أُخراهم. وكما أَنهم لا خوف عليهم في الدارين فإنهم لا يحزنون فيهما على فوت رغيبة من رغائبهم، فإنه تعالى منحهم نعمة الطاعة والرضا في دنياهم، فإن أقبلت عليهم النعمة والصحة والأَمن والرخاء حمدوا وشكروا، وإن فاتهم ذلك أو بعضه رضوا وصبروا، ومن عليهم في أُخراهم بجنة عرضها السموات والأرض ينعمون فيها بنعيم مقيم يفوق أعمالهم، ولا ترقى إِلى مثله آمالهم، فهو فوق ما كانوا يؤملون ويتصورون ثم عقب الله هذا الوعد الكريم لأَوليائه ببيان صفتهم التي تحقق ولايتهم فقال: 63 - {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: أي أن أولياءَه تعالى هم الذين آمنوا بكل ما جاءَ من عنده، وواظبوا على تقواه - فلا يفعلون إلا ما رضي عنه الله ورسوله، ولا يتركون طاعة من طاعانه، فأَمرهم دائر بين واجب ومسنون، أَما المباحات فهم يمارسونها بقدر ما يعينهم على طاعة الله وكثيرًا ما أَغفلوها ¬

_ (¬1) سورة المنافقون، من الآية: 8 (¬2) سورة الحج، من الآية: 40

وإن أُحل لهم فعلها، وإن فعلوها فلا ينقص فعلها من ولايتهم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ومن هذا النص الكريم، نعلم أن الولاية ليست بالادعاء ولا بالتزيى بزى الزاهدين مظهرًا، ولا بالعقل المسلوب، واللعاب السائل ولا بالإسراف في الزهد، ولكنها بالإيمان الصادق، والطبع الصافى والاختيار الكامل حتى يتقى ربه باختيار وكسب وإرادة، أما أُولئك الذي يدعون أنهم مستغرقون في الذات العلية، وأَن التكاليف سقطت عنهم، لأنهم جذبوا إِلى حضرة الله فسقطت عنهم التكاليف، فلذلك لا يشعرون بما يصنعون من حلال ومن حرام، فهم شياطين يتخذون من هذا الزعم وسيلة لغشيان المحرمات وفعل المنكرات، وكذلك ليس من أَولياءِ الله مسلوبو العقول ولا من يلبسون المرقعات، ويحملون العصى الطويلة، ويلبسون المسابح لإيهام السذج والمغفلين أنهم من أَهل القرب والوصول، فهؤلاءِ شياطين سفاحون هاربون من السجون أو دجالون يسلبون الأموال، فاحذروهم أيها المومنون فأولياءُ الله عقلاء، أَطهار الظاهر والباطن، عرفوا بالصدق في طاعة الله، والإقبال عليها في غفلة الغافلين ويقظة المتيقظين، في غير تصنع ولا نفاق سواء أظهرت على أيديهم، الكرامات أَم لم تظهر، فأَصحاب رسول الله أَولياء الله، مع أنهم لم تظهر على أَيديهم من الكرامات إلا القليل. وبالجملة فأَولياءَ الله تعالى هم الذين تولى الله هدايتهم فأقبلوا على عبادته والدعوة إليه، وهم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم، فعن سعيد بن جبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل مَن أَولياء الله؟ فقال: "هُمُ الَّذِينَ يُذْكَرُ اللهُ بِرُؤيَتِهِمْ" أَي بمظهرهم الصالح، ومخبرهم النقى وإِخباتهم إلى الله، وسكينتهم وتواضعهم. 64 - {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ..... } الآية. لما وعد الله تعالى أولياءَه بأَنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ووصفهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}. جاءت هذه الآية لتبشرهم بما يسرهم في الدارين. والمعنى: أَن هؤلاء الأولياءَ الموصوفين بالإيمان والتقوى، لهم بشرى في الحياة الدنيا والآخرة، والمراد بالبشرى في الدنيا ما وعدوا به من الخيرات العاجلة التي ينالونها في دنياهم، كالنصر والفتح والنعم التي تدفقت عليهم من الفتوحات والغنائم، والاشتغال

بالتجارة والزراعة، وغير ذلك من النعم الدنيوية التي أغدقها الله عليهم بإيمانهم وتقواهم وجهادهم في سبيل الله وسعيهم في جلب أرزاقهم ومن البشرى فيها أن يكونوا مرهوبين من أعدائهم، ومحبوبين من أوليائهم، ومنها الرؤيا الصالحة في النوم يراها المؤمن أوترى له، والبشرى عند الموت، حيث تأتيهم الملائكة بالرحمة، كما قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). وكما أن لهم البشرى في الحياة الدنيا فلهم البشرى في الآخرة بأن تتلقاهم الملائكة مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وبياض وجوههم، وإعطائهم صحائفهم بأيمانهم وما يقرؤونه فيها مما أعده الله لهم من نعيم الجنة، وانتهاء تلك البشارات أضرابها إلى غاية الغايات وهى الجنة وما فيها من نعيم مقيم. {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: أي لا تبديل لأقواله التي من جملتها بشاراته للمؤمنين المتقين: ذلك الذي بشروا به في الدارين هو الفوز العظيم الذي لا غاية وراءَه. {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} المفردات: {الْعِزَّةَ}: الغلبة والقهر. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}: ما يتبعون إلا التوهم. ¬

_ (¬1) سورة فصلت، من الآية: 30

{يَخْرُصُونَ}: يكذبون. وهو في الأصل بمعنى يقدرون بالاجتهاد الجزافى وكثيرًا ما يحدث فيه الخطأُ، فلذا يطلق على الكذب مجازًا وهو المراد هنا. التفسير 65 - {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}: الخطاب هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتسليته عما يعتريه في بعض الأوقات من حزن، بسبب ما يجده من قومه من التكذيب والمعارضة والتآمر عليه، بعد أن طمأَنه الله على أوليائه المؤمنين بأَنهم لا خوف عليهم من المكاره، ولا هم يحزنون على فوت بعض الرغائب. والمعنى: ولا تحزن أيها الرسول بسبب ما قالوه فيك من التكذيب والتآمر على إِبطال أَمرك، ووصفك بالسحر والشعر وغير ذلك مما لا خير فيه. {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: هذا تعليل لنهيه عن الحزن، أي لا تحزن لما قالوه في شأْنك، فإن الغلبة والقهر في الأرض والسماء لله، إذ لا يملك أحد من أَمرهما شيئًا لا هم ولا غيرهم، فهو يقهرهم ويعصمك منهم، ويهزمهم وينصرك عليهم، لأنه تعالى هو السميع لكل مسموع، العليم بكل معلوم، فلا يخفى عليه شيءٌ من مؤامراتهم، فهو بإحباطها كفيل، وقد تحقق ما أَشارت إليه الآية الكريمة، من إحباط مؤامراتهم، ونصر الرسول عليهم، وذلك من المبشرات التي عجلها الله لرسوله وللمؤمنين معه في الدنيا، والحمد لله رب العالمين. 66 - {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}: في هذه الآية تأَكيد لما مر من البشارات، ومن أن العزة لله جميعًا، والمراد ممن في السموات والأرض، العقلاء وهم الملائكة والإنس والجن وتخصيصهم بالذكر للإيذان بأَن غيرهم أولى بملكية الله تعالى. والمعنى: أن الله تعالى يملك من في السموات والأرض من الملائكة والجن والإنس مع شرفهم وعلو مكانتهم، فهم جميعا مملوكون له ومقهورون بسلطانه، وعبيد لمشيئته، وكذلك

جميع كائناته، فهي أيضًا تحت قهره وسلطانه، فإنه إذا كان العقلاء مملوكين له، وخاضعين لإرادته فما سواهم مما خلق لأجلهم، مملوك له، وناشئ عن قدرته ومشيئته، وتابع لتدبيره وإرادته، ولم يصرح هنا بدخول غير العقلاء في دائرة ملكية الله؛ لأنه مفهوم بالأولى وغير محتاج إلى التصريح به، فضلا عن أنه مصرح به في كثير من آيات القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله .... } (¬1). ويجوز أن تكون (مَنْ) في قوله تعالى: (مَن في السَّمَوَاتِ وَمَن في الْأَرْضِ) عامة للعقلاء وغيرهم، كما في قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (¬2). وبعد أن بين ملكيته تعالى لأهل السموات والأرض، عقب ذلك ببيان خطإِ الكافرين في عبادة غيره فقال: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ}: أي وما يتبع الذين يعبدون غير الله شركاء له على الحقيقة، فإنها مملوكة له تعالى ولا شركة لها معه في شئٍ، فلا تستحق أن يشركوها به في العبادة. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: أي ما يتبع هؤلاء المشركون في عبادة غير الله تعالى إلا توهمهم الباطل أنه شريك له، دون أن يكون لهم على شركته له برهان عقلى أو نقلى، وما هم في جعلهم شركاء له إلا يكذبون. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} المفردات: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}: لتطمئنوا وتستقروا فيه بعد حركتكم بالنهار. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 284 (¬2) سورة النور، من الآية: 45

{مُبْصِرًا}: مضيئًا لتتحركوا فيه وتهتدوا في ضوئه إلى حوائجكم. ونقل القرطبى عن قطرب أَنه قال: أَظلم الليل أَي صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأَبصر، أي صار ذا ضياء وبصر - يقصد صاحب ضياءٍ وبصر من الناس فيه. التفسير 67 - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}: بعد ما بينت الآية السابقة عقيدة المشركين في إِشراكهم بالله ما لا يملك شيئًا من السموات والأَرض التي يختص بملكها الله، وأوضحت أَنهم ليس لهم على أُلوهيتها دليل بل يتبعون الوهم ويكذبون، جاءَت هذه الآية لتؤكد خطأهم في الإشراك بالله وتقرر ما تقدم من اختصاص الله بملكيته للسموات والأرض ومن فيهما، وأَهليته لإفراده بالعبادة. والمعنى: هو الذي أبدع لكم الليل وجعله مظلمًا لتسكنوا فيه وتستريحوا من متاعبكم نهارًا، وأَبدع لكم النهار وجعله مضيئًا لتتحركوا فيه لمصالحكم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: إِن في هذا التدبير الحكيم في شأْن الليل والنهار، لآيات عظيمة على وحدانية الله تعالى واستحقاقه وحده للعبادة، فوق ما مر من آياته جل وعلا، وهذه الآيات مسوقة لمن يسمعونها سماع تعقل وتدبر فينتفعون بها ولا يتشبثون بأوهام الشرك الواهنة، أَما أُولئك الذين يعرضون عن سماعها أَو يسمعونها ولا يتدبرون فيها فلا سبيل لهم إلى الانتفاع بها، والانتقال من الضلال إلى الهدى.

{قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ في الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}. المفردات: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}: ليس عندكم من حجة عليه. التفسير 68 - {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}: الظاهر أن الضمير في: {قَالُوا} يعود على المشركين الذين سبق الحديث عنهم من أول السورة إلى هنا، ويؤيده أن السورة مكية والنقاش في السورة مع المشركين، أما مع أهل الكتاب فإنه بدأ في المدينة حيث يوجد اليهود، ومن المفسرين من جعله شاملا لكل من اعتقد النبوة لله، فيدخل فيهم المشركون واليهود والنصارى، وغيرهم ممن على شاكلتهم والولد يشمل الذكر والأنثى، ويطلق على الواحد والجمع، وقد زعم المشركون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} (¬1). وفي زعمهم هذا يقول الله منكرًا عليهم: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (¬2) وزعم اليهود أن عزيرًا ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، ولغير هؤلاء مزاعم تشبههم، فنزلت الآية لإبطال مزاعمهم. ¬

_ (¬1) الإسراء آية: 43 (¬2) الزخرف آية: 19

والمعني: قال الكافررن: اتخذ الله ولدا وجعله له ابنًا، سبحانه وتنزيهًا له عن ذلك الزعم الباطل، هو الغنى على الإطلاق، فأَى حاجة له إِلى التبنى؟ ثم شرع يفند زعمهم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: أي له تعالى كل ما في السموات والأرض خلقًا وملكًا وتصرفًا، وفي جملة ذلك من زعموه له ولدًا، ومن كان كذلك فلا حاجة له إلى ولد، ثم بين أنهم لا حجة لهم فيما زعموا ووبخهم عليه فقال: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: أي ما عندكم من حجة بهذا الزعم، والعاقل لا يعتقد إلا ما قامت عليه الحجة، أَيليق بكم أَن تقولوا على الله الذي له ملك السموات والأرض ما لا تعلمون صدقه، ولا تقوم به حجة، ثم أَمر الله رسوله أن يهددهم على هذا الافتراءِ فقال: 69 - {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}: قل أيها الرسول للذين زعموا أَن الله اتخذ ولد، مبينًا لهم سوءَ عاقبتهم، ووخامة منقلبهم: إن الذين يختلفون على الله الكذب بمثل مزاعمكم المستحيلة لا يفلحون، فلا هم ينجون من مكروه ولا هم يفوزون بمطلوب، فالنار مثواهم، والجنة حرام عليهم، وإلى هذا المصير يشير قوله تعالى: 70 - {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}: أَي لهؤُلاءِ المفترين على الله تمتع قليل في الدنيا، فإنهم إليه راجعون مهما طال مكثهم فيها ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم الذي أصروا عليه في دنياهم.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} المفردات: {نَبَأَ نُوحٍ}: النبأْ، الخبر الذي له شأْن وخطر. {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي}: شق وعظم عليكم ق4يامى ووجودى بينكم. {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ}: إجماع الأَمر، العزم عليه، تقول أَجمعت الأَمر وأَجمعت عليه أي عزمته وأردته بهمة ومضاءٍ وعزيمة، والصيغة الأولى أفصح من الثانية وقال أَبو الهيثم: أجمع أَمره جعله مجموعًا بعد ما كان متفرقا. {غُمَّةً}: أي مستورا، من غمة إِذا ستره. {اقْضُوا إِلَيَّ}: أَي أدوا إليّ الأمر الذي تريدونه بي. {وَلَا تُنْظِرُونِ}: ولا تمهلونى. {تَوَلَّيْتُمْ}: أَعرضتم عن تذكيرى. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: من المنقادين لحكم الله لا أخالف أَمره. {الْفُلْكِ}: السفينة.

التفسير 71 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ}: أي واتل أيها الرسول على المشركين من قومك ومن على شاكلتهم من سائر الكفار، اتل عليهم خبر نوح مع قومه الذين هم على شاكلة قومك في الكفر والعناد، فإنه خبر ذو شأْن وخطر عظيم فلعلهم بتلاوته عليهم، يتدبرون ما فيه من زوال ما تمتع به قوم نوح من النعم، وحلول عذاب الغرق بهم الموصول بعذاب الآخرة، لينزجروا عما هم فيه من الكفر، فإنه خبر صادق موافق لما ذكرته الكتب السماوية عنه، شاهد بصحة نبوتك، فإنهم يعلمون أنه لا سبيل لك إلى علمه إلا بطريق الوحى، والمراد من نبأ نوح مع قومه، بعض أخباره معهم لا كلها، فالموجود منها هنا موجز يسير لقصد العبرة. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ......... } الآية. أي اذكر لقومك نبأ نوح حين قال لقومه مهددًا ومتوعدًا لهم بعد ما عاناه منهم من الإعراض والإصرار على التكذيب، وبذل الجهد الطويل المديد في الوعظ والتذكير، اذكر لهم حين قال نوح لقومه بعد ذلك كله: يا قومى إن كان قد عظم وشق عليكم، قيامى ومكثى بين ظهرانيكم وتذكيرى لكم بآيات الله الذي كان سببا في كراهتكم لوجودى بينكم فعلى الله وحده توكلت، وعلى حمايته وحفظه لى من شركم اعتمدت. فاعزموا أمركم في شأْنى، ووحدوا كيدكم لى، واجعلوا معكم شركاء فيما تريدون بى، واحتشدوا فيه على أي وجه يمكنكم، ثم لا يكن أمركم الذي تدبرونه لى مستورًا مقصورًا عليكم، بل اكشفوه وجاهروا به ولا تخشونى، فإن السر إنما يصان، لمنع الخلاص من المكروه بالهرب ونحوه وذلك لا مجال لى فيه، فأنا واحد وأنتم أُمة، فكيف استطيع الخلاص من كيدكم كما تتوهمون، ثم أوصلوا إلى كيدكم واتجهوا به نحوى ولا تمهلونى، فلن يصل إلى من أذاكم قليل ولا كثير فقد اعتصمت بالله وتوكلت عليه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬1). ولا ترى أبلغ من ذلك في الثقة بنصر الله، والسخرية من أعدائه الغافلين عن عظمة الله وحمايته لأنبيائه وأوليائه. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 64

72 - {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ .... } الآية: والمعنى: فإن أعرضتم عن نصيحتى وتذكيرى لكم، بعد ما بينته من أننى لا أخاف من أذاكم ولا أذى آلهتكم المزعومة، وأننى في حرز حصين من حماية ربي، فلا سبيل لكم إلى إهلاكى فإن أعرضتم بعد ذلك كله فما سألتكم على وعظى وتذكيرى لكم من أَجر قل أو كثر، حتى يؤدى ذلك إلى توليكم، أو حتى يضرنى توليكم بالحرمان، فما سأَلتكم على التبليغ من أَجر فما أجرى إلا على الله، فلا وجه لإعراضكم عن الحق، وقد أُمرت من الله بأَن أكون من المسلمين أي المستسلمين الخاضعين لحكمه لا أُخالف أَمره ولا أرجو غيره، ولا أدعو إلى عبادة سواه، فدعوا إعراضكم وأسلموا لله وحده كما أسلمت. ولكن قومه لم يستجيبوا له، وأصروا كعادتهم على التكذيب فعاقبهم الله وذلك ما حكاه الله بقوله: 73 - {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا .... } الآية. أَى فأَصروا على التكذيب بعد ما أَلزمهم الحجة، وأَوضح لهم الطريق المأْمون، وقضى معهم دهرًا طويلا في النصح والإِرشاد، فنجاه الله تعالى من الغرق بالطوفان الذي عوقب به قومه، ونجى من كان معه في السفينة التي صنعها بأمر الله وإرشاده، وهم الذين آمنوا بربهم واستجابوا له وكانوا عددًا قليلًا وجعل الله هؤُلاءِ المؤمنين من قوم نوح خلائفِ لقومهم المكذبين، وأَغرق الذين كذبوا بآياته تعالى، جزاءً لهم على كفرهم وعنادهم، ثم أَمر الله بالتأمل في عاقبتهم الوخيمة فقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}: والخطاب هنا لكل ذى عقل سديد، والمعنى: فانظر أَيها العاقل وتأَمل لتعرف منه أَن بطش الله بالكافرين شديد لا قبل لأَحد به، وفيه تحذير لمن كذب رسول الله، وتسلية له - صلى الله عليه وسلم -.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} التفسير 74 - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: ثم أرسل الله من بعد نوح رسلا كراما كثيرين إلى أَقوامهم، لكل قوم رسولهم الخاص بهم، فجاءُوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم في التبليغ عنه سبحانه، فما حدث لقوم من أقوامهم أن يؤمنوا في آخر دعوته بما كذبوا به من قبل في أَول دعوته، فلم ينفعهم دوام "تذكيرهم"، ولا تواتر البينات الظاهرة والمعجزات الباهرة عليهم. ويجوز أَن يكون معنى {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}: فما كانت كل أَمة منهم لتؤمن برسولها بسبب تعودهم تكذيب الحق قبل بعثة رسولهم الخاص بهم إليهم، فقد كانوا في فترات الرسل يسمعون من بقايا الأُمم قبلهم أَن مرسلين أُرسلوا بالتوحيد قبلهم، فلما عصوا أُهلكوا، فكانوا يكذبون ذلك، ثم كانت حالتهم بعد مجىءِ الرسل إليهم، كحالتهم قبل ذلك كأَن لم يبعث إليهم أَحد. {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}: والطبع في اللغة معناه الختم، وقد استعمل في الآية مجازًا عن التخلى والخذلان حتى صارت قلوبهم كأنها مغلقة ومختومة ومطبوع عليها. والمعنى: مِثلَ ذلك الخذلان والتخلى عن معرفة هؤُلاء الكافرين فيستمرون على كفرهم يتخلى الله ويخذل جميع المعتدين المتجاوزين لحدود الله، فيبقون فيما هم فيه من عدوان، وذلك لانهماكهم في البغى والضلال، وإعراضهم عن الهدى والرشاد، ولو أنهم تدبروا آياته، وفتحوا قلوبهم للنظر السديد، لأعانهم الله وبصرهم فكانوا من المهتدين.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} المفردات: {وَمَلَئِهِ}: الملأ أَشراف القوم. {لِتَلْفِتَنَا}: لتصرفنا، واللفت والفتل بمعنى واحد. التفسير 75 - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا .... } الآية. أَي ثم بعثنا موسى وهارون من بعد أُولئك الرسل الذين تقدموهما إلى فرعون وأَشراف قومه بآياتنا وعلاماتنا الدالة على أَنهما مرسلان منا، والمراد بتلك الآيات ما مر في سورة الأعراف، من انقلاب العَصا حية وابتلاعها سحر الساحرين، وخروج يده من جيبه بيضاءَ من غير سوءٍ والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، إِلى آخر الآيات التسع التي مر بيانها في سورة الأعراف. وتخصيص ملإ فرعون بالذكر مع أَن موسى وهارون أُرسلا إِلى باقى أُمة فرعون، لأن الحديث كان معهم أَولا، رغبة في إيمان منْ خلفهم بإيمانهم، ولم يكتف باندراج قصة موسى وهارون من قوم فرعون فيما أَجمل من أَخبار الرسل بعد نوح، لاختصاصها من بين سائر

القصص بأحداث هائلة مع ملك جبار ومستبد، ولأنها كانت معروفة إِجمالًا للعرب؛ لأن اليهود كانوا يعيشون بينهم، ثم بين الله ما حدث من قوم فرعون بعد ما دعاهم موسى وهارون إِلى الحق المؤيد بالمعجزات، فقال سبحانه: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}: أي فتعالوا عليهما وامتنعوا عن قبول دعوتهما، وكانوا معتادين الإجرام فلذا اجترءُوا على رفض دعوة الله والكفر بها، ثم فصل الله كفرهم بها نوعًا من التفصيل فقال: 76 - {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}: أَي فحين جاءَهم الحق من عندنا على لسان موسى وهارون - عليهما السلام - مؤيَّدًا بالمعجزات الباهرات، بادروا إلى ردها فورًا من غير تدبر، وقالوا إِن هذا الذي زعمتماه معجزات مؤيدة لرسالتكما، ما هو إِلا سحر واضح لا يحتاج إلى جهد في إِثبات كونه سحرًا، ثم أخبر الله برد موسى عليهم فقال: 77 - {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ}: أَي قال موسى منكرًا عليهم بعدما اتهموه بأَن معجزاته من قبيل السحر الواضح: أَتقولون للحق عند مجيئه إِليكم من غير تثبت ولا تفكير {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ولم يذكر في رده عليهم جملة {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} اكتفاءً بعلمها من كلامهم السابق، ثم وبخهم على هذا الادعاءِ ودلل على فساده فقال: {أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ}: أَي أَسحر هذا الذي جئتكم به، وكيف يكون سحرًا وأتحداكم به وأَنا أعلم أَنه لا يفلح الساحرون فلا يفوزون بمطلوب، ولا ينجون من مكروه ولا يثبتون أمام تحدى الساحرين المتمرسين المتفوقين، كالذين ينتشرون في أَطراف مصر وأرجائها، وكيف يفلح الساحرون وهم يفترون على الله، والله لا ينصر من يفترى عليه. ثم حكى الله مقالتهم الواهية لما عجزوا عن رد حجته عليهم فقال: 78 - {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}: أي قال قوم فرعون لموسى: هروبًا مما أفحمهم به، أجئتنا بدعوى الرسالة عن الله، لتصرفنا

عما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون وسائر المعبودات التي ورثناها عنهم، لكي نعبد إلهك الذي طلبت أَن نعبده وحده، ولكى تكون لك ولأَخيك الكبرياءُ والعظمة في الأرض، بتولى الملك والرياسة علينا، فما أَضعف حجتهم، وما أقصر نظرهم، فلا ينبغي لعاقل أَن يحهتج بما كان عليه الآباءُ - فما أَكثر ما يكونون عليه من ضلال - ولا أَن يُتهم من يدعو إلى الله وحده بأَنه يدعو إِلى الرياسة والملك في الناس. {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}: أي وقال فرعون وقومه لموسى وهارون ولسنا لكما بمصدقين فيما جئتما به من الدعوة إِلى توحيد الله وترك ما كان عليه آباؤنا. ولم يخصوا موسى بالخطاب مع أَنه هو الذي خاطبهم بشريعته ودعاهم إِليها، مبالغة في إقناطه من إيمانهم، ولما كان لفتُهم عما وجدوا عليه آباءَهم من خصائص صاحب الشريعة أَسندوه إِلى موسى عليه السلام في قولهم: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}. أَما هارون فوزيره فيها، وتأْكيدًا لإصرارهم على الكفر والعناد كان التعبير بالجملة الإسمية والإتيان بالباءِ وتقديم {لَكُمَا} على {مُؤْمِنِينَ} في قولهِ {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}. وقد رفض هولاءِ دعوة موسى لسببين: 1 - أَنه جاءَ ليصرفهم عما كان عليه آباؤهم وهم لا يحبون التحول عنه ومفارقته. 2 - أَنهم زعموا أنه أَراد بدعوته أَن يكون له ولأخيه الكبرياءُ في الأرض وهم يحرصون على الانفراد به واستعباد الناس وظلمهم، ويرد السبب الأول بأنه حقا دعاهم إلى نبذ ما كان عليه آباؤهم ولكن ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والعرفان، وهذا خير مما عليه آباؤهم، ولا يحتاج رد الثاني إلى فكر ونظر لأن الرسالة لم تكن طريقًا إِلى التسلط والكبرياء، فقد تحمل موسي وهارون في سبيلها متاعب شديدة، ورحلات شاقة وبذلا في تبليغها للناس جهودًا مضنية، من أَجل الله وإِسعادًا للبشر في الدنيا والآخرة، دون أَن يكون لهما مأْرب دنيوى.

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} المفردات: {السِّحْرُ}: يطلق على ما لطف ودق، ويطلق على ما يقع بخداع وتخيلات لا حقيقة لها، مثل ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، ويكون السحر أَيضًا بمباشرة أَقوال وأَفعال حتى يتم للساحر ما يريد من التأثير على الشخص المقصود، بحيث يغير مزاجه ويؤئر في حواسه ووجدانه، كأن يجد الحلو مرًّا، وينقبض صدره وتضعف قواه، ويكثر اضطرابه. {سَيُبْطِلُهُ}: سيمحقه ولا يبق له أَثرًا. {لَا يُصْلِحُ}: لا يثبت ولا يؤيِّد. {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ}: ويثبت الله الحق ويقويه ويؤيده. {بِكَلِمَاتِهِ}: لأَوامره ووحيه. التفسير 79 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}: بعد أَن بين القرآن الكريم أن فرعون وقومه لجأُوا إلى التمسك بتقليد آبائهم - حينما لم يجدوا حجة يردون بها دعوة موسى - بعد ذلك جاءَت هذه الآية تبين أَن فرعون اتبع أُسلوبًا آخر في رد رسالة موسى، وهو إِيهام قومه أن ما جاءَ به موسى من قبيل السحر حتى لا يتأثروا بدعوته الواضحة، فيبقى له النفوذ والكبرياء والتسلط.

والمعنى: وقال فرعون آمرا قومه: اجمعوا لى من جميع أنحاء مملكتى كل ساحر واسع العلم بفنون السحر، عظيم الخبرة به قوى التأثير بارع الحيلة كى يعارض بهم معجزة موسى عليه السلام. 80 - {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}: أي فحشروا لفرعون كل ماهرٍ في صناعة السحر، فلما جاءُوا إليه واجتمعوا لديه قال لهم موسى ألقوا ما استقر رأيكم على إلقائه من أَنواع السحر، وقدموا ما عزمتم على فعله وأَظهروا كل ما في طاقتكم من سحر ليظهر بطلانه على رءُوس الأشهاد. ولم يطلب إِليهم موسى عليه السلام. أن يبدأوا بإظهار سحرهم عقب مجيئهم إِلى فرعون وإنما كان بعد أن خيروه بين أَن يبدأ هو أو يكونوا هم البادئين، كما حكاه القرآن في سورة الأعراف {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (¬1). ولوثوقهم بتغلبهم عليه خيروه، كما كان طلب موسى منهم أَن يبدأوا ليعطيهم الفرصة كاملة لإظهار ما في طاقتهم من السحر في هدوءٍ تام واطمئنان كامل، وحتى يجد الحق بعد الباطل نفوسًا تتقبله وعقولا تتدبره. 81 - {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}: أي فلما أَلقوا ما لديهم من العصى والحبال وأظهروا كل ما في طاقتهم من فنون السحر استرهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم. ولثقة موسى - عليه السلام - بصدق رسالته، وإيمانه بنصر الله له، وتثبيت الله لقلبه، وتكذيبًا لما رموه من السحر قال لهم: الذي جئتم به وبذلتم في إِظهاره أَقصى جهدكم هو السحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، وتأْكيدا لثقته بتحقيق ما تقدم قال فيما حكاه القرآن عنه {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ}: أَي إن الله سيمحق هذا السحر فلا يبقى له من أثر بما يظهره على يدى من المعجزات، فإن الباطل لا يدوم مهما كثر وانتشر. ¬

_ (¬1) الأعراف من الآية: 115

ثم أكد القرآن الكريم ذهاب هذا السحر وزواله بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}: أي إن الله لا يجعل عمل جميع المفسدين صالحًا للبقاءِ ثابتًا، بل يزيله ويذهب به، فلا يبقى لباطل هولاءِ السحرة المفسدين أثرًا. 82 - {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}: أَي ويثبت الله الحق الذي يبعث به رسله رحمة للعالمين، ويؤيده ويقويه بأوامره وتأْييده، ولو كره المجرمون الكافرون إِحقاقه واستقراره، ففي إِحقاقه قطع أطماعهم وتقويض سلطانهم والقضاءُ على باطلهم، واستقرار الأمن وعمارة الأرض وذهاب الفساد. ومن سنن الله في خلقه أن البقاء لمبادىءِ الخير والحق {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬1). {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} المفردات: {ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ}: جماعة من قومه، شبابًا أَو كهولا، فقد آمن به السحرة وهم كهول غالبًا كما آمن به غيرهم. {أَنْ يَفْتِنَهُمْ}: أَن يعذبهم. {لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}: لغالب فيها. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 81.

التفسير 83 - {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ (¬1) أَنْ يَفْتِنَهُمْ}: بعد أَن بين القرآن الكريم على لسان موسى أن ما جاءَ به سحرة فرعون هو السحر الذي لا حقيقة له، وأَن الله سيبطله، ويحق الحق بكلماته، جاءَت هذه الآية تخبر بأَنه مع ثبوت الحق بغلبة المعجزة وزهوق الباطل باندحار السحر، لم يؤمن بموسى عليه السلام - إِلا عدد قليل من قومه. والمعنى: فما آمن لموسى وصدق برسالته بعد إِحقاق الله الحق بقضاء عصا موسى كل سحر الساحرين، إِلا عدد قليل من قوم فرعون شرح الله صدورهم للإيمان، بعد ظهور الحق على الباطل، وكان إيمان هؤلاء مصحوبًا بخوف شديد وحذر بالغ من فرعون ورؤساء قومه أن يعذبهم على أَيدى هؤلاء الرؤساءِ ويوقع بهم صنوف الأذى بمعونتهم. وإِنما جاء في القرآن {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} دون أن يفتنوهم حتى يشمل فرعون وملأهم، لإفادة أَن الخوف من الملإ كان بسبب أَن كل ظالم في دولة فرعون كان يستمد ظلمه من طغيان فرعون وجبروته، ثم أَكد القرآن الكريم خوف المؤمنين من بطش فرعون بقوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ}: أَي وإِن فرعون لغالب على الناس قاهر لهم في أَرض مصر بالسطان والملك عليهم وادعاء أَنه لا إِله لهم سواه كما حكاه الله عنه بقوله {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬2) ثم زاد في تقرير هذا المعنى حين قال: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}: أَي وإن فرعون لمن جملة الذين دأبوا على تجاوز الحد في الظلم والفساد فقد أَسرف في القتل وسفك الدماء، كما بالغ في الكبر والاستعلاءِ. 84 - {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}: أي وقال موسى لأُولئك الذين أَظهروا إِيمانهم، يا قوم إن كنتم صدقتم بالله، فعليه وحده توكلوا إن كنتم مستسلمين له خاضعين لشرعه. 85 - {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: بعد أَن بينت الآية السابقة أن موسى عليه السلام دعا من آمن به من قومه إلى التوكل على الله والاعتماد عليه في نصرتهم وإصلاح شئونهم كدليل على صدق إيمانهم جاءَت هذه الآية الكريمة لبيان أنهم أسرعوا إلى تلبية ندائه. ¬

_ (¬1) جمع الضمير في (ملئهم) مع أَنه عائد على فرعون، لأنه جاء على طريقتهم في تعظيمه. (¬2) سورة القصص من الآية: 38

والمعنى وقال الذين آمنوا بموسى مستجيبين له في صدق إيمان، وإخلاص يقين، ومن غير إبطاءٍ ولا تردد - على الله وحده اعتمدنا في نصره لنا ودفع الأذى عنا، وإنقاذنا من ظلم الظالمين، وإِعانتنا في كل ما يهمنا من شئون الدنيا وأُمور الآخرة: وفي مبادرتهم إلى إجابة هذا النداءِ، دليل واضح على رسوخ إِيمانهم وقوة إسلامهم، ومصداق لإخلاصهم في التوكل على الله، وقد فزعوا إليه سبحانه بالدعاءِ قائلين: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: أي ربنا لا تجعلنا موضع فتنة لهؤلاءِ القوم الظالمين فلا تسلطهم علينا تعذيبًا ووعيدا ومضايقة فيفتنونا عن ديننا. 86 - {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: أَي وأَنقذنا برحمتك وعطفك من هؤلاء القوم الكافرين بك - إِن هم أرادونا بسوءٍ - فنحن لا قدرة لنا على دفعهم لضعفنا وقوتهم، ومن أظلَّتهم حمايتك، فلا سلطان لجبار عليهم. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}

المفردات: {تَبَوَّا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا}: أي اجعلا لقومكما منازل يقيمون فيها - يقال: تبوأَ المكان وتبوأَ به نزل فيه وأقام به. {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}: أي أجعلوها أماكن للصلاة متجهين فيها إلى القبلة. {اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ}: الطمس في اللغة المحق والمحو، أي أهلكها واجعلها غير صالحة للانتفاع بها. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: أَي اختم عليها واجعلها قاسية لا تنشرح للإيمان لاختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. التفسير 87 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ... } الآية: أَي وأمر الله تعالى موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - بوحى أوحاه الله إليهما أن يجعلا لقومهما بمصر بيوتا خاصة بهم ينزلون بها ويسكنون فيها، وأَمرهما وقومهما أن يجعلوا بيوتهم هذه أماكن للصلاة، وأَن يقيموا الصلاة فيها إلى جهة القبلة، بعيدا عن أعين فرعون وقومه حتى يأْمنوا على أَنفسهم من البطش والإيذاء وعلى دينهم من الفتنة - وكان فرعون قد خرب معابد بنى إسرائيل ومنعهم من الصلاة. ولِمَا للصلاة من الأثر البالغ في تهذيب النفس وصفاءِ القلب، أمرهم الله جميعًا بها فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: أَي وأدوا إلصلاة تامة الأَركان والشروط في خشوع وإخلاص لله تعالى لتنشرح صدوركم وتمتلئ نورا وإِيمانا، وتثبت أَقدامكم على طريق الحق والهدى إذ الصلاة عماد كل الديانات التي شرعها الله. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}: أي وبشر المؤمنين يا موسى بالنصر والتأْييد في الدنيا إِجابة لدعائِهم، وفي الآخرة بجنات النعيم جزاء ما قدموا من صالح الأعمال. ومن محاسن النظم الكريم في هذه الآية أن الله أمر موسى وهارون وحدهما باتخاذ البيوت لقومهما لأَن ذلك من شأْن الرؤساء والقادة. وأمرهم جميعًا بإقامة إلصلاة وجعل بيوتهم معابد لوجوب الصلاة على جميع المكلفين وأمر موسى وحده بالبشارة لأنها من وظائف صاحب الرسالة المقدم في قومه، لتكون أوقع في نفوس المؤمنين وأعظم في إدخال السرور عليهم.

88 - {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. } الآية. بعد أن أطمأَن موسى - عليه السلام - إلى استقرار قومه في البيوت التي اتخذها هو وأخوه لسكناهم جاءَت هذه الآية تبين أنه اتجه إِلى الله بالدعاءِ على فرعون وملئه وبعد أن يئس من إيمانهم. والمعنى: وقال موسى - عليه السلام - مناجيا رب العالمين سبحانه وتعالى يا ربنا إنك أعطيت فرعون والرؤساء من قومه زينة من لباس حسن جميل وحلى وجواهر، وأثاث فأخر وقصور عالية، وغير ذلك مما يتزين به، ومنحتهم أَنواعًا كثيرة من الأموال فكانت عاقبة هذه النعم أنهم بالغو في الكفر بك، وجعلوها وسيلة قهر وبطش وطغيان، وضلوا بها وأضلوا عن سواءِ السبيل واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأغلقوا قلوبهم دون قبول الخير، فاستوجبوا دعائى عليهم {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}: أَي يا ربنا أهلك هذه الأموال التي استعبدوا الناس بها، وأَكثروا في الأرض الفساد بسببها، أهلكها ليزول سلطانهم ويذلوا، واربط على قلوبهم بحيث تكون قاسية جامدة لا تنشرح للإيمان، فإنها ليست له أهلا، لنبذهم شريعتك وتكذيبهم رسالتك بسوءِ اختيارهم، اربط على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم حيث لا ينفع نفسا إِيمانها لم تكن آمنت من قبل أَو كسبت في إيمانها خيرا، ليكون انتقامك منهم شديدًا وعبرة لغيرهم، وهو ما كان من فرعون فيما حكاه القرآن الكريم بقوله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوإِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). وقدم موسى - عليه السلام - بين يدي دعائه على فرعون وقومه ذكر طغيانهم ليكون أرجى لاستجابة الله له، وتشهيرا بهؤلاء الذين لم يقدروا نعم الله حق قدرها. وكرر النداءَ (ربنا) مبالغة في الضراعة إِليه تعالى، حتى يستجيب له لمبالغتهم في العناد والطغيان، والتنكر لأَنعُم الله ومقابلتهم الإحسان بالكفران. 89 - {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: أَي قال الله تعالى - خطابا لموسى وهارون عليهما السلام - قد أَجبتُ دعاءكما، وحققت رجاءكما ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية رقم (90).

في شأن فرعون وملئه فأهلكتهم وأموالهم لأنهم استمروا على عنادهم، فلم يؤمنوا إلا عند اليأْس من الحياة حين أدركهم الغرق، فلم يقبل الله إيمانهم. وقد ذكر الله تعالى أنه أَجاب دعاء موسى وأخيه، مع أَن موسى هو الذي دعا على الصغاة لأن هارون كان يقول عند دعاءِ موسى: آمين كما دلت عليه الآثار. ومعناه: استجب يا ربنا فكلاهما طلَبَ الإجابة - طلبها موسى بلفظ الدعاء وطلبها هارون بمضمونه فلا تعارض بين إشراكهما في الإجابة وانفراد موسى بالدعاء. وبعد أن طمأنهما الله - تعالى - على إجابة دعائهما أمرهما بالثبات على طريق الحق المستقيم ضمانا لنصرهما فقال - تعالى -: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: أي فاستمرا على طريق الحق طريق الطاعة والعبادة والدعوة إِلى التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحجة على أَعداءِ الله، ولا تسيرا في طريق الجهلاءِ الذين لا يعلمون باستعجال العذاب قبل أوانه، فإنَّ ما طلبتماه سيتحقق في وقته المقدر له وفقا لقضاءِ الله المحكم وحكمته البالغة. {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوإِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.

المفردات: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر}: أي وجعلناهم يجاوزونه ويعبرونه من الغرب إلى الشرق حتى وصلوا إلى شاطئه الشرقىّ. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ}: أي تبعهم حتى اقترب منهم، تقول: تبعته حتى أتبعته، إذا كان قد سبقك فلحقته، {بَغْيًا وَعَدْوًا}؛ أي ظلما، وتجاوزا للحد فيه. {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}: أَي حتى إذا لحقه الغرق. التفسير 9 - {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} الآية. بعد أَن أَخبر الله - تعالى - موسى وهارون - عليهما السلام - باستجابة دعائهما على فرعون وقومه، أَمرهما أن يخرجا ببنى إِسرائيل من مصر، فخرجوا على حين غفلة من فرعون وقومه فلما علم فرعون بخروجهم، خرج بجنوده في طلبهم بغيا وعدوا، فلما أدركهم قالوا يا موسى كيف الخلاص؟ والبحر أمامنا والعدو وراءَنا، فأوحى الله إِليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالظود العظيم، فسلك موسى ببنى إسرائيل طريقا في البحر يبسا ووصل فرعون وجنوده إِلى الساحل وكان طريق بنى إِسرائيل في البحر لا يزال باقيا: فسار فيه فرعون بجنوده فلما اكتملوا جميعًا فيه وهمَّ أَولهم بالخروج، انطبق البحر عليهم وأغرقوا أجمعين. {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ}: أي حتى إذا لحقه الغرق واقترب منه الموت، صحا من غروره، وندم على فجوره وأَعلن إيمانه فيما حكاه القرآن عنه بقوله: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: أَي قال فرعون آمنت بأَنه لا إله يعبد وحده إِلا الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل وصدقت بوحدانيته، وأكد قوله السابق بقوله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: أَي وأَنا واحد من جملة الذين أسلموا نفوسهم

لله تعالى - وحده - وبهذا الاعتراف أبطل ما كان يقوله استعلاءً وتجبرا: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. فأنت تراه في اعترافاته هذه قد بالغ في إعلان إيمانه حيث كرره بثلاث عبارات: 1 - {آمَنْتُ}. 2 - {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}. 3 - {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. وقد حدث منه كل ذلك طمعا في النجاة مما نزل به، وليت شيئا من ذلك كان منه حين ينفعه الإيمان - وذلك قبل اليأْس من الحياة، لأن تأْخير الإيمان إِلى وقت العقاب لا ينجى صاحبه، وقد دلت على ذلك الآية التالية: 91 - {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}: أَي أَتؤمن الآن حين لا ينفع نفسا إيمانها، وقد أَمضيت عمرك في المعصية، وكنت من الملازمين للإفساد في الأرض، أفلا قدمت إِيمانك، وأَجبت داعى ربك، وأَنت في فسحة من الأجل حين كان ينفعك إيمانك؟ ولكنك ندمت وآمنت بعد فوات الأَوان، فلم ينفعك الإيمان، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (¬1). روى الإِمام أَحمد والترمذي وابن ماجه - رضى الله عنهم - أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن الله يقبلُ توبةَ العبدِ ما لمْ يُغَرْغرْ" والغرغرة حشرجة الموت وقال تعالى -: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬2). 92 - {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}: بعد أن أَنكرت الآية السابقة على فرعون تأخير الإيمان بلا عذر إلى أَن حضره الهلاك، جاءَت هذه الآية لبيان خيبة أَمله وقطع رجائه وللسخرية منه. ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 85 (¬2) سورة النساء، الآية: 18

والمعنى: ففي هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وهارون وبنى إسرائيل من الغرق، يخرجك من البحر، ويلقى ببدنك على شاطئه خاليا من الروح، لتكون قصتك آية وعلامة لمن وراءك من أهل عصرك ومن يأتى بعدهم ممن يبلغهم خبرك، وتصل إلى أسماعهم عاقبتك، فيعرفون من هذه الآية أن الكفر بالله وخيم العاقبة، وأنه لا يصح للبشر أن يشاركوه في الأُلوهية أَو يستأْثروا بها، قيل إِن فرعون الذي أُرسِل إليه موسى هو منفتاح أَو رمسيس الثاني، وكلاهما جثة موجودة إِلى اليوم في المتحف المصرى والله أعلم، ومع ما في قصة فرعون من العبر فلم يلتفت إلى الإفادة منها كثير من الناس، كما قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}: أي وإِن كثيرًا من أهل مكة ومن غيرهم لغافلون، عن التفكير في آيات الله التي أَقامها أَو أَنزلها للفصل بين الحق والباطل لغافلون أَشد الغفلة، ساهون عن تدبر معانيها، والانتفاع بدلالاتها، ولو فعلوا لما ضلوا عن سواء السبيل. {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} المفردات: {بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: أَنزلناهم مكانًا صالحًا آمنًا وأسكناهم فيه. التفسير بعد أَن ذكر القرآن الكريم إِنعام الله على بنى إِسرائيل بإنجائهم وإِهلاك عدوهم جاءَت هذه الآية لبيان أحوالهم وما أَفاض الله عليهم من نعمه الوفيرة وأنهم لم يقوموا بشكرها. 93 - {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... } الآية. يؤكد الله - تعالى - أَنه أَنزل بنى إِسرائيل بعد أَن أنجاهم من طغيان فرعون وجنوده،

وخلصهم من مطاردتهم - أنزلهم - مكانًا صالحًا مرضيا، وأرضًا يجدون فيها الأمن والطمأنينة، ومع تهيئة المكان الآمن رزقهم أرزاقًا طيبة، فأنزل عليهم المن والسلوى وأتم عليهم نعمته. {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}: أي ظل هؤلاءِ يرفلون في نعم الله عليهم فما اختلفوا في أمر دينهم وما عصوا رسولهم موسى - عليه السلام - إلى أن قرأوا التوراة وعرفوا أحكامها فاختلفوا في فهمها، وانقسموا فرقًا في تأْويلها، كل فرقة تدعى أنها هي التي على الحق دون سواها، ويجوز أن يكون المراد ببنى إِسرائيل الذين اختلفوا، هم اليهود الذين كانوا في زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أَنهم كانوا قبل مبعثه عالمين بقرب مبعثه مجمعين على نبوته، مما عرفوه عنه في كتبهم من البشارة به وبيان أحواله وصفاته، فلما بعث اختلفوا فمنهم من آمن به ومنهم من كفر بغيا وحسدا، كما قال - تعالى -: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬1). ثم حذرت الآية المكذبين وطمأنت المصدقين ببيان أَن مصير الكل إلى الله يحاسب كلا على ما قدمت يداه وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: أَي إِن ربك أيها الرسول سيحاسب كلا بما كسبت يداه، ويحكم بالعدل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب المحقين ويعاقب أهل الباطل الظالمين. {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ¬

_ (¬1) سورة البينة، الآية: 4

المفردات: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: من الشاكِّين. التفسير 94 - {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ ... } الآية. بعد أن تحدثت هذه السورة عن قصص بعض المرسلين مع أُممهم، وآخرها قصة موسى مع فرعون وقومه، جاءَت هذه الآية تطالب من يشك في صدق هذه القصص التي ساقها الله للعبرة، وللدلالة على صدق محمد في نبوته، تطالبه بأن يسأل الذين يقرءُون الكتاب من علماءِ اليهود والنصارى، ليتأكد من وجودها في كتبهم، وليحمله ذلك على الإيمان بنبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فالخطاب في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْك} .. إِلخ موجه إلى من يتعرض للشك من الأُمة التي أُرسل إِليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس موجهًا للنبي - عليه الصلاة والسلام - لما سنبينه فيما يلي: اعلم أَن القرآن كما أُنزل إِلى الرسول وحيًا وتبليغًا أنزل إِلى أُمته أَفرادًا وجماعات عملًا وتكليفًا، فمن الأَول قوله تعالى في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) وقوله في سورة النساءِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ .... } (¬2) ومن الثاني قوله تعالى خطابًا للأُمة: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬3) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} (¬4). والمعنى: فإن كنت أَيها المكلف من أُمة الدعوة المحمدية، في شك من صدق ما أَنزلناه من هذه القصص على رسولنا إِليك لتعرف به صحة نبوته ورسالته - صلى الله عليه وسلم - فأسأل علماء اليهود والنصارى الذين يقرءُون كتبهم ويعرفون أَن هذه القصص قد وردت بها منقولة من جيل إلى جيل قبل وجودك، حتى تعلم من وجودها قديمًا في كتبهم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صادق في نبوته، وَثِقَةٌ في رسالته، فإنه أُمى لا يقرأ ولا يكتب ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 44 (¬2) النساء، من الآية: 105 (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 10 (¬4) سورة النور، من الآية: 34

أفهام خاطئة في معنى الآية

ولم يجالس من قرأها وعلم بها، فقد نشأَ بين قريش الوثنية، فهذا برهان واضح على أَن الله تعالى هو الذى أَعلمه بها وأَوحاها إِليه، وأنه صادق فيما أَبلغكم عن الله، وأَن الإيمان بنبوته فيه النجاة، وأَن الكفر بها يستتبع الهلاك. أفهام خاطئة في معنى الآية ويرى بعض المفسرين أَن الخطاب فيها للرسول - صلى الله عليه وسلم - لغرض تهييجه وإثارته، ليزداد ثباتًا على دينه، من غير احتمال وقوع شك منه، وهذا الرأْى لا يصح قبوله بحال من الأحوال، فإن فرض الشك فيه لأى غرض من الأغراض وبأَى تأْويل مما قالوه، مخالف للنقل مرفوض من جهة العقل، وخطأٌ فاحش استغله أعداءُ الإِسلام، وقالوا إن محمدًا لم يكن متيقنًا أنه رسول من الله - تعالى - وساقوا هذه الآية وتفسير المفسرين لها على هذا النحو تأييدًا لفريتهم، فكيف يصح عقلا أَن يفرض الشك في الرسول لغرض إثارته وزيادة تثبيته - كما أَولوا به موضوع فرض الشك فيه - فهل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحاجة إِلى مزيد تثبيته وإِثارته، لكي يزداد استمساكه بتبليغ دعوة ربه، كلا وألف مرة كلا، فقد سجل القرآن الكريم ما يناقض ذلك، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬1). وكيف يحتاج الرسول إِلى التثبيت وهو الذي كان يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى، على أن أَترك هذا الدين، ما تركته حتى يظهره الله أَو أهلك دونه". وكيف يحتاج إلى التثبيت وإِلى سؤال أَهل الكتاب ليزداد طمأْنينة، وهو الذي تحمل من إيذاء قومه ثلاثة عشر عامًا، ما لا تحتمله الشمُّ الرواسى، وشاركه في ذلك من آمن معه من المؤمنين حتى مات بعضهم من شدة العذاب، ألم يقاطعهم المشركون لا يؤاكلونهم ولا يزاوجونهم ولا يبيعونهم الطعام، حتى اضطروهم إلى الإقامة في شعب أَبي طالب ثلاث سنين، ووصل بهم الجوع هناك إِلى أن يأكلوا أَوراق الشجر وهم صابرون، وكيف يستطيع أن يحمل عبءَ هذه الدعوة ¬

_ (¬1) سورة النجم، الآيات: 10 - 18

الضخمة من هو بحاجة إِلى التثبيت، وكيف يعمل لها بهمة وصدق عزيمة لا تعرف الكلل، حتى دخل الناس في دين الله أَفواجا، وذاع في عهده وانتشر حتى غطى الجزيرة العربية كلها، فوالله لولا أَنه ثابت الجنان عظيم الاطمئنان، واثق من دين الرحمن، لما استطاع أَن يفلت من حصار أَهل الشرك له بمكة، بل كان يسلم لهم القياد، ويجيبهم إِلى ما يبتغون فأَسمعهم حين يخاطبهم خطاب الواثق من نفسه بأَنه يبلغ عن الله - تعالى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) ولقد علم الناس من سيرته الوثيقة، أَنهم عرضوا عليه الرياسة والمال بعد أَن يئسوا من استجابته بالإِيذاءِ فأَبى وقرأَ عليهم سورة فصلت، وقد جاءَ فيها: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬2). فهل يكون هذا حال من هو محتاج إِلى التثبيت .. ؟ ولقد أَحسن البيضاوى إِذ حكى في آخر كلامه، رأْيًا لبعض المفسرين أَن الخطاب في قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ .. } إِلخ لكل من يسمع، وقال في معناه على هذا الرأْى: أَي إِن كنت أَيها السامع في شك مما أَنزلنا على نبينا إليك {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ}. ولو أَن الإِمام البيضاوى وغيره اقتصر على هذا الرأْى، ولم يذكر معه سواه - لا قَبْله ولا بَعْده - لكان قد أَسدى خيرًا للحق الذي يجانب غيره من تلك الآراءِ الفاسدة، المخالفة لنص القرآن ولواقع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهمة ومضاءِ العزيمة، ومن ثباته على دينه رغم المغريات من الملك والمال، بعد أَن لم يصرفه عن دينه الإِيذاءُ والاستهزاءُ. {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: لقد جاءَك أَيها المكلف الحق من ربك فلا تكونن من أَصحاب الشكوك والأَوهام، بل كن من ذوى الإيمان الثابت بهذا الحق المبين. 95 - {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: هذه الآية خير شاهد لما قلناه من أَن الخطاب ليس موجهًا إِلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية 104 (¬2) الآية: 13

بل إِلى كل مكلف من أُمة الدعوة المحمدية، فإِن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يتصور منه أَن يكون مكذبا لآيات الله وهو يدعو الناس إلى الإِيمان بربه. والمعنى: وكما نهيناك أيها المكلف عن الشك فيما أَنزلناه إليك على لسان محمد، ننهاك عن التكذيب بآيات الله، فلا تكونن من جملة المكذبين بدين الإِسلام، فتكون بذلك التكذيب في عداد الخاسرين في الدنيا والآخرة. {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} التفسير في هاتين الآيتين بيان شدة إصرار أهل الكفر على الجحود والعصيان ولو جاءَتهم كل آية طلبوها أو لم يطلبوها، وأَن اقتراحهم ما هو إلا تعلة لرفضهم الإِسلام، لعدم تحقيقها وبيان ذلك فيما يلي: 96 - {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}: أي إن الذين حقت ووجبت عليهم كلمة ربك أي حكمه وقضاؤه بأَنهم لا يؤمنون، بل يموتون على الكفر ويخلدون في النار، بسبب ما علمه منهم من الإِصرار على تكذيب رسوله تكبرًا وعنادًا، وتقليدًا للآباءِ والأجداد، فآثروا الضلالة على الهدى، مع وضوح الحق، ودوام التذكير. 97 - {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}: أَي إن هولاءِ الذين حكم الله بعدم إيمانهم وخلودهم في النار بسبب اختيارهم العمى على الهدى لا يستجيبون لدعوة الحق ولو جاءَتهم كل آية كونية طلبوها أو لم يطلبوها، وكل آية نقلية من شأْنها أَن تجذب

القلوب إلى قبول الهدى والرشاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬1). {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}: أَي هؤلاء يستمرون على كفرهم وعنادهم فلا يصدقون بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة ولا يؤمنون إِلى أن يأْتيهم العذاب الأليم على كفرهم، فيؤمنوا حين لا ينفع نفسا إِيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا - كشأْن فرعون وأَمثاله ممن آمنوا عندما شاهدوا العذاب الذي أُنذِروه محيطا بهم من حيث لا يعلمون، وقد فات الأوان الذي ينفع فيه الإيمان. {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} المفردات: {فَلَوْلَا}: لولا كلمة تفيد الحث على الفعل بمعنى هلاَّ. {قَرْيَةٌ}: اسم للمبانى المتصلة التي يسكنها جمع من الناس، وقد جاءَ في القرآن الكريم أَن القرية والمدينة بمعنى واحد قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}. ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}. وقيل القرية بلدة أَصغر من المدينة - والمراد من القرية في الآية أهلها. التفسير 98 - {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ..... } الآية. بعد أَن بينت السورة قبل هذه الآية امتناع الإيمان ممن حكم الله عليهم بالخسران لاختيارهم طريق العصيان، مع تمكنهم من إنقاذ أنفسهم بالإيمان قبل فوات الأَوان، جاءَت ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 7

هذه الآية الكريمة ترتيبًا على ما تقدم لتقرير هذا المعنى: إذ بينت أَن الله تعالى قد أهلك الذين أَخروا إيمانهم من الأمم السابقة، حتى إذا عاينوا الهلاك قالوا آمنا. والمعنى: فهلا كان أهل كل قرية بعث الله إِليهم رسولا، بادروا إِلى الإيمان بما جاءَهم به قبل أَن يحيط العذاب بهم فيقبله منهم وينجيهم من الهلاك: لكن لم يبادروا بالإيمان قبله فهلكوا. {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}: أَي لكن قوم يونس - عليه السلام - لما آمنوا عندما رأَوا أَمارات العذاب، وتابوا إِلى الله - تعالى - قبل حلوله بهم، أَزال الله عنهم عذاب الذل والهوان في الحياة الدنيا وكشفه عنهم بعد أن كاد يقع بهم، ومتعهم بما في الدنيا من زينة ونعيم ومتاع إلى انقضاءِ آجالهم، لمسارعتهم إِلى التصديق بما جاءَ به رسولهم عند رؤيتهم أَمارات العذاب. روى عن عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير وعبد الله بن عباس أن يونس - عليه السلام - أرسل إِلى أَهل نينوى من أَرض الموصل - وكانوا أهل كفر وشرك - فكذبوه وأصروا على ذلك، فأوحى الله إِليه أنْ أَنذرهم أن العذاب يصبحهم بعد ثلاث ليال، فأخبرهم بذلك، فلما قرب موعد الإنذار غامت السماء غيمًا أَسود هائلا، ذا دخان شديد، فهبط حتى غشى مدينتهم، فاستولى عليهم الخوف والفزع، فطلبوا يونس فلم يجدوه، فأَيقنوا صدقه فلبسوا المسوح، وخرجوا إِلى الصحراءِ بأَنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب، فَحَنَّ بعضها إِلى بعض - فَحَنَّت الأولاد إلى الأُمهات والأُمهات إلى الأَولاد وعلت الأَصوات والضجيج، وأَخلصوا النية وأَعلنوا إيمانهم، وتضرعوا إِلى الله فاستجاب دعاءهم فرحمهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أَظلهم، وليس هذا الذي نقلناه عن عبد الله بن مسعود وغيره حديثًا مرفوعًا بل هو أَثر مروى عنهم في تفسير الآية والله تعالى أعلم.

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} التفسير 99 - {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا .... } الآية. كان - صلى الله عليه وسلم - لفرط شفقته على أمته حريصا أَشد الحرص على إِيمان الناس جميعًا، وللوصول إلى تلك الغاية حمل نفسه أَعباء ثقيلة، ومتاعب جسيمة، فخفف الله عنه، ببيان أَنه ليس مكلفًا بإكراه الناس على الإِيمان، وحملهم جميعًا عليه، فليس عليه إلا البلاغ وقد فعل، وحسبه التبليغ الذي لا يرهقه، فإن الهداية من الله. والمعنى: ولو شاء ربك أَيها الرسول إيمان من في الأرض جميعًا من الجن والإِنس لآمنوا كلهم لا يشذ منهم أحد، لكن مشيئته - تعالى - الموافقة لحكمته البالغة اقتضت أن يكون الناس فريقين: فريقا شاءَ الله إيمانه فيؤمن لا محالة وهم الذين اختاروا الهدى فيوفقهم الله - تعالى - إِليه، وفريقًا شاء الله كفره لسوءِ نيته فيكفر لا محالة. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}: أَي أَفَأَنت مطلوب منك أَن تكره الناس علي دينك حتى يصيروا مؤمنين به؟ كلاّ. فاشفق على نفسك فما عليك إِلا البلاغ، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (¬1) ولا تُحَمِّل نفسك المصاعب والمشاق، بالمبالغة في دعوة المعاندين المستكبرين {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 8 (¬2) سورة الكهف، الآية: 6

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} المفردات: {بِإِذْنِ اللَّه}: بإِرادة الله. {الرِّجْسَ}: يطلق على القذر حسيًّا كان أَو معنويًّا، ومن المعنوى الذنب والكفر، وَكُلُّ يصح أن يراد هنا، وقد يطلق على العذاب والشك وغير ذلك. التفسير 100 - {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}: أخبرنا الله تعالى في الآية السابقة أَنه لو شاءَ لهدى الناس جميعًا، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك إكراه الناس على الإِيمان ولم يكلف به، ثم أَخبرنا في هذه الآية أَن إيمان أَي نفس متوقف على إرادة الله، فلا تستطيع نفس أَن تهتدى إِلا إذا أَراد الله هدايتها، فإِن الهدى هدى الله وحده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} (¬1) ومن سنن الله في خليقته أَن يهدى من هو أَهل للإيمان به من أصحاب الفطر السليمة {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬2). ومن الذين أَحسنوا استعمال حواسهم وعقولهم في سبيل الوصول إلى الحق، أما الذين ألغوا حواسهم وأَهملوا عقولهم، واتبعوا أَهواءَهم واستقبلوا الرسالات السماوية بالعناد واللجاج، وآثروا الضلال على الهدى، فهم غير أهل للهداية والإيمان، فلا يأذن به ولا يعينهم عليه بسبب سوء اختيارهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 73 (¬2) سورة الزمر، من الآية: 18

{بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬1). وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬2) وهذا الصنف هو الذي يشير إليه قوله تعالى في آخر الآية: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} فالرجس هنا بمعنى الكفر ليقابل الإيمان في صدر الآية. والمعنى: أَنه تعالى يجعل الكفر قضاءً منه على الذين عطلوا عقولهم فلم ينتفعوا بآياته، ولم يهتدوا برسله، كما أَذن بالإيمان وحكم به وأَعان عليه الذين يعقلون ويهتدون بهداه، ويؤمنون برسله. {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} المفردات: {انْظُرُوا}: تفكروا واعتبروا. {النُّذُر}: جمع نذير وهو الذي ينبه الناس إِلى الخطر. التفسير 101 - {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: بينت الآية السابقة أن الهدى بإذن الله لمن هو أهل له، ممن يستعملون عقولهم في فهم آياته، وأن الرجس - أَي الكفر - قضى الله به على من لا يعقلون ولا يتدبرون فيها، وجاءت هذه الآية آمرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يحث الناس على التفكر في آياته حتى يتيسر لهم الإيمان بالحق تبارك وتعالى. والمعنى: قل لهم يا محمد تأملوا وتفكروا في عجائب صنع الله في السموات وما تضمه من مجرات ونجوم وكواكب، وانظروا ما في الأرض وما يتعاقب فيها من ليل ونهار ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية: 179 (¬2) سورة فصلت، من الآية: 46

وفصول متوالية، وما يطرأْ عليها من زوابع عاتية وهواء عليل، وما تضمه من جبال وبحار، ومحيطات وقارات، ومن صحارى جدباء، وحدائق غناء، ومروج خضراء، وما يجرى على سطحها من جداول وأَنهار، وما يستقر في جوفها من مناجم وكنوز، وما يعتريها من زلازل وبراكين، وما تراه فوقها من إنسان وحيوان ونبات، انظروا في هذا كله وغيره من عجائب خلق الله، فإنه يهديكم إِلى معرفة الله، ويدعوكم إلى إِفراده بالعبادة والتقديس. {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}: "ما": إما أن تكون نافية أو استفهامية، فعلى النفى يكون المعنى: أن آيات الله الكونية وآياته المنزلة على الرسل بالتبشير والإنذار، لا تغنى هؤلاءِ الكفار ولا تنفعهم في الاهتداءِ إِلى الإيمان، ما داموا مصرين على الكفر والضلال، وعلى أَن "ما" استفهامية يكون المعنى: كيف يمكن أَن تنفع الآيات والنذر هؤلاءِ الممعنين في الضلال المصرين على عدم الإيمان؟ {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} المفردات: {يَنْتَظِرُونَ}: يترقبون ويتوقعون. {خَلَوْا}: مضوا. التفسير 102 - {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}: في هذه الآية الكريمة إنذار بعقاب الله لمن ينصرفون عن الله ويحجبون أَبصارهم وبصائرهم عن الهداية، وتذكير لهم بما أَصاب الأُمم السابقة التي أَصرت على الكفر، وما حل بها من عذاب شديد، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ

مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). والمراد من الاستفهام في قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ} النفى، أَي لا ينتظر هولاءِ الكفار أَثرا لكفرهم إلا أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من عذاب ونكال، والمراد أَن العقاب الشديد سيحل بهم لا محالة، فهم في حكم المنتظرين لهذا العقاب {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}: قل لهم يا محمد فانتظروا وترقبوا آثار إصراركم على الكفر، فإنى مترقب معكم ما سيصيبكم من عذاب إِن ظللتم مصرين على الكفر والإنكار. 103 - {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا}: بعد أن أفادت الآية السابقة أَن الهلاك يحل بالكفار المعاندين، جاءَت هذه الآية تفيد أن الله سبحانه سينجى رسله والذين آمنوا معهم مما أصاب كفار قومهم من عذاب وتنكيل؛ لأن عدالة الله تقتضى ألا يعذب قوما بذنوب آخرين، قال تعالى في قوم هود: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (¬2). وقال سبحانه في قوم صالح: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)} (¬3). {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}: أَي كما أنجى الله الأنبياء والمؤْمنين مما أَصاب أَقوامهم، كذلك اقتضت عدالته وصدق وعده، أن ينجى المؤْمنين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مما يتعرض له الكفار المصرون على الكفر والضلال، قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 40 (¬2) سورة هود، الآية: 58 (¬3) سورة هود، الآية: 66، 67 (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 9

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} المفردات: {يَتَوَفَّاكُمْ}: يستوفى آجالكم، بقبض أَرواحكم. {وَجْهَكَ}: المراد من الوجه: الذات أَو القلب أو القصد. {حَنِيفًا}: منصرفا عن الباطل مقبلا على الحق. التفسير بعد أَن بينت الآيات السابقة، ما ينتظر الكافرين من الهلاك، وما يتوقعه المؤمنون من الفوز والنجاة - أَمر الله رسوله في هذه الآيات أن يعلن الكافرين أَنه لن يعبد ما يعبدون، وأن الله أَمره بالإِخلاص في عبادته وحده، وفيما يلي بيانها: 104 - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: أَي قل يا محمَّد للمشركين باللهِ الشاكين في نبوتك يأَيها الناس، إِن كنتم في ريب وشك من دينى، حتى أدى بكم الشك فيه إِلى تكذيبى فيما جئتكم به، فاعلموا أننى مؤمن إِيمانا راسخا بما أنزله الله تعالى علىّ، ثابت كل الثبات على عقيدتى، فلا تتوقعوا منى أَن أجنح إلى مشاركتكم في عقيدتكم، وعبادة آلهتكم التي عبدتموها من دون الله بغير حق. {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}: أَي ولكننى أَعبد الله - تعالى - الذي يستوفى آجالكم، بقبض أَرواحكم فهو الجدير بالعبادة والتقديس، فاعرضوا عقيدتى هذه على عقولكم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا

صحتها وفساد ما أنتم عليه من عبادة آلهة لا شأْن لها في إحياءٍ ولا إماتة - وإنما خص التوفى بالذكر لتهديدهم. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: أَي وأَمرنى الله تعالى أن أَكون من المتمسكين بالإيمان به، وعدم المبالاة بآلهتكم، فإنهم {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬1). 105 - {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: المراد من إقامة وجهه - صلى الله عليه وسلم - للدين، استقامته في الاتجاه إِليه، وقد أكد ذلك بقوله: {حَنِيفًا}: أي مائلا عن الأديان كلها إليه، أي وكما أَمرنى الله تعالى بالإيمان به - أمرنى سبحانه بالإخلاص في الاتجاه إِلى دينه بقلبى وجوارحى، وأَقوالى وأَفعالى، بحيث لا يصرفنى عنه صارف، وأَمرنى أَيضًا أن لا أشرك في عبادته أَحدا حتى لا أَكون كهؤلاءِ الذين قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬2) وقد عرفت من هذا العرض أن الآية السابقة دعت إلى الإيمان، وأن هذه الآية دعت إلى الإخلاص في الإيمان، والحرص على صفائه ونقائه وثباته، والحذر من أن يتطرق إليه أي شك أَو لبس والخطاب وإِن كان موجها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمؤمنون داخلون في حكمه، فهم مطالبون بالإخلاص في دينهم، وقد جاءَ ذلك صراحة في قوله - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬3): أَي الذين صدقوا بإِخلاص، ولم يخلطوا إِيمانهم بشرك يظلمون به أَنفسهم، ويعتدون به على الحق، أولئك لهم الأَمن من المكاره، وهم مهتدون إلى الحق وإِلى عظيم الثواب، وقال - ¬

_ (¬1) الفرفان من الآية: 3 (¬2) يوسف من الآية: 106 (¬3) الأنعام الآية: 82

صلى الله عليه وسلم - محذرا من الشرك: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل" أَخرجه الإِمام أحمد والطبرانى. 106 - {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ}: جاءَت هذه الآية، لزيادة تأْكيد ما جاءَ في الآيات السابقة، فقد نهى الله فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الاتجاه في دعائه وعبادته، إلا إِليه وحده لأنه سبحانه هو الذي يملك جلب المنافع ودفع المضار، أَما الآلهة المزعومة، فلا تملك أَنْ تنفع ذاتها أَو أن تدفع الضر عنها، فكيف تملك لغيرها نفعًا أَو ضرًّا؟! {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}: الخطاب - هنا وفيما سبق - موجه للمسلمين عامة في جميع العصور، وإن بدا في لفظه إِلى شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإنك تكون - حينئذ - من الظالمين لأَنفسهم بالشرك. واستعمال أَداة الشرط (إن) تفيد استبعاد أن يدعو الرسول والمؤمنون غير الله - تعالى - بعد إيمانهم به سبحانه وتعالى. والآية تنهى نهيًا حاسمًا، عن الاتجاه بالدعاء إلى غير الله، كائنا ما كان كما جَاءَ في الحديث الشريف. الذي ذكرت فيه وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عمه عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما -: "وإذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىءٍ، لم ينفعوك إِلا بشىءٍ قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أَن يضروك بشىءٍ لم يضروك إلا بشىءٍ قد كتبه الله عليك. رفعت الأَقلام وجفت الصحف". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} المفردات: {يَمْسَسْكَ}: يصبك. التفسير نهت الآية السابقة، عن الاتجاه بالدعاءِ إلى ما لا ينفع ولا يضر. وقررت أَن هذا إشراك بالله - تعالى - وجاءت هذه الآية لتؤكد أن النفع والضر، من الله وحده. وفيما يلي بيانها: 107 - {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}: أي: وإِن يصبك الله بما يضرك، من قحط أَو فقر أَو مرض. أَو خوف أَو إِيذاءٍ أو غيرها، فإِن أحدًا لن يستطيع أَن يزيل عنك ما أصابك إِلا الله وحده {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1). والناس يتعرضون للضر، ابتلاءً من الله - تعالى - واختبارًا منه لعباده. ليظهر مدى إيمانهم وصبرهم، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬2) وقد يتعرض الناس للضر، عقابًا لهم على ما اجترحوا من آثام لكي يعودوا إلى الله بالتوبة والاستغفار، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (¬3) وقال جل شأنه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (¬4). وقد يكون هذا التعرض تكفيرًا للذنوب أَو رفعة للمنزلة. ¬

_ (¬1) الشورى الآية: 28 (¬2) البقرة: 155 (¬3) الأنعام من الآية: 42 (¬4) الشورى: 30

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يُصِيبُ الْمُسِلمَ من نَصَبٍ وَلَا وَصَب، وَلا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ، ولا أَذى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَة يُشَاكها إلَّا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاه" (¬1). وقد جرت سنة الله تعالى، أن لا يديم الضر على عباده، بل يكشفه عنهم، كما يشير إليه قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (¬2). {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}: والمعنى: أَنه - تعالى - إن يرد عبده بخير من فضله، فلن يستطيع أحد منع هذا الخير عنه، فإن إرادته - جل وعلا - نافذة، وفضله سبحانه لا يستطيع أَن يرده أحد من خلقه. وكما يكون الضرُّ ابتلاءً من الله لعباده لإظهار مدى إِيمانهم وصبرهم، يكون الخير كذلك لإظهار مدى شكرهم لله وإقبالهم عليه - تعالى ـ قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3) وقد يكون الخير تكريمًا من الله لعباده الصالحين، وتعجيلا بنصيب من الثواب في الدنيا قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬4). وكما قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬5). {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: أَي والله - سبحانه وتعالى - عظيم المغفرة واسع الرحمة. يفسح لعباده مجال التوبة والاستغفار قبل أَن ينزل بهم العقاب، فإنه - سبحانه -: {أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (¬6). ومن فضل الله ورحمته أنه يتجاوز عن كثير من السيئات، كما قال عز وجل: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬7). ولا يؤاخذهم عاجلا بما كسبوا، كما قال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (¬8). وكما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المرض عن أبي سعيد الخدرى (باب ما جاء في كفارة المرض). (¬2) سورة الطلاق الآية: 7 (¬3) سورة الأنبياء الآية: 35 (¬4) سورة النحل من الآية: 30 (¬5) سورة الطلاق من الآية: 4 (¬6) ختام المدثر. (¬7) سورة الشورى من الآية: 30 (¬8) سورة فاطر من الآية الأخيرة. (¬9) سورة الكهف: آية 58

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} المفردات: {بِوَكِيلٍ}: الوكيل، من يُوكل إليه الأَمر. التفسير 108 - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ..... } الآية. أثبتت الآيات السابقة، أن الذي يملك الهداية، والنفع والضرَّ والموت والحياة هو الله وحده، فهو الجدير بالعبادة والتقديس، وجاءَت هذه الآية لتبين أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَدى رسالته للناس على وجهها الحق، وأنه ليس مسئولا عنهم إن أعرضوا عنها. والمعنى: قل يا محمَّد لأُمتك: يا أَيها الناس قد جاءَكم من ربكم الدين الحق، الثابت بالمعجزات والبراهين العقلية والنقلية، وقد أصبح الحق واضحًا لا شك فيه، فلا عذر لأَحد في التكذيب به، أو العمل بما يخالفه. {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}: أي فمن اهتدى إلى هذا الدين الحق بالإيمان والمتابعة فإنما يهتدى لمنفعة نفسه دون سواها. {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}: ومن ضل عن هديه وانصرف عنه، فما وبال ضلاله إِلا على نفسه دون غيرها، فلا منفعة لله ولا لرسوله من اهتدائكم، ولا ضرر على الله ولا على رسوله من ضلالكم، أَخرج مسلم في صحيحه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ: "يَا عِبَادِى إنَّكُم لَن تَبْلُغُوا ضرِّى فَتَضرُّونِى. وَلَن تَبْلغُوا نَفْعِى فَتَنفَعُونِى يا عبادى لوْ أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم، وإنْسَكُم وِجنَّكُم، كَانُوا عَلَى أَتقى قلب رَجُلٍ واحدٍ مِنْكُم،

مَا زَاد ذَلك فِى مُلكِى شَيئًا .. يا عبادى لو أن أَوَّلكم وآخِرَكم وإنْسكُم وجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُم، مَا نَقَص ذَلِك مِنْ مُلكِى شيئًا" (¬1).فالله - سبحانه - غنى عن الناس، والناس جميعًا مفتقرون إِلى رحمته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬2). {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: وقل لهم أَيها الرسول: إن الذي كُلِّفتُ به هو أداء، رسالة الله إليكم. وقد أَديتها كاملة ولم يوكل إِلىّ إرغامكم علي اتباعها؛ لأننى لست عليكم بمسيطر. كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬3). 109 - {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}: بعد أَن أمر الله رسوله بتبليغ قومه أنه جاءَهم بالحق من ربهم، وأن عاقبة الاهتداءِ إِليه والضلال عنه لا تلحق سواهم، وأَنه ليس مكلفًا بقهرهم على الاهتداءِ، أمره في هذه الآية بالثبات على اتباع وحيه، والصبر حتى يأْتى النصر. والمعنى: دم على ما أنت عليه من اتباع وحى الله - تعالى - ولا تدخل اليأْس على نفسك بسبب إصرارهم على كفرهم، واصبر على ما تتعرض له من إِيذاءِ المشركين وعنتهم وإِمعانهم في الضلال، حتى يقضى الله تعالى فيهم قضاءَه، وينفذ فيهم مشيئته وحكمه، فإنه أَعدل الحاكمين. وقد نفذ الرسول ما أَمره الله به من ملازمة الاتباع، ومداومة الصبر، وصبر معه المؤمنون وتحملوا أَذى المشركين، حتى صدق الله وعده وأعز جنده، وهزم المشركين وحده، وجاءَ نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أَفواجًا، والحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) رواه أبو ذر الغفارى - رضى الله عنه - والحديث طويل وهذا جزء منه. (¬2) سورة فاطر الآية: 15 (¬3) الغاشية الآيتين: 21، 22

سورة هود

بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود هذه السورة مكية: روى الترمذي والطبرانى - وغيرهما - أن أَبا بكر - رضى الله عنه - قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما شيّبَكَ؟ قال: شَيبَتْنى هُودٌ وأَخَواتها". وفي رواية أخرى: "شيبتنى هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون" والمراد: ما فيها من ذكر ما أَصاب الطغاة من عذاب شديد، في الدنيا وما ينتظرهم من أهوال يوم القيامة التي تجعل الولدان شيبا. وأهم مقاصد السورة ما يلي: 1 - الحديث عن القرآن الكريم وأَحكامه من لدن حكيم خبير، ودعوة الناس للعمل بما فيه من عقائد وأَحكام شرعية، ليمتعهم متاعًا حسنا ويؤتى كل ذى فضل فضله، وبيان أن المرجع إليه - سبحانه - وأنه على كل شيءٍ قدير. 2 - الحديث عن علم الله تعالى وإحاطته - عز وجل - بمكنون الظمائر، وتكفله برزق كل دابة ومعرفته جميع أَحوالها وحركاتها وسكناتها. 3 - الإشارة إلى آيات الله الكونية، في خلق السموات والأرض والعرش العظيم، وأنه اختبرنا بالتكاليف ليبلو عباده أيهم أحسن عملا. 4 - الحديث عن إِعجاز القرآن الكريم، وعجز البشر عن محاكاته، وأن هذا كافٍ في الدلالة على أنه من عند الله، وأن الله أيَّد به رسوله، وأَن ما يدعونه من افترائه على الله زعم باطل. 5 - بيان موقف الناس من الإِسلام، وذكر ثواب المطيعين وعقاب المسيئين - وأن مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، وأَنهما لا يستويان مثلًا. 6 - الحديث عن قصة نوح - عليه السلام - وقوعه، والطوفان، ونجاة المؤمنين وهلاك المكذبين الكافرين ليعتبر كفار قريش ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم. 7 - بيان قصة هود - عليه السلام - مع قومه عاد، ونجاة المؤمنين منهم وهلاك العاصين المتمردين، ليكون في نبئهم عبرة لأُولى الأَلباب.

8 - قصة صالح - عليه السلام - مع قومه "ثمود" ونجاة المؤمنين منهم وهلاك المكذبين بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، جزاءَ كفرهم وتكذيبهم لرسول الله إليهم. 9 - قصة إبراهيم - عليه السلام - وتبشير الملائكة له بإِسحق ومن ورائه يعقوب - عليهما السلام -. 10 - قصة الملائكة وزيارتهم لوطا عليه السلام. وإهلاك الله لقومه بإِبادة قراهم، وإِمطارهم بحجارة من سجيل، جزاءَ شذوذهم الشهوانى، وكفرهم بآيات ربهم. 11 - قصة شعيب - عليه السلام - وتمرد قومه عليه وإهلاكهم بالصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها، كما حدث لقوم صالح - عليه السلام - ونجى الله شعيبا ومن آمن معه. 12 - قصة موسى وفرعون، وبيان أَن قوم فرعون اتبعوا أَمره، فأَهلكهم الله وأتبعهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة بسبب كفرهم. 13 - الإشارة إِلى سنة الله في عقاب الكفار في الدنيا، ونجاة المؤمنين بقوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وبيان أَن في ذالك آية لمن خاف عذاب الآخرة. 14 - بيان حال الكافرين الأَشقياء في الآخرة من الخلود في النار وزفيرهم وشهيقهم فيها، وبيان حال المؤمنين السعداء فيها، من الخلود في الجنة والنعيم المقيم فيها. 15 - بيان أنه - تعالى - قص على رسوله صلى الله عليه وسلم قَصَصَ إخواته الأنبياء مع أُممهم، ليُثَبِّتَ بها فؤادَه، وموعظة وذكرى للمؤمنين. بسم الله الرحمن الرحيم {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}

المفردات: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}: نظمت آياته نظمًا محكمًا لا خلل فيها ولا تناقض ولا اضطراب. {فُصِّلَتْ}: ذكرت فيها الأُمور التي يحتاج إليها العباد في عقائدهم وسلوكهم ومعادهم ومعاشهم مفصلة مبينة. {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ}: من عند إِله مبدع للأُمور على خير وجه. {خَبِيرٍ}: عليم بما كان وما يكون، ظاهرًا أو خفيًّا. {نَذِيرٌ}: محذر لعباد الله من سوءِ عاقبة الكفر والعصيان. {بَشِيرٌ}: مخبر بما يسر الصالحين من ثواب الله. التفسير 1 - {الر}: تحدثنا في أَول سورة البقرة عما بُدىء به بعض السور من مثل هذه الفواتح، وذكرنا آراءَ المفسرين فيها، وأرجح الآراء في تأْويلها هو أنها ترمز إِلى التحدى بأَن يأْتوا بمثل هذا القرآن المؤلف من كلمات وجمل ذات حروف مما ينظمون منها كلامهم، إِن كانوا صادقين في زعمهم أن الرسول تَقَوَّلَهُ على الله، فإذا عجزوا عن الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه مع ما يمتازون به من الفصاحة والبلاغة وحسن البيان، فمحمد مثلهم وشأْنه شأْنهم فهذا دليل على أَن القرآن من عند الله وأَنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1). وتكرارها في القرآن على هذا الرأْى تكرار للتحدى، وقيل: إِن المقصود بها هو تنبيه السامعين إِلى ما يأْتى بعدها. {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}: هذا كتاب كريم، أنزل الله آياته البينات في غاية الإِحكام، فهي فصيحة الكلمات، بليغة العبارات متناسقة الموضوعات، رائعة المعانى غزيرة الفوائد، لا يمكن أَن يتطرق إليها أي اضطراب أَو اختلال كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). ¬

_ (¬1) فصلت الآية: 42 (¬2) النساء من الآية: 82

وكما هي متقنة في أُصولها، فهي متقنة في تفصيلاتها الفرعية في قوة، ودقة، ووضوح لأنها مُنَزَّلَة من الحكيم الذي يضع الأُمور في مواضعها، الخبير بما كان وما هو كائن والعطف بحرف (ثُمَّ) لإفادة علو مرتبة التفصيل، لوفائه بحاجات البشر. 2 - {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}: جاءَت هذه الآية مبينة المقصود من إنزال القرآن محكما ومفصَّلا - وهو الدعوة إلى الإيمان باللهِ سبحانه وتعالى والتوجه إليه - عز وجل - وحده بالعبادة، دون شريك، وهذا هو جوهر الرسالات السماوية. والمعنى: هذا كتاب أُحكمت آياتُه وفصلت من عند الحكيم الخبير، لكيلا تعبدوا غير الله - تعالى - فإِننى لكم منه منذر فلا تعصوه خوفا من عقابه، ومبشر فأَقبلوا على طاعته طمعا في ثوابه. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المفردات: {تَوَلَّوْا}: أَصلها تتولوا أَي تعرضوا. {مَرْجِعُكُمْ}: مصيركم. التفسير 3 - {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: هذه الآية مكملة للآية السابقة في المعنى. والمعنى: هذا كتاب أُحكمت وفصِّلت آياته من عند الله - وحده - لكي تعبدوه دون سواه وتستغفروه وتتوبوا إليه من ذنوبكم ومعاصيكم، على أَن تكون توبة نصوحا، وهى المنبعثة

عن الندم، مع العزم على تجنب المعاصي والآثام والإكثار من الطاعات، فإِنها تمحو السيئات، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1). وقد بينت الآية أن من ثمرات الاستغفار والتوبة، أن الله يمنُّ على صاحبهما بالثواب العاجل في الدنيا، فيغمره بفضله وإِحسانه فيها، حى يوافيه أجله المحتوم المقدر عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬2). وأدنى المتاع الحسن في الدنيا، الأمن والدعة وراحة النفس والرضا بما قسم الله - تعالى - والصبر على المحن. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}: أي ويمنح في الآخرة كل صاحب فضل في دينه جزاء فضله، بعد أن متَّعه في دنياه، متاعًا حسنا. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}: وإن تنصرفوا عمَّا دعوتكم إليه من طاعة الله والتوبة من المعاصي فإنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول، رهيب الجزاءِ، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬3). 4 - {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}: أي إِلى الله - وحده - مصيركم ومآلكم، بعد هذه الحياة. فعليهم أَن تتزودوا لهذا المصير بما يجزل الله لكم به الثواب ويقيكم العذاب - قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (¬4). {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ختم الله الآية بهذه الجملة، ليعلم العباد أَن من كان قادرا على كل شيء فهو - عز وجل - قادر على بعثهم، ومجازاتهم بما يستحقون من ثواب وعقاب، وأَن عليهم أَن يتقوه ¬

_ (¬1) هود من الآية: 114 (¬2) نوح الآيات: 10 - 12 (¬3) الحج الآية: 2 (¬4) البقرة من الآية: 197

ويحذروا عقابه، ويدعوه مستغفرين تائبين طامعين في فضله وإحسانه، كما قال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} المفردات: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}: يطوون قلوبهم على ما فيها من نوايا. {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}: ليستروا أَنفسهم عنه سبحانه. {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ}: يوارون أنفسهم بثيابهم. التفسير 5 - {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}: تحدثت الآيات السابقة عن وجوب الإيمان باللهِ واستغفاره، والتوبة إِليه من الذنوب ليمتعهم في الدنيا متاعا حسنًا، ويؤتى في الآخرة كل ذى فضل ثواب فضله حين يرجعون إِليه، وجاءَت هذه الآية تبيّن إصرار المشركين على الكفر، وتنذرهم بأَن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأَنه سيجزيهم بما كانوا يعملون. ورأَى بعض المفسرين: أَن هذه الآية نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يخفون الكفر ويظهرون الإِيمان، ولكن هذا الرأْى لا يناسب ما تقدم عليها وما تأخر عنها، من وعظ المشركين وإِنذارهم مَغبَّة ما هم عليه، في حين أَن السورة مكية، فلا ينبغي أَن يُقْحم أَمر ¬

_ (¬1) الأعراف من الآية: 56

المنافقين بين ما هو مرتبط بمسلك المشركين بمكة، قال العلامَةُ البيضاوى بعد حكايته القول بأنها نزلت في المنافقين وفيه نظر، إذ الآية مكية، والنفاق حدث في المدينة اهـ. ويؤيد ذلك ما روى عن ابن عباس في سبب نزولها، فقد روى عنه أَنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلًا حلو المنطق حسن السياق للحديث، يظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحبة، ويضمر في قلبه ضدها. والمعنى: ألا إن الكافرين الذين لم يتأثروا بآيات القرآن، يطوون صدورهم على الكفر وعداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ينتفعون بتلك الزواجر التي تقدمت في صدر السورة، يريدون أن يخفوا أَمرهم عن الله، أو يعتقدون أن أمرهم يخفى عليه، ثم رد الله عليهم وخطَّأَ مسلكهم فقال: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: ليس المراد من استغشائهم ثيابهم المعنى الحقيقى، بل المراد: مبالغتهم في إِخفاء أَمرهم فهو من التعبيرات الكنائية، ويدل لذلك قوله تعالى في ختام الآية: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} والمعنى: ألا إنهم حين يبالغون في ستر حالهم وإِخفاءِ كفرهم وعداوتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويستخفون تحت ظواهرهم من المودة والملاطفة، يعلم الله ما يخفونه من الكفر باللهِ والعداوة لرسوله، وجميع ما تنطوى عليه جوانحهم، ويعلم ما يعلنونه من جميع ظواهرهم، وصدق الله إذ يقول في سورة سبأ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الإدارة محمد حمدى السعيد رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1979 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 693 س 1979 - 25004

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} المفردات: {دَابَّةٍ}: هي اسم لكل حيوان يدب على الأرض زحفا أو على قوائم، مأخوذة من الدبيب وهو الانتقال البطىء، والمقصود منها هنا جنس الحيوان من ماشية وسباع وهوام وحشرات وغيرها ويدخل فيها الإِنسان، فإِنه يدب على الأرض، ومنه قول الشاعر: إِنما الشيخ من يدب دبيبا. {مُسْتَقَرَّهَا}: موضع استقرارها وإقامتها. {وَمُسْتَوْدَعَهَا}: ومكان استيداعها ووجودها إِلى حين تنقل بعده إلى غيره. {كِتَابٍ مُبِينٍ}: هو كناية عن علم الله تعالى، أو هو اللوح المحفوظ. التفسير 6 - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا .... } الآية. بين الله في الآية السابقة أن الكافرين مهما حاولوا الاستخفاء من الله تعالى بما يظنون أَنه يخفيهم عنه، ومهما تستروا في كفرهم وعداوتهم للرسول فإِنهم لا يخفون على الله العليم بما يسرون وما يعلنون، وجاءَت هذه الآية لتقرر ما سبق، ببيان شمول رزقه تعالى وعلمه لكل دابة في الأرض. والمعنى: وما من حيوان في أي جزءٍ من أَجزاءِ الأرض، ذكرا كان أو أُنثى يمشى على رجلين أَو يمشى على أَربع، أو يمشى على غير هذه الصور، إلا تكفل الله برزقه اللائق به، وأوجبه على نفسه تفضلا وإحسانا. وكما تكفل برزقه أينما كان يعلم مستقره وموطنه الذي ولد ونشأ فيه، ومستودعه الذي يرحل إليه لطلب الرزق وغيره، كما يعلم مساكنه في أدوار حياته ويعلم ما يودع فيه بعد مماته، كل ذلك في كتاب بين واضح.

والكتاب المبين هنا: إما كناية عن علم الله تعالى، وإما حقيقة مراد منها اللوح المحفوظ. وتذييل الآية بهذه الجملة، للإيذان بأَنه تعالى لا يبتدئ العلم بأَحوال الدواب ابتداءً، بل علمه بها أَزلى قديم، وواضح لديه أمرها قبل خلقها ورزقها وإيوائها في مستقرها ومستودعها، وأَنه دبر أَمرها أَزلا على النحو الفائق العجيب الذي أَراده لها، وأَبرزها عليه وفق تدبيره الأزلى القديم فتبارك الله أحسن الخالقين. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} المفردات: {سِتَّةِ أَيَّامٍ}: المراد بالأيام، أيام الله لا أَيامنا نحن ولا يعلمها إلا الله، وسيأْتى الحديث عنها. {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}: وكان عرشه فوق الماءِ، ولا يقتضي هذا أَن يكون العرش فوقه مباشرة، وسيأتى تفصيل الحديث عن هذه الجملة في تفسيرها. التفسير 7 - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: بعد أَن بين الله سبحانه في الآية السابقة تكفله بأَرزاق دواب الأرض، وعلمه بجميع أَحوالها، بين في هذه الآية خلقه للسموات والأرض، وأيام خلقه لها، ليعلم الناس عظمته تعالى، فلا يشركوا به في العبادة ما ليس له دخل في خلق ولا رزق، بل يتنافسوا في إِحسان العمل والتقرب به إِليه سبحانه، ونعى عليهم فيها إنكارهم للبعث بعد الموت للحساب والجزاءِ ووصفهم للقرآن الذي أَخبرهم بذلك بأنه سحر مبين.

واعلم أن أصل السموات والأرض الدخان، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬1). وقال جل وعلا في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (¬2). ويقول أهل العلمِ الحديثِ: إن أصل العالم غاز الهيدروجبن، وهم بذلك يهتدون إِلى ما سبقهم به القرآن العظيم بأكثر من ألف عام، وتحويلُ هذا الدخان إلى سموات وأرضين، استغرق ستة أَيام كما نصت عليه الآية الكريمة، ولا يصح حمل الأيام هنا على أيامنا في أرضنا، فإنها نشأت بعد خلق السموات والأَرض، وأيامنا على قدر حجم أَرضنا، والأيام في الكواكب الأُخرى على قدر حجمها صغرا أو كبرا. أَما الأيام التي استغرقها خلق السموات والأرض، فهى بقدر عظمة هذا الكون وما يقتضيه من زمان طويل جدًا، حتى يتم تحويل الغاز أَو الدخان إِلى سموات وأَرضين، كما تقتضيه سنة التطوير التي شاءَها الله تعالى، مع أَنه قادر على أَن يقول لها كونى فتكون فورا. ولقد ضرب الله مثلا لأَيامه بقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬3). وبقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (¬4). وذلك يقتضي أن أيام الله ليس لها حد معين وأنها تكون في طولها وامتدادها حسب الأمر الذي تتصل به، وفي موضوع تكوين السموات والأرض قد تكون الأيام أطول من هذين المثلين وربما وصل اليوم فيها إِلى ملايين السنين، وليس من الحكمة تحديد مدى أَيام الله تعالى فذلك شأْنه تعالى، ولا سبيل لنا إِلي علمه، وعلى هذا يكون معنى الجملة من الآية ما يلى: وهو الذي خلق السموات والأرض مادة وصورة، وهيأَ لها كل ما خلقت لأَجله من العناصر والوظائف والمواضع في هذا الفضاء الرهيب، ووصل بينها بالقوى التي تربط بعضها ببعض من غير عمد ترونها، وكان ذلك كله في سته أيام من أيامه تعالى، حتى تمت على أَجمل صورة وأكمل إبداع، وأقوى بناء، فلا ترى فيها من عيب ولا فطور وشقوق. وصدق الله إِذ يقول: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ¬

_ (¬1) سورة فصلت، من الآية: 11 (¬2) سورة الأنبياء، من الآية: 30 (¬3) سورة الحج، من الآية: 47 (¬4) سورة المعارج، من الآية: 3

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (¬1). {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}: دلت هذه الجملة على أن عرشه تعالى كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض، فكأَنه قيل: وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام في حال كون عرشه تعالى على الماءِ، ويدل صراحة لهذا المعنى، ما جاءَ في كتاب بدء الخلق بصحيح البخاري من حديث عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيءٍ وخلق السموات والأرض". فهذا الحديث يدل على أَنه تعالى أزلى لا أَول له، وأَنه لم يكن يشاركه شىءٌ غيره في الوجود وأَنه سبحانه كان عرشه على الماء وأنه كتب كل شيء قبل خلق السموات والأَرض، وأنه خلق السموات والأرض بعد ذلك، ومن هذا كله يعلم أن الماءَ مخلوق قبل خلق السموات والأرض، فهو أَصل خلقهما ومادته وأَصل كل شيء حى ويدل لذلك صراحة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬2). قال الشيخ رشيد رضا في شرح قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}: نفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السموات والأَرض أو في أَثنائه هو هذا الماءُ الذي أخبرنا عز وجل أَنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياءِ، إِذ قال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. والرؤية هنا علمية. والمعنى: ألم يعلموا ما ينبغي أَن يعلموه من أَن السموات والأرض كانتا مادة واحدة لا فتق فيها ولا انفصال - وهى ما يسمى في عرف علماءِ الفلك بالسديم، وبلغة القرآن بالدخان - ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض، فكان منها ما هو سماء، ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء في المقابلة لحياة الأحياء كلّ شىءٍ حىّ. اهـ ¬

_ (¬1) سورة الملك، من الآيتين: 4،3 (¬2) سورة الأنبياء، من الآية: 30

واختلف في المراد من عرش الله الذي كان على الماء، فمن العلماء من يفهمه على أَنه جسم كونى عظيم. خلقه الله أول ما خلق، وجعله مصدر أوامره في الكون الذي شاءَ إنشاءَه بعده، والله يعلم مادته وصورته، ومعنى كون عرشه تعالى على الماء على هذا أنه فوقه، وهذا لا يلزم منه أنه فوقه مباشرة بحيث يكون مرتكزا عليه. فأَنت تقول: السحاب على الأرض أو فوق الأرض، مع أنه ليس مباشرا بالعلو والفوقية لها، بل بينهما فراغ. قال الشيخ رشيد رضا بعد ما نقلناه عنه سابقا في شرح الآية: فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فينزل إليه منه أَمر التدبير والتكوين هو الماء الذي هو الأَصل لجميع الأَحياء؛ ثم قال: والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء، كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل - اهـ من ص 16جـ 12 طبعة الشعب. ومن العلماء من ذهب إلى أن العرش كناية عن الملك والسلطان وَرَمزٌ له، ومعنى قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} - على هذا الرأْى - وكان سلطانه على الماء ليخلق منه ما يريد خلقه من السموات والأَرض، وقد تقدم الكلام في سورة الأَعراف - الآية 45 - على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فارجع إِليه لتعرف تفصيلا أكثر لما قاله العلماء في معنى العرش والله تعالى أعلم. {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}: أي وهو الذي خلق السموات والأرض، وكان سلطانه على الماء في خلق ما يريد، وسخر لكم ما في السموات والأرض ليمتحنكم، فيظهر أَيكم أحسن عملا من سواه، فيجازيكم على عملكم لا ما علمه أزلا بكم. فإِن العمل حجة على صاحبه، ويفهم من ذلك أن الله تعالى خلق الكون ليعبده العقلاءُ من خلقه فيه، فإِنه سبحانه ما خلقهم إلا ليعبدوه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬1). وإنما جعل الله ذلك غاية لخلقه السموات والأرض، لأَنه تعالى زود عباده بالعقل والاستعداد للنظر في الآيات الكونية التي بثها سبحانه في أرجاءِ السموات والأرض، وجعلها مصدرا ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، من الآيتين: 58،56

لخيراتهم ومنافعهم، وجعل ذلك كله شاهدا لأنه هو الخالق المدبر الحكيم، الرءوف الرحيم، المستحق لشكرهم إياه بالإخلاص في عبادته وحده، وإنما اقتصر في البلاء على أيهم أَحسن عملا، مع أن منهم من هو حَسَنُ العمل ومنهم من هو سيئه، ليحثهم بذلك على التنافس في إِحسان العمل، وليرشدهم إلى أن الغاية العظمى من خلق ذلك هو أن يكونوا في عملهم على أحسن وجه وأَكمله، بقدر استطاعتهم واجتهادهم وفي حدود طاقتهم. {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أَي ولئن قلت أَيها النبي تبليغا للناس إِنكم جميعًا مبعوثون من بعد الموت للحساب وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب وأقمت الأَدلة عليه. {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أَي لانفرد الكافرون بإنكار البعث، وليقولُن تكذيبا لك: ما البعث الذي تخيفنا منه، أو القرآن المشتمل على الإنذار به، إِلا كالسحر يخدع ويغر ولا ثبات له ولا دوام، يعنون بذلك أن لا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب. {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} المفردات: {أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}: مدة قليلة. {مَا يَحْبِسُهُ}: ما يمنعه. {مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}: مدفوعا ومتحولا عنهم. {حَاقَ بِهِمْ}: أي نزل وأحاط بهم.

التفسير 8 - {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}: بعد ما بينت الآية السابقة ما يقوله المشركون إنكارا للبعث، بينت هذه الآية، ما يقولونه إنكارا للعذاب الذي أَنذرهم إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: ولئن أَخرنا عن هؤلاء المكذبين العذاب الموعود الذي أَنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه إن استمروا في كفرهم وعنادهم، لئن أخرناه إلى مدة من الزمن معدودة مقدرة في علمنا، كما هو شأْننا في تحديد الآجال {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لئن أَخرناه هكذا ليقولن منكرين مستهزئين: أَي شيء يمنع وقوع هذا العذاب بنا؟ يقصدون بذلك التكذيب بوقوعه. فيرد الله عليهم بقوله تعالى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: والمعنى: أنَّ الله تعالى يؤكد بهذه الجملة وقوع العذاب بهم حينما يأْتى الوقت المقدر لوقوعه، ويومئذ لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه عنهم حابس وقد أَحاط بهم العذاب الذي كانوا به يستعجلون استهزاءً وتكذيبًا. {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} المفردات: {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}: أعطيناه نعمة ذاق لذتها. {نَزَعْنَاهَا}: سلبناها وأخذناها. {لَيَئُوسٌ}: لشديد اليأْس من عود ما سلب منه.

{كَفُورٌ}: مبالغ في جحد النعمة وعدم شكرها. {نَعْمَاءَ}: نعمة من صحة وغنى وغيرهما، ولم يرد في القرآن لفظ النعماءِ إلا في هذه الآية. {ضَرَّاءَ}: من فقر ومرض وغير ذلك. {مَسَّتْهُ}: أصابته ولحقته. {فَرِحٌ}: كثير الفرح بطرا. {فَخُورٌ}: مبالغ في الفخر بها والتعالى على عباد الله. التفسير 9 - {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}: جاءَت هذه الآية والآيتان بعدها لبيان حال الإِنسان وطبيعته عند الابتلاء بالسراءِ والضراءِ. وأنه لا يصبر على المحن ولا يشكر النعم إلا الصالحون. والمعنى: ولئن أعطينا الإِنسان منا نعمة من النعم وأذقناه حلاوتها ولذتها، كالصحة والمال والولد البار، ثم أخذناها منه فإنه يجمع بين شيئين: المبالغة في اليأس من عودة مثل ما سلب منه، والمبالغة في جحد النعمة وعدم شكر ما بقى منها ونعم الله لا تحصى، وإنما يفعل ذلك لحرمانه من فضيلتى الصبر والشكر، فهو لذلك لا يرجو ثوابا، ولا يخطر بباله أن الله سيردها إليه أو مثلها أو خيرًا منها إِن هو صبر أَو شكر، مع أنه لا يقنط من رحمة الله إِلا الضالون. 10 - {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}: أَي وإذا أنعمنا على الإِنسان مما تطيب به حياته ويشعر بلذته - أنعمنا عليه بذلك - بعد ضر كان يقاسيه ويعانيه، ليقولن مطمئنا إلى بقاءِ هذه النعمة. قد مضى البأْس وانقضى الضُّرُّ ولن يعود. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}: أي إِنه نسى ما كان فيه من ضَرَّاءَ، واطمأن إلى بقاء النعمة الطارئة، وفرح بها فرح بطر وغرور وتفاخر بها على عباد الله، وغاب عن ذهنه شكر الله عليها، وأَن الله قد يحرمه منها بعدم قيامه بشكره من أَجلها. 11 - {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: لما بين الله تعالى حال جنس الإنسان الذي يَيْئس من رحمة الله إن أصابته محنة، والدى يكفر بالنعمة بعد التفسير فلا يشكر

الله عليها، ويظن بقاءَها ويتفاخر بها على عباد الله، جاءت هذه الآية لتبين صنفا من الناس ليسوا على شاكلة هؤلاءِ وأُولئك، وهم الذين يصبرون عند نزول المحن والشدائد استسلامًا لقضاءِ الله ويضبطون أنفسهم عند امتحانها بالغنى فلا يفرجون ولا يغترون. شكرًا لنعم الله عند السراءِ، وامتثالا لأَمر الله تعالى وتقربًا إليه في حال النعماءِ. والمعنى: لكن الذين صبروا على الابتلاء، وعملوا الصالحات في الضراء والسراء. {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: أَي أُولئك الموصوفون بهذه الصفات الحميدة المخالفة لصفات من قبلهم، لهم مغفرة من الله تعالى يستر بها ذنوبهم، وأَجر كبير في الآخرة لصبرهم في الشدة وشكرهم في الرخاء، ولأنهم ردوا ما ينالهم من خير إلى فضل الله، وما يقع عليهم من ضر إِلى قدر الله تعالى الموافق للحكمة والصواب. {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} المفردات: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}: لعلك راغب في عدم إِسماعم بعض ما يوحى إِلِيك من دلائل نبوتك كراهة معارضتهم لك، وترويضًا لنفوسهم. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ}: أي هلا أعطى الله محمدًا مالًا ينفقه. {وَكِيلٌ}: حفيظ مطلع يحفظ أَحوالك وأَحوالهم. {افْتَرَاهُ}: اختلقه. {يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}: يجيبوكم. {مُسْلِمُونَ}: منقادون لله.

التفسير 12 - {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ........ }: هذه الآية واللتان بعدها لتسلية الرسول والتخفيف عن نفسه الشريفة بِسبَبِ ما يجده من عناد المشركين واقتراحهم الآيات، مع كفاية ما جاءهم به منها في الإيمان. كما أنها مسوقة لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس مسئولا عن كفرهم، فما هو إِلا منذر، والله وكيل ورقيب عليهم. والمعنى: فلعلك يا محمد تارك إسماعهم بعض ما يوحى إِليك من الآيات الدالة على حقيقة نبوتك، المنادية بكونها من عند الله تعالى لمن له أُذن واعية وقلب رشيد، ولعلك يضيق صدرك بتلاوته عليهم وتبليغه إِياهم أثناءَ المحاجة والدعوة إلى الإيمان، بسبب معارضتهم الشديدة لك، وإِصرارهم على رفض ما جئتهم به من التوحيد والوعد والوعيد وبسبب قولهم هلا أُعطى مالًا كثيرًا كما يعطى الملوك والعظماءُ، ليكون ذلك أمارة على أَن ربه يشد أزره ولا يدعه فقيرًا بين الناس، وهلا جاء معه ملك يؤيده ويشهد له بالنبوة. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تترك تبليغهم شيئًا مما أوحى إِليك، ولا يضق صدرك بما يقولون، فإنه لا ينبغي لمثلك أن يتأثر بمثل هذا القول الدال على ضعف تفكيرهم وشدة وطأة الحق الذي جئت به عليهم، فهم يحاولون التنفيس عن أنفسهم وتخفيف وطأَته عليهم. {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: ما أنت يا محمد إِلا منذر لكل مكذب ولست عليهم بمسيطر فدع أمرهم لله فإنه هوالموكل بأُمور خلقه والعالم بها، يحصى عليهم أَعمالهم ويجازيهم بها أتم الجزاء، فتوكل عليه وفوض أَمرك إليه. 13 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}: أَي بل أيقولون إِن محمدًا اختلق القرآن من عند نفسه ونسبه إِلى الله تعالى. قل لهم أَيها الرسول إن كان الأَمر كما تزعمون فأْتوا بعشر سور مفتريات مثل القرآن في بلاغته. وحسن تنسيقه، فإنكم أَهل الفصاحة وفرسان البلاغة الحريصون على إبطال دعوتى. {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي واستعينوا على ذلك بما تشاءُون، وادعوا من استطعتم دعوته في المعارضة، أو فادعوهم ليشهدوا لكم إِن كنتم صادقين في دعواكم: أنى اختلقته وأَنه ليس من عند الله تعالى.

14 - {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: إن كان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين كان المعنى: فإن لم يستجب هؤلاء المشركون إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن وحدهم أو مع من يشد أزرهم فأثبتوا على العلم الذي أَنتم عليه، وازدادوا يقينا وثباتًا بأنه منزل من عند الله تعالى، وأنه لا إله إلا الله؛ لأنه العالم بما لا يعلمه غيره والقادر على ما لم يقدر عليه سواه، ومن ذلك اختصاصه بالقدرة على إنزال هذا القرآن الذي أعجز البشر. وإن كان الخطاب للمشركين كان المعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم للشهادة على أَن محمدًا اختلقه ولم يوافقوكم على دعواكم، فاعلموا أَنما أُنزل بعلم الله المحيط بحاجات البشر في التشريع والسلوك، وأَنه لا سبيل إلى أن يؤلف مثله بشر، واعلموا أَيضًا أَنه لا شريك له تعالى حتى يأْتى بمثل هذا القرآن. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: أَي أَسلموا أَيها الكفار وأخلصوا لله وحده حيث ثبت عجزكم وعجز من استعنتم بهم عن معارضة القرآن. هذا إذا كان الخطاب هنا وفيما قبله للكفار، فإن كان للمسلمين على ما تقدم بيانه فالغرض منه حثهم على الثبات أَمام حرب المشركين لهم، أي فهل أنتم ثابتون على إسلامكم أَمام أعدائكم بعد أن وضح الحق، واختفى الباطل، يريد بذلك الأُسلوب إلهاب عزائمهم. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المفردات: {وَزِينَتَهَا}: الزينة ما يتزين به من اللباس والأثاث والأَولاد والأَسباب. {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}: نوصل إليهم جزاء أَعمالهم وافيًا كاملًا.

{لَا يُبْخَسُونَ}: لا ينقصون شيئًا من أجورهم. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}: أي بطل وضاع ثواب عملهم في الآخرة. {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي لا قيمة له حيث لم يعمل لوجه الله. التفسير 15 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا .... }: بعد ما ثبت أَن القرآن من عند الله تعالى بعجزهم عن الإتيان بمثله، جاءت هذه الآية والتي بعدها لتبين أن من ينصرف عن العمل به إلى الاهتمام بالدنيا وحدها وترك العمل للآخرة، عاقبتُه الخسران المبين. والمعنى: من كان كل همه ومقصده من وجوده الدنيوى التمتع بلذات الدنيا وما يتزين به فيها فيعمل للتمتع بملذاته فيها، دون أَن يهتم بلقاءِ الله تعالى والعمل للآخرة بالبر والإِحسان وتزكية النفس بالإِيمان والتقوى. {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}: أَي نعطهم جزاء أعمالهم وافيًا في الدنيا، من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد وغير ذلك، وهم فيها لا ينقصون شيئًا من أجورهم الدنيوية {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ثم بين الله تعالى عاقبة أمر هؤلاءِ في الآخرة فقال: 16 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي أُولئك الذين لا يريدون إلا زينة الحياة الدنيا وبهجتها وإشباع غرائزهم فيها ولم تمتد أَبصارهم وأَعمالهم وآمالهم إِلى ما وراءَ هذه الحياة - أُولئك - ليس لهم في الآخرة مثوى إِلا النار؛ لأنهم استوفَوْا في الدنيا ما تقتضيه صور أعمالهم، وبقيت لهم أَوزار عقائدهم ونياتهم السيئة، وبطل ثواب ما صنعوه في الدنيا، لأنه لم يعمل لوجه الله تعالى، فلا نفع ولا خير لهم فيه قال تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآيتين: 19،18

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} المفردات: {بَيِّنَةٍ}: حجة واضحة وبرهان ظاهر. {وَيَتْلُوهُ}: أي يتبعه. {شَاهِدٌ مِنْهُ}: أَي من الله تعالى يشهد بصحته. {إِمَامًا وَرَحْمَةً}: كتابًا يؤتم به في الدين ورحمة على المنزل عليهم. {الْأَحْزَابِ}: أهل مكة ومن تحزب معهم. {مِرْيَةٍ مِنْهُ}: شك من الوعيد بالنار أو من القرآن. التفسير 17 - {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}: هذا بيان لحال المسلمين الذين يريدون بأعمالهم وجه الله تعالى إثر بيان حال من يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وحدها. والمعنى: أيكون حال من كان على بينة وبرهان عقلى بما يؤمن به ويدعو الناس إِليه ويتْبعُ هذا النورَ الفطرى والبرهان العقلى شاهِدٌ من الله تعالى يشهد على صحة ما اهتدى إليه العقل وهو القرآن الذي ثبت صدقه وأَنه من عند الله، ويؤيده شاهد آخر من قبله، وهو التوراة كتاب موسى الذي جعله الله إمامًا يؤتم به في الدين، ورحمة لمن عمل به من بنى إسرائيل قبل نسخه بالقرآن فقد بشر بمجىء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن. أفمن كان على هذا الحال؟ يكون كمن يريد الحياة الدنيا وحدها محرومًا من الحياة الدينية الموصلة إلى السعادة في الدار الآخرة؟! لا يستويان. {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}: أي أُولئك الذين استناروا بالحجج العقلية والنقلية يؤمنون بالقرآن ويعملون به.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}: أي ومن لم يؤمن به من أهل مكة ومن تحزب معهم على محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن يسير على غير هدى، أو من أهل الكتاب، فموعدهم ومآلهم النار يعذبون فيها ويردونها لا محالة بمقتضى وعيده تعالى لهم ولأَمثالهم، لقيام الحجة عليهم وعدم ما يثير الشكوك والجحود. {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}: أي فلا تكن أيها العاقل المكلف في شك من أن موعد أهل الكفر النار أو من أَن القرآن من عند الله تعالى. {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي إِن الوعيد بالنار. أو إنَّ القرآن هو الحق من الله الذي لا شك فيه، فإنه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬1). ولكن أَكثر الناس لا يؤمنون؛ لأنهم لا يمعنون النظر فيه ولا في الادلة التي تهدى إليه. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} المفردات: {وَمَنْ أَظْلَمُ}: لا أحد أَشد ظلما. {يُعْرَضُونَ}: أَي يعرضون ذاتا وعملا. {الْأَشْهَادُ}: جمع شاهد أو شهيد (¬2) وهو من يشهد عليهم. {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}: إبعاده لهم من رحمته. {يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: أي يمنعون غيرهم عن دين الله، أو يُعْرِضُون هم عن دينه. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}: أي يريدونها معوجة. ¬

_ (¬1) سورة فصلت الآية: 42 (¬2) ومن الوزن الأول صاحب وأصحاب، ومن الوزن الثانى شريف وأشراف.

التفسير 18 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: بعد أن بينت الآيات السابقة إصرار المشركين على الكفر بآيات الله جاءت هذه الآية وما بعدها لبيان طائفة أخرى من جرائمهم وجزائهم عليها. والمعنى: لا أحد أشد ظلما ممن كذب على الله تعالى فنسب إليه ما لا يليق به كالشريك والولد، أو وصفه بما لا يجوز وصفه به، أو أخبر عنه بما لم يقله، فهؤلاء أعظم الناس ظلما وأشدهم جرما. {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ}: أي أولئك الكاذبون يعرضون على ربهم ليحاسبهم على أعمالهم. {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}: المراد من الأشهاد إما من شهدوا كفرهم ومعاصيهم التي اجترحوها في الدنيا، وهم الملائكة والنبيون وصالحو المؤمنين أو أهل الموقف. والمعنى: ويقول هؤلاء الأشهاد مشيرين إليهم عند عرضهم على ربهم هؤلاء هم الذين افتروا على الله كذبا، فنسبوا اليه ما لا يليق به. {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}: يحتمل أن تكون هذه موجهة من الله تعالى إليهم، أو من هؤلاء الأشهاد. والمعنى: ألا بعدًا وطردًا من رحمة الله لهؤلاء الظالمين لأنفسهم المعتدين على الحق. 19 - {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}: الصد عن سبيل الله، يستعمل بمعنيين (أحدهما): منع الناس عن دين الله (والثانى): الامتناع عنه، وكلاهما يحصل من الكافرين، فكما يكفرون في أنفسهم، يحسون غيرهم على الكفر. والمعنى: هم الذين يمنعون الناس ويصرفونهم عن دين الله الذي هو السبيل إلى معرفته ومرضاته كما صرفوا أنفسهم عنها، ويريدون أن تكون هذه السبيل معوجة حسب أهوائهم.

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}: أي: وهم مع صدهم عن سبيل الله ينكرون البعث وما بعده، من حساب وثواب وعقاب ويجحدونه، وتكرار الضمير (هُمْ): لتأكيد كفرهم بالآخرة، والإيذان بعمق جذوره. {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} المفردات: {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}: مفلتين من عقاب الله. {أَوْلِيَاءَ}: نصراءَ. {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: أضاعوها بكفرهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ}: وغاب عنهم. {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: يدعون من ألوهية الأصنام وشفاعتها. {لَا جَرَمَ}: لا بد. التفسير 20 - {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ}: أي هؤلاء الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويطلبون لها اعوجاجا وعدم استقامة - هؤلاء - لم يكونوا ناجين من عذاب الله في الدنيا إذا ما أراد الانتقام منهم في أي جزء من أجزاء الأرض، فهم في قبضته وملكه فلا يقدرون على الامتناع منه.

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}: أي وليس لهؤلاء المشركين من أنصار يتولون أمرهم ويمنعونهم من عذاب الله تعالى إذا ما أراده بهم. {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}: أي يزاد لهم العذاب مثلا أو مثلين أو أكثر بسبب صدهم الناس عن دين الله وإنكارهم البعث بعد الموت لأنهم ضلوا في أنفسهم أضلوا غيرهم. {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}: أي فقدوا القدرة على السمع والبصر النافع فإنهم أغلقوا نوافذ المعرفة عندهم فأَصموا آذانهم عن سماع الحق بتدبر واعتبار، فلهذا لم ينتفعوا بما يسمعون، وهم مع ذلك ما كانوا يبصرون إبصار تأمل وعبرة فيما ينفعهم ويعود عليهم بالخير في الدنيا والآخرة ويؤهلهم لرضا الله تعالى كما قال سبحانه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (¬1). 21 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: أي أُولئك الذين أَغلقوا آذانهم عن سماع الحق، وحجبوا أبصارهم عن النظر في آياته باعتبار وتأمل - أولئك - هم الذين جنوا على أَنفسهم فأَوقعوها في الخسران بافترائهم الكذب على الله تعالى، واشترائهم الضلالة بالهدى فضيعوا على أنفسهم حظوظها من رحمة الله تعالى، وقد غاب عنهم في الآخرة الآلهة الذين كانوا يزعمون أنهم شفعاءُ لهم ومنقذوهم من العذاب، فم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا. 22 - {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}: أَي لابد أَنهم في الآخرة هم أشد الناس خسرانا، لأنهم أَضاعوا منازلهم في الجنة واستبدلوا بها النار. ¬

_ (¬1) سورة المدثر، الآيات: 49 - 51

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المفردات: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}: خضعوا إلى الله، واطمأنوا إلى عبادته وحسن جزائه. التفسير 23 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}: لما ذكر الله تعالى سوءَ أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بيان حسن حال المؤمنين فيهما. والمعنى: إن الذين آمنوا باللهِ ورسله وبكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات من الواجبات والمسنونات، وخشعوا لله واطمأَنت قلوبهم بذكره. فجمعوا بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب لتكون أعمالهم مقبولة عِند الله تعالى. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أي هؤلاء هم أَهل الجنة وأصحابها دون من عداهم، هم فيها خالدون لا يبرحونها اختيارا، ولا يخرجهم منها أَحد اضطرارًا. كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬1). {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} المفردات: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ}: صفة الفريقين، فريق الكفار وفريق المؤمنين. {الْأَعْمَى}: فاقد البصر. {الْأَصَمِّ}: فاقد السمع. {الْبَصِيرِ}: حاد البصر. {السَّمِيعِ}: قوى السمع. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، من الآية: (48)

التفسير 24 - {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ .... } الآية. تحدثت الآيات السابقة عن الكفار وإغراقهم في الضلال ومصيرهم الرهيب، كما تحدثت عن المؤمنين وخشوعهم لله وثوابهم الجزيل، وجاءت هذه الآية لتوضيح الفرق الشاسع بين الفريقين. والمعنى: مثل الكفار في عدم الانتفاع بأبصارهم وأسماعهم، كمثل الأعمى الذي لا يبصر والأصم الذي لا يسمع أي كمثل الذي جمع بين العمى والصم (¬1) فهو يتخبط في الضلال كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬2). ومثل المؤمنين في معرفة الله والتصديق بوحدانيته وكمالاته، مثل الرجل الحاد البصر القوى السمع فكما أَنه لا يغيب عنه شيء مما يرى ويسمع، فكذلك المؤْمن لا يغيب عن بصيرته وصفاءِ قلبه، شيءٌ مما يليق بكمالات الله تعالى فهو ينتفع بمدركاته العقلية ويميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، فيتبع الخير ويبتعد عن الشر بعكس الأول. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}: الاستفهام هنا بمعنى النفى، أي لا يستويان حالا وصفة. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أي أَتغفلون عن عدم استوائهما وما بينهما من الفرق فلا تعتبرون بالفرق بين هؤلاءِ - وهؤلاءِ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬3). فما بالكم لا تدركون الفرق الشاسع بين الفريقين. ¬

_ (¬1) قوله تعالى (كالأعمى والأصم) صفتان لموصوف واحد وكذلك (البصير والسميع) فهى من عطف الصفة على الصفة، ومنه قول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم. (¬2) الأعراف، الآية: 179. (¬3) سورة الحشر، الآية: 20

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} المفردات: {نَذِيرٌ}: محذر من وقوع خطر. {مُبِينٌ}: موضح. {أَلِيمٍ}: شديد الإيلام. التفسير تحدثت الآيات السابقة عن فريق الكفار ومصيرهم الأليم، وفريق المؤمنين وثوابهم العظيم وفي الآيات التالية إلى آخر السورة يقص الله سبحانه وتعالى علينا أمثلة تاريخية واقعية لهذين الفريقين في عصر كل الرسل بالترتيب الزمنى التاريخى، وابتدأَ بقصة نوح عليه السلام فقال: 25 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}: استهلت الآية بتأْكيد القصة بقوله: (وَلَقَدْ) لأن تاريخ نوح عليه السلام موغل في القدم وفي التأكيد تنبيه على صدق القصة مع جذب انتباه السامعين إليها. والمعنى: ولقد أَرسلنا نوحا إِلى قومه قائلا لهم: إننى لكم محذر من غضب الله وعقابه إن بقيتم على كفركم، موضح لكم ما فيه خلاصكم ورضا ربكم. 26 - {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}: أي أَرسلنا نوحا إلى قومه ليقول لهم: لا تعبدوا إلهًا غير الله فإنه وحده الجدير بالعبادة والتقديس. واستمال قلوبهم إليه بتأْكيد إشفاقه عليهم وحرصه على إنقاذهم، مما يتعرضون له من عقاب يوم رهيب شديد الإيلام، إِذا أَصروا على الشرك والضلال فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: واليوم الأليم هو يوم القيامة الذي يجعل الولدان شيبا. أو يوم الهلاك والاستئصَال في الدنيا أو هما معًا، وقد حل بهم عذاب يوم الطوفان. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}.

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} المفردات: {الْمَلَأُ}: الزعماء والقادة. {الأرَاذِلُ}. جمع أَرذل وهو الخسيس الدنئُ. {نَظُنُّكُمْ}: نعتقد ونوقن، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ}. {بَادِيَ الرَّأْيِ}: ما يبدو من الرأْى للوهلة الأُولى دون إمعان للنظر. التفسير 27 - {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}: أي فتحدث زعماءُ قوم نوح الذين كذبوا رسالته قائلين له: ما أثبت إلا بشر مشابه لنا في البشرية لا ميزة لك علينا، فكيف نستجيب لك ونتبعك؟ وقد فاتهم أَن البشر لا يقدرون على الأَخذ من الملائكة ولا يستطيعون لقاءهم، وأنهم لو جعلوا في صورة البشر لالتبس الأمر على من أُرسلوا إليهم، كما فاتهم أن البشرية ليست على مستوى واحد، فهي تعلو حتى تفوق الملائكة، وتهبط حتى تصل إلى درك الشياطين. ثم عللوا تكذيبهم بسبب ثان فقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}: أي ولا نعلم أحدًا اتبعك من الزعماء والأشراف، بل اتبعك الضعفاء والفقراءُ وقد اتبعوك دون روية أو تفكير، لأنهم لا يحسنون التدبر في الأُمور. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}: أي وما نعلم لك ولمن اتبعك مزية ولا فضلا في أي شأن حتى نترك مكانتنا في الرياسة والزعامة وننقاد لكم.

ثم ختموا اعتراضهم على رسالته بقولهم له: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}: أي بل نعتقد أنكم مفترون فيما زعمتموه لأنفسكم من فضل: والظن هنا بمعنى الاعتقاد كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1). {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُورَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} المفردات: {أَرَأَيْتُمْ}: أخبرونى عن رأْيكم. {بَيِّنَةٍ}: حجة قوية واضحة. {رَحْمَةً}: نعمة. والمراد بها هنا نعمة النبوة والرسالة. {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: أنكرهكم على اتباعها. {فَعُمِّيَتْ}: أُخفيت عليكم فلم تدركوها. التفسير 28 - {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}: في هذه الآية وما يليها يرد نوح عليه السلام على الأسباب التي استند إِليها قومه في تبرير كفرهم - ويرد في رفق وأناة - ويجادلهم بالتى هي أحسن، رجاءَ أن يفيئوا إلى الصواب. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 249.

والمعنى: يا قوم إني لا أزعم أنى أمتاز عليكم فإننى بشر مثلكم، ولكن أخبرونى عن رأيكم فيما أعرضه عليكم: إن الله سبحانه قد هدانى إليه فآمنت به إيمانا راسخا ثابتا معتمدا على الحجة والبينة الظاهرة، وتفضل على بنعمة خصنى بها من عنده وهى الرسالة، وأمرنى بإبلاغها إليكم تفضلا منه عليكم، وقد بلغت الرسالة وأديت الأمانة فخفى أمرها عليكم حين بادرتهم إلى تكذيبها دون تدبر أو تأمل، فأخبرونى ماذا أفعل لكم أنا ومن معى من المؤمنين بعد ذلك؟ أنرغمكم على العمل بشريعة الله التي رحمكم بها وأنتم لها كارهون. وعاد نوح فذكرهم بأنهم قومه قائلًا: 29 - {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}: أَي يا قوم إننى لا أُريد منكم مالا على أَداءِ هذه الرسالة، فما أَجرى إِلا على الله وحده فما بالكم ترفضون ما دعوتكم اليه من الحق، وهذا الذي قاله نوح لقومه من الأُسس الهامة التي تقوم عليها دعوات المرسلين، وينبغى أن تكون قدوة لجميع الدعاة والمصلحين، فإِن الدعوة للإصلاح إذا تجردت عن المطامع الذاتية، تكون أَدعى للاستجابة إليها، واستمالة القلوب نحوها وفي ذلك يقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}: هذا جواب عما طلبوه منه من طرد الفقراءِ بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} كأَنهم يرحون إليه بطردهم والتبرؤ منهم. والمعنى: لست بطارد المؤمنين لفقرهم كما أردتم، فإِنهم سيلقون الله فينصفهم منى إذا ظلمتهم وأبعدتهم عني إرضاءً لكم، ولن أَغضب الله بازدرائى لهم كما تحبون وليس الأمر في شرع الله دائما على الصور والأجسام والثياب، بل مرده إلى طمأْنينة القلوب ونظافة الصدور. وفي هذا المعنى يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أشْعَث مَدْفُوع بِالأبوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّه" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة يس: الآية 21 (¬2) حديث شريف رواه مسلم وأحمد.

{وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}: أي لا تعرفون أقدار هؤلاء المؤمنين حين حكمتم بأنهم أراذل، ولن أكون مثلكم في الخطأ وسوء التقدير. ويجوز أن يكون المعنى: أراكم قوما بكم جهالة وحمق، دفعكم إلى التعالى على هؤلاء المؤمنين والسخرية بهم، والازدراءِ والامتهان لهم. 30 - {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: ويقول لهم مرة أخرى: ويا قوم من يمنعنى من انتقام الله إن طردت هؤلاء الفقراء الذين جعلتموهم أرذلكم، وهم على ما هم عليه من الايمان والاستقامة، أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل والحمق، فلا تتذكرون ولا تتدبرون أن قيمة الناس عند الله ليست في مظاهرهم وثرائهم، بل في صفاء نفوسهم وطواعيتهم للحق، واستقامتهم على جادة الصدق، فكيف أطردهم وهم على النهج المستقيم؟ {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المفردات: {خَزَائِنُ}: جمع خزانة بكسر الخاءِ وهى موضع المال أَو المتاع والمقصود بخزائن الله ما عنده من خير جزيل. {الْغَيْبَ}: المراد من الغيب ما غاب وخفى عن الإنسان من العوالم المجهولة، أو أحداث المستقبل. {تَزْدَرِي}: تحتقر.

التفسير 31 - {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}: بعد أن جادلهم في ادعاءاتهم وفنَّد مزاعمهم، أعلن لهم أنه حين يبلغهم رسالة ربه لا يدعى أنه يملك ما عند الله من خير ورزق وفير، حتى يستدلوا بعدمه عنده على كذبه بقولهم له ولمن آمن معه: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}. فإن النبوة لا تنال بالأسباب الدنيوية، ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه، ولا تفتقر إليهما. {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: أَي لا أقول لكم حين أُنذركم بقولى: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: لا أقول لكم إني أعلم الغيب، حتى تسارعوا إِلى الإنكار والاستبعاد. {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}: أي لا أزعم أنى ملك حين دعوتكم إلى دين الله، حتى تردوا دعوتى بقولكم: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} على حين أن البشرية لا تمنع من النبوة، بل هي من مقتضياتها. {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا}: أَي ولا أَقول في شأْن المؤمنين الفقراء الذين تحتقرهم أَعينكم، لا أقول في حقهم ما قلتموه أنتم من أنه تعالى لن يؤتيهم خيرا لرثاثة حالهم، فإن الله لا ينظر إلى الصور والثياب، ولكن ينظر إِلى القلوب، فعسى الله أَن يمنحهم الخير في الدنيا والآخرة. {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: أَي أَن الله تعالى أعلم بما انطوت عليه نفوسهم، فكيف أحكم عليهم بأنهم لن ينالوا من الله خيرا، إني لو قلت هذا لكنت من الظالمين لهم بنقص مرتبتهم وغمط حقوقهم، أو لكنت من الظالمين لأنفسهم بالحكم في شيء غير لا سبيل لى إلى معرفته فإن أسرار القلوب بين يدى علام الغيوب.

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} المفردات: {جِدَالَنَا}: الجدال، مقارعة الحجة بالحجة طلبا لتغليب رأْى على رأى آخر، ويطلق على شدة المخاصمة والقدرة على النقاش. {بِمُعْجِزِينَ}: بسابقين، والمراد أنهم لا يفلتون من عذاب الله. {أَنْ يُغْوِيَكُمْ}: أي يترككم في غيكم ويتخلى عن هدايتكم، أو يوقعكم في الغىِّ وهو العذاب، ومنه قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. أي هلاكا وعذابا. التفسير أفحم نوح قومه ولم يجدوا مجالا للرد عليه، فتحدوه بأن ينفذ ما وعدهم به من العذاب وذلك ما حكاه الله بقوله: 32 - {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: المعنى: قالوا يا نوح قد بالغت في مناقشتنا ولسنا مقتنعين برسالتك، ولا بما قدمته عليها من الأدلة والبراهين، ونحن مصرون على تكذيبك فيما تدعيه من ثواب المؤمنين وعقاب الكفار، فأتنا بما أوعدتنا من العذاب الأليم إن كنت صادقا فيما تقول.

33 - {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: قال نوح مجيبا لهم بما يتفق مع بشريته التي أعلنها لهم من قبل، وبما يتفق مع رسالته عن الله، قال لهم: ما يأتيكم بالعذاب الموعود إلا الله إن شاء أنزله بكم، وليس أمره بيدى حتى تطلبوه مني، ولن تستطيعوا الإفلات منه حين يريد نزوله بكم. 34 - {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ الله يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}: أي ولا ينفعكم ما أبذله لكم من نصح أَردت بذله لكم، إن كان الله يريد أن يبقيكم في غيكم الذي أَصررتم عليه، ثم بيَّن أن مردهم إلى ربهم صاحب الأَمر فيهم فقال: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي أَنه تعالى هو مالك أَمرهم وحده، وإليه مرجعهم بعد الموتِ للحساب والجزاءِ فأَمر هدايته وجزائهم إليه وحده وليس لي من ذلك شيءٌ. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} المفردات: {افْتَرَاهُ}: اخترعه من نفسه ولم ينزله الله عليه. {إِجْرَامِي}: إرتكابى إثما كبيرًا. التفسير 35 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}: لما عجز قوم نوح عن محاجته زعموا أن كلامه كله كذب وادعاء، فأمره الله أن يبرئ نفسه مما يقولون، ويحملهم عاقبة افترائهم عليه.

والمعنى: بل أَيقول قوم نوح بعد عجزهم عن الردَّ عليه - إنه اختلق هذا الدَّين الذي يزعم أَنه من عند الله. {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}: أَي قل لهم يا نوح إن كنت قد اختلفت ما أَبلغتكم إيَّاه من رسالة الله، فعلىَّ إثم إجرامى بالافتراء على الله، وما يترتب عليه من عقاب يستحقه كل من افترى عليه الكذب، فكيف أَفترى على الله الكذب وأَنا المسئول عنه دون غيرى، وبما أَننى صادق فأَنا برىءٌ من إجرامكم وكفركم. وهذا شبيه بقوله - تعالى - للرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1).وهنا يتجلى الإِنصاف الكامل. {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}. المفردات: {فَلَا تَبْتَئِسْ}: لا تحزن ولا تتأَلم. {الْفُلْكَ}: السفينة الواحدة والجمع. {بِأَعْيُنِنَا}: تحت رعايتنا وتوجيهنا. التفسير نصح نوح - عليه السلام - قومه بكل الوسائل ودعاهم إلى الإيمان بمختلف الأَساليب العقلية في رفق ولين، ولكنهم أَصرُّوا على عنادهم وركبوا رءُوسهم، ورموه بالكذب ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية: 41

على الله كما تقدم بيانه، وفيما يلى من الآيات قصة نوح مع قومه وبيان نهايتهم الأَليمة. 36 - {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}: أي: وأَوحى الله إِلى نوح أَنه لن يستجيب لدعوتك أَحد من قومك سوى الذين آمنوا بك من قبلُ، فلا مجال لبذل النصيحة والدعوة إلى الهداية مع مصرين على الكفر تلك الدهور الطويلة. {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}: أَي فلا تحزن عليهم ولا يَضِقْ صدرك بكفرهم ومكرهم، وانغماسهم في الآثام والذنوب. 37 - {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}: أي وقم بعمل السفينة طبقًا لوحينا الذي بينا لك فيه كيفية صنعها، وذلك تحت رعايتنا، وبتوجيه وسند منَّا لتؤدى الغرض المقصود منها. {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}: ظاهر الآية أن نوحا عليه السلام شفع في قومه أو كان بصدد أن يشفع فيهم فنهي عن ذلك، وسيأتى في سورة نوح أنه - صلى الله عليه وسلم - طلب من ربِّه أن يُهلكهم بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (¬1). وتوفيقا بين هذه الآية وبين ما جاءَ هنا نقول: إِنه سبحانه يعلم شفقة نوح بقومه وطول إِقامته - معهم، وأنه قد يدعو ربه أن يتأَنى معهم وأن لا يغرقهم أو كان قد دعاه فعلا، فلهذا نبهه هنا إلى أن لا يطلب منه ذلك مستقبلا، فقضاء الله فيهم لا رجعة فيه بشفاعته، فلا يطلب منه ما سبيل إلى إِجابته. أما ما سيأْتى في سورة نوح من قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. فقد صدر منه بعد يأْسه تماما من إيمان قومه. والمعنى: ولا تخاطبنى في تأجيل تعذيب هؤُلاء الذين ظلموا أنفسهم ونبيهم، إِنهم مغرقون ولابُدَّ، فلا مجال للرحمة بهم ولا مفرَّ من إهلاكهم. ¬

_ (¬1) سورة نوح، الآية: 26

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}. المفردات: {مَلَأٌ}: جماعة من الأشراف. {سَخِرُوا مِنْهُ}: اتخذوة هدفا للاستهزاءِ ومجالا. للضحك. {يُخْزِيهِ}: يذلُّه ويفضحه. التفسير 38 - {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}: نفذ نوح أَمر ربه، وظل يباشر صناعة السفينة وكلما رآه جماعة عن أَشراف قومه أثناءَ صنعتها واجهوه بالاستهزاءِ والسخرية منه. فقد عهدوه داعيا إِلى توحيد الله وعبادته، فإذا هو قد انصرف عن الدعوة واشتغل بقطع الأَشجار وتهيئة الألواح وضم بعضها إلى بعض ولم يدركوا السر في هذا التغيير. {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}: لما رأَى نوح قومه يسخرون من اشتغاله ببناءِ السفينة. هدَّدهم بقوله إن تسخروا منا اليوم فإننا عن قريب نجيب على سخريتكم بالفرح بهلاككم، وتخليص الأرض من شروركم وجهلكم في حق ربِّكم وحقِّ أَنفسكم. 39 - {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}: أَي إنكم تسخرون منا اليوم وسوف تعلمون غدًا من أَهل للسخرية والاستهزاءِ حينما يفجؤكم عقاب من الله يخزيكم في الدنيا، وحينما يحل بكم عذاب خالد يوم القيامة وبئس المصير.

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)} المفردات: {فَارَ}: فاض وارتفع بقوة واشتد اضطرابه. {التَّنُّورُ}: الفرن. {سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}: حق عليه قضاءُ الله. التفسير 40 - {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}: ظل نوح عليه السلام يصنع السفينة ويسمع سخرية الساخرين واستهزاءَ المستهزئين من قومه، حتى إذا أَتم صنعها وحل قضاءُ الله وتدفقت ينابيع الماء من مكان غير مأْلوف وهو جوف الفرْن، وهطل المطر من السماء مدرارًا، كما قال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (¬1). حتى إذا حدث هذا كله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: أَي قلنا لنوح عليه السلام احمل في سفينتك من كل صنف من الحيوان زوجين اثنين ذكرًا وأُنثى حتى لا تنقرض الأنواع، أَما الأَنواع التي أَمره الله بحملها معه فلم نعلم أَنه ورد في تحديدها نص صريح يوثق به. {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}: أَي واحمل معك في، السفينة أهلك جميعًا إِلاَّ مَن حقَّ علمه - قضاءُ الله بالهلاك مع الكفار لأَنه منهم، ومن سبق عليه القول من أَهله هم: ابنه وزوجته كما ورد في أَكثر من موضع في القرآن الكريم. {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}: أي واحمل معك الذين استجابوا لدعوتك وآمنوا برسالتك وهم عدد قليل. ¬

_ (¬1) سورة القمر، الآيتين: 11، 12

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} المفردات: {ارْكَبُوا فِيهَا}: أي اركبوا مستقرين فيها. {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}: أَي جريها في الماء، وإِرساؤها أي إِثباتها في مرساها، ويجوز أن يكون المراد منهما مكان أو زمان جريها وإرسائها. التفسير 41 - {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}: بعد أَن بيَّنت الآية السابقة أَن الله - تعالى - أمر نوحا عليه السَّلام أَن يحمل في السفينة زوجين اثنين من كل الحيوانات المنتفَعِ بها، وأن يحمل فيها أَهلَه إلا من سبق عليه قول الله بالغرق بالطوفان، جاءَت هذه الآية لِتبيِّن أَنه نفَّذ ما أَمره به، وأَوصى أهله أَن يذكروا اسمه - تعالى - عند ركوبهم فيها على النحو الذي سنشرحه، والركوب كما قال العلامة أَبر السعود: هو العلو على شيءٍ له حركة، إِمَّا إرادية كالحيوان أَو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما، فإذا استعمل في الأَول لم يذكر معه لفظ (في) كما في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (¬1). وإذا استعمل في الثاني لوحظت الظرفية فذكر معه لفظ (في) كما هنا، وكما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}. (¬2) وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}. هذه خلاصة ما أسهب به في هذا الموضوع، وقال البيضاوى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}: أي صِيرُوا فيها وجعل ذلك ركوبا، لأَنها في الماءِ كالمركوب في الأرض: اهـ. والمعنى: وقال نوح - عليه السلام - لأهله والمؤْمنين الذين أمره الله بحملهم معه: اركبوا في السفينة قائلين بسم الله جريها فوق الماءِ المتلاطم الأَمواج، وبين ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 8 (¬2) سورة الكهف، من الآية: 71

الزوابع والعواصف وتحت سُحُبٍ مفتَّحة الأَبواب بماءٍ منهمر، وبسم الله إرساؤُها وإيقافها عن الجرى عند مرْساها الذي شاء الله أَن يوقفها ويثبتها عنده. ويجوز أن يكون نوح بعد أن أمرهم بركوبها، أخبرهم بأَن جريها وإِرساءَها بإِذن الله وحمايته حتَّى لا يخافوا من ركوبها في هذا الفزع الأَكبر، فكأَنه قال لهم: اركبوا في السفينة بإذن الله جريها وإيقافها لا بإِذنى فلا تخافوا من الغرق، ويرشح هذا المعنى ختم الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي إن ربي لعظيم الغفران لذنوب المؤمنين، واسع الرحمة والرأْفة بهم، ومن كان كذلك فهو الكفيل بنجاتهم من كل خطر يُحيط بهم. {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}. المفردات: {فِي مَعْزِلٍ}: أَي في مكان عزل نفسه فيه عن أَهله. {يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}: يمنعنى، يحمينى منه. التفسير 42 - {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}: هذا الكلام مرتبط بمقدر مفهوم من الآية السابقة، أي فركبوا في السفينة {بِسْمِ اللهِ} الخ، وفي تجرى بهم بعد ركوبهم، في موج مرتفع كالجبال، لشدة العواصف والرياح التي يثأَثر بها الموج ويشتد ارتفاعه.

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ... } الآية. في هذه الآية عدة أَسئلة: (أحدها): كيف ينادي نوح ابنه ليركب معه في السفينة مع أَنه نهى عن ذلك بقوله سبحانه: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}؛ ومن سبق عليه قول الله هم الذين قضى بإغراقهم لكفرهم؟ وقد أُجيب عن ذلك: بأَنه لم يقطع الأَهل في إِيمانه إِذ لم يكن لديه علم بأَنه مصرُّ على الكفر وأنه من المغرقين، إلا بعد أَن أَخبره الله بأَنه ليس من أهله المؤمنين وبأنه من المغرقين، ويدل لذلك قوله: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}. فكأَنه يقول له اركب معنا نحن المؤمنين وكن مؤْمنا في جملتنا، ولا .. تكن باقيا على الكفر مع الكافرين حتى لا تغرق بسبب كفرك وعزلتك معهم، وقيل: إنه كان ينافق أباه فيظهر له الإِيمان ويبطن الكفر فلذلك دعاه ليركب مع المؤْمنين ظانًّا أنه مؤمن، والرأْى الأَول أَظهر. (وثانى هذه الأَسئلة): ما المراد بكونه {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}؟ والجواب: أَنه كان في مكان عزل فيه نفسه عن أَبيه وعن المؤْمنين وقتما كانوا على الشاطىء يستعدون لركوب السفينة، ولكنه كان بحيث يسمع النداءَ، فلذلك ناداه أَبوه بترك العزلة مع الكافرين، والانضمام إِليهم في الإيمان وركوب السفينة معهم. (والسؤال الثالث): ظاهر النص الكريم، أَن نوحا نادى ابنه وكانت السفينة تجرى بهم في موج كالجبال والمعقول أنه يناديه قبل أن تبحر بهم؟ والجواب: أن هذا حكاية لما حدث منه لولده قبل إبحار السفينة، وليس في النص ما يقتضي تأَخره إِلى ما بعد جريانها فكأَنه قيل: وهى تجرى بهم في موج كالجبال، وكان نوح قد نادى ولده ليترك مَعْزلَهُ، ويؤمن ويركب معهم، لينجو من الغرق في طوفان أَمواجه كالجبال، فأَبى وقال: سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء الخ. والمعنى الإجمالى للآية: فركبوا في السفينة بإذن الله جريها وإِرساؤها، وهى تجرى بهم في موج كالجبال، وكان نوح قبل إِبحارها قد نادى ابنيه وكان في مَعزل عنه وعمَّن

آمن معه، قائلا له بحكم الشفقة الدينية والأَبوية: يا بنى اركب معنا نحن المؤْمنين ودع ما أَنت عليه من الكفر، لتنجو من الغرق، ولا تكن منعزلا عنا مع الكافرين، فإنهم سيغرقون ويهلكون. 43 - {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}: توهم هذا الولد المفتون أَنه يستطيع أَن ينجو من الغرق باللجوءِ إلى جبل مرتفع، كما يحدث في بعض المُلمَّات من اللجوءِ إلى أَسباب النجاة العادية، فلهذا رفض دعوة أَبيه وقال له: سأَلجأُ إِلى جبل مرتفع يحمينى من الماء ويمنعنى تسلُّقُه من الغرق بالطوفان، فردَّ عليه أَبوه قائلًا: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}: أَي ليس هذا الذي نزل بالناس ماءً عاديا يُتَّقى فيضانه بارتقاء الجبال، بل هو عذاب الله وعقابه للكافرين فلا يُنْجِى منه إلا الله الذي رحم عباده المؤْمنين بإركابهم سفينة النجاة فدع عنك هذه الغفلة، وآمن بربك واركب مع المؤمنين سفينة النجاة، لتنجو معهم، ولكنه لم يستمع إلى نصيحة أبيه. {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. أي قام الموج حائلا بين نوح وابنه فاجتذبه إِليه، وانقطعت صلة التفاوض بينهما، وكان هذا الولد من جملة الذين أَغرقهم الله بالطوفان من الكفار أَمثاله. {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)} المفردات: {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}: ويا سماءُ أَمسكى عن المطر، والسماءُ هنا؛ السحاب.

{وَغِيضَ الْمَاءُ}: أَي نقص. {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}: واستقرت السفينة على جبلٍ يُسمَّى بهذا الاسم، واختلف في موقعه على ما سنبينه في الشرح. {بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: أَي هلاكا لهم، يقال: بَعُدَ بُعْدًا وَبَعْدًا، إذا بَعُدَ بحيث لا يرجى رجوعه، ثم استُعِير للهلاك. التفسير 44 - {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}. بعد ما بيَّنت الآية السابقة شدة الطوفان وإِغراقه لأَهل الأَرض، وأَنه لم يعصم منه إلا من رحمه الله وهم أهل السفينة التي صنعها لهم نوح، جاءَت هذه الآية لتبيِّن انتهاءَ الطوفان بأَمر الله، بعدما أَهلك الله به الظالمين. والمعنى: أَنه - تعالى - بعد إهلاكه الظالمين بالطوفان، أَمر الأَرض أَن تكف عن الفوران وأَن تبتلع ما على ظهرها من الماءِ الذي جاءَ به الطوفان، دون ما فيها من مياه البحار والمحيطات، وأَمر السماءَ أن تكفَّ عن المطر، وتقلع عن إرساله مدرارًا، وظاهر الآية: أن الأرض والسماء نوديا حقيقة، وأنه - تعالى - خلق لهما إدراكا جعلهما أَهلا لتقبُّل التكليف، وَلا يبعد ذلك على قدرة الله تعالى، ويشهد له قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (¬1). ومن المفسِّرين من جعل ذلك تمثيلا لكمال قدرة الله عليهما، وتمام انقيادهما لما يشاؤه فيهما، قال الإِمام البيضاوى: نوديا بما ينادى به أُولو العلم، وأُمرا بما يؤمرون به تمثيلا لكمال قدرته، وانقيادهما لما يشاءُ تكوينه فيهما، بالآمر المطاع الذي يأْمر المنقاد لحكمه، المبادر إلى امتثال أَمره، مهابة من عظمته، وخشية من أليم عقابه، انتهى. {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}: ونقص الماء حتَّى غاب في الأَرض بعد ما صدر أمر الله للسماء بالإقلاع والأَرض بالابتلاع وتنفيذهما مشيئته فيهما، وأنجز الأَمر الذي جاءَ الطوفان من أجله، وهو هلاك أُولئك ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الأية: 79

الظالمين من نوح، وتطهير الأرض منهم، لينشأَ جيل جديد من البشر على توحيد الله وطاعته، واستقرت السفينة بعد أن جف ظاهر الأَرض، على جبل اسمه الجودى. وقد اختلف الناس في بيان موقعه؛ فمنهم من قال: إنه بالموصل، ومنهم من قال: بالشام ومنهم من قال بآمل - بمدّ الهمز وضمّ الميم - ومنذ عدة سنين نشر بالصحف، أَنهم وجدوا أَلواحا طويلة على جبل أرارت تشبه أَلواح سفينة كبرى، وقيل: إنها بقايا سفينة نوح، والله - تعالى - أَعلم بالحقيقة. {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: إذا قلت: بعدا لفلان، فأَنت تدعو عليه، فهو خاص بدعاءِ السوءِ، وكثيرا ما يستعار للدعاءِ بالهلاك كما هنا. والمعنى: وقيل من جهة الله تعالى: هلاكا لقوم نوح لكونهم ظالمين أَشد الظلم. ويقول العلامة البيضاوى، في وصف بلاغة الآية وفصاحتها ما يلى: "والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها، وحسن نظمها، والدلالة على كنه الحال، مع الإِيجاز الخالى عن الإِخلال، وفي إيراد الإِخبار على البناءِ للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل وأَنه متعين في نفسه، مستغنٍ عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره، للعلم بأَن مثل هذه الأَفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار". انتهى. وقال الألوسى: هذه الآية بلغت من مراتب الإِعجاز أَقاصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، إلى آخر ما قال. هل شمل الطوفان جميع الأَرض إذا قرأَنا قصة الطوفان في سور القرآن التي تحدثت عنه، نجد فيها أن الله تعالى جعله عقوبة لقوم نوح لغلوهم في الكفر، وإصرارهم عليه أحقابا ودهورا، وقوم نوح كانوا في إقليم من أقاليم الأَرض يعلمه الله، ولم يكونوا منتشرين في أرجائها كلها، فهل يبعثنا هذا على القول بأَن الطوفان لم يعم الأرض جميعا، بل كان قاصرًا على المنطقة التي كان يوجد فيها قوم نوح لعقابهم، وهل يشهد لصحة هذا الاستنتاج أَن الله تعالى قال هنا في آخر القصة: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. كما يشهد له أن نوحا كان قريبا

سؤال

من جدّه لآدم - عليهما السلام - فالبشرية في عهده كانت محصورة في حيِّزٍ ضيق من الأَرض أم أَن الطوفان مع كونه عقوبة لقوم نوح، فإنه كان لجميع أَنحاء الأَرض لحِكَمٍ يخص بعلمها الحكيم الخبير، ولم نجد لهذا السؤال جوابا حاسما يحمل على اعتقاد عمومه أَو خصوصه يقينا، والذى يجب اعتقاده هو عموم الطوفان للكافرين لقوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. وقوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}. أَما عمومه لجميع بقاع الأَرض، فليس لدينا ما ينفيه على البت والقطع، لاحتمال النصوص لهذا العموم، ولأَنه قد وجدت بعض الأَصداف والأَسماك المتحجرة في أعالى الجبال، لأَن هذه الأَشياءَ لا تتكون إِلاَّ فى البحر، فلا بد أَن تكون هذه مخلفات طوفان عمَّ الأرض، وارتفع إلى أَعالى الجبال .. سؤال قد يقول قائل: ما ذنب الصغار الذين لم يبلغوا حد التكليف حتى يهلكهم الله بالطوفان؟ والجواب: أنه مجرد سبب لموتهم، وليس موتهم به عقوبة لهم، وأَى محذور في إِماتة مين لا ذنب له؟ وفي كل وقت يميت الله من هؤُلاء الصغار بأسباب وبغيرها عددا لا يحصى، فالخلق عباده، والملك له - وحده - يفعل فيه ما يشاءُ حسب حكمته العالية، فهو الحكيم الخبير. {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} المفردات: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}: أَي بعض أَهلى الذين وعدتنى بنجاتهم.

{لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أَي لا يستحق الانتساب إليهم، لانقطاع الولاية بين المؤْمن والكافر. {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: أي إِنه صاحب عمل فاسد، فلا ينسب إلى أَهلك الذين سبق الوعد بإنجائهم. {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: إِنى أُحذرك أن تكون من جملة الجاهلين بسؤالك نجاة ولدك الكافر. التفسير 45 - {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... } الآية. تقدم في الآيات السابقة بيان أَن نوحا دعا ولده هذا إلى أَن يركب معه السفينة، ولا يتخلف مع الكافرين حتى لا يهلك بهلاكهم، وأنه أجابه بأَنه سيأْوى إِلى جبلٍ يعصمه من الماءِ، وأن أَباه أَفهمه أنه لا عاصم من الغرق، إِلا الله الذي رحم المؤْمنين ركَّاب السفينة، وأَن الموج حال بينهما فانقطع الحديث، وكان هذا الولد من المغرقين. وظاهر هذه الآية أن نوحا أراد بقوله: - {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} الخ أن يطلب من الله تعالى نجاته من الغرق بالطوفان، فكيف يطلب ذلك بعد غرق ولده، لأَنه من الكافرين المغرقين. ويجاب عن ذلك، بأَن نوحا لم يكن رآه يغرق، وأَنه ربما ظن أنه نحا باللجوءِ إلى جبل، أَو أَنَّ كفره لم يكن مُؤكدًا لديه، ولذا قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}. ولم يكن يظن أَنه ممن سبق عليه القول بالغرق في قوله - سبحانه -: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}. وأُجيب بغير ذلك وحسبنا ما ذكرناه. والمعنى: ودعا نوح ربه قائلا: يا رب إن ابنى من أهلى، وقد وعدت أن تنجيهم فما حاله؟ أو فما له لم ينج؟ ويجوز أن يكون هذا النداءُ قبل غرقه - كما قال البيضاوى (¬1). {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}: أي وإِن كل وعد يصدر عنك يا رب هو الحق فلا يتطرق إِليه الخُلْف، وقد وعدت أن تنجى أَهلى، وأَنت أَعدل الحاكمين، فلعلك يا ربى نجيته، وقضيت بنجاته. ¬

_ (¬1) وتفصيلا لما أجمله البيضاوى نقوله: الواو في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} الخ لمجرد العطف لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وإِنما أخر إِلى تمام قصة السفينة ونجاتها بركابها المؤمنين، تقديما للأهم على المهم كما قدم في قصة البقرة أمر ذبحها واختلافهم في صفاتها، على ذكر السبب فيه وهو اختلاقهم فيمن القتيل، فراجعها هناك لتعرف سر تقديم العجز على الصدر.

46 - {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: قال الله لنوح في إِجابته على سؤاله: يا نوح إن ابنك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم من الطوفان، لأَن عمله لا صلاح فيه، فهو الفساد بعينه، فخرج بذلك عن كونه من أَهلك، لانقطاع الولاية بين المؤْمن والكافر، ولأَن أَساس نجاة أَهلك الإِيمان دون النسب. {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: أي إذا كنت قد علمت شأْن ولدك الذي ظننت أَنه أَهل للنجاة، وتبيَّن لك أَنه أهل للهلاك لكفره، فلا تسأَلنى فيه ولا في غيره بعد ذلك مطلبا لا تعلم يقينا أَنه صواب وموافق للحكمة. {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: إِنِّى أُحذرك وأنهاك عن أَن تكون من جملة الجاهلين، بسبب سؤَالك إِيانا ما لا تعلم يقينا أنه صواب وموافق للحكمة لدينا. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} المفردات: {أَعُوذُ بِكَ}: أَلتجىءُ إليك وأحتمى بك. {بِسَلَامٍ}: بسلامة وأَمن. {وَبَرَكَاتٍ}: ونعم ثابتة.

التفسير 47 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}: تحكى هذه الآية توبة نوح عمَّا سأله في شأْن ولده، ولجوءه إِلى الله أَن يعصمه من أن يعود إلى مثل ما طلبه بشأْته. والمعنى: قال نوح بعد ما وعظه الله وذكَّره: يارب إِنى أَلتجىءُ إليك لتعصمنى من أَن أطلب منك مستقبلا مطلبا لا أَعلم يقينا أَن حصوله مقتضى الحكمة أو أَنه صواب. وهذه الاستعاذة التي صدرت من نوح عليه السلام، هي توبته ممَّا حدث منه، وهى أَبلغ في التوبة من أن يقول: أتوبُ إِليك أن أسأَلك، لما فيها من الدلالة على أن ذلك أَمر لا قدرة للعبد عليه إِلا بالاستعانة بالله واللجوءِ إِلى حمايته وعصمته. {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: وإِن لم تغفر لى يا رب ما طلبته في شأْن ولدى حين قلتُ: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} فقد سأَلتُك بذلك نجاته، وظننتُ أنه داخل في وعدك الحق ولم أَكن عالما بحقيقة أَمره، وأَنسانى ذلك شكر إِنعامك بالنجاة علينا، وإهلاك أَعدائنا إِن لم تغفر ليّ ذلك، وترحمنى بقبول توبتى، أكن من الذين خسروا أَعمالهم وأَضاعوها لأَننى غفلت عن أَنَّ ترك ولدى لركوبه معنا في السفينة التي أَمرنى الله بإِعدادها لنجاة المؤمنين شاهد على أنه لا يأْتمر بأَمر ربه، وأَنه ليس معه بقلبه، وأنه لا يستحق أن يكون داخلا في الوعد بنجاة أَهلى، حتى أستنجز ربي ما وعدنى. واعلم أَن ما فعله نوح في شأْن ولده ناشىءٌ عن اجتهاد منه، وبدافع الشفقة التي أودعها الله قلب كل والد، وهذا لا يعتبر مثله موضع لوم وتحذير من الله، ولا توبة من العبد، لكنه بالنسبة للأَنبياءِ ليس كذلك، فما يعتبر مخالفة يسيرة في حقنا يعتبر ذنبا في حقهم. 48 - {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ... } الآية. أي قالت الملائكة بأَمر الله، أَو قال الله تعالى: يا نوح اهبط من السفينة بسلامة وأمن منَّا إِلى الأرض التي ابتلعت ماءَها وأَصبحت صالحة للنزول بها، وهذه السلامة مصحوبة ببركات وخيرات دنيوية وأخروية، عائدة عليك في نفسك ونسلك، وعائدة

أَيضا على أمم سوف تنشأ ممن معك، وتتشعب منهم وعلى سنتهم من الإيمان إلى يوم القيامة، وهذه البشارة إعلام بقبول توبة نوح ونجاته من الخسران بفيضان الخيرات عليه في كل ما يأتى ويذر، وعلى أُمم مؤمنة تنشأْ ممن ركبوا السفينة معه من المؤمنين. {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: وأمم من ذريتهم ليسوا على سنتهم من الإيمان والعمل الصالح، سنمتعهم في الدنيا فيستنفدون فيها طيباتهم، ثم يصيبهم في الآخرة أَو فيهما معا عذاب شديد الإيلام فأَنت ترى أَن السلام الذي هبط به نوح ومن آمن معه، دخل فيه كل مؤمن ومؤمنة من ذرياتهم إلى يوم القيامة، وأَن المتاع العاجل والعذاب الآجل دخل فيه كل كافر وكافرة من ذرياتهم إِلى يوم القيامة. وعن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض، ثم أَخرج منهم نسلا، منهم مَن رحم ومنهم من عذب. {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} التفسير 49 - {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ... } الآية. بعد أن بيَّن الله قصة نوح وقومه مفصَّلة بدقائقها، جاءت هذه الآية تشير إلى أنَّ إخبار القرآن عن هذا الغيب البعيد يعتبر من آيات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: تلك القصة العجيبة التي فصل فيها ما حدث بين نوح وقومه، وما انتهى إِليه أَمرهم من الهلاك بالطوفان، هي من أَنباء الغيب نوحيها إِليك لتكون برهانا على نبوتك، وذلك لأنك: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}: فإذا كان قومُك يجهلونها وقد عشتَ بينهم ولم تخالط غيرهم، فإن الذي أخبرك بها. مطابقة لواقعها هو الله الذي أَرسلك، وجعلها وأمثالها آياتٍ تشهد برسالتك، وإن

أَعرض قومك. ولم يصدقوك. {فاصْبِرْ}: كما صبر نوج على معارضة قومه وإيذائهم له ولمن آمن معه. {إِنَّ الْعَاقِبَةَ}: بالظفر في الدنيا والفوز في الآخرة. {لِلْمُتَّقِينَ}: الذين يصبرون ولا يجزعون ولا يفترون، مهما عارضهم الكافرون، فقلوبهم واثقة من نصر الله، وجوارحهم مشغولة بطاعة الله. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} المفردات: {مُفْتَرُونَ}: كاذبون. {فَطَرَنِي}: خلقنى ابتداءً من غير مثال سبق، والفطرة؛ الخلقة ابتداءً - كما قاله القرطبى. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ}: يرسل السِحاب، فكل ما علاك سماء. {مِدْرَارًا}: كثيرة الدُّرُورِ والسيلان. التفسير 50 - {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}: بعد أَن ذَكَّرَ الله قريشا بما أَصاب قوم نوح لمّا أَصروا على كفرهم، زادهم تذكيرا ببيان ما أَصاب غيرهم من الأُمم التي كفرت بالرسل، وقدم قصة عاد على ما بعدها لأَنها أقربها إلى قوم نوح، وعاد هذه هي عاد الأُولى، سميت باسم جدها الأَول وهم قوم يسكنون الأَحقاف بين الشحر وعُمَان وحضرموت، وكانوا قوما جبارين عظام

الأَجسام؛ قال تعالى في شأْنهم: { ... وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ... (¬1)}: وهم من ذرية سام بن نوح، وكانوا أَهل أَوثان وطغيان، فأَرسل الله إليهم رسولا من بينهم فطره على التوحيد، وأَنشأه الرسل الأَطهار وهو هود عليه السلام، ليدعوهم إلى التوحيد، وترك ما هم عليه من الشرك والجبروت. وقد عبرت الآية عن هود عليه السلام بأَنه أَخو عاد، للإِيذان بأَنه منهم نسبًا، وأَنه نشأَ بينهم، فهم يعرفونه من منشئه إِلى أن دعاهم إلى الحق، ويعرفون من حسن سلوكه أَنه لا يخدعهم ولا يدعوهم إلا إلى ما تدعو إليه الأُخوة من الخير والحق، فإن الرائد لا يكذب أَهله. والمعنى: وأرسلنا إلى عاد رسولا من بينهم هو هود، ليأْمنوا جانبه ويطمئنوا إِليه لأنه نشأَ فيهم، وعرفوا صدقه وطيب نشأَته. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}: تحكى هذه الآية ما جرى بين هود وقومه على وجه الإجمال، فالمعقول والمنقول في سياسة الرسل لأُممهم أَنهم لا يجابهونهم في أَول لقائهم معهم بوصفهم بالافتراء، ففي سورة الأعراف يقول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. (¬2) فقد نصحهم بوقاية أنفسهم من عقاب الله؛ بعبادتة وحده، ولم يصفهم بالافتراء، فلذا يحمل وصفهم به هنا على أنه حدث بعد أَن طال جدالهم ومعارضتهم له. والمعنى: قال هود لقومه بعدما نصحهم وذكرهم مدة طويلة، وأَصروا على شركهم قال لهم: اعبدوا الله، ودَعوا ما أنتم عليه من الإشراك به، فليس لكم عن إله سواه، ما أنتم إلا كاذبون عليه في اتخاذ الأَوثان شركاءَ وجعلها مستحِقة للعبادة معه، وزعمكم أَنها لكم شفعاء. ¬

_ (¬1) الأعراف، من الآية: 69 (¬2) الأعراف، من الآية: 65

51 - {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}: خاطب هود قومه بأَن دعوته خالية عن المطامع الدنيوية، لبيان إِخلاصه في النصيحة ودفع الريبة عن دعوته، وكذلك فعل كل رسول مع قومه إبعادا للتهمة عنه، وطلبا لنجاح دعوته، فإِن الدعوات المشوبة بالمطامع لا نجاح لها. والمعنى: يا قومى وأَهلى، أنا لا أَطلب منكم أَجرًا، ولا أَبتغى بدعوتى جزاءً دنيويا من مال أَو جاه، فما أجرى في إِرشادكم وهدايتكم على أَحد إلا على الله تعالى، فلا وجه لمخالفتكم وإمعانكم في الإِعراض عما جئتكم به من الله، مع وضوح الآيات والتجرد عن المطامع الدنيوية، ثم دعاهم إلى استعمال عقولهم، وعاب عليهم إِغفالها فقال: {أفَلاَ تَعْقِلوُنَ}: أَي اتغفلون فلا تستعملون عقولكم، لتعرفوا الحق من الباطل والصواب من الخطأ. 52 - {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}: ويا قوم اطلبوا المغفرة من ربكم لما قدمتموه من الشرك والمعاصي بالإِيمان والطاعة، ثم توسلوا إليه بعد الإيمان بالتوبة والندم على ما فاتكم من طاعة الله، وبالعزم علي عدم العودة إلى طريق الشيطان الرجيم. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}: أَي إن تستغفروا الله وتتوبوا اليه من شرككم وجبروتكم، يرسل السحاب عليكم كثير الدَّر غزير المطر، ويعطكم قوة مضافة إلى قوتكم، بتوفير الأَسباب المؤدية إِلى ذلك من الزرع والضرع والصناعة، والحصون والبروج وغير ذلك، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زرع وضرع ومصانع وحصون وقصور، وكانوا ذوى جبروت وقوة، كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (¬1). فرُغِّبوا في الإيمان بتوفير ما يحبون لهم، وسوف يعلمهم الإيمان وشريعة الرحمن كيف ينتفعون وينفعون بتلك النعم، وكيف يوجهون قوتهم وجبروتهم فلا تكون إلا ¬

_ (¬1) الشعراء، الآيات: 128 - 130

في الخير وإرهاب الشر، ثم نصحهم بعدم الإعراض عما دعاهم إليه فقال: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}: أَي ولا تنصرفوا معرضين عن دعوة الحق، مصرين على إجرامكم وعصيانكم. {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} المفردات: {بِبَيِّنَةٍ}: بحجة. {عَنْ قَوْلِكَ}: أي من أجل قولك، {بِمُؤْمِنِينَ}: بمصدقين. {لَا تُنْظِرُونِ}: لا تمهلون. التفسير 53 - {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ}: قال شعب عاد لنبيهم هود، وهم مصرون على رفض دعوته: يا هود أنت ما جئتنا بحجة تدل على صدق نبوتك، يقولون ذلك ليجعلوا منه سبيلا إِلى عدم الاستجابة إلى ما دعاهم إليه، والحق أنهم كاذبون، فقد جاءهم من المعجزات فوق ما يكفى لطمأْنينة من أَلقى السمع، وأَجال البصر، وفكر بعقل حر، فما من نبي إلا أيده الله من الآيات بما يكفى لإيمان أهل الحق. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِن نَبيٍّ منَ الْأنبِيَاءِ إلا أعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثلُهُ آمَنَ عَلَيْه البَشَر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذى أُوتِيتُ وَحْيًا أوحَاهُ اللهُ إلَىَّ، فَأرْجُوْ أنْ أكُونَ أكْثَرهُم تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". والمقصود من كون الذي أُوتيه الرسول وحيا، أنه اختص بالقرآن إلى جانب معجزاته الأُخرى التي يشاركه في مثلها الأَنبياءُ، فالقرآن هو أعظم معجزاته التي تحدى

بها البشر، واعلم أَن كل نبي أُوتى معجزة لم يؤْتها غيره، وهى التي تحدى بها قومه وهذا لا ينافى حصول خوارق أُخرى على يديه. وبعد أن نفوا مجىء هود عليه السلام ببينة قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}: أي وما نحن بتاركى عبادة آلهتنا صادرين في تركها عن قولك وما نحن لك بمصدقين نبوتك حتى فرفض آلهتنا بسبب قولك لنا: دعوها واتركوها. 55،54 - {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ... } الآية. أَي ما نقول في شأْن ما أَنت عليه وجئتنا به إلا أَنك أَصابك بعض آلهتنا بشر ساءَك فأَفقدك عقلك، وجعلك تهذى وتتكلم بالخرافات عن آلهتنا، وتدعو إلى إله واحد وتخوفنا بعقابه في الآخرة، إلى غير ذلك مما تقول، ولقد سلك هؤلاء في عنادهم سبيل التدرج والتسلسل، فنفوا مجيئه ببينة ثم نفوا تركهم لآلهتهم لمجرد قوله لهم (اتركوها) دون أَن يقنعهم بحجه تقتضى تركهم لها، ثم نفوا تصديقهم له، لأَنه لا حجة لديه تثبت نبوته، ثم بعد هذا الهذيان كله قالوا فيه ما قالوه من السباب {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. ولقد حكى الله تعالى رده عليهم بعد هذا كله بقوله: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ}: أي أشهد الله على براءَتى مما تجعلونه من غير الله شريكا له سبحانه، واشهدوا أَنتم على براءَتى من ذلك، فليس لكم على ما تزعمون برهان، وما أُنزل به سلطان. {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}: أَي فدبروا لى المكايد والمحن أَنتم وشركاؤكم جميعًا، بعد ما نلتُ منها وَجَرَّدتُها من وصف الأُلوهية ومقتضياتها، وعاقبونى على امتهانى لها، ولا تمهلونى ولا تتراخوا في عقوبتى إن صح ما زعمتوه من أُلوهيتها.

وخطاب النبي هود عليه السلام لقومه بهذا الأُسلوب الذي بلغ الغاية في التحدى والتحقير لهم ولآلهتهم، والإساءَة لكبريائهم وجبروتهم وحميتهم وعصبيتهم، مع ما عرف عنهم من سفك الدماءِ، والعُنجهية والكبرياءِ، وعجزهم عن تحقيق شىءٍ مما تحداهم به مع كونه وحيدًا لا يؤيده سوى قليل من المؤمنين لا حول لهم ولا قوة، هذا كله فيه برهان واضح على ثقته - صلى الله عليه وسلم - بتأْييد ربه وعنايته به ونصره له، وعصمته من المكاره، كما أَنه برهان على أنه مرسل من الله، حيث أَعجزهم عن الإضرار به والقضاء على دينه، فكأَن المولى يقول لعاد صدق هود فيما يبلغه عنى، وقد عقَّب هذا التحدى الدال على ثقته بربه، ببيان مصدر ثقته فقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} التفسير 56 - {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}: أي إنكم لن تضروني بكيدكم لى مهما اجتمعتم عليه، فإنى توكلت على الله مالكي ومالككم وخالقى وخالقكم، واعتمدت عليه في دفع ضركم عنى، وتآمركم على. {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. (¬1) ثم أكد ثقته بربه وعدم قدرتهم عليه بقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أي ما من دابة من حيوانات الأرض وأَناسيِّها إلا الله مالك لها قادر عليها، يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه، إن ربي على سبيل من الحق والعدل مستقيم، فلا يضيع من اعتصم به ولا يفوته ظالم لنفسه أو لعباده. ¬

_ (¬1) يوسف، من الآية: 64

والدابة كل ما يدب على وجه الأرض، أَي يتحرك عليها فيدخل فيها الإأنسان والحيوان والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها، والأخذ بالناصية كناية عن القدرة والتسلط، وفي البحر لأَبى حيان أَن هذا التعبير صار عرفا في القدرة على الحيوان، والتعبير بقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تمثيل لعدله واستقامة تدبيره لخلقه، وجزائه لهم بالثواب والعقاب، وأَنه كاف لمن اعتصم به، وفي الْكَشْف أَن في قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} إلى آخر الآية، ما يبهرك تأَمله من حسن التعليل، وأَن من توكل على الله لا يبالى بهول ما ناله، ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ}. فكيف يصاب من لزم شدة العبودية وينجو من تولى عن ربه - إِلى آخر ما نقله الآلوسى عنه، فارجع إليه إِن شئت. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} المفردات: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ}: يجعلهم خلفاءَ لكم في دياركم {حَفِيظٌ}: عليم. التفسير 57 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا (¬1) فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}: أَي فإن تتولوا وتعرضوا عما دعوتكم إليه، فلا عذر لكم، فقد أَبلغتكم رسالة ربى إليكم، وبذلت لكم النصح، وقدمت الحجج والبراهين، وأديت حق ربي، فلا تفريط منّى، ولا حجة لكم. ¬

_ (¬1) أصله فإن تتولوا، فحذف حرف المضارعة وهو التاء الأولى تخفيفا لثقل تكرار التاء.

{وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ}: كلام مستأْنف مراد به وعيدهم وإِنذارهم، بأَنه تعالى سوف يهلكهم إِن استمروا على كفرهم، ويستخلف مكانهم قوما آخرين في ديارهم وأَموالهم. {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}: ولا تضرون ربي شيئا من الضرر، لا بإعراضكم وتوليكم عن دينه، ولا بإِهلاككم بذنوبكم، فإن هلاككم لا ينقص ملكه، ولا يخل بأَمره. {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}: إِن إِلهى وخالقى على كل شيءٍ رقيب، وبكل شيءٍ عليم، فلا يغيب عنه شىءٌ من أعمالكم ولا ما انطوت عليه صدوركم، وسوف يجازيكم على خطاياكم في دنياكم وأُخراكم. {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} المفردات: {أَمْرُنَا}: عذابنا الذي أَمرْنا به، أَو المراد به الإذن بالعذاب والأَمر به. {مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: من عذاب شديد لا يحتمل. {جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: الجبار؛ العاتى المتسلط، والعنيد هو الذي يرد الحق ويرفضهُ وهو عارف به. {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، واللعنة؛ الطرد من الرحمة. {كَفَرُوا رَبَّهُمْ}: جحدوه وأنكروا وحدانيته. {بُعْدًا}: هلاكا.

التفسير 58 - {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}: أي: ولما نزل عذابنا بقوم هود الكافرين، وكان بحيث يمكن أَن يصيب المؤْمنين نجينا هودًا ومن آمن معه برحمة منا، حيث حفظناهم من العذاب الذي يمر بهم ولا يؤْذيهم، ويفتك بغيرهم ويكون رحمة لهم. {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: هذه الجملة معطوفة على مثيلتها السابقة لبيان ما نجاهم الله منه. أَي وكانت تنجيتنا لهود والمؤمنين من عذاب شديد الغلظة عظيم الفتك بالكافرين، حيث { ... أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (¬1). وكان مع هذا رحمة بالمؤْمنين، لا يضرهم ولا يصيبهم بمكروه. 59 - {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: المعروف من ظواهر النصوص أن عادا الأُولى لم يرسل إليها سوى هود، لكن هذه الآية تقول إنهم عصوا رسله، ويؤول ذلك بجعل عصيانهم لهود عصيانا لجميع رسل الله السابقين واللاحقين، لأَن ما جاءَ به من التوحيد وأصول الشريعة لديه. جاءَ به جميع المرسلين فعصيان أَحدهم يعتبر عصيانا لجميع الرسل. والمعنى: وتلك الأُمة (عادٌ) - التي مضى الحديث عنها - جحدوا بآيات ربهم الكونية الشاهدة بنبوَّة هود، وبالشريعة التي تعبَّدهم الله بها، وعصوا جميع رسل الله الذين أرسلهم لهداية البشر، فقد كذبوا رسولهم مباشرة، وكذبوا جميع الرسل ضمنا بتكذيبهم له، واتبعوا أمر كل متمرد طاغ معاند للحق من رؤسائهم وكبرائهم، فقلبوا بذلك موازين الأُمور، حيث عصوا من دعاهم إِلى ما ينجيهم، وأطاعوا من دعاهم إِلى ما يُرْدِيهِمْ. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآيات 6 - 8

60 - {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أَي: وأُلزموا في هذه الدنيا لعنة، فلازمتهم ملازمة التابع للمتبوع، حق أَوردتهم موارد الهلاك الغليظ، وأُلزموها يوم القيامة، حتى خلدتهم في النار. {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}: كُفْرُ عَادٍ بربهم أَمر مفهوم من قصتهم التي مر بيانها، وإِنما أُعيد ذكره هنا بهذا الأُسلوب المنبه للسامع، للإيذان بأَن كفرهم هو سبب هلاكهم ولعنتهم حتى يخشى مصيرهم من كان على شاكلتهم. والمعنى: أَلا إِن عادا كذبوا بوحدانية ربهم وجحدوا أنعمه، ألا هلاكا لعاد قوم هود هؤلاءِ، بسبب إصرارهم على كفرهم وعتوهم وعنادهم، ويلاحظ في الآية الكريمة تكرار حرف التنبيه (أَلا) وأعادة لفظ (عَادٍ) للمبالغة في تفظيع حالتهم، والحث على الاعتبار بقصتهم. والتعبير بقوله: {عَادٍ قَوْمِ هُودٍ} للإِيذان بأَنهم عاد الأُولى تمييزًا لهم عن عاد إرم - وتسمى عادًا الثانية وهم بقية من عاد الأُولى، وإرم مدينتهم وقصبتهم، وكانوا أهل ترف ومال ولكنهم لما كفروا وبغوا في الأرض صب عليهم الله العذاب، قال تعالى في شأْنهم في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}. إِلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)} المفردات: {أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}: ابتدأَ خلقكم من الأَرض وأَوجدكم منها بخلق أبيكم آدم من ترابها. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: جعلكم تعمرونها، إِذ مكنكم من العمل فيها واستثمارها والبناء عليها {مَرْجُوًّا}: موضع رجائنا وأَملنا إِذ كان فاضلا خيِّرًا. {مُرِيبٍ}: مُوقِع في الريبة وقلق النفس وعدم الاطمئنان. التفسير 61 - {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ... الآية. وأَرسلنا إلى قبيلة ثمود واحدًا منهم وأخا لهم في النسب يُسمَّى صَالِحًا - أَرسلناه مُبلِّغًا رسالة ربه فناداهم في رفق ولين - (قال يا قوم): يا أْهلى ويا عشيرتى؛ تلبينا لقلوبهم وجذبا لنفوسهم، كى يقبلوا في يسر وسهولة على امتثال ما أمرهم به في قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. أي آمنوا بالله وحده، وأفردوه بالعبادة، ليس لكم أي إلَه يستحق أَن يعبد سواه. ثم علَّل صالح دعوته إلى توحيد الله بإنعامه - تعالى - عليهم بأعظم النعم فيما حكاه القرآن بقرله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: أَي هو الله سبحانه - لا غيره أَوجدكم من الأَرض ابتداءً باعتبار خلقه آدم أبا البشر منها، ويجوز أَن

يكون المراد - أنشأَكم من الأَرض - باعتبار أَن النطف التي خلقت منها ذرية آدم تتكون من الأَغذية التي نحصل عليها من زروع الأَرض وثمارها - أَوجدكم من الأرض - فأَنتم مدينون له بحياتكم ووجودكم. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}: أَي وأَقدركم على عمارتها، ومكنكم من العمل فيها ومن استثمارها وبناءِ ما تسكنون فيه على ظهرها، بما وهبكم من عقل وقوة، وبما سخر لكم فيها من وسائل تنفذون بها ما ألهمكم معرفة كيفيته. ولمَّا كان إِحسانه - تعالى - عليهم بتلك النعم يستدعى الاستغفار والتوبة، رتب عليه الأمر بهما إذ قال: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}: أي فاطلبوا ممن غمركم بإِحسانه العميم أَن يستر بإيمانكم وأعمالكم الصالحة ما اقترفتموه من الشرك والخطايا، ثم ارجعوا إليه بتخليص أَنفسكم من الذنوب نادمين على ما فرط منها، عازمين على عدم العودة إلى معصيته، مقبلين على طاعته راجين رحمته. ثم رغَّبهم في الاستغفار والتوبة بقوله: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}: أي إِن ربي الذي أَدعوكم إِلى عبادته قريب بعفوه ممن يحسنون إلى أنفسهم بالاستغفار والتوبة منَ الشرك والخطايا، مجيب دعاءَ من رجع إِليه وأَناب. قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. وكانت ثمود تقيم بالحجر بين الحجاز والشام. 62 - {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}: قال قوم صالح يردُّون على دعوته إيَّاهم إِلى التوحيد: يا صالح قد كنت بيننا رجلا فاضلا خيرًا نؤَملك لمهمات أُمورنا، كنت كذلك بيننا قبل هذا الذي أَمرتنا به ودعوتنا إِليه من التوحيد وترك عبادة الأَوثان، ثم خاب رجاؤُنا فيك وانقطع أَملنا وساءَ ظننا بعد أن سمعنا منك ما قلته لنا، ثم خاطبوه باستفهام ينكرون به عليه ما دعاهم إليه إذ قالوا: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أَي أتطلب منا أَن نترك عبادة الأوثان التي أقام على عبادتها آباؤنا طول حياتهم، إن هذا لشىءٌ نرفضه ولا نقبله،

{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}: أَي أَتنهانا عن فعل ما ورثناه عن آبائنا وإننا لفى شك بالغ من صحة كل ما جئتنا به، مريب موقع في قلق شديد دائم لنفوسنا، ومثير لاضطراب مستمر في قلوبنا. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)} المفردات: {أَرَأَيْتُمْ}: أَخبرونى عما سأَسأَلكم عنه. {بَيِّنَةٍ}: حجة واضحة وبرهان ظاهر. {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}: نبوةً ورسالة فهى من رحمة الله. {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ}: فمن ينجينى ويمنعنى من عذابه. {تَخْسِيرٍ}: تضييع وإِنقاص بإِبطال عملى وتعْريضى لغضب الله. {آيَةً}: معجزة. {فَذَرُوهَا}: فدعوها واتركوها. {فَعَقَرُوهَا}: فنحروها. يقال: عقرت البعير إِذا نَحَرْتَهُ. {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ}: أَقيموا في بلدكم وانتفعوا بأَرزاقكم وبكل ما يسركم. {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}: وعبد صادق. التفسير 63 - {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} ... الآية. بعد أَن بينت الآية السابقة أَن قوم صالح أنكروا دعوته وارتابوا في صدقها، ورغبوا فى استدراجه

إِلى موافقتهم، جاءَت هذه الآية تحكى ردَّه عليهم وتبيَّن أَنهم لا يستطعيون ولا يستطيع أحد سواهم إِنقاذه من عذاب الله إِن أَطاعهم فيما يرون. والمعنى: قال صالح - عليه السلام - في ردِّه عليهم - ياقوم - أَخبرونى إِن كنت على طريقة واضحة وبصيرة نافذة من لدن ربي، وأَعطاني من عنده نبوة ورسالة - رحمة لى ولكم - أَجيبونى عمَّا أَسأَلكم عنه بقولى: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}: أي فمن يمنعنى من عذاب الله وينجينى من عقابه إن أَطعتكم وعصيته - سبحانه - فلم أُبلغكم رسالته، ولم أُحذركم من الشرك وعبادة الأصنام؟ لا أَحد مطلقا يستطيع منعى من عقابه - تعالى - إن فعلت ذلك. ثم رتب على عصيانه إن وقع، بعد إنعام الله عليه بالنبوة، إحباط عمله، كما حكاه الله بقوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}: أي فما أستفيد منكم إِن جاريتكم فيما تشتهون سوى أَن تجعلونى بهذا الاتباع خاسرا، بإِبطال عملى وتعريضي لغضب الله وعقابه، ولا شك أن صالحا - عليه السلام - كان جازما بأَنه على بيِّنة من ربه، ولكنه عبر بإِن التي للشك في قوله: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ}: مجاراة لقومه فيما يزعمون، ورعاية لحسن المحاورة لاستنزالهم عن المكابرة. هذا ويمكن أَن يقال إِن استعمال (إن) في الشك غالب، ولكنها قد تستعمل عند اليقين كما هنا، انظر إِلى لفظ (ما) فإِنه يستعمل في غير العاقل غالبا. ولكنه قد يستعمل في العليم الخبير كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}. 64 - {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}: أي وقال صالح يخبر قومه بمجىء معجزة عظيمة: يا قوم هذه ناقة عظيمة الشأْن، شرفها الله بنسبتها إليه، وأوجدها على خلاف ما عرفتم وأَلفتم في خلق جنسها، ومن خصائصها المميزة أَنها تشرب الماءَ وحدها في يوم، والقوم جميعا وما معهم من حيوانات يشربونه في آخر. قال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}. (¬1) أوجدها كذلك لكم خاصَّة لتكون معجزة عظيمة تستدلون بها على قدرته - تعالى - وعلى صدقى فيما أُبلغكم به عن ربي ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 155

{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}: أَي فاتركوها تأْكل وترعى. وتشرب في أرض الله دون أَن تكلفوا بتحصيل شى من مؤُونتها. {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}: أَي ولا تصيبوها بأَدنى سوءٍ ولا بأَقل أَذى، فيأْخَذكم ويستأْصلكم لأجل ذلك عذاب عاجل: 65 - {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}: أي فنحروها مخالفين ما أُمروا به، فقال لهم بوحى من الله: استمتعوا في بلدكم بكل ما يسركم في اطمئنان وَدَعةٍ مدّة ثلاثة أَيام، والمراد أَنهم بعد هذه الأَيام الثلاثة يهلكون، ولذلك قال عقبها: {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}: أَي ذلك العقاب الهائل الذي أَنذرتكم وقوعه بعد عقر الناقة بثلاثة أَيام وعيد صادق يقع حتما ولا يتخلف لأَنه من عند الله. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} المفردات: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}: فلما نزل عذابنا. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: ومن ذل وفضيحة هذا اليوم. {الصَّيْحَةُ}: صوت قوى مفزع زلزل الأرض بهم. {جَاثِمِينَ}: باركين على الركب هامدين موتى لا يتحركون. {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: كأَنهم لم يقيموا في ديارهم ولم يحيوا فيها.

التفسير 66 - {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}: أَي فلمَّا نزل عذابنا بثمود، بعد مضى المدّة التي أُنذروا العذاب بعدها، نجَّينا صالحا والذين آمنوا معه من الهلاك معهم، بسبب رحمة عظيمة من لدنا وسعتهم وحفظتهم، لإِيمان صالح ونبوته وإِيمان المصدقين برسالته العاملين بشريعته. {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: أَي ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم العذاب المهين الذي نزل بكفار ثمود. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}: خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تخلل الحديث عن قصة صالح تقوية لعزمه، أي إِن ربك الذي يرعاك يا محمد، هو وحده القادر على كل شيء الغالب في كل وقت فلا يعجزه شيء أراده، فلذا أَخذ قوم صالح أخذ عزيز مقتدرٍ، وفيه إنذار شديد للمشركين إن أصرُّوا على الكفر والجحود {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬1). 67 - {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أَي وأَخذ الذين ظلموا بتكذيب رسالة صالح - أخذهم - العذاب بصيحةٍ قوية مفزعة زلزلت بهم الأَرض فصعقوا وانتهت حياتهم في مساكنهم باركين على ركبهم خامدين لا يتحركون. 68 - {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ}: أَي فأَصبحوا وقد انتهى أَمرهم من ديارهم فلم يبق لهم فيها من أثر يذكرون به - إلا الصورة المفزعة لهلاكهم - كأَنهم لم يقيموا أَصلا في تلك الديار - فليعتبر بحال هؤُلاءِ كل من يجترئ على تكذيب رسل الله والكفر بهم، فما وقع لثمود كان بسبب كفرهم كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ}: أَلاَّ إنَّ ثمود قوم صالح - عليه السلام - قد أنكروا ربهم فاستحقُّوا ما وقع عليهم وأَن يقال فيهم هلاكا وطردا من رحمة الله وإِحسانه لثمود. ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 102

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)} المفردات: {بِالْبُشْرَى}: بالخبر السار. {حَنِيذٍ}: سمين أَو مشوى بالدس في النار كما قال ابن عباس، وفسَّره مجاهد بالمطبوخ، وهو أَعم. والعجل ولد البقر. {نَكِرَهُمْ}: جَهلَهُمْ ووجدهم على غير ما يعْهد. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}: استشعر من جهتهم شيئا يخافه، أَو أَخفى وأَضمر خوفا منهم. التفسير 69 - {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا} الآية. في هذه الآية وما بعدها ذكر طرف من قصة إبراهيم، كالتمهيد للحديث عن قصة لوط - عليهما السلام -. والمعنى: ولقد جاءَت رسلنا من الملائكة إلى إبراهيم يبشِّرونه بما يسرُّه، قائلين له في أول لقائهم له: {سَلَامًا} أَي نسلم عليك سلاما. وهزَّت إبراهيم سجية الجود والكرم فأَشرع بتقديم الطعام، وذلك قوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: أي فلم يتأَخر إبراهيم - عليه السلام - في مجيئه بعجل سمين مشوى إلى أضيافه ليأْكلوا منه، بل جاءَ به على عجل كاملا - وإن كان يكفيهم بعضه - مبالغة في إكرامهم ..

واختلف في هذا العجل: هل كان مهيَّئا قبل مجيئهم، أو أَنه هُيىء على عَجَلٍ بعد مجيئهم، واختار الأَول أَبو حيان، واختار الآلوسى الثاني لأَنه أَبلغ في الإِكرام. 70 - {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}: أي فلما رأى إبراهيم - عليه السلام - أَيدى الملائكة لا تمتد إلى لحم العجل الذي قدمه لقِراهم ولا تتناول منه شيئا ليأْكلوه، استنكر ذلك منهم وشعر بالخوف من جهتهم فإنَّ الغريب إذا قدم له الطعام لإِكرامه، يبادر إِليه ولا يمتنع عنه إلا إِذا كان يريد برب البيت سوءًا ... قالوا حين رأوا أَمارات الخوف منهم بادية عليه: لا تخف ضررًا من جهتنا، إِننا أُرسلنا من الله إلى قوم لوط لإِهلاكهم جزاءَ إتيانهم فاحشةً ما سبقهم إلى فعلها أَحد من العالمين. {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} المفردات: {فَضَحِكَتْ}: سرورا بما رأَت وسمعت من زوال الخوف عن زوجها وكلام الملائكة له ومجيئهم لإِهلاك المجرمين. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}: أي فأَتبعنا سرورها سرورا أَتَم

وأَعظم على ألسنه ملائكتنا. {يَا وَيْلَتَى}: يا عجبًا. وأَصل الويل الهلاك وهو غير مراد هنا. والنساء يستعملنها كثيرا إِذا حدث ما يتعجبن منه. {بَعْلِي}: زوجى، والبعل في الأَصل الذي يقوم على تدبير الأمور، فأَطلق على الزوج لأَنه يقوم علي شئون المرأَة. {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}: أَتعجبين من قدرة الله وحكمته. {وَبَرَكَاتُهُ}: وخيراته التامَّة المتكاثرة. {حَمِيدٌ}: محمود لذاته وأَفعاله. {مَجِيدٌ}: واسع الإِحسان كثير الإِنعام. التفسير 71 - {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}: أَي حدث ما حدث من المحاورة بين الملائكة وإبراهيم، وزوجته قائمة وحاضرة ترى وتسمع ما جرى بينهم، فضحكت فرحا وسرورا بزوال الخوف عن زوجها، واستبشارًا بقرب هلاك القوم المفسدين، وقد فهمت ذلك من قولهم لإِبراهيم: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}: أَي فأَتبعنا سرورها بما سبق سرورا عظما وذلك بإلقاء البشرى إليها على ألسنة الملائكة بأَنها ستلد "إسحق" وترى من بعد إسحق "يعقوب" ولدا له وحفيدا لها. وقد وجهت البشارة إِليها؛ لبيان أن الولد المبشر به يكون منها ومن إِبراهيم، فإن البشارة لو وجهت لإِبراهيم، لأَدركها الشك بأَنه يأْتى بإسحق من غيرها لعقمها. وكانت حريصةً على أَن يكون لها ولد، وقد تمنته بعد أن ولد إِسماعيل لهاجر. 72 - {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} الآية. أي قالت سارة امرأَة إبراهيم حين بشرت بالولد يا عجبا، أيولد لى وأَنا عجوز عقيم قد تقدمت بى السنُّ وذهبت قوتي وضعف بدنى وغاب الطمث عنى، وهذا الذي تشاهدونه زوجى القائم على رعايتي قد صار شيخا كبير السن لم تجرِ العادةُ أَنَّ مثلنا ينجب الأَولاد.

{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}: أَي إن هذا الذي بشرتم به من حصول الولد من شيخين مثلنا يثير في النفس التعجب، فقد جرت سنة الله في عباده أَن يكون إِنجاب الأَولاد في زمن الصحة والقوة ووجود الطمث غالبا - والطمث الحيض - ولم يكن تعجب زوجة إِبراهيم استبعادًا لحدوث ذلك بالنسبة لقدرة الله - تعالى - وإنما كان استعظامًا لحصول تلك النعمة في غير أَوانها المأْلوف. 73 - {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}: أَي قالت الملائكة منكرين عليها تعجبها ودهشتها من حصول ذلك، وكان عليها أَن تتريث حتى تتحقق البشارة، فإنه لا عجيب على قدرة الله سبحانه وتعالى، وكأنهم قالوا لها: لا تعجبى مما قدره الله وأَراده على خلاف ما جرت به سنته الغالبة في خلقه، فإن خوارق العادات بالنسبة لآل بيت النبوة ومهبط المعجزات وتخصيصهم بمزيد من النعم والكرامات ليس ببدع ولا غريب كما يؤذن به قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}: أي رحمة الله التي وسعتكم بكل خيراتها، وبركاته التامة المتكاثرة تفيض عليكم يا أهل بيت النبوة، ومن تلك الرحمات وهذه البركات هبة الأَولاد في غير أَوانهم المعتاد. {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}: أي إنه سبحانه يستحق الحمد لذاته، يصدر عنه ما يستوجب حمده من عباده، كثير الخير والإحسان، رفيع الشأْن، متصف بأَعظم صفات المجد.

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} المفردات: {الرَّوْعُ}: الخوف والفزع، {لَحَلِيمٌ}: لمتصف يكثرة الحلم لا يعجل بالانتقام من المسىء. {أَوَّاهٌ}: كثير التأَوُّه والتوجع رحمة بالناس. {مُنِيبٌ}. كثير الرجوع إِلى الله بالدعاءِ والاستغفار والعبادة. {غَيْرُ مَرْدُودٍ}: غير مدفوع. التفسير 74 - {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ... } الآية بعد أَن حكى القرآن الكريم بعضا من أَحوال إبراهيم - عليه السَّلام - من وزوجته جاءت هذه الآية والآيتان بعدها تذكر بعضا آخر من أَحواله وشئونه ومجادلته عن قوم لوط. والمعنى: فلما زال عن إبراهيم ما لحقه من الخوف والفزع حينما امتنع ضيوفه من تناول طعامه، واطمأَنت نفسه بعد أَن عرف أَنهم ملائكة الله {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}: أَي وحل محل الخوف شعور بالسرور في حينما بشَّروه بعد سن اليأْس بغلام عليم، فلمَّا حدث ذلك أخذ إبراهيم - عليه السلام - يجادل رسل الله في شأْن قوم لوط وإهلاكهم وقد حكى القرآن الكريم قصة مجادلة إبراهيم للملائكة بشأْنهم في قوله - تعالى -: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ... } (¬1) الآية، وقد اعتبر قول إِبراهيم: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} جدالا عنهم ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت الآيتين، 31، 32

لأن المراد منه: كيف تهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو مؤمن بالله لا يستحق العذاب، وعلى رأَسهم نبي الله لوط - عليه السلام - ولذا أَجابته الملائكة بقولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ}. وكأَن إبراهيم - عليه السلام - فهم أَن وجود المؤمنين مع الظالمين في قرية واحدة يُبيح له الجدال عن أَهل القرية جميعا؛ حرصا على سلامة المؤمنين يضاف إلى دلك ما فطر عليه من الحلم والرحمة كما بينه القرآن في قوله - تعالى -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}: أَي كان جدال إِبراهيم لما تقدم. ولأَنه عظيم الحلم يملك نفسه فلا يعاجل بالانتقام من المسىء، كثير التأَوه رقيق القلب عظيم الإشفاق يتأثر كثيرا ويتوجَّع لما يصيب غيره من مكاره وخطوب، متصف بالإنابة إِلى الله والرجوع إِليه يعمل ما يحبه ويرضاه. ولعل جداله عن قوم لوط مع علمه بكفرهم رجاءَ أن يؤمنوا بالله - تعالى - بالإضافة إلى ما سبق بيانه من خوفه على لوط ومن آمن معه. 76 - {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}: أَي قالت الملائكة - بأمر من الله - يا إبراهيم ابتعد عن هذا الذي ترجوه لهؤلاء وتجادل فيه، ولا تلتمس بجدالك رحمة لهولاءِ القوم، ولا تخفيفا عنهم، إنه قد قرب وقت هلاكهم الذي قضاه - سبحانه - وقدره في أَزله القديم، وإن هؤلاء الظلمة من قوم لوط واقع بهم لا محالة عذاب غير مدفوع عنهم بجدال أو دعاءٍ، ولا تستطيع قوة في الأَرض صدّه أو ردّه عنهم.

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} المفردات: {سِيءَ بِهِمْ}: أُصيب بالغم والحزن بسبب مجيئهم وساءَه ذلك، {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}: عجزت طاقته وضعف جهده عن احتمال ما يترتب على مجيئهم من شرور قومه، والمراد أَنه لم يجد لهذا المكروه مخرجا. يقال ضاق بالأَمر ذرعا إِذا لم يطقه ولم يقدر عليه. {عَصِيبٌ}: شديد الإِيذاءِ. والعصْب: الشد بالعصابة. {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}: يسرعون إليه؛ كأَنما يدفع بعضهم بعضا مسارعة إلى الفاحشة. {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}: أَي ولا تفضحونى ولا تلحقوا بى الذل والهوان في شأْن ضيوفى النازلين عندى. التفسير 77 - {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ... } الآية بعد أَن حكى القرآنُ الكريم بعضا من أَحوال إبراهيم وزوجته كالتمهيد لقصة لوط جاءت هذه الآية والآيات بعدها تحكي بشىء من التفصيل ما جرى بين لوط وقومه، من التوسل إليهم ليعدلوا عن الفاحشة إلى آخر ما ستذكره الآيات.

والمعنى: ولما جاءَت رسل الله من الملائكة لوطا من عند إبراهيم حزن بسبب مجيئهم حزنا شديدا، لأَنَّهم جاءُوه في صور شباب من البشر حسان الوجوه، وخشى أَن يقصدهم قومه لارتكاب الفاحشة التي اشتهروا بها فيعجز عن مدافعتهم، وضاقت طاقته وضعف جهده عن احتمال نزولهم عنده، لعدم قدرته على تخليصهم من شر توقع حدوثه لهم من قومه. {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}: أي وقال لوط - عليه السلام - تعبيرا عن شدة ما لحقه من الهلع والفزع: هذا اليوم الذي نزل فيه هؤلاءِ الضيوف يوم شديد الشر لا أستطيع احتمال ما يحدث فيه لضيوفى. 78 - {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ... } الآية. أَي ولمَّا علم القوم بوجود هؤلاء الضيوف الحسان عند لوط، جاءُوا إليه يسرعون الخُطا في لهفةٍ طلبًا للفاحشة، وتلهفهم على فعل الفاحشة لم يكن غريبا، فقد اعتادوا فعل المنكرات من قبل ذلك كما قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}: أَي ومن قبل مجىء الملائكة إِلى لوط كان قومه مستمرين على آرتكاب الآثام، دائمين على فعل الموبقات، فلا عجب إِذا طلبوا الفاحشة مع ضيفه علنا جهارا بغير مبالاة. {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}: أي وحين أسرع قوم لوط إِلى طلب الفاحشة مع ضيوفه ناداهم قائلا: {يَا قَوْمِ} ليستميلهم ويرقق قلوبهم، واستمر في محاولة تليين قلوبهم وجذب عواطفهم عسى أَن يثوبوا إلى الرشاد، فعرض عليهم عرضا كريما بقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}: أي فتزوجوا بهن، هن أَنظف وأَشرف لكم، وليس فيما دأبتم عليه من إِتيان الرجال شهوة من دون النساءِ شىءٌ من الطهر، فالنظافة والطهارة في التزوج بالنساءِ، والدنس والخبث في إِتيان الذُّكران من العالمين، قال الآلوسى: وكانوا يطلبون التزوج ببناته من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءَتهم، لا لعدم مشروعية زواج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا، وقد زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب لأَبى العاص بن الربيع وكان مشركا قبل أَن ينزل تحريم ذلك إلى آخر ما قال، وقد ذكرنا هنا تلخيصه.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}: أَي فاحفظوا أنفسكم من عذاب الله بترك ذلك الدنس، ولا تلحقوا بى الخزى والذل والعار بسبب إِهانة ضيفى، فإن إهانتهم إهانة لى. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}: أي ألا يوجد من بينكم رجل سديد الرأى رشيد العقل يأْمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر ويقنعكم بترك الفاحشة أَو يمنعكم من ارتكابها وإِذا كان لا يوجد بينكم هذا الرجل الرشيد فذلك منكر تستحقون عليه شديد اللوم وبالغ التقريع. {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} المفردات: {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ}: المراد به هنا؛ ما لنا فيهن من حاجة ولا شهوة فعندنا نساؤنا. {آوِي}: ألجأُ. {رُكْنٍ شَدِيدٍ}: جانب قوى أَتقوى به وأَستند إليه وأعتمد عليه، وكل ما يتقوى به من ملك وجند وقوم يسمى ركنا. التفسير 79 - {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}: أَى قال قوم لوط معرضين عن قبول ما عرضه عليهم ونصحهم من التزوج ببناته: لقد عرفت يا لوط غرضنا وقصدنا، ليس لنا فى بناتك أَي حاجة نعتبرها هدفا لنا وغاية لمجيئنا، وإِنك يا لوط بدون شك وبلا ريب لتعرف قصدنا من المجىءِ وغايتنا من الإِسراع، وتدرك يقينا رغبتنا فيمن عندك. ولما يئس لوط - عليه السَّلام - من إِقناع قومه بترك ما هم عليه من الفساد. تمنى أَن تكون له قوة تردهم عن ضيوفه، وذلك ما حكاه الله بقوله:

80 - {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}. أي قال لوط - عليه السلام - لو أن لي طاقة وقدرة تنهض بردعكم, أو أن لي جانبًا قويا استند إليه. واستنصر به عليكم لردعتكم عن غيكم، وحفظت كرامتى وصنت ضيفي من الاعتداء عليهم وإيذائهم. وقال لوط ذلك لأنه لم يكن في منعة من قومه، وقد أرسل إِلى أهل "سدوم" وهى قرية عند حمص. وقد استغرب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مقالة لوط، فقد جاءَ فيما رواه البخاري عن النبىِّ صلىّ الله عليه وسلم قال: "رَحِمَ الله أخِى لُوطا كَانَ يَأوِى الَى ركنٍ شَدِيدٍ". يقصد صلى الله عليه وسلم أَنه كان يلجأ إلى الله تعالى فإِنه - لا ركن أشدّ منه، ولكنّه لهول المفاجأة وشدة الكرب قال ما قال وهو يعلم أَنه لا ركن أَشد من الله تعالى. {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)} المفردات: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}: فَسِرْ بهم ليلا. {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}: في جزء منه. {مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}: أَي موعد عقابهم الصبح.

التفسير 81 - {قَالُوا يَا لُوطُ ... } الآية. أَي لمَّا رأت الملائكة ما استولى على "لوط" من الكرب قالوا له مطمئنين: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}: أي إنَّا رسل من عند ربِّك جئنا لإِهلاك قومك وتطهير الأرض من دنسهم. {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}: أي لن يصل إِليك هؤلاء الآثمون بضرر في نفسك ولا في ضيفك. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}: أي فاخرج بأَهلك في جزء من الليل. {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}: أي ولا تنظر أَنت ولا تترك أحدا من أَهلك ينظر إلى الوراءِ أثناء سيركم، لئلا يرى هول ما نزل بقومهم. فيحصل لهم كرب قد لا يطيقه, لكن امرأتك لا تخرج بها مع أهلك واتركها مع قومك، فإنها خانتك بِممَالأتهم عليك، ونفاقها في الإيمان بالله، وإفشائها أَسرارك إِلى قومها، فدعها معهم ليصيبها ما يصيبهم من عقاب أليم، ثم علل الأمر بالإِسراء بأهله والنهي عن الالتفات بقوله سبحانه: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}: إي فأسرع السير بأهلك تحت جنح الظلام كى تبتعد عن مواقع العذاب الذي تحدد الصبح وقتا لنزوله. {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}: أي إِن موعد هلاكهم الصبح وهو وقت قريب جدا، وكان الصبح ميقاتا لهلاكهم لأنه وقت الدعة والراحة والهدوء، فيكون نزول العذاب بهم فيه أَشدَّ. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} المفردات: {أَمْرُنَا}: أي عذابنا أو الأمر به، وهو على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر. {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}: أي قلبناها فصار أَعلاها إِلى أَسفل وأَسفلها إلى أَعلى. {سِجِّيلٍ}: طين قد تحجر، (مَنضُودٍ): متتابع بعضه إِثر بعض. {مُسَوَّمَةً}: معلمة بعلامات تميزها عن غيرها.

التفسير 82 - {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}: أي فلما جاء الوقت الذي أمرنا بموقع العذاب فيه - وهو الصبح - أو جاء العذاب الذي قدرنا نزوله بهم في الصبح, جعلنا ما كان عاليا من مباني القري والمدن سافلا. وأنزلنا على أهل تلك القرى مطرًا من حجارة من طين تحجر - هذه الحجارة أنزلناها على هذه القرى متتابعة بعضها إِثر بعض كتتابع المطر النازل من السماء. 83 - {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ... } الآية. أي هذه الحجارة التي أمطروا بها من السماء كانت معلمة ومميَّزة عند ربك بما يدل على أَنها ليست من حجارة الأرض وأنه - سبحانه - أعدّها لعذاب هؤلاء. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}: أَي وليست تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر ببعيدة من غيرهم من كل ظالم يأثَم إثمهم ويظلم ظلمهم. فلا تكون بعيدة عن الكفار من قومك يا محمد فليسيروا إلى تلك القرى وليعتبروا بما وقع فيها لعلهم يؤمنون.

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)} المفردات: {وَإِلَى مَدْيَنَ}: أي وإلى أهل مدين. (بِخَير): بسعة في الرزق والثروة. {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}: المقصود من إحاطة اليوم بهم إحاطة عذابه بحيث لا ينجو منه أحد. {أَوْفُوا}: أتموا وأكملوا. {وَلَا تَبْخَسُوا}: ولا تنقصوا. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: ولا تمعنوا في الإفساد في الأرض قاصدين إضرار الخلق. {بَقِيَّتُ اللَّهِ}: ما ادخر عنده من ثواب الصالحات. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}: وما أنا عليكم بمراقب لأعمالكم فذلك لله وحده أما أنا فناصح ومنذر. التفسير 84 - {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ... } الآية. وأرسلنا إلى أَهل مدين واحدًا منهم نسبًا هو شعيب - عليه السلام - وكانوا أهل كفر جشعين يبخسون المكيال والميزان، ولا يوفون الحقوق ولا يحفظون الأمانات.

{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: ناداهم متحببًا إليهم بقوله: {يَا قَوْمِ}: أي يا عشيرتي أنا منكم وأنتم مني والرائد لا يكذب أهله. {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}: بعد أن جذبهم إِليه بهذا النداء بدأهم بالدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة لأنه هو الإله وحده، فلا يستحق العبادة سواه، ولقد جرت سنة الأنبياء في دعوة أقوامهم أن يبدأوا بالدعوة إلى التوحيد لأنه أصل الإيمان، وبه صلاح الأمر كله، وهو الأساس الأول، ثم يتبعون ذلك الدعوة إلى ترك ما هم عليه من النقائص والعيوب الظاهرة، لذا عقب شعيب - عليه السلام - دعوتهم إلى التوحيد بالنهي عن نقص المكيال والميزان لأنه أعظم عيب تفشى في قومه فقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}: أي ولا تنقصوهما إذا بعتم للناس إذْ لا يليق بكم أن تخونوا في معاملاتكم بعضكم مع بعض وأن تستحلوا ما تأخذونه من الناس عن طريق النقص في المكيال والميزان، فالحق أحق أن يتبع. {إنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}: إنى أراكم في سعة من الرزق والمال والولد فيجب أن تقابل هذه النعم بإعطاء الحقوق لا بالإصرار على الشرّ والفساد وسلب حقوق العباد؛ فيسلبكم الله نِعَمَه. {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}: أي وإنى أشفق عليكم وأَخشى إن يحل بكم عذابُ يومٍ يهلككم جميعا في الدنيا ويحيط بكم في الآخرة {وَإِنَّ جَهنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِين} (¬1). 85 - {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}: كرر النداء بقوله: {يَا قَوْمِ} حين أمرهم ثانيًا بإتمام الكيل والوزن بالعدل من غير زيادة ولا نقصان حرصا منه على مصلحتهم ونفعهم. فهم قومه وعشيرته. ثم عقب أمرهم بإيفاء الكيل والميزان بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الحِجْر، الآية: 43

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}: يريد بذلك إما نهيهم عن أن ينقصوا الناس حقوقهم في جميع أمورهم بصفة عامة، حسية كانت أو معنوية، وإِما تأكيد أمره لهم بالإيفاء بالمكيال والميزان بالقسط خاصة بالنهي عن نقصهم الناس حقهم في الإيفاء بهما. والمعنى على الأول: ولا تنقصوا الناس أمورهم في أموالهم وأعراضهم وعقارهم ومنقولهم، وزرعهم وضرعم، وبيعهم وشرائهم، وغير ذلك مما عز وهان. والمعنى على الثاني: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في بيعهم وشرائهم، بعدم إتمامكم المكيال والميزان لهم. ثم عقب نهيهم عن بخس الناس أشياءهم بقوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: والعُثُوُّ في الأرض؛ الإفساد فيها،. وقد يحدث لغرض الإصلاح كحرب البغاة والمرتدين وقُطَّاع الطريق، وكقتل صاحب موسى للغلام وخرقه للسفينة، وهذا وإِن كان ظاهرهُ الإفساد فهو جائز للضرورة وقد يكون لغرض الإفساد والإصرار بالخلق وهذا هو المذموم والمنهى عنه. والعثو المذموم يعلم جميع أنواع الإفساد والعدوان كقطع الطريق وتهديد الأمن وقطع الشجر وقتل الحيوان وغير ذلك، وقد كانوا يصدون الناس عن اتباع شعيب - عليه السلام - والإيمان به وينشرون الفساد في الأرض قال تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} (¬1). وقيل: معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين أَمر آخرتكم ومصالح دينكم. ثم زهدهم في تلك الأفعال القبيحة وأرشدهم إلى ما هو خير وصلاح فقال: 86 - {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي ما أبقاه الله لكم من خيرى الدنيا والآخرة بعد إيفاء الكيل والوزن والتنزه عن المحرمات خير لكم وأَنفع من الكسب الحرام وإن كثر, إن كنتم مصدقين بما شرعه الله لكم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 86

على لسان شُعيب - عليه السلاء - لأن الإيمان يستتبع خير الجزاء، فضلا عن أنه يطهر النفس من دناءة الطمع وسائر الخبائث ويحلِّيها بالقناعة وسائر الفضائل، ثم أثار فيهم الوازع النفسي بقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}: ولست عليكم بالحفيظ الذي يملك منعكم من الوقوع في المحرمات، أو معناه: لست أَحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح لكم ومبلِّغ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬1). وقد بذلت الجهد وأَعذرت إذ أنذرت. {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} المفردات: {الْحَلِيمُ}: المتأفي الضابط لنفسه الذي لا يتعجل في الأمور مع القدرة والقوة. {الرَّشِيدُ}: المتصف بحسن التدبير ودقة التقدير. التفسير 87 - {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}: أي قال قوم شُعيب - ساخرين مستهزئين - ردًّا على دعوته إياهم إلى التوحيد والعدل في المعاملات أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا من الأوثان التي توارثنا عبادتها عن آبائنا، إننا ننكر عليك ذلك ولن نترك عبادتها، وإِنما خصُّوا الصَّلاة بالإنكار دون سائر أحكام النبوة التي دعاهم اليها لأنه كان كثير الصلاة معروفًا بذلك، ولأنهم يغمزونه في صلاته بأنها وسوسة خاصر، وليست وحيًا من السماء، وينكرون بهذا التهكم كل ما دعاهم إِليه من عبادة الله وحده وسائر الفضائل. {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}: هذا جواب منهم عن أمره - عليه السلام - لهم بإيفاء الكيل والوزن مبنى أيضًا على السخرية بما يأمرهم به. ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية: 99

والمعنى: أصلاتك يا شعيب تأمرك أن نترك عبادة أوثاننا أو أن ندع التصرف في أموالنا حسبما نريد من الزيادة والنقصان، والأخذ والعطاء على النحو الذي تعودناه مع الناس، أتريدنا إن نسير في تجارتنا وشئون أَموالنا على هواك الذي زعمت أنه شرع الله، وهذا الجواب منهم شأن المتكبرين عن اتباع الحق في كل أمة فإنهم لا يجدون جوابا سوى التمسك بما ورثوه عن الآباء والأجداد فهو الذي يعميهم - عن الحق فلا يبصرونه، {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (¬1)، ثم قالوا مبالغين في السخرية والاستهزاء: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}: أي إنك لأنت الذي - توصف بيننا بالتأني والتريث في معالجة الأُمور، فأين هذه الأوصاف مما تدعوننا إليه، يريدون بذلك تجريده من صفتى الحلم والرشد، بدعوى أن ما دعاهم إليه لا يصدر عن حليم رشيد. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} المفردات: {أَرَأَيْتُمْ}: أخبروني. {بَيِّنَةٍ}: حجة واضحة. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}: ومنحنى من لدنه النبوة والحكمة وغمرني بنعمه الكثيرة. {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: أَن أخالفكم إلى فعل ما نهيتكم عنه. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: وإلى الله أرجع. ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآيتان: 69، 70

التفسير 88 - {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}: في هذه الآية رد شعيب - عليه السلام - عليهم في رفقٍ ولينٍ بقوله: يا عشيرتي وأهلى أخبروني: إِن كنت على حجة واضحة وبينة - ظاهرة من لدن ربي وقد رزقنى منة رزقا حسنا هو النبوة والحكمة، وهما مناط الحياة الأبدية لى ولكم، وكذلك المال الوفير، أَفتجعلوننى في زمرة السفهاء والغواة، حينما دعوتكم إِلى توحيد الله وإيفاء الكيل والميزان. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: وما أقصد بدعوتي هذه أن أورطكم فيما دعوتكم اليه لكي أخالفكم إِلى فعل ما نهيتكم عنه بعد أن تستجيبوا لدعوتي فأنا أَسبق منكم إلى ما دعوتكم إليه. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}: ما أريد بوعظى وتذكيرى لكم إلا إصلاح حاكم في دنياكم وأَخراكم بقدر جهدى واستطاعتى. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}: وما توفيقي في التمسك بالحق وحملكم عليه إلا بفضل الله ومعونته. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: عليه وحده اعتمدت في تبليغ الرسالة وأداءَ الأمانَة. وإِليه تعالى - وحده أرجع في كل ما يهمنِى من أمور وشئون - فلا حول لى ولا قوة إِلا بالله فيما أفعل وأقول، وإنما الحول والطول لله وحده فهو الذي يرشدني ويسدّد خطاي, وهو الذي يجازينى على أعمالى فلا أخاف أحدًا سواه. {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} المفردات: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ ... } الخ: أي لا تكسبنكم مشاقتى ومعاداتي عقوبة مثل عقوبة الأمم السابقه. (رَحِيم): واسع الرحمة. (وَدُود): كثير الودّ والمحبة والعطف.

التفسير 89 - {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}: أي وقال شُعيب لقومه على طريقته في التلطف في خطابهم، حرصا منه على هدايتهم: يا قوم لا يكسبنكم شقاقى ومعاداتي أن يصيبكم بسبب ذلك مثل ما أصاب الأمم التي كذبت رسلها من قبل كقوم نوح، فقد أَهلكهم الله بالطوفان، وما أصاب عادا حين كذبوا هودا، فقد أَهلكم الله بريح صرصرٍ عاتية، وما أصاب ثمود حينما كذبوا صالحا فأهلكم الله بالصيحة والرجفة لإصرارهم على الكفر والفساد. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}: وإِن لم تعتبروا بهؤلاء المذكورين فما قوم لوط ببعيدين منكم، فقد عوقبوا بقلب ديارهم، وأمطر الله عليهم حجارةً من سجيل، وقد رأتم ديارهم وما أصابها، فاعتبروا بحالهم واحذروا أن يحل بكم من العذاب ما حل بهم وهذه سنة الله فيمن كذب رسله ولن تجدوا لسنة الله تبديلا. ولما أنذرهم سوء عاقبة صنعهم أرشدهم إلى طريق النجاة طمعا في استجابتهم فقال: 90 - {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}: أَي واتعظوا بما وقع لهؤلاء واطلبوا مغفرة ربكم لما وقعتم فيه من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالإيمان والطاعة ولا تيئسوا من عفو الله ورحمته، لأن ربي وربكم واسع الرحمة كثير الود والمحبة والعطف فيرضى عمن يتوب ويرجع إليه، فسارعوا إِلى ما يستوجب رحمته ومحبته.

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)} المفردات: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}: ما نفهم مرادك، والفقه: الفهم الدقيق المؤثر في النفس. {رَهْطُكَ}: الرهط الجماعة من الرجال خاصة من ثلاثة إلى تسعة، ورهط الرجل قومه وقبيلته. {بِعَزِيزٍ}: بصاحب قوة ومنعة. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}: تركتموه وراء ظهوركم. والمراد أعرضتم عنه ونسيتموه. {مُحِيطٌ}: أحاط علمه بكل شىءٍ وأحصاه فلا يخفي عليه شيء من أعمالهم. {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُم}: اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم. {وَارْتَقِبُوا}: وانتظروا عاقبة ما أَقول. التفسير 91 - {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}: دعاء شعيب قومه متلطفا في دعوتهم إلى الإيمان والاستغفار والتوبة فأجابوه في جفاء واستعلاء قائلين: ما شعيب ما نفهم كثيرًا من قولك، ولا نعلم حقيقة ما تقصد إليه

من دعوتنا إلى ترك عبادة الأوثان ومنعنا من التصرف في أموالنا، وتهديدك إيانا بعذاب يحيط بنا ويبيدنا، أجابوه بذلك مع وضوح حجته وقوه برهانه وظهور مراده، واشتمال كلامه على فنون الحكم والمواعظ، وأَنواع العلوم والمعارف، ولما عجزوا عن محاجته هددوه باستعمال القوة حين قالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}: أَي وإنا لنشاهد ضعفك بيننا، ونعلم أن لا قدرة لك على شيء، ولا تستطيع أن تمتنع عنا إن أَردنا أَن نفتك بك. {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}: ولولا احترامنا لعشيرتك وأَهلك الذين ثبتوا على ديننا، ولم يؤثروك علينا، ولولا رهطك هؤلاء لقتلناك رجما بالحجارة. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}: أي ولست عندنا قويًّا منيعا تستطيع أن تدفع ما نريده بك أو تحول بيننا وبين قتلك وإهلاكك. وما يمنعنا عنك إلا أننا نُقَدِّر رهطك وعشيرتك ونحترمهم ونعزهم، ونسي هؤلاء الغافلون قوته وعزته برب العالمين، فلهذا وبَّخهم شُعيب على غفلتهم هذه - كما حكاه الله عنه بقوله: 92 - {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}: قال لهم شُعيب ردا على هذا التهديد والاستهزاء: أَعشيرتى وأهلى يا قوم أَعزُّ وأكرم عليكم من الله ذى العزة والقدرة، وقد دعوتكم بأمره إلى ما يصلح شئونكم في الدنيا والآخرة فاعرضتم عنه. {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}: أَي ونبذتم أَمره وتركتموه وانصرفتم عنه كالشىء المهمل وراء الظهر فلا يلتفت إليه لعدم الاعتداد به. {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}: أَي إن ربي لا يخفى عليه شيءٌ من أموركم فعلمه محيط بجميع أعمالكم وأقوالكم،

وسيجازيكم عليها يوم القيامة حيث لا تغنى قوتكم عنكم شيئا، وهذا تهديد بليغ ووعيد شديد بالعذاب الأليم إن أصروا على الكفر والعناد. 93 - {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: وقال لهم مهددًا أيضا: يا قوم اعملوا ما شئتم بقدر استطاعتكم وتمكنكم، وابذلوا جهدكم في مضارتي، فإن ذلك لا يصدني عن الدعوة إلى الله. ثم أكد ذلك بقوله: {إِنِّي عَامِلٌ}: أي إِني سأعمل بقدر استطاعتى وجهدى في الطريق الذي أمرني الله بالسير فيه دون أَن أخشى تهديدكم ووعيدكم. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}: أي سوف تعلمون علم اليقين من سيحيق به العذاب المذل المهين جزاءَ ضلاله ومن هو كاذب منا - أنا أم أنتم - وفيه تعريض بكذبهم في ادعائهم القدرة على رجمه - عليه السلام - وفي نسبته إلى الضعف والهوان وأنهم لولا رهطه لرجموه. {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}: وانتظروا ما أتوعدكم به من العقاب على كفركم وعصيانكم إني معكم منتظر عاقبة أمركم، مراقب لها، وفي هذا أبلغ تهديد وأعظم وعيد لهم، وفيه إِظهار ثقة شعيب بنصر ربه وتأييده له. {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} المفردات: {جَاثِمِينَ}: باركين على الركب من الجثوم، وهو للناس بمنزلة البروك للإبل. {يَغْنَوْا فِيهَا}: كأن لم يقيموا فيها، يقال غنى بالمكان يغني أي أقام به وعاش في نعمة

ورغدا, {بُعْدًا}: هلاكا, يقال: بَعِد بكسر العين يبْعَد بفتحها من باب طرب يطرب: بمعنى هلك, وأما بَعُد بالضم فمعناه ضد قرب. التفسير 94 - {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ... } الآية. بعد أن هددهم شعيب وأوعدهم جاءت هذه الآية تحقيقا لوعيده لهم. والمعنى: ولما جاءَ أمرنا بعذابهم نجينا رسولنا شعيبا والذين آمنوا به وصدقوه، واتبعوه بسبب رحمة منا عظيمة شاملة إذ وفقناهم للإيمان الصادق والطاعة الخالصة ففازوا بالنجاة من الهلاك. {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}: أي وأخذت الصيحةُ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي من قوم شعيب. {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أي فأصبحوا من شدتها ميتين خامدين في أماكنهم, وهذه الصيحة هي التي عبر عنها في سورتي الأعراف والعنكبوت (بالرجفة) أَي الزلزلة ولعل الصيحة من روادف الرجفة، فإن الزلزلة تحدث تموجا في الهواء، يترتب عليه صفير وصباح، فلذا سميت بالصيحة، وقبل صاح بهم جبريل فهلكوا. 95 - {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}: أي كأنهم لم يقيموا في هذه الديار، ولم ينعموا بها ولم يتقلبوا في خيراتها وبركاتها، فقد ذهب ما كانوا يعتزون به، ولم يبق لهم إِلا ما قدموه لأنفسهم مما استحقوا به العذاب والإبعاد من رحمة الله. {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}: أي ألا هلاكا لم كما هلك سابقوهم وهم ثمود قوم صالح، وإِنما شبه هلاكهم بهلاك ثمود لأن عذاب كليهما كان بالصيحة، قال ابن عباس: ما أَهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، غير أَن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أَخذتهم الصيحة من فوقهم اهـ. ويستفاد من قصة أهل مدين قوم شعيب ما يلي:

- أن نقص الكيل والوزن من الكبائر وتخشى منه العقوبة العاجلة وأنه من أكل أَموال الناس بالباطل. - وأن الصلاة مشروعة للأنبياء السابقين لقولهم لشعيب: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} الآية. - وأَن من كمال الداعى المبادرة إِلى فعل الخير قبل أن يدعو غيره إِليه. - وأن وظيفة الرسل الإصلاح بقدر الاستطاعة. - وأن العبد يجب عليه أن يتكل على ربه بعد الأخذ بالأسباب ويسأله التوفيق وأن يرجع إليه في كل أموره على الدوام. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)} المفردات: {آيَاتِنَا}: هي الآيات التسع التي أَعطاها الله لموسى عليه السلام معجزة دالة على صدقه. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: حجة بالغة لها سلطان بيِّن على العقول السليمة. {مَلَئِهِ}: أي رؤساء قومه وزعمائهم، وسموا ملأ لأنهم يملئون العيون بوجاهتهم. {يَقْدُمُ قَوْمَهُ}: يتقدمهم ويقودهم إِلى النار. {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}: أي تسبب في دخولهم النار. {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}: أي وبئس المكان الذي يردونه - النار. {وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: بئست اللعنة المعطاة لهم في الدارين عطاؤهم.

التفسير 96 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: بعد أَن بينت الآيات السابقة سوء عاقبة المكذبين من قوم شعيب جاءت هذه الآية وما بعدها لبيان ما آل إِليه أمر المكذبين لموسى من فرعون وملئه تأكيدا للغرض من سوق هذه القصص وهو العظة والاعتبار. والمعنى: ولقد أرسلنا موسى بالآيات التسع وهى العصا واليد يخرجها من جيبه بيضاء من غير سوءٍ، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الأنفس والثمرات وأيدناه بالحجج البينة التي أقامها على فرعون وقومه أثناة دعوته إياهم إلى الإيمان حين قال له فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}. وقول: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}. ونحو ذلك حيث بين لهم الحقائق الإلهية والشريعة التي بعث بها بيانًا لا سبيل إلى رده كقوله له: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. وقوله عن القرون الأُولى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}. (¬1) إِلى غير ذلك مما حاج به موسى فرعون وقومه. 97 - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}: أي أَرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون ورؤساء قومه فانقادوا لأمر فرعون لهم بالكفر بما جاء به موسى من عند الله، وأعرضوا عن الآيات الواضحه والأدلة الباهرة. {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}: أي وما أمرهم به فرعون بصائب وسديد حتى يتبعوه ويتركوا الحق المبين {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (¬2). وقد بين الله مصير فرعون وقومه في الآخرة فقالَ: ¬

_ (¬1) سورة طه الآيات: 49 - 52 (¬2) سورة الزخرف من الآية: 54

98 - {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}: أي إن فرعون كما كان قدوة للكفار من قومه جميعًا في الضلال في دار الدنيا, كذلك بتقدمهم إِلى النار يوم القيامة وهم يتبعونه. وأَصل الورد لغة: الماء الذي يرده الناس ليرتووا منه ويطفئوا به ظمأهم، وقد دلت الآية على فساد رأى فرعون وسوء حاله حيث قادهم إِلى النار وبئس الورد الذي يردونه لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك، ولو أنه قادهم إِلى الحق لنجَّى نفسه وقومه، ولكن صدق الله إذ يقول: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}. وأنما عبر بالماضى في قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} بدل التعبير بالمضارع "يُورِدُهُم" المفيد لحصول ذلك في المستقبل للإيذان بتحقق هذا الوعيد. وحمل بعضهم الآية على ظاهرها وهو أنهم وردوا النار فعلا منذ موتهم استنادًا إلى قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} (¬1). 99 - {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: أي واستحق آل فرعون بسبب كفرهم أن يلعنهم الناس في الدنيا والآخرة، وأن يطردهم الله من رحمته يوم القيامة - فاللعنة حالّة بهم في الدارين. {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}: أي بئس الجزاء الذي حل بهم من الهلاك في الدنيا وعذاب النار في الآخرة. وسُمي هذا الجزاء الأليم رفدا من باب السخرية بهم - إذ الرفد في اللغة بمعنى العطاء. ¬

_ (¬1) سورة غافر آية: 46

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)} المفردات: {قَائِمٌ}: أي بأَن بعد أن هلك مكانه. {حَصِيدٌ}: بمعنى محصود، والمحصود الذي اندثرت معالمه. {تَتْبِيبٍ}: إهلاك وتخسير. التفسير 100 - {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}: أي ذلك الذي مرَّ ذكره بعض أخبار أَهل القرى التي أَرسلنا إليها رسلنا فكذبوهم فأهلكناهم - ذلك المذكور - نقصه عليك ونبينه عبرة وعظة للكافرين، وتثبيتًا لك ولأمتك المؤمنين، من هذه القرى ما هو بأَن وقد خلا من أَهله ومنها ما انطمست معالمه كالزرع المحصود الذي لم تبق منه باقية. 101 - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: أَي وما أهلكنا هؤلاء بغير ذنب ارتكبوه لأن هذا ينافي عدلنا الذي قامت به السموات والأرض، ولكنهم ظلموا أنفسهم بشركهم بالله وإِفسادهم في الأَرض وصدهم عن ديننا الذي شرعناه على ألسنة رسلنا فاستحقوا الهلاك الذي حل بهم.

{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}: أَي فما نفعتهم معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ولا دفعت عنهم أي شىء من عذاب الله الذي أَنذرهم به الرسل. {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}: أي وما زادتهم معبوداتهم على ما هم عليه من سوء الحال إلا هلاكًا وخسرانا، حيث لم يشفعوا لهم كما زعموا، بل وضعوا في النار مثلهم. {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} المفردات: {أَخْذُ رَبِّكَ}: أي إِهلاك ربك إياهم. {أَلِيمٌ}: شديد الإيلام. التفسير 102 - {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}: أي ومثل ذلك الأخذ بالعذابِ الذي مر بيانه - يهلك الله أَهل القرى في حال ظلمها، تطهيرًا للأرض من أهل الظلم. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}: أي إن إِهلاك الله للظالمين وجيع شديد الإيلام لا مفر منه ولا مناص, وفي هذا تحذير لكل من ظلم غيره فحرمه حقه، وصده عن سبيل الله، وظلم نفسه بما اقترفه من آثام, فعليه أن يبادر بالتوبة قبل فوات الأوان.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)} المفردات: {لَآيَةً}: لعبرة وعظة. {مَشْهُودٌ}: كثير شاهدوه من الملائكة والرسل ومن كل بر وفاجر. {لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}: لانقضاء مدة قليلة قضاها الله حسب حكمته. التفسير 103 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ}: أَي إن فيما قصه القرآن من إِهلاك الأمم السابقة بسبب كفرهم بالله تعالى، وإِصرارهم على تكذيب رسله - إِن في ذلك لعظة بالغة وعبرة عظيمة للذين يخافون عقاب الآخرة، فيحملهم هذا الخوف على سلامة النظر، وحسن الاعتبار، وسرعة الاستجابة إِلى دعوة الحق، وقيل المراد بهؤُلاء الخائفين: المؤْمنون، فهم المنتفعون بالعظات والعبر، والباحثون عن سبل السلامة من غضب الله وعقابه ليسلكوها. {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}: أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب هؤُلاء الكفار المعاندين - هو يوم مجموع له الناس جميعًا ليجزى الله كل امريء بما قدمت يداه، وهو يوم مشهود بما يقع فيه من أَهوال حيث يحضره أهل السموات والأرضين، من ملائكة وإِنس وجن.

104 - {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}: أي وما نؤَخر هذا اليوم الذي يجمع له الناس إلا لنهاية زمان محسوب بدقة تامة منا، فلا يتقدم عن هذه الغاية، ولا يتأخر عنها.، وقد استأثر الله تعالى بعلمه، وأَخفاه عن عباده، لحكم كثيرة يعلمها قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} (¬1). وإنما عبر الله عن الأجل المحسوب بالأَجل المعدود، ليشير بذلك إلى قلته، فإِنه لا يعد في العادة إلا القليل، ولا شك أَن ما بقى من عمر الدنيا بالنسبة لما مضى منها قليل، ولذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأَنبياءِ والمرسلين. وقد بين الله شدة هذا اليوم وهوله بقوله: 105 - {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: أي حين يأتي هذا اليوم الذي أجل عقابهم إلى مجيئه, لا تتكلم أي نفس إلا بإِذن الله تعالى، فلا سلطان فيه لأحد من الملوك والرؤساء، فقد فنى سلطانهم وزال كبرياؤهم وملكهم, وانفرد الله وحده بالملك والعزة والسلطان، كما قال تعالى في سورة غافر: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. وفي سورة الحج: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. وفي سورة الفرقان: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ}. ويتجلى سلطان الله تعالى وجلاله يومئذ على نحو ما بينه الله بقوله في سورة النبأ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}. وبمقتضى هذه الآية وعدالة الله تعالى، يأذن الله للكفار والمذنبين في الدفاع عن أَنفسهم كما قال تعالى في سورة النحل: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}. فإِذا قامت حجة الله عليهم بعد جدالهم عن أَنفسهم، خرست ألسنتهم. ولم يؤذن لهم بالاعتذار حينئذ, فقد ظهرت حجة الله عليهم واتضح ¬

_ (¬1) آخر سورة النازعات.

أنه لا عذر لهم, كما قال تعالى في سورة المرسلات: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)}. {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}: أَي فينقسم الناس في هذا اليوم إِلى قسمين: قسم شقى بكفره ومعصيته، وقسم سعيد بإِيمانه وطاعته، ثم بين الله مصير الأَشقياء بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} المفردات: {شَقُوا}: كانوا أَشقياءَ في الدنيا بكفرهم ومعاصيهم. {زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}: الزفير، إِخراج النَّفَس من الصدر بمشقة، والشهيق: إدخاله فيه بمشقة كذلك، والمراد بهما تلاحق أَنفاسهم في النار من شدة العذاب. التفسير 106 - {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}: أَي فأما الذين قضي عليهم بالشقاءِ بسبب كفرهم ومعاصيهم في الدنيا وإطفائهم نور الفطرة التي فطرهم الله عليها، فهؤلاء مستقرون في النار تتلاحق أَنفاسهم فيها زفيرًا وشهيقًا من حرج صدورهم وشدة كروبهم، وبأسهم من النجاة منها وهم فيها دائما كما قال تعالى في سورة النساءِ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}. (¬1) ولهذا عقب الله تلك الآية بقوله سبحانه: ¬

_ (¬1) من الآية: 56

107 - {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} الآية. المراد من السموات والأرض سماوات اليوم الذي يجمع له الناس وأَرضه، فإِن دوامها باق لا نهاية له، أما سماوات الدنيا وأرضها فهى زائلة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}. (¬1) فلا معنى للتوقيت بدوامها لعدم وجودها يوم عقابهم وهو يوم القيامة ومن المفسرين من فسرها بسماوات الدنيا وأَرضها، وقال إنه ليس الغرض من النص الكريم ربط خلودهم بدوام سموات الدنيا وأَرضها التي تزول والتى لا تكون موجودة يوم القيامة بل المراد التأبيد ونفى الانقطاع، مخاطبة لهم بالأسلوب الذي اعتادوه في هذا الصدد, كقول أحدهم لا أفعل كذا ما لاح كوكب، فإِنه لا يقصد أنه لا يفعله ليلا مدة ظهور الكواكب ولكن يفعله نهارًا، بل يقصد أنه لا يفعله أَبدا، ثم قال: أَما إحالة التأبيد على دوام سماوات الآخرة وأرضها، فهى إحالة لهم على شىء لا يعرفونه بل ينكرونه، لأَنهم لا يعترفون بالآخرة، كما حكاه الله عنهم بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬2). والظاهر من الآية هو الوجه الأول, فإِنهم كما ينكرون الآخرة ودوام سماواتها وأَرضها ينكرون وعدها ووعيدها، ولكن هذا الإِنكار لا يمنع أَن يتوعدهم الله بعذاب الآخرة، ويصف لهم أهوالها لعلم يرجعون. {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: ظاهر هذا الاستثْناء أَنه تعالى يشاءُ خروج الأشقياء من النار, وأن خلودهم فيها ينقطع عند هذه المشيئة، وقد حمل هذا التوهم بعض المفسرين على أَن يقول: إن المراد بالذين شقوا، الذين ارتكبوا ما يشقيهم ولا يسعدهم سواءٌ أَكانوا كفارا أَم مؤْمنين عصاة، ويحمل الاستثناء عند صاحب هذا الرأى على عصاة المؤْمنين، وكأنه قيل: فأما الذين شقوا بكفرهم أو معاصيهم، ففي النار خالدين فيها أَبدا إلا من شاء ربك عدم خلودهم من عصاة المؤْمنين. (¬3) {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}: فلا يمنعه أحد من العفو عنهم لإِيمانهم بعد ما عذبوا على ذنوبهم. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم, الآية: 48 (¬2) سورة المؤمنين، الآية: 37 (¬3) والاستثناء على هذا عن الضمير المستكن في خالدين، ولفظ (ما) بمعنى من، كما في قوله تعالى "والسماء وما بناها" أي ومن بناها.

ورأَى بعض آخر من المفسرين أن المراد بالذين شقوا هم الكفار, وأَن المراد بقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} إلا الوقت الذي شاء الله فيه أن ينقلوا من عذاب النار إلى عذاب آخر كالزمهرير وغيره، فأمرهم دائر بين التعذيب بالنار والتعذيب بغيرها ولا أمل لهم في انقطاع العذاب عنهم بأى وجه، أو إلا الوقت الذي يتوقفون فيه في الموقف للحساب، وقيل الاستثناء ليس من خلودهم في النار، بل من قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}. والمعنى على هذا: فأَما الكافرون الذين شقوا بكفرهم ففي النار لهم فيها زفير وشهيق حال خلودهم الأبدى فيها, لا ينقطع زفيرهم وشهيقهم إلا ما يشاؤها الله، يكون تعبيرهم فيها عن كربهم بغير الزفير والشهيق. ونقل القرطبي في الوجه الرابع في تفسيره لها عن ابن مسعود أنه قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} لا يموتون فيها ولا يخرجون منها {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم, ثم يجدد خلقهم ليتجدد تعذيبهم. ولعله استمد هذا الرأي من قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (¬1). تلك خلاصة الآراء المشهورة في تفسيرها, وفيها آراءٌ ومباحث أخرى. فليرجع إليها في المطولات من شاء المزيد. {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} المفردات: {سُعِدُوا}: بضم السين قراءة الأعمش وحفص والكسائي, قال الثعلبى: أي رزقوا السعادة، يقال سُعِد وأُسْعِدَ بمعنى واحد، وقرأَ الباقون بفتح السين على أسلوب شقوا. {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: أي غير مقطوع عنهم. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 56

التفسير 108 - {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: تتحدث هذه الآية الكريمة عن الفريق الثاني من أهل الموقف في يوم مجموع له الناس ومشهود، وهو فريق السعداء بعد أن تحدثت الآيتان السابقتان عن فريق الأشقياء من الكلام في معنى ما دامت السموات والأرض هنا، كالكلام في مثله في الفريق الأول. أَما قوله {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فإِنه يوهم أَن خلود السعداء في الجنة ينقطع ولا يدوم حينما يشاءُ الله قطعه، وهذا يتنافى مع التصريح بعدم قطعه في قوله سبحانه: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: كما يتنافى مع آيات كثيرة ناطقة بأَبدية النعيم في الجنة لهم، وقد أُجيب عن ذلك بعدة أجوبة، منها أن اليوم المشهود يبدأ من البعث، وأَن السعداء لا يدخلون الجنة حين بعثهم، فإنهم كغيرهم يحشرون للموقف، ويحاسبون، ثم ينعم الله عليهم بدخول الجنة بعد أَن يقضى لهم بذلك عدالة منه وفضلا ورحمة, فالوقت الذي قضوه في اليوم المشهود قبل دخولهم الجنة، فهو المستثنى بقوله {إلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ولا يضر هذا المعنى أن الاستثناءَ وقع من أول اليوم لا من آخره, كما تقول جلست في البُستان يوما إلا ثلاث ساعات من أَوله، فإِنه تعبير صادق وسليم من الناحية اللغوية. ومنها أَن الاستثناء بالنسبة إِلى الوقت الذي ينقلون فيه من نعيم الجنة إِلى ما هو أعلى منه، من الفوز برضوان الله الذي هو أكبر من الجنة، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬1). ولهم أيضا ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه، قال الزمخشرى: والدليل على هذا قوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) التوبة من الآية (72). (¬2) انظره في الكشاف تعليقا للزمخشرى عل قوله تعالى في حق الكفار: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فقد تعرض في كلامه فيها إلى ما يماثلها في حق المؤمنين هنا.

ومما قيل في تأويلها: إن الاستثناء بالنسبة إِلى عصاة المؤمنين، فإنهم يغيبون عن الجنة في الوقت الذي يعاقبون فيه على معاصيهم، ثم يؤمر بدخولهم الجنة، فلذا قيل في حقهم {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}: أَي إلا من شاء ربك من عصاة المؤْمنين، فإن دخولهم فيها ينقطع عند أول دخول الصالحين إِياها حتى يعاقبوا على معاصيهم، فإنهم سيدخلونها ويلحقون من دخلها قبلهم من الصالحين، وقد وصفوا بالسعادة باعتبار ما آل إليه أَمرهم وفيما يلى بيان معنى الآية على ما نرى. وأَما الذين أنعمَ عليهم بالسعادة من الله بأن وفقوا للإِيمان والعمل الصالح لصفاء فطرتهم فهؤلاء في الجنة يستقرون، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، لا يبرحونها أبدًا، إلا الوقت الذي يشاءُ الله فيه أَن ينعموا بثواب أعظم، حيث يتجلى عليهم برضوانه، الذي هو أكبر من الجنة، وأَعظم منها شأنا. وهناك أيضا ينظرون اليه جل وعلا كما قال في سورة القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. (¬1) وحيث ينعم الله عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يعلم كنهه سواه، يعطيهم الله هذه النعم دائما، عطاء غير مجذوذ عنهم ولا هم عنه ينصرفون. {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)} المفردات: {فِي مِرْيَةٍ}: في شك. {نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}: جزاءهم كاملا. ¬

_ (¬1) سورة القيامة، الآيتان: 22، 23

التفسير 109 - {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ}: بعد أن بين الله تعالى عقاب الأشقياء وثواب السعداء أنذر أهل مكة بأن عبادتهم قائمة على الضلال وأنهم سيلقون مصير الأشقياء الضالين إِذا أصروا على شركهم. والمعنى لا يتطرق إليك - أيها الرسول - شك في ضلاد هؤلاء المشركين وإِن ادعوا أنهم يتقربون إِلى الله بعبادة هذه الأصنام حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬1). وهو ادعاءٌ باطل لا يقوم على عقل رشيد أو رأى سديد، لأن الأصنام لا تملك التقريب والإبعاد من الله تعالى, فهي لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعًا فكيف تملكهما لغيرها. {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}: أي أنهم لا يؤدون عبادتهم تطبيقًا لكتاب منزل، أو إطاعة لنبي مرسل، أَو تأثرًا بعقل مفكر، وإِنما يؤدونها تقليدًا أعمى لآباءهم وأجدادهم الضالين دون رَوِيَّة أو تفكير {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} (¬2). {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}: أي وإِننا لمجازوهم على عقيدتهم الباطلة وأَعمالهم الفاسدة جزاء كاملا غير منقوص، كما جازينا الأمم السابقة بسبب كفرهم وعتوهم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. والجملة هنا مؤكدة بأكثر من مؤكد للإنذار والترهيب. ¬

_ (¬1) سورة الزمر الآية: 3 (¬2) سورة الصافات الآيتان 70,69

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)} المفردات: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}: لولا وعد سبق منه سبحانه بتأجيل العذاب حتى عن يعلمه. {شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}: شك مزعج محير مقلق. التفسير 110 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ... } الآية. بعد أَن ختم الله الآية السابقة بوعيد مشركى قريش بأنهم سينالهم نصيبهم من العقاب وافيًا، جاءَت هذه الآية مسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن خلاف قومه عليه لم ينفرد به، بل هذا هو الشأن في جميع أمم المرسلين، وضرب له مثلا بقوم موسى حيث اختلفوا عليه، وأَكد له أن عقابه سينزل بمن كفر به من قومه، كما نزل بمن كفروا برسله من قبله، وسيكون نزوله في الوقت الذي عينه سبحانه لهذا العقاب، فلا استعجالهم يقدمه ولا إنكارهم يؤخره، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ}. (¬1) وقال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)} (¬2). والمعنى: ولقد أَنزلنا التوراة على موسى عليه السلام فبلغها إِلى دومه ولكنهم اختلفوا فيها، فآمن بها بعضهم، وكفر بها آخرون، حتى آل أمرهم إلى عبادة العجل، فلا تبال ¬

_ (¬1) سورة الحج، من الآية: 47 (¬2) سورة العنكبوت الآية: 53

يا محمد باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} وزعمهم أنك افتريته، فالكفر كله ملة واحدة. وإِذا كان الله تعالى لم يعجل عقوبتهم في الدنيا بالاستئصال، فلن يفلتوا من العقاب في الآخرة بأَشد العذاب، حيث سبقت كلمته بتأجيل عقابهم إليها لحكم يعلمها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}: أي ولولا قضاء سبق من ربك يا محمد بتأجيل عقوبة قومك المختلفين عليك إلى يوم القيامة لقضى بينهم بتعجيل عقوبتهم على كفرهم، وإنجاء المؤمنين منه ليتميز المحقون من المبطلين. وقيل إن الكلام في قوم موسى, والمعنى: لقضي بينهم بعقابهم عاجلًا على اختلافهم في أمر التوراة. ويبعد هذا الرأي أن الآية مسوقة لتسلية الرسول على اختلاف قومه عليه، بما حدث لموسى من اختلاف بني إسرائيل علية، ولبيان أَن عقوبة قريش على كفرهم به مؤجلة في علم الله الوعيد، ولولا ذلك لعجل بها لهم. {وإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}: أَي وإن قومك يا محمد لفي شك من القرآن موقع في حيرة لهم، ولو أنصفوا لبادروا إلى الإيمان به، فإن مبعث ريبهم هو استمساكهم بدين الآباءِ وتعصبهم له، وعدم إصغائهم إلى الناصح الأمين (¬1). ويصح أن يكون المعنى: وإِنهم لفي شك من تعذيبهم على كفرهم مقلق لنفوسهم وقد أخطئوا في هذا الشك، كما يشير إِليه قوله تعالى: 111 - {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا (¬2) لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}: ¬

_ (¬1) فالضمير في لفظ (منه) عائد على القرآن وإن لم يذكر في الكلام، قال أبو السعود في بيان ذلك (فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه, لا سيما بصدد التسلية ينادي بذلك نداء غير خفي): أهـ أي ينادي بعوده إلى القرآن وإن لم يذكر. (¬2) يرى أبو عبيدة أن لفظ (لما) في قوله تعالى: {لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} بمعنى جميعا، وأصله بالتنوين وقد قرئ، ثم بنى على فعل، وهو مأخوذ من لممته بمعنى جمعته، وقد أخبرنا هذا الرأى لأنه أقرب الآراء وأيسرها وأبعدها عن التكلف برغم ما وجه إليه.

أي وإن كلا من المختلفين فيه مؤمنين وكافرين، جميعا والله ليوفينهم ربك يا محمد جزاء أَعمالهم إن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر. {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: إنه تعالى بما يعمله المحسنون والمسيئون عليم أدق العلم وأَوسعه، فما تخفى عليه منهم خافية ومن كان كذلك، فإِنه سبحانه سيوفيهم جزاءَ أَعمالهم. {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)} المفردات: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}: نفِّذ ما أَمرناك به دون ميل عنه بزيادة أو نقص. {وَلَا تَطْغَوْا}: أي لا تتجاوزوا الحد الذي أمرتم به وذلك بالإفراط أو التفريط. {وَلَا تَرْكَنُوا}: ولا تميلوا. التفسير 112 - {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}: أَي إِذا علمت يا محمد أَن كلاًّ من المؤمنين والكافرين سيوفيهم ربك جزاء أعمالهم فدم على ما أنتم عليه من الاستقامة على شرع الله الذي شرعه لك عقيدة وعملا, وليستقم عليه من تاب عن الشرك والكفر ليكون معك ويشاركك في الإيمان، ولا تتجاوزوا الحد بإِفراط ممل أَو تفريط مخل. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: فيجازيكم على عملكم وفق ما علمه من أَدائكم له, فمن أَحسن فلنفسه , ومن قصر فعليها.

وقد دلَّت الآية على وجوب اتباع المنصوص عليه، من غير انحراف عنه بمجرد الرأى، فإِنه طغيان وضلال. وأَما العمل بمقتضى الاجتهاد المترتب على علل المنصوص، فذلك من باب الاستقامة أيضًا، لقوله تعالى: "فَاعْتَبِرُوا يَا أولِى الْأَبْصَارِ (¬1) " فإِنه أَمر بالقياس، ومثال ذلك قياس عصير القصب إِذا أسكر في الحرمة، على الخمر المنصوص على حرمتها - لعلة الإِسكار - المشتركة بينهما. والغرض من توجيه الأمر بالاستقامة على أمر الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مقدمة من آمن وتاب - إلى الله وأَصبح في معيته، الغرض من ذلك أن يعلم الناس أَن عبادة الله وأوامره واجبة الاتباع حتى بالنسبة للأنبياء، وأنهم في مقدمة المكلفين بذلك، لأَنهم قدوة لأَقوامهم، فلا يباح لهم الخروج على أمره وعدم الاستقامة عليه بإِفراط، فإِن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أَبقى، ولا بتفريط فإِنهم مكلفون بكمال العمل، لأَنه حق له تعالى، وليكونوا أسوة لغيرهم، ولأَنه تعالى طيب فلا يقيل إلا طيبًا - كما جاءَ في الحديث الشريف. ولقد كانت شدة الالتزام بكمال الامتثال من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة وغيرها، داعية إِلي مشيبه صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: "شيبتنى هود والواقعة وأخواتهما" أخرجه الترمذي. ومن هذا وأمثاله يعلم أنه لا طبقية في الإِسلام، فالكل عباد الله، وأنه لا فرق بين حاكم ومحكوم , ولا بين نبى وغيره في التزام شريعة الله ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول للزهراء رضى الله عنها: "اعْمَلِى فَإنِّى لَا أغنى عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيئًا". وكان يقول أَيضًا: "وَالله لو سرَقَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَها". وقد أَوجب الله تعالى على عباده ما يسهِّل عليهم الاستقامة عليه من فعل الواجبات وترك المحرمات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدِّينَ يُسْر وَلَنْ يُشادّ الدّينَ أَحَدٌ إلا غَلَبَة، فَسَدّدُوا وقَارِبُوا، وأسْتَعينوا بالْغُدْوة والرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِن الدُّلْجَةِ". أخرجه البخاري عن أَبي هريرة في كتاب الحج - ومن تتبع التكاليف الشرعية وجدها سهلة ميسرة على ¬

_ (¬1) سورة الحشر, من الآية: 2

القوى والضعيف والغنى والفقير، مع ما فيها من الترخيص لأصحاب الأعذار بالرخص الكثيرة، كإِسقاط الحجِ عن فاقد الاستطاعة، والصوم عن الحائض والنفساء والشيخ الفاني، وغير ذلك كثير. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الصحابة نذر أن يصوم ولا يفطر ويقوم الليل عابدًا ولا ينام، ولا يتزوج النساء, خطب في الصحابة ناهيًا عن ذلك وقال: "إنِّي لإخشَاكُم لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكنِّى أَصُومُ وأفْطِرْ وأصَلّى وأَرقُد وأتَزَرج النِّسَاء، فَمَن رَغِبَ عَنْ سُنتي فَلَيْسَ مِنِّي" أَخرجه الشيخان. وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم وسطًا لا إِفراط فيها ولا تفريط، مراعاة للطاقة البشرية لأمته، أَخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال: "كنْتُ أصَلِّى مع النَّبي صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ، فَكَانَتْ صَلاَتُهُ قَصدًا وَخُطْبَتُهُ قَصدا". فعلى المسلمين أَن يستقيموا على أَمر الله، فإِن الدين يسر لا عسر، وليعلموا أَن الله مطلع على أعمالهم وعبادتهم ومجازيهم عليها حسب أَدائهم لها، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. 113 - {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}: بعد أَن أَمر الله رسوله والمؤمنين بالاستقامة على أمر الله دون إفراط أو تفريط جاءت هذه الآية ناهية عن الميل إلى الظالمين والتعاون معهم. والمراد بالظالمين الكافرون، أو كل ظالم ولو كان مسلمًا، والمراد بالركون إليهم محبتهم والاعتماد عليهم، والأخذ بمشورتهم، وقد نهى الله في الآية عن ذلك الركون وتوعد عليه بمساس النار، فإذا كان هذا مآل من يميل إِليهم، فما ظنك بمن يشاركهم في عاداتهم، ويديم معاشرتهم، ويتزييّ بزيهم تقليدًا لهم، ويعاونهم على ظلمهم، لا شك أن عذابه يكون أَشد وأعظم، ولهذا تعتبر الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والوعيد عليه. ومما جاء في السنة نهيا عن محبتهم ومعاونتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحبّ قومًا حَشَرَهُ اللهُ في زُمْرتهم" أخرجه الطبراني، وقوله: "مَنْ أعان ظالمًا ليَدْحَضَ بِبَاطِله حقًّا فقدْ بَرئَتْ منْه ذِمَّةُ اللهِ وذِمّةُ رَسُولِه" أخرجه الحاكم، وأَخرج البيهقي في شعب الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَعَا لِظَالم بالبَقَاءَ فقدْ أحب أنْ يُعْصَى اللهُ في أرضه".

فعلى كل مسلم أن يكون ولاؤه لله ولدينه ووطنه وإِخوانه المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}. (¬1) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)} (¬2). وبالجملة فإن من أحب الظالمين أو أعانهم على ظلمهم عوقب بالنار بقدر حاله معهم، وكذلك من استعانوا بهم على قتال إخوانهم المسلمين أَو ظلمهم، أو بعثوا بطائفة منهم للقتال في صف من يريدون استعبادهم أَو ظلمهم. قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬3). وحكى الزمخشري في الكشاف أن الموفق الخليفة العباسي صلى خلف إِمامه فقرأَ الإِمام بهذه الآية فخر الموفق مغشيا عليه فلما أفاق قال هذا فيمن ركن إلى الظالم فكيف بالظالم؟. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}: أي إذا ركنتم إلى الظالمين بأي وجه من الوجوه التي مر بيانها مسّتكم النار معهم ولن يستطيع أحد إنقاذكم أو إنقاذهم من عذاب الله كما قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (¬4). ولا شك أن المسلمين يدركون من هذا التحذير، أَن عليهم أن يعتمدوا على الله وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد، بعضه بعضا، وإن يحذروا موالاة الظالمين، وأَن يدركوا خبثهم وسوء طويتهم بالنسبة إليهم، فقد علموا ما قاسيناه من لؤم المستعمرين، وصداقتهم الزائفة، فقد استنزفوا دماءنا وأَموالنا، وأساءُوا إلى ديننا وأَخلاقنا، وعلى المسلمين أَيضًا أن يحولوا بين الظالم وظلمه، روى الإمام أحمد وأَصحاب السنن عن أَبي بكر - رضى ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية: 23 (¬2) سورة النساء الآية: 144 (¬3) سورة آل عمران من الآية: 28 (¬4) سورة الأنعام من الآية: 51

الله عنه - أَنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءُون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (¬1) أَلا وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أَن يعمهم الله بعقابه". {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)} المفردات: {طَرَفَيِ النَّهَارِ}: أوله وآخره، هما الغداة والعشي. {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: وساعات منه قريبة من النهار. {وَزُلَفًا}: جمع زلفة - من أزلفه إذا قربه. التفسير 114 - {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}: بعد أَن أَمر الله ورسوله والمؤمنين بالاستقامة، وأن يتركوا الركون إلى الظالمين، أَمرهم بما يعينهم على ذلك من اللجوء إِلى الله بأَداء الصلاة بضع مرات أَثناءَ الليل والنهار. وقد وجه الأَمر في هذه الآية إِلى النبي صلى الله عليه وسلم - مع أن المراد به أمته معه - لأَنه إمام المؤمنين ورسولهم، فتكليفه تكليف لهم، إِلا ما نص على تخصيصه به كالتزوج بأَكثر من أَربع مجتمعات. ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية: 105

والمعنى: وأدِّ الصلاة بأركانها وشروطها في طرفى النهار - الغداة والعشى - فأَما صلاة الغداة فهى الصبح، وأَما صلاة العشى، فهى الظهر والعصر، وأقم الصلاة أَيضا في ساعات من أول الليل، بأن تؤدى صلاتي المغرب والعشاء وبهذا التأويل تضمنت الآية الكريمة الصلوات الخمس التي كلف الله بها عباده المؤْمنين يوميا. قال القرطبى: لم يختلف أحد من أَهل التأويل في أَن الصلاة في هذه الآية يواد بها الصلوات المفروضة وخصها بالذكر لأنها ثانية الإيمان وإليها يفزع في النوائب - وكان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر فزعَ إلى الصلاة. اهـ. {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}: هذا التعقيب تعليل للأمر السابق بأداءِ الصلاة، يشير إِلى أن الحسنات وعلى رأسها الصلاه تكفر السيئات وتذهب الآثام. فإِذا حدث من المؤمن انحراف عن الاستقامة , أو ميل إلى الطغيان، أو جنوح إلى الظالمين، وذكر المؤمن ربه وتاب وأَناب, وفزع إلى الصلاة, غفر الله له ما ارتكبه من آثام فإِن الصلاة كما تنهى عن الفحشاء والمنكر تطهر النفوس من الأدران والأَوشاب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرأَيْتُمْ لَو أنَّ نَهْرًا بِبَابِ أحَدِكُمْ يغْتَسِل فِيه كل يَوْم خَمسًا، مَا تَقُولُ: يُبْقى ذَلِكَ مِنْ دَرَنه؟ قَالُوا لَا يُبْقى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ فَذَلِكَ مَثلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهَا الخَطَايَا". أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلوات عن أَبي هريرة. وجاءَ في سبب نزول هذه الآية "عن ابن مسعود أَن رجلا أصاب من امرأة قبلة حراما. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم. فسأله عن كفارتها فنزلت فقال الرجل أَلِىَ هذه يا رسول الله؟ قال لك ولمن عمل بها من أمتي" أَخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وفي معنى الآية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اتَّق اللهَ حَيْثما كنتَ وأَتبع السيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحها وَخَالِقِ النَّاس بِخُلق حَسَن" رواه أحمد والترمذى والحاكم والبيهقي.

وقد يمن الله على عبده إذا أحسن التوبة وأكثر الحسنات فيبدل سيئاته حسنات كما قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬1). 115 - {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: إن التزام الاستقامة والقصد، واجتناب الظالمين، وإقامة الصلاة في أَوقاتها تامة، الأركان والشروط، كل هذا يستدعي الصبر فلذا أمر الله به في هذه الآية كما أمر به في غيرها كقوله تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬2). وقد أوصى الله سبحانه بالاستعانة بالصبر والصلاة على أداء الطاعات واجتناب الموبقات حيث قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬3). فمن أطاع الله واتقاه وفاه الله أَجره كاملا لأَنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوبَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} المفردات: {لَوْلَا}: هلا. {الْقُرُونِ}: جمع قرن، وقدَّره بعضهم بثمانين سنة، وبعضهم بسبعين سنة والجمهور على أنه مائة سنة، والمراد من القرون هنا أَهلها من الأمم السابقة. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان من الآية: 70 (¬2) سورة طه من الآية: 134 (¬3) سورة البقرة الآية: 145 (¬4) سورة الأعراف من الآية: 56

{أُولُو بَقِيَّةٍ}: أصحاب روية وتفكير، وأطلق عليهم ذلك لأنهم لا يعجلون بإِبداء الرأى، بل يبقونه حتى يمحصوه، ويدركوا صوابه فيجهروا به. {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}: ما تنعموا به. التفسير 116 - {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوبَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}: هذه الآية تشير إلى الأمم المهلكة التي ورد ذكرها في هذه السورة, لو كان فيهم كثير من العقلاء يقاومون الفساد ويضربون على أيدى الطغاة المستبدين ويحتكمون إِلى العقل المؤيد للرسالات السماوية، لو كان فيهم كثير من هؤلاء العقلاء الذين يكفونهم عن الفساد والإِفساد لما حقت عليهم كلمة العذاب, فإِن من سنن الله الكونية أن يأخذ الأمم بعذابه الشديد إذا عَمَّ فيهم الفساد وانتشر بينهم الضلال, وأصبح المعروف بينهم نادرًا، والمنكر شائعا {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). والمعنى: فهلا وجد من هؤلاء الأَقوام المهلكة الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة هلَّا وجد منهم جماعة كثيرة أصحاب بقية من العقل والروية ينهونهم عن الفساد والإفساد في الأرض، لينجوا من الهلاك, لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن ذلك فسلموا ونجوا منه. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}: أَي إن القلة القليلة من العقلاء لم تستطع القضاء على الفساد، أما الكثرة الكاثرة الظالمة لنفسها فقد انغمست في الترف والنعيم وأَمعنت في الفساد والضلال. استجابة لما جبلت عليه من حب الجريمة والإِجرام فاستحقت الهلاك والدمار. ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 33

117 - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}: وما صح ولا استقام عقلا أَن يهلك الله أهل هذه القرى بظلم وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ويؤمنون بخالقهم، فإن إهلاكهم وهم مصلحون ينافي صفة الحكمة التي يتصف بها العليم الحكيم، وينافي السبيل الذي اختاره سبحانه لمعاملة عباده، وهو الذي جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1) وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬2) ". {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} المفردات: {أُمَّةً وَاحِدَةً}: جماعة متحدة في الدين لا خلاف فيه بينها. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}: ووجب حكمه وقضاؤه الأزلى - {الْجِنَّةِ}: الجن. التفسير 118 - {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}: ولو أَراد الله ربك سبحانه وتعالى أَن يكون الناس جماعة واحدة في دينها وتقواها واتزان عقولها، بحيث لا يقع من أحد منهم كفر ولا إفساد، لو أراد ربك ذلك لوقع، ولكنه لم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية: 96 (¬2) سورة يونس الآية: 44

يرده, بل خلقهم وأَودع فيهم العقل، وأَعطاهم الاختيار، ووضح لهم الطريق، وأَقام الحجة بإرسال الرسل حتى تكون عقيدتهم وعملهم بكسبهم واختيارهم، ولكنهم اختلفوا بسوء رأْيهم في هذا كله، وأضاعوا فطرتهم المستقيمة المفطورة على الحق إلا من عصم الله منهم فثبتهم عليه. {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: ولا يزال الناس مختلفين، بعضهم على الحق، وبعضهم على الباطل، بعضم يستعمل عقله, ويسترشد مما رسمه له الرسل فيهتدى، وبعصهم لا ينتفع بذلك، بل يتبع هواه فيضل ويغوى. 119 - {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: أي لا يزال الناس مختلفين، بعضم على الحق وبعضم على الباطل، إلا من رحمهم الله ربك فهداهم ولطف بهم فإِنهم يتفقون على الدين الحق، ولا يختلفون فيه لأنهم يقبلون عليه سبحانه بقلوبهم وعقولهم فيحسن استقبالهم ويعينهم بفضله ورحمته. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: اللام في قوله {وَلِذَلِكَ} للعاقبة والإشارة راجعة إلى اختلاف الناس. والمعنى: وخلقهم على الفطرة السليمة، لتكون عاقبتهم أَن يختلفوا، وما كان ينبغي لهم أن ينتهوا إلى ذلك، وقد منحهم الله العقل والتمييز، وأرسل إليهم الرسل ليهدوهم سواء السبيل، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "كُل مَولودٍ يُولدُ عَلَى الفطرة فَأبوَاهُ يهودَانِهِ أوْ يُنَصرَانِهِ، أوْ يمجسَانِهِ" وقوله تعالىَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬1). ومن العلماء من جعل الإشارة في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} إلى الرحمة في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية: 79

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: معنى {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: وللمذكور من رحمة الله تعالى خلقهم، يريد ابن عباس ومن معه، أَنه تعالى خلقهم على استعداد فطرى لرحمة الله، لكنهم أفسدوا فطرة الله بسوء اختيارهم، وحرموها من رحمته جلَّ وعلا. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}: ووجب قضاء ربك العادل. {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: وجب قضاؤه أن من الخلق من يستحق الجنة لأنه زكى نفسه فأفلح وفاز، ومنهم من يستحق النار لأَنه دنس نفسه بالمعاصى فخاب وخسر، وأن النار لابد من أَنها ستملأ من الأشقياء من الثقلين الجن والإِنس، الذين لا يهتدون بما أَنزله الله من كتب، ولا يؤمنون بمن أرسل من الرسل، وذلك لعلمه سبحانه وتعالى بكثرة من يختار الباطل على الحق، ويؤثر الضلال على الهدى ممحض اختياره، وحرمان أَنفسهم من تقبل رحمة الله ومعونته. {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} المفردات: {نَقُصُّ}: من قص يقص، والقص تتبع أَثر الشيء للإحاطة والعلم، ثم أطلق على الإخبار لما فيه من تتبع الأحداث رواية.

{أَنْبَاءِ}: جمع نبأ وهو الخبر الهام. {نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}: المراد من تثبيته زيادة ثباته في أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفار. {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: اعملوا على غاية تمكنكم، وأقصى استطاعتكم، أو اعملوا على حالكم ومنزلتكم التي أنتم عليها من الكفر والمعاصي، والأمر للتهديد. التفسير 120 - {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}: بعد أن قص الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصص أشهر الرسل وعاقبتهم مع أممهم من نجاة المؤمنين، وإهلاك المكذيين، ذكر في الآية فائدة ذكر هذه القصص. والمعنى: وكل نبأ من أَنباءِ هؤُلاءِ الرسل مع أممهم نقص عليك يا محمد ونخبرك بما نثبت به فؤادك، حيث تدرك منه أنك لست وحدك الرسول الذي كفر به قومه، فكل الرسل كانوا كذلك فصبروا حتى ظفروا بإِعلاءِ كلمة الله، وهزيمة الشرك ودك معالمه، وإِهلاك أهله، فإِذا علمت أن الرسل من قبلك قاسوا ما تقاسى، هان عليك ما تقاسيه، فإِن البلوى إِذا عمت هانت، وإِذا هانت عليك قوى قلبك واشتدت عزيمتك على المضى في سبيل ربك، وقوى احتمالك للإيذاءِ والصبر على أداء الرسالة. وفي مثل هذا المعنى يقول الله تعالى {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (¬1). {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}: ولقد جاءك في هذا القصص من أَنباء الرسل وأَقوامهم بيان جامع للحق وللموعظة وتذكير المؤمنين، حيث يتعظون مما حل بالأمم السابقة من هلاك ودمار فيبتعدون عن أَسبابه وموجباته. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 34

وإِنما عبر بقوله: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} مع أنه في الحقيقة أنزل لوعظ الناس جميعًا، لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون مما في هذه القصص من الوعظ والتذكير. 121 - {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ}: وقل أيها الرسول للمشركين الذين أعرضوا عن دعوتك فلم يؤمنوا بما جئتهم به، قل لهم مهددًا وَمُوَعِّدًا: اعملوا بقدر استطاعتكم وتمكنكم، وبكل ما أوتيتم من قوة على مقاومة الدعوة والصد عنها، إِنا عاملون في تبليغ الحق، دائبون عليه لا يثنينا عن عزيمتنا كفركم ولا يردنا عن دعوتنا طغيانكم، أو عاملون بما أنزله ربنا، لا يصرفنا عنه صارف، ولا ممنعنا منه كَفارٌ أثيم. 122 - {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}: وترقبوا ما تتمنون لنا من هلاك إنا مترقبون أن يحل بكم مثل ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسل ربها وصدت عن سبيله. 123 - {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي لله وحده علم ما غاب في السموات والأرض، فلا يخفى عليه شيء من سركم وجهركم. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}: وإليه وحده مرجع الأمر كله في الدنيا والآخرة، لا إلى أحد غيره، فيرجع إِليه لا محالة أَمرك يا محمد وأمرهم، فيجازى كلا بما اعمل. {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}: وإِذا كان مرجع الكل إلى الله وحده لا إِلى غيره فدم على ما أَنت عليه من عبادته وحده مخلصا له العبادة، وتوكل عليه في جميع أمورك، فإنه يكفيك كل ما أَهمك ويكفلك في جميع أحوالك.

واعلم أنه الأخذ بالأسباب المشروعة لا ينافى التوكل على الله، ولذا أَوجبه الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1). وقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (¬2). وأمر به الرسول بقوله لصاحب الناقة: "اعقِلها وَتَوَكلْ": أي اعقل ناقتك أَولا، ثم قل توكلت على الله. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: وما ربك بغافل عما تعمله أنت من تبليغ رسالة، ربك وما يعملونه هم من كفر وإعراض، بل هو عالم به, محيط بتفاصيله، فيرفع شأنك يا محمد ويعلى قدرك في الدنيا والآخرة ويعاقبهم فيهما بما يستحقون من تعذيب وحرمان. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال من الآية: 60 (¬2) سورة الملك، من الآية: 15

سورة يوسف

سورة يوسف عليه السلام وهى مكية، وآياتها مائة وإِحدى عشرة آية فقط، وذكرت بعد هود لما يجمع بينهما من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء السابقين وما لاقوا من أذى الأباعد كقصص سورة هود وأذى الأقارب كقصة يوسف عليه السلام. وتمتاز سورة يوسف بأنها تناولت قصته كاملة من أولها إلى نهايتها، حيث شرحت أمره مع أبيه ومع أخوته في صغره وشبابه وكهولته في فقره وفي غناه، وبينت كيف تآمر عليه إخوته، حتى ألقوه في غيابة الجب، وكيف التقطه بعض المسافرين وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، وأَنه تربى في بيت عزيز مصر، ونشأ فيه نشأة عبد مملوك، وأن جماله في شبابه أغرى به زوجته فراودته عن نفسه فاستعصم، فكادت له عنده، ودفع به كيدها إِلى السجن وعاش فيه بضع سنين، وكان معه فتيان، وفي ليلة رأيا في المنام رؤيا، وسألاه عن تعبيرها، فقال في تعبيرها: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}، وتحقق تأويله لرؤياهما فقتل أحد السجينين وصلب، وعفى عن السجين الثاني، وأصبح ساقيا لملك مصر، ولما رأى الملك رؤيا أزعجته وفشل الكهنة في تأويلها، علم من ساقيه مكانة يوسف في تعبير الرؤيا، فاستدعاه فعبرها تعبيرًا عرف منه الملك منزلته من العلم، وبرَّأته زوجة العزيز مما نسبته إِليه ظلما وجعله الملك على خزائن الأَرض ثم بينت القحط الذي أصاب الناس وبينت كيف كان هذا سببا في حضور إخوته ليتزودوا من الطعام الذي خزنه يوسف ليكون قوتا للناس في سبع سنين عجاف، وكيف خزنه حتى سلم من الآفات هذه المدة، وكيف عاد إليه أَبواه وإخوته، ثم رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا، إلى غير ذلك من غرائب هذه القصة التي تعتبر عبرا وعظات ينبغي أن ينتفع بها كل ذى عقل رشيد. وقد بدئت السورة بثلاث آيات في بيان أحسن القصص، ثم جيء عقبها بقصة يوسف كاملة، وختمت بإحدى عشرة آية توضح أَهداف القصة والحكم المستفادة منها، ودلالتها الواضحة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومما يلاحظ في هذه السورة الكريمة أنها تصور الفضائل في أَسمى صورها مثل: صبر يعقوب على فراق يوسف ثم فراق أخيه، وصبر يوسف على ما قاساه من تعرض للهلاك بعد الأمان في حضن أبويه، وما عاناه من عبودية بعد الحرية, وما تعرض له من ظلم في غيابة السجن دون ذنب جناه. ومن الفضائل الكبرى في القصة: العفة في أسمى صورها في يوسف عليه السلام، مع وفرة عوامل الإغراء والإغواء في شرخ الشباب، ومن الفضائل الكبرى التي أَبرزتها أيضا الثقة بالله وآثارها فإن يعقوب لم يفقد ثقته به، ولم يقنط من رحمته، ويوسف لم ييئس - وهو في قرارة السجن - من الفرج، وظل ثابت الإِيمان يدعو إِلى الله ويعتصم بتقواه، حتى بدل الله حالهما إلى أحسن حال. كما أبرزت القصة فضيلة العفو والصفح الجميل الصادر من يوسف لإِخوته والاستغفار من يعقوب لأبنائه، ومقابلة الإِساءة بالإِحسان. وكما صورت القصة الفضائل في أسمى صورها صورت أَيضا الرذائل في أبشع مظاهرها حيث صورت حقد إخوة يوسف عليه، وارتكابهم ما آذى أَباهم أَشد الإِيذاء، وما عرض أخاهم للهلاك، كما صورت استهتار زوجة العزيز وإصرارها كل الإصرار على الخيانة الزوجية وإنها لم تكترث بسوء القالة في حقها، ولما لم يستحب يوسف لرغبتها، أغرت به زوجها العزيز وحرضته على إلقائه في السجن ظلما وعدوانا. وقد بينت سورة يوسف كما بينت سورة هود أن العاقبة للمتقين، كما بينت أن مع العسر يسرا وأن لكل شدة نهاية، وأَن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} التفسير 1 - {الر}: أسماءُ حروف بدأ الله عز وجل بها بعض سور (¬1) كتابه الكريم إشارة إلى أنه مكون من كلمات ذات حروف عربية كتلك التي يتأَلف منها كلام معارضيه - تحديا لهم أن يأتوا ممثله إن كانوا صادقين في دعواهم أَن الرسول تقوله، فإِذا عجزوا فمحمد مثلهم لا يقدر على مثله، فيجب الايمان حينئذ بأَنه من عند الله أنزله تأييدًا لرسوله. وقيل هي سرّ بين الله عز وجل وبين رسوله أَوحى الله به إليه عليه الصلاة والسلام ولا يلزم علم جميع الأَنام بما يوحيه الله عز وجل لأَنبيائه، فهم قد علموا من الأسرار القدسية ما لا تستطيع وعيه العقول البشرية العادية، روى عن أَبي بكر: لكل كتاب سر، وسر القرآن أَوائل السور. وقد تحدثنا عن هذه الفواتح في أول سورة البقرة وآل عمران وغيرهما مما تقدم. ¬

_ (¬1) السور المبدوءة بالحروف المفردة تسع وعشرون سوة وهى: (1) البقرة (2) آل عمران (3) الأعراف (4) يونس (5) هود (6) يوسف (7) الرعد (8) إبراهيم (9) الحجر (10) مريم (11) طه (12) الشعراء (13) النمل (14) القصص (15) العنكبوت (16) الروم (17) لقمان (18) السجدة (19) يس (20) ص (21) غافر (22) فصلت (23) الشورى (24) الزخرف (25) الدخان (26) (الجاثية) (27) الأحقاف (28) ق (29) القلم.

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: الإشارة إلى آيات هذه السورة، والمراد بالكتاب القرآن عامة والمبين من أَبان اللازم بمعنى بان وظهر، أي الظاههر أَمره في كونه حقا من عند الله، أو الواضح في معانه وأَغراضه. أو هو من أبان غيره أَي أظهره، فهو يظهر حقائق الدين ومصالح الدنيا لمن تلاه وتدبر ما فيه. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. ولا مانع من أن يكون المعنى عاما يشمل كل ذلك فيكون ظاهرًا في نفسه مظهرًا لغيره من الحقائق. والمعنى: تلك الآيات الواردة في هذه السورة آيات من الكتاب الواضح في كونه من عند الله، الظاهر في معانيه وأغراضه، الموضح لحقائق الدين الحق، ومصالح الدنيا والآخرة. ولما وصف الكتاب بما يدل على الشرف الذاتي من بعد منزلته ورفعة بيانه وحسن إبانته عقب ذلك بما يدل على الشرف الإضافى فقال: 2 - {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على محمد قرآنا عربيا لتستطيعوا قراءته وتعقله وفهمه أيها العرب، وتكونوا دعاة لشرائعه في الأمة العربية وغيرها. 3 - {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}: آيات القرآن الكريم معجزة في جميع صورها، سواءٌ أوردت في صيغة خطابية أَم جدلية أم قصصية، والقصَص التربوى بصفة عامة يعطينا صورًا واضحة للفضائل والرذائل، حتى تترك آثارها العميقة في أغوار النفوس البشرية فتقبل على الفضائل لحسن عاقبتها، وتدبر عن الرذائل لقبح مصيرها. وقد ساق الله القصص القرآنية، لنستفيد من روايتها مكارم الأخلاق ونتعظ بعظاتها وعبرها، حتى نكون بمأمن من عثرات الحياة ومنجاة من أَخطار الدنيا والآخرة، وسورة يوسف مليئة بالعظات والعبر، فلهذا تعتبر بحق أحسن القصص كما وصفها الله تعالى

ومعنى هذه الآية ما يلي: نحن نروي لك يا محمد أحسن القصص الواقعى النافع في شتى نواحي الحياة، وإِن كنت من قبل إِيحائه إليك، لمن الغافلين عن هذه القصة، فم تخطر لك ببال، ولم يسبق لك بها علم. قال القرطبي في بيان كون سورة يوسف أحسن القصص: مسألة اختلف العلماء لم سميت هذه السورة أَحسن القصص من بين سائر الأقاصيص، فقيل لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة، وبيانه قوله في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. وقيل سماها أَحسن القصص بحسن مجاوزة يوسف عن إخوته وصبره على أذاهم، وعفوه - بعد التقائهم - عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم حتى قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}. وقيل لأَن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجن والإِنس، والأنعام والطير، وسير الملوك والممالك والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن. وفيها ذكر التوحيد والفقة والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجُمَل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. ثم ذكر عن بعض أَهل المعاني أنه قال: إنما كانت أحسن القصص, لأن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة، انظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز - قيل - وللملك أَيضا، فقد أسلم وآمن بيوسف، وكذا مستعبر الرؤيا الساقى، والشاهد فيما يقال، فما كان أَمر الجميع إلا إلى خير. اهـ.

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} المفردات: {يَا أَبَتِ}: بمعنى يا أبي، والتاء عوض عن ياء المتكلم. {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}: يختارك ويصطفيك {تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}: تفسير الأَحلام وبيان ما تؤول إليه. {أَبَوَيْكَ}: المراد بهما الجدان إبراهيم وإسحق بن إبراهيم عليهما السلام، وأَطلق عليهما أبوان لأن الجد أب لغة وعرفا وشرعا حيث يرث ميراثه عند فقده. التفسير 4 - {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}: هذه الآية الكريمة بداية للحديث عن قصه يوسف التي وصفها الله بأَنها أَحسن القصص ووعد بأنه سيقصها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: واذكر يا محمد لمن يعارضون في نبوتك اذكر لهم قصة يوسف التي لا تعلمها أَنت ولا قومك، ليعلموا أنها عن وحي الله وأنت صادق في دعوى رسالتك: اذكر

لهم حين قال يوسف لأبيه يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام: يا أَبي إني رأيت في منامى أحد عشر كوكبا من الكواكب السماوية، والشمس والقمر، رأيتها جميعا تركت مواقعها وسجدت لى. وكان إخوة يوسف عليه السلام أحد عشر فجاءَت هذه الرؤيا مؤذنة بأَنهم سيسجدون ليوسف مع والديه المشار إليهما بالشمس والقمر فالشمس رمز إلى أبيه، والقمر رمز إلى أمه أَو بالعكس، وقد تحققت هذه الرؤيا تماما، كما بينه قوله تعالى في آخر السورة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ... } (¬1). والرؤيا الصادقة في النوم قد تكون من الله لأنبيائه فتكون وحيا، وقد تكون إلهاما للصالحين، قال صلى الله عليه رسلم: "الرُّؤيا الحسَنَةُ مِن الرجلِ الصالحِ جُزءٌ مِنْ سِتِّةٍ وَأَرْبَعينَ جُزْءا مِنَ النُّبُوةِ" أخرجه البخاري. وقال أيضا: "لَمْ يَبْق مِنَ النبوةِ إلاَّ المُبَشرَاتُ قَالُوا وَمَا المُبَشِّرَاتُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الرّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصالحُ أوْ تُرَى لَهُ" أخرجه البخاري. وليس بلازم أن تكون الرؤيا الصادقة خاصة بأهل الدين الحق، فقد يراها غيرهم ويغلب على الظن، أَنها حينئذ لا تكون صريحة بل مؤولة، كتلك التي رآها ملك مصر الوثني، وهى رؤيته سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأَخر يابسات، وقد أولها يوسف عليه السلام بسبع سنوات خصبة تأتي بعدها مثلها جدباء. وأحيانا يستدل بها على أمراض معينة، ولهذا كان أطباءُ اليونان يعتمدون عليها في تشخيص المرض عند المريض, وكان بعض قواد الرومان يعتمدون على رؤاهم في وضع خططهم الحربية، لأَن لديهم تجارب صحيحة في تأويلها: انظر مادة الرؤيا في دائرة المعارف للأستاذ محمد فريد وجدى وأحيانا تكون الرؤيا أخلاطا متباينة وهى المعبر عنها بأضغاث الأحلام وتلك هي التي لا يعرف المعبرون تأويلها لخروجها عن القواعد التي ألفوها في تعبير الرؤى - والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) سورة يوسف من الآية: 100

وقد استفيد من هذه الآية وما بعدها ما يأتي: أَولا: أن إخوة يوسف كانوا يعرفون تأويل الرؤى، ولذا حذره أبوه من أَن يقص رؤياه عليهم حتى لا يكيدوا له بسبب ما يفهمونه من المعاني التي تشير اليه، وهى السمو والرفعة, وأَن تكون أسرته مرءوسة له وهو رئيسهم، إلى غير ذلك من ألوان العز المنتظرة له. ثانيا: أَن تعبير الرؤيا أَمر يقره الشرع ولا ينهى عنه وأنه حقيقة علمية يمكن الانتفاع بها، فقد أَشار والده إِلى مآل رؤياه وتعبيرها, إشارة غير خفية، إذ أفهمه أن إِخوته إِذا سمعوها أَولوها برفعة له مستقبلا وأَنهم لذلك سوف يكيدون له، كما دلت الآية الثانية على أَنه تعالى سيعلم يوسف من تأويل الأَحاديث أَي تعبيرها، وأن ذلك من تمام النعمة عليه. وقد جاءَ في فضل الرؤيا الصادقة قوله صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَبْقَ بَعْدِى مِنَ المُبَشِّرَاتِ إلا الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الرَّجُل الصَّالحُ أَوْ تُرَى لَهُ". وقال: "الرُّؤْيا جزْء مِنْ سِتَّةٍ وَأرْبَعِينَ جُزْءًا من النبُوةِ". والحديثان صحيحان وليس بلازم أَن تكون الرؤيا الصادقة جزءًا من النبوة دائما، فقد وقعت من بعض الكفار وممن لا يرضى دينه، كرؤيا ملك مصر الوثني سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورؤيا السجينين الوثنيين في السجن: وسيأتي في هذه السورة بيان تلك الرؤى وتأويلها، ورؤيا بختنصر التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه, ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, وإِن كان وقوعها من هؤلاء وأَمثالهم على سبيل الندرة والقلة (¬1). كما أنه ليس بلازم أَن يكون الأخبار بالغيب ناشئا عن نبوة. فقد يخبر الكاهن بخبر غيبي فيصدق، بممارسة بعض أنواع الرياضات الروحية. أو استخدام الشياطين الذين يسترقون السمع من الملأ الأعلى, ويفلتون من الشهب الراصدة التي يقذفون منها من كل جانب. ¬

_ (¬1) انظر القرطبي في المسألة الرابعة من تعليقه على قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ... } الآية.

ثالثا: أفاد قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} أنها لا تقص على غير شقيق ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها، قيل لمالك: أيَعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال أبِالنُّبوة يلعب؟ وقال أيضا: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أَو ليصمت، قيل فهل يعبرها على الخير وهى على المكروه، لقول من قال: إنها على ما تأولت عليه فقال: لا. ثم قال: الرؤيا جزءٌ من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة. رابعا: أفادت أيضا أن للمسلم أن يحذر المسلم ممن يخافه عليه ولو مسلما أو ابنا ولا يكون بذلك داخلا في إثم الغيبة, لأن يعقوب قد حذر ابنه يوسف من أولاده الآخرين من إن يقص رؤياه عليهم حتى لا يكيدوا له, كما أنه يستفاد ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "اسْتعِينُوا عَلى إنجاحِ حَوَائِجِكُم بالكِتْمانِ فإِنَ كلَّ ذِى نِعْمةٍ مَحْسُودٌ". 5 - {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: لما سمع يعقوب من يوسف رؤياه، أدرك أَنها إِلهام من الله وبشرى بأن يوسف ينتظره مستقبل سعيد يجعله رئيسا كبيرا، وأن أسرته جميعا ستكون في جملة من يعظمه كما أدرك أن إخوته إن علموا برؤياه هذه يكيدون له يدبرون المكايد حسدا له، كما حدث من قابيل مع أَخيه هابيل, حيث قتله من أَجل امرأة، وأحدث بذلك أول جريمة بشرية على الأرض، ولهذا أَوصى أبنه يوسف قائلا: يابنى لا تخبر إِخوتك برؤياك التي تشير إلى رفعتك عليهم، فيحرضهم الشيطان عليك فيكيدوا لك كيدا شديدا، أن الشيطان للإنسان عدو بين العداوة، واضح الكراهية، حريص على إِشعال النار بين أفراده، أقارب كانوا أو أَباعد، تنفيذا لوعيده لآدم: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}.

6 - {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... }: المراد بالتشبيه في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} بيان المماثلة بين الصورة المرئية في عالم المثال - وهى التي حدثت في المنام - وبين الذي سيقع في عالم الشهادة والواقع. والمعنى: ومثل هذا الاجتباء والاصطفاء العظيم الذي شاهدته في عالم المثال والنوم، حيث بدا لك يا يوسف أنه تعالى سخر لك تلك النيرات العلوية فخضعت لك، مثل هذا الاجتباء وعلى سنته يسخر لك الله وجوه الناس ونواصيهم - ومنهم أَهلك - مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة، ويصطفيك ربك لجنابه على أشراف الخلائق وسراة الناس قاطبة. فيجعلك رسولًا وملكا على عرش مصر دون سواك, ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة والواقع، حسبما عاينته مناما من غير قصور. {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}: المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤى، فإن الرؤى أحاديث الملك إِن كانت صادقة واضحة، أو أحاديث النفس أو الشيطان إن كانت غير ذلك. وكما بشر يعقوب ابنه يوسف عليهما السلام - بأنه تعالى سيصطفيه للرسالة والملك، بشره أيضا بأنه سبحانه سيعلمه من تأويل الأحلام، مشيرا بذلك إلى السببيل الذي سيسلكه حتى يصل إلى العز الدنيوى المدخر له، فإنه وصل إليه عن طريق تعبير الرؤيا لصاحبي السجن، ثم رؤيا الملك، وهذا العز الذي سيؤول أَمر رؤياه إليه، هو بعض ما عبر عنه بإتمام النعمة في قوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}: فإنه شامل لعز النبوة والملك، والمراد من آل يعقوب بنوه، وحفدته، وإتمام النعمة بهذه الرؤيا على آل يعقوب لأنها مؤذنة بأنهم سيكونون كواكب يهتدى بأَنوارهم، حيث خرج من ذريتهم الأنبياءُ كما أَنهم سوف ينالون من عز يوسف وجاهه وماله حيث سجدوا له وخضعوا لسلطانه، وكل ذلك سيحدث ويتم به الله نعمته عليك يا يوسف وعلى آل يعقوب. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ}:

إِسحق جد يوسف الأَول وإبراهيم جده الثاني، وإطلاق لفظ الأب عليهما لغة وعرفا من شرعا لأَن الجد أب، وإتمام النعمة على إبراهيم باتخاذه خليلا وإنجائه من النار ومن ذبح ولده، وإتمامها على إِسحق بنبوته ونبوة ولده يعقوب، وجعل الأنبياءَ في ذرية ولده يعقوب. واعلم أَنه لا يجب في التشبيه أن يطابق المشبه المشبه به من كل وجه فيكفى فيه وجود بعض الصفات مشتركة بينهما. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: هذه الجملة مستأنفة لتحقيق مضمون الجمل المذكورة، أَي يفعل ما ذكر لأنه محيط العلم بكل شيء فيعلم من يستحق الاجتباء وما يتفرع عليه من النعم، حكيم فيما يقدره ويشاؤه، فيكون دائمًا موافقا للصواب مجانبًا للخطأ. {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)} المفردات: {عُصْبَةٌ}: أي جماعة، وتطلق لغة على الجماعة من الرجال عشرة صاعدًا، اطلق عليهم ذلك, لأَن الأمور تعصب بهم (¬1) أَي تشتد بهم وتقوى. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}: خطأ بين واضح، وأصل الضلال البعد عن الطريق الموصل إلى الغاية. ¬

_ (¬1) انظر البيضاوى.

التفسير 7 - {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}: بينت الآيات السابقة أَن يوسف عليه السلام أَخبر أباه برؤياه وأن والده أولها برفعة شأنه في مستقبل حياته، فلهذا أَوصاه أَن لا يقص رؤياه على إِخوته فيكيدوا له كيدًا، لأن الشيطان للإنسان عدومبين، وجاءت هذه الآية وما بعدها إِلى آخر السورة لتحدثنا عن كيد إِخوته له، لما رأوه من حب أَبيه له أكثر من حبه لهم، ولتذكر لنا ما آل إليه أَمر يوسف من علو الشأن وسمو المنزلة تحقيقًا لرؤياه، وما تخلل ذلك من أَحداث عظام، وآيات تلك السورة مترابطة ترابطًا مسلسلا وثيقًا، انفردت به عما سواها من سائر السور، لأنها تضمنت قصة واحدة متتابعة الحلقات. والمقصود من إخوة يوسف إما جميعهم، ويدخل فيهم شقيقه بنيامين الذي احتجزه يوسف في مقابل صواع الملك - كما سيأتي الحديث عن قصته وَإمَّا إخوته لأبيه الذين كادوا له فلم يفلحوا، ورفعه الله مكانًا عليا، وعلى أي الوجهين ففيهم جميعًا آيات للسائلين. والمقصود من السائلين إما كل من سأل عن قصتهم وعرفها، وإِما المشركون واليهود خاصة, فقد سألوا الرسول عنها امتحانًا له، وإما الطالبون للآيات والعبر ليتعظوا بها، لصفاء نفوسهم, دون غيرهم. وإِليك المعاني وفقا لهذه الاحتمالات كما يلي: المعنى الأول: لقد كان في قصة يوسف وإخوته جميعًا علامات عظيمة الشأن على قدرة الله تعالى الباهرة لكل من سأل عن قصتهم وعرفها، فإنها تدل على أنه تعالى لا يصلح عمل المفسدين, وأنه وحده هو الذي ينجي من أحاطت به أَسباب التهلكة، ويرفع من يشاءُ ويعز من يشاءُ ويذل من يشاء، ويحقق الأمل بعد اليأس. المعنى الثاني: لقد كان في قصة يوسف وإِخوته علامات واضحة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنها من المشركين واليهود، حيث أخبرهم بها على ما هي عليه من غير

سماع من أَحد ولا قراءة في كتب، وهذا قاطع بأن الذي نبأه بها هو العليم الحكيم، تأييدًا لرسالته ودليلا على صحتها. المعنى الثالث: لقد كان في أحداث قصة يوسف وإخوته علامات واضحات لطالبى العبرة الذين يتعظون بآيات الله تعالى، فتخبت لها قلوبهم، وتنصرف بها إلى مرضاة الله نفوسهم، فهى تحرك القلوب الراكدة وتنبه النفوس النائمة، إلى أن الملك لله، لا يجري فيه حدث إلا بمشيئته، ولا يحيق المكر السيءُ إلا بأَهله، ولا يستطيع أحد أن يضع من رفعه الله، إلى غير ذلك من العظات. 8 - {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: اذكر أيها السائل عن قصتهم حين قال بعضهم لبعض: والله ليوسف وأخوه الشقيق (بنيامين) أحب إِلى أبينا منا مع أننا جماعة قوية يشتد بنا ساعده، فما باله يحبهما أكثر من حبه لنا، ويؤثر القلة على الكثرة؟ إن أبانا في ترجيحهما في المحبة علينا لفي بعد عن طريق العدل بين واضح، وخطأ في الرأى جلى بعد به عن الصواب، وفاتهم أن الفضل في الرجال ليس بالكثرة بل يسمو الروح، وصفاء النفس وغلبة الخير، وكل ذلك كان في يوسف وشقيقه بنيامين وقد اجتمع إِلى ذلك ما دلت عليه رؤيا يوسف عليه السلام من الجاه العظيم والعز الرفيع الذي ينتظره عند الله والناس, فكان ذلك كله باعثا على أن يؤثرهما يعقوب عليه السلام بمزيد من الحب، أكثر من بقية إخوتهما، فحقدوا عليهما وتآمروا على يوسف ليخلوا لهم وجه أبيهم حيث إِنهم يرونه السبب الأول في عدم اهتمامه بهم دون بنيامين، فلذا أفردوا يوسف بالتآمر على قتله، وذلك ما حكاه الله عنهم بقوله: 9 - {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}: أي وقال بعضهم لبعض أيضًا: اقتلوا يوسف بأي وجه من وجوه القتل أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن بلادنا بحيث لا يستطيع الرجوع، فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلامة من إثمه، فإن فعلتم واحدًا منهما. {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}: ويفرغ لكم فلا ينازعكم فيه أحد.

وخلو وجهه لهم كناية عن إقباله عليهم بوجهه وإيثارهم بحبه حيث لا ينازعهم في ذلك أحد. {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}: المراد من صلاحهم صلاح أمرهم مع أبيهم، وانتظام شئون دنياهم. والمعنى: اقتلوا يوسف أَو ابعدوه عن أرضنا بحيث لا يستطيع الرجوع إليها, يفرغ لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعد التخلص منه قومًا صالحين مع أبيكم، بأن يكون اكثر حبّا لكم وإقبالًا عليكم، وأن تنتظم معه شئون دنياكم فيكثر من بركم وإِغداق الخير عليكم، بعد يأسه من عودة يوسف، وخفاءَ أمره عليه. وفسر الكلبي صلاحهم بتوبتهم إلى الله تعالى مما فعلوه بيوسف, ويبعده أن المتآمر على قتل أخيه لا يعقل أنه يفكر حين تآمره في مرضاة الله كما أنه لا يظن أن مثل هؤلاء يفكرون في صلاح أمرهم بالتوبة إلى الله، وهم يعلمون أن شرائع الله تعالى أجمعت على الحكم الذي جاءَ في سورة النساء, بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬1) فهو من الأَحكام التي لا تختلف فيها الشرائع، وقد نشأوا في بيت النبوة فلا يخفى هذا الحكم عليهم، فالصواب أن الصلاح الذي أرادوه هو صلاح دنياهم، وهو الذي دعاهم إلى التفكير في التخلص من يوسف، فهم طلاب دنيا وليسوا أهل تقوى. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} المفردات: {غَيَابَتِ الْجُبِّ}: الجب البئر قبل أن يبني محيطها, وأطلقه بعض اللغويين على البئر مطلقًا، وغيابة الجب: قاعه، وفسره الهروي بكهف أَو طَاق فيه فوق الماء، وأطلق عليه غيابة لأنه يغيب ما فيه عن العيون. {السَّيَّارَةِ}: الجماعة التي تسير. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 93

التفسير 10 - {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}: لا يزال مجلس التآمر منعقدًا، ولكنه لم يخل من وجود داع من دواعي الخير في قلوب بعض الإِخوة، إذ أراد صرفهم عن الجريمة البشعة إلى ما يحقق غرضهم من الإبعاد، ولكنه يبقى على حياة أخ صغير لا حول له ولا قوة ولابد أن الجب الذي اقترح إلقاء أخيه. فيه كان معروفًا لهم وكان ضحل الماء حيث يبقى على حياة أخيه يوسف حتى يلتقطه بعض السيارة، فلذا قال لهم: ألقوه في غيابة الجب ولم يقل ألقوه في غيابة جب (¬1). ويلاحظ أن ما قاله الهروى من أن غيابة الجب كهف فيه لا يناسب هنا، فإن إِلقاءه من أعلى الجب يوصله إلى قاعه لا إِلى كهف فيه فوق الماء كما قال، وخاض بعض المفسرين في تعيين صاحب هذا الاقتراح، فالسدى يقول هو (يهوذا) وقتادة وابن اسحاق يقولان هو رابيل، ومجاهد يقول هو شمعون، إلى غير ذلك ولم نجد سندًا لواحد من هؤلاه المفسرين، فلذا لا نستطيع تعيينه، وإنما لم يذكر واحد منهم باسمه في الآية سترًا على المسيء، وكل واحد منهم لم يخل من الإساءَة، ولكن مراتبها تتفاوت. والمعنى: قال قائل منهم عز عليه قتل أخيه بلا ذنب جناه، لا تقتلوا يوسف قتلا مباشرًا - ولا تطرحوه في أرض يتعرض فيها للموت، ولكن ألقوه في قاع البئر المعررفة لنا بقلة مائها، فإِن فعلتم ذلك يلتقطه حيا بعض الجماعات السيارة في الصحراء حين يدلون بدلائهم فيها ليستقوا منها، فيتعلق بها فيبعدوه عن بلادنا إلى حيث يجد رزقه ويبقى حيا. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}: أي إن كنتم مصرين على إبعاده عن أَبيه ليخلو لكم وجهه، فاعملوا بمشورتي، ليتحقق لكم مرادكم، ويبقى أخونا حيا فلا نأثم بقتله. ¬

_ (¬1) نقل القرطبي عن وهب بن منبه أن هذا الجب كان على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب - عليه السلام - والله أعلم.

{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)} المفردات: {يَرْتَعْ}: أصل الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، وذكر الراكب أنه حقيقة في أكل البهائم. ويستعار للإنسان إِذا أَريد به الأكل الكثير اهـ. والمراد به هنا نشاطه في الأكل المستتبع لحسن نموه، ولذا قرنوه باللعب, فإِنه يساعد على ذلك. {لَيَحْزُنُنِي}: بفتح الياء وقرئ بضمها. وكلاهما بمعنى يجعلني حزينا. التفسير 11 - {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}: بعد أن وافق إِخوة يوسف على ما عرضه عليهم أحدهم بإلقاء يوسف في غيابة الجب - بعد أن وافقوه على ذلك أخذوا في أسباب تنفيذه، ومهدوا لذلك بطلبهم من أبيهم أَن يوافق على خروجه معهم، إذ قالوا له استدرارًا لعطفه, واستجلابًا لقبوله. وبثا الثقة في قلبه: يا أَبانا أي شيء يجعلك لا تأمنا على أخينا يوسف وأنت أب لنا جميعًا ونحن إخوة شركاء في الانتساب إليك بالبنوة, وإنا جميعًا له لمخلصون نريد له الخير ونشفق عليه، يريدون بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم وتخوفه عليه

من كيدهم لما بدا له من حسدهم ليوسف. وتعبيرهم بقولهم لأبيهم: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} الآية تؤذن بأنهم طلبوا قبل ذلك من أَبيهم أَن يخرج يوسف معهم، فلم يوافق على ما طلبوه، فقالوا هذه العبارة متعجبين من رفضه لطلبهم، مع أَنه أبوهم جميعًا وهم جميعًا أبناؤه، وأنهم يريدون الخير ليوسف ويشفقون عليه، ويؤكدون ذلك بما تضمنته جملة: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} من المؤكدات المختلفة (¬1)، ولم يتركوا أباهم يفكر فيما عرضوه عليه وأَشفقوا من أَن لا يجيبهم إلى ما طلبوه فلاحقوه بما يسد عليه باب الرفض، وذلك قولهم له فيما حكاه الله عنهم. 12 - {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: يريدون بذلك المقال أن يسدوا عليه باب التفكير في رفض طلبهم, حيث حددوا له فيه اليوم التالى لذهابه معهم، وطلبوا ذلك منه طلب الواثق من الإِجابة، وعَيَّنوا له الغرض الذي طلبوه من أجله، وهو إن يرتع ويلعب معهم، وكلاهما يحبه الأب لأطفاله، ويحبه الأطفال لأنفسهم وأكدوا أنهم جميعًا له حافظون. والمعنى أرسل معنا يوسف في رحلة رياضية، يأكل ما يشتهى فيها، حيث يطيب الطعام في الرحلة، ويلعب ما يشاءُ من ألوان اللعب النافع لبدنه وروحه، كالاستباق والاصطياد وأَلعاب الفروسية، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وما نظن أنك تخيب رجاءَنا أَو تشك فينا بعد الذي شرحناه لك. فلما انتهوا من التماسهم أجابهم أَبوهم بما حكاه الله بقوله سبحانه: 13 - {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}: طوى يعقوب في نفسه ما يشعر به من كيدهم ليوسف، وقال معتذرا مشفقًا عليه: إني ليحزنني ويؤلمنى أن تذهبوا به ويكون بعيدًا عني لشدة شفقتي عليه، وقلة صبرى عنه، وأَخافُ أن يأكله الذئبُ، وأَنتم عنه غافلون. ¬

_ (¬1) وهي "إن" و"اللام" في قوله: {لَنَاصِحُونَ} وتقديم لفظ "له" على {لَنَاصِحُونَ} وكون الجملة اسمية.

ولم يصرح لهم بما يراه من سبب غفلتهم حتى لا يتهمهم صراحة بالتقصير في شأنه، وقلة مبالاتهم به، بل تركهم يحملونه على نحو اشتغالهم عنه بما خرجوا من أجله، وهو الرتع واللعب، فأجابوه بما يفيد أَنهم لن يغفلوا عنه, ولن يشغلهم عن حفظه ما سيكونون فيه من الرتع واللعب, لكي يطمئن عليه ويرسله معهم، وقد حكى الله ذلك بقوله: 14 - {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}. أي قالوا لأَبيهم ليطمئنوه على يوسف إن خرج معهم: والله لئن أكله الذئب وهو معنا في هذه الرحلة ونحن جماعة محيطون به يشد بعضنا بعضا، لئن أكله الذئب ونحن كذلك إنا حينئذ لخاسرون سمعتنا وكرامتنا بين قومنا، ونحن لا نقبل على أنفسنا هذا الهوان. {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)} المفردات: {أَجْمَعُوا}: أي عزموا - يقال: أجمع الأمر وعليه أي عزم فيه. التفسير 15 - {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ... } الآية. تقدم بيان أَن إخوة يوسف من أبيه تشاوروا فيما بينهم في الطريقة التي يتخلصون بها من يوسف عليه السلام، لأنه يستحوذ على معظم حب أَبيه يعقوب, وهم يريدونه لهما وحدهم، وأنهم لذلك طرحوا اقتراحين لاختيار أحدهما، (أَولهما) أَن يقتلوه قتلا مباشرا، (وثانيهما) أَن يلقوه في مكان بعيد يصعب عليه فيه العودة إلى أَبيه. وذكرنا أن أحدهم نهاهم عن قتله، واقترح عليهم أن يلقوه في غيابة الجب، وأنهم وافقوا على اقتراحه هذا وأَخذوا في تنفيذه، فبدأوا يعتبون على أَبيهم أنه لا يأمنهم على يوسف مع أَنهم له ناصحون، وطلبوا منه أَن يرسله معهم إلى مراعيهم التي بها مواشيهم،

حيث يرتع ويلعب - أَي يتسع في الطعام فيأكل ما يشاءُ، ويلهو معهم، وتعهدوا بأنهم له حافظون، ولما أظهر لهم خوفه من إهمالهم له، حتى يأكله الذئب وهم عنه غافلون أَكدوا له أنهم سيحرسونه فهم عصبة وجماعة قوية، فلن يستطيع أن يأكله منهم، وأنه لو أكله منهم وهم كذلك خسروا سمعتهم وكرامتهم بين الناس، لأنهم لم يستطيعوا أَن يحفظوا أَخاهم وهم عصبة، فوافقهم على ذهابه معهم، بعد كل هذه التوكيدات منهم. وقد بينت هذه الآية، أنهم نكثوا عدهم مع أبيهم وفيما يلى معناها: فلما ذهب إخوة يوسف به من عند أَبيهم بعد ما زعموا له أنهم ليوسف ناصحون حافظون, وقد أَجمعوا في قرارة نفوسهم أن يلقوه في الجب الذي يجعله غائبا عن أَعين طالبيه - فلما ذهبوا به وهم على هذا الإِجماع. نفذوا ما أَجمعوا أمرهم عليه، وألقوه في غيابة الجب، وخانوا أَباهم ونكثوا معه عهدهم, وأوحى الله إلى يوسف عليه السلام، وهو في محنته هذه، تبشيرا له بما يؤول أمره أليه. وإِيناسا له وإزالة لوحشته، لتتخلصن مما أنت فيه يا يوسف من سوءِ الحال وضيق المجال، ولتخبرن إخوتك بما فعلوه بك، وهم لا يشعرون - وأنت تخبرهم - بأَنك أنت يوسف الذي القوه في غيابة الجب، لأنك تحدثهم وأنت في حال رفيعة المقدار جليلة الهيبة، حيث تكون على أريكة الملك وهم في ذلة الحاجة إليك، وذلك ما سيحكيه الله مجملا بقوله في هذه السورة {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}. والمؤرخون يتحدثون عما فعله إخوته معه قبل إلقائه في الجب في شتم ولطم وضرب حتى أوشكوا أن يقتلوه، وأَن قلوبهم لم ترق لاستغاثته بكل واحد منهم وبكائه من شدة قسوتهم، بل نزعوا قميصه، ليلطخوه بالدم بعد عودتهم إلى أبيهم بلونه، وجعل يطلبه منهم ليتوارى به فلم يكترثوا بطلبه، ثم دلوه في البئر حتى بلغ نصفها فتركوه ليقع في البئر،

وأنهم كانوا يقولون له شامتين، ادع الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر التي سجدت لك لتؤنسك في قاع هذا البئر، إلى غير ذلك من التفاصيل البشعة. وبما أن هذه التفاصيل لم نجد لها سندا، فلهذا لا نستطيع الجزم بها وإن كنا لا نستبعدها، فإِن من أرادوا قتله، لا يبعد عليهم أن يصنعوا ما هو دونه. {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} المفردات: {عِشَاءً}: أول الظلام، وقيل من المغرب إلى ثلث الليل ويسمى العتمة. {مَتَاعِنَا}: ما نتمتع به من الثياب والطعام ونحوهما. {بِمُؤْمِنٍ لَنَا}: بمصدق لنا فيما نقوله. {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}: أي سهلته لكم حتى ارتكبتموه. التفسير 17،16 - {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}: وبعد ما اقترفوا جريمتهم بإلقاء يوسف في غيابة البئر، جاءُوا أباهم ليلا يتصنعون البكاء، وشرحوا له سبب بكائهم قائلين:

يا أَبانا ذهبنا في مرتعنا الذي كنا نرتع فيه، ذهبنا نتسابق في العدو والرمي، وتركنا يوسف عند متاعنا وخصائصنا التي نتمتع بها من الثياب والأزواد وغيرهما حيث المكان أَمين في ظننا - فأكله الذئب فور تركنا يوسف، وقبل أن يمضي زمن يعتاد فيه التعهد والتفقد، فنحن لم نقصر بعدم وضعه في مكان أمين. ولم نغفل عن مراقبته، بل تركناه في مأمننا، ومجتمع أَمتعتنا التي نحرص عليها، وعلى مرأَى منا، وما فارقناه إلا زمنا يسيرًا، وبيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان. ولما كانوا يعرفون أَن إفكهم هذا لا يصدقه أبوهم قالوا عقب ذلك: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}: أي وما أنت بمصدق لنا فيما قلناه ولو كنا عندك صادقين (¬1) لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيىء الظن بنا، غير واثق بقولنا، وقد ذكر المفسرون والمؤرخون كلامًا كثيرا في هذا اللقاء الذي حدث بينهم وبين أَبيهم، ومن ذلك أنه لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أَجرى في الغنم شيءٌ؟ قالوا: لا، قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟ فلما جاءوه به ألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أَكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه، وقيل إِنهم لما قالوا له أَكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، وروى أن يهوذا لما رأى ذلك قال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أَبانا، فم يفق يعقوب إلا ببرد السَّحر، إِلى آخر ماقيل مما لم نجد له سندا، فلهذا لا نستطيع القطع به. ¬

_ (¬1) قال العلامة أبو السعود في تعليقه على حرف (لو) في قولهم "ولو كنا صادقين" قال: وكلمة (لو) في أمثال هذه المواقع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم إثباتا ونفيا في جميع الأحوال، بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له، ليكون سواها أولى بالحكم وقد تقدم الكلام عل مثله في قوله تعالى في سورة البقرة: "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" اهـ.

ويستفاد من الآية أَن بكاءَ المرء لا يدل على صدق مقاله، فما أكثر البكاء المصنوع، ويستفاد منها أيضًا أن الاستباق مشروع. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وبخيله، وسابق عائشة على قدميه فسبقها، فلما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، فقال لها: "هذه بتلك". وقد أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إِلا في الخف والحافر والنصل، قال الشافعى: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار اهـ. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا سَبْقَ إلَّا في نَصْلِ أوْ خفٍّ أوْ حَافِر". وقد زاد أبو البختَرِى القاضى كلمة "أو جناح" في روايته لهذا الحديث، يريد بزيادتها إرضاء الرشيد حيث كان يتسابق بالحمام فكشف الرشيد وضعه، وأَقصاه من مجلسه وامتنع العلماء من كتابة حديثه، ووصموه بالوضع وتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 18 - {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ .. }: أي وجاءُوا بعد إخبارهم أباهم بأكل الذئب ليوسف، جاءُوا بقميصه ملوَّثًا بدم مزور مكذوب في شأنه، حيث زعموا أنه دم يوسف أثناء افتراس الذئب له، يريدون أَن يجعلوه برهانًا على صدقهم فيما زعموه من أَكل الذئب له، ولكنه لم يقتنع بأَن هذا الذي فوق القميص دم ولده يوسف وقال: { ... بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: أي ليس الأمر كما زعمتم من أكل الذئب له، بل سهلت لكم أنفسكم الكارهة له أمرًا منكرًا فظيعا نحوه لا يعلمه إلا الله فصبر منى جميل، لا تشوبه منى شكوى لغيره جل وعلا.

ولما كان الصبر الجميل الذي أَلزم نفسه به، لا يقوى عليه وهو رازح تحت خطبه الجسيم، فلهذا استعان عليه بربه قائلًا: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}: أي والله هو المطلوب منه العون لى على احتمال ما تقولونه في شأن يوسف كذبًا. واعلم أن الوصف في اللغة ذكر الشيء بنعته، وهو قد يكون صدقًا، وقد يكون كذبًا، والمراد به هنا الثاني، كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬1). قال الآلوسي: بل قيل إن الصيغة غلبت في ذلك ونحن نقول: إن من هذا الاستعمال قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} (¬2). روى ابن عباس وغيره أن يعقوب عليه السلام لما تأمل القميص فلم يجد فيه خرقًا ولا أثرًا استدل بذلك على كذبهم وقال لهم: متى كان الذئب حكيمًا، يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟ وروى عنه أيضًا أنه قال: كان الدم دم سخلة (¬3)، وأن يعقوب لما نظر إلى القميص قال: كذبتم، لو كان الذئب أكله لخرق القميص. {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)} المفردات: {سَيَّارَةٌ}: جماعة تسير. {وَارِدَهُمْ}: الوارد، هو الذي يرد الماءَ ليستقي منه، والضمير في: {وَارِدَهُمْ} يعود على السيارة بحسب المعنى، أي وارد القوم الذين يسيرون، ولو رجع إلى السيارة بحسب اللفظ لقيل: واردها، وكلاهما جائز لغة. ¬

_ (¬1) الصافات الآية: 180 (¬2) النحل من الآية: 63 (¬3) السخلة: ولد الشاة.

{فَأَدْلَى دَلْوَهُ}: أي أَرسلها إِلى الجب ليملأها، وأما دلاها فمعناهُ جذبها ليخرجها. ذكره القاموس، وحكاه القرطبي عن الأصمعى وغيره. {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: وأخفوه متاعًا للتجارة, وسمى مال التجارة بضاعة، لأنه بضعة من المال العام - أي قطعة منه. {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}: أي باعوه بثمن مبخوس - أي منقوص من بخسه إِذا نقصه. {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}: أي دراهم قليلة. ومن هذا المعنى قوله تعالى في شأن، قلة أَيام الصيام {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}: أَي من الذين لا يرغبون فيما بأَيديهم. التفسير 19 - {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ}: أي وبعد إلقاء يوسف في البئر وعودة إخوته إلى أَبيهم جاءَت جماعة من المسافرين إلى مصر، ونزلوا قريبًا من هذه البئر التي القى فيها يوسف. فأَرسلوا الذي يرد الماءَ لهم عادة، ليستقي لهم من هذه البئر، فأرسل دلوه وأَنزلها في البئر ليملأها ماءً. وأمسك بحبلها ليجذبها به، فتعلق يوسف بالحبل، فثقلت الدلو على الوارد، فأعانه على جذبها مساعدوه من الرفقة الذين جاءُوا معه ليستقوا لقومهم. {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ}: قال هذا الوارد الذي يستقي للجماعة السيارة مستبشرا فرحا، يا بشرى هذا غلام كأنه نادى البشرى، وقال لها أقبلي فهذا أَوانك , حيث فاز بنعمة خرجت له فجأَة من حيث لا يحتسب. وظاهر الآية أنه قال: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قبل أن يخرج يوسف من البئر وبعد إدلاء الدلو، ولعلها لما ثقلث عليه حين انتزاعه إياها، خاطبه يوسف مستنجدا به لينقذه بإِخراجه من غيابة الجب، ويشبه أَن يكون هذا هو المتبادر, وإن كان يجوز أن يكون هذا القول بعد إخراجه إِياه واطلاعه على حسنه والله تعالى أَعلم.

{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: قلنا إِن واردهم الذي ذهب ليستقي لهم كان معه بعض الرفقاء ليعينوه في استخراج الماء وحمله إلى جماعتهم التي نزلت عن قرب من الجب، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: بضمير الجماعة، كما تدل له طبيعة المهمة التي أرسل الوارد من أجلها، فإنها تقتضي أَن يقوم بها عدد منهم. وبعد هذه المقدمة نقول: إن يوسف كان رائع الجمال، وقد جاءَ في حسنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج بصحيح مسلم، "فإِذَا أَنا بِيوسُفَ إذَا هُو قَدْ أعْطِىَ شَطْرَ الحُسْنِ"، فلما رآه وارد الماء ومرافقوه في هذا الجمال عديم المثال {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}: أَي أخفوه متاعا للتجارة, أَي - أخفوه - عن باقى جماعتهم التى أَرسلتهم لاستقاء الماءِ والمراد أنهم أَخفوا أمره عنهم، فلم يقولوا لهم إنهم أخرجوه من الجب حتى لا يشاركوهم في ثمنه إِذا باعوه لتجار الرقيق بمصر، بل قالوا لهم ما يجعل الأمر فيه لهم، كقولهم: إن أصحاب الماءِ أَعطونا إياه لنبيعه لهم بمصر ونرد لهم الثمن، ونقل القرطبى عن ابن عباس أَنه قال: أَسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب وذلك أنهم جاءُوا فقالوا: بئسما صنعتم هذا عبد لنا أَبقَ، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء وإما أن نأخذك فنقتلك فقال: أَنا أقِرُّ لكم بالعبودية، فباعوه منهم وقيل غير ذلك - والله أعلم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: هذه الجملة وعيد لإِخوة يوسف على ما صنعوه بشأنه من تآمرهم على قتله، ثم إبداله بإلقائه في الجب، وتعريضة للعبودية. 20 - {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}: كلمة (شرى) تستعمل تارة بمعنى اشترى وأخرى بمعنى باع، فهى تستعمل في الضدين

وهي هنا بمعنى باع، أي وباعوه بثمن قليل ناقص عن القيمة التي تؤدي لأمثاله من الرقيق، وكان البائعون فيه من الزاهدين الذين لا يرغبون في بقائه معهم، وسبب ذلك أنهم التقطوه، والملتقط للشىء متهاون فيه لكونه لقطة، ولخوفه أَن يظهر له مستحق فينتزعه منه، فلهذا باعوه بالوكس لأول مساوم ليتخلصوا منه. قال العلامة أبو السعود: ويجوز أن يكون معنى "شروه" الخ اشتروه من إخوته - على ما حكى - وهم غير راغبين في شرائه خشية ذهاب ما لهم لما طنّ (¬1) في آذانهم من الإباق، أي لما سمعوه من إِخوته من أنه عبدهم هرب منهم، فهم لهذا تساهلوا في ثمنه، ليتعجلوا التخلص منه قبل أن يهرب منهم، كما هرب عن بائعيه الذين زعموا أنه عبدهم وأنهم مالكوه. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} المفردات: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}: أكرمي موضع ثِوَائِهِ أي إقامته - من ثوى بالمكان - أي أقام به -. {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}: أي جعلنا له فيها مكانًا ثابتا. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}: أي غالب على الأمر الذي يشاؤه، فلا يستعصى عليه مراده، أو معناه غالب على أمر يوسف، فهو الذي يتولاه ويدبره ولا يكله إلى غيره. ¬

_ (¬1) طن بالطاء أي تردد في آذانهم.

التفسير 21 - {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}: وبعد أَن باعه الذين أخرجوه من البئر بثمن زهيد، قال الذي اشتراه منهم من أهل مصر لامرأَته: اجعلى محل ثوائه - أَي محل إقامته - كريمًا حسنًا مرضيًا، يريد من هذه العبارة تكليفها بإكرام يوسف على أَبلغ وجه، لأن إكرام محل إقامته بالعناية بشئونه، يستلزم إكرامه هو، فإن من قام بالعناية بمحل الضيف نظافة وفرشا، فإنما يفعل ذلك لأجل الضيف، فما ظنك بالعناية به هو شخصيًّا - فإنها تكون آكد وأعظم. وهذا الذي اشتراه من أهل مصر هو عزيز مصر لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ... }. قال الضحاك: العزيز: هو ملك مصر, وقال ابن عباس: هو وزيره قطفير. {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}: وقد أوصى العزيز الذي اشترى يوسف امرأته بالعناية به والاهتمام بشأنه كله، وقال لها عسى أن ينفعنا في قضاء مصالحنا إذا تدرَّب وعرف مجارى الأمور، أو نتخذه لنا ولدًا، فيكون شأنه منَّا شأن ولد الصلب، وإنما قال العزيز ذلك لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة. أَخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه وجماعة عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: "أفْرَسُ الناسِ ثَلَاثَة: العَزِيزُ حينَ تَفَرَّسَ في يُوسُفَ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وَبنْتُ شُعَيْبٍ حينَ قالتْ لأبِيهَا فِى موسى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وأَبو بَكْرٍ حِينَ استَخْلفَ عُمَرَ".

قال ابن العربى تعليقًا على هذا الخبر: عجبًا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر، وليس كذلك فما نقلوه، لأن الصّدِّيق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال، والمواظبة على الصحبة وطولها والاطلاع على ما شاهده منه من العلم والمنة، وليس ذلك من طريق الفراسة، وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة - على ما يأتي بيانه في (القصص) وأما أَمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة, لأَنه لم تكن معه علامة ظاهرة .. اهـ (¬1). وإنما قال العزيز: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لأنه كان حصورًا لا يولد له كما قال ابن العباس، وابن إسحاق. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ}: أي وكما أنقذناه من إِخوته ومن الجب، وجعلنا له مكانا عظيما في قلب العزيز الذي اشتراه، حتى أمر امرأته دون سواها من خاصته بإكرام مثواه، جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر، حيث عرف فيها بأخلاقه الرفيعة - إلى جانب ما أضفاه العزيز عليه من البنوة، وما أَعطاه الله إياه من الوجاهة - جعلنا له هذه المكانة في الأرض ليترتب عليها ما جرى بينه وبين امرأة العزيز قبل أن يسجن ولنعلمه بعض تأويل الأحلام، فتظهر براءَته مما نسبته امرأَة العزيز إليه، وليؤدى ذلك إلى المرتبة العليا، والرياسة العظمى كما سيأتي بيانه في رؤْيا السجينين ورؤيا ملك مصر، وكما يشير إليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}: أي والله غالب على أي أَمر يريده، لا يحول أحد دون تحقيقه، فإنه إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، ويدخل في أمره تعالى شئون يوسف عليه السلام. والضمير على هذا التأويل راجع في كلمة (أمره) إلى الله تعالى، وقيل: إنه عائد إلى يوسف، أي والله غَالب على أَمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: أي الأمر كله لله تعالى, فيزعمون أن لهم من الأمر شيئا {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}. ¬

_ (¬1) انظر الآلوسي في خبر ابن مسعود ص 185 ج 12 طبعة منير، والقرطبي ص 160 ج 9 طبعة دار الكتب في تعليق ابن العربي.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} المفردات: {بَلَغَ أَشُدَّهُ} (¬1): استكمل قوته الجسدية والعقلية. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}: أعطيناه حكمة وفقها في الدين. التفسير 22 - {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: علم من الآيات السابقة أن يوسف عليه السلام، كان في بيت عزيز مصر، يعامل معاملة كريمة، بوصية من العزيز، وأنه عومل هذه المعاملة رغبة في أن ينفعهم حينما يكتمل نموّه، أو أن يكون لهم ولدًا، لما كان يبدو عليه عن مخايل الرشد والنجابة وأنه تعالى مكن ليوسف في أَرض مصر بسبب ما فطر عليه من هبات الله التي حببته إلى أهلها وما أسبغه عليه العزيز من العناية في التربية، وقد جاءت هذه الآية لتبين لنا طرفا آخر من قصته، وذلك حين جاوز مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب وبلوغ الأشد، واختلف في المراد بالحكم والعلم في الآية, فمن قال: إنه أوتي النبوة صبيًا، وفسّر الآية بقوله: ولما بلغ أشده زدناه فهما وعلما، فوق النبوة وقد حمله على ذلك قوله تعالى في شأن يوسف قبل استخراجه من غيابة الجب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. ¬

_ (¬1) يرى سيبوبه أن أشد جمع، واحدة شدة، ويرى الكسائي أن مفرده شد، وقال أبو عبيد لا واحد له من لفظه.

فالإيحاء هنا على رأيه هو إنزال الملك إليه بالوحي. ومن قال إن الإيحاء حينئذ كان إلهاما أو نحوه, فسر الحكم بالنبوة, العلم بعلم الدين , وإلى هذا ذهب ابن عباس حيث قال: الحكم النبوة, والعلم الشريعة. ومنهم من فسر الحكم بالحكمة, وهي حبس النفس عن هواها, وصونها عما لا ينبغي, وفسر العلم بالعلم النظري , ومنهم من فسر الحكمة والعلم بالحكم بين الناس وعلم مصالحهم وشئونهم , فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز, أمره أن يحكم بينهم , لما رأى من عقله وإصابته في الرأى. ويقتضيها هذا الخلاف, أن نفسر الآية الكريمة تفسيرًا يتفق مع ما سبق وما يليها, حيث يناسب المقام والمناخ الذي سيقت له, ولا يمنع من قبول أي رأي من هذه الآراء فنقول: ولما بلغ يوسف منتهى قواه الجسدية والعقلية, وأصبح أهلا لتحمل أعباء الحياة والحكم بين الناس في قضاياهم المختلفة , وتوجيههم إلى الخير والبر والهدى, آتيناه حكمة في القول, وإصابة في الحكم وعلمًا غزيرًا, وبصرًا بالأمور, ومثل ذلك الجزاء الجميل, نجزي كل من يحسن في عمله. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} المفردات: {وَرَاوَدَتْهُ}: المراودة؛ الرفق في الطلب, يقال في الرجل راودها عن نفسها, وفي المرأة, راودته عن نفسه.

{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}: أحكمت إِغلاقها. {هَيْتَ لَكَ}: هيت اسم فعل أمر بمعنى: أقبل وبادر، واللام في {لَكَ} للبيان - أن لك أقول هذا - كما في هلم لك، وقُرىءَ: {هَيْتَ لَكَ} بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء بمعنى تهيأت لك، فهو فعل ماض وفاعله. {مَعَاذَ اللَّهِ}: أستجير بالله وأعوذ به معاذا مما تدعيننى إليه. {إِنَّهُ رَبِّي}: إنه سيدى الذي رباني. {أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: أحسن إكرامي في مثواى ومقامي عنده فلا أَخونه. {هَمَّتْ بِهِ}: عزمت وأصرت على مخالطته. {وَهَمَّ بِهَا}: شرع يدفعها عن نفسه. {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}: أي حجته التي منعته من الانتقام منها. التفسير 23 - {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}: تحدثت الآيات السابقة عن شراء عزيز مصر ليوسف. وأنه أمر زوجته دون سواها أن تكرمه وتعنى به لعله ينفعهم أَو يتخذونه ولدًا. وأنه بذلك وبما كان عليه من العقل والوجاهة وحسن المعاشرة مع الناس مكن الله له في الأرض، وأنه لما بلغ أشده آتاه الله الحكمة والعلم، فاكتمل شبابه بالقوة والحكمة والعلم إلى جانب ما هو عليه من الجمال حتى بلغ شطر الحسن كما قال صلى الله عليه وسلم. وكانت امرأة العزيز ترى هذا كله أمامها, وتشعر في نفسها أنه جدير بالإعجاب والحب، فأعجبت به وأحبته وراودته عن نفسه كما جاءَ في هذه الآية الكريمة، أي طلبت منه مخالطتها: وأصل المراودة الطلب برفق ولين. ومن هذه المادة يطلق الرائد على طالب الكلإِ والماء، وصيغة المفاعلة تقتضى حدوث القعل من الجانبين كقاتل وضارب وصارع وغالب، ولكنها قد تستعمل من جانب واحد كما في مطالبة الدائن ومماطلة المدين ومداواة الطبيب وغير ذلك، والمراودة هنا كذلك، فإنه. من زوجة العزيز ليوسف، أما هو فقد استعصم - كما سيأتي بيانه - وكما يشير إليه قوله تعالى: {عَنْ نَفْسِهِ} فإنه يشير إلى أَنها تخادعه وتريد أَن تجذب عنه مطلبها، قال الزمخشري: أي فعلت ما يفعله

المخادع لصاحبه عن الشىء الذي لا يريد أن يخرجه من يده: يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه - الخ اهـ. والمعنى: واحتالت امرأَة العزيز التي هو في بيتها حيث موضع التكريم والعناية، احتالت عليه وطالبته برفق وخديعة، أن يمكِّنها من نفسه فيخالطها مخالطة الرجل للمرأة، وغلَّقت الأبواب التي توصل إليهما وأحكمت إغلاقها، وقالت هيت لك (¬1) - أي أسرع (¬2) والطلب موجه لك - فكأنها تقول إرادتي كائنة لك. وقد وقعت هذه المراودة من نفس يوسف موقع الإِباء والرفض حيث قال لها: { ... مَعَاذَ اللَّهِ}: أي أعوذ بالله تعالى معاذا مما تريدين مني فهو أَمر منكر هائل يستعاذ بالله للخلاص منه ومن سوء عاقبته، وعلل رفضه، لمطلبها بما عسى أَن يصرفها عنه, ويدعوها إلى مراجعة نفسها والإقلاع عن خيانتها لزوجها, مما سمعته منه من أنه لا يصح أن يخونه وقد أَحسن إليه وذلك قوله لها. {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: أي إن الأمر والشأن الخطير الذي يمنعني من إجابتك هو سيدي الذي رباني وأحسن تعهدى، حيث أمرك بإِكرامي فكيف أسىءُ إليه بخيانته في حرمه. واختار أبو حيان إن الضمير لله تعالى, والمعنى على هذا إن الله تعالى خالقى أَحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي: فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة ثم أيد يوسف امتناعه عن تلبية مطلبها وعلله بعلة أخرى فقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: أَي إن الشأن في سنة الله في خلقه وعدالته هو أنه لا يفوز الظالمون في دنياهم وأخراهم، أما دنياهم فيعاقبون فيها بالعلل والأَسقام، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، وغير ذلك من الآفات وأما أخراهم فالجحيم والزمهرير، ومن فاتته عقوبة الدنيا، أدركته عقوبة الآخرة {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬3). ¬

_ (¬1) اللام في كلمة (لك) لتبيين من له الخطاب كما في (سقيا لك). (¬2) وقيل إنه اسم فعل ماضى معناه تهيأت لك, وبهذا التأويل وافقت قراءة مروية عن ابن عباس (هئت لك) بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وضم التاء. (¬3) سورة إبراهيم الآية: 42

24 - {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}: حكت الآية السابقة موقف يوسف الحاسم أمام مراودة امرأَة العزيز له وطلبها مخالطته، وتهيئتها كل الأَسباب لاجتذاب ميله، وأولها تهيئة نفسها له ذاتا وثيابا وتغليقا للأبواب وآخرها دعوة رقيقة له بقولها تهيأت لك ولم أتهيأ لغيرك، ولا بد أن هذه الدعوة التي حكاها القرآن هي إجمال كريم لدعوة مختلفة الأساليب تجيدها المرأَة الوالهة، ويعف القرآن الكريم عن التصريح بها، وكان رد يوسف الحاسم عليها هو قوله لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: ولقد ظن يوسف أن هذا الذي قاله لها سيجعلها ترجع عن موقفها الشائن نحو زوجها ونفسها ونحو ربيب نعمتهم ذى الأخلاق الفاضلة التي لا تسمح له بالخيانة لرب نعمته، ولكنها لم ترعو عن غبها وانتهت إلى موقف آخر يتسم بالعزم والإصرار على تنفيذ جريمتها وهو ما حكته هذه الآية من قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}: ولكنه عليه السلام أصر على موقفه السلبى منها, وعزم على وضع حد لتشبثها. فمانعها وهمَّ بإيذائها، وفيما يلى معنى الآية على هذا التأويل الذي تطمئن له نفوسنا. المعنى: ولقد همت امرأة العزيز بيوسف عليه السلام تجذبه إلى نفسها، وتوسعه لوما على موقفه منها مع أنها هي التي طلبته وراودته, وأَذلت له نفسها, وهو في نظرها عبد لها وهي سيدته, ولكنه همَّ بها يدفعها عن نفسه وكاد يضربها لمزيد إصرارها على مخالطتة، لولا إن رأَى في ضميره برهان ربه يصرفه عن ضربها، لأنها آوته وأَكرمته، ولأنه لو ضربها لادعت أنه راودها, ولما امتنعت من إجابته ضربها، لولا ذلك لضربها وانتقم منها لهذه الجريمة التي دبرتها له وهو منها برىء ومعصوم. {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}: أي فعلنا مثل ذلك التثبيت بالبرهان مع يوسف - عليه السلام - لنصرف عنه السوء. وهو ضرب من أكرمته وآوته، ولنصرف عنه الفحشاء التي دعته إليها - وهى المخالطة - إنه من عبادنا الذين أَخلصناهم لنا وهم آباؤه الذين أخلصهم ونقَّاهم

من شوائب النقص، فقد قال الله تعالى فيهم {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} (¬1). وفسرها بعض العلماء بقوله: ولقد همت به المرأَة ضربا - لأنه أذلها وحطَّم كبرياءها، وهم بها دفاعا عن نفسه. ولكن ما قلناه أولى، فإن حبها الشديد له وجذبها له من قميصه يمنع من أَنها تفكر في ضربه، ولهذا ترجح ما قلناه قبل ذلك، وقيل الهم منها عزم وإصرار على المعصية، ومنه مجرد خطور بالبال بمقتضى الطبيعة البشرية مع الاعتصام بالتقوى. وسمى باسم الأول مشاكلة. ويدل لذلك أن الله تعالى مدحه بأنه من عباده المخلصين. ولا يكون ذلك إلا مع سلامة الإرادة وقوة الوازع المتمثل في برهان ربه. وهذا ليس قادحا في العصمة. فإنه تعالى هو العاصم وقد عصمه ببرهانه، وهو الحجة التي أقامها الله في نفسه على التحريم حين المراودة منها له ولجاجتها عليه وقوة البرهان وسلطانه على إرادة الأنبياء ينتهيان دائما إلى العصمة من دواعى البشرية المحرمة، ولا شك أن الامتناع مع الخطور بالبال يدل على قوة الوازع وقوة الإرادة أكثر من الامتناع مع عدم وجوده - ومع جودة هذا الرأى فما قلناه أَولا هو أفضل الآراء. وهو ما وفقنا الله له. والله تعالى أعلم. وقد ضربنا صفحا عما سطره بعض المفسرين من القصص الهابطة التي ذكرت في تفسير الآية. وينبو قلمنا عن تسطيرها. ¬

_ (¬1) سورة ص، الآيات: 45 - 47

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} المفردات: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي تسابقا إليه , كل يريد أن يصل إِليه قبل الآخر: هي لتمنعه من الخروج وهو ليهرب منها. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}: أَي قطعت قميصه من خلفه, والقد: القطع. وأكثر ما يستعمل في القطع الطولى. أما القط فيستعمل في القطع العرضي ... قاله القرطبى وغيره. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}: ووجدا زوجها - عزيز مصر - عن الباب الذي تسابقا إِليه، وهو الباب الأخير الذي يؤدي إلى خارج ما غلقت أبوابه. التفسير 25 - {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ... }: حكت الآيتان السابقتان الحب الشديد الذي أخرج امراة العزيز عن الوقار, وأَذلَّها حتَّى هبطت إلى أن تراود يوسف ربيب نعمتها عن نفسه, وتحكم إغلاق جميع الأَبواب حتى تستحكم خلوتها به، ولا ينغص عليها في مخالطتها له منغص، ودعته برفق إلى قضاء لبانتها من مخالطته إياها، وأنه أبي عليها هذه الجريمة التي تختان بها زوجها، وتحمله على أَن يشاركها في هذه الخيانة مع أَنه أحسن إيواءه وتربيته، كما حكت أنه عليه السلام،

استعاذ بالله ولجأ إِليه لكي ينقذه من هذا الإثم والظلم المبين، وأَنها قابلت هذا الامتناع الحازم من يوسف بمزيد من الهمة والإصرار وتحريضه على مخالفتها بمختلف الوسائل، من جذب ولوم وأسى وغير ذلك، وأنه لم يجد بدًّا من أن يهم بضربها لتكف عن غيها، ثم تراجع عما همّ به من إيذائها حين رأى في قرارة نفسه وبإلهام من ربه، رأى حجة الله وبرهانه على أن إِيذاءها وهو يمنعها عن نفسه، سوف تتخذه دليلا في أَنه هو الذي طلب مضاجعتها، فلما أبت عليه ضربها وآذاها، فلهذا كف عنها. وجاءت هذه الآية لتبين أن كليهما قد أسرع إِلى الباب، فأما يوسف فقد أسرع إليه ليتخلص من شَرَك هذه المرأة الوالهة وشرها، وأما هي فقد أسرعت لتمنعه من الهرب وتحمله على الاستسلام إليها، ولما سبقها هو إِلى الباب جذبت قميصه من خلفه جذبة قوية ترتب عليها قطع القميص من خلفه، حيث كانت تجذبه منه وعندما وصل الأمر بينهما إلى هذه الحال وجدا سيد المرأَة - أي زوجها - عند الباب. الذي أراد يوسف الخروج منه - وكان قد فتح - حتى أصبحا وجها لوجه أَمام العزيز لدي الباب، ولم تصرح الآية بمن فتحه، فهل فتحه العزيز لما وصل إليه خبر هذه الاحتياطات التي اتخذتها امرأته لمراودة يوسف، أو فتحه حين وصلت إِليه أصوات المشادة التي حصلت بينهما، أو أَن يوسف هو الذي سبق إليه وفتحه، وصادف مجىء العزيز حينئذ، وهذا هو الظاهر، لأن المرأة كانت قد غلقت الأبواب من الداخل فلا تفتح إِلا من الداخل، والمراد من الباب هنا الباب الأخير الموصل إِلى الخارج، وهو الذي رأَيا سيد المرأة عنده، أما الأبواب الأخرى التي غلقتها فلابد من أَن يوسف كان قد فتحها مسرعا قبل أَن يصل إلى هذا الباب الأخير الذي أدركته عنده وشقت قميصه وهى تجذبه إليها حتى لا يفلت منها بعد أن وصل إليه، ولما وجدت نفسها أَمام زوجها في هذه الحالة النكراء, برَّأت نفسها ومكرت بيوسف بأخبث أَسلوب، وذلك ما حكاه الله تعالى بقوله: { ... قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي قالت امرأَة العزيز لزوجها حين رآهما على هذه الحالة: ما جزاءُ هذا الذي دخل علي مخدعي وأراد سوءا بزوجك التي هي أهلك وعرضك الذي يهمك أَمره، ما جزاؤه سوى

أن يسجن ليمنع شره عن النساء، أَو عذاب شديد الإيلام، حتى لا يعاود مثل هذه الإرادة الرعناء. بهذه الحيلة أَرادت أن تبعد التهمة عن نفسها وأن تهدد يوسف بمقدرتها على سجنه وتعذيبه طمعا في أَن يستجيب لها اضطرارا بعد أن فقدت الأمل في أن يستجيب لها اختيارا لكن يوسف لم يأبه لتهديدها - كما سيتضح بعد من قوله: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} بعد قولها: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} وسيأتي بيان ذلك. 26 - {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ... }: أَي قال يوسف للعزيز دفاعا عن نفسه بعد أَن اتهمته زوجته بأنه أراد اغتصابها: قال يوسف لم يحدث مني شيء مما تقوله ولكن الذي حدث أنها هي التي راودتني على أن أنزل لها عن نفسي ولم أوافقها على ما طلبته منى. وبهذا حصل التعارض بين اتهامها ودفاعه، واحتاج الفصل في القضية إلى شاهد, وذلك هو ما قصه الله تعالى بقوله: { ... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}: اختلف المفسرون في هذا الشاهد، فقيل: إنه طفل في المهد شهد بما فصله الله بعد، وكان من أهل امرأَة العزيز - قال السهيلى - وهو الصحيح - للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "لَمْ يَتَكَلَّمْ في الْمَهْدِ إلَّا ثَلَاثَةٌ" وذكر منهم شاهد يوسف. وقال القشيرى أَبو نصر: قيل كان صبيًّا في المهد في الدار وهو ابن خالتها. وقيل: هو رجل حكيم ذو عقل كان العزيز يستشيره في أموره, وكان من جملة أهل المرأة، وكان مع زوجها، فقالا: قد سمعت الاستباق والجلبة وراءَ الباب وشق القميص، فلا يُدرَى أيكما قُدَّام صاحبه، فإِن كان شق القميص من قُدَّامِه فأنتِ صادقة، وإِن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إِلى القميص فاذا هو مشقوق هن خلف.

ونسب هذا القول إلى الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد والسدى. قال السدى: كان ابن عمها، وروى عن ابن عباس وهو الصحيح في الباب والله أعلم اهـ. ذكره القرطبي. وقال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره فجاء بهذه الدلالة، ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف - صلى الله عليه وسلم - تغني عن أن يأتي بدليل من العادة, لأن كلام الطفل آية معجزة فكانت أوضح من الاستدلال بالعادة. ونحن نرى أن الذي قاله أَبو جعفر النحاس هو الأجدر بالقبول فكلام الشاهد كلام رجل حكيم ذى بصر بالأمور، وليس في النص الكريم ما يدل على أنه طفل، بل يوجد في صحيح السنة ما يفيد حصر المتكلمين في المهد في ثلاثة، وليس فيهم شاهد يوسف، فقد جاء في الصحيحين عن أَبي هريرة رضى الله عنه. أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَم يَتكَلَّم فىِ المهدِ إلا ثَلاَثَة: عيسَى بنُ مَرْيمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْج، وَصَبيُّ كَانَ يَرْضَعُ مِنْ أمّهِ، فمَرَّ رَاكِبٌ كَاَن حَسَنَ الهَيْئَةِ، فَقَالَتْ أمه: اللهم اجْعَل ابْنىِ مِثْل هَذَا, فَتَرَكَ الصَّبىُّ الثدْىَ وَقَال: اللهُمَّ لاَ تَجْعَلنى مِثْلَهُ". وقد اعتبر الطيبي هذا الحديث يرد الحديث السابق المروى عن أحمد، انظر الآلوسي ج 12 والقرطبي ج 9 والله أعلم. ويلاحظ أن هذا الكلام من القريب لا يعتبر شهادة، لأنه لم ير شيئا مما حدث, ولكنه لما كان يرشد إلى دليل الحكم، أطلق عليه شهادة مجازا، لأَنه يشبهها في التوصيل إلى الحكم الصحيح. والمعنى: وأرشد مرشد حكيم من أهل امرأَة العزيز إِلى دليل الحكم، بعد ما علم باتهامها ليوسف، وبما قاله يوسف دفاعا عن نفسه، وقد اشتبه الأمر واحتاج إلى مرجح فقال: إن كان قميص يوسف شق من قدامه، فقد صدقت في دعواها أَنه أراد بها سوءا فهو قرينة على أنه بادرها بالاعتداء، فنازعته وأخذت بتلابيبه من قدامه، وجعلا يتصارعان وهي ممسكة

بتلابيبه فشق القميص في يدها من قدامه وهو يخلصه منها، وهو حينئذ من الكاذبين في دعواه أنها راودته عن نفسه فامتنع. 27 - {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: أي وإِن كان قميصه شق من خلفه فقد كذبت في دعواها أنه هو الذي أَراد بها سوءا، وهو من الصادقين في قوله: أنها هي التي راودته عن نفسه، وأَنه أَسرع إلى الباب ليهرب منها، ووجه دلالة شقه من الخلف على صدقه، أنه يؤذن بأنها تبعته وجذبت ثوبه من الخلف لتمنعه من الهروب مما دعته إِليه. قال القرطبي في المسألة الثالثة: في هذا الموضوع ما يفيد أنه الحكم بالأمارات عند فقد الشهود يؤخذ به في اللقطة وكثير من المواضع، حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت أَمتعة معهم فادَّعاها قوم وليست لهم بينة فإن الحاكم يننظر بعض الوقت، فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إِذا اختلف فيه الرجل والمرأة: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة وما كان للرجل والمرأَة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان العلامات في الحكومات أَي في القضايا التي لا شهود فيها، وأصل ذلك هذه الآية: اهـ

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} المفردات: {مِنْ كَيْدِكُنَّ}: من احتيالكن ومكركن أيتها النساء. {مِنَ الْخَاطِئِينَ}: من المذنبين المتعمدين: من خطىء المرءُ إذا تعمد الذنب، ومضارعه يخطَأُ بوزن يأثَم بفتح الثاء ومصدره الخطءُ بكسر الخاء بوزن الإثم. التفسير 28 - {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}: أي فلما رأي سيدها - أي زوجها - قميص يوسف شق من خلفه. قال لامرأته: إِن اتهام يوسف بأنه أراد بك سوءًا ناشيءٌ من كيدكن أيتها النسوة للرجال، فأنت التي راودتِهِ فم يفعل، وفرَّ منك فاجتذبتهِ إليكِ وأنتِ كاذبة في نسبة إرادة السوء إليه. وقد أَصاب العزيز في الحكم بأن كيد النساء عظيم، لأنه أشد تأثيرًا في النفس ولأنه قد يورث من العار أشد مما يورثه كيد الرجال، ولتفرغهن لهذا الفن أكثر منهم، ولهذا كن أَعظم وسائل الشيطان في عصيان الله - تعالى - قال حكيم: "ما أَيس الشيطان من أَحد إلا أتاه من جهة النساء". ولهذا قال بعض العلماء: أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان، فإنه - تعالى - يقول في حق الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} وقال في حق النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.

29 - {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}: بعد ما ظهرت براءة يوسف، وكيد المرأَة، قال العزيز: يا يوسف أَعرض عن هذا الإثم ولا تلتفت إليه، ولا تتحدث عنه، حتى لا تفتضح امرأتي بين الناس، واستغفري أنتِ أَيتها المرأَة من ذنبك الذي صدر عنك في حقي وحق يوسف إنك كنت من صنف الخاطئين الآثمين المتعمدين اقتراف الذنب، ولم يحدث منك عفوا. ويلاحظ أنه أمر امرأته بالاستغفار لذنبها، والاستغفار طلب الغفران، والتجاوز عن الذنب، وهذا يحتمل أَنه يريد أن تطلب منه الصفح والمغفرة لما بدا منها، أو أَن تطلب الغفران من الله - تعالى - إن كانوا يعتقدون أَن لهم إِلها أَكبر من آلهتهم التي يعبدونها، وأنهم يتقربون بعبادتهم إيَّاها إِليه كشأن عبدة الأوثان في كل مكان، ولعله يشير إلى ذلك قول يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} المفردات: {نِسْوَةٌ}: جماعة من النساء لا واحد له من لفظه. {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ}: زوجته. {تُرَاوِدُ فَتَاهَا}: تطالب فتاها بمضاجعتها وتخادعه عن نفسه.

{شَغَفَهَا حُبًّا}: شق حبه شغاف قلبها، والشغاف حجاب القلب - والمراد أن حبه تمكن من قلبها. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}: بُعْد عن طريق الصواب والعفة بيِّن واضح. {مُتَّكَأ}: ما يتكأ عليه من النمارق والوسائد. {أَكْبَرْنَهُ}: أَعظمنه وتهيَّبنه. {حَاشَ لِلَّهِ}: تنزيهًا له عن صفات العجز والنقص, والمراد التعجب من حسن يوسف. التفسير 30 - {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}: كان لمراودة امرأَة العزيز ليوسف - عليه السَّلام - دوى هائل بين القصور، فتناولتها الأَلسنة حتى قال نسوة من عقائل أَشراف المدينة - عجبًا من هذه المرأَة وانتقاصًا لها كيف تنزل امرأَة عزيز مصر - وهى في مكانها الرفيع - إلى هذا الحد الوضيع، فتراود فتاها عن نفسه وتطالب غلامها بمخالطتها، قد تمكن حبه من قلبها فملأه ولم يدع فيه مجالًا لسواه، حتى كاد ينفطر من شدة الحب. {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: أَي إنا لنعلمها في بُعْدٍ واضح عن الصواب والعِفَّة والكرامة، حيث سمحت لنفسها بالهبوط إلى هذا الدرك الأسفل، بمراودتها لمملوك لها، وأَمرها نافذ فيه وكيف تجاوز حبها له أقصى الحدود، حيث مزقت ثيابه حينما حاول الإفلات منها، وكيف تفعل معه ذلك ولها زوج عظيم، هو عزيز مصر، إنها لخائنة ذليلة النفس. 31 - {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا}: أي فحينما بلغ هذه المرأَة ما قالته نسوة المدينة في شأن عشقها ليوسف أَرسلت إليهن تدعوهن إِلى ضيافتها، وهيأت لهن من النمارق والوسائد ما يتكئن عليه في أَثناء الطعام والشراب والحديث، وأَعطت كل واحدة منهن سكينًا لتقطع به ما يحتاج إِلى القطع من

الطعام كاللحم والفاكهة، وغرضها من ذلك ما سيقع من قطعهن لأيديهن من شدة انبهارهن من جماله - كما سيأتي بيانه، وسمى اغتيابهن لها مكرًا لكونه خفية منها كمكر الماكر - وإن كان ظاهرًا لغيرها، وكان المترفون في الزمان الخالى يجلسون للطعام على الوسائد والنمارق، فإذا انتهوا منه أتموا وقتهم في الحديث وهم على وسائدهم جالسون، ولا تزال هذه الطريقة متبعة في ولائم العرب ملوكًا ورعايا، وكذا في بلاد كثيرة. وفسر بعضهم "المتكأ" بالطعام، أخذًا من قولهم اتكأنا عند فلان - أي طعمنا عنده - قال جميل: فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قُلَلِه وقال مجاهد: {مُتَّكَأ}: أَي طعاما يُحزُّ حزًّا، كأن المعنى: يعتمد عليه بالسكين عند القطع لأن القاطع يتكْىءُ على المقطوع بالسكين. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية. كان الطعام بين أيدى هؤلاء النسوة المدعوات، وكن مشغولات به أَكلًا وتقطيعًا بالسكين، ولم يكن يوسف حاضرًا، فدعته قائلة: اخرج عليهن، تريد بذلك أَن يفاجئهن بجماله وهن ممسكات بالسكاكين، ولم يكن يدرى ماذا تخبئه له هذه المرأة الماكرة، فخرج عليهن فحينما رأَينه في جماله الفتَّان، وحسنه الرائق الفائق، عظمنه وتهيبن حسنه الرائع، وجرحن أَيديهن بما معهن من السكاكين، لفرط دهشتهن، وخروج الأمر عن منهاج الإرادة والاختيار، حتى لم يشعرن بما فعلن، {وَقُلْنَ}: تنزيهًا لله - تعالى - عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالى، {حَاشَ لِلَّهِ} وغرضهن من ذلك التعجب من قدرته - سبحانه - على خلقه، وقلن أيضًا: {مَا هَذَا} الذي نراه (بَشَرًا)، فما مثله في الناس أَحد، {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}، يردن بهذه العبارة وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال، وهكذا جرت العادة في تشبيه كل متناهٍ في الحسن بالملك، كما جرت في تشبيه كل متناهٍ في القبح بالشيطان.

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} المفردات: {لُمْتُنَّنِي فِيهِ}: عَيَّرتنَّنِى في الافتتان به. (رَاوَدتهُ عَن نفْسِهِ): أي طلبت مخالطته وخادعتُه عن نفسه ليحقق لى ما أرجوه من ذاته. {فَاسْتَعْصَمَ}: أَي امتنع طالبا للعصمة مما دعوتُه إليه، وبالغ في ذلك كما تدل عليه السين والتاءُ كما في استمسك واستجمع الرأى. {مِنَ الصَّاغِرِينَ}: من الأذِلاَّء. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}: استجب إِلى هواهن. {مِنَ الْجَاهِلِينَ}: أَي من أَهل الجهالة، والمراد منها هنا السفاهة وفقدان الحكمة والرشد. {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ}: منع أثره عنه فلم يحقق لهن ما أردنه منه بما حصنه به من قوة الثبات على العفة. التفسير بعد أن تحقق لامرأة العزيز ما أرادت من اطِّلاع النسوة على جمال "يوسُف" عليه السلام وتأثرهن به أَكثر من تأَثرها به، حتى وصل أمر الدهشة بهن إِلى أن فقدن الِإرادة والاختيار، فجرحن أيديهن تجريحا من غير وعى، وكأَنهن كن يقطعن الطعام الذي بين أَيديهن، بعد أَن تحقق هذا كله، وجهت امرأة العزيز الخطاب إِلى أولئك النسوة، مبينة لهن أنها لم تكن مختارة فيما طلبته منه من المخالطة، لشدة سلطان

جماله عليها، وصرحت لهن بما كانت تنكره أمام زوجها عزيز مصر: فقالت إنها هي التي راودته عن نفسه فامتنع، وذلك ما قصه الله - تعالى - بقوله: 32 - {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}: وكلمة {فَذَلِكُنَّ}: فيها إِشارة (بذا) إِلى يوسف، وخطاب بحرف (كن) إلى النسوة. والمعنى: قالت امرأَة العزيز للنسوة اللاتى دعتهن لطعامها بعد أَن فتنهن جمال يوسف: فذلك الذي فتنتن به وقطعتن أَيديكن من أجله وقلتن إنه يشبه في الحسن والجمال الملك الكريم، هو يوسف الذي وجهتن إلىَّ الملام بسببه وقلتن عنى: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}: وقد ملأ حبُّه قلبها، ونحن نراها من أَجل ذلك في ضلال واضح، فلم يعد لَكنَّ بعد ذلك الذي حدث منكن بسبب جماله ما يدعوكن لملامى، وإنى أؤكد لكن بصراحة أننى أنا التي طلبته لمضاجعتى فامتنع وبذل أقصى الجهد في الإِباء والتحفظ الشديد - وبعد أن بسطت العذر لهن عما كان منها، هددته بأسلوب الملوك وأهل القهر في جملة من التأكيدات قائلة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}: أَي ولئن أصرَّ يُوسُف على إبائه ولم يفعل ما آمره به من المضاجعة، ليوضعن في السجن، وليكونن فيه من الأذلاء. ومما سبق تعلم أن يوسف - عليه السَّلام - لم يتجه بشهوته البشرية نحوها، فقد ظل سنين عديدة تحت رعايتها وإكراها وبين يديها، ولم يتجه إليها بنظرة خبيثة ولا بعبارةٍ نابية، وذلك لكمال نفسه وطيب خلقه, وإعداد الله إياه للنبوة التي تنتظره وقد تأكدت هذه العصمة الربانية وتجلت بأَجلى مظاهرها، حين دعته إلى مخالطتها وبذلت له من أَساليب الإغراء ما بذلت، لترفع بذلك عن نفسه الخشية منها وتهيب مقامها وتدفعه إلى الرغبة فيها والاجتراء عليها بعد أن أذلت له أنوثتها، وأنه مع هذا الإغراء والتمكين التام، امتنع وأبى قائلا: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} فاستعاذ بالله ولجأ إليه ليعصمه منها، ويحميه من شباكها، وأَكد هذا الامتناع بأنه لا يخون

سيده الذي اشتراه ورباه وأَحسن مثواه ليثير بذلك وازع الأمانة في نفسها نحو زوجها، فلعله يستيقظ من سُباته فيكُفها عنه، ولكنها أصرت، فذهب إِلى الأبواب ليفتحها ويهرب منها، فهمت به تمنعه وتجذبه إليها، وهمَّ بها يدفعها عن نفسه ويحاول أن يضربها لولا أن راى في نفسه حُجة ربّه وإلهامه إياه أَنه لو ضربها لاستخدمت هذا الضرب حجة لها على أنه هو الذي راودها عن نفسها، ولما امتنعت ضربها، فكف عن ضربها، وتمت عصمة الله له، وعند الباب الخارجى بوغتا معا بالعزيز فتتهمه المرأة بأَنه أراد بها سوءًا، ويكذبها قميصه الذي قُدَّ من دُبُرٍ، ويقتنع العزيز ببراءَته ويوصيه بأن يعرض عن هذا الأمر فلا يذيعه في الناس، ولكن نساءَ القصور يجدن دائما من يتطوع بإِذاعة أَخبارهن، وهكذا كان الأمر بالنسبة لامرأة العزيز مع يوسف فلما تسرب أمرها مع يوسف إلى نساء الأمراء وعبن عليها ما فعلته مع غلامها الذي ترفع عليها وقاومها، أرادت أَن تقطع ألسنتهن عن غيبتها والتشهير بها، بإيقاعهن في شرك هواه والافتتان به مثلها، فأعدت لهن مأدبة يُستعمل في طعامها السكاكين، وبينما هن يأكلن والسكاكين في أيديهن يقطعن بها الطعام، أخرجت يوسف عليهن ففوجئن بجماله الفتان فجرحن أيديهن بالسكاكين من شدة الذهول الذي أَصابهن عن جماله وقلن إعجابا به: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}. وكأنهن بهذه العبارة يقلن لها أنت معذورة فيما فعلت معه لروعة جماله وقوة تأثيره على النساء. فلما ظفرت منهن بهذا الإِقرار الذي يحمل معه الاعتراف بأنها معذورة فيما صنعت، أجترأت على المصارحة بما لم تصرح به من قبل، فقالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}: وبذلك التصريح كذبت نفسها فيما قالته لزوجها من أنه أراد بها سوءا، واعترفت بأنها هي التي راودته وأنه هو الذي امتنع أشد الامتناع وجاهد في سبيل التخلص منها

وزادت على ذلك أنها مصرة على تحقيق رغبتها فيه من المخالطة لا يصرفها عنها لوم العوازل، ولا إعراض الحبيب فقالت مهددة له: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}: ليعلم يوسف أنها ليست في أمرها معه على خفية ولا خيفة من أحد، فتضيق عليه الحيل، ولكى ينصحه أولئك النسوة بموافقتها، وإزاء هذا كله ماذا صنع يوسف عليه السلام - هذا ما يجيب عنه قوله تعالى: 33 - {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}: أي قال يوسف بعد هذا التهديد والوعيد: يا رب دخول السجن آثر عندى وأَسهل وأهون من المخالطة التي يدعوننى إِليها، وإِلا تصرف عنى كيدهن بتثبيتى على ما أنا عليه من العصمة والعفة، وردعهن عنى، أُجبهن إلى ما طلبنه منى بمقتضى الطبيعة البشرية، وأكن بذلك من أهل الجهالة والسفه، الذين لا يعملون بما يعلمون، فإن من لم يعنه الله على العفة والحصانة، مع هذا الإغراء والقهر قد يخونه طبعه البشرى وجبلتُه، وتتحكم فيه قوته الشهوية، واعلم أَن السجن في ذاته ليس محبوبا، كما أن إجابتها إِلى ما طلبته كذلك، فهي والسجن شرَّان غير محبوبين له، ولكن أهونهما وأقربهما إِلى نفسه هو السجن، ليتخلص به من الفاحشة الكبرى فلذا عبر في جانبه بقوله: {أَحَبُّ إِلَيَّ}: بمعنى أسهل عليَّ - على سبيل المجاز - وقد يقال إن أهون الشَّرين يحب أَحيانا، لأنه هو الوسيلة الوحيدة لتخليصه من شرٍّ أكبر وعلى أي حال فأفعل التفضيل على غير بابه. ومما ينبغي التنبيه إليه أنه لم يرد في النص الكريم أن النسوة المدعوات للمأدبة، دعونه إلى الاستجابة لامرأَة العزيز، ولا إِلى الفاحشة معهن، فلهذا يحمل قوله تعالى: {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} على أنهن لما تأثرن بجماله إِلى درجه أنهن قطعن أَيدين دعونه إلى مطاوعتها، بل ربما طلبن منه مثلما طلبت منه، وقيل: إن ضمير جمع النسوة في قوله: {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}

إِلخ راجع إلى امرأَة العزيز إِما للتعظيم لشأنها، وإِما للتعريض بدل التصريح ويرجح الرأى الأول قوله تعالى حكاية عن الملك: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} (¬1). 34 - {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أي فتفضل عليه ربه الذي يتولى تربيته وحمايته فاستجاب له دعاءه الذي تضمنه قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} ولهذا ثبته وأيأسهن من موافقته لهن فصرف بذلك كيدهن عنه، إنه - تعالى - عظيم السمع والعلم فلا يخفى عليه حاله ولا حال غيره، وهكذا يستجيب الله سبحانه لأهل الصدق في دعائه والاستعاذة به من كل مكروه. {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)} المفردات: {بَدَا لَهُمْ}: ظهر للعزيز وأهل مشورته. {الْآيَاتِ}: العلامات الدالة على براءَته. {أَعْصِرُ خَمْرًا}: أي أعصر عنبًا، سمي باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}: أخبرنا بمآل ما رأيناه في المنام. التفسير 35 - {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}: أي ثم ظهر للعزيز وأهل مشورته من بعد ما رأَوا العلامات الشاهدة ببراءة يوسف وانحراف امرأَته والعلامات الدالة على أَنها مصرة على مخالطته غير مكترثة بالفضيحة. ¬

_ (¬1) من الآية, 51

بدا لهم من بعد ذلك أَن يسجنوا يوسف - عليه السلام - حتى زمن تنقطع فيه الإشاعة ويبدو للناس من سجنه أَنه هو الذي أرادها بسوء فلهذا عوقب، وليكون وجوده في السجن حائلا بينها وبينه حتى لا تعود إِلى مراودته. تنبيه: لو أكره رجل على الزنى بالسجن فعليه الامتناع ولو سجن، فإن فعل فهو آثم بالإِجماع: انظر القرطبي في تفسير الآية. 36 - {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}: يطلق الفتى على الشاب، من الفتاء وهو الشباب، ويطلق أيضًا على العبد صغيرًا كان أو كبيرًا كما قاله الماوردى. وكان الفتيان اللذان دخلا السجن بصحبة يوسف عبدين للعزيز، أحدهما ساقيه، والآخر صاحب طعامه وقيل: خبازه، وروى بشأنهما روايات لا سند لها فلذا ضربنا صفحا عنها والمعنى: ودخل السجن مع يوسف فتيان من عبيد الملك ورأَى كل منهما في نومه حلمًا أَحس بحاجته إِلى تأويله لتستريح نفسه، فإن السجين كثير الخوف من المستقبل محتاج إِلى الطمأنينة وقد اعتاد البشر من قديم على الاستعانة بالأحلام للكشف بها عن المجهول، وإذا لم يستطع الحالم تأويل حلمه لجأ إلى من يحسنه ويشتهر بذلك، وكان يوسف - عليه السلام - يخبر السجناء ببعض الغيوب - كما سيأتي بيانه - فلهذا أخبراه بحلميهما، قال أَحدهما: إِني أَرى في منامي أنني أعصر عنبًا ليتحول إلى خمر بعد حينٍ، وقال الآخر: إني أرى في منامي أَننى أحمل فوق رأسى خبزًا تنقره الطير وتأكل منه، ثم قالا له بعد أَن عرضا عليه حلميهما. {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: أي أخبر كُلا منا بتأويل حلمه الذي عرضه عليك مفصلا: إِنا نراك من الذين يحسنون تفسير الأحلام، حيث إنك تعودت أَن نفسر للسجناء أحلامهم قبل أن نرى حلمنا. وتأويل الإحسان بذلك هو الأقرب إلى المقام، حيث عرضا حلميهما عليه، لأنهما جربا خبرته مع غيرهم في تأويلها إِلى درجة الإحسان.

ومن المفسرين من حمله على إِحسان العلم، وبه قال الفراء، ومنهم من حمله على الإحسان في المعاملة وذلك لأنه كان يعود المرضى ويداويهم، ويساعد المحتاجين ويواسي السجناء ويسري عنهم ويصبرهم. وقيل: معناه من المحسنين إِلينا إن فسرته لنا وأرحت قلوبنا. واختلف في رؤياهما فقيل إنها مصطنعة وليست حقيقية، فعن ابن مسعود: قال أحد الفتيين لصاحبه: تعال حتى نجرب هذا الفتى العبراني، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا، قاله ابن مسعود. وقيل: إنها صحيحة وهو الظاهر، قال ابن عباس ومجاهد: كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها، ولذلك صدق تأويلها. {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)} التفسير 37 - {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}: لما طلب السجينان من يوسف عليه السلام أن يعبر لهما حلميهما وقالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَخبرهما بما يحقق صحة ما اعتقداه فيه من أَنه ممن يحسنون تأويل الأحلام

تحدثا بنعمة الله عليه، وذلك أَنه قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما قبل حضوره إليكما بنوعه وأوصافه، فقد كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أَنه قبل حضور الطعام إليهما، يقول لهما: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كذلك بعد حضوره، وأطلق التأويل على ذلك تشبيها له بتأويل الرؤيا، فإنهما يشتركان في الإخبار بالغيب. ولما آنس منهما الثقة به وحسن الظن فيه، حيث قالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أَراد أن يفهمهما مصدر هذا الإحسان، ومنشأ هذا العلم الذي تجلى به واستحق به صفة الإحسان، فقال مخاطبًا إياهما مشيرًا إِلى ما عنده من العلم. {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}: أي ذلكما الذي عرفته من تأويل الرؤيا والإخبار بالمغيبات، بعض ما علمنيه ربي بالوحي أو الإلهام من العلم، فلست أخبركما به تكهنًا فما أنا بكاهن, وقد علمنى ربي إِياها لأني تركت ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله على الوجه الذي يليق بجلاله، بل يشركون معه غيره، وهم بالآخرة هم كافرون، فلا يؤمنون بالبعث ولا بالنشور ولا بالثواب ولا بالعقاب، والمراد من تركه لملتهم أَنه لم يدخلها أصلا، ولهذا قال في الآية التالية -: "مَا كَانَ لَنَا أن نشرِكَ بِاللهِ مِن شَيء". 38 - {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: أي تركت ملة الوثنيين من قومي، حيث نشأت متبعا ملة آبائى الذين أرسلهم الله لهداية الخلق إِلى ملة التوحيد، وهم إِبراهيم ومن بعده ولده إسحق، ثم حفيده يعقوب والد يوسف عليهم السلام. {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}: أي ما صح ولا استقام لنا معاشر الأنبياء، أن نشرك بالله أي شيء من الكائنات العاقلة وغيرها، فكلها مخلوقة لله وآيات شاهدات بوجود الله ووحدانيته، فلا يصح أن نعبدها مع الله.

{ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}: أي ذلك المنهج الذي سلكناه في عقيدتنا ناشئ من فضل الله علينا، حيث أيدنا بالنبوة وجعلنا أهلا لتبليغ رسالته إلى الناس، وقيادتهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ومن فضله على الناس أيضا، حيث وفقنا لإِرشادهم إلى توحيده، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله بتوحيده وإجابة المرسلين إلى العمل بما جاءهم به، مع أَنه تعالى أقام الأدلة والآيات في الأنفس والآفاق على استحقاقه وحده للعبادة. {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} المفردات: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}: المراد بهما الفتيان اللذان دخلا معه السجن، ورأيا في منامهما الحلمين وعرضاهما عليه ليعبرهما لهما. {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}: متعددون لا ارتباط ولا اتفاق بينهم. {الْقَهَّارُ}: الغالب الذي لا يدانى في قهره ولا يعارض في مراده، ولا يستعصى عليه جبار ولا يفوته مطلوب. {مِنْ سُلْطَانٍ}: من حجة. {أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا}: أسماء اتخذتموها دون أن يكون لها مسميات على الحقيقة.

التفسير 39 - {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}: بين الله تعالى فيما سبق من الآيات أن يوسف لما دخل السجن صحبه فتيان وأَنهما رأيا حلمين، وطلبا من يوسف عليه السلام أن يعبرهما، وأَن يوسف قبل أن يعبرهما ذكر للسجينين المذكورين أنه اعتاد معهما أَن يخبرهما بالغيب قبل حدوثه، فكان لا يأتيهما طعام إِلا أَخبرهما بنوعه وحاله ووصفه قبل مجيئه، حتى إِذا جاءهما كان على وفق ما حدثهما به، ثم بين لهما أنَّ مصدر العلم بذلك هو الله ربه، فهو الذي علمه إياه، ولم يكن من باب الكهانة والتنجم، وأنه ترك ملة قومه المشركين، فلم يشاركهم في شركهم وكفرهم بالآخرة، واتبع ملة آبائه إِبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأَنه لا يصح له ولا لأحد أَن يشرك بالله شيئا، وأن معرفة البشر بوحدانيته تعالى من فضل الله عليهم. وجاءت هذه الآية لإقامة الدليل لصاحبى السجن على فساد الشرك، وبيان أن الحكم في أمر العباد ليس إلا لله تعالى، وأنه جل وعلا أَمر أَن لا يعبد أحد سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لإِفسادهم فطرتهم وسوء اختيارهم، وأَنت ترى من عرض هذه المعانى لتلك الآيات، أَن يوسف عليه السلام - لم يتعجل إجابة صاحبى السجن بتفسير حلميهما كما طلبا، بل بدأَ يمارس معها ما أعده الله له من النصح والإِرشاد لعباده، والهداية إلى توحيده وعبادته، كما هو شأن آبائه المرسلين عليهم السلام. وكان يرجو بذلك أن يهديهما الله تعالى إلى الحق، فمن اهتدى منهما كان من أَهل النجاة والسعادة، ومن نجا منهما كان داعيا لمن حوله من بطانه العزيز إلى توحيد الله تعالى، وكأنه يقول لهما عندي العلم بتأويل رؤيا كما فأنتما تعلمان أَنه لا يأتيكما طعام إلا أَخبرتكما بتأويله قبل أن يحضر إليكما، ولكن تعالوا فاسمعوا أَولا ما يطهر عقيدتكما من الشرك، ويهديكما إلى معرفة الواحد الديان قبل أَن أعبر لكما رؤياكما، ثم قص عليهما مصدر علمه بالتأويل، وتحدث عن ملة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وأَنه لا يصح الإشراك بالله، لأنه لو تعددت الآلهة وتفرقت لفسدت السموات والأرض, وهذا المعنى الأخير هو الذي أشار إليه قوله تعالى حكاية عنه:

{يَا صَاحِبَيِ (¬1) السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}: والمراد بصاحبي السجن الفتيان اللذان دخلا السجن معاقبين معه: وناداهما بعنوان الصحبة له في السجن لأن السجن مدار الأشجان، ودار الأحزان، التي تصفو فيها مودة نزلاته فلهذا ناداهما بعنوان الصحبة له، ليقبلا عليه ويقبلا منه ما ينصحهما به. والمعنى: يا رفيقي اللذين رافقاني وصحباني في السجن أخبرانى: أَأرباب شتى متفرقون لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، خير لهذا الكون, أم الله المنفرد بالألوهية والخلق والإيجاد. الغالب لكل ما في السموات والأرض، فلا يتعاصى عليه مقدور فيهما، ولا يمتنع عليه أَن يخلق غيرهما، فكيف يعبد المشركون سواه، مع أنه مخلوق لله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. وبعد أن نبه يوسف صاحبي السجن إلى فساد تعدد الأرباب، بين لهما سقوط منزلتها وفقدان أهليتها للربوبية فقال لهما. كما يحكيه الله تعالى: 40 - {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}: الخطاب في قوله {مَا تَعْبُدُونَ} لصاحبي السجن وقومهما، ولذا قال بعد ذلك {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} بخطاب الجماعة أو المراد بالجمع ما فوق الواحد: ثم عطف عليهم آباءَهم. والمعنى: ما تعبدون يا قوم عزيز مصر إلا أسماء ليس لها مسميات في الحقيقة فكل ما عبدتموه وأطلقتم اسم الألوهية عليه لا يستحق الألوهية، وتكون عبادتكم لتلك التي زعمتموها آلهة، عبادة اسماء ليس لها مسميات في الواقع. {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}: أي ما أَنزل الله بألوهيتها من حجة تصحح ألوهيتها وتسوغ عبادتها. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}: ما الحكم في الألوهية وغيرها إلا لله سبحانه، والله لم يحكم بها لأحد سواه، لأنه لا إله غيره، ولا يستحق الألوهية سواه فكل ما عداه عبده ومحتاج إِليه، فلهذا {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}: وعقب هذا بقوله {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}. ¬

_ (¬1) أصله يا صاحبين لى في السجن فأضيف الصاحبان إلى السجن الذي هو ظرف لهما وموضع لصحبتهما, ومن هذا الاستعمال قول العربي: يا سارق الليلة أهل الدار: أي يا سارقا في هذه الليلة أهل الدار.

هكذا يحكي الله تعالى ما دار بين يوسف وصاحبيه في السجن وخلاصته: أنه أعلمهما أَن التي يعيدونها ويسمونها آلهة لا تصلح للألوهية، وأنها أسماءٌ بلا مسميات وألوهيتها دعوى بغير دليل، وأن المستحق للألوهية هو الله وحده، ولهذا لم يحكم بها لسواه، بل أمر أن لا يعبدوا غيره، وأخبر أن ذلك هو الدين المستقيم الذي أجمعت على استقامته وصحته الأدلة النقلية والعقلية، ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: أي ولكن أكثرهم يجهلون أَن ذلك هو الدين المستقيم دون سواه، لأنهم لم يستعملوا عقولهم في الاستدلال على الحق سبحانه بآياته. وبعد أن بين يوسف عليه السلام لصاحبي السجن أن عبادة الله تعالى هي الحق، وأنها خير لهما من عبادة الأَرباب المتفرقين الذين ليس لهم من صفة الألوهية أَدنى نصيب، وأن الحكم لله وحده في الكون كله، فلا ألوهية لأحد سواه، وأنه تعالى أمر أن لا يعبدوا إلا إياه، وأن هذا هو الدين القيم - بعد أن بين لصاحبي السجن كل ذلك - شرع يعبر لهما ما رأَياه في النوم ويفسره لهما فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} المفردات: {فَيَسْقِي رَبَّهُ}: أي فيسقي سيده. {تَسْتَفْتِيَانِ}: تطلبان الفتيا. {عِنْدَ رَبِّكَ}: عند سيدك. {بِضْعَ سِنِينَ}: البضع, العدد من الثلاث إلى التسع، واشتهر أن يوسف مكث في السجن سبع سنين.

التفسير 41 - {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}: كرر يوسف النداء هنا لصاحبي السجن بعد أن أطال الحديث معهما في دعوتهما إلى الحق، تنبيها على أنه سيدخل بهما موضوعا آخر مغايرًا له، وهو تعبير حلميهما الذي طلباه، يقول يوسف: يا صاحبي في السجن، إِليكما تعبير رؤيا كليكما، أما أحدكما - وهو الذي رأى في منامه أنه يعصر خمرًا - فإنه يعود إلى خدمة سيده الملك بعد أن يعفو عنه ويخرج من السجن، وسيقوم على شرابه فيسقيه خمرا، وأما الآخر - وهو الذي رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل منه الطير - فإنه يصلب فتأكل الطير من رأسه، ثم أغلق الباب دون التساؤل أَو التضرر مما أفتاهما به فقال: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}: أي أتِمَّ الأمر الذي كنتما تستفتيان فيه وأحكم، ولم يعد فيه مجال للافتراض أو العدول عنه، فهو إِخبار موافق لما علمه ربه إياه وأرشده إليه، وليس فيه حدس ولا تخمين، والمراد بالأمر الذي فيه يستفتيان: ما رأياه من الرؤيين، وليس المراد مآلهما الذي هو نجاة أحدهما وهلاك الآخر - كما قال العلامة أبو السعود - فكأنه قال - عبرت لكما رؤييكما وأنا واثق من صدق تعبيرهما. 42 - {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}: أي وقال يوسف للسجين الذي ظن نجاته من صاحبي السجن - وهو الذي رأى في منامه أنه يعصر لسيده الملك خمرًا - وأفتاه بأنه سيعود إِلى خدمته، قال يوسف لهذا السجين: اذكرني عند سيدك الملك حين تعود إلى خدمته، وحدثه عن تعبيري لرؤياك ورؤيا صاحبك حتى تحقق أمرهما على ما أخبرتكما، وأخبره أننى مظلوم حبست بلا ذنب, لعله يخرجني من السجن, ويمحو هذا الظلم عني.

وكان يوسف يرجو أن يسارع بإخبار الملك حين يعود إلى خدمته, وفاء بعهده معه, وإدراكًا منه لما يقاسيه السجين في السجن من العذاب النفسي، والحرمان من الحرية، فقد شاركه في ذلك. ولكن الشيطان الذي يكره الوفاء بالعهد أنساه تذكير سيده الملك بأمر يوسف, حيث شغل قلبه بما استجد له من نعمة الحرية والعودة إِلى العمل في قصر الملك. وشواغل الخدمة المتتابعة لسيده. فمكث يوسف في السجن بعد خروج صاحبه السجين بضع سنين - والبضع من الثلاث إلى التسع كما تقدم - ويقال إنه مكث في السجن سبع سنين. وأعاد بعض المفسرين الضمير في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} إلى يوسف عليه السلام، أي فأنسى الشيطان يوسف - ذكر ربه سبحانه. فلجأ إلى صاحبه السجين وقال له: اذكرني عند ربك - أي سيدك الملك - فعاقبه الله بأن أبقاه في السجن بضع سنين، جزاء له على تركه الاعتماد على الله تعالى. والميل في طلب النجاة إلى عبد من عبيده. وكان عليه أن يشكو إلى الله ويستغيث به. وأَصحاب هذا القول اعتمدوا على أحاديث واهنة لا يصح الأخذ بها. وما يظن أحد من المنصفين وأهل التحقيق أن يوسف ترك الشكوى إلى الله, وهو الذي استعاذ بالله من خيانة العزيز الذي أحسن مثواه. وعف عن الحرام والإثم الذي كانت تدفعه إليه زوجته الخاطئة بشتى المغريات, وهو الذي دعا السجينين إِلى توحيد الإله سبحانه وترك الأرباب المتفرقين، الذين هم أسماء بلا مسميات. والحق ما قلناه أولا من أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو ساقي الملك, والدليل الحاسم على ذلك هو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}: أي وقال الذي نجا منهما وتذكر يوسف بعد مدة طويلة: إلخ, كما أنه لا مجال لأن يتسلط الشيطان على نبي فينسيه ذكر ربه وهو يقول سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬1) على أن الأخذ بالأسباب مشروع قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (¬2). ¬

_ (¬1) الإسراء, من الآية: 65 (¬2) الملك, من الآية: 15

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)} المفردات: {عِجَافٌ}: جمع عجفاء على غير قياس (¬1) والعجفاء الهزيلة. {الْمَلَأُ}: الأشراف والمراد بهم هنا الكهان والحكماء. {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}: فسروها لى وبينوا عاقبتها. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}: أخلاط أحلام لا تؤول، والأضغاث جمع ضغث, يقال لكل مختلط من يقل أو حشيش أَو غيرهما، وقد استعير للرؤيا الغامضة لفظ الأضغاث، لأنها أخلاط من أَحاديث العقل الباطن وخيالاته ومخاوفه وآلامه وآماله. التفسير 43 - {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}: بعد أن عبر يوسف الرؤيين وتحقق تأويله لهما، حيث قتل الخباز وصلب, وأَخرج الساقي من السجن وأعيد إلى خدمة الملك، بقى يوسف في السجن، ونسى الساقي أمره، فساق الله سببا يخرج به يوسف من السجن عزيزا كريما، وذلك أن ملك مصر رأى في منامه رؤيا أَزعجته، فجمع كبار الكهنة والحكماء في مملكته وقال لهم مستحضرًا للصورة التي شاهدها في منامه: إِني أرى سبع بقرات سمان، يأكلهن سبع بقرات في غاية الهزال، وأرى سبع سنبلات حضر قد امتلأت بالحب ولم تجف بعد , ¬

_ (¬1) القياس أن تجمع على عجف كحمراء وحمر.

وسبع سنبلات أُخر قد يبست وجف حبها ونضج، وبعد أن قص هذه الرؤيا على حكمائه ومستشاريه من الكهنة ناداهم قائلا: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}: أي يأيها الرؤساءُ من الكهنة والحكماء فسروا لى رؤياى، وبينوا لى حكمها ومآلها, إن كنتم لجنس الرؤيا تعرفون تفسيرها، حتى تستطيعوا أن تنتقلوا من الصور الرمزية المشاهدة في المنام، إلى صور وأمثلة لها في حقائق الحياة، وعَبْرُ الرؤيا مأخوذ من العبور وهو المجاوزة، تقول عبرت النهر أي قطعته وجاوزته، وكذلك يفعل مفسر الرؤيا، فإنه يعبر بها من الخيال إِلى الحقيقة، أما تأويلها فمعناه بيان مآلها في ظاهر الحياة، وعبر الرؤيا وتعبيرها بمعنى واحد، غير أن الأول لغة القرآن، فهو أَولى من الثاني, وبعد أَن سأَلهم إفتاءه في رؤياه إن كانوا يستطيعون عبر الأحلام أظهروا عجزهم، وذلك ما يحكيه الله تعالى بقوله: 44 - {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}: أي قال الملأ من الكهان والحكماء: هذه الرؤيا أخلاط أحلام كأضغاث النبات المختلطة، فلا تأويل لها عندنا، يريدون بذلك أن يخرجوا رؤيا الملك من جنس الرؤى الصادقة التي يمكن تأويلها لأهل العلم، وأن يجعلوها من جنس الأحلام الكاذبة، التي لا يستطاع تأويلها، ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ويجوز أَن يكون هذا القول منهم اعترافًا بقصور علمهم عن تأويل الأحلام مطلقًا لأنهم ليسوا بنحارير (¬1) - كما قال أَبو السعود - وإِطلاق الأحلام على الكاذب منها والرؤى على الصادق منها عرف غالب، وإِن كان كلاهما عامًا في الصادق والكاذب، ولهذا قالوا أخلاط أَحلام، يريدون أنها ليست من الأحلام الواضحة التي يمكن تأويلها ويصدق مدلولها وقد سوى صاحب القاموس بينهما بقوله: الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا. ¬

_ (¬1) أي ليسوا علماء متعمقين في تأويل الأحلام مع أن لها تأويلا.

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} المفردات: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}: قرىء بضم همزة {أُمَّةٍ} وتشديد ميمها مفتوحة (¬1). أي وتذكر بعد جماعة كثيرة من الزمن، قال الأخفش: هو في اللفظ واحد. وفي المعنى جمع: أهـ، وكل جماعة كثيرة فهى أمة. {الصِّدِّيقُ}: الكثير الصدق. التفسير 45 - {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}: أى وبعد أن عرض الملك رؤياه على رهبانه وحكمائه, وعجزوا عن تأويلها قائلين {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} قال الذي نجا من صاحبي يوسف في السجن, والتحق بخدمة الملك ساقيًا له, وقد تذكر يوسف وقدرته العظيمة على تأويل الرؤيا، وأنه أوصاه أن يذكره عند سيده لعله يخرجه من السجن لأنه مظلوما {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} للملك وأهل مجلسه: أنا أخبركم بتأويل حلم الملك بعد أَن أعرفه من عليم بتأويل الأحلام فأرسلوني إليه لأسأله. 46 - {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}: أي فأرسلوه إليه. فناداه نداء يشتمل على الثقة بصدقه العظيم في أمره كله، وبخاصة فى تأويل الرؤيا حسبما جربه منه وشاهد أحواله إذ قال له في براعة استهلال: يا يوسف ¬

_ (¬1) وقرئ (بعد أمة) بكسر الهمزة وتشديد الميم, ومن معانيها. النعمة ورغادة العيش، وقرئ (بعد أمة) بهمزة مفتوحة. وميم مفتوحة مخففة وهاء مهملة. أي بعد نسيان. ومنه قول الشاعر: أمهت وكنت لا أنسى حديثا ... كذلك الدهر يودي بالعقول

أيها البليغ الصدق: أفتنا في رؤيا سبع بقرات سمان, يأكلهن سبع بقرات شديدة الهزال وأفتنا في سبع سنبلات خضر مليئة بالحب وسبع سنبلات أخر يابسات ناضجات الحب، وبين لنا مآلها وحكمها في عالم الشهادة. وإنما قال ليوسف {أَفْتِنَا} بضمير الجمع مع أنه وحده هو المستفتي, للإِشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له شأن في أمور الناس. وأنه في حكايتها سفير لغيره، ولهذا ختم استفتاءه بقوله: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}: أي لكي أرجع إلى من بيدهم الأمر ليعلموا تأويلها ويعملوا بمقتضاه، وليعلموا فضلك ومكانك العلمي العظيم مع ما أنت فيه من الحال، فينتبهوا إليك ويخلصوك مما أنت فيه. ولم يقل: لأرجع إلى الناس ليعلموا, بل عبر بإسلوب الرجاءَ {لَعَلِّي أَرْجِعُ} الخ جريًا على نهج الأدب مع يوسف، واحترازًا عن المجازفة بأسلوب اليقين، لأنه لم يكن على يقين من رجوعه، فربما اخترمته المنية قبل أن يعود إلى مجلس الملك، كما أنه لم يكن على يقين من بقائهم حتى يعلمهم، فإن العالم بذلك كله هو الله - تعالى - وحده. {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} المفردات: {دَأَبًا}: مصدر دأب في العمل - أي جَدَّ فيه. {سَبْعٌ شِدَادٌ}: سبع سنين صعاب على الناس. {مِمَّا تُحْصِنُونَ}: مما تدخرون من البذور {يُغَاثُ النَّاسُ}: من الغيث أي يمطرون في

وقت الحاجة، يقال غِيثَتْ البلاد إِدا مطرت في وقت الحاجة، ولذا يسمى المطر في هذه الحالة غيثا ويصح أَن يكون من الغوث، يقال أَغاثنا الله أَي أمدنا برفع المكاره حين داهمتنا. التفسير 47 - {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}: لما انتهى رسول الملك من إِخبار يوسف برؤيا الملك التي أزعجته، أول يوسف البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبات ذات زروع وثمار كثيرة، وأول البقرات العجاف والسنبلات اليابسات بسنين مجدبة تؤكل فيها حبوب جافة مخزونة في سنابل جافة, ووصف الطريقة التي يجتازون بها أزمة المجاعة في سبع سنين متتابعة، فقال لسائله بعد إحساسه وإدراكه أن السائل هو الملك: تزرعون الأرض سبع سنين دائبين جادين غير متوانين ولا كسلين، حتى تجود الأرض بأقصى خيراتها وأغزر ثمارها وحبها، فتلك السنوات السبع ذات الزروع والثمار الغزير هي تأويل البقرات السبع السمان والسنابل الخضر اليانعات، فما حصدتموه في كل سنة فاتركوه واختزنوه في سنابله ولا تجردوه لكي ينجو من أكل السوس، إِلا قليلا من حبها تعدونه للأكل كل عام فليس عليكم بأس من تجريده من سنابله. فأنت تراه قد استدل على زراعة القمح سبع سنين دأبا بالسنبلات السبع الخضر فهي إشارة إِلى السنوات السبع الخصيبة, واستدل على تخزين القمح في سنابله سبع سنين بالسنبلات السبع اليابسات، واستدل على أن السنوات السبع الأخيرة ستكون جدباء وأنه يجب الاحتياط. لها بتخزين الطعام، استدل على ذلك بالبقرات السبع العجاف التي أَكلت البقرات السبع السمان كما سيأتى ببانه، ويبدو أن تخزين القمح في سنابله لمدة طويلة تصل إلى سبع سنين لم يكن معروفًا لدى قدماء المصريين، فقد كانوا يزرعون لكل عام ولا يحرمون من فيضان النيل سبع سنين متتابعة فلذا أرشدهم يوسف إِلى هذه الطريقة المثلى في التخزين لمدة طويلة، ولا عجب في أن يخبرهم بها

يوسف عليه السلام مع أنه لم يألف مثل ذلك, فقد علمه ربه علوما كثيرة, وحسبك دليلا على ذلك قوله لصاحبي السجن: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}. وقد قال القرطبي تعليقًا على هذه الآية ما يلى: هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأُمور فهو مصلحة، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة، ولا خلاف في أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إِلى السعادة الأخروية ومراعاة ذلك فضل من الله - عز وجل - ورحمة رحم بها عباده من غير وجوب عليه الخ. ثم شرع يوسف يبين بقية التأويل فقال: 48 - {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}: أي ثم يأتي من بعد السنين الخضراء التي تجدون وتتعبون في الزرع فيها فتأكلون منه وتدخرون من حبه - يأتي من بعد ذلك - سبع سنين صعاب على الناس يأكلن ما قدمتم لهن من الحب المتروك في سنابله إِلا قليلا مما تدخرونه منها لبذور الزراعة، وإسناد الأكل إليهن مع أن الآكلين هم الناس، على سبيل المجاز كما في قولهم: نهاره صائم، وفي هذه الآية تأويل أكل البقرات السبع العجاف التي هي رمز للسنوات السبع الجدباء للبقرات السبع السمان التي هي رمز للسنوات السبع الخصبة. 49 - {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: أي ثم يأتي من بعد ما ذكر من السنين الخصيبة والجدباء عام فيه يمطر الناس بالغيث الذي كانوا محرومين من تتابعه وغزارته سبع سنين، وفيه يعصرون ما يقبل العصر من الثمار والحب وغيرهما، كالعنب والزيتون والسمسم والقصب. وقيل معنى يعصرون يحلبون الضروع.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} المفردات: {مَا بَالُ النِّسْوَةِ}: ما حالهن. {مَا خَطْبُكُنَّ}: ما شأنكن، والخطب الأمر الذي يستحق أن يخاطب المرءُ فيه صاحبه. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}: تنزيها لله وتعجبًا من نزاهة يوسف. {حَصْحَصَ الْحَقُّ}: وضح بعد خفاء، وأصله بمعنى تبينت حصة الحق من حصة الباطل. {لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}: أي لا ينفذه ولا يوصله إلى غايته. التفسير 50 - {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}: بعد أن سمع رسول الملك من يوسف تأويل الرؤيا عاد وأخبره بما سمعه من يوسف، ويبدو أنه حدثه بعلمه وفضله وخلقه وأنه قد حبس ظلما سنين كثيرة، فعرف فضله على خاصته وكهَّانه وأدرك أَن حقه في الحرية والكرامة ينبغي أن يرد إليه.

وقال: ائتوني بيوسف, فلما جاءه الرسول يدعوه إلى لقاء الملك لم يشأ أن يجيبه إلى طلبه قبل أن تظهر براءته, بل قال له: ارجع إلى سيدك فاسأله ما حال النسوة الآتي قطعن أيديهن ودعونه إلى الفاحشة , يريد بذلك أن يحقق الملك في شأنهن معه ليعل نزاهته مما نسبته إليه من مراودته إياهن. وإِنما لم يتعرض يوسف لامرأة العزيز مع أنها أصل البلاء, محافظة على حقها، وتفاديًا لمكرها، وأما النسوة فقد كان يطمع في شهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، لذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدى، ولم يصرح بمراودتهن له وقولهن أطع مولاتك، واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: {إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}: مجاملة لهن. واحترازًا من خصومتهن له دفاعًا عن أنفسهن, إذا سمعن أنه ينسبهن إلى الفساد. 51 - {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}: قال الملك لما جاء الرسول بطلب يوسف أن يحقق مع النسوة: ما شأنكن حين راودتن يوسف وخادعْتُنَّه عن نفسه بترغيبه في إِطاعة مولاته هل وجدتن فيه من سوء وريبة. {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}. أي قلن مجيبات للملك: {حَاشَ لِلَّهِ} أي تنزيها لله. يردن بذلك تبرئة يوسف والاعتراف بنظافته وعفته، ولذا عقبن هذه العبارة بما أردته منها وهو قولهن: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}: مبالغة منهن في نزاهة يوسف عن جنس السوء. فضلا عن الفحشاء. {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ}: مقرة بالحق في مجلس التحقيق. {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ}: أي الآن في هذا المجلس تبين الحق ووضح بعد خفاء، أنا راودته عن نفْسِهِ. {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}: في تنزيه نفسه عن مراودته لى عن نفسي, وهكذا يحق الله - تعالى - الحق على روؤس الأشهاد، إظهارًا لكرامة الصادقين من عباده، وبذلك تحقق ليوسف ما أراده من ظهور براءته ونزاهته قبل خروجه من السجن في هذا المجلس الحافل,

حتى يطمئن الناس إلى طهره يقينًا, ولا سيما العزيز الذي رباه, ولذلك قال يوسف عقب ذلك. 52 - {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}: أي ذلك الذي تقدم من البقاء في السجن حتى يسأل الملك النسوة , وتظهر براءتي مما نسبته امرأَة العزيز إِليَّ، ليعلم العزيز قبل خروجي من السجن علمًا صادرًا عن اعتراف زوجته - ليعلم - أَنِّي لم أخنه بالغيب وراء الأبواب المغلقة والستور المرخاة، كما زعمت امرأَته، وليعلم أيضًا أَن الله تعالى لا يُنَفِّذ كيد الخائنين، ولا يوصله إلى السداد بل يبطله كما فعل بزوجته ولو كنت خائنا له فيها لفضحني ولم يهد كيدى كما فعل بها. ويعلم مما تقدم من التأويل أَن هذه الآية حكاية لما قاله يوسف - عليه السلام - تبريرًا لإصراره على إِظهار براءته قبل خروجه من السجن، حتى لا يحمل خروجه قبل ذلك على أَنه من باب العفو عنه مكافأة له على تأويل رؤياه، ولعله قال مضمون هذه الآية: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} الخ بعد أن عاد إليه رسول - الملك وأخبره بما جرى في مجلس التحقيق من ظهور براءته، وعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. حكاية لكلام يوسف بعد ما ظهرت براءته بإقرار النسوة أمام الملك وجلسائه. وقيل إن الآيتين حكاية لكلام امرأة العزيز، ومعنى هذه الآية على أَنها حكاية لكلامها: ذلك الذي قلته عن يوسف وهو غائب عن هذا المجلس وحبيس في السجن من أنني راودته عن نفسه، ليعلم أنَّ لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته عن هذا التحقيق، بل قلت الحق الذي أنكرته عبر هذه السنين، وليعلم أَن الله لا يهدى كيد الخائنين. وسيأتي بيان قوله تعالى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} على الوجهين المذكورين. واعلم أَن يوسف - عليه السلام - بلغ من النزاهة وكرم النفس مبلغا عظيمًا وحسبك أَنه لم يتعجل الخروج قبل أَن تظهر براءته علنية على هذا النحو المشرف، مع أنه

لبث في السجن سنين كثيرة قال ابن عطية تعليقا على ذلك: كان هذا الفعل من يوسف أناة وصبر , وطلبًا لبراءة الساحة, وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة فيقول الناس: هذا هو الذي راود امرأة مولاه , وقد صفح عنه الملك, ويراه الناس أبدًا بتلك المنزلة، فأراد أن يبين براءته، ويحقق منزلته من العفة والخير، ويخرج بعد شرف البراءة ليحظى من الملك بالمرتبه السنية على طهر وكرامة، فلهذا قال للرسول: ارجع إلى ربك لينظر في أمرى: هل سجنت بحق أَو بظلم: اهـ ملخصا ولقد أَعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانته من الصبر والنزاهة وعزة النفس والكرامة فقال: "إنَّ الكَرِيمَ ابْن الكرِيمِ ابن الْكرِيمِ ابْن الْكريم (¬1) يُوسُفُ بنُ يَعْقَوبَ بنِ إِسْحق ابنِ ابْراهيمِ قال - وَلوْ لبِثْتُ فِى السِّجْنِ مَا لَبِثَ ثُم جاءَني الرّسولُ أجبتُ - ثم قرأ: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}. الحديث: أخرجه الترمذي في صحيحه - والحديث مروى في الصحاح بعبارات متقاربة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع كونه يشير في الحديث إِلى مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، لكنه يوميء إِلى أنه بالغ في ذلك، وأنه كان الأحوط أن يخرج حتى لا يعدل الملك عن إخراجه لأنه لم يجب طلبه بالحضور إليه، ولأن هذه المرأة إن كانت زوجته أو زوجة وزيره فإن سؤال النسوة عنها سينتهى إِلى فضيحتها، فربما عدل عن سؤالهن لذلك، وآثر إبقاءه في السجن، لاشتراطه للخروج شرطًا يؤدى تحقيقه إلى هذه الفضيحة، فيظل مسجونًا ظلما. وقال ابن عطية: فإن قيل: كيف مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوسف بالصبر والأناة وترك المبادرة إلى الخروج، ثم يذهب بنفسه عن حالة مدح بها غيره، فالوجه في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخذ لنفسه وجهًا آخر له جهة من الجودة ¬

_ (¬1) تكررت (ابن الكريم) ثلاث مرات.

يقول: لو كنت أنا لبادرت بالخروج , ثم حاولت بيان عذري وبراءتي بعد ذلك, لأن هذه القصص والنوازل معرضة لأن يقتدي بها الناس إلى يوم القيامة, فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حمل الناس على الأحزم من الأمور حتى لا تضيع فرصة الخروج من السجن في مثل ذلك , وتنصرف نفس مخرجه عنه , وإذا كان يوسف قد أمن ذلك بعلمه من الله , فغيره من الناس لا يأمن ذلك فالحالة التي ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إليها حالة حزم , وما فعله يوسف عليه السلام صبر وجلد: انتهى ملخصًا.

{* وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} التفسير 53 - (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ): قلنا في آخر الجزء السابق يحتمل أن تكون هذه الآية والتي قبلها من قول يوسف عليه السلام أو من قول امرأة العزيز، وقد شرحنا الآية السابقة على الوجهين. وفيما يلى شرح هذه الآية عليهما: إذا كانت هذه الآية من قول يوسف يكون معناها: وما أبريءُ نفسى عن السوء والخطيئة بغير معونة من الله سبحانه ولا أُسْنِد إليها هذه الفضيلة بإعتبار طبعها من غير توفيق من الله تعالى، فإن النفس البشرية في حد ذاتها لداعية إلى السوء، مائلة إلى الشهوات، إلا ما رحم ربىَّ من النفوس بعصمتها من الوقوع في المهالك، وفي جملتها نفسى، إن ربي لعظيم الغفران لما يحدث من النفوس بموجب طبعها، عظيم الرحمة لها بعصمتها من الخطيئة التي تسوقها إليها بشريتها، وإنما يقول ذلك يوسف - عليه السلام - هضمًا لنفسه الكريمة البريئة عن كل سوء، وإبعادًا لها عن الإعجاب بما وصليت إليه من كمال النزاهة. وإذا كانت هذه الآية من كلام امرأة العزيز يكون معناها: وما أبريءُ مع ذلك من الخيانة، حيث قلت في حق يوسف ما قلت، وفعلت ما فعلت، إنَّ كل نفس لأَمارة بالسوءِ إلا نفسًا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام، إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه، رحيم له بقبول استغفاره.

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}. المفردات: (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي): أَجعله خالصًا لي أي خالصًا بي. (مَكِينٌ أَمِينٌ): ذو مكانة رفيعة مؤتمن على كل شيء. (حَفِيظٌ عَلِيمٌ): قوى الحفظ كثير العلم. التفسير 54 - (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي): ولما ثبت للملك براءة يوسف بما نسبته امرأة العزيز إليه، وتحقق أنه أَمين لا يخونه بالغيب، وأَدرك صبره وجلده وإيثاره السجن على ما تدعوه إليه امرأة العزيز وصواحباتها وعرف مبالغته في حماية نفسه من قالة السوءِ، بطلبه التحقيق مع أولئك النسوة قبل خروجه من السجن ليتلقاه الملك نظيفًا محكومًا ببراءَته، بدلا من أَن يقابله قبل ذلك متهمًا عما عنه الملك لأَنه أَوَّل رؤياه لا لأَنه برىءٌ - ولمَّا ثبت للملك كل ذلك - قال الملك لرجاله: أَحضروا إليَّ يوسف أَتخذه خالصًا لنفسى في تدبير أمور مملكتى وليكون صاحب مكانة خاصة عندي. وإذا نظرت إلى أسلوب الملك في طلب إحظار يوسف إليه فإنك تراه أَولًا بعد أن علم بتأويله رؤياه قال: (ائْتونِي بِهِ) ولم يزد على ذلك، فلما ظهر إباؤه ووضحت أمانته وعفته في قصة امرأة العزيز، عظمت منزلته عنده، فطلبه ليكون ذا مكانة ممتازة لديه

خاصة به، بحيث لا يكون لأحد سلطان عليه سواه، وذلك بقوله: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}. وهكذا يرفع الله درجات أهل العلم والأمانة والعفة. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}: أي فأتَوْا بيوسف فلما كلم يوسفُ الملكَ بما يناسب لقاءَ الملوك الذين يَرُدون الحق لأهله وينصفون المظلوم، قال له الملك إنك يا يوسف عندنا ابتداءً من هذا اليوم ذو مكانة رفيعة ومنزلة ممتازة، وإنك أمين على كل شيء لدينا، بعد ما عرفناه فيك من العلم والشرف والأمانة. وبعد أن اختار الملك يوسف مستشارًا له فيما هو مقبل عليه من أمره كله، وأعلمه بأنه عنده ذو مكانة ممتازة ابتداءً من هذا اليوم الذى يحدثه فيه، وأنه أمين عنده أمانة مطلقة ليست لها حدود، وبعد أن علم يوسف ما تحتاج إليه أرض مصر وأهلها فى السنين السبع الخصيبة والسنين السبع العجاف من حسن التدبير والحزم والحفظ والعلم والأمانة وأَن ذلك كَله قد منَّ الله عليه به -بعد أن حدث كل ذلك- عرض يوسف على الملك أن يعهد إليه بإدارة البلاد وذلك ما حكاه الله بقوله: 55 - {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}: أي اجعلني واليا على مصادر خيرات أرض مصر، زراعة وحصادا، وإيرادا وصرفا، وبيعا وخزنا، وتدبيرا، فإني حفيظ لها من التبذير والتقتير والإفراط والتفريط، عليم بوجوه التصرف فيها والحفظ لها، وقد كان يوسف في كل ذلك أقدر من غيره. وفى الآية دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان طالبها قادرًا على نفع العباد وإقامة العدل بينهم وإِجراء أحكام الشريعة فيهم، والبعد عن التلوث بمظالم الحكام ومآثمهم. وأَما ما ورد في الصحيح من النهي عن طلب الولاية فمحمول على ما إِذا كان طالبها لا يقدر على القيام بتبعاتها، والنجاة من مآثمها. ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي بريدة قال: قال أبو موسى: أقبلتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العملَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ فقال: "ما تقول يا أبا موسى -

أَو يا عبد الله بن قيس؟ قال قلت والذي بعثك بالحق ما أَطلعانى على ما في أنفسهما، وما شعرت أَنهما يطلبان العمل - قال - وكأَنى أَنظر إلى سواكه تحت شمته وقد قَلَصتْ (1) فقال: لَنْ أَوْ لا نَسْتَعْمِل على عملنا من أَراده" وذكر الحديث. ومن ذلك أَيضًا ما رواه مسلم من عن عبد الرحمن بن سَمرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن لا تسأَل الإِمارة، فإِنك إِن أعطيتها عن مسأَلة وكِلْتَ إِليها وإِن أعطِيتَهَا عن غير مسأَلة أعنت عليها).وقد استفيد من الآية أَيضًا إِباحة طلب الرجل القادر الفاضل أَن يعمل للرجل الكافر، بشرط أَن لا يكون عمله لديه وفق شهواته وفجوره، وإلا فلا يجوز. ويستفاد منها أَيضًا أَنه لو علم إِنسان أَنه لا يقوم سواه بمصالح الناس في عدل وكفاية سواء كان ذلك في ولاية أَو قضاءٍ أَو نحوهما، وجب عليه أَن يطلب ذلك، ويخبر بصفاته التي تجعله صالحا للقيام بها، من العلم والحفظ والكفاية كما قال يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}: فقد سأَلها بالحفظ والعلم لا بالنسب وغيره، فإِن كان هناك من يقوم بها ويصلح لها سواه، وعلم بذلك فالأَولى أَن لا يطلب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأَل الإِمارة" الحديث. {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}

المفردات: (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ): جعلنا له في أَرض مصر مكانة رفيعة أَقدرناه بها على ما يريد. (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءٌ): ينزل من بلادها ومن أمورها وقلوب أَهلها حيث يشاء. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا): نجود بنعمتنا. التفسير 56 - (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ): ومثل ذلك التمكين في قلب الملك، مكَّنَّا ليوسف في أَرض مصر، حيث ثبتنا فيها مكانته العظيمة، وأَقدرناه فيها على ما يريد في جميع نواحيها، فقد شملها سلطانه، فكأَنها منزله يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله ومكانه، وكان ذلك بعدل وحكمة. روى أَن الملك لما فوض أَمر مصر ليوسف تلطف بالناس، وكانت له بذلك مكانة رفيعة بينهم. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ): نصل بنعمتنا مَنْ نشاءُ ولا نفوت على المحسنين شيئًا من أَجرهم، بل نوفيه بكماله لهم، وكذلك فعلنا مع يوسف حين أَحسن، فقد كافأْناه بسلطانه العظيم على مصر وأهلها مع كامل المحبة والرضا. {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: أَي وإن أجر المحسنين في الآخرة لأَعظم من أَجرهم في الدنيا، وقد عبر عنهم بالذين كانوا يتقون، للإِيذان بأن الإِحسان الذي يستحق صاحبه الثواب الأَخروى، هو الذي كان أَساسه الإيمان والتقوى.

58 - (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ): كان للقحط الذي حل بمصر في السنين العجاف، أَثره في أَرض كنعان بالشام فبعث يعقوب عليه السلام أَولاده لشراءِ قمح وطعام من مصر، بعد أَن ذاع أَمر يوسف في الآفاق، حيث عرافوا أَنه اختزن الأَقوات للمجاعة وأَنه يوزعها بعدل ورحمة، وكان - كما قيل يعطى الطعام بمقدار معين لكل فرد - كما كان يشرف على التوزيع بنفسه ضمانًا للعدالة والدقة. وجاءَ إِخوة يوسف امتثالًا لأَمر أَبيهم، فدخلوا عليه ليطلبوا منه الطعام، فعرفهم يوسف، ولكنهم لم يعرفوه، لأَنهم أَلقوه في الجبِّ ثمَّ باعوه صبيًا (¬1)، ولم يتوهَّموا أَنَّه بعد العبوديَّةِ يصير إلى هذا السُّلطانِ، بالإضافة إلى أَنه فارقهم منذ مدَّةٍ طويلة، قيل إنَّها كانت أَربعين سنةً، وقد تزيَّا بِزىّ أَهل مصر، وعليه مظاهر السُّلطان. {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)}. المفردات: {جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}: أعدَّ لهم حاجتهم من الطعام الذي حضروا لجلبه من مصر في السنين العجاف، والجهاز في اللغة ما يحتاج إليه المسافر والعروس والميت وتجهيزه إحضاره. وقد أجمع القراء على فتح الجيم في الآية الكريمة، ويجوز فيها الكسر لغة وإن كان الفتح أشهر. ¬

_ (¬1) على ما جاء بإحدى الروايات، انظر ما كتبناه شرحا لقوله تعالى: (وشروه بثمن بخس) الخ ...

(خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ): أَي خير المضيفين - مأْخوذ من النُّزُلِ وهو الطعام الذي يقدم للضيوف الَّذِين ينزلون. أَو خَيْرُ مَن ينْزِلون الناس في منازلهم مأَخوذ من المنزل (بِجَهَازِهِمْ) وهو الدار. (سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ): سنطلبه من أَبيه ليرسله معنا. التفسير 59 - (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ): بينت الآية السابقة أن إخوة يوسف جاءُوه للحصول على الطعام زمن المجاعة، وأن يوسف عرفهم ولكنهم لم يعرفوه، لأنهم لم يخطر ببالهم أن من أَلقوه في الجب يؤول أمره إلى حكم مصر والسلطان على أَهلها وأَرزاقها. وجاءَت هذه الآية لتبين أول الخطوات التي اتخذها يوسف لإحضار أسرته إِليه، وهي طلبه من إخوته هؤلاءِ أَن يحضروا أَخًا لهم من أبيهم. ويظهر أَنه جرى من الحديث بينه وبينهم ما جعلهم يصرحون بأن لهم أخًا من أبيهم لم يحضروه معهم، حتى يكون مجرى الحديث هو الذي حمل يوسف ظاهرًا على أن يطلبه بالذات، حتى لا يثير انتباههم إِلى السبب الحقيقى في طلبه. والمعنى: ولمَّا جَهَّز يوسف إخوته بالطعام الذي طلبوه من الحَبِّ الذي استبقاه في سنابله لزمن المجاعة، قال لهم ائتونى بأَخ لكم من أَبيكم ليتبين صدقكم في طلب حمل زائد على أحمالكم أَجله. (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ): أَي أَلا تنظرون أَننى أعطى الكيل وافيًا تامًّا لكم ولكل الناس بالعدل، وأَنا أفْضَلُ المضيفين، ومن أَجل ذلك لا أحب أَن يكذب عَلَيَّ أَحد بأَخذ ما لا يستحقه، حتى لا يحرم رب أسرة آخر من حقه في الطعام، ولهذا طلبت أَن أَرى أَخاكم بنيامين الذي طلبتم له الطعام لكي أَتحقق من صدقكم.

60 - {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ}: أَى فإِن لم تأْتونى بأَخ لكم من أَبيكم، فلا طعام أَكيله لكم مستقبلا، ولا تقربون مني بنزولكم عندي في ضيافتى، يريد بذلك تهديدهم بالحرمان من الطعام وحسن الضيافة بعد هذه المرَّة، كلما احتاجوا إِليه في السنين العجاف ما لم يأتوه بأَخيهم من أَبيهم. 61 - {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}: أَثَّر فيهم تهديد يوسف لهم بالحرمان من الطعام مستقبلا فقالوا له: سنحاول مع أَبيه يعقوب ونحتال في أَخذه منه ونجتهد في ذلك - يشيرون بذلك إِلى عِزَّةِ وصعوبة مناله. ومع صعوبته وَعَدُوا يوسف بتحقيقه بقولهم له: (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ). مرضاة له وتفويتًا لما اعتقدوا أَنه تسرب إِلى ذهنه من أَنهم كاذبون، فإِن قيل إِن طلب يوسف لبنيامين، سوف يدخل الحزن على أَبيه فما حكمة ذلك؟ وقد أجيب عن ذلك بعدة أَجوبة، منها: أَن ذلك كان بأَمر من الله ابتلاءً ليعقوب، ليعظم ثوابه ولكى تتضاعف مسرته برجوع ولديه، إِلى آخر ما قيل في ذلك. {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ في رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}

المفردات: (فِتْيَانِهِ): غلمانه الكيالين؛ جمع فتى. (بِضَاعَتَهُمْ): ما جاءوا به من المتاع ليشتروا به الطعام. (فَي رِحَالِهِمْ): في أَوعيتهم، قال ابن الأَنبارى: يقال للوعاءِ رحل وللبيت رحل. (انقَلَبوا إِلى أَهْلِهِمْ): رجعوا إليهم. التفسير 62 - {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ في رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: كان إخوة يوسف يريدون شراءَ القمح مُبادَلَةً ببضائع أخرى جاءُوا بها معهم من الشام (¬1)، وكان يوسف يريد أَن يعطيهم القمح دون مقابل تفضلا عليهم، وخوفًا من أَن لا يكون عند أَبيه ما يرجعون به مرة أخرى ليشتروا به طعامًا آخر غير الذي أخذوه في هذه المرة، ولكى يكون ذلك التفضل وسيلة لتحقيق مطلبه من حضور بنيامين معهم عند حضورهم للامتيار (¬2) مرة أخرى ولهذا قال يوسف لغلمانه وعماله الموكول إِليهم بَيْعُ القمح وكيله وقَبْض الثمن - قال لهم -: اجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها ليجعلونها ثمنًا للطعام - اجعلوها - في أَوعيتهم سِرًّا ولا تشعروهم أَننى نزلت لهم عنها، وأَننى تفضلت عليهم بالقمح دون ثمن، لعلهم يعرفون هذه المكرمة ويقدرونها قدرها حين يرجعون إِلى أَهلهم ويفاجؤون بها في متاعهم، لعلهم يعودون إِلىَّ بأَخيهم الذي طلبته، فإِن التفضل عليهم بإِعطاءِ البدلين ولا سيما عند ندرة البضاعة من أَقوى الدواعى إلى الرجوع. ¬

_ (¬1) روى عن ابن عباس أنها كانت نعالا وأدما - أي جلدًا - وقيل إنها كانت دراهم ودنانير. (¬2) الامتيار: طلب الطعام وجلبه.

63 - {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: أَي فلما عادوا إِلى أَبيهم من مصر بمتاعهم، قالوا قبل أَن يشتغلوا بفتح المتاع: يا أَبانا مَنَعَ مِنَّا العزيز أن نكتال الطعام من عنده بعد هذه المرة حتى نأْتيه بأَخ لنا من أَبينا، ولما حكوا لأَبيهم القصة التي اقتضت أَن يطلب منهم العزيز هذا الطلب قالوا لأَبيهم: فأَرسل معنا أَخانا بنيامين إِلى مصر نكتل بسببه الطعام كما قال العزيز. وإنا له لحافظون من أَن يصيبه مكروه. 64 - (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ): أَي لم يحدث منكم ما يقتضي الاطمئنان على وعودكم، فقد وعدتمونى من قبل بالمحافظة على أَخيه يوسف وجئتمونى بدونه وزعمتم أَن الذئب أكله: فهل آمنكم على بنيامين إلا بالصورة التي أَمنتكم بها على أَخيه. دون أَي يتغير حالكم، ويدعونى إلى الاطمئنان لوعودكم. (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): أَي فالله خير منكم ومن سواكم حافظًا، وهو أَرحم الراحمين، فلذا أَكِل أَمر حفظه إِلى فضله ورحمته سبحانه، ولا أَعتمد في ذلك عليكم فقد حربتكم فما وجدت فيكم وفاءً بوعد، ولا حفظًا لعهد.

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)} المفردات: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ): المقصود بمتاعهم؛ الأَوعية التي فيها طعامهم وبضاعتهم وهى المعبر عنها سابقًا برحالهم في قول يوسف: "اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ". (مَا نَبْغِي): أَىُّ شيءٍ نبغيه ونطلبه أَكثر من كرم العزيز برده الثمن إِلينا وتوفيته الكيل لنا؟. (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا): أَي نجلب لهم المِيرَةَ وهى الطعام، من المَيْر وهو جلب الطعام (¬1). (كَيْلَ بَعِير ٍ): أَي طعامًا مكيلا مقداره حمل بعير لأَخينا بنيامين. (كَيْلٌ يَسِيرٌ): مكيل سهل على عزيز مصر لا يمنعنا إِياه لكرمه. (مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ): أَي عهدًا منكم مع الله تعالى يدعونى إِلى الثقة بوفائكم له. (إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ): أي إِلا أَن تُغْلَبُوا عليه. (وَكِيلٌ): موكول إليه تنفيذ هذا الميثاق. ¬

_ (¬1) انظر مختار الصحاح.

التفسير (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ): بيَّنت الآيتان الآيتان السابقتان أَن إِخوة يوسف لما رجعوا من مصر بالطعام إِلى أَبيهم، أَخبروه بأَن العزيز طلب منهم أَخًا لهم من أَبيهم جاءَ ذكره في حديثهم معه، وأَنه منع منهم الطعام في المستقبل إِن لم يأتوه به، وأَن أَباهم ذكر لهم أَنهم لم يحدث منهم ما يوجب الثقة بهم وائتمانهم على شقيق يوسف بعد أَن فجعوه في يوسف، وذكر لهم أَن الله هو الحافظ الرحيم، يكنى بهذه العبارة عن مخاوفه منهم على بنيامين، وأَنه يستعين بالله عليهم وجاءَت هذه الآية وما بعدها لتبين أَنهم أَقنعوه بكرم عزيز مصر حيث أَعطاهم الطعام، ورد إِليهم الثمن، وأَنهم سيزدادون به قيل بعير وأَن أَباهم وافقهم على إِرساله معهم، بعد أَن أَعطوه موثقا من الله برده إِليه. والمعنى: ولما فتحوا أَوعية طعامهم وجدوا بضاعتهم التي دفعوها ثمنا للطعام بمصر قد ردت إِليهم، حيث وضعت دون علمهم في رحالهم ففوجئوا بها في أَوعية طعامهم، فماذا قالوا لأَبيهم؟ (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا): قال إِخوة يوسف لأَبيهم لكي يوافق على إِرسال بنيامين معهم أَي شيءٍ نطلبه ليكون شاهدا على أَن سفر بنيامين معنا سيكون سببا في خير يأْتينا في هذه المجاعة، أَي شيءٍ نطلبه وراءَ هذا أَكرمنا وَوَفَّى لنا الكيل، ورد علينا الثمن الذي هو بضاعتنا، فكيف لا نستجيب لطلبه ونجيئه بأَخ لنا من أَبينا؟ (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ): أَي هذه بضاعتنا التي كنا نريد دفعها ثمنا للطعام ردَّها إِلينا العزيز نستعين بها ونَمِير أَهلنا أَي نجلب الطعام إِليهم مرة أُخرى ونحفظ أَخانا في هذه المرة حتى لا يصيبه مكروه، لأَنَّا لَن نشغل عنه باللهو واللعب، ونزداد بحضور بنيامين معنا وزن بعير يكال لنا من أَجله، زائدا على أَوساق أَبَاعِرنَا وأَحمالها ذلك الكيل الزائد الذي نطلبه من أَجل بنيامين قيل يسير على عزيز مصر وسهل عليه، فلا يخيبنا في طلبه فأَى شيءٍ نبغى وراءَ هذه الأَغراض المشتملة على إِطعام أَهلنا

مرة أُخرى وسلامة أَخينا، وسعة الرزق علينا، فلماذا لا تبعث به معنا حتى نحقق هذه المطالب. 66 - (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ): قال يعقوب لأَولاده وقد أَلانه كلامهم، وهيأَه لقبول مطلبهم لن أُرسل بنيامين معكم كما طلبتم حتى تعْطونى عهدا مع الله على رده وموثقا من جهته على ذلك. ليكون شهيدا عليكم ومنتقما منكم إِن لم تكونوا أَوفياء. (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ): مرتبط بالقسم المفهوم بما قبله كأَنه قال لهم: لن أُرسله معكم حتى تَحْلفوا باللهِ لتأتننى ببنيامين حين ترجعون من رحلتكم ثانيا إِلى مصر، إِلا أَن تغلبوا بما لا قبل لكم به فيحول دون وفائكم بقسمكم. وصورة الميثاق الذي طلبه أَبوهم منهم أَن يقولوا مثلا: والله لنأتينك ببنيامين ونحن عائدون من مصر بالطعام إِلا أَن نغلب على أَمرنا بما لا قبل لنا به. {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: أَي فلما أَعطى الأَسباط أباهم يعقوب - عليه السلام - يمينهم وعهدهم مع الله، قال يعقوب مؤَكدا التوثيق: (اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ): أَنا وأنتم من طلبى القسم وصدور العهد منكم، (وَكِيلٌ): مطلع رقيب، فإِن وفيتم أُجرتم وإِن خنتم انتقم الله منكم. {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. التفسير 67 - {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} الآية.

كان بنو يعقوب فيهم جمال وكانوا أحد عشر متجانسين تجانس الكواكب، وقد تجملوا في هذه المرة أَكثر من المرة الأَولى بعد أَن أَدركوا كرامتهم على العزيز من إعطائهم الطعام في المرة السابقة دون مقابل ورده بضاعتهم عليهم، ولهذا كله خَافَ عليهم أَبوهم العين إِن دخلوا مصر من باب واحد وهم على هذا النمط الفريد. وبخاصة في زمن المجاعة حيث الناس في شدة، وكانت المدن في الزمان السابق يحيط بها أَسوار لحمايتها من الأعداءِ، وفي هذه الأَسوار أَبواب للدخول والخروج منها، فلهذا أوصاهم أَبوهم أن لا يدخلوا مصر من باب. واحد بل من أبواب متفرقة. قال العلامة أَبو السعود: وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنْكر، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ" وقوله: "إِن الْعَيْنَ لَتُدْخِل الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ " وقد كان صلى الله عليه وسلم يُعَوّذ الحسنين - رضي الله عنهما - بقوله: (أَعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّة وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمةٍ) وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "كان أَبوكما يُعَوِّذُ بهَا إِسماعيل وإِسحاق عليهم السلام". رواه البخاري في صحيحه، وقد شهدت بذلك التجارب. أهـ. والمعنى؛ وقال يعقوب لبنيه بعد أَن حلفوا له: لا تدخلوا مصر من باب واحد ولكن ادخلوها من أَبواب متفرقة بحيث لا يبدو لكم اجتماع حتى تسلموا من حسد الحاسدين ولست أُغنى عنكم بحذرى هذا من قضاءِ الله من شىءٍ وإِنما هو نوع من التدبير، وأما ترتيب المنفعة عليه هو إِلى الله العزيز القدير، كما أَنه استعان باللهِ وهرب منه إِليه، وقال يعقوب أيضًا ما الحكم في أمر الخلائق جميعًا إِلا لله وحده، عليه دون سواه توكلت واعتمدت، وعليه فليتوكل المتوكلون، فإِنه مفزع كل خائف، ومجيب كل سائل، ومعاذ كل مستعيذ. وفي الآية الكريمة هداية يعقوب لأَولاده، وإرشادهم إِلى التوكل على الله فيما هم بصدده غير معتمدين كل الاعتماد على ما وصاهم به من التدبير.

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)} المفردات: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْا): من الأَبواب المتفرقة التي أَمرهم بالدخول بها. (لِمَا عَلَّمْنَاهُ): لتعليمنا إِيه بالوحى. (فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): فلا تأْسف ولا تحزن بسبب ما صنعوا. التفسير 68 - (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ... ) الآية. أَي خرج إِخوة يوسف من الشام متجهين إِلى مصر حتى وصلوا إلى مداخلها، ولما دخلوا من أَبواب متفرقة حيث أَمرهم أَبوهم. (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً في نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا): أَي ما كان دخولهم من حيث أَمرهم أَبوهم يدفع عنهم من أَمر الله شيئًا بما قضاه حسب إِرادته، لعلَّه يدفع إِصابة العين، وذلك باب ربط المسببات بأَسبابها العادية كما جرَّبه الناس، ولكن إِصابة العين لم تقع لهم لكونها غير مقدرة عليهم، ولو كانت مقدرة لم يدفعها دخولهم من أَبواب متفرقة.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ): وإِن يعقوب لصاحب علم جليل لأَجل تعليمنا إِياه بالوحى، حيث لم يعتقد أَن الحذر يدفع القدر، وأَن التدبير له حظ من التأْثير بتغيير قضاء الله، ولهذا قال لهم: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أَي وما أَدفع عنكم بهذا التدبير من قضاءِ الله، وإِنما يحذر الناس ويدبرون لعل تدبيرهم يرتبط بقضاءِ الله وقدره. فاتخاذ الأَسباب مشروع لهذا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). أَي ولكن أَكثر الناس لا يعلمون أَسرار القدر، ويزعمون أَن الحذر يغنى من القدر. 69 - (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ): أَي ولما دخلوا على يوسف ومعهم بنيامين أَكرمهم لأنهم وفوا بوعدهم معه، وآوى إِليه إِخاه الشقيق بنيامين حيث ضمه إليه سكنا وطعامًا، بطريقة لا تدخل ريبة في نفوسهم، ولما خلا به. {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَي قال يوسف لبنيامين مؤْنسا له وكاشفا له عن سره الخطير، إِنى يا بنيامين أَنا يوسف أَخوك، وسرد عليه قصته ثم قال فلا تحزن بسبب ما كانوا يعملونه بنا فيما مضى، فقد أَحسن الله إِلينا وجمعنا بخير، ولا تعلمنهم بما أَعلمتك به، حتى تمضى الأَمور إلى غايتها. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ في رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} المفردات: (جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ): الجهازة في اللغة؛ ما يحتاج إِليه إلمسافر والعروس والميت، وتجهيزهم بجهازهم تنجيز ما يحتاجون إليه من الطعام وإِعداده في أَوعيتهم.

(السِّقَايَة): المشربة الثى يُشْرَبُ بِها، وهي والصواع شىءٌ واحد، قال الشاعر: نشرب الخمر بالصُّواع جهارًا. (رَحْلِ أَخِيهِ): المراد به وعاءُ الطعام الخاص بأخيه بنيامين. (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ): نادى مناد. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ): العير هي الأَبل التي عليها الأحمال، والمراد بندائها نداءُ أَصحابها، وقال أبو عبيد هي الإبل المَرْحُولَةُ المركوبة. (زعيم): كفيل وضمين. التفسير 70 - (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ في رَحْلِ أَخِيهِ): تقدم بيان أَن يوسف عليه السلام عقد العزم على استقدم آل يعقوب إِلى مصر بعد أَن وفد إِخوته عليه أَول مرة ليحصلوا على الطعام لذويهم، وكانوا قد حدثوه عن أَخ لهم من أَبيهم هو بنيامين، ولعلهم طلبوا له طعاما، فطلب منهم أَن يحضروه معهم في المرة المقبلة ليأُخذ طعامه بنفسه، ولهذا قالوا لأبيهم حين طلبوه منه بعد عودتهم من مصر: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}. أَي نزداد قيل بعير من أَجل بنيامين فلما حضروا به في المرة الثانية وأَراد يوسف أَن يستبقيه، لم يجد سببا لاستبقائه عنده إِلا أَن يأَمر بدس إِنائه الذي يشرب به في رحل بنيامين، وكان إِناءً ثمينًا يمكن الاتهام بسرقته لارتفاع قيمته فلهذا جعل ذلك الإِناءَ المعبر عنه بالسّقاية في الآية - جعله في رحل أخيه بنيامين أَي وعاءِ طعامه، وسيأْتى الكلام عن الحكمة في اختياره هذا السبب لاستبقائه لديه. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ): أَي ثم بعد أَن جعل السقاية في رحل بنيامين وركب إِخوة يوسف دوابهم، نادى منادٍ فيهم يا أَصحاب العير إِنكم لسارقون، ولم يعين لهم ما سرقوه في ندائه ليستدعى كامل انتباههم، ويَظْهَرُ - والله أَعلم - أَن هذا الذي حدث كان بموافقة من بنيامين ليبقى عند أَخيه يوسف حتى يأْتي والده وأُسرته.

فإِن قيل كيف رضي بنيامين بذلك مع ما فيه من زيادة الحزن على أبيه، وكيف ينسب يوسف السرقة إِلى إِخوته وهم برآءُ منها. والجواب عن الأول: أَن الحزن كان قد غلب على يعقوب بفقد يوسف فلا يؤَثر فيه كثيرا فَقْدُ بنيامين، ولهذا لمَّا لَمْ يَعُدْ بنيامين لم يذكر يعقوبُ سوى يوسف، إِذ قال: (يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ). والجواب عن الثاني: أَنهم قد سرقوا يوسف من أَبيه والقوه في الجب، ولذا قيل إِنكم لسارقون ولم يعين لهم ما سرقوه. 71 - {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ}: أَي قال إِخوة يوسف وقد أَقبلوا على من ينادونهم ويتهمونهم بالسرقة ماذا ضاع منكم حتى اتهمتونا بسرقة؟ 72 - {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}: أَي قال هؤُلاءِ المنادون نفقد سقاية الملك الثمينة التي يشرب بها، ويطلق صواعَ. (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ): أَي وقال من آذنهم وأَعلمهم بأَنهم سارقون - تلطفا معهم ومنعا لإِحراجهم بتفتيش جهازهم، وإِثبات السرقة عليهم - قال لهم -: سيكون لمن جاءَ بصواع الملك من تلقاءِ نفسه قبل التفتيش حمل بعير من الطعام مكأَفاة له على إِظهاره، فربما وجد في رحالهم اتفاقا من غير قصد، فلذا يكافأُ من جاءَ به وعثر عليه، وأَكد المنادى تحقيق هذا الوعد بقوله وأَنا بتحقيقه زعيم أَي ضمين وكفيل.

{قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (74) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} التفسير 73 - (قالُوا تالله َقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ): تالله بمعنى والله، وتختص التاء بالدخول على لفظ الجلالة على الأَرجح، ويُقسم بهذا القسم عند التعجب. والمعنى: وحق الله لقد عرفتم من استقامتنا في المعاملة، وما نحن عليه من التدين والتَّصَوُّن، أَننا ما جئنا لكي نفسد في الأرض بسرقة أو غيرها، بل جئنا للحصول على الطعام، وما كنا من قبل سارقين، فما حدثت منا سرقة في حياتنا ولا وصفنا بها فكيف يستقيم وصفكم لنا بسرقة صواع الملك؟ 74 - {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}: قال عمال الملك لإخوة يوسف فما جزاءُ سرقة صواع الملك في شريعتكم، إِن كنتم كاذبين في دعواكم أَن الصواع ليس في أوعيتكم:

75 - {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}: أي قال إخوة يوسف جزاءُ الصواع المفقود في شريعتنا أَخذ من وجد في رحله، واسترقاقه فكذا يعاقب السارق عندنا وهذا جزاؤُه، ثم أَكدوا هذا الحكم مرة أُخرى بقولهم: (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ): أَي مثل هذا الجزاءِ نجزى الظالمين بالسرقة في شريعتنا، يقولون ذلك ثقة ببراءَتهم منها، وهم غافلون عما دُبِّر لهم. 76 - (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيه): فبدأَ يوسف بتفتيش أَوعية إِخوته العشرة الذين هم من أَبيه، قبل تفتيش وعاء أَخيه الشقيق بنيامين، لنَفْىِ التهمة في أَول الأمر عن نفسه إِن بدأَ به، فإِنهم حينئذ يقولون إِنه جعلنا نطلبه من أَبيه ليفتعل هذه التهمة لأَمر يريده لم ينكشف لنا بعد، فلهذا أَبقاه بعدهم، ولينسيهم فرحتهم ببراءَتهم أَولا، ما حدث لأَخيهم من أَبيهم أَخيرا، بل وليدفعهم ذلك إِلى قالة السوءِ فيه وفي يوسف وهو قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وسيأْتى الكلام في بيانه. {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}: أي مثل ذلك الكيد المحكم حيث أَرشدنا الإخوة إلى الإِفتاءِ باسترقاق من وجد في رحله، مثل ذلك الكيد عندنا لأَجل يوسف أَي دبرنا له المقدمات لكي يحصل بها غرضه وتلك المقدمات هي دس الصواع في رحالهم وما تلاه حتى آل الأَمر إِلى تحقيق ما أَراده من بقاء بنيامين معه. (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الْمَلِكِ): هذا تعليل لما قبله، أَي كدنا ليوسف بهذه الطريقة، لأَنه ما كان يستطيع أَن يأْخذ أَخاه فيما يدين به الملك في أَمر السارق أَي في حكمه وقضائه الذي يَدِينُ به هو وشعبه فإِنه لم يكن جزاءُ السارق فيه الاسترقاق، بل عقوبة أُخرى كالضرب والتغريم، فلهذا جعله يحتكم إِلى شريعتهم حتى يستبقيه لديه.

(إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ): أَي ما كان يوسف ليأْخذ أَخاه في دين الملك في حال من الأحوال إِلا في حالة مشيئة الله هذا الكيد والتدبير، فإِن دين الملك حينئذ يقره ما دام السارق يدين به ويعتقده، لأَنه يحقق له من الجزاء أَكثر مما عنده في قوانينه، ولهذا وافقهم على فتواهم وأَبقاه عنده. (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ): أَي نرفع درجاتٍ عالية من العلم والحكمة في التصرف من نشاءُ من عبادنا كما رفعنا يوسف، وما كان ليصل إِلى ما وصل إليه لولا تدبير الله وتهيئته أَسبابه، فإنه فوق كل ذو علم إلى علمه. صاحب علمٍ من الخلق عليم لا غاية لعلمه وهو الله تعالى ولولا إِرشاده وتعليمه لما وصل ذو علم إلى علمه. (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ في نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)) المفردات: (شَرٌّ مَكَانًا): أَسوأُ مكانة ومنزلة. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ): والله عالم أَبلغ العلم بحقيقة ما تزعمون منْ صدور السرقة عن أَخيه. التفسير (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ): تقدم الحديث عن وضع صواع الملك الثمين في رحل بنيامين سرًّا، وإن رجال يوسف اتهموا إِخوته بسرقة الصواع قائلين لهم: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) فلما نفوا

عن أَنفسهم هذه التهمة سألوهم عن حكم سارقه في شريعتهم إِن ظهر كذبهم. {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ في رَحْلِهِ} فبحث يوسف في أَوعيتهم قبل وعاءِ شقيقه بنيامين، ثم استخرجه من وعائه. وبهذه الحيلة استطاع إِبقاء أَخيه معه وهم لا يشعرون أَن هذه القصة مصنوعة لتحقق هذا الغرض، وجاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان الأحداث التي تلت ذلك، والمعنى: قال إِخوة يوسف غير الأَشقاءِ إِن يسرق بنيامين فقد سرق أَخ شقيق له من قبله، يقولون ذلك تبرئة لأَنفسهم من وصمة السرقة، مُدَّعين أَن خلق السرقة في بنيامين قد سبقه إِليه أخ شقيق أَكبر منه - يعنون يوسف عليه السلام - وأَنهم برآءُ من هذا الخلق لأَن الأَم مختلفة ومَا دَرَوْا أَن - يوسف الذي اتهموه زُورًا يسمع كلامهم ويعرف أَنهم كاذبون. واختلف فيما نسبوه إِلى يوسف، ومن أَظهر ما قيل فيه ما أَخرجه ابن مَرْدَوَيْه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال في الآية: "سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أَبي أُمه من ذهب وفضة، فكسره وأَلقاه على الطريق، فعيره إِخوته بذلك" ويرى الحسن أَنهم كذبوا على يوسف فيما نسبوه إليه، ولعله لا تنافى بين هذا وما روى عن ابن عباس إن صح فإِن من أَخذ الصنم لكي يحطمه لا يعتبر سارقا شرعا، فيكون وصفهم له بالسرقة كذبا؛ لأنه مخالف للشرائع، ويكونون بذلك كاذبين على يوسف. {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ في نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}: أَي فأَخفى يوسف في نفسه هذه الفرية التي افتروها عليه، ولم يظهرها لهم أَنها فرية، كتمانا لأَمره حتى يفاجئوا في نهاية القصة بما آل إِليه أَمره في الملك فيندموا على ما فرط منهم في حقه. ولكن قال في نفسه عنهم: أَنتم أَسوأُ مني منزلة في السرقة، وأقوى في الأَتصافِ بهذا الوصف حيث سرقتمونى من أَبي وأَلقيتمونى في الجب ولولا رحمة ربي لكنت من الهالكين، أَما أَنا فلم أَسرق ولكننى حطمت الصنم وأَلقيته على الطريق.

المفردات: (اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ): يئسوا منه أَشد اليأُس. (خَلَصُوا نَجِيًّا): انفردوا عن يوسف غيره متناجين أَي متسارِّين، والنِّجِىُّ من تتحدث معه سِرًّا واحدًا أَو أَكثر، والنجوى السر. (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا): هي مصر والمراد بها أَهلها. (وَالْعِيرَ): وأَصحاب العير الذين كانوا معنا. التفسير 80 - (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا): أَي فلما يئسوا من يوسف أَن يجيبهم إِلى ما طلبوه منه من ترك بنيامين وأَخذ أَحدهم مكانه، حيث قال لهم على سبيل الحسم: (مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فإن ذلك يدل على غاية الكراهة لما طلبتوه حتى تعوّذ باللهِ من حصوله - فلما يئسوا منه أشد اليأس لذلك انفردوا عنه وعن أَعين الناس متحدثين سرًّا في طريقة الخلاص من هذه المشكلة، كيف يبلغونها لأبيهم؟ وماذا يكون وقعها عليه؟ وهو لم ينس يوسف بعد، ولم تبرد نار فؤَاده. (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ): قال كبيرهم في السنن أَو في المنزلة حين رآهم مجمعين على أَن يعودوا جميعًا دون بنيامين، أَلم تعلموا أَن أَباكم قد أَخذ عليكم عهدا وثيقًا من الله، حيث حلفتم به سبحانه لنرجعن ببنيامين إِليه، فكيف تعودون إِليه وليس معكم، أَو لم تعلموا مِنْ قَبْلُ - أَي من قبل بنيامين - تفريطكمْ وتقصيرَكُم في شأُن يوسف وأَنكم لم تحفظوا في حقه عهدكم مع أَبيكم، إِذ قلتم له مرة: (وَإِنا لَهُ لَنَاصِحُون). وأُخرى: "وأَنَّا لَهُ لَحَافظُون". فكيف نعود إِليه بعد كل هذا؟

إِنا نراك من المحسنين إِلينا، فأَتْممْ إِحسانك علينا، أَو نراك ممَّن عادتهم الإِحسان، فلا تغير عادتك معنا، فنحن أَحق الناس بذلك، نظرا لحال أَبيه والتزامنا أَن نرده إِليه! وهم حين عرضوا عليه أَن يسْرِقَّ أَحدهم مكانه لا يرون أَن ذلك مشروع عندهم، فإنَّه لا يؤاخذ بالذنب سوى صاحبه، ولكنهم يقولون ذلك مبالغة في استنزاله عن أَخذ بنيامين. 79 - {قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ}: قال يوسف: نعوذ بالله ونبرأَ إِليه من أَن نأْخذ إِلا من وجدنا صواعنا عنده بموجب فتواكم طبقا لشرعكم، فلا نحب الإِخلال بها، إِنا إِذا أَخذنا غيره ولو يرضاه لظالمون في مذهبكم وشريعتكم ونحن لا نحب ذلك. والتعبير بضمير المعظم نفسه (إِذًا لَظَالِمُونَ) بدلا من ضمير المفرد - إِنَّى إِذًا لَظَالِم - جرى على سنن الملوك. {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)}

المفردات: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ): يئسوا منه أَشد اليأُس. (خَلَصُوا نَجِيًّا) انفردوا عن يوسف غيره متناجين أَي متسارِّين، والنِّجِىُّ من تتحدث معه سِرًّا واحدًا أَو أَكثر، والنجوى السر. (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا): هي مصر والمراد بها أَهلها. (وَالْعِيرَ): وأَصحاب العير الذين كانوا معنا. التفسير 80 - (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا): أَي فلما يئسوا من يوسف أَن يجيبهم إِلى ما طلبوه منه من ترك بنيامين وأَخذ أَحدهم مكانه، حيث قال لهم على سبيل الحسم: (مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) فإن ذلك يدل على غاية الكراهة لما طلبتوه حتى تعوَّذ باللهِ من حصوله - فلما يئسوا منه أشد اليأس لذلك انفردوا عنه وعن أَعين الناس متحدثين سرًّا في طريقة الخلاص من هذه المشكلة، كيف يبلغونها لأبيهم؟ وماذا يكون وقعها عليه؟ وهو لم ينس يوسف بعد، ولم تبرد نار فؤَاده. (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ): قال كبيرهم في السنن أَو في المنزلة حين رآهم مجمعين على أَن يعودوا جميعًا دون بنيامين، أَلم تعلموا أَن أَباكم قد أَخذ عليكم عهدا وثيقًا من الله، حيث حلفتم به سبحانه لنرجعن ببنيامين إِليه، فكيف تعودون إِليه وليس معكم، أَو لم تعلموا مِنْ قبل - أَي من قبل بنيامين - فريطكم وتقصيرَكُم في شأْن يوسف وأَنكم لم تحفظوا في حقه عهدكم مع أَبيكم، إِذ قلتم له مرة: "وأَنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ".وأُخرى: "وأَنَّا لَهُ لَحَافظُون". فكيف نعود إِليه بعد كل هذا؟

{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي}: فبعد كل هذا لن أُفارق أَرض مصر حتى يأَذن لي أَبي بالعودة إِليه، أَو يحكم الله لي بالخروج منها على وجه لا يؤدى إِلى نقض الميثاق، أَو بخلاص أَخى بسبب من الأسباب (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ): لأنه لا يحكم إِلا بالحق العدل. ثم وصل الكبير كلامه بقوله: 81 - {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}: أَي عودوا إِلى والدكم يعقوب فحدثوه بما وقع، قولوا له يا أَبانا إن ابنك بنيامين سرق صواع الملك ووضعه في رحله، فأَخذه وزير العزيز طبقا لشريعتنا وكان قد استفتانا قبل أَن نعلم الأَمور ويَبِينَ لنا الحال، وما شهدنا عليه بالسرقة إِلا بما علمناه من وجود الصواع في رحله، وما كنا لما غاب من أَمره عالمين، فلذا أعطيناك المواثيق فاعذرنا، فإن الذنب ليس ذنبنا. ثمَّ أَشار عليهم بما ظن أنه يحمل أباهم على التصديق فقال: 82 - (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا): أَي وأَرسل إلى أَهل مصر المتصلين بالملك حيث كُنَّا معهم فيها واسألهم عن ذلك، واسأَل القافلة التي كُنَّا فيها، فإِن القصة شائعة فيهم ومعروفة لديهم، ثم ختم الكبير كلامه لإِخوته بجملة يوكدون لأَبيهم بها أَنهم صادقون فقال: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ): فلا نخاف سؤالهم - قيل إِن أَصحاب العير كانوا من الكنعانيين، وكانوا جيران يعقوب عليه السلام.

(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)) المفردات: (سَوَّلَتْ): زينت وسهَّلت. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): هو الذي لا يكون معه ضجر ولا شكوى لأَحد. (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ): الألف في "أَسَفَى" بدل من ياءِ المتكلم للتخفيف والأَصل يا أَسفِى بكسر الفاءِ، والأَسف أَشد الحزن على ما فات. (فَهُوَ كَظِيمٌ): فهو مملوءُ القلب غيظا، لكنه لا يظهر، وقيل مملوءُ القلب حزنا ممسك له لا يبديه. من كَظَم السِّقَاءَ إذا شدَّه بَعْد ملئه، فَهوَ فَعِيل بمعنى مفعول. (وَابْيَضتْ عَيْنَاهُ): أَصابتها غشاوة بيضاءُ. التفسير 83 - (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): طوى القرآن من القصة ما ليس بحاجة إِلى التصريح، وبيان ذلك أَن هذا القول من يعقوب رَدَّ به على أَولاده بعد عودتهم إِلى أَرض الشام وإِخباره بالقصة على نحو ما أَوصاهم به كبيرهم. والمعنى: عاد إخوة يوسف من مصر برحالهم، وأَخبروا أَباهم بالقصة على نحو ما وصَّاهم به كبيرهم - قال يعقوب متهما لهم: ليس الأَمر كما زعمتم، بل زينت لكم أَنفسكم أَمرا في شأْنه لتتخلصوا منه ففعلتم ما زينته لكم أَنفسكم، فصبر جميل على ما فعلتم أَحق بي. واعلم أَنهم لم يخبروا أَباهم في شأْن بنيامين إِلا بما ظهر لهم، وأَنهم لم تسول لهم نفوسهم في شأْنه أَمرًا - كما قال أَبوهم يعقوب عليه السلام - فكيف قال لهم ماقال؟!

أَجاب ابن المنيَّر عن هذا السؤَال بقولِه: إِنهم كانوا عند أَبيهم متهمين لما أَسلفوه في حق يوسف، وقامت عنده قوينة تؤَكد التهمة وتقويها وهي أَخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك في دين ملك مصر، ولا في دين غيره، وإِنما كان ذلك في شرع يعقوب الذي يدين به أَولاده، فظن أَنهم هم الذين أَفْتَوْه بذلك عمدا بعد ظهور السرقة التي ذكروها، ليتخلف بنيامين دونهم. اهـ. هذا تلخيص ما حكاه الآلوسى عن ابن المنير فى جواب هذا السؤال. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ): لم يفقد يعقوب الأَمل في رحمة الله، لم يقطع الرجاءَ في عودة يوسف وبنيامين إليه فلذا قال عقب اتهامه لأَولاده في شأْن بنيامين: عسى الله أَن يأْتينى بأَولادى جميعًا يوسف وبنيامين، وابنى الكبير الذي تخلف في مصر حتى آذن له بالعودة أَو يحكم الله له. وأَكَّد رجاءه في الله بقوله: (إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ): إِنه هو الواسع العلم الذي يبتلى بحكمة ويرفع البلاءَ بحكمة وهو أَرحم الراحمين، هذا وقد قيل إِن مبعث الرجاءِ عنده تلك الرؤيا التي رآها يوسف في صغره "إِنى رَأيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ". فكان ينتظر تحقيقها، ويحسن ظنه باللهِ تعالى، وبخاصة بعد أَن اشتد به الكرب، وقد جرت سنته تعالى أَن يجعل بعد الشدَّة المستحكمة فرجًا وبعد العسر يسرًا. 84 - (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ): وأَعرض عن أَولاده كراهة لما سمعه منهم، وقال: يا أشد الحزن والأَسف على يوسف تَعال إِلى، فقد تجدد ما يدعونى إِلى استدعائك، قالوا: وإِنَّما تأَسَّف على يوسف مع أَن الحادث الجديد هو مصيبة بنيامين وابنه الكبير الذي تخلف لأَجله، لأَن مصيبة يوسف كانت أَساس حزنه، وحبه كان آخذًا بمجامع قلبه، ولأَنه كان واثقا بحياة ولديه بمصر، طامعا في عودتهما إِليه، أَما يوسف لم تكن عنده بارقة أَمل إِلا فى رحمة الله تعالى.

(وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ): وابيضت عينا يعقوب بسبب الحزن وما كان يسببة له من دوام البكاءِ، فهو مملوء من الحزن على أَولاده الغائبين، ومملوءٌ من الغيظ من أَولاد الحاضرين، وكان عماه هذا مؤقتا إِن صح القول به، وكان بعد أَن بلغ دعوة ربه، فلا يقال: إِنه من الأَمراض المانعة من التكليف بالرسالة. ومن العلماءِ من قال: إِن أَمره لم يصل إِلى حد العمى. فقد كان يرى إِلى حدٍّ ما. فَإِنْ قِيل كَيف يكون نبيًّا ويبلغ به الحزن إِلى هذا الحد؟ قلنا أُجِيب عن ذلك بعدَّةِ أَجْوبة، خَيْرُهَا: أَنَّ الحزن ليس محظورًا، وإِنما المحظور الولولة وشق الثياب والكلام بما لا ينبغي. فقد روى الشيخان من حديثِ أَنس أَنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على ولده إِبراهيم وقال: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ والقَلْبَ يَخْشَعُ وَلاَّ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِى ربَّنَا، وَإنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزونُونَ". وقد بين الله شدة حزن يعقوب بقوله: (فَهُوَ كَظِيمُ): أي مملوءٌ من الحزن ممسك عليه لا يبثه. ومِمَّا شَدَّد عليه الحزن حتى امتلأَ، ما روى عن ابن عباس أَنه كان يعلم أَن يوسف حَىُّ ولا يدرى أَين هو؟ انظر القرطبى والآلوسى. (قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)) المفرادت: (تَاللهِ): أَي والله؛ فالتاءُ حرف يستعمل في القسم بالله خاصة. (تَفْتَأُ): أَي ما زلت. قال الكسائي: فَتَأُتُ وَفَتِئْثُ أَي ما زلتُ وقال الفراءُ: إِن الكلام هنا بتقدير

(لا) أَي: (لاَ تَفْتَأُ). وكثيرًا ما تضمر (لا) في جواب القسم كما فى قول امرىءِ القيس: فقلت يمين الله أَبرح قاعدًا ... ولو قَطَّعوا رأْسِى لديكِ وأَوصالى أَي بحق الله لا أَبرح، وهو رأْى الخليل وسيبويه، وعلَّلُوا جواز ذلك بأَنه لا يلتبس بالإِثبات إِذ لو كان على الإِثبات لوجب اقترانه باللام والنون كقولك: تَالله لأفعلنَّ كَذا. (حَرَضًا): الحرض لُغَةً فساد الجسم أَو العقل من الحزن أَو العشق أَو الهَرَم كما قال أبو عبيد وغيره. (بَثِّى): البث المصيبة التي لا قدرة لأحد على كتمانها فيبثها وينشرها. التفسير 85 - (قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ): أَي قال أَولاد يعقوب لما سمعوه يردد الأَسف على يوسف بعد فجيعته في بنيامين دون أَن يذكر في أَسفه بنيامين - قالوا له: والله يا أَبانا لا تبرح تتذكر يوسف بعد مضى هذه السنين الكثيرة على فقده، وتبدى أَشد الحزن وأَغزر البكاء عليه، حتى تشرف على الهلاك أَو تكون من الهالكين حقيقة فخفف على نفسك ولا تتلفها بالهم والأَسى! 86 - (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوبَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ): قال يعقوب مجيبًا أَولاده عقب لومهم إِياه على حزنه الذي طال أَمده بعد فقده يوسف: - قال يعقوب لهم - ما أَشكو مصببتى التي لا أَستطيع إِخفاءَها، ولا أَشكو حزنى لأَحد إِلا إِلى الله فهو القادر على كشف التفسير، وأَتبع يعقوب كلامه هذا بما يفيد أَمله في رحمة الله فقال: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ): وأَعلم من شأْن الله ورحمته ما لا تعلمون، فقد كان يحيى بوجدانه النبوى الصادق وبما قام لديه من الأَمارات أَن يوسف حى لم يمت وأَنه وصل أَو سيصل إلى منزلة عظيمة بين الناس، وأَن شمل الأُسرة سوف يجتمع بزعامة يوسف.

وأَول الشواهد على ذلك: رؤيا يوسف التي رآها في صباه؛ لقد رأَى أَحد عشر كوكبًا، ورأَى الشمس والقمر، رأَى هؤلاء جميعًا له ساجدين، فلما سمع يعقوب من يوسف هذه الرؤيا الصادقة أَدرك أنها ستتحقق، واوصاه أَن يكتمها عن إخوته حتى لا يكيدوا له. وثانى هذه الشواهد: هذا القميص الذي جاءُوا به ملوثًا بالدم، زاعمين أن الذئب أكله وأَن الذي تلوث به القميص دمه، وكان القميص بغير تمزق، فأدرك أن قصة الذئب مخترعة مصنوعة إذ لو أكله لمزَّق قميصه. ولذا كذبهم فقال: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ". وثالث هذه الأَمارات: ما أَخبره به أَولاده من سيرة عريز مصر نحوهم وعطفه عليهم، وضيافته لهم، فاحسَّ أَنهم يتحدثون عن أَمله المنشود ولذلك قال لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)) المفردات: (فَتَحَسَّسُوا): التحسس؛ طلب معرفة الشىءِ بالحواس. (ولاَ تَيْئَسُوا مِنِ رَّوْحِ اللهِ): ولا تقنطوا من رحمته التي يحيى بها العباد. التفسير 87 - (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ0 ... ) الآية. أَي يا بنىَّ ارجعوا إلى مصر حيث ينتظركم أخوكم الكبير فتعرَّفوا جميعًا من أَخبار يوسف وأَخيه، وابحثوا عنهما بكل قواكم جادّين دائبين، ولا تقنطوا من رحمة الله التي وسعت كل شىءِ، إِنه لا يقنط من رحمة الله سبحانه إِلا القوم الكافرون، لجهلهم به وبصفاته، وأَما العالمون به فلا يقنطون بحال.

واستدل بالآية جمع من العلماء على أَن الياس من رحمة الله كفر! والجمهور على أن اليأْس من رحمته تعالى من الكبائر، اللهم إِلا إذا اقترن بما يدل على نسبته سبحانه إلى العجز عن تنفيس الكرب أو مغفرة الذنب، وأَيًّا ما كان الأمر فاليأس من رحمة الله من صفات الكفار، ومن أَسباب الكفر والعياذ باللهِ تعالى. ووصية يعقوب عليه السلام لبنيه في الآية الكريمة درس من دروس النبوّة في شحذ الهمم وتربية العزائم. {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} المفردات: (وَجئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ): المراد من البضاعة هنا: الثمن والمزجاة المدفوعة التي يردها من يراها لرداءَتها من أزجيته إذا دفعته، والريح تزجي السحاب: تسوقه وتدفعه. وقال ثعلب: البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة اهـ. ومن معانيها القليلة كما ذكره صاحب القاموس، ولعل هذا المعنى هو المراد هنا.

التفسير 88 - (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ... ) الآية. أَي فلما دخلوا على يوسف بعد ما رجعوا إِلى مصر امتثالاً لأمر أَبيهم! وإِنما لم يذكر هذا المطوىّ إيذانًا بمسارعتهم إلى الامتثال، وإِشعارًا بأَن هذا أَمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وهذه هي المرة الثالثة من ذهابهم إلى مصر. (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ)): خاطبوه بذلك تعظيمًا على حد خطابهم السابق، والمراد - كما قال الفخر الرازى وغيره - يأَيها الملك القادر المنيع. (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ): أَي الهزال من شدة الجوع - والمراد بالأَهل ما يشمل الزوجة وغيرها. (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ): قليلة القيمة. لا تصلح أَن تكون ثمنًا للطعام الذي نريده، قيل كانت بضاعتهم من متاع الأَعراب. صوفًا سمنًا. ونحوهما. وإنما قالوا ذلك ليكون باعثًا على الشفقة والرأْفة وتحريك عاطفة الرحمة. تمهيدًا لقولهم: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ): أَي أَتممه لنا كعادتك. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا): برد أَخينا إِلينا وهو الأَنسب بحالهم نظرًا إلى أَمر أَبيهم. وإنَّما سمَّوه تصدقًا - قصدًا إِلى استعطافه! (إِنَّ اللهَ يَجْزِى الْمتَصَدِّقِينَ): بما هم أَهله. بل بما هو - تبارك وتعالى - أهله: بإختلاف ما ينفقونه. وإثابتهم بما هو خير منه في الآخرة والأولى. 89 - (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ... ): أَي قال يوسف عليه السلام مُجِيبًا لإِخوته وقد هزَّه استعطافهم. وأَخذته الشفقة عليهم: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأَخيه إِذ أَنتم جاهلون بقبحه فلذا أَقدمتم عليه. أَو جاهلون عاقبته!! - قال ذلك نصحًا لهم وتحريضًا على التوبة وشفقةً عليهم لما رأى عجزهم،

ومسكنتهم، لا معاتبةً لهم وتثريبًا (¬1). . . إيثارًا لحق الله تعالى على حق نفسه فى ذلك المقام الذى يتنفس فيه المكروب ويتشفى فيه المغيظ المحنق. فلله تعالى هذا الخلق النبوى الكريم 90 - (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي. . .) الآية. هذا استفهام تقريرى ولذا أكَّدوه بإِن واللام. قالوه استغرابًا وتعجبًا وفرحًا بنجاح تحسسهم الذى وصاهم أَبوهم به. (قَالَ أَنَا يُوسُفُ): جوابًا عن مسأَلتهم وقد زاد عليه قوله: (وَهَذَا أَخِي):- أى أخي من أَبوىَّ- مبالغة فى تعريفهم بنفسه. وتفخيمًا لشأن أخيه؛ وتحدُّثًا بنعمة الله عليهما قال: (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا): بالخلاص مما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة، ثم علل ذلك بقوله: (إنَّهُ مَن يَتَّقِ): الله فى جميع أحواله. (وَيَصْبِرْ): على أداءَ طاعاته وتجنب معاصيه. (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ): أى فإن الله لا يضيع أجرهم، وعبر عنهم بالمحسنين، ليشير بذلك إِلى أن أهل التقوى والصبر هم أَهل الإِحسان، وهم الأحقاءُ بجزاءِ الله العظيم وإحسانه ورحمته فى الدنيا والآخرة. قال تعالى: " هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" (¬2). وقال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (¬3). ¬

_ (¬1) التثريب: اللوم. (¬2) سورة الرحمن، الآية: 60 (¬3) سورة الأعراف، الآية: 56

(قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ ءآثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) المفردات: (تَاللهِ): أَي والله. وتقدم قريبًا أن التاءَ حرف للقسم باللهِ خاصة. (آثَرَكَ): اختارك وفضَّلك. (لَخَاطِئِينَ): لمذنبين متعمدين. (لا تَثْرِيبَ عَلَيكُمْ): لا لوم عليكم ولا تأْنيب؛ يقال ثَرَبه يَثْربه وثَرَّبه إذا بكَّته بفعله وعدَّد عليه ذنوبه. التفسير 91 - (قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَينَا وَإن كُنَّا لَخَاطِئِينَ): أَي قال إِخوة يوسف تصديقًا له عليه السلام واعترافًا بخطيئتهم: والله لقد اختارك الله وقدَّمك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة التي أَنعم الله بها عليك. وإِن الشأْن والأَمر الذي لا ريب فيه أَننا كنا مذنبين متعمدين إِذْ فعلنا ما فعلنا. وفرقنا بينك وبين أخيك!! ولقد أَكدوا قولهم هذا بعدّة تأكيدات إِشعارًا بالتوبة والندم على ما كان منهم، وانتظارًا للصفح عنهم .. وهو ما حكاه الله بقوله: 92 - (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ): أَي لا لوم عليكم ولا تأْنيب في هذا اليوم الذكر هو مظنة للمؤاخذة والعاتبة فما ظنكم

بالأَيام التي بعدِه؟! عما عنهم عليه السلام عفوًا لا مؤاخذة معه وهذا هو الصفح الجميل؛ ثم دعا لهم بمغفرة الله تعالى فقال: (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): لأَن كل رحمة من غيره سبحانه وإِن عظمت فهي مستمدة من رحمته. وفي ختام دعائه بقوله: (وَهُوَ أرحَمُ الرَّاحِمِينَ) إِشارة إلى وثوقه بإِجابة دعائه لأَنه عفا عنهم، فالله تبارك وتعالى أَولى منه بالعفو عنهم والرحمة لهم! والذي أَشرنا إِليه من الوقف على "اليوم" وأَن الجملة بعده دعائية مستأْنفة هو اختيار الطبرىّ وابن إسحاق غيرهم. قال الآلوسى: وهو الذي يميل إِليه الذوق. ويجوز الوقف على قوله: (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ): والاستئناف بقوله: (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ): والمعنى في هذا اليوم العظيم يغفر الله لكم ويرحمكم وهو أَرحم الراحمين. وقد استشهد الرسول صلى الله عليه وسلم في عفوه عن قريش بما حدث من يوسف مع إِخوته. إِذ قال في خطبته يوم الفتح الأَعظم: "يا معشر قريش ما ترون أَني فاعل بكم؟! قالوا خيرًا أَخ كريم وابن أَخ كريم، قال فإِني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: "لا تَثْريبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، اذهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ". 93 - (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ): عَلِمَ يوسف عليه السلام بطريق الوحي أَو بسؤال إخوته أَن أَباه فقد بصره أو كاد -فأَمر إِخوته أَن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه حينئذ فيلقوه على وجه أَبيه فتتم البشارة بعود بصره كما كان أَو أَحسن مما كان، وفي قوله: (وَجْهِ أَبي) دون أَبيكم لطيفة يوسفية لا تخفى على ذى فطنة إِنها تشير فيما تشير إلى أَن الحنان الأَبوى الذي فقدوه في غيبة يوسف سيعود إليهم جميعًا بسببه في لَمِّ الشمل واكتمال الأَهل كما أَشرنا إلى ذلك آنفًا في تفسير قوله تعالى حكايةً عن أَبيهم عليه السلام: "وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَاَ لاَ تَعْلَمُونَ". وقوله: (يَأْتِ بَصِيرًا): جواب الأَمر أي يَصِرْ بصيرًا.

(وَأْتونِي بأهْلِكُمْ أْجْمَعِينَ): المراد بأَهلم نساؤهم وذَرَارِيهم والعاملون معهم من خدمهم، دعاهم للإِقامة في جواره آمنين. ولم يذكر الإِتيان بأَبيه لا لكونه داخلا في الأَهل، فإِنه يجل عن التبعية بل ليتفادى أَمر الإِخوة أَن يأْتوا بأَبيهم لأَن فيه نوع إجبار على مَن يؤتى به فهو عليه السلام موكول إِلى اختياره ومحبته وشوقه، ولا شك أَن هذا من أَدب النُّبُوَّةِ والبُنُوَّةِ مَعًا! (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)) المفردات: (فَصَلَتِ الْعِيرُ): خرجت القافلة؛ يقال فصل من البلد يفصِل فصولا إِذا انفصل منه وجاوز حيطانه. (تُفَنِّدُونِ): تنسبوننى إلى الفَنَد وهو الخرفُ وفساد العقل من الْهَرَم والشيخوخة، وفي معناه ما قاله ابن عباس: لولا أَن تُسَفِّهون. (ضَلاَلِكَ): ذهابك عن الصواب وبعدك عنه. التفسير 94 - (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) ولما خرجت قافلة بني يعقوب من عريش مصر أَو حدودها قاصدة مكان يعقوب عليه السلام، وكان قريبًا من بيت المقدس، (قَالَ أَبوُهُمْ): لمن كان بحَضْرَتِهِ من ذوى قرابته، (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ): أَي إِنِّي لأَشُمُّ ريح يوسف.

أَوجد الله سبحانه ما عَبِقَ بالقميص (¬1) من ريح يوسف في نفحة طيبة هبت على يعقوب فَعَرَف ريحه وبينهما مسافات بعيدة. (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ): أي لولا تفنيدكم إيَّايَ بنسبتى إِلى الخرف من الشيخوخة لصدقتمونى في أَنني أَجد ريح يوسف حقيقة غير متوهم ولا مخطئِ. قال مالك رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتد إلى سليمان عليه السلام طَرْفُه -انظر القرطبى، وستأَتى بقية الحديث عن ذلك في التفسير. 95 - (قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ): أي قال الحاضرون عنده وقتئذ والله إِنك لا تزال تعيش في خطئك القديم بالإِفراط في محبة يوسف والإِكثار من ذكره وتوقع لقائه، وكانوا يظنون أَن يوسف قد مات. (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) التفسير 96 - (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) أَي فلما جاءَ البشير الذي حمل قميص يوسف من بني يعقوب، أَلقى القميص على وجهه امتثالًا لأمر يوسف، فعاد يعقوب بصيرًا تام البصر كما كان أو خيرًا بما كان، لمجرد إلقاءِ القميص على وجهه، قيل: إن هذا البشير هو الذي حمل القميص الملطخ بالدم الكذب ¬

_ (¬1) عَبقَ بالقميص: أي لصق به.

بعد إلقاءِ يوسف في البئر، فقد روى عن ابن عباس أَنه قاله لإِخوته: قد علمتم أَنى ذهبت إِلى أَبي بقميص التِّرحة فدعونى أَذهب إِليه بقميص الفرحة، أَراد أَن يمحو السيئة بالحسنة. فتركوه يتقدمهم استعجالا بنعمة البشارة، وهم على أَثره، وحكى السُّدِّىُّ أَنه يهوذا، وأَنه قال ليوسف: أَنا الذي حملت إِليه قميصك بدم كذب، وأَنا الذي أحمله إِليه الآن لأَسره وليعود إِليه بصره -والله أَعلم. والظاهر أَن يوسف عليه السلام علم بالوحى أَن إِلقاءَ القميص على وجه أَبيه يرد إِليه بصره بإذن الله تعالى. وقيل: إِن يوسف لما علم أَن أباه عرا بصره ما عراه من كثرة البكاء عليه بعث إِليه قميصه ليجد ريحه، فيزول بكاؤُه ويفرح قلبه فرحًا شديدا فعند ذلك يزول الضعف ويقوى البصر، بل يقوى الروح والبدن كلاهما، ولا عجب، فللسرور والفرح بإِذن الله آثار حسية ومعنوية لا تنكر. (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ): هذا خطاب لبنيه القادمين وفي مقدمتهم البشير، يذكرهم -وقد عاد بنعمة الله بصيرا- بما قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن، وهو أَنه يعلم من أَمر يوسف وحياته ما لا يعلمون، وكان هذا العلم إِلهاما من الله عَزَّ وَجَلَّ وطمأَنَةً منه على أَن يوسف لا يزال حيا، أَما بكاؤُه عليه فهو بكاءُ شفقة وحرمان من رؤيته يأْسا من حياته، ولهذا قال لبنيه: "اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ .... " الآية.

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)} التفسير 97 - (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): طلبوا منه عليه السلام أَن يستغفر لهم، ونادَوه بعنوان الأُبُوَّة تحريكا للعطف والشفقة، وعلَّلُوا ذلك بقولهم: (إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ): مذنبين متعمدين، يرجون بذلك الاعتراف أَن يصفح عنهم وَيستَغْفِرَ لَهُمْ فإِن من اعترف لأبيه بذنبه نادما، كان أَدنى إِلى عفوه واستغفاره الله له. قال القرطبى: وإِنما سأَلوه المغفرة لأَنهم أَدخلوا عليه من أَلم الحزن ما لم يسقط المأْثم عنهم إلا بإِحلاله. وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه، أو ماله أو غير ذلك ظالما له؛ فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها، ثم قال: وفي صحيح البخاري وغيره عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأَخيه من عِرْضِه أَو شىءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته (¬1) وإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فَحُمِلَ عليه". -انظر القرطبى. والمراد بتحلّلِهِ منه اليوم أن يستبرئ منه ذمته في الدنيا. 98 - (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي): اعترفوا لأَبيهم بذنوبهم كما اعترفوا لأَخيهم بها ولكن أَخاهم بادر بالاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه؛ وأَما أَبوهم فوعدهم باستغفار ربه لهم في المستقبل، وختم وعده بهذه الجملة المؤَكدة بعدَّة تأْكيدات فقال: ¬

_ (¬1) مظلمة (بكسر اللام) وحكى فتحها.

(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ): وبذلك تم الجوابان الحكيمان؛ جواب الصديق وجواب أبيه - عليهما السلام - على اعترافات إخوة يوسف بالذنب، وقد عرف من جواب الصديق أَنه عفا عنهم فورًا وعرف من جواب أَبيه أَنه وعد بالاستغفار لهم، ولم يعجل بالعفو عنهم، وعن السر في ذلك الاختلاف أَجاب السيد محمد رشيد رضا في تفسيره الخاص بسورة يوسف بما خلاصته: أَنَّ حال يوسف مع إِخوته هي حال الحاكم القادر، بل الملك القاهر مع المسىءِ إِليه الضعيف لديه، الذي كبرت إِساءَته فاستحيا من طلب غفرانها، فتبرع أَخوهم بغفرانها تأْمينا لهم من خوف الانتقام وكان قادرًا عليه، وتعجيلا لهم بسرور الحياة التي جعل الله أَزمتها في يديه، فكان المثل الأَعلى في حسن الأُسوة، وما ينبغي أَن يكون عليه الإخوة، وأَما حال أَبيهم معهم فإنها حال المربى المرشد للمذنب الذي لا يخشى منه انتقاما، وليس من حسن التربية أَن يُرِيَهُم أَن ذنبهم هيّنٌ لديه، فليس بينهم وبين غفرانه لهم إِلا كلمة يقولونها بأَلسنتهم، على أَن ذنبهم كان موجها إليه وإلى يوسف وأخيه، فمن العدل أَن يكون استغفاره لهم، بعد علمه بحالهم مع أَخويهم ولم يكن على علم بعفو يوسف عنهم. ثم إِن ذنوبهم من الذنوب العِظام التي طال عليها الأَمد، والتي لا تغفر -بحسب شرع الله وسنته- إِلاَّ بتوبة نصوح تجدد حياتهم. اهـ ما قاله السيد رشيد ملخصا هذا، وقد رُوىَ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أَن يعقوب عليه السلام أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر لأَن الدعاءَ فيه مستجاب، وروى عنه أَيضا أَنه أَخَّرَه إلى ليلة الجمعة، وفي رواية عن طاووس سحر ليلة الجمعة، وجاءَ ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسَّنَه عن ابن عباس برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)} المفردات: (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ): ضمهما إليه. التفسير 99 - (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ... ) الآية. هُنا كلام مطوى دل عليه السياق ومعناه، أَنَّ إِخوة يوسف بَلَّغوا أباهم وسائر أَهلهم أَن يأْتوا إليه جميعا ليقيموا معه استجابة لطلبه، وأَخبروهم بمكانة يوسف ومنزلته في مصر، وأَنه الحاكم المفوض فيها من قبل الملك. لذلك ارتحلوا من بلاد كنعان قاصدين إلى مصر حتى بلغوا مقَرَّ الملك. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ) استقبلهم استقبالا كريما بدأَه بأَن: (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أَباه وأَمه، وكانت على قيد الحياة كما هو ظاهر القرآن الكريم -وقيل إِنها ماتت وهذه أُختها. وكان أَبوه قد تزوجها بعد وفاة أُمه. والخالة بمنزلة الأُم، كما أَن العم بمنزلة الأَب، ولكننا نرجح الظاهر من النص، لأَنه لم يثبت لدينا ما يخالفه، والمراد من إِيوائِهما إِليه أَنه جمعهما معه في قصره الخاص به، تكرمةً لهما ومبالغةً في البرِّ بهما، وقال لهما ولسائر أهله: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) أَمنًا عامَّا شاملا، على أَنفسكم ومواشيكم من الجوع والخوف وسائر المكَاره. ولعل سنى القحط لم تكن انتهت بعدُ. ولا غرابة في هذه السماحة والكرم من يوسف عليه السلام، فهو كريم من سلالة رسل كرام (¬1). ¬

_ (¬1) روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

ومعنى قوله عليه السلام: "ادخُلُوا مصرَ" وهم قد دخلوها -معناه: أقيموا فيها كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وكأن الأمر بدخولها عبارة عن الإذن باستيطانها. وقيل إن يوسف عليه السلام لما علم باقترابهم خرج يتلقاهم في موكب عظيم، وضرب مضربا على مقربة من حدود مصر للنزول فيه، وفي هذا المنزل آوى إليه أبويه. وقال لهما ولبقية الركب: "ادخُلوا مصر إن شاء الله آمنين". وتعليق دخولهم آمنين، بالمشيئة الإلهية للتيمن والتبرك، وللتبرؤ من حوله عليه السلام ومشيئته وقوته، إلى حول الله تبارك وتعالى ومشيئته وقوته وفضله العظيم. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} المفردات: (العرشِ): سرير الملك. (البدو): البادية. وأصل البدو المبسوط من الأرض، سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه. (نزغ): أفسد وأغرى. وأصله من نزغ الرائض الدابة؛ إذا همزها وحملها على الجري.

التفسير استقبل يوسف أَبويه وأَهله بعد غيبة طويلة حدثت فيها تلك الأَحداث التي مر بيانها في السورة الكريمة. 100 - (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ): وخَصَّ أَبويه بمزيد من التّجلة والإكرام، فأَجلسهما على له سريره الذي يجلس عليه لتدبير الملك إذ هو الملك صاحب السلطان في الحقيقة. (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا): أَي وخرَّ أَبَوا يوسف وإِخوته له خاضعين. وصورة الخضوع لم يأْتنا بها نص شرعى. فتحمل على ماكان معروفا يومئذٍ في تعظيم الملوك والله تعالى أَعلم. أما القول بأَن سجودهم هذا كان لله، وإِليه سبحانه يعود الضمير في قوله: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) فينافيه ما جاءَ في أَول السورة: "وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ". قال القرطبى: وأَجمع المفسرون أَن ذلك السجود على أَي وجه كان فإِنما كان تحيّة لا عبادة. وعلى أَثر سجودهم هذا ذكَّر يوسف أَباه برؤياه في صباه. (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ): أَي أَن هذا السجود منكما ومن إِخوتى هو المآل الذي آلت إِليه رؤياى التي رأَيتها في صغرى إِذ "رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ". (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا): أَي أَمرًا واقعًا لا ريب فيه وقد رأَيتموه الآن رأْى العين. فإِخوتى مثال الكواكب الأَحد عشر وأَنت وأمي مثال الشمس والقمر. ثم أَثنى على ربه شاكرًا لأَنعمه فقال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي): ربي إِحسانًا عظيمًا.

(إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ): معزَّزًا مُكرَّمًا. إِلى عرش الملك والسيادة. (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) حيث كنتم تعيشون في شظف البادية وخشونة العيش، واضطراب الأَمن -إِلى الحضر- حيث تعيشون في رغد واستقرار آمنين. قال الزمخشرى: كانوا أَهل عَمَدٍ (¬1) وأَصحاب مواش يتنقلون في الحياة والمناجع: اهـ وفي الآية إِشارة إِلى تفضيل الحضارة على البداوة ولم يذكر عليه السلام خروجه من الجب لئلا يُخجل إِخوته بعد أَن قال لهم: "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم". ثم أَتم حديثه لأَبيه قائلًا: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي): أي وقد أَحسن بي ربي وأَنعم على بهذه النعم من بعد ما أَفسد الشيطان بيني وبين إِخوتى، حيث أَتلف عاطفة الأَخوة وقطع مودة القربي، فأَنت ترى من حديث يوسف عليه السلام أَنه جعل الإِغراءَ بالشر والقطيعة مشتركًا بين الشيطان وبين إِخوته فتقع تبعته عليه وعليهم، ليخفف بذلك شعورهم بالندم على ما اقترفوه في حقه، وهذا من كمال أَدبه وتواضعه وكرمه. ثم أَشار إلى لطف الله وتدبيره له حتى بلَّغه هذه المنزلة فقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ): أَي لطيف التدبير لما يشاؤه. حتى يجيءَ على وجه الحكمة والصواب، فإِذا أَراد أَمرًا هيأَ له أَسبابه وقدَّره ويسره، وإِن كان في غاية البعد عما يخطر بالبال. وهل كان يخطر بالبال أَن الإِلقاء في الجب يفضى إِلى السجن وأَن السجن يفضى إلى العزة والملك؟! (إِنهُ هُوَ الْعَلِيمُ): بمصالح عباده. (الحَكِيمُ): في أَقواله وأَفعاله وقضائه وقدره. ¬

_ (¬1) أَي أصحاب خيام تنصب وتقام على عمد.

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} المفردات: (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) تفسيِر ما غمض منها، والمراد هنا تفسير الأَحلام. (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ): خالقهما على غير مثال سابق. (وَلِيِّى): ناصرى ومعينى. التفسير غمر الله سبحانه وتعالى يوسف بنعمه الجزيلة حيث نَجَّاه من تآمر إِخوته عليه، وعصمه من السوءِ والفحشاءِ، ورد من كيد امرأَة العزيز وصواحبها، وبرأْه مما اتَّهَمَتْهُ به، وأَخرجه من السجن عزيزًا كريمًا، وبوأَه من الملك، وجمع بينه وبين والديه، وأَصلح بينه وبين إِخوته، فاتجه إِلى ربه بالحمد والثناءِ ضارعًا إِليه أَن يتم نعمته عليه في الأَخرة كما أَتمها عليه في الدنيا قائلا: 101 - (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ): يا إِلهى يا من ربيتنى وكفلتنى، وأَنعمت علَّى فوهبتنى نصيبًا وافرًا من الحكم والسلطان وعلمتنى ما لم أَكن أَعلم من تفسير بعض الأَمور الغيبية وشرح الأَحلام الغامضة. (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ َالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ): أَي يا خالق السموات والأَرض على غير مثال سبق، فكانت على هذا النحو العجيب، ورفعت كل كوكب في السماء في فلكه المرسوم ومداره المعلوم "وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ". إِنك متولي أَمرى في الحياة الدنيا وفي دار البقاءِ، أَضرع إِليك خاشعًا -داعيًا أَياك: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ): أَي أَسأَلك أَن تتوفانى مؤمنًا بك مخلصًا لك وأَلحقنى يارب بالصالحين من عبادك.

وفي طلب يوسف من الله سبحانه أَن يلحقه بالصالحين إِشارة إِلى أَن مرتبة الصلاح رفيعة القدر وأَن طلبها لا يقتصر على المؤْمن العادى بل تهفو إِليها نفوس الأنبياء. {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} المفردات: (أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ): أَحكموا تدبيرهم. (يَمْكُرُونَ): يتآمرون وَيَحْتالُون. التفسير ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أَخبار يوسف ولا غيره من الأَنبياءِ السابقين إلا بوحي من الله تعالى، ولهذا عقب ما سبق من قصة يوسف بقوله جل من قائل: 102 - (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ): أَي هذا القصص تناول أَحداثًا تاريخية تفصلك عنها آلافُ السنين، فهو من أَخبار الغيب، أَوحيناها إِليك ليعلم قومك ويعلم أَهل الكتاب أَنك صادق فيما ترويه عن الله وكلهم يعلمون أَنك أَمي لا تقرأُ الكتاب مطلقا كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (¬1)} (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أَي وما كنت يا محمد حاضرا مع إِخوة يوسف حينما أَجمعوا أمرهم، واحكموا تدبيرهم على الكيد له عليه السلام في خبث واحتيال، حيث تآمروا على إِلقائه في الجب، وادعاءِ أَن ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 48

الذئب أَكله، وإِحضار قميصه لأَبيه ملوثا بدم كذب، فروايتك لتلك الأَحداث شاهدة بأَنك تلقيتها من العليم الخبير الذي أَنزل عليك القرآن مشتملا عليها وعلى غيرها من أَحداث القصة بتفصيل دقيق محكم. وكما أَنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عند إِخوة يوسف وهم يمكرون به، فإِنه لم يشاهد سائر أَحداث القصة التي جاءَت بها السورة، ولم يكن عند ذويها وقت حدوثها. وإِنما اكتفى النص بما كان من إِخوة يوسف لأَنه مفتاح الأَحداث كلها، فهو رمز إِليها، أَلا ترى أَنه قد جاءَ عقب قوله سبحانه: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). أَي ذلك الذي تقدم في السورة من أَحداثها. ومع أَن المفسرين قد أَجمعوا على إِرجاع الضمير في (لَدَيْهِمْ) إِلى إِخوة يوسف لمكرهم به فإِنه يمكن إِرجاعه إِلى جميع من مكر به، سواءٌ كانوا إِخوته أَو امرأَة العزيز وصاحباتها أَو غيرهم. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) التفسير 103 - (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ): كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إِيمان قومه، وكان يرجو هدايتهم بعد سماعم قصة يوسف الموافقة لما في التوراة، فلما لم يؤْمنوا نزلت هذه الآية يواسى بها الله رسوله وَيُسَرِّى عنه ما يقاسيه من أَحزان لانصراف معظم أَهل مكة عن دعوة الحق التي جاءَهم بها، وإِمعانهم في المكابرة والضلال مع ظهور آياتها وبراهينها، فيُقَرِّرُ له سبحانه أَن هذه الظاهرة هي طبيعة معظم الناس لا أَهل مكة وحدهم، فكأَنه تعالى يقول لرسوله: وما أَكثر أَهل الأَرض بمؤْمن ولو حرصت على إِيمانهم، وبالغت في إِقامة الحجج والبراهين لهم، فإِن عقولهم تتحكم فيها أَهواؤُهم وتقليدهم لآبائِهم.

فليس غريبا أَن ترى معظم قومك "يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ" (¬1). "فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" (¬2): "وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (¬3) ". 104 - (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ): إِنك تدعوهم إلى ما فيه فلاحهم في الدنيا والآخرة وتهديهم إِلى الرشاد، وتخرجهم من الظلمات إلى النور ولا تطالبهم بأَجر يقدمونه إِليك نظير هدايتم وإِرشادهم، فإِنما أَجرك على الله وحده وما الكتاب الذي أَنزله الله عليك إِلا تذكرة لأَصحاب العقول الراجحة والبصائر المميزة من أَهل الأرض جميعًا لعلهم يعتبرون ويتعظون، وليس خاصا بأهل مكة "وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" (¬4). {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)} المفردات: (وَكَأيِّن مِّنْ آيَةٍ): وَكم من علامة دالة على وجود الصانع ووحدته وقدرته وسائر صفاته. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 6 (¬2) سورة فاطر، من الآية: 8 (¬3) سورة النمل، الآية: 81 (¬4) سورة ص، الآية: 88

(مُعْرضُونَ): منصرفون. (غَاشِيَةٌ): كارثة كبرى تغمرهم. (السَّاعَةُ): القيامة. (بَغْتَةً): فجأَة دون توقع أَو انتظار. التفسير 105 - (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ): جاءَت هذه الآية الكريمة لتبين أَن قريشا لم تكتف بالإِعراض عن القرآن الكريم، بل يعرضون أَيضا عن آيات الله الكونية الكثيرة التي بثها في آفاق السماوات وأَرجاء الأرض والتي تدل على وحدانية الله وسائر كمالاته، وتستلزم إِفراده تعالى بالعبادة، وكلما مروا عليها أَغمضوا عيونهم وكفوا بصائرهم، فلا هم آمنوا بالآيات القرآنية ولا تدبروا الآيات الكونية، وإِنما آثروا العمى على الهدى وفضلوا الضلال على الرشاد في عناد ولجاج. "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" (¬1). 106 - (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ): وما يؤْمن أَكثر هؤلاءِ بالله تعالى وأَنه هو الخالق، إِلاَّ وكان إِيمانهم به مشوبا بالشرك، فإِذا سأَلتهم عن خلق السموات والأَرض قالوا خلقهن الله وهم مع ذلك يشركون به في العبادة. وفي الصحيحين أَن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهيم: "لبيك لا شريك لك، إِلا شريك هو لك، تملكه وما ملك". 107 - (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ): أَي أَن هؤُلاءِ المعرضين عن آيات الله المنزلة وآياته الكونية، يعرضون أَنفسهم لغضب الله وعذابه الشديد في الدنيا والآخرة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 175.

فهل أَمنوا أَن ينتقم الله منهم في الدنيا فيصيبهم بكارثة تغشاهم وتبيدهم. مثل الزلازل والبراكين والشهب والصواعق والأَعاصير والعواصف. (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): وهل أَمنوا أَن تنتهى حياتهم فجأَةً بأَن تباغتهم الساعة بأَهوالها وشدائدها دون شعور بمقدمها وقبل أَن يتوبوا وينيبوا إِلى الله، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: "بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ" (¬1). {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} المفردات: (سَبِيلِي): طريقى وطريقتى. (عَلَى بَصِيرَةٍ): على يقين ناشئٍ من وحي الله وآياته وحججه. التفسير 108 - (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي): قل يا محمَّد لهؤلاءِ المعاندين المكابرين هذه هي طريقتى ومنهجى أَدعو إِلى عبادة الله وحده على يقين ثابت، ناشئٍ عن وحى الله تعالى، وقائم على الحجة البينة والبرهان الواضح أَدعو إِلى الله كذلك أَنا ومن اتبعنى من المؤمنين. وقد استفيد من الآية الكريمة أَن القادرين على الدعوة إِلى الله تعالى من علماءِ المسلمين ينبغي أَن يتحملوا نصيبهم فيها، ويقوموا بها خير قيام، كما قام أَسلافهم من قبل. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 40

(وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): أَي وقل لهم يا محمد أُنزه الله وأَجله عن أَن يكون له شريك أَو نظير أَوْ وَلَدٌ أَو صاحبة ولست أَنا ولا أَصحابي من المشركين لا شركًا خفيًّا ولا شركًا ظاهرًا بل نعبد الله. "مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (¬1) ". وهذا هو المنهج القويم، والصراط المستقيم. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} التفسير 109 - (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى): لَسْتَ -يا محمَّد- بدعًا من الرسل فجميع من أَرسلناهم قبلك بشر لا ملائكة أوحينا إِليهم شرائعنا وأَمرناهم بإِبلاغها إِلى أَقوامهم وهم ليسوا غرباءَ عنهم بل هم منهم يتحدثون بألسنتهم كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (¬2). فكل قوم يعرفون رسولهم وما اشتهر به بينهم من الصدق والأَمانة حتى لا تكون لهم حجة على تكذيبه والإِعراض عنه، وكان الرسل من أَهل القرى دون أَهل البوادى، لأن أَهل القرى فيهم عقل وحلم، وأَهل البوادى على العكس منهم. ¬

_ (¬1) سورة غافر، من الآية: 14 (¬2) سورة إِبراهيم، الآية: 4

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): أقَعَدَ قومك فلم يتنقلوا في أَرجاءِ الأَرض ليروا كيف كان مصير الأُمم السابقة بعد ما كذبوا رسلهم وأَصروا على تكذيبهم، كلا. فإِنهم ساروا في الأرض وعرفوا أَنه تعالى أَصابهم بالهلاك والتدمير والاستئصال، وهم يمرون عليهم في أَسفارهم كما قال تعالى: (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (¬1) فلماذا لا يتعظون بما شاهدوا. (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أَي ولثواب الدار الآخرة للمتقين خير وأَبقى من لذات الدنيا الفانية، وشتان بين دار الفتنة والابتلاءِ والزوال، ودار الخلد والبقاءِ والنعيم المقيم، كما قال سبحانه: "لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ" (¬2) فهلا استعملتم عقولكم فاعتبرتم بأَحداث الحياة وعلمتم أَن العاقبة للمتقين. {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} المفردات: (اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ): أَغرقوا في اليأْس والقنوط. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا): أَي رجح عندهم أَن نفوسهم حدثتهم بالنصر وكانت كاذبة في حديثها. (بَأْسُنَا): عذابنا. ¬

_ (¬1) الصافات، الآية 136 - 137 (¬2) آل عمران، الآية 15

التفسير 110 - (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ): هذه الآية مرتبطة بجمل مقدرة دل عليها السياق، والتقدير: لا تَغْتَرَّ قريش بما هي فيه من السلام وعدم العقاب على كفرهم حتى الآن، فإِن من قبلهم من الكفار قد أُمهلوا، حتى إِذا أَيس الأَنبياءُ المرسلون اليهم من إِيمانهم لتماديهم في الطغيان والتكذيب من غير وازع وتوهموا أَن نفوسهم كذبت عليهم حين توقعت النصر على من كفر بهم وعقابهم في الدنيا -حتى إِذا حدث كل ذلك- جاءَهم نصر الله فجأُة فأنزل الله بهم العذاب ونَجَّى الله منه من يشاءُ إِنجاءَه وهم المرسلون ومن آمنوا بهم، ولا يمنع أَحد عذاب الله عن القوم الذين أَجرموا بكفرهم إِذا قدره عليهم، فاعتبروا يا أَهل مكة بسنن الله فيمن كان قبلكم، واحذروا أَن يحل بكم ما حل بهم، فإِن الله ينصر رسله ولو بعد حين. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} المفردات: (عِبْرَةٌ): عظة. (لِأُولِي الْأَلْبَابِ): لأَصحاب العقول. (يُفْتَرَىْ): يخترع ويلفق. (بَيْنَ يَدَيْهِ): ما تقدم عليه.

التفسير 111 - (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ): انتهت قصة يوسف عليه السلام بهذه الآية الكريمة، التي أَبرزت الهدف منها ومن أَمثالها، وهو العظة والاعتبار والإِيقان بأَن العاقبة للمتقين، وأَن الهلاك والدمار للمجرمين وهى نهاية يدركها أَصحاب العقول الراجحة والبصائر المستنيرة الملهمة. (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى): ما صح ولا استقام عقلا أَن يكون هذا القرآن الكريم حديثًا يفتريه بشر على الله فيما جاء به من قصص الأُمم الخالية التي بعث الله رسله إِليها، ولا فيما جاءَ به من تشريعات عقائد وأَخلاق فيها صلاح أُمور الدنيا والآخرة، ولا فيما اشتمل عليه من أَعلى درجات البلاغة والفصاحة فإِن ذلك كله فوق طاقة الإِنس والجن. "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (¬1). فكيف يستقيم قول المشركين فيما يحكيه الله عنهم بقوله: "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" (¬2). (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): أَي ولكن أَنزل الله القرآن على رسوله الصادق الأَمين مصدقًا للكتب السماوية التي بين يديه أَي التي سبقته، ومؤيدًا لها فيما كلفت به البشر من عقائد وطاعة للخالق جل وعلا، وما أَمرتهم به من تنزيه له عن الشريك والصاحبة والولد، وعن كل ما لا يليق به من النعوت ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية 88 (¬2) سورة الفرقان، الآية 5

والصفات المنافية للربوبية، كما أَنزله وتفصيلا لكل شيءٍ يحتاج إِليه في شئون الدين والدنيا والآخرة، حيث ضمنه القواعد الكلية لها، وأَحال بيانها على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" (¬1). وأَنزله هدى للناس من الضلال والحيرة، وإِرشادًا لهم إِلى سبيل السعادة، وأَنزله رحمة لقوم يؤمنون به ويسلكون سبيله ويهتدون بهديه. ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 44

سورة الرعد

سورة الرعد أَرجح الآراءِ أَنها كلها مدنية وهي ثلاث وأَربعون آية وسميت السورة بسورة الرعد إِشارة إِلى قوله تعالى فيها: "وَيُسَبِّحُ الرعْدُ بحَمْدِهِ" (¬1). مقاصد السورة: 1 - استهلت السورة بالإِشارة إِلى آيات القرآن الكريم المنزلة بالحق على سيد الخلق للهداية والإِرشاد. 2 - ثم أَشارت إِلى ما بثه الله في السماوات والأَرض من آياته الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته، من سماءٍ مرفوعة وعرش عظيم وأَجرام فلكية مسخرة، وأَرض تجرى فيها الأَنهار وتزدان بالحدائق الغناءِ والمروجِ الفيحاءِ. 3 - ثم تناولت أَحوال البشر وتنكر كثير منهم لآيات الله المنزلة وآياته الكونية، مع أَن الله مطلع على نياتهم وأَقوالهم وأفعالهم، وسيجزى كلا منهم بما يستحقه من جزاءِ. 4 - ثم دعت البشر إِلى أَن يَفِيئوا إِلى الصواب، وأَن يبادروا بإِصلاح ما في نفوسهم من فساد وتغيير ما فيها من انحرافات، حتى يعينهم الله ويهديهم فإِنه سبحانه "لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ". 5 - ثم عادت السورة لتذكِّر البشر بآيات الله الكونية -وأَنها كما تكون نِعمًا تكون نِقَمًا- مثل الرعد والصواعق، وكلها منقادة لإرادة الله خاضعة لمشيئته، وبينت أَن الذين يدعون من دونه -لا يستجيبون لهم بشيءٍ، ولا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، وأَنه لا يستوى الأَعمى والبصير ولا الظلمات والنور. 6 - ثم وعدت الذين يستجيبون لدعوة ربهم بالمثوبة الحسنى، وتوعدت من لا يسجيبون لهم سوءَ الحساب والخلود في جهنم وبئس المهاد. ¬

_ (¬1) من الآية: 13

7 - ثم تحدثت عن أَنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاءُ ويضيِّقه على من يشاءُ، وأَن الحياة الدنيا بجانب الآخرةَ ونعيمها ما هى إلا متاع قليل. 8 - ثم ذكرت عناد المشركين بطلبهم من الرسول آية من ربه -وبينت أَن هذا ضلال منهم وانحراف عن الآية الكبرى وهي القرآن، وأَنه تعالى يضل من يشاءُ من المنحرفين فلا يعينه، ويهدى إِليه من أَناب ويعينه، وأَن القرآن هو ذكر الله وأَنه تطمئن به القلوب. 9 - ثم تحدثت عن عظمة القرآن وأَن الكفار لم يقدروه قدره حيث اقترحوا غيره، مع أنه جدير بأَن تسير به الجبال وتقطع به الأَرض ويكلم به الموتى. 10 - ثم نهبت الذين آمنوا إِلى أَنه تعالى لوشاءَ لهدى الناس جميعًا، وتوعدت الكافرين بقارعة تصيبهم أَو تَحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله. 11 - ثم تحدثت عن الجنة التى وعدها الله المتقين، ووصفتها بالصفات الجليلة، وبيَّنت أَن الذين آتاهم الله الكتاب من المخلصين يفرحون بالقرآن الذي أَنزَله الله إِلى محمد صلي الله عليه وسلم، وأَن من أَحزابهم من ينكر بعضه وهو مخالف ضلالاتهم، أَوْ يغاير ما كان مشروعا لهم -مع أَن لكل أُمة رسولها وكتابها "لِكلِّ أَجَلٍ كتَابٌ" ونهيته عن اتباع أَهوائِهم كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة، وبينت أَن الرسل السابقين جعل الله لهم أَزواجا وذرية كما جعل لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا وجه لاعتراض أَهل الكتاب عليك يا محمد. 12 - ثم توعدت الكافرين، وذكرت أَن على الرسول البلاغ وعلى الله الحساب، وأَنه تعالى يحكم ولا معقب لحكمه، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ). إلى غير ذلك من المقاصد الشريفة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)) المفردات: (الْكِتَاب): الْقُرْآن. (الْحَقُّ): الثَّابت. التفسير 1 - (المر): تقدم الكلام على أَمثالها في أَوئل السور: البقرة وآل عمران، والأعراف، ويونس. وهود، ويوسف، وأَرجح الآراءِ فيها أنها تشير إِلى أَن القرآن الكريم مركب من كَلِمَاتٍ ذات حروف كهذه الحروف التي ينظم منها العرب كلامهم، فإِن كانوا صادقين في زعمهم أَن محمدا تقوله وافتراه فليأْتوا بمثله فهم أَئِمة الفصاحة والبلاغة فإِذا عجزوا فمُحمد مثلهم لا يستطيع أَن يأْتى بمثله وإِذا كان كذلك وجب الإِيمان بأَنه تنزيل من حكيم حميد. هذا إِلى جانب ما في بدءِ الكلام بها من الغرابة الداعية إِلى الانتباه واستماع ما يليها من فنون الهدى والرشاد، لعلهم يهتدون ويكفون عن الإِعراض عن سماع القرآن العظيم. (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ): هذه آيات الكتاب العظيم الغنى عن الوصف من بين سائر الكتب، الجدير باختصاصه باسم الكتاب. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ): أَي وهذا الكتاب الذي أَنزله الله إِليك يا محمَّد هو الحق الثابت المطابق للواقع فلا مجال للشك والارتياب من قومك في صدوره إِليك من ربك أَيها النبي.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ): أي ولكن أَكثر الناس الذين دعوتهم إِلى الإِيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأَنه أُنزل إِليك من ربك، لإِخلالهم بواجب النظر والتأَمل فيه، وانقيادهم لأَهوائهم وشهواتهم، وإِيثارهم الضلال على الهدى، والظلمات على النور فاصبر على أَذاهم " ... وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ" (¬1) {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} المفردات: (الْعَمَدُ): بفتح العين والميم وضمهما هي الأَساطين التي تحمل السقف جمع عمود. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): أَي يقضى فيه ويقدره بحكمته. (يُفَصِّلُ الآيَاتِ): يأتى بها مفصلة مبينة للاستدلال بها على كمال قدرة الله وحكمته. (تُوقِنُونَ): تصدقون تصديقًا جازمًا لا شك فيه. التفسير بعد أن ذكر الله أَن آيات القرآن أَنزلها على رسوله بالحق عقب ذلك بذكر آياته الكونية العقيمة التي تدل على وحدانيته وعظمته وقدرته وهيمنته على كل شيءٍ فقال تعالى: 2 - (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا): ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 127

إِن الإِنسان لينظر إلى السماء وما فيها من نجوم وكواكب فيأْخذه الإِعجاب بِسُمُوّها وعظمتها وجمالها واتساعها وإبداعها، القرآن يذكرنا بأَن الله وحده هو الذي رفع هذه السماوات في آفاقها السامية الفسيحة بغير ارتكاز على عمد مرئية، ولكن الله سبحانه وتعالى يمسكها في أَفلاكها، ويدفعها في مداراتها طبقًا لسنن كونية ثابتة أَبدعتها قدرته سبحانه. فقال جل شأْنه: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ" (¬1) وقال تعالى: "وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ" (¬2) (ثُمَّ استَوَى عَلَى الْعَرْشِ): المراد من الاستواءِ هنا الاستيلاءُ والسيطرة؛ ومنه قول الشاعر: استوى بشر على العراق من ... غير سيف ودم مهراق العرش هنا كناية عن الملك والسلطان، المعنى أَنه تعالى هيمن وسيطر على ملك السماوات بعد أَن رفعها بغير عمد، فلم يدع فيها لأَحد غيره سيطرة عليها ولا تدبيرًا لشىءٍ فيها، فكما كان له الأمر فيها حين تقديرها خلقًا وإِبداعًا فله الأَمر والسلطان فيها بعد ذلك حفظًا وتدبيرًا، لا يشاركه في ذلك كله شريك (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (¬3) ومن العلماءِ من فسر العرش بأَنه شىءٌ عظيم لا يعلم كنهه غير الله، مع تنزيهه جل وعلا من الجلوس عليه، فإنه تعالى يستحيل عليه المكان وكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك، فإِذا عرفت أَنه تعالى لا أَول لوجوده، وأَنه سبحانه كان ولا شىءَ معه، وأَنه أَوجد العرش واستحدثه بعد أن لم يكن، عرفت أَنه ليس بحاجة إلى عرش يجلس عليه كما يفعل الملوك، فالعرش على تسليم أَنه جرم عظيم، خلقه الله لمصلحة ملكوته، وقد استند أَصحاب هذا الرأْى إِلى أَحاديث منها ما ذكره البيهقي وأَخرجه الآجرى وأَبو حاتم البستى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الكُرْسِىّ إِلا كَحَلقَةٍ مُلْقَاةٍ فِى أَرْض فَلاة، ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 41 (¬2) سورة الحج، الآية: 65 (¬3) سورة الأعراف، من الآية: 54

وَفَضْل الْعَرْش عَلَى الكُرسِىٌ كَفَضْل الفَلاة عَلَى الْحَلقَة" وتركوا علم ذلك وإِدراكه إلى الله علام الغيوب. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى): أَي أَن الله سبحانه خلق الشمس وهي نجم كبير وخلق القمر وهو كوكب صغير وسخرهما لتنتفع البشر بنورهما وحرارة الشمس ذات المنافع الغزيرة، فانظر إِلى رحمة الله، حيث جعل الشمس إِذا غابت بالحجاب وغابت معها أنوارها، أَتبعها القمر حتى لا يحرم عباده من نور السماءِ ليلا ونهارًا، وجعل كلا منهما يجرى في فلكه المرسوم ومداره المعلوم إِلى أَمَد مقدر وزمن محدود يعلمه سبحانه. وقال ابن عباس: الأَجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إِليها ولا يتجاوزانها. يريد بذلك أَن الشمس تقطع مدارها متنقلة في أَبراجها في سنة شمسية، والقمر يقطع مداره متنقلا في منازله في شهر قمرى، وفي ذلك يقول الله تعالى: "وَكُلُّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (¬1). وذهب معظم المفسرين إِلى أَن الأَجل المسمى هو يوم القيامة يوم أَن تكون السماوات مطويات بيمينه سبحانه. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ): والمعنى أَن الله سبحانه يقدر الأمور بمقتضى حكمته ويجريها طبقًا لسنته الكونية في أَرضه وسمائه فهو سبحانه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى، وغير ذلك من شئونه تعالى في سماواته وأَرضه، تلك الشئون التي تحير العقول والأَلباب ولا تدخل تحت حصر، وصدق الله تعالى إِذ يقول: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (¬2) وكما أَنه تعالى يدبر الأمر فِإنه يفصل الآيات ويبينها في كتبه المنزلة على رسله ويوجهنا إِلى التأَمل فيها، والاعتبار بدلالتها فإنها تَدُلُّكَ على عظيم قدرته، وجليل حكمته، ووافر رحمته ونعمته، وأَن الذي بدأ الخلق قادر على ¬

_ (¬1) سورة يس، من الآية: 40 (¬2) سورة الرحمن من الآية 29.

إِعادته، وأَن مصيرنا جميعًا إلى الله فنحن جميعًا كما منه وإِليه، فإِذا نتفعنا بما فضله الله لنا من الآيات، وعرفنا أَننا سنلقى الله طال الزمن أَم قصر، فإِننا نستعد لهذا اللقاءِ بالإِيمان الثابت والعمل الصالح والاستقامة على طريق الحق، لننال ثوابه وننجو من عقابه. {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) المفردات: (مَدَّ الْأَرْضَ): بسطها. (رَوَاسِيَ): الجبال. (يُغْشِى): يغطى. التفسير 3 - (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا): تابعت هذه الآية سرد آيات الله الكونية، فذكرت أَنه تعالى بسط الأَرض أَمام البصر، وسوى معظم سطحها ليسهل الانتقال عليه من مكان إِلى مكان، كما قال سبحانه: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا" (¬1). وليسهل على عباده زرعها والانتفاع بخيراتها، ولا يتنافى ذلك مع كروية الأَرض التي أَشارت إِليها الآية الكريمة: "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ" (¬2). وسنعرض لها بالشرح في موضعها إِن شاءَ اللهُ، وكما سوى الله سطح الَأرض جعل منها جبالا راسخة لتثبيتها فلا تموج ولا تضطرب، حتى لا يهلك من على سطحها من الكائنات أَثناءَ ¬

_ (¬1) سورة نوح الآية 19. (¬2) سورة الزمر من الآية 5.

اضطرابها وزلزالها، قال تعالى: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا" (¬1). ومن آيات الله الكونية التي أَشارت الآية إليها تكوين الأَنهار من الأَمطار التي تهطل على سفوح الجبال، فتشق طريقها فوق سطح الأَرض ممتدة مئات أَو آلاف الأَميال، ليرتوى منها عالم الإِنسان وعالم الحيوان وعالم النبات. "وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْن": أَي وجعل الله في الأَرض من كل أَنواع الثمرات فردين متزاوجين، أَحدهما ذكرُ والآخر أَنثى، والذكر قد يكون منفصلًا عن الأَنثى كالنخل، وقد يكونان في شجرة واحدة كشجرة الذرة، وهنا يتجلى الإِعجاز العلمى في القرآن الكريم، فما كان العرب يعلمون أَن في كل نبات أَعضاءً للتذكير وأُخرى للتأْنيث، يتم بينهما التلاقح فتثمر أَطيب الثمرات، ما كانوا يعلمون ذلك إِلا في نبات واحد هو النخل، ولكن القرآن أَنبأَنا منذ أَربعة عشر قرنًا بما اهتدى إِليه العلم الحديث في العصر الحاضر "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ" (¬2). (يُغْشِى اللَّيْلَ النَّهَارَ): أَي يجعل الليل يغطى ضوءَ النهار ويكسوه بظلامه ليستريح الناس من متاعبهم في النهار ويدركوا رحمة ربِّهم بهم وقدرته على هذا الكون العجيب، واكتفى بتغشية الليل النهار مع تحقق عكسه لأَنه معلوم، وتتابع الليل والنهار نعمة منَّ الله بها على خلقه ليتسنى لهم الكسب في ضوءِ النهار والراحة تحت أَسدال الظلام. (إِنَّ فِى ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَرُونَ): إِن في هذه الآيات الكونية العديدة في السماوات والأَرض لعلامات وبراهين دالة على وحدانية الله وقدرته وعظمته، يدركها من استعملوا عقولهم وتركوا تقليد أَهل الجهالة في جهالتهم، فمن شاءَ الهداية فأَمامه آيات الله المنزلة وآياته الكونية، وكلتاهما تدعو إِلى الإيمان العميق "فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يؤْمِنُونَ" (¬3) ¬

_ (¬1) سورة النبأ الآيتان 6، 7 (¬2) سورة يس، الآية 36 (¬3) سورة الجاثية، من الآية 6

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)) المفردات: (صِنْوَانٌ): جمع صنو، وهو المثل، ومنه الحديث الشريف: "عم الرجل صنو أَبيه". الصِّنْوُ أَيضًا نخلتان أَو أَكثر تتشعب من أَصل واحد، وكما تُطلق كملة الصنو على ما ذكر، يطلق عليه أَيضًا: (صنوان): روى عن البراءِ: الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق، وقال النحاس: يقال للنخلة إِذا كانت فيها نخلة أُخرى أَو أَكثر صنوان اهـ. راجع القرطبى. التفسير 4 - (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) الآية. واصلت الآية الحديث عن آيات الله الكونية. والمعنى: أَنه يوجد في الأَرض قطع متجاورة متماثلة في تربتها وانتفاعها بأَشعة الشمس وفيها بساتين كثيرة مزروعة في قطع الأَرض المتجاورة، وتشتمل على أَشجار الكروم التي تثمر أَنواع العنب والزبيب. وتشتمل أَيضا على الزرع الذي يثمر أَنواع الحبوب والبقول، وفيها النخل الذي يثمر البلح والرطب والتمر. وبعض النخيل مفرد وبعض متعدد على أَصل واحد، وهو الذي عبر عنه في الآية بكلمة (صنوان)، ونلاحظ في الآية أَنها لم تستوعب حاصلات البساتين، بل ذكرت نموذجًا لما يتسلق ويقوم على عرائش، وهو الأَعناب، وآخر للشجر الذي يقوم على ساق، وهو النخيل الذي له جذوع صلبة وطويلة، أَما الزرع فإن شامل لكل أَنواع الحبوب والبقول.

(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ): هذه الجملة مستأْنفة للتعجب من قدرة الله تعالى فيما يبدعه في عالم البساتين، حيث بينت أَن هذا النبات والشجر على اختلاف أَنواع كل منهما يسقى بماءٍ واحد في أَرض متجاورة ومتشابهة في التربة والجو، ولكن الثمرات متنوعة في الطعم والشكل واللون والرائحة، وربما كان ذلك في الشجرة الواحدة ولا شك أَن هذا ناشئٌ من أَن وراءَ الطبيعة ربا حكيمًا، هو الذي ينوع النواميس والطبائع ويبدع غير المأْلوف، ويخالف المأْلوف ليعرفه عباده بما يبدعه لهم من هذه المؤتلفات والمختلفات، ولو كانت الطبيعة هي الفاعلة لما وقع هذا الاختلاف، بل لما وجد من ذلك شىءٌ فإِن الطبيعة لا عقل لها ولا إِرادة، ولهذا عقب الله تلك الجملة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): إِن في هذا التنوع والتَّعدُّد -مع وحدة الأَصل والبيئة- لعلامات وشواهد يدركها أَصحاب العقول الراجحة فيعلمون أَن من ورائها قدرة الخلاق العظيم الذي أَحسن كل شيءٍ خلقه، فيؤْمنون وينقادون إِليه ويعبدونه على الوجه اللائق بما له من عظمة وجلال. {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)} المفردات: (وَإِنْ تَعْجَبْ): العجب والتعجب كلاهما يستعمل على وجهين: أَحدهما فيما يستحسن ويحمد. والثانى فيما يكره وينكر. (الْأَغْلَالُ): جمع غُل بضم الغين. وهو طوق من حديد أَو غيره يوضع في العنق أَو في اليد فتشد به إِلى العنق.

التفسير (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا): بينت الآيات السابقة دلائل قدرة الله في السماوات والأَرض وأَنها، آيات لأَصحاب العقول السليمة. الأَفهام المستقيمة على عظمة قدرة الله وحكمته، وأَن من هذا شأْنه فهو قادر على كل مقدور، وجاءَت هذه الآية للتعجب من إِنكارهم للبعث مع ما يشاهدون من المظاهر الكونية، ولإِنذارهم بالعذاب الدائم الذي لا غاية له جزاءِ تكذيبهم. والخطاب في الآية للرسول أَو لكل من يصلحُ للخطاب من العقلاءِ. والمعنى: وإِن تعجب من تكذيب المشركين بأَمر المعاد مع ماشهدوه من دلائل قدرة الله فعجب لا يوجد أَشد منه قولهم في إِنكارهم للبعث (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذا القول مشتمل على استفهامين من المشركين، يقصدون بهما أَقصى درجات الإِنكار، للعودة إِلى الحياة مرة أُخرى، حيث يخلقون خلقا جديدًا بعد أَن تحللت أَجسامهم، ونخرت عظامهم، وأَصبحوا ترابًا تذروه الرياح، ولو فكر هؤلاءِ المنكرون بعقولهم لعلموا أَن من قدر على إِنشاءِ تلك الكائنات وإِبداعها من تراب، فإِنه قادر على إِعادتها، بل الإِعادة في نظر القياس أَهون. وإِن كان كل شيءٍ أَمام قدرة الله سواءٌ. فهو الذي يقول للشيءِ كن فيكون. وقد عقب الله هذه الجملة التي نعت عليهم تكذيبهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ): أَي هؤُلاءِ المكذبون للبعث هم الذين كفروا بربهم ولم يؤْمنوا به. إِذ لو آمنوا به وبأَنه خالق السماوات والأَرض -كما يجيبون إِذا سئلوا- لعلموا أَنه قادر علي بعث الأَجساد بعد استحالتها إِلى تراب تفرقت ذراته. فهم ليسوا أَشد خلقًا من السماءِ التي بناها ورفع سمكها وسواها، وأَغطش ليلها وأَخرج ضحاها. ولما كان هذا الكفر مع وضوح الأَدلة أَمرًا منكرًا فظيعًا يستحقون عليه أَشد العقاب أَنذرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ): أَي أَن جزاءَهم يوم الحساب أَن يسحبوا إِلى النار بأَطواق في أَعناقهم تحقيرًا لهم وتسفيهًا.

وقال بعض المفسرين هو تمثيل لحالهم الشنيعة في الضلال وتقليد الآباءَ بحال المقيدين بالأَغلال في أَعناقهم، فهم مثلهم في الحرمان من نعمة الحرية وكَبْتِ الإرادة، وضيق آفاقها، والحرمان من الخير، وسوء العاقبة. ثم ختمت الآية بقوله تبارك تعالى: (وَأولَئِكَ أصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ): أَي وأُولئك المكذبون بالبعث الكافرون بربِهم المكبلون بالأَغلال في أَعناقهم -أُولئِك الموصوفون بهذه الصفات- هم أَصحاب النار الملازمون لها -الماكثون فيها فلا ينفكون عنها ولا يخرجون منها أبدًا. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)) المفردات: (السَّيِّئَةِ): العقوبة. (الْحَسَنَة): العافية والسلامة. (الْمَثُلَاتُ): جمع مثله -بفتح الميم وضم الثاء. وهي العقوبة؛ سميت بذلك لأنها تماثل الذنب، والمراد بالمثلات في الآية الكريمة عقوبات أَمثالهم المكذبين قبهم. التفسير 6 - (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... ) الآية. كان الرسول صلوات الله عليه ينذر المشركين بالعذاب في الدنيا والآخرة لإصرارهم علي الكفر، فكانوا يستعجلونه في وقوعه استهزاءً به وطعنًا في خبره فنزلت.

والمعنى: ويطلب منك المشركون يا محمد أن تعجل لهم بالعقوبة التي أنذرتهم بها. لإِصرارهم على الكفر وتكذيب ما جئتهم به من عند الله، وكان عليهم أَن يثوبوا إلى رشدهم ويعدلوا عن شركهم. ويطلبوا من الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية. وما كان ينبغي لهم أَن يؤثروا العقوبة على السلامة، وهم يعلمون مما يشاهدونه حولهم من آثار ما أَنزله الله من العقوبات بالكافرين قبلهم. كما حدث لعاد قوم هود، ولثمود قوم صالح، ولقوم لوط ولغيرهم وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ): أَي أنهم قد مضت من قبلهم عقوبات الأُمم السابقة التي استأصلهم. فما لهؤلاء لم يعتبروا بتلك الأُمم؟ فيكفوا عن الكفر والتكذيب حتى لا يحل بهم ما حل بمن قبلهم من المكذبين. ثم عقب الله سبحانه وتعالى هذه الجملة من الآية الكريمة بما يفتح باب الأَمل للتائبين المستغفرين -ويحذِّر من شدة العقوبة للعصاة المصرِّين فيقول: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}: أَي أَنه تعالى. صاحب مغفرة عظيمة وستر شامل لمن ظلموا أنفسهم بالذنوب والعاصى. فلا يعجل لهم بالعقوبة، بل يمهلهم ويؤَخرهم لعهم يتوبون ويستغفرون فيغفر لهم. وكما أنه سبحانه صاحب مغفرة للناس وإن كانوا ظالمين. إن تابوا وأَنابوا؛ فإِنه شديد العقاب لمن أَصر على كفره وعصيانه كما قال تعالى في سورة الحجر: "نَبِّئ عِبَادِى أَنِّي أنا الْغَفُورُ الرحِيمُ * وَأن عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ". وفي سورة الأَنعام: "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ". إلى غير ذلك من الآيات التي تجمع بين الرجاءَ والخوف.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)) المفردات: (الَّذِينَ كَفَرُوا): المراد بهم هنا كفارُ أهل مكة. (لَوْلَا أُنزِلَ): لولا بمعنى هلاَّ، فكلتاهما للحض والحث على فعل الشيءِ. (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ): الآية؛ العلامة، والمراد بها هنا ما طلبوه من الخوارق مثل تفجير الينابيع والأَنهار والرقى في السماء. التفسير 7 - (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ): بعد أَن حكى الله عن أَهل مكة كفرهم بالبعث، واستعجالهم بالعذاب الذي توعدهم الله به على لسان رسوله، جاءَت هذه الآية لبيان لون من أَلوان كفرهم وعنادهم. والمعنى: ويقول الذين كفروا بالقرآن من أَهل مكة زاعمين أَنه لا يكفى للدلالة على نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم: هلَّا أنزل عليه آية من ربه، على منهاج الآيات الكونية التي أَيد الله بها رسله السابقين، كعصا موسى التي أبطلت سحر الساحرين، وناقة طالح، وإِحياءَ الموتى بإِذن الله على يد عيسى، ولما كان هذا المطلب لا يخرج إِلا من فم كافر لما فيه من التجنى على الحق، فلذا حكى الله مقالتهم موصوفين بالكفر بقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا من أن يعبر عنهم بأُسلوب الإِضمار: (ويَقُولُونَ) والغرض من ذلك ذمهم بالكفر بهذا الكتاب المبين الذى تخر له صم الجبال، ولو تفتحت على الحق قلوبهم، وبرأَت من الحقد نفوسهم، لوجدوا السبيل إِلى الهدى ميسرة بآياته، فهي أَجدى على الحق من تحويل الصفا إِلى جبل من ذهب، وتحويل صحرائهم إِلى جنات تجرى من تحتها الأَنهار

كما طلبوا، فإِن العقل البشرى قد شب عن الطوق، والذى كان آية للأُمم السابقة، لا يصلح آية لأَمة محمد التي فتح القرآن لها أَبواب العلم، وكشف لها آفاق المعرفة فلم يعد يفيدها ناقة تخرج من الصخر، ولا يد تخرج من الجيب بيضاءَ من غير سوءٍ، ولا إِبراءِ الأَكمه والأَبرص وإِحياء ميت أَو ميتين، فكل ذلك لا يساوى إِحياءَ القلوب باليقين، وتنوير العقول بأَشعة المعرفة، ووضع المنارات على الطريق ليهتدى بها الناس إِلى الحق سبحانه وتبرئته من الشريك والنظير، وتنزيهه عن الصاحبة وعن الولد، وليهتدوا بها إِلى أَسرار الملك الملكوت، فيعملوا للدنيا في حدود ما هو حلال لهم، ولا عليهم من بأْس أَن يتوسعوا في نعمه وزينته والطيبات من الرزق ما داموا يؤدون حق الله وحق المجتمع فيما رزقهم ربهم، ويعملوا للآخرة، حيث لا ينفعهم مال ولا بنون، إِلا من أَتى الله بقلب سليم. وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأنْبيَاءِ نَبِىّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآياتِ مَا مِثلةُ آمَنَ عَلَيْهِ البشر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوحَاهُ اللهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". أَخرجه البخاري ومسلم والنسائي. ومن مميزات معجزة القرآن أَنها باقية ما بقى الزمان. بخلاف معجزات الأَنبياءِ السابقين، فقد أَصبحت خبرًا بعد عين، وعرضة لإِنكار المنكرين وتكذيب المكذبين. (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ): أَي ليس من شأْنك يا محمَّد أَن تقترح علينا الآيات، أَو تبلغنا اقتراح قومك لها، فما أَرسلناك إِلا لإِنذار الكفار سوءِ عاقبة ما هم عليه من الكفر، وقد أَيدناك بما يكفي الاستدلال به على نبوتك لمن كان له قلب أَو أَلقى السمع وهو شهيد، وهو القرآن العظيم، فما أَنت إِلا منذر لهم ولكل قوم كافرين، بما جاءَ فيه من القوارع والنوائب التي تحل بهم إِن أَصروا على كفرهم، وهاد مرشد إِلى طريق السلامة في الدنيا والآخرة بما جاءَ فيه من الآيات، فإِن سلكوه كانت غايتهم السلامة والسعادة الأَبدية، وإِن أَعرضوا عنه كانت غايتهم الندامة والشقاوة الأَبدية، فلا تكترث باقتراحهم الآيات عنادًا، فلكل أُمه رسولها مؤيدًا بالآيات اللائقة بها.

ثم عقب الله هذه الآية بما يدل على كمال قدرته وشمول علمه وقضائه وقدره المبنيين على الحكم والمصالح، تنبيهًا على أَن تخصيص كل قوم بنبي، وكل نبي بجنس معين من الآيات إِنما هو للحِكَم الداعية إِليها، وذلك بقوله سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} التفسير 8 - (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ): لمَّا تقدم إِنكارهم البعث. وكان من أَقوى شبههم ما شهدوه من تفرق الأَجزاءِ وزوال صفاتها. نبه سبحانه بهذه الآية على إِحاطة علمه جل شأْنه، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأَرض ولا فى السماءِ دحضًا لشبهتهم. وإِزاحة لها. والمعنى: الله يحيط علمه بما تحمله الحوامل من مبدإِ الحمل إِلى زمن الولادة فلا يخفى عليه شىءٌ مما يتعلق بذات الجنين أَو صفاته من كونه ذكرًا أَو أُنثى، أَو صبيحًا أَو قبيحًا أَو صالحًا أَو طالحًا أَو شقيًا أَو سعيدًا. (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ): أَي يعلم ما تنقصه الأَرحام في ذات المولود أَو مدته نتيجة لما يغيض له في أَطواره عن أَسباب تجعله ينزل سقطًا أَو لأَقل من مدة الحمل الغالبة أَو لأَكثر منها أَو لما أُلف وعهد فيها. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ): أَي وكل شيءٍ في علم الله وتقديره من الأَعيان والأعراض له في كل مرتبة من مراتب التكوين قدر معين في ذاته وفي زمنه، وحاله لا يتخطاه ولا يجاوزه بأَى حال من الأَحوال.

وذلك عام في الأَجنة والآجال والأَرزاق وغيرها. وفي الحديث الصحيح: "أَن إِحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إِليه أَن ابنًا لها في الموت وأَنها تحب أَن تحضره فبعث إِليها: "إِنَّ لِلَّه ما أَخذ وله ما أَعطى وكل شيءٍ عنده بأَجل مسمى فمروها فلتصبر ولتحتسب". والحديث لمسلم ورواه البخاري في كتاب الجنائز بمخالفة يسيرة. والمقصود بإِحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم زينب امرأَة أَبي العاص بن الربيع. 9 - (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .... ) الآية. أَي يعلم سبحانه وتعالى الغائب عن الخلق والظاهر لهم. فينفرد بكل باطن خفى -لا يشاركه في علمه به أَحد، وأَما ما يقوله أَهل الطب من استدلالهم في طلبهم على ما خفى بأَمارات وعلامات فذلك ظنى لا يقينى (¬1). والتعبير عن الغائب والحاضر بالمصدر مبالغة في كون الغائب كأَنه نفس الغيب لشدة خفائه. وكون الحاضر لقوة وضوحه كأَنه نفس الشهادة والوضوح. وأَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس أَن الغيب السِّر والشهادة العلانية. (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ): الذىَ تعالى قدره وعظم شأْنه، واستعلى على سواه في ذاته وصفاته وأفعاله. 10 - {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}: بعد ما بين الله تعالى أَنه عالم بجميع أَحوال الإِنسان في مراتب فطرته ومحيط بعالمى الغيب والشهادة، جاءَت هذه الآية لبيان أَنه لا فرق في علمه بين السِّرِّ والعلن، والجلى والخفى، فيستوى في علمه من أَسر القول منهم وأَخفاه عن غيره، ومن جهر به وأَذاعه خيرًا كان أَو شرًّا، فيعلم سر الأَول كعلمه بجهر الثاني من غير تفاوت بينهما في كيفية علمه بهما ودرجته، كما يستوى في علمه من يبالغ في الاستتار والتخفى في ظلمة الليل، ومن هو سارب وبارز بالنهار. ¬

_ (¬1) أما الآلات التي اخترعت لكشف ما في جوف الأَرض من معادن وبترول فإِن العلم بوساطتها لا يعتبر علما بالغيب، فقد أَصبح الغيب في حكم الظاهر بوساطة هذه الآلات ولذا يستوى في العلم بوساطتها كل من عرف طريقة استعمالها.

وقال الأَخفش وقطرب؛ المستخفى بالليل؛ الظاهر ومنه خَفَيْتُ الشَّىءَ وأَخفيته أي أَظهرته والسارب المختفى بالنهار يدخل سربًا يختفى فيه -انتهى بتصرف. وتلك عادة لبعض العابثين يختفون نهارًا، ويظهرون ليلًا، ليأْخذوا الناس على غرة وهؤلاءَ وأَمثالهم كغيرهم يحيط بهم علمه مهما تذرعوا به من إِحكام التخفى بمختلف الوسائل والأَساليب. {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} التفسير 11 - (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ): أَي لله ملائكة يعتقبون على حفظ عبده من جميع جهاته يأْتى بعضهم إِثر بعض بدون إِبطاءٍ. كأَن كلا منهم يطأْ عقب الآخر لشدة قربه منه يتناوبون عليه بالليل والنهار لوقايته من كل ضرر يمسه. أَو سوء يلحق به وذلك الحفظ من أَمر الله، أَي بسبب أَمر الله لهم به. فإِذا جاءَ قدر الله تخلوا عنه (¬1). ويجوز أَن يكون المعنى: يحفظونه إِذا أذنب من بأْس الله بالاستمهال والاستغفار له. كما يتعاقب عليه ملائكة آخرون لإِحصاءِ كل عمل له خيرًا كان أَو شرًّا. فهو بين أَربعة من الملائكة حافظين وكاتبين بالليل ومثلهم بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. وفي الصحيح: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ باللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بالنَّهارِ وَيَجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصرِ، فيَصْعَدُ إلَيْه الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُم، فَيَسْأَلُهَم ¬

_ (¬1) قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى على فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة" أخرجه الإِمام مسلم.

وَهُو أعْلَمُ بِهمْ كَيفَ تَرَكتم عِبَادِى؟ فَيَقُولُونَ آتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلونَ". أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة. باب فضل صلاة العصر. وبعد أَن ذكر سبحانه وتعالى إِحاطة علمه بالعباد وأَن لهم معقبات يحفظونه من أَمره، نبَّه على أَن النجاة في لزوم الطاعة والوبال في اختيار المعصية فقال -جل شأْنه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ): أَي جرت السنَّةُ الإِلهيةَ بأَنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من نعمةٍ وعافيةٍ وأَمنٍ ودعةٍ حتى يتركوا ما تعودوه واتصفوا به من عمل صالحٍ وخلق قويم متجهين إلى أَضداها، لأنهم بذلك قد أَهملوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وحينئذ يستحقون الحرمان من النعمة وقد يضم إِليه إِنزال العذاب بهم إِن عظمت ذنوبهم وقد يصاب به الصالحون الذين يعيشون بينهم، وذلك على سبيل الابتلاءِ لا على سيبل العقاب. كما قال الرسول - صلًى الله عليه وسلم - ردًا على من سأَله. "أنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إِذا كَثُرَ الخبثُ (¬1) ". وقد يشتركون في استحقاق العقوبة، لتراخيهم في الأَمر بالمعرف والنهي عن المنكر، قال - صلى الله عليه وسلَّم -: "إذا رأوا الظالم ولم يأَخذوا على يديه يوشك أَن يعمهم الله بعقاب (¬2) ". ويصح أَن يكون المعنى: إِن الله لا يغير ما بقوم من العقاب والبلاءِ حتى يغيروا ما بأَنفسهم من المعاصي، ليكون أَهلا لعفوه ورحمته. (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا): أَي وإِذا شاءَ الله بقوم بلاءً من مرض أَو فقر أَو هزيمة أَو عذاب أَو غير ذلك مما يسوءُ ويؤلم. (فَلَا مَرَدَّ لَهُ): أَي فلا دافع لبلائه على اختلاف أَنواعه، وَقيل إِذا أَراد الله بقوم سوءًا أَعمى أَبصارهم وبصائرهم فاختاروا ما فيه هلاكهم، وعملوه بأَنفسهم فيستحيل لذلك رده عنهم. ¬

_ (¬1) الخبث: الفسق والفجور. (¬2) معنى ذلك أَن المصائب قد تنزل بشوْم ذنوب الآخرين.

(وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ): أَي ليس لهم ملجأُ غيره يقيهم من أَخذ الله لهم ويتولى أَمورهم فيمنعهم ويدفع عنهم السوء الذي ينزله بهم، بسبب تغيير ما بأَنفسهم، وفي هذا دلالة قاطعة على أَن تخلف مراد الله محال، وإيذان بأَنهم بسبب إِنكارهم البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية، قد استحقوا العذاب الشديد، والعقاب الأَليم الذي لا يستطيع أَحد دفعه عنهم، إِذا أَراده الله بهم. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}. المفردات: (يُجَادِلُونَ): مفاعلة من الجدل بالتحريك وهو المناقشة والمخاصمة. (المِحَالِ): بكسر الميم؛ الكيد والمكر، والمماحلة المكايدة، ويستعمل في الحيلة والقوة والجدال، يقال: ما حل عن رأْيه جادل، والمِحَالُ من الله معناه التدبير بالحق كما قاله النحاس. التفسير 12 - (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا): في هذه الآية الكريمة بيان لبعض الظواهر الكونية التي تنطق بكمال قدرته تعالى، وتبرز للحس عظيم صُنْعِهِ، فقد جاءَ فيها أَنه تعالى يرينا البرق لإِخافتنا من آثاره التي قد

تتمثل في صواعق حارقة، وبرق قوى يكاد عند انبعاثه يذهب بالأَبصار، ومطر غزير يشق على المسافر ويؤذيه، وقد ينفر منه المقيم ولا يبتغيه، كما يرينا البرق أَيضًا لإِطماع عباده في غيث نافع يغيث الزرع ويُدرُّ الضرع، وينشر الخصب والرخاءَ، قال الحسن: خوفا من صواعق البرق وطمعا في غيثه المزيل للقحط، وقال قتادة: خوفا للمسافر يخاف مشقته وأَذاه، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله. (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثَّقَالَ): أَي السحب الممتلئة بالمطر. لذلك يعم نفعها ويعظم أَثرها، والثقال جمع ثقيلة لكثرة ما تحمل من ماء المطر. 13 - (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ ... ): أَي أَن الرعد خاضع لله خضوعا تاما شأْنه شأْن جميع الكائنات فالتسبيح منه مجاز عن الخضوع، ويجوز أَن يكون تسبيحه تسبيحا مقاليا ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا سمع صوت الرعد يقول: "سبحان من يسبح الرعد بحمده" (¬1). وإِسناد يسبح إِلى مضاف محذوف كما يقول بعض المفسرين والتقدير ويسبح ملك الرعد، مخالف لظاهر النص الذي ينطق بأَن الرعد هو الذي يسبح تسبيحا مجازيا أَو حقيقيا (¬2) كما تقدِم. وللملائكة كذلك تسبيح وتنزيه إِذ هم ملأ ُسماوي لا يعصون الله ما أَمرهم ويفعلون ما يؤْمرون ينبىءُ بذلك قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ): أَي وتسبح الملائكة من هيبته تعالى وإجلاله. (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ): أَي أَن الله سبحانه وتعالى ينزل الصواعق (¬3) فيصيب من يشاءُ هلاكه من عباده فيهلكه، وقد تكون مظهرًا من مظاهر قدرته وجبروته وهى في كلتا الحالتين آية من آيات الله تعالى. ¬

_ (¬1) أَخرجه: ابن جرير عن أَبي هريرة (¬2) وليس هذا مستحيلا على الله، فإِن عباده اخترعوا الحاسبات الألكترونية وغيرها وهو الذي أقدرهم على ذلك، وهو الذي سخر الجبال مع داوود يسبحن بالعشي والإشراق، وجعل الطير تؤوب وتسبح معه. (¬3) مرَّ بيان الصواعق في تفسير الآية 19 من سورة البقرة، فارجع إِليه.

ولما نعى الله على المشركين عنادهم في اقتراح الآيات وإِنكارهم كون الذي جاءَ به الرسول من جنس الآيات، ولم يعتبروا بما شاهدوا من ظواهر هي آيات على قدرة الله، عقب ذلك ببيان طبيعتهم تسلية لرسوله فقال سبحانه: (وَهُمْ يَجَادِلُونَ فيِ اللهِ): أَي لا تحزن لما ترى منهم في شأْنك. فهم مع أمارات القدرة العظيمة، ودلائل التوحيد الباهرة. يجادلون في الله بادعاءِ الشركاءِ وإِثبات الأَولاد له تعالى، وإِنكار البعث، ويلحون في استعجال العذاب، ومع سلطانه القاهر يمعنون في العناد والمكابرة. (وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ): أَى أَنه سبحانه شديد القوة على أَعدائه يأْخذهم أَخذ عزيز مقتدر فَيصيبُ مِنْهُم من يشاءُ وفق إِرادته. وقال الحسن شديد الإِهلاك بالمحل وهو القحط. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)) المفردات: (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ): كمن مدهما مبسوطتين. (لِيَبْلُغَ فَاهُ): ليصل إِلَى فَمِه. التفسير 14 - (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) الآية. أَي أَن دعوة الحق تختص به تعالى، أَمَّا دعوة غيره كالأَصنام والكواكب، فليست دعوة حق، بل هي دعوة باطل، ولهذا فإِنه تعالى: يجيب دعاءَ من دعاه، فهو أَهل

للإِجابة كما هو أَهل للدعاءِ. أَما الذين يدعونهم من دونه من الشركاءِ، فإِنهم لا يجيبون دعاءَ من دعاهم بشيءٍ فهم ليسوا أَهلًا للإِجابة، كما أَنهم ليسوا أَهلا للدعاءِ. وكيف يستجيبُون لهم وهم صمّ بكم عُمىٌ فلا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون، وكل من يتوقع من هذه الأَصنام الاستجابة وتحقيق أَي أَمل يرجوه ما هو إِلا (كَبَاسِطِ كَفيهِ إلَى الْماءَ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هوَ بِبَالِغِهِ): فكما أَن من بسط كفيه إِلى الماءِ يدعوه أَن يرتفع إِلى فمِهِ فلا يستجيب له فكذلك من بسط كفيه إِلى الأَصنام يدعوها لتحقيق أَمل له لا تستجيب دعاءَه. (وَمَا هوَ بِبَالِغِهِ): أَي لا يصل الماءُ إِلى فمه أَبدا إِن دعاه وبسط كفيه إِليه، لأَنه جماد لا يشعر بظَمئه، ولا بِبَسْطِ الكفين إِليه وهم يدعوه أَن يصل إِلى فمه، ولا يستطيع بنفسه سلوك السبيل إِليه، فكذلك الآلهة لأنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرًّا، فإنها عاجزة فكيف تملك الاستجابة للذين يدعونها، ولذلك كان دعاؤُهم لها كما يقول جل شأْنه: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ في ضَلَالٍ): أَي أَن دعاءَهم إِلى ضياع وخسار لأَنها غير أَهل للدعاءِ ولا للإِجابة، فكيف يعبدها المشركون، وهى غير أَهل للدعاءَ فضلا عن العبادة، وقد ضرب الله الماءَ مثلا رائعا ليأْس الكافرين من استجابة الأَصنام إِليهم، ويذكر القرطبى في معناه ثلاثة أَوجه: الأَول: أَن الذي يدعو إِلها غير الله كالظمآن الذي يدعو الماءَ إِلي فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه، ويشير إِليه بيديه فلا يأْتيه أَبدًا لأَن الماء لا يستجيب وما الماءُ ببالغ إِليه، قاله مجاهد. الثاني: أَنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماءِ وقد بسط كفه فيه ليبلغ فاه وما هو ببالغه لكذب ظنه وفساد توهمه، قاله ابن عباس. الثالث: أَنه كباسط كفيه إِلى الماءِ ليقبض عليه فلا يجمد في كفيه شىءٌ منه اهـ. والوجه الذي ذكرناه أَوضح من هذا كله والله تعالى أَعلم.

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} المفردات: (يَسْجُدُ): يخضع وينقاد. (طَوْعًا): اختيارًا. (وَكَرْهًا): بفتح الكاف؛ إِكراهًا. وبضمها؛ مشقة. (الغُدُوّ): جمع غداة لمقابلته بالآصال، وقيل مصدر غدا، يقال غَدَا غدوًّا بمعنى دخل في الغدوة. والغدوة والغداة من صلاة الفجر إِلى طلوع الشمس. (وَالْآصالِ): جمع أصيل، والأصيل ما بين العصر وغروب الشمس. التفسير 15 - (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ... ) الآية. أَي أَن جميع من فيهما من الإِنس والجن والملائكة وغيرهم خاضعون لعظمته منقادون لإِرادته شاءُوا أو أَبوا، يستوى في ذلك مؤْمنهم وكافرهم، ومن له عقل وإرادة وما لا

عقل له ولا إِرادة والتعبير بِمَنْ وهي للعقلاء لتغليبهم على غيرهم، وجميع هؤُلاءِ َيسجدون لله (طَوْعًا وَكَرْهًا): فانقياد المؤْمن يقع منه اختيارًا طائعا لأَنه خاضع لله بظاهره وباطنه وانقياد الكافر يقع منه اضطرارا، فإِنه خاضع لله في تربيتهِ ورزقه، وصحته ومرضه وغير ذلك. فمشيئته تعالى ماضية فيه. (وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ): أَي تنقاد لله كذلك ظلال من له ظل منهم فهى تحت سلطانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والرجوع والزوال. خاضعة له منقادة لإِرادته بالغدو والآصال. لأَن ظلال الأَشياءِ تظهر في هذين الوقتين وتتضح حركتها زيادة ونقصا وميلا من ناحية إِلى أَخرى بتصريف الله. إِذ الحركة والسكون بيده تعالى، والمتحرك والساكن في قبضته. 16 - (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ... ) الآية. أَمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله عليه أَن يبين للمشركين طريق الهداية بمحاورتهم سائلًا ومجيبًا، ليلفت أَنظارهم إلى البحث والتأَمل فقال له: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ): أَي قل يا محمَّد لأُولئك. الكفار الذين اتخذوا الشركاءَ لله والأَولياءَ من دونه: مَن ربُّ هذه الأَجرام العظيمة التي ترونها فيبهركم ما فيهما من دقة وكمال وجمال؟ ثم أَمره أَن يذكر لهم الجواب فقال: (قُلِ اللَّهُ): للإِيذان بأَنه جواب متعين إِذْ لا جواب سواه، ولهذا فالسائل والمجيب في تقريره سواءٌ، وَفِى ذلك إِشعار لهم بمخالفتهم لما علموه مما لا يصح إِخفاؤه بدليل قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ": ثم أَمره أَن يبين لهم خطأَهم الفاضح فيما سلكوه بجانبه تعالى فقال: (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): أَي قل لهم تبكيتًا وتقريعًا أبعد أَن علمتم أَنه رب السماوات والأَرض الذي ينقاد لسلطانه وتقديره كل من فيهما، أَبعد أَن علمتم هذا عميت قلوبكم فاتخذتم من دونه تعالى

أَولياءَ عاجزين لا يملكون لأَنفسهم نفعًا يأْتون به أَو ضررًا يدفعونه فهم عن جلب النفع ودفع الضر عن غيرهم أَضعف وأَعجز. ثم ضرب لهم مثلا يصور آراءَهم الفاسدة بصورة المُحَس فقال جل شأْنه: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): أَي قل لهم مُقَرِّعًا هل يستوى الأَعمى وهو مثل المشرك الجاهل بالعبادة وبمستحقها، والبصير وهو مثل الموحد العالم بذلك، والمراد لا يستوى المؤمن والكافر. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ): ويراد من الظلمات الكفر والضلال ومن النور الإِيمان والتوحيد أَي هما لا يستويان. ثم إِنه تعالى أَكد ما أَشارت إِليه الآية فيما سبق من تخطئة المشركين فقال: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ): أَي بل أجعلوا لله شركاءَ خلقوا مثل خلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يميزون بين خلق الله وخلق آلهتهم، فاستحقوا بذلك العبادة عندهم كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأَ خطئهم. ولكن الأَمر ليس كذلك لأَنهم جعلوا له شركاءَ عاجزين لا يقدرون على نفع أَنفسهم أَو دفع الضر عنها، فكيف يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من الإِيجاد والإِبداع؟ وإِجمال المعنى أَن الله تعالى نعى عليهم اتخاذهم الشركاءَ، ووصفها بأَنها عاجزة ذليلة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، وأَنها ليس لها شىءُ من الخلق، وعقب ذلك بأَمر نبيه أَن يخبرهم أَنه تعالى هو الخالق وحده، فقال: (قُلِ الله ُخَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ): أَي قل يا محمد؛ الله خالق كل شيءٍ؛ فلهذا لزم أَن تَعبدُوه وحده لأَنه لا خالق غيره.

(وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ): وهو سبحانه المختص بالأُلوهية المنفرد بالربوبية، القهار لكل متكبر، الغالب لما سواه، فكيف يتوهم أَن يكون المغلوب شريكًا له، تعالى الله عن ذلك علوَّا كبيرًا. (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)) المفردات: (أَوْدِيَةٌ): جمع واد، وهو كل مُنفَرَجٍ بين جبال أَو آكام. ويكون مَنْفَذًا للسيل. (الزَّبَدُ): ما يعلو وجه الماءِ كالرغوةِ، (رَابِيًا): مرتفعًا فوق الماءِ. (الْحِلْية): ما يتخذ للزينة من الذهب والفضة وغيرهما.

(مَتَاعٍ): الْمتَاع كل ما ينتفع به من الطعام والثياب وأَثاث البيت. ويراد بالمتاع هنا أَثاث البيت المتخذ من نحو الحديد والنحاس والرصاص. (جُفَاءً): مرميَّا به؛ يقال: جفأَ الماءُ بالزبد إِذا قذفه ورمى به، وجَفَأَتِ القِدرُ: رمت بزبدها عند الغليان. (اسْتَجَابُوا): أَجابُوا بصدق. (الْحُسْنَى): مُؤنَّث الأَحسن، والمراد بها المثوبة الحسنى وهي الجنة وما فيها من نعيم مقيم. التفسير 17 - (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ... ) الآية. ضرب الله جل ثناؤه بهذه الآية الكريمة مثلا للحق في عموم فائدته وعظيم بركته، بالماءِ الصافى الذي أَنزله الله من السماءِ فسالت به أَودية بين الجبال والآكام بالقدر الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته لنَفْع الناس؛ يسيل مندفعًا في مجاريه حتى يصل إلى غايته، وجعل الباطل في اضمحلاله وزواله كالزبد وهو الرغوة التي تعلو سطح الماءِ ثم تكون نهايته أَنْ يضمحل ويذهب، ويشير جل شأْنه إِلى مثل ثان للحق والباطل بقوله: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ): ففي هذا المثل جعل الله الحق كالمعادن التي يوقد عليها في النَّار لصهرها وإِذابتها لتصفيتها وتَنْقِيتها من كل الشرائب، تيسيرًا للانتفاع بها في اتخاذ الحلى من الذهب والفضة ونحوهما، وفي أَثناءِ صهر هذه المعادن يعلو فوقها زبد كزبد الماءِ في كونه رابيا فوقه ولا ينتفع به، وقد جعله الله مثلا للباطل في الفلزات المذابة، كما جعله مثلا له في الماءِ، فالزبد في كليهما يشير إِلى الباطل. (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحقَّ والْبَاطِلَ): أَي مثل ذلك يضرب الله للناس مثل الحق ومثل الباطل، ثم بَيّن الله ذهاب الباطل وثبات الحق فقال:

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ): أَي أَن الباطل الشبيه بالزبد مهما علا وظهر فإِن مآله إِلى اضمحلال وفناءٍ حيث يرمى به وينبذ كما يذهب الزبد جفاءً. والجُفاءُ ما أَجفأَه الوادى أَي رمى به وما أَجفأَته القدر إِذا غلت أَي رمت به وصبته وأَما ما ينفع الناس من الماءِ الخالص الصافى، وما خلص من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وسائر المعادن فيمكث في الأَرض، فالماءُ يبقى بعضه فوق سطحها لينتفع به ويذهب بعضه الآخر إِلى جوف الأَرض، لينتفع به في العيون والآبار، وأَما المعادن فيصاغ من بعضها أَنواع الحلى ويؤْخذ من بعضها الأَوانى وأَصناف الآلات والأَدوات، فهذا هو المقصود من مكثها في الأَرض. (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ): أَي كهذين المثلين في الوضوح والجلاءِ يضرب الله الأَمثال للناس دائما ليبصرهم بالخير والشر، إِظهارا لكمال العناية بالتوجيه والإِرشاد. ولما بين الله شأْن كل من الحق والباطل شرع يبين حال أَهل كل منهما فقال سبحانه: 18 - (لِلَّذِينَ استَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنىَ ... ) الآية. أَي للذين استجابوا لله فأَطاعوه، وأَطاعوا رسوله، إِذا دعاهم إِلى الحق بطرق الدعوة المتنوعة ومن بينها ضرب الأَمثال الذي يوصل المعانى إِلى القلوب في يسر وسهولة، لما له من تأْثير بليغ في النفوس لتصويره المعقول بصورة المحسوس، لهؤُلاءِ المهتدين المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة وغيره. وعن مجاهد أَنها الحياة الحسنى التي لا يشوبها كدر أَصلًا، أَو هي النصر في الدنيا والنعيم المقيم غدًا.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ): أَي أَن الذين عاندوا وأَعرضوا عن الحق مع وضوحه وجلائه لو أَنهم يملكون ما في الأَرض جميعًا من أَصناف الأموال المتنوعة، ويملكون مثل ذلك معه، لقدموه افتداءً لأَنفسهم، ليتخلصوا مما هم فيه من عذاب ونكال، وفيه من تهويل ما ينزل بهم ما لا يحيط به بيان. (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ): فلا تقبل منهم حسنة، ولا يتجاور لهم عن سيئة، ويحاسب كل منهم على ذنبه كله لا يترك منه شىءٌ. (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ): أَي أَن مقامهم ومسكنهم جهنم يتخذون منها فراشا لهم وإِنه لبئس الفراش الذي أَعدوه لأَنفسهم، يسيل عليه ما ينساب من جلودهم مما يصْلَونه من نارها وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها ليذوقوا أَشد العذاب وأَقساه.

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} التفسير 19 - (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ... ) الآية. قبل هذه الآية ضرب الله مثلا للحق بماءٍ أَنزله من السماءِ، فسالت به أَودية بقدرها وانتفع به الناس، وضرب مثلا للباطل بالزَّبَد الذي يعلو فوق الماءِ ولا يلبث أَن يضْمَحِل ويزول، وبيَّن أَن الذين استجابوا لربهم لهم الحسنى والذين لم يستجيبوا لربهم لهم سوءُ الحساب ومأْواهم جهنم وبئس المهاد. وجاءَت هذه الآية لتقرير استحقاق المسِتجيب لربه أَحسن الجزاءِ، واستحقاق المعرض عنه سوءَ الحساب وشر العقاب. والمعنى: أيستوى في الجزاءِ مؤْمن وكافر؟ -كلا- فمن هو بصير يعلم بنور قلبه وإِرشاد عقله وهداية ربه أَن القرآن الذي أَنزله إِليك ربك يا محمد هو الحق الذي لا يشوبه باطل، مَنْ كان هذا شأْنه -لا يتساوى عقلا مع من هو أَعمى القلب لا يتبين الرشد من الغى، والهدى من الضلال، فلهذا أحسن الله جزاءَ من استجاب له وآمن بكتابه، وأساءَ حساب وجزاء من أَعرض عن دعائه، وكذَّب برسوله وكتابه. ثُمَّ ختم الله الآية بقوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ): ليبين أَن أَصحاب العقول النظيفة والأفكار المستنيرة، هم الذين يتذكُّرون ويتَّعظون بما يسمعونه من آيات الله البينات، دون سواهم من أَصحاب العقول المغطاة بحجب الباطل، وغياهب التقليد.

روى أَن هذه الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- وأَبي جهل لعنه الله، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} المفردات: (بعَهْدِ اللهِ): بما عاهدوه عليه من الإِيمان به، والعمل بما أَمرهم به في كتبه التي أَنزلها إِليهم. (وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ): المراد بالميثاق ما أَخذوه على أنفسهم من العهود نحو ربهم ونحو عباده وقال القفال: هو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات والشرائع، ونقض الميثاق: عدم العمل به. (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ): الابتغاءُ معناه الطلب، والمراد بالوجه: الذات. (وَيَدْرَءُونَ): أَي يدفعون. (عُقْبىَ الدَّارِ): عاقبة دار الدنيا التي أُعدت للصالحين -وهي الجنة. التفسير 20 - (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ): بعد أَن بيّنت الآية السابقة أَن الذين يذكرون ويتعظون بالمواعظ هم أَصحاب العقول الصافية من عوامل الهوى، جاءَت هذه الآية والآيتان بعدها لبيان أَوصافهم.

والمعنى: وما يتذكر إِلا أُولو العقول الصافية الذين يوفون بما عاهدوا الله عليه من الاعتراف بربوبيته بقولهم: "بلى" جوابا لسؤَاله البشر "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ": وذلك حين أَخرج منِ ظهورهم ذريتهم وأَشهدهم على أَنفسهم. ويحتمل أَن يكون المراد من عهده تعالى ما خَلَقَه فيهم من القوى العقلية والجسدية التي توجب عليهم عبادة الله، ويتمكنون بها من أَداءِ ما كلفهم به، فإِن ذلك بمنزلة العهد بينهم وبين ربهم، ومن العلماءِ من فسر عهد الله بتكاليفه التي عهد إِليهم بها في كتبه التي أَنزلها إِليهم. ثم ختم الآية بقوله: (وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ): وهو تعميم بعد تخصيص إِن أُريد من العهد الاعتراف بالربوبية، أَي ولا ينقضون ما وثقوه على أَنفسهم من إيمانهم بربهم ومواثيقهم مع خلقه سبحانه مؤْمنين أَو كافرين، فإِن أُريد من كُلِّ من العهد والميثاق العموم كانت هذه الجملة مؤَكدة للأُولى. 21 - (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ): هذه هي الصفة الثانية لأُولى الأَلباب الذين مدحهم الله بأَنهم هم الذين يتذكرون. والمعنى: وما يتذكر بالمواعظ إِلا أُولو الأَلباب الأَوفياء والذين يصلون ما أَمر الله بوصله من الطاعات كَبِرِّ الأَرحام، والعطف على الأَيتام، وأَداءِ الحقوق للناس، والإِيمان بجميع الأَنبياء دون تفريق بينهم، والإِحسان إِلى جميع الحيوانات، فكل ذلك وأَمثاله من الطاعات يعتبر وصلا لما أَمر الله به أَن يوصل. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ): أَي ويخافون إلَههم ومالكهم وخالقهم ومربِّيهم، يخافونه خوف إِجلال وإِعظام، ويخافون أَيضا سوءَ حسابه تعالى لهم فيبعثهم هذا الخوف على أَن يصلوا ما أَمر الله بوصله، ويبتعدوا عما يغضبه عليهم، وسوءُ الحساب يكون بالمناقشة والاستيفاءِ وعدم التجاوز، ومن نوقش الحساب عذب -نعوذ باللهِ من ذلك- فلا طوق لأَحد بعذابه.

22 - (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً): هذه هي الصفة الثالثة لأُولى الأَلباب. والمعنى: وما يتذكر إِلَّا أُولو الأَلباب الذين صبروا على التكاليف، وقهروا النفس الأَمارة بالسوءِ حتى أخضعوها لطاعة ربها، وكان صبرهم هذا طلبا لرضا ذات ربهم، من غير نظر منهم إِلى جانب الخلق رياءً وسمعة، ولا إِلى جانب النفس زينة وعجبًا، وأقاموا الصلاة المفروضة فأَدَّوْها مستوفية الأَركان والشروط، وأنفقوا بعض ما رزقناهم بحيث لا يقل عما فرضه الله عليهم في الزكاة، وكان إِنفاقهم له سرًّا. حينما يكون السر أَولى في الإِنفاق من الجهر، وجهرًا حينما يكون الجهر أَرجح من السر. والإِنفاق سرًّا أَولى فيما إِذا كان المنفِق لا يتَّهم بترك الزكاة، أَو كان الآخذ مستور الحال خشية أَن يخدش حياؤُه بأَخذه الزكاة جهرًا، وكما في صدقة التطوع -إِلى غير ذلك من المقتضيات. والإنفاق جهرا أولى إِذا كان لحمل المياسير على الاقتِداءِ به، أَو خوفا من أَن يتَّهم بالشحّ، أَو لغير ذلك من الأَغراض الشريفة. (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ): أَي ويقابلون السيئة بالحسنة ليمنعوا تكرارها، فإِنك إِذا أَحسنت إِلى من أَساءَ إِليك، يستحى أَن يكرر مساءته بعد أَن قابلتها بإِحسانك ما لم يكن المسيءُ لئيمًا لا يَثْنِيه الإِحسانُ عن المساءَة فإِن مقابلة شره بمثله تكون أَولى، فإِن من لم يتذأَب أَكلته الذئاب، وفسرها بعضُهم بأَنهم يتبعون السيئةَ الحسنة فتمحوها كما جاءَ في السُّنَّة. (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبىَ الدَّارِ): أَي أُولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، لهم عاقبة دار الدنيا التي ينبغي أَن تكون عاقبة لهم بالنسبة للمكلفين فيها، وهي الجنة.

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} المفردات: (جَنَّاتُ عَدْنٍ): العدن في اللغة؛ الإِقامة، ومنه عدن بالمكان أَي أَقام به، وفي عرف الشرع اسم لجنة من جنان الآخرة. والمراد هنا المعنى الأَول، أَي جنات إِقامة، فهم يقيمون فيها لا يبرحونها. (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ): أَمان لكم من المحن والآفات. التفسير 23 - (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ): لما بيَّن الله تعالى في الآية السابقة أَن الصابرين ابتغاءَ وجه ربهم المتصفين بما جاءَ فيها من الصفات الجليلة، لهم عاقبة حسنة بعد دار الدنيا، جاءَت هذه الآية لبيان أَن هذه العاقبة هي الجنة، وبيان من يدخلها معهم وما يقال لهم فيها. والمعنى: والذين صبروا ابتغاءَ وجه ربهم واتصفوا بتلك الصفات الجليلة، لهم عاقبة الدار الدنيوية، وهذه العاقبة هي جنات إِقامة واستقرار يدخلونها، ويدخلها معهم الصالحون من أَبائهم وأَزواجهم وأَولادهم وإِن لم يبلغوا في الصلاح مبلغهم، إِكراما لهم وتعظيما لشأْنهم، وزيادة في أُنسهم، وهذا الفضل يشهد به ما جاءَ في قوله تعالى في سورة الطور: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وقد فهم من هذه الآية وتلك، أَن في دخول الجنة أَولا بالصلاح، وأَساس الصلاح الإِيمان ويكمله العمل الصالح، وأَما إِلحاقهم بأَقاربهم في منازلهم العالية فيكون بالانتساب إِليهم أُصولًا أُو فروعا أَو أَزواجا. ولا يحدث هذا الإِلحاق إِلا بعد استيفاء هؤلاءِ جزاءَ أَعمالهم، كما يصرح به قوله تعالى: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ

مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).ولا يقتصر أَمرهم على ذلك بل تبشرهم الملائكة بالأَمن والسلام، وذلك ما جاءَ في قوله سبحانه: "وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ" أَي تلك المنازل في منازلهم الكريمة بالجنة، يدخل عليهم الملائكة من كل باب من أَبوابها قائلين لهم: 24 - (سَلامٌ عَلَيكُمْ بِمَا صَبَرتُمْ): أَي أَن الملائكة يبشرونهم بدوام السلامة من المخاوف بسبب صبرم على التكاليف واحتمالهم آلام الحياة ومتاعبها، وكأَنهم يقولون لهم لئن تعبتم في دنياكم فقد استرحتم ونعمتم وسعدتم في أُخراكم، ولم يعد للخوف والمشقة سبيل إِليكم. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ): يحتمل أَن تكون هذه الجملة مما يقوله الملائكة للصابرين، ويحتمل أَنها ثناءٌ من الله على الجنة التي جعلت عاقبة لدنياهم، ومدح منه لها، أَي فنعم عاقبة الدار التي كنتم فيها حين التكليف، هذه الجنة التي آل أَمركم إِليها حين الجزاءِ، وكيف لا تكون كذلك وفيها ما لا عين رأَت ولا أُذن سمعت لا خطر على قلب بشر. (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)) المفردات: (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ): المراد بعهد الله ما أَوجبه عليهم من طاعته، وبنقضه عصيانه. (مِن بَعْدِ مِيثَاقِه): من بعد توثيقه وتوكيده. (اللَّعْنَةُ): الطرد من رحمة الله.

(سُوءُ الدَّارِ): أَي سوءُ عاقبة الدار الدنيا، أَو هو من إِضافة الصفة للموصوف، أَي الدار السيئة، وهي جهنم فهي دارهم ومأْواهم -وبئست الدار والمأْوى. (يبْسُطُ الرزْق): يوسعه. (ويَقْدِرُ): يضيق. (مَتَاعُ): شىءٌ قليل يتمتع به، كزاد الراكب. التفسير 25 - (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ .. ) الآية. بعد أَن بينت الآيات السابقة حال أَهل الوفاءِ بعهد الله وحسن مآلهم، جاءَت هذه الآية لتبين سوءَ حال من يتصفون بنقائض صفاتهم وسوءَ مآلهم يوم الجزاءِ، وقد تحدثنا في الآيات السابقة عن الوفاءِ بعهد الله بشيءٍ من التفصيل، وتحدثنا هنا في المفردات عن معنى هذا العهد إِجمالا، ونَزِيد عليه ما ذكره الإِمام الرازى فنقول: فسر الرازى عهد الله بما أَلزمه عباده عن طريق الأَدلة العقلية؛ لأَن ذلك أَوْكَدُ من كل عهد ومن كُلِّ أَيْمان، إِذ الأَيمانُ إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاءَ بمقتضاها، ثم قال والمراد من نقضها أَن لا ينظر المرءُ فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أَو بأَن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعِلمه، أَو بأَن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق، والمراد بقوله سبحانه: (مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) من بعد أَن أَوثق الله تلك الأَدلة وأَحكمها بدلائل أُخرى عقلية أَو سمعية، لأَنه "شيء أقوى مما دَل على وجوبه في أَنه ينفع فعله ويضر تركه": اهـ باختصار، ونقل الآلوسى عن بعض العلماءِ تفسيره للعهد بما أَوصى الله به عباده من التكاليف، وتفسيره للميثاق بالإِقرار والقبول -أَي من بعد إِقراره وقبوله. ومعنى الآية إِجمالا: والذين لا يعملون بما كلفهم الله به عن طريق الأَدلة العقلية والنقلية، من بعد ما أَكد الله تلك التكاليف بمختلف الأَدلة، ويقطعون ما أَمر الله بوصله من الإِيمان بجميع الأَنبياءِ الذين بعثهم الله بالحق هُدَاةً إِلى البشر، فتراهم يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعض آخر، كما يفعله أَهل الكتاب حيث يكفر اليهود بعيسى ومحمد

عليهما السلام، ويكفر النصارى بمحمد صلى الله عليه وسِلم، ويقطعون أَيضا ما أَمر الله بوصله من حقوق الأَرحام ومحبة المؤْمنين وموالاتهم وغير ذلك مما تقدم بيانه في صفات أَهل الوفاءِ من الصبر والصلاة والإِنفاق في وجوه البر، ودرءِ السيئة بالحسنة ويضيفون إِلى قطعهم ما أَمر الله به أَن يوصل أَنهم يفسدون في الأَرض بالظلم وإِثارة الفتن، فهؤُلاءِ الموصوفون بتلك الِصفات السيئة لهم بسبب ذلك الطرد من رحمة الله، ولهم الدار السيئة التي جعلها الله مقرَّا لهم، وهي جهنم وبئست دارًا ومقرَّا. 26 - (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... ) الآية. نزلت هذه الآية في أَهل مكة كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما -نقول: وكأَنها نزلت لتنعى عليهم فرحهم بالحياة الدنيا مع أَنها إِلى زوال، وليبين أَن سعة الرزق على الكافر ليست لإِكرامه، وتضييقه على المؤمن ليس لإِهانته، فكلا الأَمرين صادر من الله تعالى لحكم إِلهية يعلمها سبحانه، فقد يوسع على الكافر إِملاءً واستدراجا، فلا وجه لفرحه، وقد يضيق على المؤْمن زيادة في أَجَره، والآية دستور عام. وإِن نزلت بسبب خاص. والمعنى: الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يوسع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيق الرزق على من يشاءُ، دون أَن يجعل الأَول برهانا على الرضا، ولا أَن يجعل الثاني أَمارة على المقت والغضب، فكلاهما يخضع لمشيئته، وحقُّ لربوبتيه لعباده، وهو أَعلم بحكمته، فلا يسأَل عما يفعل ولا يفترى عليه بالأَسباب والعلل، وقد فرح أَهلُ مكة وَمَنْ على شاكلتهم بما أُوتوا من نعيم الحياة الدنيا وسعة الرزق فيها فركنوا إِليها، ولم يعملوا لما بعدها، وما نعيم الحياة الدنيا في جانب نعيم الآخرة إِلا شيء قليل يتمتع به وليس له بقاءٌ، كعجالة الراكب وزاد الراعى، ولهذا لا يهتم بنعيمها أَصحاب المقامات العالية إِذا غاب عنهم. أَخرج الترمذي وصححَه عن عبد الله بن مسعود قال: "نَامَ رسولُ الله صَلى اللهُ عليه وسلم عَلى حَصَيرٍ فَقَامَ وقَدْ أَثر في جَنْبه، فقُلنَا يا رسولَ الله: لو اتَّخَذْنَا لك وِطاء، فقال: مَا لىِ وللدُّنيا، مَا أَنَا في الدُّنيا إلاَّ كَراكِبٍ استَظَل تَحْت شَجَرَةٍ ثم راحَ وَتركَهَا".

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)) المفردات: (مَنْ أَنَابَ): من رجع إِلى الحق. (تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ): تستقر وتستريح وتستأْنس. (طُوبَى لَهُمْ): قال الزجاج؛ طوبى فُعْلىَ من الطيب، وهي الحالة المستطابةُ لهم. وقال ابن عباس: فرحٌ لهم وَقُرَّةُ عين. وقال قتاده: حسنى لهم، إِلى غير ذلك من المعانى التي ترجع إِلى ما ذكره الزجاج، وقيل: هي اسم للجنة، أَو لشجرة فيها. (وَحُسْنُ مآبٍ): وحسن مرجع. التفسير 27 - (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... ) الآية. لا يزال الحديث مُتَّصلا في شأْن أَهل مكة، وذكرهم بعنوان الكفر لذمهم وتقبيح حالهم، وبيان أَنه السبب في مقالتهم الآتية، والمراد بهم عبد الله بن أَبي أُمَيَّة وأَصحابه حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات الكونية. والمعنى: ويقول الذين كفروا من أهل مكة: هلا أُنزل على محمد آية من ربه كالتى اقترحوها عليه من سقوط السماءِ كِسَفًا عليهم، وتحويل الصحراء إِلى بساتين كأَرض الشام وإِحياءَ جدهم قصى، وغير ذلك بما يتنافى مع الحكمة ولا يناسب عصر رسالة القرآن. وهؤلاءِ المقترحون لم يشعروا بأَن القرآن الذي يتلى عليهم هو آية الآيات، وأَبقى المعجزات فما من آية جاءَ بها رسول قبله إِلا أَصبحت خبرا ولم تترك أَثرا، وهي لذلك مجال

لإِنكار المنكرين، وزعم أَنها ضرب من الحكايات والأَساطير، يقولها أَرباب الديانات ولا أَساس لها من الصحة، ولو صحت لكانت سحرا، أَما القرآنُ فهو باق ما بقى الزمان، وإِعجازه عام للإِنْسِ والجان، وهو الذي أَيد معجزات الأَنبياءِ، وحماها من إِنكار المكذبين. (قُلْ إْنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إلَيْهِ مَنْ أنَابَ): قل لهم أَيها الرسول: إِن الله تعالى يتخلى عن هداية من يشاءُ من أَهل الإِصرار على الكفر، فلا يوفقهم إِلى معرفة ما في القرآن من آيات وإِعجاز، ولا إِلى الإِيمان بِهِ وبِمَا أَظهر الله على يدي رسوله من سائر الآيات، ويهدى إِليه سبحانه من رجع عن العناد والمكابرة، وأَلقى السمع وهو شهيد، ثم بين حال من أَناب إِليه فقال: 28 - (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): المقصود من الذين آمنوا الذين اتَّجهُوا إِلى الإِيمان لحسن استعدادهم عندما سمعوا آيات الله، لرقة قلوبهم وصفاءِ نفوسهم، وانعدام مكابرتهم، فهؤلاءِ هم الذين يهديهم الله إِليه. والمعنى: ويهدى الله إِليه من أَناب ورجع إِليه بعد الكفر حين سمعوا مناديا ينادى للإيمان أَن آمنوا بربكم فآمنوا، وهم الذين استعدت للإِيمان نفوسهم، واطمأَنت قلوبهم بذكر الله وآياته، أَلا بذكر الله وقرآنه تطمئن القلوب الصافية، وتسكن النفوس الحائرة، واستعمال الإِيمان في الآية بمعنى الاستعداد له والتأَهب للوصول إِليه يماثل استعمال المتقين في قوله تعالى: "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ". بمعنى هدى للصائرين إلى التقوى لحسن استعدادهم. 29 - (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ): جاءَت هذه الآية لتبشر الذين اهتدوا إِلى الله فآمنوا وعملوا الصالحات،. والمعنى: الذين آمنوا بربهم ونبيهم وعملوا الأَعمال الصالحة بعد أَن هداهم الله إِليه لحسن استعدادهم وصفاءِ قلوبهم، هؤلاءِ لهم فرح وكرامة، وحسن مرجع في الدار الآخرة، فإِن مرجعهم إلى جنة الله ورضوانه.

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} التفسير 30 - (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ ... ) الآية (¬1). أَي كما أَرسلنا المرسلين قبلك يا محمد أَرسلناك في أَمة قد مضت من قبلها أُممُ أُولئك المرسلين -أَرسلناك في هذه الأُمة- لكي تقرأَ عليها القرآن الذي أَوحيناه إِليك -وحالهم أَنهم يكفرون بالرحمن لعلهم بعد سماع القرآن يثوبون إِلى رشدهم، فيؤْمنون بوحدانيته تعالى، ويدركون مبلغ نعمته ورحمته، ومن أَعظم مظاهرها إِرسالك يا محمد بالهدى ودين الحق إِليهم، قل لهم أَيها الرسول: الرحمن الذي كفرتم به وعبدتم سواه هو ربى وحده دون غيره، فإِنه لا يستحق الأُلوهية أَو العبادة إِلا هو، عليه اعتمدت في الأَمر كله، وإِليه مرجعى ومرجعكم، فكيف تكفرون به وهو محاسبكم ومجازيكم، والتعبير بقوله تعالى: "كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ"، إِيذان بأَنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وليسوا بدعا من الأُمم- هذا: وقد جاءَ في سبب نزول الآية أَقوال. فمقاتل وابن جريج يقولان: نزلت في صلح الحديبية حين أَرادوا كتابة وثيقة، فقال صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن إِلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب باسمك اللهم -وهكذا كان أَهل ¬

_ (¬1) الإشارة في (كذلك) راجعة إِلى إِرسال الرسل قبله وإِن لم يجر لهم ذكر، لدلالة قوله: (قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم) قاله الحسن، وقيل الإشارة راجعة إِلى إِرسال محمد مؤيدا بمعجزة القرآن، فكأنه قيل: مثل هذا الإِرسال العظيم المؤيد بالقرآن أَرسلناك يا محمد في أمة ... الخ.

الجاهلية يكتبون- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلى: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال مشركو قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فقال أَصحاب النبي: دعنا نقاتلهم، فقال: "لا ولكن اكتب ما يريدون" فنزلت. وابن عباس يقول: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي: "اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ". (¬1) وقيل: سمع أَبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر قائلا: "يا الله يا رحمن" فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إِلهين، فنزلت هذه الآية ونزل أَيضا قوله تعالى: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى". {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} المفردات: (سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ): أُزيلت من أَماكنها. (يَيْئَس): بمعنى يعلم، كما حكاه القشيرى عن ابن عباس، وذكره بهذا المعنى الجوهرى في الصحاح ويرى هذا الرأْى مجاهد والحسن وأَبو عبيدة، وأَنشد في ذلك أَبو عبيدة لمالك بن عوف النَّصْرى. أَقول لهم بالشعب إذْ يَيسَرُونَنىَ .. أَلم تيئسوا أنِّي ابنُ فَارِسِ زَهْدم وييسروننى من الميسر -ويُرْوَى يأْسروننى من الأَسر (¬2) - انظر القرطبى. وقال رباح بن عدى ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية110. (¬2) وكان الشاعر قد أسر؛ فضربوا عليه بالميسر يتقاسمون فداءه.

أَلم ييئس الأَقوام أَنى أَنا ابنه: وإِن كنت عن أَرض العشيرة نائيا. وهو بهذا المعنى في لغة النخع -كما حكاه الفَرَّاءُ عن الكلبي- انظر القرطبى -وقيل في لغة هوازن كما قاله القاسم بن مِعْن، وسيأتى لذلك مزيد بيان في التفسير. (قارِعةٌ): مصيبة تصيبهم -من قَرعه إِذا أَصابه، والأَصل في القرع- الضرب، فكأَنها إِذ تصيبهم تدق قلوبهم وتضربها. التفسير 31 - (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا): حكت الآية (27) من هذه السورة اقتراحهم آيات كونية على الرسول، إِذ قالوا: "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ"، ثم نعتْ تلك الآية المذكورة وما بعدها عليهم ضلالهم، وبينت أَن ذكر الله -وهو القرآن- تطمئن به القلوب، فهو خير لهم مما اقترحوه من الآيات، ووعدت المؤْمنين الصالحين بالجنة، وبينت لهم أَن الرسول إِنما أُرسل بمعجزة القرآن ليتلو عليهم الذي أُوحاه الله إِليهم، فهو المعجزة الباقية ما بقى الزمان دون سائر المعجزات، فإِنها تصبح خبرا بعد عين، وحكاية ترْوَى بعد الرسول الذي جاءَ بها. فتكون في الأَجيال التالية عرضة للتصديق والتكذيب: وما كذلك القرآن. وجاءَت هذه الآية لتبين عظمة القرآن ورجحانه على ما يقترحونه من الآيات. يروى أَن نفرا من مشركى قريش فيهم أَبو جهل وعبد الله بن أَبي أَمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتاهم فقال له عبد الله: إِنْ سَرَّك أَن نَتَّبعِك فَسَيِّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأَذهبها عنا حتى تتسع أَرضنا الضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأَنهارا حتى نغرس ونزرع، فلست كما زعمت -بأَهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخِّر لنا الريح فنركبها إِلى الشام نقضى عليها مِيرتَنَا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا، فقد سخرت لسليمان الريح كما زعمت، فلست بأَهون على ربك من سليمان بن داود، وأَحْي لنا قَصَب (¬1) جدك أَو مَنْ شئت من موتانا نسأَله، أَحقٌّ ¬

_ (¬1) القصب: العظم المستطيل الأجوف.

ما تقول أَم باطل، فإِن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأَهون على الله منه، فأَنزل الله هذه الآية والآيات التي قبلها للرد عليهم. والمعنى: ولو أَن أَيَّ قرآنٍ تسير به الجبال وتزول عن أَماكنها حين يقرأُ عليها، أَو تقطع وتُشَقَّقُ به الأَرض أَنهار وعيونا تروى بمائها الأَرض بعد إِزالة جبالها، أَو تكلم به الموتى لتصبح أَحياءَ، لكان الذي يحدث عنده كل هذا هو القرآن الذي أَنزله الله علىّ لأُبلغكم إِياه، لانطوائه على بيان عجائب قدرة الله وعظيم جلاله، ولأَنه كلام الحق سبحانه، الذي يقول للشىءِ "كن فيكون" ولكن القرآن لم ينزل ليحقق لكم بذاته هذه المطالب الكونية من الينابيع وتسخير الرياح وغيرهما، بل نزِل ليرشدكم إِلى وسائل تحقيقها، ويعلمكم بذل الجهد العقلى والعملى لكي تحصلوا عليها، فإِن العالم الأَكبر ينطوى في الإِنسان بعقله وذكائه وقدرته وقواه التي أَودعها الله فيه. وليعلم العاقل أَن الهدف الأَول للقرآن هو معرفة الله وأَداءُ واجبابه، والعمل للدنيا والآخرة، فقد مضى الزمن الذي كان يرتزق فيه الكسالى من دعاءَ أَنبيائهم، حيث كانوا يحصلون به على المن والسلوى ونحوهما، ويحصلون على الماء بالمعجزات، وجاءَ الزمن الذي يبرز فيه المولى سبحانه خيرات الأَرض والماءِ والهواءِ والطاقة بجهد الإِنسان وعرقه، واستخدام الطاقات التي أَودعها الله فيه، وهذا ما عني القرآن بتوجيه البشر إليه، كما في قوله تعالى "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ". وقوله: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"."وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ". وقوله: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" وقوله: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وقوله "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ". وغير ذلك من الآيات التي تحض على النظر والاستنباط، والانتفاع بخيرات الله ونعمه بالجد والاجتهاد والكدح. ومن أَجل هذا المنهج السديد الذي رسمه القرآن لأُمة القرآن، امتلك المسلمون مفاتيح العلم، وتمكنوا من ولوج أَبوابه إِلى معاقد العز والرفعة والمجد في كل ناحية من نواحى الكرامة، والأُمم من حولهم يغطون في سبات عميق، وينتظرون موائد تنزل لهم من السماءِ، أَو يفسدون في الأَرض بغير الحق.

ذلك هو شأْن القرآن الذي لم يحرك قلوب قريش ليؤمنوا به، ويكتفوا بمعجزته، مع أَنه تعالى يقول في شأْنه: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ". واعلم أَن لكل نبى معجزة أَيده الله بها تناسب أُمته ومدة بقائها على شريعته، واختار الله لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم معجزة القرآن ليكون دستورا لها وآية إِلى أن تقوم الساعة، فإِن الله تعالى جعلها الأُمة الخاتمة للرسالات، فكانت معجزةُ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، باقيةً ببقائها، وهاديًا بهديها ما بقى الزمان. ولقد أُوتى النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن معجزات كثيرة، ولكنها لم تكن للتحدى، بل لتكريمه -صلى الله عليه وسلم -، ورحمة بالمؤمنين في مواقف الشدة، ومعظمها ظهر في المدينة كإِنزال الغيث ونبع الماءِ من بين أَصابعه، وتكثير الطعام القليل. وقليل منها ظهر بمكة كانشقاق القمر، ووصْفِه لبيت المقدس وأَحوال عير قريش صباح ليلة الإِسراءِ والمعراج ولكن الله لم يأْذن له بالتحدي بشيء من ذلك، ولم يجعل تلك الخوارق آية رسالته الحاسمة، بل جعل آيتها دستورها الباقى بقاء الزمان، وهو القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأَنبِيَاءِ نَبىُّ إِلَّا أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُه آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ. وإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وحْيًا أَوْحاهُ اللهُ إِلىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثرَهُم تَابِعًا يَوْم القِيَامَةِ"، أَخرجه البخاري في صحيحه. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا): أَي لو أَن قرآنا سيرت به الجبال أَو قطعت به الأَرض أَو كُلم به الوتى لكان هذا القرآن، لكنَّ هذا لم يحدث بل حدث سواه، لأَن الأَمر لله وحده يفعل ما يريد وفقا لمشيئته وحكمته، التي اقتضت أَن تكون آية النبوة في الإِسلام هي دستوره، وهو القرآن لا غيره من الخوارق، ولهذا لم يأْذن الله للرسول بأَن يتحدى بما ظهر على يده من الخوارق سواه. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا): لم ينزل القرآن بلغة قريش وحدها. بل اشتمل عليها وعلى غيرها حتى يعلم العرب أَن القرآن بلغتهم جميعًا. وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن على سبعة أَحرف

وكلمة "ييئس" هنا بمعنى يعلم في لغة النخع -كما حكاه الفراءُ (¬1) -وفي لغة هوازن -كما حكاه مجاهد والحسن والقاسم بن معين. (¬2) والمعنى على هذا: أَفلم يعلم الذين آمنوا أَنه لو يشاءُ الله هداية الناس جميعًا لفعل. ولكنه جعل سبيل الهداية إِلى الحق اختيار العبد وفعله، بعد أَن يسر الله له أَسبابها وأَزاح موانعها. ومن العلماءَ من حملها على معناها المعروف وفسر الآية عليه كما يلي: أَفلم ييئس الذين آمنُوا من إِيمان المشركين لأَنه لو يشاء الله لهداهم جميعًا، وهم لم يهتدوا بل أصروا على الكفر فكان حقُّ المؤمنين أَن ييئسوا من إيمانهم، ويدركوا أَنه تعالى لم يشأْ هدايتهم. (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ): أَي ولا يزال الكافرون من أَهل مكة تنزل بهم بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وإِيذاءَ المؤمنين وإِخراجم من ديارهم -تنزل بهم بسب ذلك- داهية تقرعهم وتقلقهم من آن لآخر، كالذى كان يحدث لهم حينا بعد حين من القتل وَالأسْر وأَخذ غنائمهم في غزوات المسلمين وسراياهم، أَو تحل تلك الداهية في مكان قريب من دارهم (مكة) فيتطاير إِليهم شررها ويصابون بلهبها (¬3)، حتى يأْتى وعد الله بفتح مكة وسقوط معقل الشرك، فيتم للمؤمنين النصر، ويدخل الناس في دين الله أَفواجا، إِن الله لا يخلف وعده في الأَمر كله. ويصح أَن يراد من الذين كفروا، كل من كفر بالإِسلام، فتكون الآية وعيدا لمن يؤذى المسلمين بانتقام الله في الدنيا من آن لآخر، حتى يأْتى وعد الله بموتهم أَو بالقيامة فيجزيهم شر الجزاءِ، وإِلى هذا الرأْى مال الحسن وابن السائب. ¬

_ (¬1) عن الكلبي، وحكاه الآلوسى عن ابن الكلبي. (¬2) انظر القرطبى والآلوسى. (¬3) ومن ذلك ما كان من صلح الحديبية، حيث عاد عليهم بالضرر وعلى المسلمين بالخير.

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} المفردات: (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): أَي أَمهلتهم وتركتهم ملاوة (¬1) من الزمان دون عقاب. (قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ): رقيب ومهيمن عليها. التفسير 32 - (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ): في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما لقى من المشركين من الاستهزاءِ والتكذيب واقتراح الآيات. والمعنى: ولقد استهزأَ الكفار السابقون، برسل كثيرين بعثناهم من قبلك إِليهم لهدايتهم، وأَيدناهم بالمعجزات الشاهدة بصدقهم، فلم يؤمنوا بهم بل كذبوهم وأَهانوهم فلست وحدك ¬

_ (¬1) الملاوة: الفترة من الزمان وهي مثلثة الميم.

في استهزاءِ الكافرين بك فإِن ذلك أَمر مطرد يلقاه رسلنا من أَقوامهم، فأَمهلت أَولئك المستهزئين لعملهم يثوبون إِلى رشدهم، ثم أَخذتهم بعقابى حين لم ينفعهم الإِمهال، وكان عقابى لهم هائلا، حيث لم يبق من الكافرين ديارٌ. والمقصود من الاستفهام في قوله تعالى: "فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب" التَّعَجِيب من شدة العقاب وفظاعته. 33 - (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ): هذا الاستفهام مترتب على بما سبق بيانه، من أَن الأَمر كله لله وأَنه يهدى من يشاءُ ويخذل من يشاءُ من أَهل الضلال، وأَنه يملى للكافرين ثم يأْخذهم بذنوبهم إِلى غير ذلك بما تقدم. والمعنى: أَفمن كان شأْنه ما تقدم من هيمنته على كل نفس يعلم سرها ونجواها، ويجزيها بما كسبت من خير أَو شر. أَفمن كان كذلك يشبه الأَصنام التي ليس لها عليهم من سبيل وقد جعلوها له شركاءَ مع ضعفها وعدم فائدتها، ثم أَمر الله رسوله أَن يبكتهم فقال: (قُلْ سَمُّوهُمْ): أَي قل لهم أَيها الرسول تأْنيبًا وتقريعًا: اذكروا لي أَسماءَهم وأَوصافهم التي جعلتهم في نظركم يستحقون العبادة مع الله، ولن يجدوا لهم من الأَوصاف ما يستحقون به شيئًا من التكريم فضلا عن العبادة. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ): أَي بل أَتخبرون الله بشركاء زاعمين استحقاقها للعبادة وهو لا يعلمها في أَرضه، مع أَنه سبحانه لا تغيب عن علمه ذرة في الأَرض ولا في السماء، بل أَتخبرونه عن ألوهيتها ظاهر من القول من غير أَن يكون لها حقيقة ولا دليل، كتسمية القبيح وَسيمًا والزنجى كافورا. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ): بل زين الشيطان لهؤلاءِ المشركين باطلهم وصدهم عن سبيل الحق. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ): ومن يتخل الله عن معونته بسبب إِصراره على الكفر فليس له من هاد يوصله إلِى الحق، وينجيه من عاقبة ضلاله.

34 - (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ): أَي لأولئك المشركين عذاب في الحياة الدنيا بالقتل والأَسر والمصائب والمحن، ولعذاب الآخرة أَكثر من عذاب الدنيا مشقة لشدته ودوامه، وما لهم من عذاب الله من حافظ يعصمهم ويقيهم، نسأَل الله السلامة وحسن العاقبة. {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} المفردات: (مَثَلُ الْجَنَّةِ): المثل هنا بمعنى الصفة العجيبة، وأَصله بمعنى الشبيه والنظير. (أُكُلُهَا دَائِمٌ): أَي ثمرها باقى لا يغيب ولا ينقطع. (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا): أَي مآلهم وعاقبتهم. التفسير 35 - (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... ) الآية. لما ذكر الله سبحانه في الآية السابقة عقاب الكفار في الدنيا والآخرة، عقبها بهذه الآية لبيان ثواب المتقين في الآخرة، والمقارنة بين عاقبتهم وعاقبة الكافرين. والمعنى: صفة الجنة التي وعدها الله عباده المتقين وحالتها العجيبة الشأْن أَنها تجرى من تحت أَشجارها وقصورها الأَنهار بين جوانبها وحيث شاءَ أَهلها، كما قال تعالى: "يُفَجِّرُونَهَا تَفجِيرًا".

فهم يصرفونها حيث شاءُوا وكيف أرادوا، وتلك الأَنهار كما قال سبحانه في سورة محمد: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى). ومن صفتها: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا): أَي ثمرها باق لا ينقطع في أَي وقت من الأوقات وظلالها باقية لا تنحسر، مع اعتدال مناخها، وطيب هوائها. كما قال سبحانه: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) (¬1) (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ): أَي هذه الجنة العظيمة الشأْن عاقبة الذين اتقوا ربهم فتجنبوا الكفر والمعاصي، وعاقبة الكافرين به وبنبيه النار، وشتان بين العاقبتين، فما بال الكافرين لا يعقلون. {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)} المفردات: (الْكِتَابَ): المراد به هنا التوراة والإِنجيل. (الْأَحْزَابِ): الجماعات القوية والأَقوام المتشابهون في ميولهم وعقائدهم. (مَئَاب): مرجع ومصير. ¬

_ (¬1) الآيتين 13، 14 من سورة الإنسان.

التفسير 36 - (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ... ) الآية. يرى الإِمام ابن عباس رضي الله عنه أَن المقصود من الذين آتيناهم الكتاب هم مؤْمنو أَهل الكتاب من اليهود والنصارى، كعبد الله بن سلام وكعب، ومؤمني نجران والحبشة فهؤْلاءِ كانوا يفرحون بالقرآن حين يسمعونه إِيمانًا منهم بأَنه كتاب الله الذي أَنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأْمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر -وقيل: إِن المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم المسلمون وقد كانوا يفرحون بنور القرآن الكريم وتوالى نزول آياته. (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ): المراد بالأَحزاب على رأَى ابن عباس: كفرة اليهود والنصارى الذين تحزبوا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالعداوة والبغضاء، ككعب ابن الأَشرف والسيد والعاقب أَسقفى نجران وأَتباعهما، أَما على الرأْى الثاني القائل بأَن الذي يفرح هم المسلمون فالمراد بالأَحزاب كفار اليهود والنصارى، والمراد من (بعضه) الذي ينكره أَهل الكتاب هو الشرائِعُ التي جاءَت مخالفة للتوراة والإِنجيل تبعًا لتغير الزمان والأَجيال، أَو هو ما لا يوافق ما غيروه وبدلوه في كتبهم، وأَما ما يوافق ما في كتبهم فأَنهم لا ينكرونه وإِن لم يفرحوا به. (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ): أَي قُل يا محمد صادعًا بالحق غير مكترث بإنكارهم بعض القرآن، قل لهم: ما أَمرنى الله في القرآن الذي تنكرونه أَو تنكرون بعضه إِلا بأَن أَعبد الله وحده ولا أُشرك به شيئًا في عبادته، وقد أَمرنى أَن أَدعوكم إِلى ذلك بقوله سبحانه: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ". (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ): أَي إِلى عبادة الله وحده أَدعو الناس جميعًا، وإِليه وحده مرجعى ومرجعهم للجزاءِ فلذلك لا أُقِرُّ ما أَنتم عليه من اتخاذ اليهود عزيرا ابْنًا لله واتخاذ النصارى

المسيح ابنًا له كذلك لاستحالة ذلك على الله تعالى، وإِذا كنت أَدعوكم إِلى وحدانيته، ولا برهان لكم على مزاعمكم، فلماذا لا تستجيبون لما دعوتكم إِليه، وكل الآيات تدل عليه وترشد إِليه. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} المفردات: (أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا): أَي أَنزلنا القرآن حاكمًا للناس في قضاياهم بلسان العرب (وَلَا وَاقٍ): أَي ولا حافظ. عن وقاه يقيه وقاية، أَي حفظه. التفسير 37 - (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ... ) الآية. أَي وكما أَرسلنا قبلك المرسلين وأَنزلنا عليهم الكتاب بلغاتهم وأَلسنتهم، أَرسلناك وأَنزلنا عليك القرآن عربيا بلسانك ولسان قومك، ليسهل عليهم تفهم معناه واستظهاره والرجوع إِليه في الأَحكام، وإِنما سمى القرآن حكمًا لما فيه من الأَحكام والشرائع التي يحتاج إليها المكلفون، وتقتضيها الحكمة ليصلوا بها إِلى السعادة في الدنيا والآخرة، وكان عربيا لأَن الأُمة التي بعث منها الرسول لغتها العربية، فجاء القرآن بلغتهم ليفهموه ويبلغوه لغيرهم. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ): أَي ولئن اتبعت يا محمد أَهواء الكافرين التي يدعونك إِليها مخالفة لما أُنزل إِليك من الحق كاستقبال بيت المقدس بعد تحويل القبلة، وعبادة غير الله ابتغاءَ مرضاتهم. (بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ): أَي بعد ثبوت العلم عن طريق الوحى والحجج الساطعة والبراهين القاطعة. (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ): أَي ليس لك من دون الله ولى ولا ناصر ينصرك فينقذك منه، ويقيك من عذابه إِن أَراد عذابك. والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأُمة، وفي هذا وعيد لأَهل العلم إِن هم حادوا عن الطريق واتبعوا سبل أَهل الضلالة.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} المفردات: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)؛ الأَجل: الوقت والمدة، والكتاب؛ الحكم المعين الذي يكتب على العباد حسب ما تقتضيه الحكمة. التفسير 38 - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ... ) الآية. في هذه الآية جواب عن شبهات أَوردها أعداءُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من ذلك قولهم: ما نرى لهذا الرجل همة إِلا النساء، ولو كان رسولا من عند الله حقًّا لما اشتغل عن رسالته بالنساءِ، فأَجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً". وفي هذا تذكير بما كان عليه سليمان وداود عليهما السلام حيث كانت لهما أَزواج كثيرات وذرية كثيرة، ولم يقدح ذلك في نبوتهما، على أَن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقتصرت حياته الأُول على زوجة واحدة إِلى سن الثالثة والخمسين فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة حدثت ظروف ودواع اقتضت الإِصهار إِلى القبائل لمصلحة الإِسلام، فكان من الخير أَن تتعدد زوجاته، بذلك تظهر الحكمة في هذا التعدد فلا مجال لإِثارة الشبه حول هذا التعدد في أَواخر حياته، لأَنه لا يعقل أَن يكون ذلك لدواعى الشهوة في سن الشيخوخة.

والمعنى: ولقد أَرسلنا رسلا كثيرين من قبلك أَيها الرسول شأْنهم كشأْنك، حيث جعلنا لهم أَزواجًا كثيرات وذرية كثيرة، فلست في ذلك بدعًا من الرسل. وحين قالوا: لو كان رسولا لجاءَ بالآيات التي طلبناها منه. رد الله عليهم بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): أَي ليس في وسع رسول من الرسل أَن يأْتى بمعجزة وفق ما يقترحه قومه إِلا متى شاءَ الله، فهو وحده يحكم ما يشاءُ ويفعل ما يريد. ثم بين الله سبحانه الحكمة في تغيير الشرائع بقوله جل شأنه: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ): أَي لكل وقت من الزمان شرع كتبه الله يناب حال أَهله. وينتهى بانتهاءِ الحاجة إِلى هذا الشرع، فِإن الشرائع كلها لإِصلاح أَحوال العباد في المبدأ والمعاد، ويترتب على ذلك أَن الشريعة تختلف على حسب اختلاف أَحوال الناس التي تتغير بتغير الأَوقات وتتابع الأَزمان والأَجيال. ومثل ذلك كمثل اختلاف العلاج باختلاف أَحوال المرضى وبحسب الأَوقات. {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} المفردات: (يَمْحُو): المحو الإِزالة، والمراد به هنا نسخ الشرائع والأَحكام وتغييرها. (أُمُّ الْكِتَابِ): أَصل الكتاب، والمراد به علم الله تعالى أَو اللوح المحفوظ. التفسير 39 - (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ... ) الآية. أَي يمحو الله ما يشاءُ من الشرائع بالنسخ، ويبقى ما يشاءُ منها ثابتًا كما هو فلا ينسخه ولا يبدله، أَو يَأْتى بشرع جديد مكان شرع سابق ينسخه به، فإِن الحكمة تقتضى أَن ينسخ الله ما يشاءُ أَن ينسخه من الأَحكام والشرائع بحسب الوقت ويثبت بدله أَو يبقيه على حاله من غير نسخ، لأَن الشرائع كلها لأَصلاح أَحوال العباد في المبدأ والمعاد.

واعلم أَنه سبحانه وتعالى جعل الشرائع كلها فتفقة في الأَصول، فكلما أَتى نبي جاءَ بشريعة متفقة مع الشرائع السابقة في تلك الأَصول التي لا سبيل إِلى تغييرها، ومن ذلك ما تضمنه قوله تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ) الآيات من سورة الأَنعام. فهذه الأَصول وأَمثالها لا تتغير ولا تتبدل بتغير الرسالات والكتب السماوية، أَما الفروع فإِنها عرضة للتغيير والتبديل، كطريقة الصيام وزمنه، ومقادير الزكاة والأَصناف التي تزكى، وكتحليل بعض المحرمات، وفي ذلك يقول الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: "وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ... ". وغير ذلك مما يتغير بتغير الأَجيال وأَحوالهم. هذا، ويمكن أَن تكون الآية الكريمة عامة في كل ما يمحوه الله ويثبته من شئون الكون، فالأمر كله لله يفعل ما يشاءُ بقدرته ويحكم ما يريد بحكمته. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ): أَي وعند الله تعالى أَصل الكتاب وقد فصل فيه كل ما يجريه سبحانه في الشرائع من المحو والإِثبات، وفي الكون من التغيير والتبديل، فكل ذلك لا يثبته الله ابتداءً، وإِنما هو قضاءٌ عنده قديم يبرزه في وقته وحينه الذي حدده سبحانه وتعالى طبقًا لحكمته، وقد عرفت في المفردات أَن المراد بأُم الكتاب علم الله تعالى أَو اللوح المحفوظ. {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} المفردات: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ): ما هنا لتأْكيد معنى الشرط، أَي وإِن أَريناك، والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية أَو لإِفادة تجدد الوعيد.

(مِنْ أَطْرَافِهَا): الأطراف؛ الجوانب. (لا َمُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ): أَي لا راد له. والمعقب هو الذي يكر على الشيءِ فيبطله. ويقال لصاحب الحق الذي يطالب به معقب، لأَنه يتتبع غريمه بالاقتضاءِ والطلب. التفسير 40 - (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ): أَي إِن أَريناك يا محمد مصارع أَعدائك المصرين على الكفر وما وعدناهم من إِنزال العذاب بهم، فذلك انتقام عاجل لك من أعدائك، وإِن توفيناك قبل حلول وعيدنا بهم، فلا تجزع لذلك، فما عليك إِلا تبليغ الدعوة وتبليغ الوعيد على الكفر بها، وعلينا وحدنا حسابهم وجزاؤهم على كفرهم ومعاصيهم، في الوقت الذي تقتضيه الحكمة فإِننا نعلم من المصالح الخفية ما لا تعلم، فدع الأَمر لنا وبلغ ما أَنزل إِليك من ربك، وفي التعبير بقوله: "نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ" إِشارة إِلى أَنه صلى الله عليه وسلم سيرى بعض الموعود، ولهذا بشره الله عقب هذه الآية بظهور تباشير النصر بقوله: 41 - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا): أَي أَينكر المشركون تنفيذ وعيدنا ونصرنا لرسولنا، ولم يروا أَننا ننقص أَرض الكفر من جوانبها ونواحيها، بفتحها على المسلمين شيئًا فشيئًا وإِلحاقها بأَرض الإِسلام، وقتل بعض من يقف في سبيل الدعوة أَو أسرهم أَو إِجلاءِ البعض الآخر، أَليس هذا بعض الذي نعدهم؟ (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ): أَي والله يحكم في خلقه بما يشاءُ لا يتعقب حكمه أَحد ينقض ولا تغيير، وقد جرت سنته أَن الأَرض يستعمرها عباده الصالحون، بإِقامة موازين العدل فيها والسير على نهج الحق -وقد حكم للإِسلام وأَهله بالغلبة والإِقبال ما داموا في طاعة الله، يجاهدون في سبيله، واثقين من صدق وعده بالنصر لمن ينصرونه، وكما حكم للإِسلام وأَهله بالإِقبال والنصر لأَنهم أَهل الحق، حكم على الكفر وأَهله بالإِدبار والانتكاس، لما سلكوه من الظلم والفساد في الأَرض.

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): أَي سيحاسبهم ويجازيهم بعد قليل في الآخرة بأَلوان العذاب، وكل آت قريب، وذلك بعد تحقيق الوعيد عليهم في دنياهم بالقتل والأَسر والِإجلاءِ. {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} المفردات: (مَكَرَ): المكر، هو تدبير المكروه في خفية. (فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعًا): أَي أَنه تعالى يعلم المكر كله، فلا تخفى منه خافية عليه سبحانه. (عُقْبَى الدَّارِ): أَي عاقبة دار الدنيا. (عِلْمُ الكِتَابِ): أَي علم القرآن وما هو عليه من البيان المعجز، والحكمة التي لا تضارع، أَو علم التوراة والإِنجيل وما فيها من البشارات برسول الله والإِسلام. التفسير 42 - (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): أَي مكر الذين كفروا من قبل مشركى مكة بِرُسُلِهم، وكادوا لهم. وكفروا بهم، كما فعل نمروذ وقومه بإِبراهيم، وفرعون وقومه بموسى، واليهود بعيسى ثم دارت الدائرة على الظالمين المفسدين. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا): أَي فالله تعالى محيط بمكرهم كله، فلا يغيب عن علمه شيءٌ منه، وهو قادر على إِحباطه والانتقام من مدبريه، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتأْمين له من مكرهم، وقد صارحه الله بذلك حيث قال له: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (¬1) ¬

_ (¬1) المائدة؛ 67

(يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ): من خير أَو شر، فيثبت أولياءه، ويحميهم من شرور أَعدائهم، ويعاقب الماكرين بهم بما يستحقونه من عقاب، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين الماكرين أَكده بقوله. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ): أَي وسيعلم الكفار إِذا قدموا على ربهم يوم القيامة لمن العاقبة المحمودة، لهذه الدار الدنيا، أَهى لهم؟ أَم للنبي صلي الله عليه وسلم، ومن تبعه من المؤمنين، ولا شك أنهم سيعلمون يومئذ أَن العاقبة الحميدة للمتقين، كما قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (¬1). 43 - (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا): أَي ويقول المشركون من العرب، الجاحدون لنبوتك: يا محمد لَسْتَ برسَول من عند الله، وإِنما أَنت متقول على الله تعالى، يقولون له ذلك بعد أَن تحداهم أَن يأْتوا بسورة من مثل القرآن فعجزوا، ليعالجوا بهذا الإِنكار قصورهم وضعف حجتهم، فهم حينما ينكرون لا مستند لهم في إِنكارهم، بل قامت الأَدلة الواضحة على أَنه مرسل من عند ربه، فما أَكثر المعجزات التي أَيده الله بها (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ): أَي حسبى الله شاهدا لي بتأْييد رسالتى وصدقى أَنَّنى قد بلَّغت، وشاهدا عليكم أَيُّها المكذبون فيما تفترونه من البهتان. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): مِمَّن أَسلم من أَهل الكتابين التوراة والإِنجيل فإِنهم، كانوا يجدون البشارات عنه في كتبهم، وحاصل الجواب بذلك: لستم بأَهل للحكم في شأْنى، فاسأَلوا أَهله من أَهل الكتاب فإِنهم بجواركم، كما قال تعالى: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (¬2). والله أَعلم ¬

_ (¬1) سورة القصص 63 (¬2) سورة الأنبياء 77

سورة إبراهيم آياتها اثنتان وخمسون، وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر، وهو الذي عليه الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة مكية إِلا آيتين منها فهما مدنيتان، وهما قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) " فقد نزلتا في قتلى بدر من المشركين، أَخرجه البخاري عن ابن عباس وأَبو الشيخ عن قتادة. المقاصد التي تناولتها السورة اشتملت سورة إِبراهيم على المقاصد التالية: 1 - الحديث عن القرآن الكريم وعن الرسول صلى الله عليه وسلم وأَثرهما في إِخراج الناس من الظلمات إِلى النور بفضل الله وهداه، وإِنذار الذين ينصرفون عن الهدى بالهلاك إِذا أَصروا على الكفر والضلال. 2 - تقرير أَن الله سبحانه أَرسل الرسل بلغات أَقوامهم حتى يستطيعوا فهمها وأَداءَ شعائرها ولتقوم عليهم حُجة الله. 3 - ذكر نبذة من قصة موسى عليه السلام مع قومه، وتذكيره إِياهم بنعم الله وما يجب عليهم له سبحانه من عبادة وشكر. 4 - ذكر نبذة من أَخبار الرسل مع أَقوامهم، وما قابلوا به رسالاتهم من جحود وإِنكار وانتقام الله من هؤلاءِ المعاندين المكابرين. 5 - تقرير ضلال الكفار وحبوط ما قدموه من أَعمال طيبة؛ لأَنها لا تقوم على الإِيمان.

6 - ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة حيث يتبَّرأُ أتباع الكفار من رؤَسائهم وحيث يتبرأُ الشيطان مِمن أَغواهم ودفعهم إِلى الفساد. على حين يَمُنُّ الله على عباده الأتقياءِ بأَحسن الجزاء. 7 - ذكر الآثار الطَّيبة للكلمة الطيبة، وأَن الله يبارك فيها وفيمَنْ دعا إِليها ومن استجاب لها، وذكر الآثار السيئة للكلمة الخبيثة وأَن الله يمحقُها ويمحق من دعا إِليها ومن استجاب لها من المنحرفين. 8 - الدعوة إلى التعجب ممن يقابلون نعم الله بالجحود والكفران، ويضلون أَقوامهم فيقودونهم إلى النار. 9 - دعوة المؤمنين إلى التمسك بِإيمانهم وأَداءَ شعائر دينهم، وإِلى شكر نعم الله العديدة عليهم، وأنها لا يمكن إِحصاؤها سواءٌ في أَرجاءَ الأرض أَم آفاق السماوات. 10 - تذكير قريش بنعم الله عليهم، واستجابته لدعاءِ إِبراهيم عليه السلام من أَجلهم وأَن عليهم أَن يعْبُدوا رب هذا البيت الذي أَطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. 11 - إِنذار المشركين بما أَعَدَّه الله لهم من عذاب أَليم يوم القيامة، وتأْكيد هذا الإِنذار وأَنه واقع بهم لا محالة "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ". 12 - تقرير ما ورد في السورة الكريمة من تبشير للمؤمنين وإِنذار لِلْكَافرين، وأَنَّ في هذا بلاغًا للجميع ليسرعوا بالعودة إِلى توحيد الله وعبادته، وليعلموا أَنما هو إِله واحد، وإِيقاظ العقول لتتجه إلى الإِيمان قبل فوات الأَوان.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)) المفردات: (الر): هذه وأَمثالها من فواتح بعض السور، قيل أنها أَسماءٌ لها، وقيل أَسرار محجوبة، وقيل إِنها رمز للتحدى، وقيل إِشارة لابتداءِ كلام وانتهاءِ كلام، وقيل غير ذلك. وقد سبق تفصيل الكلام فيها أَول سورة البقرة، فارجع إِليه إِن شئت. (الظُّلُمَاتِ): الضلالات، فِإنها ظلمات معنوية. (إِلَى النُّورِ): إِلى الهدى، فإِنه نور معنوى يهدى إِلى الحق. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): بتيسيره وتوفيقه. (إِلَى صِرَاطِ): أَي إِلى طريق. (الْحَمِيدِ): أَي المحمود، والمراد أَنه تعالى مستحق للحمد لذاته وإِن لم يحمده الناس. (وَوَيْلٌ): الويل: الشر والهلاك. (يَسْتَحِبُّونَ): يختارون.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يمنعون غيرهم عن دينه الذي يوصل إِلى مرضاته وثوابه. (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا): أَي ويطلبونها. والضمير عائد على السبيل فإِنها مؤنثة، أَي ويطِلبون لسبيل الله العوج. التفسير (الر): أَجملنا الكلام على (الر) في المفردات، وأَحلنا القارئَ على ما كتبناه مفصلًا عن الفواتح الهجائية في أَول سورة البقرة فارجع إِليه إِن شئت. (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ): أَي هذا كتاب أَنزلناه إِليك يا محمد وهو القرآن العظيم. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ): أَي بعثناك بهذا القرآن وأَنزلناه إِليك. لِتُخرِجَ الناس عربهم وعجمهم أَبيضهم وأَسودهم من ظلمات الكفر والجهل والحياة الضالة إِلى نور الإِيمان والعلم والحياة البارة الرشيدة لما اشتمل عليه من الآيات الباهرات التي تحث على التفكر والتدبر، والنظر في حقائق الكون الدالة على وحدانية الله وتفرده بالخلق والإبداع ... ولما حواه من المنهج السديد الذي تسعد به البشرية كلما سلكته، وتشقى كلما ابتعدت عنه. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): أَي بتوفيقه إِياهم ولطفه بهم، فهو الهادي لمن أَراد له الهداية على يدى نبي هذه الأُمة صلى الله عليه وسلم في حياته، وبما تركه لأُمته من كتاب الله تعالى وسنته بعد انتقاله إِلى ربه. (إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): أَي إِلى الطريق الذي ارتضاه الله لخلقه وشرعه لهم، طريق العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، فهو القاهر لكل ما سواه المستحق للحمد، ويلاحظ أَن "صِرَاط العَزِيزِ الْحَمِيد" بيان للنور في قوله: "لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمُاتِ إِلَى النُّورِ". فهو النور الذي أَخرجهم من الظلمات إِليه في العقائد والأَخلاق والتشريعات الرشيدة.

2 - (اللهِ (¬1) الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ): أَي هذا الكتاب أَنزلناه لتخرج الناس إِلى صراط العزيز الحميد، الله الذي له ما في الكون ملكًا وإِبداعًا وتصرفًا، فهو سبحانه يتصرف فيه وحده حسب ما تقتضيه حكمته الأَزلية. وقرأَ نافع وابن عامر: (اللهُ الذِى لَهُ مَا فيِ السَّمواتِ ... ) برفع لفظ الجلالة، على الاستئناف. (وَوَيْلٌ لِلكَافِرِينَ مِنْ عذَابٍ شَدِيدٍ): هذا وعيد لمن كفر بالقرآن وخالف من أَنزله، وكفر بمن أنزل عليه، أَي وهلاك يوم القيامة ناشئ من عذاب شديد لمن كذبك ولم يستجب دعوتك بإِخلاص التوحيد للفرد الصمد، القوى المنتقم الجبار .. وقد وصف الله الكافرين بصفات ثلاث -الأُولى في قوله: 3 - (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلى الْآخِرَةِ): أَي ويل للكافرين الذين يختارون الحياة الدنيا وما فيها من شهواتَ مهلكات، ويؤثرونها على الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم. - والصفة الثانية في قوله سبحانه: (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ): أَي ويصرفون الناس عن الإِيمان باللهِ واتباع ما جاءَ به رسوله محمد بن عبد الله، وذلك لما ران على قلوبهم من الكفر والعصيان، والبعد عَمَّا يقرب من الرحيم الرحمن. - والصفة الثالثة في قوله تعالى: (وَيَبْغونَهَا عِوَجًا): أَي يطلبون لها الميل والزيغ لتتفق مع أَهوائهم وشهواتهم التي هي، أَبعد ما تكون عن صراط الله المستقيم، وبعد أَن وصفهم بهذه الصفات، قضى بضلالهم فقال: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): أي أولئك الموصوفون بإِيثارهم الدنيا وزهرتها، وصدهم عن الدين، وابتغائهم له الزيغ والعوج، أولئك في ضلال بعيد عن الحق لا يرجى لهم والحالة هذه هداية ولا رشاد. ¬

_ (¬1) بجر لفظ الجلالة بدلا من العزيز الحميد أو عطف بيان له، وبه قرأَ السبعة عدا نافع وابن عامر فقد قرأَ برفع لفظ الجلالة ... كما سيأتى في الشرح.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)} المفردات: (بِلِسَانِ قَوْمِهِ): أَي بلغة قومه. (بِآيَاتِنَا): هي الآيات التسع التي أَجراها الله على يد موسى عليه السلام وهي: الطوفان - والجراد - والقمل - والضفادع - والدم - والعصا - ويده - والسنون - ونقص من الأَموال والأَنفس والثمرات. (مِنَ الظُّلُمَاتِ): من الكفر والجهالات المشبهات للظلمات. (إِلَى النُّورِ): إلى الإِيمان بالله وتوحيده فهو النور الهادي إِلى سواءِ السبيل. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): أَي بوقائعه التي وقعت على الأُمم السابقة، يقال فلان عالم بأَيام العرب أَي بحروبها وملاحمها. (صَبَّارٍ شَكُورٍ): كثيرَ الصبر، كثير الشكر. التفسير 4 - (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... ) الآية. أَي وما أَرسلنا قبلك من رسول إِلا بلسان القوم الذين أَرسله الله إِليهم، ليبين لهم شريعة ربهم في سهولة ويسر، وليقطع أَعذارهم وتقوم به حجة الله عليهم، ومحمد

صلوات الله وسلامه عليه وإِن بعث إِلى الناس جميعًا وأَلسنتهم مختلفة فإِرساله بلسان قومه أَولى من إِرساله بلسان غيرهم ليحملوا معه عبءَ الدعوة، ويبينوا الدين لمن كانوا على غير لسانهم، ويترجموه حتى يصير مفهومًا لهم كما فهموه، وعلى هذا فكل من تُرجِمَ له ما جاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة دقيقة يفهمها لزمته الحجة. قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا". وقال صلى الله عليه وسلم: "أُرسل كل نبى إِلى أُمته بِلسانها وأَرسلنى الله إِلى كل أحمر وأَسود من خلقه". وقال: "والذي نَفْسِىْ بِيَدهِ لَا يَسْمعُ بي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّة يَهُودِىُّ وَلَا نَصْرَانىُّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بالذى أُرْسْلُت به إِلَّا كَانَ منْ أَصْحابِ النَّار". أَخرجه مسلم. وحيث كانت رسالة الإِسلام عامة لأَهل الأَرض، فيجب على المسلمين أَن يكون فيهم من يعرفون اللغات المختلفة، ليحسنوا تبليغ الدعوة المحمدية التي تركها النبي أَمانة في أَعناقهم جميعًا، وعلى من أَسلم من غير العرب أَن يتعلم اللغة العربية ليحسن فهم الإِسلام من منابعه والعمل بشرائعه. (فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَّشاءُ وَيَهْدِى مَن يَّشَاءُ): أَي فبعد إِرسال الله كل رسول بلسان قومه، لتقوم به حجة الله، يضل من ران على قلبه الغَواية والضلالة بما اجترح من آثام، ويهدى من اتبع سبيل الرشاد، وجانب أُسلوب العناد، فانشرح صدره للإِسلام، واستقام على المنهج السديد بتوفيق الله رب العالمين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ): فلا يغالب في مشيئته. (الحَكِيمُ): العظيم الحكمة فيما أَوجبه على الناس من شريعتة. 5 - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ... ) الآية. هذا شروع في تفصيل ما أَجمل في قوله: "وَمَا أرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ". أَي ولقد أَرسلنا موسى بلسان قومه بني إِسرئيل، وأَيدناه بالآيات المعجزة الدالة على

صدقه وأَمرناه بأَن يدعو قومه إِلى الإِيمان باللهِ وحده ليخرجوا من ظلمات ما كانوا عليه من الجهل والضلال إِلى نور الهدى والإِيمان. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): أَي وذكرهم بوقائع الله في الأَمم قبلهم، قوم نوح وعاد وثمود أَو بأَيام الله التي أَنعم فيه على بني إِسرائيل بمختلف النعم، من إِخراجهم من أَسر فرعون وقهره، وفلقه البحر لهم، وتظليله إِياهم بالغمام، وإِنزاله عليهم المن والسلوى، ويجوز أَن يراد منها المحن الشديدة والنعم الجميلة، فكلتاهما من أَيام الله وآياته البينات. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): أَي إِن في المذكور من أَيام الله لدلائل على وحدانية الله وقدرته وفضله ورحمته، لكل صبار في المحنة والبلية شكور في المنحة والعطية، قال قتاده: "نعم العبد، إِذا ابتلى صبر وإِذا أُعطى شكر". وقال ابن كثير: جاءَ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إنَّ أَمْر الْمؤْمِن كُلَّهُ عَجَبٌ لَا يَقضِى اللهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءٌ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ". (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)) المفردات: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ): أَي يبغون لكم سوءَ العذاب من قولهم: سمت كذا أَي ابتغيته وطلبته.

(وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ): أَي ويبقونهن أَحياءً فلا يقتلونهن. (بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ): أَي ابتلاءٌ بمعنى اختبار. (تَأذَّنَ): أَي آذن بمعنى أَعلم كتوعدهُ بمعنى أَوعده، غير أَنه أَبلغ منه. التفسير 6 - (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) ... الآية. يقول الله تعالى مخبرًا عن موسى حين ذكر قومه بأَيام الله عندهم وما أَفاض عليهم من النعم، إذْ أَنجاهم من آل فرعون، وما كانوا يكلفونهم به من التكاليف الشاقة مع القهر والإِذلال والتعذيب السيءِ، وكيف كانوا يذبحون أَبناءَهم الذكور ويستبقون إِناثهم مستضعفات ذليلات، وهذا من أَسوأَ أَلوان البلايا والرزايا ولهذا قال سبحانه: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ): أَي وفيما ذكر ابتلاءٌ واختبار عظيم من ربكم، لما فيه من التعذيب والمحن التي كان يصنعها بهم فرعون وقومه، ثم لما فيه من نعمة الإِنجاءِ من كل ذلك العسف والتنكيل. فالابتلاءُ كما يكون بالضرر يكون بِالمنفعة كما قال تعالى: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً". فبالخير يبلو عباده أَيشكرون أَم يكفرون؟ وبالشر يبلوهم أَيصبرون أَم يجزعون؟ وهو في كلتا الحالتين يُثِيبُ المحسن ويعاقب المسيءَ. 7 - (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ): أَي واذكروا يا بنى إِسرائيل حين آذنكم ربكم وأَعلمكم بوعده ووعيده إِعلامًا مؤَكَّدًا حيث قال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ): أَي لئن شكرتم إِنعامى لأَزيدنكم من فضلى ونعمتى والتوفيق لطاعتى. الآية نص على أن الشكر سبب المزيد من النعمة، فإِن من شكر الله على رزقه وسع عليه في الرزق، ومن شكره على ما أَقدره عليه من طاعته زَادَ ثوابَهُ في طاعته، ومن شكره

على ما أَنعم به عليه من صحة زاده الله صحة وهكذا ... وقد أُثر عن جعفر الصادق أَنه قال: "إِذَا سَمِعَتِ النعمةُ نِعْمَةَ الشُّكْر فتأهب للمزيد". وسئل بعض الصلحاءَ عن الشكر فقال: "أَلاَّ تتقوى بنِعمِهِ على معَاصِيه". فَحَقيقة الشكر على هذا الرأْى اعتراف المنعم عليه بالنعمة للمنعم، وأَلا يصرفها في غير طاعته، وأَنشد الهادى وهو يأْكل: أَنَالَكَ رِزْقَهُ لِتَقُومَ فيهْ ... بطاعته وتشكر بَعْضَ حقِّه فلم تشكر لنعمته ولكن ... قويتَ على معاصيه بِرِزْقِه فَغُضَّ باللقمه وخنقته العبرة. (وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ): أَي ولئن كفرتم نعمة الله بإِنكار نسبتها إِليه أَو التقصير في شكره عليها بالطاعة قولًا وعملًا، فترقبوا أَليم العذاب، إِن عذابه لشديد، وذلك بسلب النعم في الدنيا، وإِنزال النقم في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: "إِن الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنب يُصِيبه". (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)) المفردات: (حَمِيدٌ): مستوجب للحمد لذاته وإِن لم يحمده أَحد.

(بالْبَيِّنَاتِ): أَي بالآيات الواضحات. (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أي ردوها لكي يعضوها في أفواههم غيظًا. (مُرِيبٍ): الريبة هنا بمعنى اضطراب النفس وعدم اطمئنانها. التفسير 8 - (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ): أَي وقال موسى لقومه: إِن تُنكرُوا نعمة الله التي أَضفاها عليكم ولا تَشكروها؛ إِن تَفعَلوا ذلك يا بني إِسرائيل ومعكم كل من في الأَرض جميعًا، فما أَلحقتم الضرر إِلا بأَنفسكم إِذ حرمتموها من مزيد النعم وعرضتموها لشديد العذاب، في الوقت الذي أَنتم إلى الله أَحوج، وهو غنى عن شكركم وشكر غيركم، فإِنه لا تنفعه طاعتكم، كما لا تضره معصيتكم؛ وأَنتم إِن لم تحمدوه بأَلسنتكم، فإِن جوارحكم تلهج بحمده وأَنتم لا تشعرون، فإنه تعالى يقول: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" (¬1). وفي صحيح مسلم في أَبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أَنه قال: "يَا عبَادى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ مِّنكمْ ما زَاد ذَلكَ فِي مُلْكى شَيْئًا، يَا عبَادى لَوْ أَن أَوَّلَكُمْ وَآخرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلى أَفجر قَلْبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا، يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وآخِرَكُمْ وإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسانٍ مسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئا إِلاَّ كَمَا يَنْقصُ الْمِخيطُ إِذَا دَخَلَ الْبَحْرَ". فسبحانه وتعالى هو الغنى الحميد. 9 - (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ... ) الآية. ¬

_ (¬1) الإسراء (44)

أي أَلم يأْتكم يا أَهل مكة خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأُمم المكذبة للرسل ممن لا يحصى عددهم ولا يعرف نسبهم إِلا الله عز وجل. (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): أَي جاءوهم بالحجج الواضحات والدلائل الباهرات، وقد بين كل رسول لقومه طريق الهداية والأَمن ودعاهم إِليه، ولكنها لا تعمى الأَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ): أَي جعل أُولئك القوم أَيديهم في أَفواههم ليعضوها غيظا مما جاء به الرسل، مقرونا بتسفيه أحلامهم، وشتم أَصنامهما، أو ردوها إِلى أَفواههم مشيرين بها إِلى أَلسنَتِهم وما يصدر عنها من المقالة، لينبهوا الرسل إلى تلقيها منهم وليقنطوهم. من التصديق والإِيمان عن جهتهم، وذلك ما حكماه الله سبحانه وتعالى عنهم في قولهم: "وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ ... " الآية. وقيل معناه: أَنهم أَشاروا إِلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم، لمَّا دعوهم إِلى الله عز وجل، قال أبو عبيدة والأَخفش: هو ضرب مثل أَي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إِذا أَمسك عن الجواب وسكت: قَدْ رَدَّ يده في فيه. (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ): أَي أَننا لا نصدقكم فيما جئتم به، وإِنا لَفِى شك قوىٍّ موقع في الريب وعدم الطمأْنينة بسبب ما جِئتم به من التعاليم والشَّرائِع وما تدعوننا إليه من إِيمان وتوحيد.

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} المفردات: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ): الاستفهام للإِنكار بمعنى النفى وفيه معنى التعجب. (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خالقهما على غير مثال سبق. (بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): ببرهان بين له سلطان واضح على النفوس. التفسير 10 - (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... ) الآية. حكى الله في الآية السابقة قول الكافرين لرسلهم: "وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ ممِاَّ تَدْعُونَنَا إلَيْهِ مُرِيبٍ". وجاءَت هذه الآية تحكى رد المرسلين واستنكارهها لما زَعَمُوهُ والتعجب منه.

والمعنى: قالت الرسل لأُممهم مستنكرين شكهم في ربهم: أَفى وجود الله شك وارتياب حتى تقولوا لنا: "وَإنَّا لَفِى شَكّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ". في حين أَنه فاطر السماوات والأَرض ومبدعهما، أليس لكل صنعة صانع فلا بد للسماوات والأَرض من منشئ صانع له القدرة الكاملة، والإِرادة النافذة والعلم المحيط. وجاءَ هذا الاستنكار والاحتجاج في محاجة الأَنبياءِ جميعا، فكل رسول من الرسل جعل نصب عينيه توجيه أُمته إِلى التفكر والتدبر في السماوات والأَرض، والتبصر في أَسرارهما، ليتعرفوا بذلك وجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته، واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص. ويجوز أَن يكون المعنى: أَفى أُلوهية الله وتفرده بوجوب العبادة شك .. ؟ وهو الخالق لجميع الأَرض والسماوات المدبر لأُمورها، فلا يستحق العبادة أَحد سواه. وربما كان هذا المعنى أَولى، فإِن أَغلب الأُمم كانت تقر بوجود الخالق المدبر ولكنها، كانت تعبد معه غيره من الوسائط التي زعموا أَنها تقربهم إِلى الله زلفى، ثم قالت لهم رسلهم: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): أَي يدعوكم الله إِلى الإِيمان به وبوحدانيته وسائر صفاته وكمالاته، على أَلسنة رسله وشواهد آياته الكونية وكتبه المنزلة، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان وضياء التوحيد، لِيَغْفِرَ لَكمْ بعض الذنوب، ويمحو عنكم بعض ما اقترفتموه من الآثام، وهى التي تتعلق بحقوق الله وحده. وفي ذلك يقول تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). أَما حقوق العباد فإِن الله سبحانه وتعالى لا يعفو عنها إِلا برضا أَصحابها وعفوهم عنها، ولهذا عبر في الآية بِمِنْ في قوله: "يَغْفِرْ لَكَمْ مِّنْ ذُنُوبِكُمْ". فإِنها أَفادت التبعيض وهذا البعض الذي يغفر هو ما يتعلق بحق الله تعالى، فإِن حق الله تعالى مبنى على المسامحة بمقتضى هذا الوعد الكريم. أَما حقوق العباد فإِنها مبنية على المطالبة والمؤَاخذة، وكما يدعوكم الله إِلى الإِيمان ليغفر لكم من ذنوبكم، يدعوكم أَيضا إِلى الإِيمان لفائدة أَخرى، وهي أَن لا يستأْصلكم بالعذاب كما استأصل الكافرين قبلكم، بل يبقيكم تتمتعون في دنياكم حتى الأَجل الذي

سَمَّاهُ وقدره لكل فرد من البشر، وهذا هو المعنى الذي عناه ابن عباس رضى الله عنهما بقوله: يمتعكم باللذات والطيبات إِلي الموت، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ" (¬1) ويحكى الله سبحانه وتعالى رد الأُمم الكافرة على دعوة رسلهم إِياهم إِلى الإِيمان فيقول: (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا): أَي قالوا عُتُوًّا وعنادا ومكابرة: ما أَنتم إِلا بشر مثلنا في الصورة والهيئة، فلا فضل لكم علينا يؤَهلكم للرسالة التي تدعونها، وتريدون بها أَن تمنعونا عن آلهتنا التي كان يعبدها آباؤُنا فإِن كنتم رسلا من عند الله كما ادعيم: (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): أَي فأْتونا ببرهان ذى سلطان بَيِّن واضح، يدل دلالة قاطعة على استحقاقكم لمرتبة الرسالة وصحة ما تدعوننا إِليه، حتى نترك عبادة آلهتنا التي وجدنا عليها آباءَنَا. لقد جاءَهم الرسل بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال، ولكن القوم زعموا أَن كل ما جاءَتهم به الرسل معجزات ليس من جنس السلطان المبين الذي يقترحونه، وهكذا كانوا يجادلون في الحق بعد ما تبين لهم. ثم يحكى الله سبحانه وتعالى جواب الرسل لأَقوامهم فيقول: 11 - (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... ) الآية. أَي قالت الرسل لأُممهم: ما نحن إِلا بشر مثلكم كما قلتم، ولكن الله ينعم على من يشاءُ من عباده، فيصطفيهم لرسالته، يختصهم بها بمحض فضله وامتنانه، لا بحسب ولا نسبٍ ولا باجتهاد منهم في العبادة! ¬

_ (¬1) من الآية 3 سورة هود.

والبشرية غير مانعة لمشيئته جل وعلا أَن يتفضل بهذا الاختصاص على من يشاءُ من عباده من أَهل الفضل والكمال، "اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (¬1) ". ولم يرسل الله إِلى البشر ملكًا، لِأنَّهُ لاَ طَاقَةَ للناس بالتلقى عن الملائكة كما قال تعالى: "وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ". ثم قالت الرسل جوابا لقول أُممهم: "فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ": (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ): أَي وما صح لنا وما استقام أَن نأْتيكم ببرهان كما طلبتم غير ما أَجراه الله على أَيدينا مِن المعجزات إلا بإِذن الله وتيسيره، فإِن لم يأْذن فلا سبيل إِليه، ولا قدرة لنا عليه، مع ما خصنا الله به من النبوة وشرّفنا به من الرسالة. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): أي قال كل رسول لأُمته بعد ما تقدم: وعلى الله وحده فليتوكل المؤْمنون وليفوضوا جميع أُمورهم إِليه، وليصبروا على معاندة الكافرين ومعاداتهم، ثم أَيدوا وجوب توكلهم على الله بقولهم: 12 - (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ... ) الآية. وأَى عذر لنا في ترك التوكل على الله وحده والاعتماد عليه في رفع أَذاكم وسُلُوك سبيله، وقد أَرشدنا إِلى سبيله المستقيم، ومنهاجه الذي شرعه له وأَوجب عليه سلوكه. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا): بالعناد والتكذيب واقتراح الآيات، وما إِلى ذلك من السفه والَّلجاج؛ حتى يأْتينا نصر الله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ): أَي وعلى الله فليعتمد المؤْمنون المتوكلون دائما فإنه هو الذي ينصرهم، وبيده وحده هزيمة أَعدائهم. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬2) ¬

_ (¬1) الأَنعام: من الآية 124 (¬2) سورة الطلاق: من الآية 3

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} المفردات: (لَتَعُودُنَّ): لَتَصِيرُنًّ. (مَقَامِي): أَي الموقف المَملُوك لله، الذي يقف به العباد بين يَدَيه للحساب، أَو قيامه على عبده ومراقبته إِياه. (وَعيدِ): وعدى بعذاب الكفار والعصاة يوم القيامة. التفسير 13 - (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا .. ) الآية. استمر الكفار في جدالهم للرسل بالباطل، وضاقت صدورهم بالحق بعد ما تبين، وكبر عليهم أَن يرجعوا إِليه، فسلكوا مسلك العنْف والقوة وقالوا تهديدًا للرسل ووعيدا لهم: (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا): لم يكتفوا بعصيانهم للرسل ومعاندتهم للحق بعد ما رأَوا الآيات البينات حتى اجترؤا على مقالتهم الشنعاء التي يعجز عنها الوصف، وأَقسموا: ليكونَنَّ أَحد الأَمرين لا محالة: إِما أَن نخرجكم من أَرضنا، وإِما أَن تعودوا إِلى ديننا وتتحولوا إِلى مِلتنا.

(فَأَوحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ): أي فأَوحَى إِلى الرسل ربهم ومالك أَمرهم تثبيتا للمؤمنين ووعيدا للكافرين قائلًا: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ): أَي لنقتلنَّ الذين ظلموا أَنفسهم بشركهم، وظلموا الرسل والمؤمنين بتكذيبهم وإِيذائِهم -لنهلكنهم- أن استمروا على كفرهم وعنادهم، ثم أَكمل الله وعيده للكافرين ووعده للمؤمنين بصيغة التوكيد فقال سبحانه: 14 - (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... (¬1)) الآية. أَي ولنسكنكم أَيها المؤمنون أَرض هؤلاءِ الكافرين بعد إِهلاكهم، عقوبة لهم في الدنيا على قولهم لرسلهم: "لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا". وتلك سنة الله في رسله وعباده المؤمنين، أَلا ترى إِلى قوله تعالى: "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا". وإِلى قوله جل سلطانه "وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (¬2) ". (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ): أَفادت هذه الجملة أَنه تعالى جرت سنته مع رسله ومن آمن بهم أَن ينصرهم على من كفر بهم، ويسكنهم الأَرض من بعد إِهلاكهم. والمعنى: ذلك الذي مَرَّ بيانه من إِهلاك الظالمين، وإِسكان المؤمنين أَرضهم وديارهم أَمر ثابت لكل من خاف موقفى الذي يقف به العباد بين يدىَّ للحساب يوم القيامة، أَو خاف قيامى عليه بحفظ أَعماله ومراقبتى إِياه، فإِنى قائم على كل نفس بما كسبت، وذلك أَيضًا لمن خاف وعيدى بالعذاب للكفرة والعصاة. ¬

_ (¬1) الأعراف: من الآية 137 (¬2) الإسراء: الآيتين 76 - 77

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} المفردات: (وَاسْتَفْتَحُوا): وطلبوا الفتح، والمراد به هنا النصر. (وَخَابَ): وخسر وهلك. (كُلُّ جَبَّارٍ): الجبار في اللغة؛ من يقهر الناس على ما يريده، والمراد به هنا المتكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته المتعالى على رسله. (عَنِيدٍ): شديد العناد والمكابرة. (مِنْ وَرَائِهِ): من خلفه -أَو من أَمامه. وأَصل معنى وراء: ما توارى عنك قدَّامك أَو خلفك. (مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ): هو ما يسيل من أَجساد أَهل النار. وأَصل الصديد: الماءُ الرقيق الذي يخرج من الجرح. (يَتَجَرَّعُة): أَي يتكلف بلعه مرة بعد أَخرى من الجَرْع وهو البلع. (وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ): ولا يقارب أَن يبتلعه بسهولة. التفسير يخبر الله تبارك وتعالى عما انتهى إِليه أَمر الرسل مع مكذبيهم، بعد أَن صبروا عليهم وصابروهم حتى يئسوا كل اليأْس من إِيمانهم فيقول جل من قائل:

15 - (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ): أي لجأَ الرسل إِلى ربهم وسأَلوه الفتح والنصر على عدوهم، فاستجاب الله لرسله ونصرهم ظفروا وأَفلحوا، وخسر أَعداؤهم وهلكوا، جزاءَ تكبرهم وعنادهم. والتعبير بقوله تعالى: "كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ"، بدلا من التعبير بقوله: وخابوا لِذَمِّهِمْ وتسجيل التجبر والعناد عليهم، وواضح على هذا المعنى أَن الضمير في قوله تعالى: "وَاسْتَفْتَحُوا" للرسل وحدهم كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل إِن الضمير للمكذبين وحدَهم، وكأَنهم لما قوى تكذيبهم وأَذاهم للرسل ولم يُعاجَلُوا بالعقوبة، ظنوا أَنهم على الحق، وأَن ما جاءَت به الرسل باطل، فاستفتسحوا على الرسل واستنصروا عليهم، أَو استفتحوا على أَنفسهم، على سبيل التهكم والاستهزاءِ، كقول قوم نوح: "قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (¬1) وقول قوم شعيب: "فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" (¬2) وقول المشركين من قريش: "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (¬3). وقيل: إِن الضمير للرسل عليهم السلام ولمكذبيهم، أَي أَنهم جميعًا سأَلوا الله تعالى أَن ينصر المحق ويهلك المبطل، وقد نصر الله رسله والمؤْمنين "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (¬4). 16 - (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ): بينت الآية السابقة ما لقى مكذبو الرسل ومعاندوهم من الهزيمة والهلاك في هذه الدار، وتبين هذه الآية وما بعدها ما يلقاه كل منهم من أَنواع العذاب وأَلوانه في دار القرار. والمعنى: مِنْ خَلْف كُلِّ جبارٍ معاند للرسل جهنمُ تستقبله عقب انتهاءِ حياته في الدنيا. ¬

_ (¬1) هود: 32 (¬2) الشعراء: 187 (¬3) الأنفال: 32 (¬4) الأَنعام: الآية 45

وقال ابن كثير: "وراءَ" هنا بمعنى أَمام، كقوله تعالى: "وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا" (¬1). وكان ابن عباس يفسرها بذلك؛ وسواء فُسرت وراءُ بهذا أَو بذاك فالمقصود أَنهم يلقون عقابهم في جهنم يوم القيامة فهي، أَمامهم يستقبلونها وهى خلفهم بعد انقضاءِ حياتهم، والمعنى: من ورانه جهنم يلقاها ويسقى فيها من ماءٍ يشبه الصديد الذي مر بيانه في المفردات، ويجوز أَن يكون من الصَدِّ بمعنى الإِعراض، أَن يسقى من ماء كريه يعرض عنه، ويصف الله سبحانه وتعالى هذا الماء الذي لا يستساغ فيقول جل شأْنه: 17 - (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ ... ) الآية. أَي يتكلف الجبار العنيد جرعه وبلعه مرة بعد أَخرى فلا يقرب من استساغته، ولا يسهل عليه بلعه لحرارته ومرارته. وقيل إِن المعنى: لا يقارب أَن يدخله في جوفه قبل أَن يشربه فيُسقاه على الرغم منه قهرًا وقسرًا، أَخرج أَحمد والترمذي والنسائى والحاكم -وصححه- وغيرهم عن أَبي أمامةَ عن النبي صلى الله عيه وسلم أَنه قال في الآية: (يُقَرَّب إِليه فيتكرّهه فإِذا أُدنى منه شَوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإِذا شربه قطَّع أَمعاءَه حتى يخرج من دُبُرِه) يقول الله تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (¬2). وتستمر الآية في وصف عذاب الجبار العنيد وذلك في قوله تعالى: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): أَي ويأْتيه أَسباب الموت من الشَّدَائِدِ وأَنواع العذاب من كل موضع، والمراد أَنه يحيط به من جميع الجهات، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل من كل مكان في جسده حتى أَطراف شعره وإبهام رجله، "وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ" فيستريح بالموت. بل إِنه لا يخفف عنه العذاب في وقتٍ مَّا، كي ينفس عن نفسه بعض الكرب كما قال تعالى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (¬3). وكما قال عز وجل: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (¬4). فهم مخلدون في جهنم يستقبلون في كل وقت عذابا أَشد وأَشق مما كان ¬

_ (¬1) الكهف من الآية 79 (¬2) سورة محمد من الآية: 15، وقال تعالى في سورة الكهف: "وإِن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه" من الآية: 31 (¬3) سورة فاطر من الآية: 36. (¬4) سورة النساء من الآية 36.

قبله. ولهذا ختمت الآية بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ): والضمير في (ورائه) يعود إِلى كل جبار أَو إِلى العذاب المفهوم من الكلام السابق. والمعنى: وأَمام كل جبار أَو: وأَمام كل عذاب ذاقه الجبار -عذابُ آخر شديد الغلظة، وأَهوال العذاب وأَنواعه وأشكاله لا يحصيها إِلا الله تعالى: "جَزاءً وِفَاقًا" (¬1) ". وَمَا ربُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ". (¬2) واعلم أَن عذاب الكفر يتفاوت في الشدة وأَن النار دَركَات كما أَن الجنة درجات، وأَنه لا يستوى كافر عنيد متمرد يسعى في الأَرض فسادا، وكافر مغلوب على أَمره، وفي تفاوت عذاب الكفار يقول اللهَ تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا). (¬3) ويقول صلي الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما "إِن أَهون أَهل النار عذابًا يوم القيامة لَرَجُلٌ وُضِعَ في أُخمص قدميه جمرةٌ يغلى منها دمِاغه" (¬4). (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)) المفردات: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا). المثل في أَصل اللغة: بمعنى الشبيه والنظير، كالمثل والمثيل. ويطلق على الحال والصفة التي لها شأْن وفيها غرابة، كما فى هذه الآية وأَمثالها مما تقدم مرارا ¬

_ (¬1) سورة النبأ: الآية: 26 (¬2) سورة فصلت من الآية: 46 (¬3) سورة النساء من الآية: 145 (¬4) الأُخمص من باطن القدم ما تجافى عن الأَرض وهو بوزن (أحمد) والدماغ بوزن كتاب هو مخ الرأس.

ويأتي كثيرا. (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ): العصف: اشتداد الريح، وُصف به زمان هبوبها تقوية لشدتها وتوكيدا، كما وصف النهار بالصيام والليل بالقيام في قولهم: نهاره صائم وليله قائم لكثيرِ الصيامِ والقيام ِ. التفسير 18 - (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ... ) الآية. بعد أَن بين الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة، ما يلقاه الكفار من العذاب الشديد يوم القيامة -بَيّن في هذه الآية أَن أَعمال الخير التي عملوها في الدنيا، تصير كلها في الآخرة ضائعةً باطلة، لا ينتفعون بشيء منها، وكذلك ما قدموه من القرابين لآلهتهم زاعمين أَنها تقربهم إِلى الله تعالى. والمعنى: أَن أَعمال الكافرين التي يتقربون بها إِلى آلهتهم، أَو يفعلونها رغبة في البر -صِفتُها في حبوطها وذهابها دون أَن ينتفع بها أَصحابها يوم القيامة، وهم في أَشد الحاجة إِلى ثوابها- صِفَتُها -كصفة رماد بعثرته الريح الشديدة وفرّقته فلم تدعْ له أَثرا، لأَنها مَبْنيَّةً على أَساس باطل وهو الكفر، وما بني على باطل فهو مردود، وفي ذلك يقول الله تعالى: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" (¬1). ثم أَكد سبحانه حبوط هذه الأَعمال وذهابَها، وعجزَ الكفرة عن الانتقاع بها فقال: (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ): أَي لا يقدر أُولئك الكافرون على نيل ثواب لما عملوه ينفعهم يومئذ، فقد أَضاعه كفرهم، كما أَضاعت الريح الشديدة التراب وبعثرته ولم تُبْقِ منه شيئا. (ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ): أي ذلك الكفر الذي جعل أَعمالهم الصالحة ضائعة لا ينتفعون بها، هو الضلال البعيد عن الطريق الموصل إِلى الخير، وإِلى الغاية الحميدة. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: الآية 23

ومما ورد في السنة دليلا على أَن عمل الكافر لا ينفعه يوم القيامة ولو كان صالحا، ما رواه مسلم في صحيحه عن أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: ابنُ جُدْعَان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: "لا ينفعه، إِنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتى يوم الدين". وكان عبد الله بن جدعانَ من وجوه بني تيْم ورؤَساء قريش، وكان قريبا لأُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وله تاريخ حافل بالجود والمكارم، فأَهَمَّها شأْنُه، فسأَلت عنه من لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فأَجابها بأَن شيئًا من هذه الصالحات التي عملها لا تنفعه يوم القيامة، لأَنه لم يصدق بالبعث فمات كافرا، والإِيمانُ هو الشرط الأَساسى في قبول الصالحات وحُسْنِ جزائها في الآخرة بقوله تعالى في شأن الكافرين: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا". أَما المؤمنون الصالحون، فإِنهم يُثابون أَحسن الثواب ولا يظلمون، قال تعالى: "وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا" (¬1) وقال سبحانه: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ" (¬2). وإِنما حُرم الكفار يوم القيامة ثواب ما عملوه في الدنيا منَ الصَّالحاتِ والمكارم؛ لأَنهم بنوها على غير أَساس سليم من معرفة الحق تبارك وتعالى، والإِيمان به والإِخلاص لوجهه، فجعلها الله هباءً منثورا، وحسبهم من عدل الله الذي لا يظلم أَحدا مثقال ذرة، أَن يكافئهم على هذه الصالحات في الدنيا، من سعة في الرزق، ورغد في العيش، وما إِليهما من الطيبات المعجلة لم في هذه الحياة. وقد بيَّن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أَنس ابن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن الله لا يظلم مؤمنا حسنة: يُعطى بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأَما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها ¬

_ (¬1) سورة طه: الآية 112 (¬2) سورة الأنبياء: الآية 94

لله في الدنيا، حتى إِذا أَفضى إِلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. وفي هذا الحديث الصحيح الصريح فصل الخطاب. ويرى بعض العلماءِ أَنه يجوز أَن يخفف الله تعالى عذاب بعض الكفار في الآخرة بما له من حسنات دنيوية، أَخذا من قوله عزّ سلطانه {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬1). فهذه الآية يفيد ظاهرها أَن عذاب الكفار فيه شديد وفيه أَشد، وذلك يقتضي أَن بغضهم أَخف عذاب من بعض، ويرجع هذا إِلى استفادتهم من أَعمال الخير التي عملوها. ويؤيد ذلك قوله تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ". (¬2) وقوله تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" (¬3). كما استدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أَنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أَغْنَيْتَ عن عمك، (¬4) فِإنه كان يَحُوطك ويَغْضَبُ لك؟ قال: (هو في ضَحضاح من نار، ولولا أَنَا لكان في الدرْك الأسفل من النار) (¬5). وكما أَن الجنة درجات، فالنار دَرَكات. وبالجملة فقد وقع الإِجماع على خلود الكفار في النار، على اختِلاف دركاتهم، كما قال عز وجل: "وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة غافر: الآية 46. (¬2) سورة الأنبياء: الآية 47 (¬3) سورة الزلزلة: الآيتين 7، 8 وفي تفسيرهما -وفي الآلوسى- مزيد بيان لمن شاء. (¬4) يريد به أبا طالب. (¬5) يحوطك: يصونك من المشركين بالدفاع عنك: والضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين استعير هنا للنار القليلة جدًا بالنسبة إِلى غيره من أصحاب النار، والدرك بسكون الراء، وفتحها قراءتان سبعيتان: والدرك في اللغة أقصى قاع الشيء، والمراد به هنا مقر جهنم والعياذ بالله تعالى. (¬6) سورة البقرة: من الآية: 167.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} المفردات: (أَلَمْ تَرَ): أَي أَلم تعلم. والاستفهام للتقرير، أَي لقد علمت أَيها المخاطب فاشهد بما تعلم. (بالْحَقِ): أَي بالأَمر الثابت وهو الحكمة المنزهة عن العبث. (يُذْهِبْكُمْ): يُفْنكُم حتى لا يبقى لكم أَثر. (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ): أَي وليس ذلك بممتنع، فلا يصعب تحقيقه على الله تعالى. (وَبَرَزُوا للَهِ جَمِيعًا): أَي ظهروا لله جميعا. والمراد أَنهم خرجوا من قبورهم لحساب الله تعالي وحكمه. (مُغْنُونَ عَنَّا): أَي دافعون عنا، يقال أَغنى عنه: إِذا دفع عنه الضرّ؛ وأَغناه: إِذا وَصَّل له النفع. (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا): أَي مستو علينا الجزعُ والصبرُ، والجزع: حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده. (مَحِيصٍ): مَعْدِل ومهرب، يقال: حاص عنه يحيص: إِذا عدل عنه وحاد، إِلى جهة الفِرار.

التفسير 19 - (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... ) الآية. بعد أَن قص الله تبارك وتعالى ما لقى رسله في سبيل الدعوة إِليه من العناد والإيذاءِ، والتكذيب والاستهزاءِ -توعد المكذبين لهم بأَنه قادر على أَن يهلكهم ويستبدل بهم خيرا منهم فقال: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ". الظاهر أَن الخطاب في الآية، الكريمة لكل أَحد من الكفرة، لقوله: "يُذْهِبْكُمْ". وهذا أَنسب بالوعيد والتهديد. والاستفهام هنا للتقرير، ولذا يسعمل في الأَمر الواضح الذي يكفى فيه مجرد تنبيه المخاطب، ليعترف ويشهد به. والمعنى: أَلم تعلم أَن الله جلت قدرته خلق السماوات والأَرض بالحكمة المنزهة عن العبث، وبالوجه الصحيح الذي يُخلَق أَن يُخلَق عليه، ليُستدل بخلقهما -بهذا النظام الدقيق والنمط البديع-، على قدرته ووحدانيته وسائر كمالاته. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ): أَي إِن يرد الله سبحانه وتعالى إِهلاككُم أَيها المكذبون، يُفْنِكُم حتى لا يبقى منكم أَحد، ويأْت بخلق جديد يكون أَطوع الله منكم، وأَسبق إِلى الحق، وأَسرع إِلى الهدى أَرشد سبحانه بخلق السماوات والأَرض -وَهما أَكبر من خلق الناس- إِلى طريق الإِستدلال. على وحدانيته وقدرته على إِهلاكهم وخلق سواهم، فإِن من قدر على خلق هاتيك الأَجرام العظيمة التي لا يحيط بعظمتها إِلاَّ مبدعها، فهو على تبديلهم بخلق آخر أَقدر، ولهذا قال: 20 - (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ): أَي وما إِذهابكم والإِتيان بخلق جديد مكانكم، بممتنع على الله تعالى ولا متعسر، فإِنه قادر بذاته على جميع الممكنات، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومَن هذا شأْنه فهو حقيق بأَن يُعْبَدَ وحده، ويُرجى ثوابه، ويُخاف عقابه. والضمير في قوله تعالى:

21 - (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا): إِما لمكذبى الرسل، لأَن الكلام لهم كما تقدم بيانه، وبهذا قال كثير من المفسرين وفي مقدمتهم الإِمام الطبرى، وإما للمصدقين والمكذبين جميعا، فإِن الحشر يوم القيامة للعباد جميعا، مؤمنهم وكافرهم، وبهذا قال أَكثر المفسرين، ومنهم ابن كثير إذْ قال الآية: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا): أَي برزت الخلائق كلها؛ برُّها وفاجرها لله الواحد القهار، أَي اجتمعوا له في بَراز من الأَرض، وهو المكان الذي ليس فيه شَيء يستر أَحدًا ومعنى بروزهم لله: ظهورهم من قبورهم لحساب الله تعالى وجزائه. ولما كان هذا البروز أَمرًا متحققًا كائنًا لا محالة، عبر عنه بصيغة الماضى، كأَنه وقع فعلا ودخل في دائرة الوجود، وإِن كان لا يزال مستقبلا واقعًا بعد الموت؛ أَو لأَنه لا مضى ولا استقبال بالنسبة إِليه سبحانه، ومن هذا قوله تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ (¬1) ". وقوله: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (¬2) ". (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ) جمع ضعيف. والمراد بهم ضعاف الرأْى، وهم الأَتباع، قالوا! (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): أَي لرؤَسائهم الذين استتبعوهم واستغْوَوْهم: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في تكذيب الرسل عليهم السلام، والإِعراض عن نصائحهم، وكلما أَمرتمونا ائتمرنا وفعلنا، والاستفهام في قولهم: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ): للتوبيخ والتقريع، أَي فهل أَنتم اليوم دافعون عنا شيئًا من عذاب الله، كما كنتم تعدونَنَا وتمنوننا في الدنيا؟! ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: من الآية 24 (¬2) أول سورة النحل.

(قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ): أَي قال المستكبرون جوابًا عن تقريع الضعفاءِ وتوبيخهم واعتذارًا عما فعلوا بهم: لو هدانا الله إِلى الِإيمان ووفقنا له لهديناكم، ولكن لم يوفقنا، فضلَلَنا وأَضللناكم، أَي اخترنا لكم ما اخترناه لأَنفسنا، أَو لو هدانا الله إِلى طريق النجاة من العذاب لهديناكم ودفعنا عنكم، لكن سُدَّ دُوننا طريق الخلاص، وحقت كلمة العذاب على الكافرين .. والمقصود من قول المستكبرين للمستضعفين: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا): مُبالغتهم في النهي عن التوبيخ، بإِعلامهم أَنهم شركاءُ لهم فيما ابتُلُوا به وتسلية لهم؛ أَي سيان علينا الجزعُ بما نحن فيه من العذاب والصبرُ عليه. والهمزة في قوله: "أجزعنا" للستوية بين جزعهم وصبرهم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1). (مَا لَناَ مِن مَّحِيصٍ): أَي ليس لنا على الحالين مَهْرَبٌ ولا خلاص من عذاب الله. وهذه الجملة لتقرير ما قالوه وتأْكيده، أَي أَنهم لا مناص لهم البته بما هم فيه. ويجوز أَن يكون هذا من قول المستكبرين والمستضفين جميعًا، يسلِّى بعضهم بعضًا، ويتأَسى بعضهم ببعض. ولكن الأَمر كما قال تعالى: "وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ" (¬2). والظاهر أَن تكون في النار بعد دخولهم فيها، كما قال تعالى: "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 6 (¬2) سورة الزخرف: الآية 39 (¬3) سورة غافر: الآية 47، 48.

قال الآلوسى: واستظهر أَبو حبان أَنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى. اهـ. وأَيا ما كان الأَمر فالمواقف في يوم القيامة متعددة، ومن الجائز أَن تتعدد المراجعة والخصومة تبعًا لتعددها. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} التفسير 22 - (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ... ) الآية: لما ذكر الله تعالى المحاورة التي تكون بين الرؤساءِ والأَتباع من كفرة الإِنس والجن، أَردفها بالمحاورة التي تكون بين الشيطان وأَتباعه، وهى التي تضمنتها هذه الآية الكريمة وما بعدها. والمعنى: وقال الشيطان لأَتباعه بعد أَن قضى الله بين عباده فأَدخل المؤمنين الجنة وأَسكن الكافرين النار -قال الشيطان لأَتباعه- ليزيدهم حزنًا إِلى حزنهم وحسرة إِلى حسرتهم (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ): على أَلسنة رسله أَن يبعثكم ويحاسبكم ويجازيكم على أَعمالكم إِن خيرا فخير وإِن شرًّا فشر ووعد الله حق، وخبره صدق، وقد أَنجز الله ما وعد.

(وَوَعَدُّتكُمْ فأخلَفْتُكُمْ): أَي ووعدتكم ألَّا بعث ولا جزاءَ، ولو صح أَنكم تبعثون فلأصنامكم شفاعة عند ربكم وقد أخلفتكم فيما وعدتكم، فحق عليكم وعيد ربكم، وقد كان عليكم ألا تنخدعوا بما زخرفته لكم من القول، وأَن تعصوني فيما أمرتكم به. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}: أَي وما كان لي عليكم من جبروت وسلطان يقهركم على اتباعي، فلا قوة لي ولا حجة معى، حتى تستحبيبوا إلى ما دعوتكم إليه، لكنكم أَسرعتم إلى إجابتى تلبية لشهواتكم وإشباع نزواتكم. {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}: أَي فلا تلومونى اليوم على ما انتهى أَمركم إليه من عذاب النار، ولوموا أَنفسكم، فإن لكم النصيب الأوْفى من اختيار السبيل الموصل إليه. ثم بين لهم الشيطان حقيقية أَمره وأَمرهم وهوانهم على الله تبارك وتعالى وذلك ما حكاه الله تعالى عنه بقوله: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}: أَي لست اليوم بمغيثكُم مما أنتم فيه من عذاب الضلال ووباله، ولستم بمُغيثىَّ مما أنا فيه من عذاب الإِضلال ونكاله. ثم زادهم غما على غمهم بإِعلان تبرئه من إشراكهم إيَّاه، فقال في استننكار وإصرار: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}: أي إنى برئت من إشراككم إياى، مع الله في الدنيا، حيث أَطعتمونى في الشر كما يطاع الله في الخير كأَني معبود معه، ونظير هذا قوله تعالى: "وَيَوْمَ الْقيَامَة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ" (¬1). ويجوز أن يكون هذا النص حكاية لما كان مِنْ إِبليس في الدنيا في حق الله تعالى، يقوله على سبيل الندم وأَن مثله لا. يستطيع أَن يغيثهم مع ذنبه. والمعنى حينئذ: إنى حين أبيت السجود لأَبيكم آدم كفرت بالله الذي جعلتمونى له شريكًا، فكيف أَستطيع أَن أطلب من الله أَن يغيثكم مما أَنتم فيه وذنبى عظيم بالنسبة إليه سبحانه، ثم ختم الشيطان كلامه بقوله فيما حكاه الله عنه: (أنَّ الظَّالِمِينَ لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 14

وبهذا سجل الشيطان اعترافه على نفسه وعلى أَتباعه بأَنهم ظالمون فيما أَحدثوه من الضلال والإِضلال وأَنهم مستحقون بسبب ذلك العذابَ الأَليمَ. ويجوز أَن يكون هذا القول حكاية لرد الله سبحانه وتعالى على الشيطان وأَتباعه جميعًا إِقناطًا لهم من رحمة الله -تابعين كانوا أو متبوعين- أَي إِن الظالمين لهم منَّا عذاب أَليم فلا ينفعهم في ذلك اليوم الندم، ولا إِلقاءُ بعضهم التبعة على بعض. وقد دلت الآية على فساد التقليد في الاعتقاد، لأَن أَتباِع الشيطان لما صدقوه بمجرد دعواه لم يعذرهم الله سبحانه بل عاقبهم كما عاقبه، فعلى كل قادر على النظر والاستدلال أَن ينهج في عقيدته منهج الاحتجاج بالآيات والاستدلال بالبراهين القطعية. ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاءَ الأَشقياءِ بما صاروا إِليه من الخزى والعذاب الأَليم، أَتبع ذلك جزاءَ السعداءِ بما أَعد لهم من النعيم المقيم فقال جل ثناؤُه: 23 - (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .... ) الآية. أَي أُدخل الملائكة الذين آمنوا وعملوا الصالحات -أَدخلوهم- جنات أُعدَّت لهم، تجرى من تحت أَشجارها وقصورها الأَنهار. (خَالِدِينَ فِيهَا): أَي ماكثين فيها أَبدًا لا يخرجون منها ولا يُخْرجهم منها أَحد، فنعيمهم دائم وسعادتهم لا نهاية لها، وكل ذلك (بِإِذْنِ رَّبِهمْ): وأَمره وفضله لا بعملهم فحسب، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُدْخل أَحدًا عملُهُ الجنَّةَ، قالوا ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إِلا أَن يتغمدنى الله بفضل ورحمة). الحديث أَخرجه الصحاح واللفظ للبخارى. (تَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلَامٌ): أَي يحيى بعضهم بعضًا بالسلام، والسلام هو تحية الله وملائكته اختارها الله لعباده المؤمنين في الدنيا وفي الجنة دار السَّلام.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} المفردات: (أَلَمْ تَرَ): الخطاب هنا لكل ذى عقل يحسن فهم الخطاب، والاستفهام هنا للتقرير بالعلم، والمعنى: ألم تعلم. (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا): المثل الصفة العجيبة، وضرب المثل تبيينه ووضعه في المكان اللائق به. (كَلِمَةً طيِّبَةً): المراد بها هنا كلمة التوحيد. (تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ): تعطى ثمرها في كل وقت. التفسير 24 - (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ... ) الآية. لما بين الله تعالى أَحوال السعداءِ وأَحوال الَأَشقياءَ فيما تقدم، ضرب لكل من الفريقين مثلا يتميز به عن صاحبه، فقال عز مِنْ قائل يخاطب كل من يصلح للخطاب من أَصحاب العقول الراجحة: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيَّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ): أَي أَلم تعلم أَيها العاقل الفطن كيف بين الله للناس مثلا يعرفون به منزلة كلمة التوحيد في الإِسلام، حيث شبهها بشجرة طيبة أَصلها ضارب بعروقه في الأَرض، وفرعها -أَي أَعلاها- متجه إِلى السماءِ، تعطى ثمرها في كل وقت وقَّته الله لإِثمارها بإِذن خالقها ومربيها.

فالمراد بالكلمة الطيبة هي شهادة أَلا إِله إِلا الله التي هي الأَساس الأَول للإِسلام وهذا ما أَخرجه البيهقى وغيره عن ابن عباس. وعن الأَصَمِّ أَنها القرآن الكريم، فإِنه أَصل يتفرع عليه كل خير في الدنيا والآخرة، وقد شبهها الله تبارك تعالى بالشجرة الطيبة، والمراد بها عند جمهور المفسرين النخلة، وبه أَخذ ابن عباس وابن مسعود، ويؤيد ما رواه الشيخان وغيرها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأُتِى بجُمَّار فأَكل منه وقال: إِن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإِنها مَثَلُ المسلم، فحدثونى ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادى، قال عبد الله: ووقع في نفسى أَنها النخلة فأردت أَن أَقول هي النخلة، فإِذا أَنا أصغر القوم -وكنت عاشر عشرة أنَا أَحْدثُهمْ ورأَيت أَبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أَن أتكلم واستحييت: ثُم قالوا: حدثنا ما هى يا رسول الله؟ قال: هي النخلة، قال عبد الله: فحدثت أَبي بما وقع في نفسى فقال: لأَن تكون قُلتها أحبُّ إِلَّى من كذا كذا. وعند ابن حبان في صحيحه: أَحسبه قال: من حُمْر النَّعم. والإِبل الحمراءُ كانت أَحب أَموال العرب إِليهم وأنْفَسها. وقيل: هي كل شجرة مثمرة طيبة الثمار والمنظر والرائحة. وقيل غير ذلك. وأَرجح هذه الأَقوال أَولها وهو كونها النخلة، ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بالنخلة أَن أَصل تلك الكلمة وهو الإِيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت جذور النخلة في الأَرض، وأَن ما يتفرع منها ويبنى عليها من الأَعمال الصالحة والأَفعال الزكية يرفع إِلى السماءَ، ويصعد إِلى الله تعالى، كما قال جل شأْنه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (¬1). وأَن ما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه دائم دوام ثمرها، والانتفاع بها في كل وقت، فإِن ثمر النخيل يؤكل أَبدا: ليلا ونهارا صيفًا وشتاءً، فيؤكل منها الجمار والبلح، والبسر والرطب والتمر، وكل نتاجها خير وبركة من بعد أَن تغرس إِلى أَن تجف وتيبس، بل بعد أَن تقطع قطعا تُسْتَعْمل في مصالح الناس ومرافقهم، ولن ترى شيئا منها مهملا أَبدا، وكم من الناس يقيمون في بيوت تعتمد على جذوع النخل وجريده، ويعيشون على التمر كما ¬

_ (¬1) سورة فاطر: من الآية 10.

تعيش إِبلهم علي النوى، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "إِن كنا آل محمد لنمكث شهرين ما نُوقد نارًا، إنْ هما إِلا الأسْودانِ: التمر والماءُ". وكذلك المؤمن القوى والمسلم الحق، كله خير وبركة أَينما حل وارتحل: لنفسه وعشيرته وأُمته، في حياته وبعد مماته، ومن هنا فسرت الكلمة الطيبة بالمؤمن كما قال بعض السلف، فما أَروع هذا التشبيه المقتبس من مشكاة النور الإلهى. وفي ختام الآية الكريمة يقول الله تعالى: (وَيَضرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): تنبيها على شأْن الأَمثال وعظيم فائدتها، في تجلية الحقائق وتنويرها، عونا على التبصير والتذكير، ودوام النظر والتدبر في كتاب الله الحكيم. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} المفردات: (اجْتُثَّتْ): قطعت واستؤصلت. (مِن قَرَارٍ): من ثبات في الأَرض. (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ): بكلمة التوحيد. التفسير 26 - (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ... ) الآية. الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر وما يدعو إليها ويتصل بها، ضد الكلمة الطيبة، ولا يجتمعان في قلب واحد أَبدًا، والشجرة الخبيثة هي الحنظلة، فقد روى أَبو يعلى في مسنده

عن أَنس رضي الله عنه قال: (أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقِنَاع (طبق) عليه رطب فقال: "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أَصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أُكلها كل حين بإِذن رَبِّهَا"، قال: هي النخلة "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ": قال هي الحنظلة). وقيل: هي كل شجرة لا يطيب لها ثمر؛ ضد الشجرة الطيبة وهي التي يطيب ثمرها. قال الآلوسى تبعا لأَبي السعود: ولعل تغيير الأُسلوب -يعنى في قوله: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ" بدلا من قوله: "وَضَرَبَ الله مثَلًا ... " -للإِيذان بأَن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان: وإِنما ذلك أَمر ظاهر يعرفه كل أَحد. اهـ. (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ): أَي اقتلعت من أَصلها واستؤصلت جثتها، إِذ حقيقة الاجتثاث أَخذ الجُثَّة كلها، وهي شخص الشيءِ كما قال الراغب. وهذا في مقابلة قوله: "أصلها ثابت" وقال: "من فوق الأَرض" لأَن عروقها قريبة من الفوق فكأَنها فوق. (مَا لَهَا مِن قَرَارٍ): أَي ليس لهذه الشجرة الخبيثة من ثباث في الأَرض ولا استقرار، إِذ ليس لها أَصل ثابت ولا فرع صاعد، وكذلك الكافر لا خير فيه: لا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح، إِذ ليس لهما عنده أَساس يبنيان عليه، فهذا وَجْهُ تشبيه الكافر بالشجرة الخبيثة. 27 - (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ .. ) الآية. أَي أَنه تعالى يثبِّت الذين صدقوا برسالة الأنبياءِ والمرسلين -يثبتهم على دينهم ويقينهم بسبب اعترافهم الثابت بتوحيد اللُّه وطمأْنينتهم به، فلم تهزه الشكوك ولم يزلزله الإِيذاءُ أَو التشكيك؛ فيَظلُّون على ما هم عليه من اليقين الثابت في الحياة الدنيا، لا تزحزحهم عنه الشدائد والفتن، وإِن كانت كموج البحر أَو كقطع الليل المظلم!!

وإِليك أَيها القارئُ مثلين اثنين بما صنعه الكفرة الفجرة، في مُؤْمنى الأمم السابقة وفي المستضعفين من المؤمنين في هذه الأمة المحمدية، فثبتهم الله ولم يضعف لهم إِيمان. (أ) أخرج البخاري بسنده في أعلام النبوّة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ كَانَ من قَبلِكُم يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحفَرُ لَهُ في الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بالْمِنْشَار فَيُوضَع علَى رأسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفين، وَيُمشَطُ بأمشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصْرفُهُ ذَلِكَ عن دِينِه". (ب) بلغ من تعنُّت قريش ووقوفهم في سبيل الدعوة المحمدية أَن أذاهم لم يكن مقصورًا على خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهم، بل تعداه إلى المستضعفين والأرقاءِ الذين لم يكن لهم من يحتمون به أو يعتزون بعصبيته، فقد عذب أهل مكة الكثير منهم ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم من بعد إيمانهم كفارا فلم يفلحوا. ومن هؤلاء بلال بن رباح الحبشى، وعمار بن ياسر وأبوه وأمه، أَوقع بهم المشركون من العذاب ما لا طاقة لأحد به! وقصصُ تعذيب هؤلاءَ وغيرهم مشهورة في السيرة النبوية وفي التاريخ ... وكلها نماذج من الطراز الأول في قوة الإيمان، والثبات على الحق الذي ثبَّتهم الله عليه في هذه الحياة الدنيا. (وَفِي الآخَرَةِ): يثبتهم الله بعد الموت، فلا يتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم، أَو بين يدي ربهم حينما يُسألون عن معتقدهم، ولا تدهشهم أهوال القيامة، والقبر هو أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أَيسر منه، ومن لم ينج منه فما بعده أَشد منه ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عثمان رضي الله عنه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: (الْمُسلِمُ إذَا سُئِل في القَبْر يَشْهَدُ أن لَّا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية. وعن أَنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى إلله عليه وسلم: "إن العَبْدَ إذَا وُضِعَ في قَبْرهِ وَتوَلى عنه أصحابه، وإنه لَيسمَع قَرع نِعَالِهم إذَا انصَرَفوا -أَتَاه مَلَكَانِ فيُقْعِدَانِه فيَقولَانَ. لَه: مَا كُنْتَ تَقُول- في هَذَا الرجل. (محمد صلى الله عليه وسلم) فأما المؤمِنَ فَيَقُول: أشْهد أنه عَبْد الله وَرسُولُه.

فَيُقَالُ لَهُ: انْظُر إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ فَيَراهُمَا جَمِيعًا، وَيُفْتَحُ لَهُ مِنْ قَبْرِهِ إِلَيْهِ؛ وَأَمَّا الكَافِرُ أَو المُنَافِقُ فَيَقُولَ: لَا أدْرِى كُنْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ: لَا دَرَيتَ ولَا تَليْتَ (¬1). ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِن حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَينَ أذُنَيْهِ فَيَصِيح صَيْحَةً فَيَسْمَعُهَا مَنَ يَلِيهِ إِلَا الثَّقَلَيْنِ (¬2) ". أخرجه الشيخان وغيرهما. (وَيُضِلُّ اللهُ الظالِمِينَ): أَي يتخلى اللهُ سبحانه عن الكافرين الظالمين لأَنفسهم فيخذلهم ولا يعينهم، لإِصرارهم على الكفر والضلال، حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلم يهتدوا إلى القول الثابت الذي ثَبَّت الله به المؤمنين في الدنيا والآخرة. ويجوز أَن يكون المعنى أَنه تعالى يصرفهم عن الحجة يوم القيامة، فلا يستطيعون الدفاع عن كفرهم ومعاصيهم. والمقصود إِنه لا حجة لهم على ما اقترفوه من الكفر والمعاصي. (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ): أَي يفعل الله جلت حكمته ما يريد من تثبيت أَهل الإِيمان ومثوبتهم، وخذلان أَهل الكفر وعقابهم، فله الحجة البالغة. وفي إِظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)} ¬

_ (¬1) الأصل: ولا تلوت، وقلبت الواو ياء للازدواج والمناسبة لما قبلها. (¬2) الإنس والجن، والحكمة في عدم سماعهما الامتحان والابتلاء، إذ لو سمعا لكان الإيمان منها ضروريا.

المفردات: (كفروا نعمة الله) كفر النعمة: جحدها. (دَارَ الْبَوار): دار الهلاك، ويطلق البوار أَيضًا على الكساد. (وَبِئْسَ الْقَرَارُ): وبئس المستقر. (أَنْدَادًا): جمع ند وهو المثل والنظير. (مَصِيرَكُم): مرجكم. (لَا بَيْع فِيهِ): لا فدية فيه. (وَلَا خِلَالٌ): الخلال معناه المخالَّة وهى المُوَادَّة. أو جمع خليل وهو الصديق، أَو جمع خُلَّة. بضم الخاءَ وتشديد اللام مفتوحة: وهي الصداقة. التفسير 28 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا}: بين الله في ختام الآيات السابقة حال المؤمنين: وحال الظالمين وأَنه سبحانه يثبت المؤمنين في الدنيا والآخرة، ويضل الظالمين بأَن يتخلى عنهم لإِصرارهم على الكفر. ويضل بكلا الفريقين ما يشاءُ من تثبيت المؤمنين، والتخلِّي عن هداية الظالمين، وَمِنْ ثَوَابِ الأولين، وعقاب الآخرين. وجاءَت هذه الآية وما بعدها بييانًا للأسباب التي أَدت إِلى ضلال الظالمين واستحقاقهم سوءَ العاقبة. وقبح المصير. والخطاب في قوله: "أَلمْ تَرَ" موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو إلى كل من يصلح للخطاب مقصود به التعجيب مما صنع الكفار من اقتراف الأباطيل الكثيرة، التي كان من جملتها جحد نعم الله الظاهرة والباطنة. والمراد بهم مشركو قريش فالآية نزلت فيهم، المعنى: ألم تنظر إِلى الذين بدلوا شكر نعمة الله عليهم. فجعلوا مكانه كفرًا عظيمًا فبدلا من أَن يشكروه بتوحيده في العبادة أشْرَكُوا معه غيره. أو بدلوا شكر النعمة كفرًا لها بإهمالها. وعدم رعاية شأنها فسُلِبوها وحُرِموا منها، وذلك ما حدث لأَهل مكة. أَسكنهم الله حرمه الآمن الذي يجبى إِليه ثمرات كل شيء وجعلهم قُوَّامَ بيته. وشرفهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بذلك، وأذوا النبى وأصحابه فأصابهم القحط سبع سنين وعوقبوا بالقتل والأسر يوم بدر.

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ): أَي أَنزلوا أَهلهم واللائذين بهم دار الهلاك، بما قادوهم إِليه من شرك وضلال، وعن ابن عباس أَنهم قادة قريش وعن عمر وعلي أَنهم أَشد قريش فجورًا، وهم بنو المغيرة وبنو أُمية. والتعبير عن الهلاك بالبوار أَن أَصله كما قال الراغب: فرط الكساد لأَنه يفضى إِلى الفساد المؤدى إِلى الهلاك. ولم تتعرض الآية للنص على حلولهم أَنفسهم دار البوار. لأَن إحلال قومهم فيها فرع لحلولهم إِذ هم رأْس الشرك ودعاة الضلال، كما قال تعالى في شأْن فرعون: "يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ". ثم بين الله دار البوار بعد إِبهامها فقال جل شأنه: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا): أَي أَن دار الهلاك هي جهم التي يدخلونها ويخلدون فيها. ولا ريب أَن في البيان بعد الإِبهام من التهويل والتخويف ما لا يخفى حيث تذهب النفس في رسم صورتها المفزعة كل مذهب. (وَبِئْسَ الْقَرَارُ): أَي بئس المقر جهنم الذي جعلوه مكانًا لقومهم تبعًا لهم، فليس له ما يضارعه في أَهواله ولا فيما يذم به لسوءِ حاله، أَو بئس القرار قرارهم فيها، وفي التعبير بالقرار إِشعار بأَن حلولهم فيها وصُلِيَّهم إِيَّاها على سبيل الدوام والاستمرار. 30 - (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ... ) الآية. هذه الآية تعجيب مما اقترفوه كالتى قبلها. حيث جعلوا لله الواحد الأَحد الذي ليس كمثله شيءٌ أَمثالًا في التسمية أَو في العبادة. وهي الأَصنام والأوثان. جعلوها آلهة في اعتقادهم وحكمهم. (لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ): أَي لإِضلال قومهم الذين يدينون بالولاءِ لهم -لإِضلالهم- عن سبيل الله وهو التوحيد، بما زينوه لهم من شرك وافتراءٍ (قُلْ): يا محمد لهؤلاءِ المشركين تهديدًا لهم ووعيدا: (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ): أَي تمتعوا بما أَنتم عليه من الشهوات التي تماديتم فيها، ومن جملتها تبديل نعمة الله كفرًا. وإِضلال الأتباع، وسمى عملهم هذا تمتعًا تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم

بها. ثم بين سبحانه جزاءهم الذي لا مفر منه، ولا محيص عنه فقال تعالى: (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ): أَي إِن دمتم على ما أَنتم عليه. من الاستجابة لداعى الشهوة، ودافع الانحراف. فإِن مآلهم إِلى نار جهنم فيها مستقَركم ومأْواكم، أَو هو تعليل لأَمرهم بالتمتع، وفيه من التهديد الشديد، والوعيد القوى ما لا يوصف. والمعنى تمتعوا بما شئتم فلا أَمل لكم في النجاة لأَن مردكم، ومرجعكم إِلى النار لا لِشَيء سواها. 31 - (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ .... ) الآية. لما هدد الله الكفار وعجّب من قبح ما فعلوا حيث بدلوا نعمة الله كفرًا، وأَضلوا أَتباعهم وأَشركوا به تعالى، واقترفوا كل منكر. أَنزل هذه الآية تكليفًا لنبيه صلى الله عليه وسلم بأَن يأَمر عباده المؤمنين بأَداءِ العبادة البدنية تامة كاملة، والإِقبال على العبادة المالية بنفوس راضية. والمعنى: قل يا محمد لعبادى الذين استجابوا دعوة ربهم فآمنوا، قل لهم: أَقيموا الصلاة وأَدوها حق أَدائها بأَركانها وشروطها في أَوقاتها، وقيل لهم أَيضًا أَدوا الزكاة وأَنفقوا مما رزقكم الله على المحتاجين والمعوزين، فإِن المال مال الله فهو معطيه ومسبب أَسبابه، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاءُ من عباده ويقدر، وقد أَبحنا لهم أَن ينفقوا سرًّا كما يشاءُون، وعلنًا كما يحبون، بغير مَنٍّ ولا رياءٍ. والمراد حث المؤمنين على أَداء عبادته البدنية والمالية شكرًا، لنعمه التي تفضل بها عليهم. واعلم أَن الأَفضل في إِنفاق التطوع الإِخفاء، وفي إِنفاق الواجب الإِعلان، وعلى العباد أَن يسارعوا إِلى امتثال ما أُمروا به من إِقامة الصلاة والإِنفاق. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ): فإِنه إِذا جاءَ ذلك اليوم لا يتسنى لمقصر في دنياه، أَن يتلافى تقصيره هذا، أو يفتدى نفسه بما يكسبه من بيع أَو شراء أَو بشفاعة خليل، فإنه لا بيع في هذا اليوم ولا شراءَ، ولا تنفع فيه شفاعة الأصدقاءِ والأَخلاءِ إِذا لقى العبد ربه كافرًا، حيث "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" (¬1). وإِنما ينفعه إِيمانه وعمله الصالح، ابتغاءَ وجه الله تبارك وتعالى {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (¬2). ¬

_ (¬1) الشعراء - 88 (¬2) سورة الليل من 19 - 21

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} المفردات: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ): كل ما علا الإِنسان فأَظله فهو سماءُ. والمراد به هنا السحاب. (رِزْقًا): مرزوقا مما يطعم أَو يشرب أَو يلبس أَو ينتفع به. (وَسَخرَ لَكُمُ الفُلْكَ): أَي يَسَّر الْفُلْكَ لإِرادتكم. (والْفُلْكَ): بسكون اللام؛ السفينةُ. يستعل في الواحد فيذكر، وفي الجمع فيؤنث. (دَائِبَيْنِ): في حركة دائمة لا يفتران. يقال دأَب في عمله دأْبا ويحرك جدَّ فيه. (لَا تُحْصُوهَا): لا تقدرون على حصرها وعَدِّها، والإِحصاءُ. في الأَصل: العد بالحصى، ثم أُطلق على العدِّ مطلقا. (لَظَلُومٌ): ظالم شديد الظلم يقال: ظلم، يظلم، ظلما، من باب ضرب فهو ظالم وظلوم. والظلم: وضع الشيء في غير محله. (كَفَّارٌ): جاحد النعمة. يقال كفر النعمة وكفر بالنعمة جحدها.

التفسير 32 - (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ... ) الآية. لما ذكر الله أَحوال الكافرين المعاندين الذين جحدوا نعمهُ، بالكفر بوحدانيته، والإِشراك في عبادته، وتكذيب رسوله، وأَتبع ذلك أَمر المؤمنين بطاعته البدنية والمالية، شكرا له على نعمه، لما ذكر ذلك -جاء بهذه الآية وما بعدها ليوجه عباده إِلى أَدلة القدرة الماثلة في الآفاق. ويذكرهم بالنعم العظيمة التي يتقلبون في أَعطافها حثًّا للمؤمنين على المزيذ من شكرها، وتقريعًا للكافرين الجاحدين لها، وقد بدئت هذه الآية بلفظ الجلالة وأَخبر عنه بالاسم الموصول بسبع جمل، تبرز أَدلة باهرة على قدرة الله تعالي ووحدانيته. فهو وحده الذي خلق السماوات، وأَبدع صنعها على غير مثال سبق، وأَوجد فيها الأَجرام العلوية من نجوم وكواكب، وخلق كذلك الأَرض وما فيها من أَنواع المخلوقات. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ): المراد من السماءِ هنا السحاب، أَي أَنزل من السحاب نوعا خاصا من الماءِ وهو المطر، فأَخرج به أَزواجا أَي أَنواعًا من نبات شتى، أَخرج به زروعًا وثمارًا مختلفة الأَلوان والأَحجام والطعوم والمنافع. وجعلها رزقًا لكم تعيشون به. مطعومًا كان أَو ملبوسا أَو غير ذلك. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار): أَي ذلَّلَ لكم السفن لتجرى في البحر بمشيئته، وذلك بأَن أَقدركم على صنع السفن ويسر لكم استعمالها. فجرت على وجه الماءِ في البحر مذللة خاضعة لإِرادتكم بأَمره: أَي بمشيئته التي ارتبط بها كل شيءٍ في الوجود، فتسيير الآلات ليس بمعزل من توفيق الله ومدده. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ): أَي ذللها لكم حيث تشربون منها وتسقون زروعكم وجناتكم ودوابكم. وتشقون منها جداول تسيرونها وفق إِرادتكم. 33 - (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ): أَي أَنه تعالى يذللهما ليلا ونهارًا لا يفتران عن حركتهما وإِصلاحهما لما ارتبط بهما صلاحه من الموجودات وفق تقدير الله. وهما لا يلتقيان إِلى قيام الساعة (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمر).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): فهما يتتابعان فيكم ويتعاقبان، لتتخذوا من النهار معاشًا فتبتغوا فيه من فضله، ومن الليل سكَنًا تستعيدون به قوتكم ونشاطكم، وبهما يتم عقد ثماركم وإِنضاجها واختلاف الفصول بما يكون فيه صلاح أَمركم واستقامة شأْنكم، وما به تتنوع أَصناف زروعكم وتتعدد أَجناس ثماركم، إلى غير ذلك من النعم الجليلة كالاهتداءِ بها في ظلمات البر والبحر. 34 - (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ): أَي تفضل عليكم فأَعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئًا اقتضته مشيئته التابعه للحكمة والمصلحة، كما في قوله: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ". أَو أَعطاكم من كل ما سأَلتموه وما لم تسأَلوه -فحذف الثاني لدلالة الأَول عليه، ونظيره: "سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" أي والبرد. ويجوز أَن يكون المعنى أَنه تعالى أَمدكم بما تحتاجون إِليه في جميع شئونكم، من كل ما هو جدير بسؤالكم، سواءٌ أَسأَلتموه أَم لم تسأَلوه. وفي هذه الحياة أَشياء كثيرة لازال يجهلها الإِنسان وهي مُعَدَّةٌ له، ومتى حان وقت إِبرازها كشف الله له عنها، بما أَمده به من عمق في العلم وقوة في العقل وتوفُّر على البحث، أَو عن طريق الصدفة، وقرئَ بتنوين كل: والمعنى على هذه القراءَة وأَعطاكم من كل شيءٍ: ما سأَلتموه -على أَن (ما) نافيه- أَي من كل شىءٍ حال كونكم غير سائليه. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا): أَي أَن نعم الله عليكم كثيرة متعددة، فإِن حاولتم إِحصاءَها ولو إِجمالًا فإِنكم لن تطيقوه، لأَنها لا يلم بها الحصر ولا يحيط بها العد فلا استعنتم بها على الطاعة. وشكر النعمة وعدم الإِشراك به في العبادة. (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ): المراد من الإِنسان الجنس ومن الكفر كفر النعمة بالتقصير في شكرها. والمعنى: أَن الإِنسان لا يقدر نعم الله عليه وهي لا تحصى، فتراه عظيم الظلم لنفسه، شديد الكفران لنعم ربه، فهو دائم الانتفاع بها، والتقصير في أَداءِ شكرها، ووضعها في غير موضعها، ولو أَنصف نفسه وعرف حق ربه لاستدام شكره، والوفاءُ بحقه جل وعلا.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)} المفردات: (الْبَلَد): مكة المكرمة. (اجْنُبْنِى): أَبعدنى. يقال: جَنَبْتُ الرجلَ الشَّرَّ من باب نصر. أَبعدته عنه، وجنَّبْتُه بالتشديد مبالغة. (بِوَادٍ): الوادى كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذًا للسَّيل. والمراد به هنا ما يحيط بالبيت الحرام. (تَهْوِى إِلَيْهِمْ): تسرع إِليهم شوقًا وحُبًّا. يقال: هوى إِليه يَهْوِى هُوِيًّا بضم الهاءِ إِذا أَسرع في السَّير - (مَا نُخْفِى): ما نضمر ونستر. يقال: أَخفيت الشيءُ سترتُه. وخَفِى الشيءُ اسْتَتَر أَو ظهر ضد. (ومَا نُعْلِنُ): وَما نظهر. يقال عَلَنَ الأَمْرَ من باب قعد ظهر، وأَعلنته؛ أَظهرته. التفسير 35 - (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا): هذه الآية وما بعدها يذكر الله فيها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بما وقع من مخالفة قريش لوصايا أَبي الأنبياءَ إِبراهيم عليه السلام، تأْكيدًا لما سبق من تعجيبه صلوات الله وسلامه عليه من أَحوالهم، وتماديهم في الطغيان والضلال -والمعنى: واذكر أَيها النبي وقت قول

إِبراهيم لربه، بعد أن أَسكن إسماعيل وأُمه وادي مكة "ربِّ اجْعلْ هذا الْبَلَدَ آمِنًا": أَى يا إِلهى الذى أَعبده اجعل مكة -شرفها الله- بلدًا ذا أَمن، حتى يأمن أهله على أنفسهم وأَموالهم وأَعراضهم. {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أَى أَبعدنى وذريتى عن عبادة الأصنام، والمراد ثبتنا على ما نحن عليه من البعد عن عبادتها، وإنما سأل إبراهيم هذا لنفسه مع أَن الأنبياءَ جميعًا معصومون من الشرك، للإِيذان بأن العصمة بفضل الله ومعونته وتوفيقه، كما أَن فيه هضمًا لنفسه واعترافًا بحاجته إلى فضل ربه فى كل أَمر، والمراد من بنيه من اتبعه في شريعته من ذريته بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} فكأنه لا يعتبر من ذريته من لم يتبعه، وعلى هذا تكون دعوته مستجابة تمامًا حسب نيته، ويؤَكد هذا المعنى ما جاءَ فى سورة البقرة من قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (¬1). 36 - {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}: لما كانت الأَصنام سببًا للإضلال أَسند إِليها الإِضلال مجازًا، لأنهن جماد فلا يعقل منهن ذلك على الحقيقة. وجملة: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}: تعليل لدعاءِ إبراهيم السابق، وهو قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}. وصدر هذا التعليل بقوله (رَبِّ)، إظهارا للاعتناء به، ورغبة فى استجابته -والمعنى: وأَبعدني وذريتي عن أَن نعبد الأصنام يا رب لأنهن تسببن فى إِضلال كثير من الناس، بنصبها شركاءَ لِله فى العبادة ومشاهدة الأبناء للآباءَ في تقديسهم لها، فكان ذلك مُغْريًا لهم بعبادتها، ثم إِن إِبراهيم عليه السلام أدرك بفطرته أَن بنيه سوف ينقسمون بعده إلى موحدين ومشركين، فلذلك أَظهر لربه أنه لا يستحق الانتساب إِليه إلا من اتبعه فى دينه دون من عصاه، وذلك ما حكاه الله بقوله: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي فمن تبعني منهم في التوحيد والإسلام الذي هو دين الله، فإنه متصل بي نسبًا ودينًا، ومن عصاني بإعراضه عن التوحيد الذى أدعو إِليه، وإصراره على المعاصي. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 124.

{فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أى فإنك أَهل للغفران الشامل والرحمة الواسعة، ومن كان كذلك فإنه يغفر لأمثالهم ويرحمهم، فإِن قيل: إن من ذريته من عصاه بالإِشراك بالله، فكيف يدعو له بالمغفرة والرحمة، فالجواب أَنه دعا هذا الدعاءَ الشامل قبل أَن يعرف أَن الله لا يغفر أَن يشرك به، أَو أنه قيده فى نفسه بالتوبة من الشرك، فكأَنه قال: فإنك غفور رحيم لمن تاب منهم قبل موته، وقال مقاتل وابن حَيَّان المعنى: " ومن عصاني" فيما دون الشرك فإِنك غفور رحيم. 37 - {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}: المقصود من ذريته فى الآية ابنه البكر إِسماعيل الذى ولد له فى شيخوخته من أمَتِهِ هاجر التى وهبها ملك مصر لزوجته سارة، فوهبتها له. وكانت سارة عقيمًا زمنا طويلا، فلما ولدت هاجر التى كانت جاريتها، حدث فى نفسها ما يحدث للنساء من الغيرة، فناشدته أن يخرجهما من عندها، فذهب بهما إلى أَرض مكة، ووضعهما هناك، حيث لا يوجد زرع ولا ماءٌ، ولا أحد يقيم بتلك الأَرض الموحشة، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاءً فيه ماءٌ، ئم قفل إبراهيم عليه السلام راجعًا، فتبعته أُم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي لا أنيس فيه ولا شيءَ، ولما لم يجبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إِذن لا يضيعنا، ثم رجعت. وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إِذا كان عند الثنية -حيث لا يريانه استقبل البيت بوجهه، وكان إذ ذاك مرتَفَعًا من الأرض كالرابية، ثم دعا رافعًا يديه فقال: "رب إِني أَسكنت من ذريتي" إِلى قوله "لعلهم يشكرون (¬1) "، وقد آثر عليه السلام فى نداءِ ربه صيغة الجماعة بقوله: "رَبَّنا" لتقدم ذكره وذكر بنية، والتعرض لوصف ربوبيته لهم أَدخل فى القبول وإِجابة المطلوب. والمعنى: ربنا إِني أَسكنت بعض ذريتي بواد لا ماءَ به ولا زرع، عند المكان الذي أَعددتَه لبيتك المحرم، مع أَن هذا المكان غير صالح للسكنى لفقد الماءِ والزرع، وقد أَقدمت على ذلك استجابة لأمرك، وتقربًا إِليك، وثقة بأنك سترعى ذريتي بعد أَن لجأت إلى جوارك الكريم. ¬

_ (¬1) القصة رواها البخاري مطولة فارجع إليه إن شئت.

وإضافة البيت إِلى الله تعالى لأنه لا يملكه غيره، ولا يُصَلَّى نحوه إلى سواه، ووصف البيت بالمحرم للإِيذان بعزة الملجإ، وعصمته عن المكاره، حيث حرم التعرض له والتهاون به. {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: في هذه الجملة تعليل لإِسكان بعض ذريته فى هذه البقعة الجرداء المجاورة للبيت الحرام. والمعنى: يا ربنا ما أَسكنت بعض ذريتي بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم، ويعمروه بالذكر والعبادة، والتعبير بصيغة الجمع فى قوله: {لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}: مع أَنه لا يوجد من ذريته سوى إسماعيل يؤذن بأن الله تعالى أَعلمَه أن ولده إسماعيل، سيعيش وتكون له ذرية كثيرة، وسيكون رسولا إليهم ليقيموا الصلاة على شريعته. {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}: أَى فاجعل قلوبا من قلوب الناس تسرع إليهم شوقًا وودًّا ليساكنوهم ويعيشوا معهم، وأَول آثار هذه الدعوة أنه تعالى أنبع ماءَ زمزم، ومرت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأَوا الطير تحوم على الجبل، فقالوا إِن هذا الطائر لعائف على الماءِ، فأشرفوا، فإذا هم بِهَاجَرَ، فقالوا إِن شئت كنا معك وآنسناك. {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}: فاستجاب الله دعاءه، ورزق ذريته وكل من انحاز إليهم بما أَنبت لهم من أَشجار الفاكهة المختلفة بقرى قريبة كالطائف، أو ما يجلب إليهم من الأمصار والأقطار الشاسعة من مختلف الفواكه والثمار، حتى أصبحت لديهم كثيرة موفورة، يجتمع منها عندهم الأنواع المتعددة فى اليوم الواحد، وفى ذلك يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} (¬1). وهذا من فضل الله وكرمه، ليكون عونا على عبادته والرغبة فى البقاء فى حراسة حرمه، وليجعل من موطنهم القفر ومنزلهم الموحش. مطمح الأنظار ومحط الرحال. وهي لذلك تستوجب منهم أداء مراسم العبودية تامة كاملة شكرا له تعالى وثناء عليه. 38 - {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ... } الآية. كرر إِبراهيم نداء ربه للمبالغة فى الضراعة. ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 57.

والمعنى: يا ربنا إِنك تعلم كل أَحوالنا، لا يخفى عليك شيء منها. فتعلم ما نخفيه ونستره وما نعلنه ونظهره، فكل ذلك عندك في العلم سواءٌ. وقال ابن عباس ومقاتل في تفسير هذه الجملة: تعلم جميع ما أُخفيه وما أُعلنه من الوجد بإِسماعيل وأُمه، حيث أَسكنتهما بواد غير ذى زرع. ولكن حمل الآية على عموم أَحوالهم أَولى، ويدخل فيه ما يتعلق بإِسماعيل وأُمه، وقدم نخفى على نعلن في الذكر، لأَن مرتبة الإِسرار متقدمة على مرقبة الإِعلان، فما من شيءٍ أُظهر إِلا كان قبل ذلك في طي الكتمان، وبعد أَن اعترف إِبراهيم لربه بأَنه سبحانه يعلم ما يخفيه وما يعلنه هو وذريته، أَقرَّ لربه بعلمه ما في الكون حيث قال: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ): أَي أَنه تعالى لا يخفى عليه في سماواته وأَرضه شيء من الذرات والأَجزاءِ والأَوصاف والأَعراض، وما يصلح ذلك وما يفسده، وما يبقيه وما يفنيه: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ". ويقصد إِبراهيم عليه السلام بقوله: "وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ" إِلخ أَداءَ حق ربه عليه، وتعليم ذريته ما يجب عليهم إِدراكه من شئون ربهم، ليخافوه في سرهم وعلنهم. ويجوز أَن تكون هذه الجملة من قوله تعالى، إِجابة منه لإِبراهيم حين قال: "رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ". تصديقا له وتأييدًا لشهادته، وتوسيعا لدائرة علمه جل وعلا تعليما لعباده. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}

المفردات: {وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ}: رَزَقَنِى مع تقدمي فى السن. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}: أي إنك مجيب دعاء من دعاك. التفسير 39 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ... } الآية. أي الثناءُ مني على الله شكرًا له حيث منحني مع كبر سني ويأسي من الولد -منحني- إسماعيل وإِسحاق. وقال ابن عباس: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وإِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}: المقصود من سماع الدعاءِ قبوله وإِجابته، أَي إن ربي ومالك أَمري لمستجيب دعاء من دعاه، وقد استجاب دعائي فيما سألته من الولد. 40 - {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}: أَي وفقني إِلى دوام المحافظة عليها والخشوع فيها، وإقامة حدودها واجعل من ذريتي من يقيمها، وقد خص الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أَن بعضا منهم لا يكون مقيما للصلاة، بأن يكون كافرا أَو مؤمنا لا يؤدى الصلاة، ويجوز أن يكون قد علم من استقرائه عادة الله فى الأُمم السابقة، أن يكون فى ذريته من لا يقيمها، وهذا كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}: أى دعائِي بتحقيق ما طلبته من الأدعية السابقة. 41 - {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ... }: بما أن إِبراهيم لا يرتكب ذنبا كشأن جميع الأنبياء فيكون معنى هذه الجملة، ربنا تجاوز عما فرط مِنِّي من ترك الأوْلى فى أَعمالي الدينية وغيرها مما لا يسلم منه البشر. واغفر لوالدي. وكان ذلك الاستغفار منه لهما قبل أَن يثبت عنده أنهما عدوان لله، وقال القشيري: ولا يبعد أَن تكون أمُّه مسلمة، لأن الله ذكر عُذْرَهُ في استغفاره لأبيه دون أمه فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1). وروى عن الحسن أَيضًا أن أُمه كانت مؤمنة، وختم إبراهيم عليه السلام دعاءه بقوله: ¬

_ (¬1) سورة التوبة (114).

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ): أَي واغفر للمؤمنين جميعا من ذريتى وغيرهم حينما يقومون للحساب والجزاءِ يوم القيامة، وتلك دعوة وشفاعة منه للمؤمنين المذنبين نرجو أَن يتقبلها الله منه. {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} المفردات: (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ): تكون فيه أَبصار أَهل الموقف مفتوحة لا تَطْرِف. يقال شخص البصر إِذا ارتفع، ويتعدى بنفسه، فيقال شخص الرجل بصره. إِذا فتح عينية لا يطرف. (مُهْطِعِينَ): مسرعين، من أَهطع في عَدْوه إِذا أَسرع. (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ): رافعيها من إِدامة النظر لا يلتفتون إِلى شيءِ، يقال أَقنع رأْسه رفعه. (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ): الطرف؛ العين ولا يجمع لأَنه في الأَصل مصدر. والمراد لا ترجع إِليهم أَجفانهم التي تحتها العيون بل تظل مفتوحة. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي وقلوبهم خالية لا يشغلها سنوى الخوف. التفسير 42 - (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ... ) الآية. الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمراد منه تثبيته على ما كان عليه من علمه أَنه تعالى ليس غافلا عما يعمله المشركون الظالمون، كما أَن فيه تسلية للرسول عما يفعلونه، بما يشعر به من الوعيد لهم والوعد له.

والمعني: ولا تحسبنَّ أَيها الرسول أَنه تعالى في إِمهالهم وتأْخير عذابهم غافل عما يعمل الظالمون، فإِنه سبحانه لا تخفى عليه منهم خافية. أَو لا تحسبن الله يترك عقابهم لِلطْفِهِ وكرمه. بل هو معاقبهم على القليل والكثير. وعن ابن عُيَيْنَةَ أَن هذا تسلية للمظوم وتهديد للظالم، وروى نحو هذا عن ميمون بن مهران. والمراد بالظالمين على هذا جنس الظالمين وأَهل مكة داخلون في الحكم دخولا أَوليا. (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ): هذا النص الكريم استئناف وقع تعليلا للنهى السابق وهو: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ". وإِيقاع التأْخير عليهم مع أَن المؤَخر عقابهم لتهويل الخطب وتفظيع الحال، ببيان أَنهم متوجهون إِلى العذاب موقوفون عليه رغما عنهم، وللدلالة على أَن حقهم من العذاب هو الاستئصال فلا يبقى منهم في الوجود عين ولا أَثر، وهذا التأْخير ليوم هائل لا تغمض فيه أَبصار أَهل الموقف لهول ما يرونه في ذلك اليوم من شدائد، بل تبقى مفتوحة لا تتحرك أَجفانها ولا حَدَقاتها، قال ابن عباس: تشخص أَبصار الخلائق يومئذ لشدة الحيرة، أَي تبقى مفتوحة لا تطرف. 43 - (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ... ): هؤُلاءِ الظالمون يقبلون على الداعى يوم القيامة مسرعين إِليه تتعلق به أَبصارهم لا تتحول عنه ولا يطرفون هيبة وخوفا. (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ): أَي رافعيها مع إِدامة النظر إِلى ما بين أَيديهم. (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي لا يرجع إِليهم لينظروا إِلى أَنفسهم فضلا عن النظر إِلى شيءٍ آخر. بل يبقون كل مبهوتين حائرين. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ): أَي قلوبهم خاوية خالية ليس فيها فهم ولا عقل، لفرط الحيرة والدهشة، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيءٌ إِنماِ هو هواءٌ. وهذا المعنى قاله ابن عباس وغيره ويجوز أَن يكون المراد أَن عقولهم خرجت رعبا وهلعا كأَنها هواءٌ.

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا نُأَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ جِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} المفردات: (وَأَنْذِرِ): وخوف. (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ): يوم القيامة. (أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ): أَعدنا إِلى الدنيا وأَمهلنا إِلى أَجل قريب. (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ): أَي ما لكم من بعث ونشور. التفسير 44 - (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ... ): هذا خطاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأَمر له بإِنذار الناس، والمراد بهم الكفار المعبر عنهم بالظالمين في قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ". وقال الجبائى وأَبو مسلم: المراد بالناس ما يشمل أُولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين والإِنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله سبحانه: "إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذِّكْرَ". وإِتيان العذاب يعم الفريقين من حيث كونها في الموقف وإِن كان لحوقه بالكفار خاصة -أَنذرهم-: (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ). أَي خوفهم ذلك اليوم المعهود وهو يوم القيامة الذي وصف بما يذهب الأَلباب، لما يقع فيه من أَهوال تجعل الولدان شيبا.

{فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}: أي يصدر عنهم هذا القول في ذلك اليوم، والعدول عن لفظ -فيقولون- إلى ما في النظم الكريم. لتسجيل الظلم عليهم، وأَنه سبب ما ينالهم من شدة ونكال، وفي قولهم (رَبَّنَا أخِّرْنَا) إلخ إشارة إِلى ندمهم وعجزهم عن الاحتمال. قال الضحاك ومجاهد: إنهم طلبوا الإِمهال والرد إِلى الدنيا للرجوع إلى حال التكليف، وقد طلبوه إِلى أَمد من الزمن قريب حين ظهر لهم الحق. ليعملوا فيه ما يرضيه جل شأنه، وسجلوا ذلك على أَنفسهم فقالوا: (نُجِب دَعْوَتَك): إِلى الإِسلام بتوحيدك، واتباع تعاليم دينك، وذلك ما صرَّحُوا به فى قولهم: (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ): فيما جاءُوا به مبشرين ومنذرين، أي نتدارك ما فرطنا فيه بإعراضنا عن إجابة الدعوة واتباع الرسل، وجيء بلفظ الرسل لأن الحديث عن يوم القيامة الذي يجمع الرسل وأُممهم. ولما كانت طبيعة الظالمين الكذب والافتراء، وأَن يقولوا ما لا يفعلون أجابهم الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}: أَى فيقال لهم ردًّا على قولهم توبيخا لهم وتبكيتا، وبعثا على اليأس والحسرة: أَو لم تكونوا في الدنيا تحلفون بألسنتكم أَنكم لا تزولون ولا تتحولون من قبوركم إِلى دار أُخرى، وأَنه لا معاد ولا جزاءَ. -كما أَخبر عنهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}. 45 - {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... }: أَي وأَقمتم في مساكن الَّذين ظلموا أنفسهم من الكافرين المهلكين قبلكم، وكنتم فيها سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر واقتراف المعاصي، وليس لكم فيهم معتبر ولا فيما أَوقعناه بهم مزدجر. {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}: أَي ظهر لكم بمشاهدة الآثار الباقية من ديارهم التي أُبيدت وأَصبحت أثرا بعد عين، وبتواتر أَخبارهم -ظهر لكم- ما صنعناه بهم من تدمير وإِهلإك بسبب ما اقترفوا من ظلم وإفساد. {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}: أَي بينا لكم في التنزيل على ألسنة

الأَنبياء أَحوالهم جميعها: ما فعلوه وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأَمثال المضروبة: لتكون لكم فيها عظة وعبرة. بقياس أَعمالكم على أَعمالهم، ومآلكم على مآلهم. فترتدعوا عما أَنتم فيه من الشرك والضلال طلبا للنجاة. أَوبينا لكم أَنكم مثلهُم في الكفر واستحقاق العذاب، وتكون الأَمثال على هذا جمع مِثْل بمعنى الشبيه والنظير. 46 - (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ): أَي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أَنهم مكروا مكرهم البالغ الذي استنفدوا فيه طاقتهم، وبذلوا في تدبيره كل مجهود لهم، سعيا في إِبطال الحق وتقرير الباطل، وقد جاوزوا بمكرهم كل حد. وفي هذا إِشارة إِلى تمام استحقاقهم ما فعل بهم. (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ): أَي وعنده عِلْمُ مكرهم الذي يهلكهم به أَو عنده جزاءُ مكرهم الذي فعلوه، وتسمية عقابهم مكرا لكونه في مقابلة مكرهم وجودا وذكرا ويسمى هذا مشاكلة في اصطلاح علماء البلاغة، أَو لكونه في صورة المكر لوقوعه من حيث لا يشعرون. (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ): أَي وإِن كان مكرهم في غاية القوة ومنتهى الشدة، بحيث يكون معدا لإِزالة الجبال عن مقارها، وهي التي جعلها الله للأَرض أَوتادا تحفظ توازنها وتضمن سلامتها. والمراد أَنه الله مجازيهم على مكرهم ومبطل أَثره. وإِن كانت تزول منه الجبال. وذلك إِشارة إِلى مؤَاخذتهم على أَي حال، وعدم التفاوت بين كون مكرهم ضعيفًا أَو قويا. وعن الحسن وجماعة: أَن "إِن" نافية. واللام لتأْكيدها كما في قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ". والمعنى على هذا: وَمَكَرُوا مَكْرَهُمْ وعند الله جزاء مكرهم والحال أَنه ما كان له أَثر وخطر عند الله حتى يزول منه ما هو كالجبال في الرسوخ من آيات الله وشرائعة ومعجزاته على أَيدى الرسل السابقين عليهم السلام (¬1). ¬

_ (¬1) قالوا ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن مسعود "وما كان مكرهم لتزول الجبال". حيث جاءت فيها (ما). النافية مكان (إن).

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} المفردات: (بَرَزُوا): خَرجوا من قبورهم. (مُقَرَّنِينَ): المقَرَّنون؛ المجموعون بعضهم مع بعض في قَرَن، وهو الحبل الذي يربط به. (الأَصْفَادِ): القيود والأَغلال وهو جمع صفْد أَو صَفَدٌ قيد يوضع في الرِّجل. والغُلّ: قيد تضم به اليد إِلى العنق وقد يقصر على العنق (¬1)، (سَرَاِبيلُهُمْ): جمع سربال، وهو القميص. (قَطِرَانٍ): القطران، سائل أَسود تطلى به الإِبل الجربى. (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ): تعلوها وتحيط بها. التفسير 47 - (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ .... ): إِن كان الخطاب للرسول فمعناه دُم على ما أَنت عليه من الثقة بصدق وعد الله، وإن كان لكل مكلف فهو للتحذير والإِرشاد، أَي فلا تظن أَنه سبحانه مخلف وعده لرسله بتعذيب الظالمين في مثل قوله: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا ... " إلى آخر الآيات. واقتران النهي هنا بالفاءِ يشير إلى ترتبه على ما سبق، وكأَنه قيل خطابا للرسول: ¬

_ (¬1) ومنه قوله تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم".

وإِذا كان الله قد أمرك أَن تنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ويكون من أَمر الظالمين فيه ما تقدم بيانه، فدم على ما أَنت عليه من كمال الثقة بالله. واليقين بإنجاز وعده الذى وعده رسله. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}: أي أنه جل شأنه غالب لا يغالَبُ، قادر يفعل ما يريد، فينتقم لأوليائه من أَعدائه. والجملة تذييل وتعليل للنهي السابق وهو قوله سبحانه: {فَلَا تَحْسَبَنّ}. والتعرض لوصف العزة والانتقام يؤَكد عدم إخلاف وعده رسله بتعذيب الظالمين جزاءَ ما اقترفوا من إِفك وطغيان، وفى جملتهم قريش. 48 - {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ..... }: أَي أَن الله ينتقم من الظالمين بتعذيبهم يوم تبدل الأرض غير الأرض. واعلم أن التبديل قد يكون في الذات وقد يكون فى الصفات، والآية ليست نصًّا في أحد الوجهين، والله أَعلم كيف يتم هذا التبديل. {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: أى وخرج الخلائق من قبورهم، أو الظالمون المدلول عليهم بما سبق، أَو المراد ظهورهم بأعمالهم التى عملوها سرا وزعموا أنها لا تظهر، وعبر عن البروز بصيغة الماضى لتحقق الوقوع. لأَنه لا مناص لهم من لقاء الله الواحد الغالب على أَمره، الفعال لما يريد، لمحاسبتهم على أعمالهم، ومجازاتهم عليها، وفي وصفه سبحانه بالوحدانية والقهر إشعار بأنهم عنده على خطر عظيم، وإيذان بتحقق العذاب الموعود. 49 - {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ ... }: أَي تبصرُ الكافرين يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات. {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}: أَي مجموعًا بعضُهم مع بعض في قَرَن، وهو الوثاق الذى يربط به ويضم كل امريء لمشاركه. 50 - {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ .... }: أَى قُمُصهم من قطران، وهو سائل حار أَسود اللون منتن الرائحة، يساعد على سرعة اشتعال النار، تطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب كما تطلى به جلود أَهل النار حتى يكون عليهم كالسرابيل، ليذوقوا أشد العذاب وأَقساه، بنار سريعة الاشتعال. شديدة الإِيلام تجعل أَجسامهم سوداءَ داكنة، تفوح منها الروائح التي تزكم الأُنوف، وتقبض النفوس. {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}: أى تعلوها وتحيط بها كما تحيط بأجسادهم المسربلة بالقطران. وتخصيص الوجوه بالذكر مع أن غشيان النار حكم عام لسائر الأعضاء،

لتنبههم إِلى أَن أَعز الأَعضاء الظاهرة وأَشرفها تحيط بها النار، لكونها مجمع المشاعر والحواس التي خلقت لإِدراك الحق، وقد أَجرموا بالإِعراض عنه، ولم يستعملوها في تدبره والوصول إليه. ولعل تركها من الطلاءِ بالقطران ليتعارفوا عند انحسار اللهب أَحيانا، ويتضاعف عذابهم بالخزى على رءوس الأَشهاد. 51 - (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ... ): أَي يفعل الله بهم ما ذكرا. ليجزى كل نفس مجرمة. جزاءً مواففًا لما اقترفت من كفر وعصيان، ويجوز أَن يراد من النفس ما يعم المطيعة والعاصية فيكون المعنى: وبرزوا لله الواحد القهار، ليجزى كل نفس مطيعة أَو عاصية ما كسبت من خير أَو شر. (إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَابِ): فهو سبحانه لا يشغله شأْن عن شأْن، ولا يحتاج إِلى تأَمل وتدبر في إِصدار حكمه. بل يتمه في أَعجل وأَسرع زمن. 52 - (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ..... ): هذا إِشارة إِلى ما ذكر من قوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا" إِلى قوله: "إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ". أَي ذلك كفاية في العظة والاعتبار والتذكير، فما ظَنُّك بما انطوت عليه السورة وما اشتمل عليه القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع وهذا البلاغ إِمَّا للكفار خاصة على اعتبار اختصاص الإِندار بهم في قوله تعالى: "وَأَنْذِر النَّاس". وإما للناس عامة على اعتبار شمول الإِنذار لجميع الناس. (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ): معطوف على مقدر أَي هذا كفاية للناس لينصحوا ولينذروا به ويجوز أَن يكون البلاغ بمعنى الإِبلاغ، كما في قوله تعالى: (مَا عَلى الرَّسُول إِلاَّ البَلاَغُ). والمعنى: هذا إِبلاغ للناس ليفهموه وليذروا به. (وَلِيَعْلَمُوا): بالتفكر والتأَمل فيما فيه من البراهين الساطعة، والدلائل الواضحة التي أَنبأَت عن إِهلاك الأُمم السابقة، وإِسكان آخرين مساكنهم إِلى غير ذلك مما حكته الآيات التي تقدمت. هذا كله ليعلموا: (أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ): تنزه عن الشريك والمثيل، وتقديم الإِنذار لأَنه الداعى إِلى التأَمل المؤدى إِلى الغاية منه، وهو العلم بوحدانية الله جل وعلا. (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ): أَي هذا بلاع للناس لما تقدم وليتذكروا شئون الله مع عباده وما يعملون في حياتهم فيرتدعوا عما يهلكهم، وذلك باجتناب ما اتصف به الكفار، والتذرع بما يقربهم إِلى الله، من التمسك بالعقائد الحقة والأَعمال الطيبة، وفي تخصيص التذكر بأُولى الأَلباب إِعلاءٌ لشأنهم، وحض الناس على أَن يكونوا منهم لينتفعوا مثلهم بمواعظه -والله تعالى أعلم.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون أَما أَنها مكية فقد أَخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم، كما روى عن قتادة ومجاهد، واستثنى الحسن قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) ". وقوله سبحانه: "كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ 90 - 91". ذكره صاحب مجمع البيان. وأَما أَنها تسع وتسعون آية فبالإِجماع كما نقله الدَّانى والطبرسى. وتناسب سورة إِبراهيم التي قَبلها في أَنها مثلها في كونها مكية مفتتحة بأَسماء بعض حروف المعجم، وقد جاء في كلتيهما النهي عن الكفر والوعيد بالعقاب عليه، والحث على الإِيمان والوعد بالثواب عليه، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أَصابه من قومه، إِلى غير ذلك من المناسبات التي جمعت بينهما. مقاصدها وقد اشتملت هذه السورة على مقاصد عظيمة، أَهمها ما يلي: 1 - أَنها ابتدأَت بالإِشارة بآيات القرآن المبين، وبينت أَن من كفروا سوف يتمنون أَن لو كانوا مسلمين، وأَمرت النبي أَن يتركهم يتمتعون ويلهيهم الأَمل فسوف يعلمون العاقبة السيئة لانصرفهم عن الحق، وذلك في وقت معلوم لله، لا يتأَخرون عنه ولا يتقدمون. 2 - أَنهم لما سفهوا على الرسول بوصفهم إياه بالجنون، لأَنه لم يأْتهم بالملائكة تؤيده وتبلغهم عن الله نَبَّهَتْهم هذه السورة إِلى أَن الملائكة لا تنزل إِلا بحكمة، وليس منها أَن تكون رسولا عن الله إِليهم، فإِنهم يهلكون بمشاهدتهم لها على صورها الحقيقية ولا يُنْظَرُون، أَو يهلكون عقابا على كفرهم بعد مجيء الآية التي اقترحوها، كما جرت عادته تعالى في الأُمم قبلهم، وأَرشدتهم إِلى أَنه تعالى هو الذي نزَّل على محمد معجزة الذكر وهو القرآن، وأَنه حافظ له من كل ما يقدح فيه ليظل معجزة الإِسلام ما بقى الزمان.

3 - تسلية الرسول عن استهزاءِ قومه، بأَن ذلك عادة أَهل الباطل مع المرسلين ذلك في قوله سبحانه: "وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) ". 4 - التنبيه إِلى الآيات الكونية الدالة على وحدانيته تعالى وعظيم قدرته، مثل بروج السماء، والشهب التي تتساقط منها، والأَرض وإرسائها بالجبال، وتيسير أَسباب المعايش فيها، وإرسال الرياح لواقح، وإِنزال الماء لسقيانا، وما نحن له بخازنين، بل هو عطاءٌ من رب العالمين، وأَنه تعالى هو المحيى والمميت وأَنه سوف يحشر الناس أَجمعين للحساب والجزاءِ. 5 - التنبيه إِلى أَن مبدأَ خلق الإِنسان كان من صلصال من حمإِ مسنون، والجان كان من نار السموم، وأَنه تعالى أَمر الملائكة بالسجود لآدم بعد تمام خلقه، فسجدوا إِلا إبليس فطرده الله من الجنة، لتكبره وعصيانه، وأَنه انتقم لنفسه ظلمًا من آدم، بإغرائه بالأَكل من الشجرة، فأَهبطه الله وزوجه إِلى الأَرض التي خلقه منها ليكون فيها خليفة، وأَن إِبليس توعد بنى آدم بإِغوائهم أَجمعين إِلا عباد الله المخلصين، فإِنه ليس له عليهم سلطان، وأَن جهنم موعد العصاة أَجمعين، وأَن المتقين في جنات وعيون إِخوانًا على سرر متقابلين. 6 - ذكر قصة إِبراهيم وأَضيافه من الملائكة، وقد جاءَ فيها أَنهم بشروه -في شيخوخته- بغلام عليم، فعجب من بشارتهم وقد تخطى سن الأَمل إِلى شيخوخة اليأْس، فطمأَنوه قائلين: "بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ 55 - 56": وأَخبروه أَن الله أَرسلهم إِلى قوم لوط لعقابهم على كفرهم وجريمتهم التي اشتهروا بها في العالمين. 7 - ذكر قصة لوط وقومه، وقد جاءَ فيها أَمر الملائكة إِياه بالإِسراء بأَهله في جزء متأَخر من الليل، ونهيهم لهم عن الالتفات إِلى ما وراءهم، وأَن عليهم أَن يمضوا حيث يؤمرون وأَعْلموه أَن قومه الآثمين هالكون جميعًا في الصباح، وقد حدث هذا؛ فإِنه تعالى جعل في الصباح عالى بلادهم سافلها، وأَمطر عليهم حجارة من سجيل، جزاء كفرهم وجرائمهم

8 - إِجمال قصة أَصحاب الأَيكة والانتقام منهم، وتفصيل قصة أَصحاب الحجر المكذبين وذكر سوء نهايتهم. 9 - بيان أَنه تعالى لم يخلق السماءَ والأَرض وما بينهما عبثًا، وأَن الساعة آتية، وأَن على النبي صلى الله عليه وسلم أَن يصفح عن قومه ويُسرِّى عن نفسه، حتى يؤْمر في شأْنهم بما يمكِّنةُ منهم. 10 - بيان أَنه تعالى آتى نبيه صلى الله عليه وسلم سبعًا من المثانى والقرآن العظيم، وأَنه بما اشتمل عليه من الهدى بغنيه عن التطلع إِلى الدنيا، فإِن الآخرة خير له من الأُولى. 11 - نهيه صلى الله عَليه وسلم عن الحزن على المشركين إِن لم يؤمنوا، وأَمره بلين الجانب والتواضع لمن معه من المؤمنين، وأَمره أَن ينذر المشركين ويخوفهم مما آل إِليه أَمر المقتسمين الذين اقتسموا طرق مكة ومسالكها ليصدوا السابلة عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وينفروهم منه، فقد أَماتهم الله شر ميتة، وسيأْتى بيان آراه المفسرين في هؤُلاءِ المقتسمين. 12 - أَمره صلى الله عليه وسلم بأَن يصدع بأَمر ربه ويبلغ دينه، ولا يكترث بإِعراض المشركين، وأَن يجنح للصلاة حين يضيق صدره مما يقولونه عنه وعن دعوة الحق، وأَن يظل على ما هو عليه من عبادة ربه حتى يأْتيه اليقين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} المفردات: (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (¬1): أَي قرآن مظهر شريعة الله والحق من الباطل، أَو بَيِّن واضح لا يخفى الحق فيه ولا تلتبس معانيه. (رُّبَمَا) (¬2): رب حرف يستعمل للتقليل تارة وللتكثير أُخرى، سواءٌ اتصلت به ما أَو لم تتصل، وسواءٌ أَكان مخففًا أَم مشددًا، ويختص بالدخول على الأَسماءِ إِن كان مجرَّدا من لفظ ما فإِن اتصلت به سوغت دخوله على الأَفعال كما هنا، (لَوْ): حرف يفيد التمنى. (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ): أَي يشغلهم عن طاعة الله. التفسير 1 - (الر): تقدم الكلام على مثله في أَول سورة البقرة وآل عمران ويوسف والرعد وإِبراهيم وغيره، فارجع إِليه إِن شئت. (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ): أَي تلك السورة العظيمة بعض آيات من هذا الكتاب الجامع لكمالات الكتب السماوية، الجدير بأَن يختص من بين باقى الكتب باسم الكتاب، وتلك السورة أَيضا بعض آيات ¬

_ (¬1) مبين اسم فاعل من أبان وهى تستعمل متعدية للمفعول إذا كانت بمعنى أوضح وأظهر، ولازمة -أي لا تنصب المفعول- إذا كانت بمعنى اتضح وظهر: وقد بينا ذلك في المفردات. (¬2) وفي رُبَّ لغات أوصلها بعضهم إلى سبع عشرة انظر الألوسى في الآية، فقد فصل الكلام على تلك اللغات وإعرابها.

قرآن عظيم الشأن، مبين شريعة الله التى ختم بها الشرائع السماوية، ومُظْهرها للناس فى أبهى صورها وأَوضحها، وكما يُبينُ شريعة الله فهو واضح فى عباراته ومعانيه، لا يلتبس على قاريء يعرف العربية، ولا تخفى عليه عجائبه ومزاياه. وبعد أن أشار الله إلى عظمة آيات الله البينات التى منها هذه السورة، تشويقًا وتوجيهًا إلى حسن تلقيها، شرع يبين ما اشتملت عليه فقال سبحانه: 2 - {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}: أفادت هذه الآية الكريمة، أن الكفار سوف يحصل منهم بكثرة، أن يتمنوا فى الآخرة لو كانوا مسلمين في دنياهم لكى ينجوا من استمرار العذاب الذى يقاسونه في الآخرة؛ كما نجا عصاة المؤْمنين بعد أن عذبوا فيها على قدر معاصيهم، أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس وأنس رضى الله عنهم "أنهما تذاكرا هذه الآية فقالا: هذا حَيْثُ يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين فى النار، فيقول المشركون: مَا أغْنَى عَنْكُمْ مَا كنتم تَعْبُدُونَ، فيغضب الله تعالى لهم، فيخرجهم بفضل رحمته، وأَخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ نَاسًا مِنْ أمتِي يُعَذَّبُونَ بذُنُوبِهمْ، فَيَكُونُون فِي النار مَا شَاءَ اللهُ تَعالى أَنْ يَكُوُنوا ثم يُعيِّرُهمْ أهل الشرك فيقولون: ما نَرىَ مَا كُنْتمْ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقكُمْ نَفَعَكُم، فَلَا يَبْقَى مُوَحِّدٌ إلاَّ أَخْرَجَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ النار، ثُمَّ قَرَأ رَسولُ الله صَلَى الله علَيْهِ وَسَلَّم الآية" وذكر ابن الأنبارى أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكفار، ويَسْلَمُ فيها المسلمون، ومن العلماء من قال إن هذه الودادة منهم فى الدنيا، فالضحاك يقول: إن ذلك يحدث منهم عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم حينئذ، وابن مسعود يقول: إن الآية في كفار قريش وَدُّوا ذلك يوم بدر حين رأَوا الغلبة للمسلمين. وحرف (ربما) لم يوجد فى القرآن إلا فى هذه الآية، وباؤُه مفتوحة مخففة فى قراءَة نافع وعاصم، ومشددةٌ فى قراءة باقي القراء.

3 - (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): بين الله في الآية السابقة، أَن الكفار حين يقاسون أَشد العذاب يوم القيامة يتمنون أَن لو كانوا مسلمين في الدنيا ليتخلصوا من عذابهم الذي كتب عليهم الخلود فيه بسبب كفرهم، وجاءَت هذه الآية تأمر النبي صلي الله عليه وسلم أَن يتركهم فيما هم فيه من متاع الحياة الدنيا الفانية، وإِعراضهم عن العمل للآخرة، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وعدم مبالاتهم مما دعوتهم إِليه من الحق المبين. والمعنى: اتركهم أَيها الرسول في غيهم، ولا تبال بإِصرارهم على الكفر، فلا سبيل إلى انتفاعم بنصحك بعد ما بذلت فيه خالص جهدك، اتركهم يأْكلوا ما يشاءُون بدون وعي كما تأْكل البهائم، ويتمتعوا بدنياهم بغير حدود كما شاءَ لهم هواهم، ويشغلهم عن الآخرة أمَلُهم في طول الأَعمار، ونيْلِهم الأَوطار، واستقامة الأَحوال، في الدنيا ويوم المآل، فسوف يعلمون وخامة عاقبهم في أُولاهم وأُخراهم وأَشد مرض تصاب به القلوب طول الأَمل، ومتى تمكن من القلب فَسد مزاجُه، وعزَّ دواؤُه، وصعب علاجه، ويئس من برئه حكماؤُه. وانتهى أَمر صاحبه إِلى الشقاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة من الشقاء. جمودُ العين، وقساوةُ القلبِ، وطول الأَمل، والحرصُ على الدنيا". وقال صلى الله عليه وسلم: "نجا أَول هذه الأُمة باليقين والزهد، ويهلك آخرها بالبخل والأمل". وقال الحسن: ما أَطال عبدٌ الأَمل إِلا أَساءَ العمل.

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} المفردات: (مِنْ قَرْيَةٍ): أَي من أَهل قرية. (كِتَابٌ مَعْلُومٌ): أَجل مكتوب معلوم لله. (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا): ما تموت أُمة قبل الأَجل المقدور لها. (وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ): وما يتأَخرون عنه. (الذِّكْرُ): القرآن. (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ): أَي هلاَّ تأْتينا بهم ليشهدوا بصدقك يا محمد. (إذَن): أَي حينئذ. التفسير 4 - (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ): بعد ما أَنذر الله قريشا في الآية السابقة بسوءِ العقاب بقوله: "ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ". عقبها بهذه الآية وما بعدها لبيان أَن هلاك الأُمم الكافرة بمشيئة الله وحده وفق أَجل معلوم له لا تتجاوزه، فلا يقدمه استعجال، ولا يؤخره استغاثة ودعاءٌ. والمعنى: وما جرت عادتنا أَن نهلك قرية عصى أَهلها وتمردوا على رسلنا، إِلا ولهذه القرية الهلكة أَجل مكتوب في اللوح المحفوظ، معلوم لنا وللملائكة الذين ينفذون فيها

أَمرنا فلا يقدمه استعجال كما فعل قومك حين أنذرتهم، ولا يؤخره استغاثة وتوبة بعد ظهور مقدماته، ولهذا عقب الله تلك الآية بقوله سبحانه: 5 - {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}: أى ما نتقدم أمة من الأُمم التى كتب عليها الهلاك -ما تتقدم- على الوقت الذى كتبه الله لهلاكها، وجعله أَجلا وغاية لوجودها، وما تتأخر عنه لأي سبب من الأَسباب، بل تهلك فى الوقت التي كتبه الله تماما {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}. 6 - {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}: هذا شروع فى بيان كفر أهل مكة بمن أُنزل عليه الكتاب بعد ما أُشير إليه فى صدر السورة من كفرهم بالكتاب نفسه ووعيدهم على ذلك. والمعنى: وقال مشركو مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاءِ والسخرية -لا على سبيل الاعتراف- قالوا له: يأيها الذى نزل عليه الذكر من السماء كما تزعم، إنك لمجنون بسبب هذه الدعوى، فإنها أكبر من قدره في تقديرهم الخاطيء، حيث إِنهم زعموا أن النبوة تتبع الرياسة الدنيوية، إذ قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. والقريتان هما مكة والطائف، والرجل المقصود فى مكة هو الوليد بن المغيرة المخزومي، والمقصود فى الطائف حَبيبُ بن عَمْرو بن عُمَير الثقفى كما روى عن ابن عباس. وقيل: عتبة ابن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل فى الطائف -كما روى عن مجاهد، وقيل غير ذلك-. والذكر فى اللغة له عدة معان منها: الشرف، وقد أُطلق هنا على القرآن كما أطلق عليه فى نحو قوله تعالى فى سورة الزخرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. وقوله سبحانه فى سورة الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} لعلو شرفه، وقد عبر المشركون عنه بلفظ الذكر مجاراة للنص القرآني على سبيل الاستخفاف. 7 - {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)}: لوما ولولا وهَلَّا: حروف ثلاثة يستعمل كل منها للحثِّ على الفعل والحضِّ عليه.

ومعنى الآية: هَلَّا تأْتينا يا محمد بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك، ويساعدونك في الإِنذار كما حكاه الله عنهم بقوله: "لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا". أَو يعاقبوننا على تكذيبك إِن كنت من الصادقين في دعواك النبوة، فإِن ذلك يكون تأْييدًا لك من ربك، ويجوز أَن يكون المعنى: إِن كنت من جملة الرسل الصادقين الذين عذبت أُممهم المكذبة لهم، وقد رد الله عليهم بقوله: 8 - (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ): أَي ما ننزل الملائكة إِلا مرتبطا بالوجه الذي اقتضته الحكمة، وليس فيها ما اقترحوه فإِن الملائكة إِن نزلوا للشهادة بصدقه صلى الله عليه وسلم، أَو لمساعدته في التبليغ، فإِما أَن يكونوا على صورتهم الحقيقية أَو على صورة بشر، فإِن كانوا على صورتهم فلا يستطيع البشر لقاءَهم بل يهلكون، لأَن أَعصابهم لا تتحمل القوة الملكية الهائلة التي أَودعها الله فيهم، وفي ذلك يقول الله في سورة الأَنعام " .... وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) " وإِن كانوا على صورة بشر التبس أَمرهم عليهم وظنوهم بشرا حقيقيين، وهذا ما عناه الله بقوله في السورة المذكورة: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) ". أَما إِن نزل الملائكة لاستئصالهم على كفرهم كما طلبوه على وجه الاستعجال بقولهم: "مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" وقولهم: "للَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (¬1)." وقولهم: "وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (¬2) " -أَما إِن نزل الملائكة لذلك- فليس من الحكمة أَيضًا، فقد وعد سبحانه أَن لَّا يعِذبهم والرسول فيهم بقوله: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (¬3). وكانت ثمرة هذا الكرم الإِلَهى أَن دخلوا في دين الله أفواجا قبل أَن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وبعد أَن بيَّن الله في صدر الآية أَنه لا ينزل الملائكة إِلا بالحكمة وليس منها ما طلبوه، ختم الآية ببيان الضرر الذي يحل بهم إِن حقق لهم مطلبهم بإِنزال الملائكة على أَي وجه، فقال: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية 32 (¬2) سورة ص الآية 16 (¬3) سورة الأنفال الآية 33

{وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}: أي وما كان المشركون ممهلين حين يُنزِل الله الملائكة استجابة لطلبهم، بل يهلكون لأي سبب مما تقدم بيانه، أَو لأنه تعالى جرت عادته فى الأُمم السابقة أنه إذا أتاهم بالآيات التي يقترحونها ولم يؤمنوا استأصلهِم بالعذاب، وقد علم الله من أهل مكة أنه لو أنزل ملائكة لم يؤمنوا بسبب نزولهم، وحينئذ فليس من الحكمة إنزال الملائكة ليكفروا بهم فيهلكوا، فى حين أنه كتب لهم الإيمان حيث دخلوا فى دين الله أَفواجا بعد فتح مكة. ثم رد الله إنكارهم للقرآن العظيم فقال: 9 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}: أى إنا نحن -رب السموات والأرض- نزلنا القرآن الذي أنكروا أنه وحي من عندى، نزلناه عليك، وإنا نحن بِعِظَمِ شأننا لحافظون هذا القرآن من التغيير والتبديل والضياع، ليبقى آية ديننا ودستور شريعتنا ما بقى الزمان، فلن يعتريه تحريف ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان. ولقد أورث الله قلب كل مؤمن غيرة عليه، فلا نرى أحدًا يتسامح فى لحنة لاحنٍ فيه، ولو كان شيخا عظيما، بل يسارع إلى رَدِّه إلى الصواب، ولا يخاف فى الله لومة لائم، ولم يتعهد الله بحفظ كتاب سواه، أَما كتبه السابقة فقد استحفظها الربَّانيِّين والأحبار، على سبيل الامتحان والاختبار، فأساءُوا الحفظ والرعاية، وغيَّروا فيها وبدَّلوا، وما لم يبدلوه منها أساءُوا تأويله، وتعمَّدوا تحويله، وقد زال أصل التوراة ولم يعد له وجود، وضاع أصل الإنجيل وانتهى أَمره، ولهذا لا تجد نسخ التوراة أو الإنجيل متماثلة، فترى بعضها أطول من بعض، مع الاختلاف فى العبارات والمعاني. أما القرآن الكريم فإنه نسخة واحدة فى جميع الأمصار والأعصار، في عهد رسول الله، وحين جمعه أبو بكر فى نسخة واحدة، ثم نسخه عثمانُ فى أربع نسخ وزعها على الأمصار، لم يتغير فيه حرف ولا كلمة، لأنه تعالى تولى حفظه بنفسه منذ أنزله على رسوله بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ولم يستحفظ عليه أحدًا سواه، فطبع كل مسلم على الغيرة عليه والمبالغة في صيانته بدافع وجداني، تنفيذا لوعد الله الكريم، ليظل دستور

رسالة الإِسلام الخاتمة للرسالات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ولن يزال أَمر هذه الأُمة مستقيما حتى تقوم الساعة". ولا شك أَن حفظه من التغيير والتبديل إِلى يومنا هذا آية على أَنه من عند الله جلَّ وعلا. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} المفردات: (شِيَعِ): جمع شيعة وهى الفرقة والجماعة على طريقة ومذهب، مأخوذ من شاع المتعدى تقول: شاعهُ بمعنى تبعه، وتطلق الشيعة على الأَعوان والأنصار. (نَسْلُكُهُ): ندخله، ومنه سلكت الخيط في الإِبرة. (الْمُجْرِمِينَ): المذنبين، يقال أَجرم فلان وجرم أَي أَذنب كاجترم، فهو مجرم، وجريم أَي مذنب، والجريمة الذنب، وجرم، عليهم وإليهم جريمة جنى عليهم جناية -انظر القاموس. (خَلَتْ): مضت. (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ): طريقتهم. التفسير 15 - (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ): بعد أَن بينت الآيات السابقة موقف أَهل مكة من دعوة الإِسلام وداعيها، جاءَت هذه الآيات لتسليته صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له بما حصل للرسل قبله من تكذيب أَقوامهم لرسلهم.

والمعنى: ولقد أَرسلنا من قبلك يا محمد رسلا في أُمم الأَولين، الذين يشايع بعضهم بعضا في كفره، ثم بيَّن الله سبحانه كيف تعاملت هذه الأُمم مع هؤلاءِ الرسل فقال: 11 - (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ): أَي وما يأْتى كل أُمة من رسول خاص بها إِلا كانو به يسخرون كما فعلت قريش معك يا محمد، فلا تبتئس أَيها الرسول بما فعله جُهَّال قومك معك، فإِن هذه عادة متأَصلة في الجاهلين مع سائر المرسلين. 12 - (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ): أَي كما أَدخل الله كتب المرسلين في قلوب اُممهم غير مقبولة لديهم، مدخل الذكر أَي القرآن -في قلوب المجرمين الآثمين من قومك فيكون فيها مقبول ومسخورًا منه، لفساد عقولهم وظلمة قلوبهم، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولو شاءَ الله لهداهم أَجمعين. 13 - (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ): أَي كذلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين من قومك حال كونهم لا يؤمنون به، وقد مضت سنة الله في الأَولين من أُمم الأَنبياءِ قبلك على هذا النمط، فقد كانت كتب الله تدخل قلوبهم مصحوبة بالاستهزاءِ وعدم الإِيمان. ويصح أَن تكون جملة: "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" مستأْنفة لغرض الوعيد والتهديد أَي وقد مضت طريقة الله في المكذبين الأَولين من الإِهلاك والاستئصال بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسلهم، وأَهل مكة إِن استمروا على تكذيبهم، فسوف يحل بهم مثل ما حل ممن سبقهم جريا على سنة الله في المكذبين.

وأَعاد بعضهم الضمير في نسلكه على الاستهزاءِ وما نشأَ عنه من الضلال والكفر، ومعنى الآيتين على هذا ما يلى: أَي كما سلكنا الضلال والكفر والاستهزاءَ في قلوب الكافرين برسلهم قبلك، نسلكه في -قلوب المجرمين من أُمتك يا محمد. لا يؤمنون بسبب ذلك، وقد مضت سنة الأَولين في الكفر والاستهزاءِ وهى مماثلة لهم، وأَنت بها عليم فلا تحزن، أَو مضت سنتهم في الإِهلاك فليحذر قومك مثل مصيرهم. ثم بين الله تعالى أَن اقتراح قريش نزول الملائكة ليس بغرض الاهتداءِ بل هو للعناد والمكابرة فقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} المفردات: (يَعْرجُونَ): يصعدون، والمعارج. المصاعد. (سُكرَتْ أَبْصَارُنَا): أي حُيِّرتَ، من السُّكْر ضد الصحو -كما قال عمرو بن العلاء- أَرادوا أَنها فسدت، واعتراها خلل كما يعترى عقل السكران فيختل إِدراكه، وهذا المعنى قريب من تفسيرها بِخُدِعتْ وقيل: تسكير الأَبصار إِغلاقها أَو تغطيتها. التفسير 14 - (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ): أي ولو فتحنا على كفار مكة بابًا من السماءِ، ومكناهم من الصعود فيه، فصاروا يعرجون ويصعدون فيه بآلة أَو بغيرها، وهم يرون ما في السماءِ من الملائكة والعجائب في وضوح واستبانة.

15 - (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ): أَي لو فتحنا عليهم بابًا من السماءِ على النحو الذي تقدم بيانه، لقالوا لفرط عنادهم ومكابرتهم: إِنما خُدِعَتْ أَبصارنا فلم نشاهد شيئا على الحقيقة، بل نحن قوم مسحورون سحرنا محمد حتى تخيلنا هذه المرائى، كما يتخيل المسحر شيئًا لا حقيقة له ولا تراه العيون على حقيقته. {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)} المفردات: (بُرُوجًا): جمع برج وهى في الأَصل بمعنى القصور أَو الحصون، ثم أَطلقت على منازل الكواكب والنجوم لأَنها تشبهها في كونها منازل لها، كما أَن القصور منازل لساكنيها. (شَيْطَانٍ رَجِيمٍ): أَي مطرود من الرحمة، أَو مَرمِى بالرجام وهى الحجارة، فإِنهم يُقذَفُونَ بشظايا النجوم. (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ): أَي اختلس بعض ما يسمع من كلام الملائكة (فَأَتْبَعَهُ (¬1)): إَى تبعه. (شِهَابٌ): شعلة ساطعة تمرق في الجو بسرعة خاطفة. (مُبِينٌ): أَي واضح من أَبان اللازم بمعنى اتضح أَو مبين غيره وموضحه، من أبان الشيءَ أَوضحه. التفسير 16 - (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ): بعد أَن بين الله حال الكافرين بالإِسلام والنبوة ومآلهم، شرع يقيم لهم الأَدلة على ¬

_ (¬1) يرى الأخفش أن أتبعه بمعنى تبعه، فليست الهمزة للتعدية، ومثله ردفته وأردفته، وقيل غير ذلك - انظر الآلوسى.

وحدانية الله وقدرته وكماله، لعلهم يتركون الشرك الذي حملهم على تكذيب النبوة المؤسسة على التوحد. والمعنى: ولقد خلقنا في جهة السماءِ منازل تتنقل فيها الكواكب والنجوم على نظام فائق لا يختلف ولا يضطرب، وجعلناه بحيث تترتب عليه مصالح البشر في معاشهم، وزينا السماءَ لمن ينظر إِليها ويتأَمل في زينتها وجمالها وإِحكامها وتماسكها في الفضاء بقدرة مبدعها، ووظائفها التي أَنشأَها الله من أجلها، لينتقل الناظر من رؤيتها إِلى التفكير في عظمة مبدعا ووجوب اتصافه بالوحدانية، وتنزهه عن الشريك والنظير. 7 - (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ): أَي وحفظنا السماءَ من كل شيطان مطرود من رحمة الله، فلا سبيل له ولا لذريته إِليها بعد أَن أَهبطه الله عقابًا على امتناعه عن السجود لآدم بعد ما أَمره الله به، وقد استثنى الله بعضهم بقوله: 18 - (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ): أَي أَنه تعالى حفظ السماءَ من الشياطين إِلا من اتجه نحوها واختلس بعض الكلام المسموع الذي يجرى بين أَهل الملإ الأَعلى من الملائكة، فإنه لا يمكنُ من الاستمرار في استماعه واستراقه، بل يتبعه شهاب بيِّنٌ واضح فيقتله أَو يخبله، وفي ذلك يقول الله في سورة الصافات: "إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ" (¬1) والشهاب من الشهبة، وهي بياض مختلط بسواد وليست بالبياض الصافى، والشهب أجزاءُ حجرية انفصلت عن الكواكب وجعلت تدور في الفضاءِ، فإِذا وصلت إِلى جاذبية الأَرض جذبتها إِليها بسرعة خارقة فتشتعل وتتوهج باحتكاكها الشديد بالغلاف الجوى المشتمل على الأُوكسجين الذي يساعد على الاحتراق، وهو من الظواهر الكونية القديمة، وقد كان الكهان ينتفعون بما ينقله الشياطين إِليهم من أَخبار الأَرض التي تجرى في الملاءِ الأَعلى، فيكتسبون قداسة في نظر أَتباعهم إِذا حدثوهم عن الغيوب المنتظرة التي عرفوها من الشياطين المسترقين للسمع، فوقعت كما أَخبروهم بها فلما بعث نببنا محمد صلى الله عليه وسلم، اشتدت حراسة السماءِ ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية 10

بالملائكة والشهب، لإبطال عهد الكهان بمنع الغيوب عن أَن تصل إِليهم، وإِقامة صرح الحق الذي بعث به خاتم المرسلين، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة الجن حكايته عن بعض مؤمنيهم: "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) " قيل للزْهْرِى: أَكان يُرمى في الجاهلية؟ قال نعم، قيل: أفرأَيت قوله تعالى: "وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا". قال الزْهْرِى: غُلِّظ وشُدِّدَ أَمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} المفردات: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا): أَي بسطناها ووسعناها. (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): أَي وخلقنا فيها جبالًا ثوابت؛ فرواسى جمع راسٍ بمعنى ثابت وفعله رسا بمعنى ثبت، ومثله أَرسى إِذا كان لازمًا، وقد يتعدى، تقول: أَرست السفينة أَي ثبتت ووقفت، وأَرسيتها أَي أَوقفتها وثبَّتُّهَا. (مَوْزُونٍ): مقدر بحكم. (مَعَايِشَ): أَي أَسبابًا تعيشون بها. (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ): قيل المراد بهم الأَولاد، وقيل الدواب والأَنعام، والأَولى التعميم ليشمل الأَولاد والحيونات التي ينتفع بها. (خَزَائِنُهُ): أَي أَسباب تحصيله والاستيلاء عليه، (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ): بمقدار يعلمه الله وتقتضيه حكمته.

التفسير 19 - {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): لا يزال الكلام متصلًا في آيات الله ونعمه، فقد بين الله في هذه الجملة أَنه تعالى مد الأَرض، أَي بسطها ووسعها بحيث تكون صالحة لكي يعيش عليها الإِنسان والحيوان، ولإِنبات ما يعيشون به. وظاهر النص يفيد أَن الأَرض خلقت أَولًا غير ممدودة، ثم طرأَ عليها المد، حسبما تقتضيه الحكمة في التدرج التكوينى، ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة (النازعات): "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا". ولم يقتصر إِنعامه على مجرد مدها، بل جعلها كالفراش الممهود، كما قال سبحانه: "وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُون َ (¬1) ". وكما أَنه تعالى خلق الأَرض وبسطها ومَهدها، خلق فيها جبالا شوامخ ثوابت، لكي تحفظها من الاضطراب بأَهلها، حتى يستريح أَهلها عليها، ولا يتعرضوا للهزات المدمرة الكثيرة، وكان ذلك منه حكمة في التكوين، ورحمة بالعباد وآية على عظمته وجلاله ووحدانيته وكبريائه، وبسط الأَرض لا ينافى أَنها كروية الشكل، فإِنها لعظمتها ترى كالسطح المستوى في حين أَنها كرة تدور حول نفسها تحت شمسها التي ترتبط بها، والتعبير عن خلق جبالها عليها بإلقائها فيها، لإِبراز كمال سهولته على الله، كأَنها شيءٌ يسير موجود يلقى بسهولة في الموضع الذي أُريد له، فسبحان من يقول للشىءِ كن فيكون. (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ): أَي أَنه تعالى أَنبت في الأَرض التي بسطها وفرشها لنا -أَنبت فيها- من كل نبات مقدر عنده بِحِكْمة، ومعلوم له أَنه لمصلحة عباده قوتًا أَو دواءً، أَو وقاية من داءٍ، ومعلوم له أَنه لمصلحة ما سخَّره لهم من الحيوانات المختلفة. واستعمال الوزن بمعنى التقدير والعلم معروف في لغة العرب، قال الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مِرَّة ... عِنْدِى لكُلِّ مخاصِمٍ ميزانُه ¬

_ (¬1) سورة (الذاريات): الآية 48

أَي عندى لكل خصم تقدير له وعلم به، وهو معنى مجازى للوزن الذي هو في الأَصل تقدير الشيءِ بالميزان الحسى المعروف، فاستعمل هنا في لازم معناه، وهو مطلق التقدير والعلم. وفسر الحسن وابن زيد الإِنبات بالإِنشاءِ، والوزن بمعناه الحقيقى مع إِعادة الضمير على الجبال والمعنى على هذا الرأْى: وأَنشأْنا في الجبال الرواسى من كل شىءٍ يوزن حقيقة، كالذهب والفضة والنحاس والرصاص إِلخ، والمعنى الأَول أَظهر. 20 - (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ): بين الله سبحانه في الآية السابقة أَن أَنبت لنا في الأَرض أَقواتنا وما نتقى به العلل والأمراض من مختلف النباتات: وبين في هذه الآية أَنه يسر لنا فيها أَسباب المعايش المختلفة، ولم يجعلها قاصرة على الزراعة، كما أَنعم علينا بالأَولاد، الأَنعام وتكفل بأَرزاقهم والمعنى: وجعلنا لكم في الأَرض التي بسطناها أَسبابًا للمعيشة كالصناعة والهندسة والزراعة والطب وغير ذلك من الحرف المختلفة، وجعلنا لكم أيضا أَولادًا تقرُّ بهم أَعينكم، وأَنعامًا تحملون عليها أَثقالكم، وتستكملون بها أَرزاقكم، ولم نكلفكم شيئًا من أَرزاق هؤلاءِ وأُولئكم، بل تكفلنا بأَرزاقهم كما تكفلنا بأَرزاقكم، ثم بين أَن كل شيءٍ خاضع لتصرفه وحكمته فقال سبحانه: 21 - (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ): ليس المقصودُ من الخزائن حقيقتها فإِنه تعالى لا تختزن مقدراته في خزائن، كما يختزن الملوك نفائس الأَموال فيها، بل الآية فيها أَسلوب بلاغى رفيع. ففيها استعارة مكنية تخييلية، أَو استعارة تمثيلية. المعنى: وما من شيءٍ من المقدورات التي ينتفع بها الخلائق إِلا وهو مقدورٌ لنا خفِىُّ عن أَبصار عبادنا، لا تصل إليه عقولهم وعلومهم قبل أَن نبرزه لهم، ونمُنَّ به عليهم، فهو يشبه النفائس الخبيئة في خزائن الملوك، فلا تعلمها رعاياهم، ولا قدوة لهم على

شيء منها، حتى يبرروا بعضها لهم، وينعموا بشىءِ منها عليهم ثم يختم الله الآية بما يفيد أَن الإِنعام مضبوط بضوابط الحكمة، وذلك بقوله تعالى: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ): أَي وما ننزل الأَمْر بالشيءِ الذي ننعم به على عبادنا إِلا مضبوطًا بقدر معلوم يتفق مع الحكمة في نوعه وزمنه وقدره وأَهله استحقاقًا أَو ابتلاءً أَو إِملاءً، ويجوز أَن يكون تنزيل الشيءِ المنعم به مجازًا عن إِبرازه وإِيجاده، والله أَعلم -وعبر عنه بالتنزيل لأَنه ناشئ عن أَسباب سماوية، فكأَنه منزل من أَعلى إِلى أَدنى. {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)} المفردات: (الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ): أَي حوامل بالماءِ، جمع لاقح بمعنى حامل، فهو من قولهم: ناقة لاقح ونوق لواقح إِذا حملت الأَجنة في بطونها، أَو مُلقِّحات للشجر كما قال أَبو عبيدة وسَيَأتى بسط الكلام على ذلك في تفسير هذه الآية (مِنَ السَّمَاءِ): من السحاب. (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ): أَي فجعلناه لكم مَسْقى تسقون به مزارعكم، قال الأزهرى: العرب تقول لما كان من بطون الأَنعام أَو من السماءِ أَو من نهر جار أَسقيته، أَي جعلت له منه مسْقًى، فإِذا كان للشَّفَةِ قالوا سقى ولم يقولوا أَسقى، وقال أبو على: يقال: سقيته حتى

رَوِىَ وأَسقيته نهرًا، أَي جعلته شِرْبًا له أَي مَوْردًا لشُربه. (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِيينَ): أَي وليس لكم شأْن في إيجاده وحفظه لينزل عليكم وقت الحاجة، أو وليس لكم شأْن في حفظه في مجاريه وآباره ليكون تحت طلبكم، فكل ذلك من صنع الله الرحمن الرحيم: (الوَارِثُونَ): الباقون بعد فناء الخلق. (الْمُسْتَقْدِمِينَ): من تقدمكم من الأُمم فمات قبلكم (الْمُسْتأْخِرينَ): من هو حى لم يمت بعد. (هُوَ يَحْشُرُهُمْ): يجمعهم يوم القيامة لفصل القضاء. التفسير 22 - (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ): بين الله تعالى في الآية السابقة أَن كل شيءٍ من أَرزاق الخلق ومنافعهم تحت سيطرته تعالى ووفق مشيئته، وأَنه في يسره عليه واختفائه عن خلقه، كأَنما هو مخزون في خزائن، بحيث يسهل إِخراجه وإبرازه ومفاجأَة عباده به في أَي وقت يشاؤه، ليدخل به الفرح عليهم، وأَنه حين يبرزه يكون إِبرازه بقدر معلوم يتفق مع الحكمة ومصالح العباد -وجاءَ بهذه الآية والتى تليها، ليبين بعض الأَسباب التي أَبدعها سبحانه لتوصيل الرزق والخير لعباده بيسر وسهولة. وَقَبْل الكلام على معنى الآية نقول: إِنه تعالى يسلط حرارة الشمس على المحيطات والبحار المالحة والأنهار العذبة والمستنقعات وكل رطوبة فوق سطح الأَرض، فتخرج حرارة الشمس من تلك المياه بخارًا عذبًا لا أَثر للملوحة فيه، ويسلط الله الرياح على هذا البخار لترفعه إِلى حيث يكون سحابًا فيبسطه الله في الفضاءِ كيف يشاءُ، ويرزق به من عباده ما يشاءُ، وبعْد هذا التمهيد نقول في معنى الآية ما يلي: المعنى: وأَرسلنا الرياح حوامل ببخار الماءِ وذرات التراب وأَسباب الخير والنفع حتى إِذا وصلت إِلى مستوى معين تحول ما حملته من البخار إلى سحاب كثيف فتصبح الرياح ثقيلة الحمل،

كما قال تعالى في سورة الأَعراف: "حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ" (¬1) أَي حملت سحابًا ثقالا. وقيل "لَوَاقِحَ" بمعنى مُلقِّحات للشجر، حكى المهدوى عن أَبي عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح جمع مُلْقِحة أَو مُلْقِح بحذف الزوائد. فإِن كان يقصد أَنها تلقح إِناث الأَشجار بطلع ذكورها، فذلك واقع بالفعل، ولكن حمل الآية على هذا المعنى يبعده قوله تعالى عقبه: "فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ" فإِن ذلك يؤْذن بأَنها حوامل بالماء، أَو ملقحات للشجر بالماءَ الذي ينزله الله من السماءِ، ولذا عبر بالفاءِ التي تفيد أَن إِنزال الماء من السحاب مترتب على كون الرياح لواقح بالماءِ والله تعالى أَعلم. (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ): أَي فأَنزلنا من السحاب الكثيف الذي أَقلته الرياح -أَنزلنا- منه مطرًا، فأَعددناه وهيأَناه لسقياكم وزروعكم ومواشيكم، حيث حفظناه في بحيرات وأَجريناه في أَنهار وجداول واختزنا بعضه في جوف الأَرض، لكي تنتفعوا به وقت الحاجة بحفر الآبار وتفجير العيون. (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ): أَي أَن هذا المطر الذي ننزله من السحاب لم تختزنوه أَنتم، ولا علم لكم به من قبل أَن يأْتيكم، أَو لستم له بحافظين فوق سطح الأَرض أَو في جوفها، لتنتفعوا وقت حاجتكم بل الله تعالى هو الذي سخر لكم أَسبابه، وحفظه لكم في مجاريه وخزائنه، وهو قادر على إِمساكه منكم، والذهاب به إِذا أَتاكم، كما قال تعالى: "وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ". وبعد أَن بين أَنه تعالى مصدر أَرزاقهم، عقبه ببيان أَنه هو الذي يحييهم ويميتهم ويرثهم فقال: ¬

_ (¬1) سورة الأَعراف: من الآية 57

23 - (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ): أَي وإِنا لنحن الذين ننشئكم من العدم، ونجعلكم أَحياءَ ترزقون، ونحن الذين نميتكم وننزع الروح من أَجسادكم، ونحن الوارثون لكم ولأَموالكم ولكل شيءِ في هذا الوجود وكل ما أَعطيناه للخلق فهو عارية مستردة، والملك لله الواحد القهار. 24 - (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ): أَي ولقد علمنا من سبقوكم من بني جنسكم، فإِنا نحن الذين أحييناهم وأَمتناهم، وعلمنا أَيضًا المتأَخرين ممن هم أَحياءُ أَو سيوجدون بعدكم، فإِن الخالق الرازق الوارث لا يغيب عن علمه شيءُ، وكيف يغيب أَحد من خلقه عن علمه وهو الذي سيحشرهم ليجازيهم كما ينطق به قوله سُبحانه: 25 - (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ): أَي وإِن ربك أَيها الرسول هو وحده الذي يحشرهم ويجمعهم للحساب والجزاء على حسب أَعمالهم، لأَنه تعالى حكيم يضع الشيءَ فى موضعه، فلا يسوى محسنًا بمسيء، واسع العلم فلا يغيب عنه عمل عامل -وبعد أَن بين الله تعالى أَن مصير العباد إِليه وجزائهم عليه، شرع يبيبن قصة آدم مع إِبلبس، ليعرف البشر عداوته لهم فيحذروه، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)) المفردات: (صَلْصَالٍ): هو الطين اليابس الذي إذا نقر يكون له صوت، فإِذا طبخ بالنار فهو الفخار، وبهذا قال معظم المفسرين، وقال مجاهد: الصلصال هو الطين المنتن واختاره الكسائي وهو مأْخوذ من قول العرب: صَلَّ اللَّحْمٌ وأَصَلَّ إِذا أنْتَنَ.

(مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): أَي من طين أَسود مُنْتِن، وفسره بعضهم بُمصَوَّر، ومنه سُنَّة الوجْهِ أَي صُورته، قال حمزةُ يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَغر كَأَن البدر سُنَّةُ وجهه ... جلا الغيْمَ عنه ضوْؤهُ فتَبَدَّدَا وفسره بعضهم بمصبوب، من سنَّ الماءَ صبَّه. (وَالْجَانَّ): قيل هو أَبو الجن -وروى عن ابن عباس، وقيل هو اسم لجنس الجن- كما قاله ابن بحر، وقيل هو إِبليس وروى عن الحسن وقتادة - (نَارِ السَّمُومِ): المراد بها النار التي لا دخان لها- كما جاءَ في إِحدى الروايتين عن ابن عباس. التفسير 26 - (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): المراد من الإِنسان هنا أَصله وهو آدم عليه السلام، أَو الجنس كله تبعًا لأَصله والمعنى ولقد أَوجد الله آدم عليه السلام من طين جاف مُتحوِّلٍ من طين أَسود منتن وقد كان أَساسه الأَول ترابًا (¬1)، فلما خلط بالماءِ صار طينًا (¬2)، فلما اسود وأَنتن صار حمإٍ مسنونًا، فصور الله منه تمثال إِنسان أَجوف، فيبس حتى إِذا نقر صلصل أَي ظهر لنقره صوت بسبب جفافه، ثم غيره الله طورا بعد طور حتى نفخ فيه الروح بعد أَن تمت صلاحيته لنفخها فيه فتبارك الله أَحسن الخالقين. 27 - (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ): قد علمت في بيان معانى المفردات اللغوية، أَن بعض العلماء فسر الجان بأَنه جنس الجن، وعلى هذا الرأْى تكون هذه الآية الكريمة مسوقة لبيان أَن الله تعالي خلق الجن كما خلق الإِنس وأَنهم خلقوا قبل آدم، وأَنهم خلقوا من نار، بخلاف آدم فقد خلق من طين ¬

_ (¬1) وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة الروم: "ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون". (¬2) وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: "ولقد خلقنا الإِنسان من سلالة من طين".

كما علمت أن بعضهم فسر الجان بإِبليس، ليناسب ما سيأْتى في قصة آدم من أَنه امتنع عن السجود له لأَنه خلق من نار، وخلق آدم من حمإٍ مسنون، وكل من الرأْيين أَهل للاعتبار والقبول. (السَّمُوم): الريح الشديدة الحرارة سميت بذلك لأَنها تنفذ في المسام، وقيل هي نار لا دخان لها -رواه الضحاك عن ابن عباس، وعليه فإِضافة النار إِلى السموم من إِضافة العام إِلى الخاص. والمعنى: وجنس الجن أَو إِبليس خلقه الله منِ قبل آدم، وكان خلقه من نار شديدة الحرارة لا شىء فيها من الدخان. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} المفردات: (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): تقدم بيانها. (سَوَّيْتُهُ): جعلته سويًا معتدلا. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي): ونشرت فيه من الروح المنسوب إِلَىَّ نسبةَ تشريف وَمِلْكٍ وإِيجاد، فأَرواح العباد منسوبة إِلى الله نسبة ملك وإِيجاد، وليست جزءًا من روحه تعالى، فهو منزه عن التجزئة والتبعيض. (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ): فَخِرُّوا لآدم خاضعين.

التفسير 28 - (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): أَجمل الله قصة خلق الإِنسان في قوله سابقًا: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). وقصة خلق الشيطان في قوله: "وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ". تمهيدًا للحديث المفصل الذي تحكى فيه هذه الآية وما بعدها من الآيات ما جرى بين الله وبين ملائكته في شأْن خلق آدم وأَمرهم بالسجود له، وخضوعهم لأَمره سبحانه، وعصيان إِبليس تكبرًا وغرورًا، ووسوسته لآدم حتى أَخرجه من الجنة، ووعيده بإِغواء ذريته إِلا عباد الله المخلصين إِلى آخر ما سيأتي بيانه في الآيات الواردة في هذا الشأْن. والغرض من سوق هذه القصة تحذير عباد الله من وسوسة الشيطان الذي أَغوى أَباهم آدم، وهو لإِغوائهم وإِضلالهم بالمرصاد، حتى يحذروه ولا يغتروا بوسوسته، فالخطاب في الآية وإِن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمقصود منه بيان القصة لأُمته عن طريقه، لأَنه إِمامهم - صلى الله عليه وسلم - والمعنى: واذكر أَيها الرسول لأُمتك وقت أَن قال ربك للملائكة -إِنى خالق في الأَرض إِنسانًا من صلصال من حمإٍ مسنون ليكون فيها خليفة عني في عمارتها وتنفيذ شريعتى فيها، أَو خليفة عمن سبقه في سكناها بعد ما هلكوا، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى في سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (¬1) "، وسمى الإِنسان بشرا لظهور بشرته، وهى ظاهر الجلد، حيث لا يوجد عليها صوف ولا وبر ونحوهما بخلاف سائر الحيوانات. وبعد أَنْ ذكرنا في تفسير الآية السابقة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} أَن المراد من الصلصال الطين الجاف الذي يصلصل ويصوت إِذا نُقر، ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 30

وأَن المراد من الحمإِ المسنون الطين الأَسود المنتن، بعد أَن ذكرنا هذا نقول: من العلماءِ من فسر الصلصال بالطين المنتن وهو رأَى مجاهد واختاره الكسائي، وهو مأَخوذ من قولهم صلَّ اللحم أَي أَنتن، ومنهم من فسَّر المسنون بالمُصوَّر، ومنه سُنَّة الوجه أَي صورته، ومنهم منْ فسَّره بمصبوب -كما تقدم بيانه، وعلى هذه الآراءِ اللغوية، يكون تفسير الآية ما يلي: واذكر أَيها الرسول حين قال ربك للملائكة إِنى خالق إِنسانا من طين منتن مصبوب على صورة بشر. فسبحان مَنْ ينقل الشيءِ بقدرته من النقيض إِلى النقيض. 29 - (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ): التسوية جعل الشيءِ سوِيَّا معتدلا، وتسوية بشر من صلصال من حمإِ مسنون جعل الصلصال المذكور في صورة بشر سوى صالح لنفخ الروح فيه، بأَن ينقله الله من طور إِلى طور إِلى أَن يصبح لحمًا وعظمًا وأَعصابًا وشرايين وأَورِدةً تسرى فيهًا روح الحياة -والنفخ في الشيءِ هو دفع الريح فيه بالفم أَو غيره، ونفخ الروح في تمثال آدم المتطور ليس من هذا القبيل، بل هو تمثيل لِنشرِ الروح في جميع أَجزائه، فلم يكن في بث الروح فيه نفخ ولا نافخ على الحقيقة، وقد اختلف العلماءُ في تعريف الروح، فمنهم من قال أَنه جسم شفاف يحل بالجسد ويسرى فيه سريان الماءِ في العود الأَخضر، ومنهم من قال أَنه عرض يحل بالقلب أَو الدماغ حلول العِلْمِ في العالمِ، ومنهم من قال إِنه جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه. والأَسلم عدم الخوض في تعريفه، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1) " وخيْرُ ما يقال فيه إِنه سر من أَسرار الله تحيا به الأَبدان حينما يتصل بها، وتموت حينما ينفصل عنها. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 85

والروح مخلوق من مخلوقات الله تعالى، وقد أَضافه الله إِلى نفسه تشريفًا وتكريمًا، كقوله في الأَرض والسماء أَرضى وسمائى مثلا، وفي البيت الحرام بيتى أَو بيت الله. وفي ناقة صالح ناقة الله، وفي الشهر الحرام شهر الله. وهذه الآية ترد على النصارى الذين استدلوا من القرآن على أَن المسيح ابن الله، بنحو قوله تعالى: "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا" (¬1) فقد زعموا أَن هذا النص وأَمثاله يدل على أَن المسيح جزءٌ من روح الله وبعض منه، فيكون بهذه البعضية ابن الله، لأَن الولد بعض أَبيه ووجه الرد عليهم بهذه الآية أَنه لو كان فهم الآية على نحو ما زعموا لاقتضى ذلك الفهم السقيم أَن يكون آدم ابنًا لله، لأَنه قد وَرَدَ فيه مثل ما ورد في عيسى وذلك قوله هنا: "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي". وأَنتم لا تقولون بذلك فلا وجه للتفرقة بينهما في دلالة النص، فإِذا لم يدل النص في آدم على بنوته لله، بل على أَنه مخلوق شريف من مخلوقات الله، فكذلك النص الوارد في عيسى، فرُوحُه مضافة إِلى الله إِضافة المخلوق للخالق تشريفًا وتكريمًا، وصدق الله تعالى إِذ يقول: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (¬2) ومعنى الآية إِجمالا: فإذا جعلت هذا البشر من الصلصال سويا معتدلًا متطورًا بحيث يصلح للحياة نفخت من الروح المنسوبة إِلىَّ خلْقًا وشرفًا -إِذا فعلت ذلك بهذا البشر -فخروا له ساجدين، تحية وتكريما. وقيل أُمروا بالسجود لله عبادة وتعظيمًا عند تسويته آدم ونفخ الروح فيه، والمعنى الأَول أَنسب. 30 - (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ): أَي فسجد الملائكة لآدم بعد تمام خلقه ونفخ الروح فيه، تحقيقًا لما شرطه الله وأَوجبه ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية: 12 (¬2) سورة آل عمران الآية: 59

عليهم قبل خلقه؛ من السجود له بعد تمام خلقه، ولم يتخلف عن السجود إِلا إِبليس كما حكاه الله بقوله: 31 - (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ): أَي فسجد الملائكة جميعًا إِلا إِبليس، فإِنه امتنع عن أَن يكون معهم في سجودهم، وقد اعتبره الله آثمًا بامتناعه عن السجود معهم، وعاقبه بإِخراجه من الجنة ولعنِه كما سيأْتى بيانه. فإِن قيل: إِن الأَمر بالسجود موجه إِلى الملائكة، وإِبليس ليس منهم بل هو من الجن، لقوله تعالى في سورة الكهف: "إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ". ولأنه لو كان من الملائكة لسجد، لأَنهم كما قال الله فيهم: "لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (¬1) " وإِذا لم يكن من الملائكة فكيف اعتبر آثمًا مع أَن الأَمر بالسجود لا يتناوله، لأَنه خاص بالملائكة؟ وأَجيب عن ذلك بعدة أجوبة نختار منها اثنين. أَحدهما: أَنه وإِن لم يكن من الملائكة نوعا فهو منهم إِقامة، حيث كان يقيم بينهم، فيسرى عليه ما يسرى عليهم من التكاليف، كالرجل يعيش في غير قبيلته، فتسرى عليه أَحكام القبيلة التي يعيش فيها. ثانيهما: أَنه كان مأْمورًا بأَمر خاص به، ولم يصرح به في التكاليف ابتداءً، اكتفاءً بالإِشارة إِليه في التوبيخ صراحة على عصيانه، وذلك بقوله تعالى في سورة الأَعراف: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة التحريم من الآية: 6 (¬2) سورة الأعراف من الآية: 12

(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)) المفردات: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ): أَىُّ سبب لك في عدم سجودك مع الملائكة. (حَمَإٍ مَسْنُونٍ): طين أسود منتن. (رَجِيمٌ): مطرود من كل خير، وأَصل الرجم الضربُ بالرَّجام وهي الحجارة، ثم كُنى به عن الطرد. (اللَّعْنَةَ): أَي الإِبعاد على سبيل السخط. التفسير 32 - (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ): أَي قال اللهٌ لإِبليس توبيخًا له بعد امتناعه عن السجود لم: أَي سبب لك في أَن لا تكون مع الملائكة الساجدين له استجابة لأَمرى، وتعظيما لقدرتى. 33 - (قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ): أَي قال إِبليس لربه بعد أَن وبخه على تركه السجود لآدم: لا يستقيم منى وقد خلقتنى من نار، أَن أَسجد لبشر خلقته من طين جاف أَصله من طين أَسود منتن، ويعنى بذلك أَن مادته التي خلق منها وهي النار، أَشرف من المادة التي خلق منها آدم وهى الطين الأَسود المنتن، فهو بذلك أعظم منه أَصلا -كما زعم-، فكيف يسجد من أَصله أعظم، لمن أصله دونه، وقد أَخطأَ اللعين في هذا القياس، فإِنه لا فضل للنار على التراب، فالتراب أَساس لكل حى، والنار تهلك كل حى، كما أَن الفضل ليس باعتبار المادة وحدها، فلابد من أَن

يضاف إِليها الصورة والفاعل والغاية، والتحلى بالفضائل والتَّخلى عن الرذائل، وآدم قمَّةٌ في هذا كله، فقد خلقه الله في أَحسن تقويم، وخلقه من غير واسطة وبلا وسائل، كما يشير إِليه قوله تعالى: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ". كما أَن الغاية من خلق آدم وذريته الخلافة عن الله في الأَرض وأَنه كان في أَعلى مكارم الأَخلاق، فأَين مِنْ هذا كله خلقُه من نار. 34 - (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ): أَي قال الله لإبليس، بعد أَن أَعلن استعلاءِه وتكبره على آدم -قال الله لإِبليس- اخرج من زمرة الملائكة أَو من منزلة الكرامة التي كنت فيها أَو الجنة -اخرج منها- فإِنك مرجوم وطرود من كل خير وكرامة. وقيل: المراد من كونه رجيما أَنه وجميع الشياطين سوف يُرجمُون بالشهب، فيكون في هذا المعنى إِشارة لطيفة إِلى أَن الَّلعين لما افتخر بالنار توعده الله بالتعذيب بها في الدنيا: كعابد النار يهواها وتحرقه. 35 - (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ): أَي وإِن عليك الإِبعاد من رحمة الله إِلى يوم الجزاء، فلا يوفقك في الدنيا للتوبة من شقوتك ولا يمدك فيها بقبس من هداية، ولا يعفو عنك في الآخرة، بل يجعل مقرك النار وبئس القرار. وقيل إن المراد باللعنة هنا لعنة الخلائق له، بأَن يكون موضع سخطهم وطلبهم من الله إِلى يوم الجزاء أَن لا يرحمه، والمقصود منه يوم النفخة الأُولى التي يموت عندها الخلائق، فإِنه من يوم الدين، لأَنه مقدمة له، والتفسير الأَول أَوْلى.

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)} المفردات: (فَأَنْظِرْنِي): فأَخِّرْنِى، الإِنظار التأْخير. (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): المراد من اليوم الحين مطلقًا، أَي إِلى حين الزمن المعلوم لله دون سواه. التفسير 36 - (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ): بعد أَن سمع إِبليس حكم الله أَنه عليه بالطرد من رحمته ودار كرامته، وبشديد عقوبته، سأَل ربه سبحانه أَن يؤخر موته إِلى يوم يبعث فيه آدم وذريته للجزاء، وقد أَراد الخبيث بذلك أَمرين: أَحدهما: أَن يتسع له المدى لإِغوائهم، حتى يشتركوا معه في سوء مصيره، وليأَخذ ثأْره كاملا منهم، فإِنهم سبب شقائه، فإن عدم سجوده لأَبيهم كان السبب الأَول في نكبته، ولو كان عنده إِنصاف لأَدرك أَن غروره وكبرياءَه هما محورُ شقائه. والغرض الثاني: من طلبه الإِمهال إِلى يوم البعث أَن ينجو من الموت -إِذ لا موت بعد البعث، وإِلى هذا الغرض ذهب ابن عباس والسدى وقد حكى القرآن ما أَجاب به الله على سؤال إِبليس بقوله: 37، 38 - (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ): أَي فإِنك من المؤخرين إِلى حين الزمن المعلوم لله وحده، وتنتهى عنده حياة الخلائق وهو وقت النفخة الأُولى كمَا قال سبحانه: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ" (¬1)، فتموت حينئذ كما يموتون، مصداقا لقوله تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ". (¬2) ولن أُؤخرك إِلى يوم البعث كما طلبت لِتفِرَّ من الموت كما أَردت. وهنا سؤلان؛ أَحدهما: كيف كلَّمهُ الله؟ وثانيهما: كيف أَجابه الله إِلى ما سأَل مع أَن فيه شقاءَ خلقه؟ والجواب عن الأَول: أَنه تعالى كلَّمهُ على لسان ملك يبلغه، أَو كلمه وهو يسمع تغليظا عليه، وتشديدًا في الوعيد. وليس على وجه التكريم والتقريب. والجواب عن الثاني: أَنه تعالى منحهم ما من شأْنه حمايتهم من شره، وهو نور العقل، ودوافع الخير، وآيات الهدى، ودعاة المثل العليا من النبيين والمرسلين والصديقين، فهذه العوامل تمثل في الروح أَسباب المناعة الخُلُقِية، كما تمثل الكُرَاتُ البيضاء في الدم أَسباب المناعة من الأَمراض الجسدية، وصدق الله تعالى إِذ يقول في سورة العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}. ولقد أَدرك الشيطان قيمة الحماية التي منحها الله عباده، فاعترف بها إِثر وعيده وذلك ما يحكيه الله بقوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} المفردات: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي): بسبب إِغوائك إِياى، والمراد من إِغواء الله إِياه قضاؤه عليه بالْغواية بسبب تكبره وعدم خضوعه لأَمره تعالى. (الْمُخْلَصِينَ): الذين أَخلصتهم لطاعتك. ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية 68 (¬2) سورة الرحمن الآية 26

التفسير 39 - (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ): بعد أَن سمع إِبليس الحكم من الله بإِنظاره وإِمهاله؛ قال يارب بسبب حكمك عليَّ بالغواية من أَجل آدم، لأُحسِّننَّ لذريته في الأَرض المعاصي وأَسباب الضلال حتى يضلوا ويكونوا أَجمعين شركائى فيه، فلا أَبقى فيه وحدى، وكما قدرتُ على إِغواءِ أَبيهم في الجنة حتى عصى، فإِننى سأَقدرُ على إِغواء بنيه في الأَرض حتى يعصوا، ولما أَدرك اللعين أَنه تعالى قد يمنح عباده الصالحين الحماية منه، احتاط فاستثناهم من وعيده وذلك ما يحكيه الله بقوله: 40 - (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ): أَي لأُضلَّن ذرية آدم أَجمعين، إِلا عبادك الذين أَخلصتهم لطاعتك، وحصنت نفوسم من الخضوع لعوامل الشر والضلال، والتأَثر بمغريات المعاصي، فهؤلاءِ لا سبيل لى إِليهم ولا سلطان لى عليهم. {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} المفردات: (صِرَاطٌ عَلَيَّ): طريق أَلتزم به. (سُلْطَانٌ): تسلط واستيلاءٌ (الْغَاوِين): الضالين عن الهدى. (جُزْءٌ مَقْسُومٌ): فريق مفْرورٌ في علمنا مميز.

التفسير 41 - (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ): لما استثنى إِبليس المخلصين من التأَثر بإغوائه، لما أدركه فيهم من الحصانة الدينية والطهارة النفسية التي وهبها الله لهم، قال الله مؤكدا حمايته وحفظه لهم: هذا الذي قلته أَنت مِنْ أَنَّ المخلصين لا سبيل لك عليهم، طريق ومنهج مستقيم (علَّى) أَن أَلتزم به نحوهم، فلا أُسلطك عليهم، بل أَحميهم من وسوستك وإِضلالك إِياهم -وقد أَلزم الله تعالى نفسه بذلك تفضلا منه على عباده المخلصين، حماية لهم من إِغوائه- وقال مجاهد والكسائى في تفسير الآية: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تُهدِّدُهُ: طريقك علىَّ، ومصيرك إِلىَّ، وكقوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ". فكأَن معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إِلىَّ فأُجازى كلاَّ بعمله -يعني طريق العبودية-. 42 - (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ): في هذه الآية تأَكيد ثان لحماية الله للمخلصين من سلطان الشيطان عليهم، كما أَن فيها الإِخْبار بخذلانه للمُصِرين على الغواية. والمعنى: إِن عبادى الذين خلقتُهم لكي يعبدونى ليس لك يا إِبليس تسلط عليهم ينتهى بهم إِلى الضلال المخرج من رحمة الله، إِلا من اتبعك من الضالين بسوءِ اختياره، فإِنه يخضع لسلطانك، ويتأَثر بإِضلالك، ويشترك معك في سوءِ مصيرك. فإِن قيل إِن آدم وحواء من عباد الله المخلصين "فَأَزلَّهُمَا الشَّيطَانُ" وإِن بعض أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ ببَعْضِ مَا كَسَبُوا" وبذلك يكون له سلطان حتى على المخلصين. فالجواب: أَن المقصود -والله أَعلم- أَنه ليس له سلطان على إِيمانهم وقلوبهم بحيث يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله ويضيقه عليهم، فإِيمانهم متين وقلوبهم طاهرة، فإِن هم أَذنبوا تابوا -والتوبة تمحو الحَربْة- ثم توعد الله المصرِّين على الغواية فقال:

44 - (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ): أَي وإِن النار لموعد إِبليس والغاوين أَجمعين، لا يتخلف عنها منهم أَحد، ثم بين الله أَنها طبقات، لكل طبقة فئة منهم فقال: 44 - (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ): فالمراد من أَبواب النار طبقاتها ودركاتها، فكما أَن الجنة درجات فالنار دركات، وقد جعل الله لكل طبقة من السبع فريقا معلوما، وقسيما معينا، فيدخل كل فريق في الطبقة التي تناسب معاصيه وعقائده، وقيل الأَبواب على معناها المعروف، وإِنما تعددت لكثرة من يدخل النار والله تعالى أَعلم. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} المفردات: (وَعُيُونٍ): المراد بها أَنهار الجنة، وقيل غيرها. (بِسَلَامٍ): بسلامة من الآفات. (مِن غِلٍّ): من حقد وعداوة. (نصَبٌ): تعب وإِعياءٌ. التفسير 45 - (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ): بعد أَن أَنذر الله من اتبع الشيطان من الغاوين بسوءِ المصير بقوله: "وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ". جاءت هذه الآية وما بعدها لتبشير

من اتقى ربه وعصى إِبليس بحسن المصير، وبضدها تتميز الأَشياءُ -والمراد بالمتقين الذين يدخلون الجنة من اتقوا الكفر والفواحش، ولهم ذنوب يكفرها نحو الصلاة (¬1)، وقال الآلوسى: نقل الإِمام عن جمهور الصحابة والتابعين- وذكر أَنه رأْى ابن عباس -أَن المراد بهم من اتقوا الشرك والكفر- ثم قال -وهذا هو الصحيح، ثم أَقام الدليل كل ذلك حتى قال: فثبت أَن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين: لا إِله إِلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أَهل المعصية ... الخ. ونحن نقول: ينبغى أَن يقيد دخولهم الجنة إِن كانوا من أَهل المعاصي، بأَنهم تابُوا عنها وقبل الله توبتهم، أَو كانوا ممن غلبت حسناتهم على سيئاتهم، فإِن لم يكونوا من هؤلاءِ أَو أُولئك فإِنهم يدخلونها بعد عقابهم في النار على سيئاتهم، تطبيقا لأَدلة الوعيد على المعاصي الواردة في كتاب الله وسنة رسوله إِلا أَن يعفو الله فإِن الأَمر كله لله. ومنْ يمت ولم يتب من ذنبه ... فأَمره مفوض لربه والمراد بالعيون الموجودة بالجنة أَنهارها المذكورة في قوله تعالى: "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ (¬2) .... " الآية، ويحتمل أَن تكون عيونا ومنابع أُخرى لا يعلمها إلا الله. والمعنى: إِن الذين يتقون الكفر والفواحش يعيشون في الآخرة في جنات عظيمة الشأْن دانية الثمار، ومن حولهم عيون وينابيع تجرى مياهها بين الجنات، فتضفى عليها الجمال والحسن، ليكمل بها متاعهم. 46 - (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ): أَي يقال لهؤلاءِ المتقين عند دخولهم الجنة، ادخلوها سالمين فيها من الآفات في أَجسادكم آمنين من أَن يطرأَ عليكم ما يخيفكم -ويجوز أَن يراد من دخولهم بسلام أَنهم يدخلون مسلَّمًا عليهم مرحَّبًا بهم، ويراد من أَمنهم ما يعم الأَمن من الآفات الجسدية والروحية. ¬

_ (¬1) كما نقله الزمخشرى في (كشافه) عن ابن عباس. (¬2) سورة محمد من الآية 15

47 - (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ): أَي وأَخرجنا ما في صدورهم من حقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا، فدخلوا الجنة إِخوانا متحابين، على أَسرة متقابلين، ينظر بعضهم إِلى وجوه بعض في صفاءِ ومودة ولا يتدابرون، أَخرج ابن جربر وغيره عن أَبي أُمامة قال: يدخل أَهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناءِ والضغائن، حتى إِذا تدانوا وتقابلوا على السرر نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل: ويحتمل أَن يكون نزع الغل من صدورهم كناية عن نزع أَسبابه وأَنهم يعيشون في الجنة متحابين لأَنهم مغمورون بنعم الله وأَسباب الصفاءِ والمودة، فلا يجدون فيها ما يوجب البغضاءَ كما كانوا يجدون في الدنيا. 48 - (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ): أَي لا يصيبهم في الجنات أَي تعب، فإن أَرزاقهم ميسَّرة من غير كدٍّ ولا سعى (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) (¬1). ويقوم بخدمتهم غلمان لهم كأَنهم لؤْلؤٌ مكنون، قال تعالى في سورة الإنسان: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} (¬2) .. الآيات -وكما أنهم لا يمسهم في الجنة تعب، فهم ليسوا منها بمخرجين بل هم خالدون فيها أَبدًا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليجتهد المجتهدون -والله تعالى أَعلم. ¬

_ (¬1) سورة الإِنسان الآية: 14 (¬2) سورة الإنسان الآيات: 15 - 19

{*نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)} المفردات: (نَبِّئْ): أَي خبِّر وبلغ، من النبإِ، وهو الخبر مطلقًا وقيل هو الخبر الخطير ذو الشأْن، وهو الأَنسب هنا؛ قال الراغب: النبأُ: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أَو غلبة ظن .. ثم قال: ونبَّأْته أَبلغ من أَنبأْته. (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ): الضيف من مال إِليك نازلا بك، والأَفصح أَلا يُثنَّى ولا يجمع، ويأْتى بيان المواد بضيف إِبراهيم في التفسير (وَجِلُونَ): أَي خائفون، وفعله وجل يوجلْ كفزِع يفزع. وفي الراغب؛ الوجل: استشعار الخوف. التفسير 49 - {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ): بعد أَن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة ما توعد به الغاوين من عذابه، وما وعد به المتقين من ثوابه، أَكد سبحانه في هذه الآية وعده ووعيده، بما اتصف به من عظيم مغفرته وواسع رحمته وشديد عقابه، تقريرًا لما ذكر، وتمكينا له في النفوس: فأَمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأَن يبلغ أُمته جميعًا -المتقين منهم وغير المتقين- أَن الله تبارك وتعالى هو العظيم الغفران، الواسع الرحمة.

كما أمره أن يبلّغهم أن عذاب الله هو العذاب الأليم، أي البالغ الغاية فى الشدة والإيلام لا يشبهه عَذَاب غيره ولا يدانيه، فقال جلَّ وعلا: 50 - {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}: وفى معنى الآيتين قوله سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). وفى هذا المعنى يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة؛ فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة: فلو يعلم الكافر بكل الذى عند الله من الرحمة، لم ييئس من الجنة؛ ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب، لم يأمن من النار" (¬2). وقد نبهت الآيتان على مقامي الرجاء والخوف، ولابد للعبد من الجمع بينهما؛ وينبغي أن يكونا سواء ما دام العبد صحيحا معافى؛ فإن المبالغة فى الرجاء تفضي به إلى تسويف الصالحات أو إهمالها؛ والمبالغة فى الخوف تفضي به إِلى القنوط واليأس! وخير الأمور أوساطها. وقيل يُغلِّب الخوف على الرجاء فى حال صحته، فأما إذا مرض فلْيغلِّب الرجاء على الخوف حتى إذا دنت أمارات الموت فليكن رجاؤُه في ربه وإحسان الظن به مَحضًا خالصًا، ولا سيما حال احتضاره؛ فإنه حينئذ قادم على رب كريم ذي فضل عظيم سبقت رحمتُه غضبَه وعذابه، وقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" وروى مسلم عن جابر أيضًا. قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه". وروى الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما قضى الله الخلق كتب فى كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتى سبقت غضبي" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الرعد من الآية: 6. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، في باب الرجاء والخوف، ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه". (¬3) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} ومسلم في كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.

ولعل في تقديمه سبحانه الوعد على الوعيد -مع زيادة في تأْكيد الوعد- تنبيهًا على هذا الفضل. ولما أَجمل الله سبحانه وعده ووعيده في الآيتين السابقتين، فصّل بعض ما أَجمل في الآيات التالية فذكر طائفة من أَنباءِ رحمته وعذابه مما وقع في هذه الدار، عبرة وتذكرة لما يكون في الدار الآخرة، ساقها سبحانه ممثلة في قصة خليله إِبراهيم وبشارته، ونبيه لوط ونجاته، وأَصحاب الأَيكة وأَصحاب الحجر، وما حل بهم جميعًا من عذاب لا تزال آثاره باقية مرئية. وبدأَ بقصة أَبي الأَنبياءِ صلوات الله وسلامه عليهم، فقال آمرًا نبِيه صلى الله عليه وسلم: 51 - (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ): أَي أَخبر أُمتك أَيها النبي عن ضيف إِبراهيم خليله؛ ليعتبروا بما جرى له ولابن أَخيه لوط عليهما السلام من البشرى في تضاعيف الخوف -على ما يأْتى بيانه- والمراد بضيف إِبراهيم: رسل من الملائكة أَرسلهم الله تعالى في صور بشر إِلى قوم لوط ليهلكوهم، ومروا في طريقهم بإِبراهيم ليبشروه بغلام عليم، وبهلاك القوم المجرمين -وهم- على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما -جبريل وملكان معه، وقيل أَكثر من ملكين، على خلاف بين المفسرين، مع اتفاقهم على أَن جبريل عليه السلام أَولهم. وكانوا في صور شبان حسان الوجوه. وقد تقدمت قصتهم في سورة هود في قوله تعالى: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ" الآيات (¬1). وتأْتى في سورة الذاريات في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (¬2) ". الآيات. ¬

_ (¬1) 69 - 83 (¬2) من 29 - 37.

والقصة في هاتين السورتين أَكثر تفصيلا مما وقع في هذه السورة. والقرآن الكريم يكمل بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا، ويتعين رَجْع بعضه إِلى بعض في القصة الواحدة. قال جل ثناؤُه: 52 - (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ): أَي اذكر أَيها الرسول حين دخل هؤُلاءِ الأَضياف على إِبراهيم وحيَّوه فقالوا سلامًا، أَي قالوا هذا اللفظ تحية له. أَي نسلِّم عليك سلامًا فقال ردًّا لتحيتهم عليكم سلام، إلا أَن الرد لم يذكر في هذه السورة اكتفاءً بذكره في سورتى هود والذاريات، كما لم يذكر مجيئه بالعجل السمين الحنيذ، أَي المشوى، اكتفاءً بذكره في السورتين كذلك. وكان عليه السلام كريما غاية الكرم، وكان يقال له -فيما يؤْثر- أَبو الضَّيفان، ولا عجب فقد جاد بنفسه لربه الأَكرم .... والجود بالنفس أَقصى غاية الجود. قال إِبراهيم عليه السلام لضيوفه لما امتنعوا عن الأَكل، وقد قدم إِليهم العجل: (إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ): أَي خائفون فزعون، لما جرت به العادة عندهم أَنه إِذا نزل بهم ضيف فلم يأْكل من طعامهم ظنوا أَنه لم يجيء بخير! لهذا نَكِرهم قبل أَن يُعلموه أَنهم رسل الله، وأَوجس منهم خيفة ثم صرح بخيفته فقال: "إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ". وفي سورة هود: "فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ" (¬1) 53 - (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ): طمأَنت الملائكة إِبراهيم عليه السلام: إِذ قالوا له لا توجل أَي لا تخف ولا تفزع، ولكى يزبلوا خوفه بشروه بغلام عليم ليعلم سر مجيئهم إِليه، والمراد من كونه غلاما عليمًا أَنه يكبر ويكون عظيم القدر كثير العلم، وهو إسحق عليه السلام من امرأَته -واشتهر أَن اسمها سارَة- وقد بشروها أَيضًا بيعقوب من ورائه كما جاء في قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهَا ¬

_ (¬1) الآية 70

بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (¬1) وفي هذه البشارة إِشارة إِلى إِبقاء الخليل وأَهله في سلامة وعافية زمانا طويلًا. وأَما الغلام الحليم في قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) فالمراد به ابنه البكر إِسماعيل من جاريته هاجر وهو الذبيح. وتأتى قصة ذبحه في سورة الصافات (¬2). {قَلَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} المفردات: (مَسَّنِيَ الْكِبَر ُ): أَي أَدركنى وأَصابنى كبر السنّ. (بِالحَقِّ): أَي بالأَمر الثابت المحقق. (الْقَانِطِينَ): أَي اليائسين، من القنوط وهو اليأْس، والمراد اليأس من الولد. (الضَّالُّونَ): أَي المخطئون طريق الصواب والحق. التفسير 54 - (قَلَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ): أَي قال إِبراهيم عليه السلام للملائكة متعجبا من تبشيرهم إِياه بالولد مع كبر سنه وشيخوخته -وقد جرت العادة بعدم الولادة فيها- كيف تبشروننى بالغلام وأَنا على هذه الشيخوخة؟! ثم أكد عجبه فقال بصيغة الاستفهام التعجبى: ¬

_ (¬1) هود: من الآية 71 (¬2) سورة الصافات الآيات: 101 - 107

(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ): أي فبأي أُعجوبة تبشرونني؟! إن البشارة بما لم تجربه العادة! أمر يدعو إلى العجب. 55 - {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)}: أي قالت الملائكة مجيبين إبراهيم عليه السلام: بشرناك بالأمر المحقق الثابت الذي لا ريب فيه ولا لبس، فلا تكن من البائسين من خرق العادة لك؛ فإن الله تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين: فكيف لا يخلقه من شيخ فان وعجوز عاقر؟ وكان تعجبه عليه السلام مما بشر به لمخالفته للعادة لا لأن الله تعالى لا يقدر على مثله فإنه يعلم من قدرة الله تعالى ما هو أعظم من ذلك؛ ولهذا قالت الملائكة له: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}: ولم يقولوا له: فلا تكن من الممترين أو الشاكين. ولهذا أيضًا: 56 - {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}: والاستفهام هنا إنكارى معناه النفي، أى لا ييئس من رحمة ربه إلا الخاطئون المنصرفون عن طريق الحق والصواب والمعرفة، فلا يعرفون سعة رحمته تعالى ولا كمال علمه وقدرته. ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه، وبراءته منه على أبلغ وجه وأكمله، أى ليس بي قنوط من رحمة ربي جل وعلا، وإنما الذى قلته، لبيان منافاة حالي وكبر سني لإنجاب الذرية عادة، وفي تعرضه عليه السلام لوصف الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة. ثم لم تكن هذه المحادثة بين الملائكة وإبراهيم خاصة؛ فقد اشتركت فيها امرأته أيضًا إذ قالت للملائكة ما حكى الله عنها في سورة هود: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} (¬1). ولم تُذكر محادثتهم مع امرأته هنا اكْتِفاءً بذكرها فى سورة هود، كما لم تذكر مع إبراهيم هناك اكتفاء بذكرها هنا. والكتاب العزيز -كما أسلفنا- يكمِّل بعضه بعضا، ويفسِّر بعضه بعضا، ويصدِّق بعضه بعضا، دون تناقض أو اختلاف. وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). ¬

_ (¬1) الآيتان: 72، 73. (¬2) النساء: من الآية 82.

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)} المفردات: (فَمَا خَطْبُكُمْ): أَي فما شأْنكم وأَمركم الخطير؟ قال الراغب: والخطب، الأَمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب. (قَدَّرْنَا): قضينا أَو حكمنا، من التقدير بمعنى الحكم. (الْغَابِرِينَ): الباقين، يقال: غبر يغبُر غبورا: أَي بقى. (يَمْتَرُونَ): يَشُكُّون، من المرية بمعنى الشك، يقال: امترى في الأَمر وتمارى فيه، أَي شك. التفسير 57 - (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ): لما طمأَنت الملائكة إِبراهيم بأَنهم رسل الله وبشروه بالغلام العليم، ذهب عنه الروع واستأْنس بهم، لكنه عليه السلام تفرس فيهم أَنهم أَرسلوا لأَمر آخر خطير غير البشارة، إِذ كان حديثهم موجزا يشعر بأَن في هذا الإِيجاز كلاما مطويا، ثم أَنهم ذوو عدد والبشارة يكفى فيها واحد، ولهذا خاطبهم بعنوان الرسالة وصدر خطابه بالفاءِ بعد أَن كان خطابه

السابق مجردًا من ذلك، كأَنه قال: يبدو لى أَن لكم شأْنا آخر خطيرًا فما هو؟ وقد كانت إجابتهم مصدقةٌ لفراسته: 58 - (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ): يعنون قوم لوط عليه السلام، فقد أَفحشوا غاية الفحش بإِتيانهم الرجال شهوة من دون النساءِ مع شركهم، ولهذا وصفوا بالإِجرام لأَنه دأْبهم، وجىءَ بهم بطريق التنكير ذمًّا لهم واستهانةً بهم. أَي قالت الملائكة لإِبراهيم عليه السلام جوابا عن سؤاله: إنا أَرسلنا الله تبارك وتعالى إِلى قوم مجرمين. وتتمة الجواب في سورة الذاريات: "لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ" (¬1). إِلا أَنه أَوجز هنا اكتفاءً بما ذكر هناك، كما تقدم مثل هذا وكما يأْتى مرارًا، وهذا من دلائل حكمة الكتاب العزيز، حيث لا يطنب في مقام الإِيجاز. أَي قال المرسلون لإِبراهيم عليه السلام، إِن الله تعالى أَرسلهم لإِهلاك المجرمين من قوم لوط بعذاب الاستئصال، وتنجية غير المجرمين منهم فهم مستثنون من القوم المهلكين. ولذلك قالوا: 59 - (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ): والمراد من آل لوط من آمن به من قومه ولو كانوا من غير قرابته أَو أَصهاره، وقد استثنوهم من أَجل إِيمانهم، ولما كانت امرأَته كافرة ضالة، استثنوها من آل لوط فقالوا: 60 - (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ): أَي حكمنا وقضينا قضاءً لا مرد له: بأَنها من الباقين في العذاب مع الكَفرة المهلكين، من أَجل كفرهم وجرمهم وكفرها معهم. وإِنما أَسند الملائكة التقدير والقضاء إِلى أنفسهم ¬

_ (¬1) الآيتان 33، 34.

مع أَن الله تعالى هو الذي قدر وقضى لأَنهم هم المباشرون لإِنفاذ ما أَمر الله بإِنفاذه، كما تقول خاصة الملك نحن أَمرنا وفعلنا وإِن كان الآمر هو الملك. وقوله سبحانه: 61 - (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)): شروع في بيان إِهلاك المجرمين، وتنجية آل لوط، مع تفصيل لما أُجمل في الاستثناءِ السابق؛ وذلك أَن الملائكة لما بشروا إِبراهيم بالغلام، وعرفوه بما أَرسلوا به، ساروا إِلى لوط وقومه فلما دخلوا على لوط وهم في صور شبان حسان الوجوه: 62 - (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ): أَي لا أَعرفكم، فمنْ أَنتم؟ ولأَى أَمر جئتم؟ وإِنما قال ذلك لأَنهم ليسوا من أَهل الحضر، ولا تبدو عليهم آثار السفر. ويحكى الله سبحانه إِجابتهم للوط لكي يطمئنوه، ويعرفوه بما جاءَوا من أَجله؛ فيقول جل شأْنه: 63 - (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ): أَي ما جئناك بما يسوؤك، بل جئناك بما فيه سرورك ونصرك على أَعداءِ الله وأَعدائك، وهو إِيقاع العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله، فيمترون أَي يشكون فيه ويكذبونك. وهذا كما حكى الله عنهم في شيءٍ من التفصيل الذي تقدم في سورة هود: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ" (¬1). ثم أكدوا بشارئهم بجملة من المؤكَّدات فقالوا: 64 - (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ): أَي وجئناك بالأَمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراءِ والشك فيه وهو عذابهم، وإِنا لصادقون فيما أَخبرناك به، أَو في كل كلام نقوله؛ لأَنه من عند الله عَزَّ وَجَلَّ فيكون كالدليل على صدقهم فيما أَخبروا به. ¬

_ (¬1) من الآية: 81.

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)} المفردات: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ): أَي سر واذهب بأَهلك ليلًا، من أَسرى، وقرئ "فاسر" بهمزة الوصل من سرى، وهما بمعنى واحد. وقيل: أَسرى في السير أَول الليل، وسرى في السير آخره. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ): أَي جزءٍ منه، أَو من آخره. (أَدْبَارَهُمْ): آثارهم. (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ): أَي أَوحيناه إليه. وأَصل القضاء الحكم. ولكنه ضمن معنى الإِيحاءِ فتعدى تعديته بإِلى. (دَابِرَ هَؤُلَاءِ): آخرهم. (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصباح. وتأْتى صيغة "أفعل" للدخول في الشيءِ نحو أَشرق، أَنجد، وأَتهم (¬1). (وَلَا تُخْزُونِ): ولاَ تُهِينونى، من الخزى، وهو الذل والهوان، أَو لا تخجلونى، من الخزاية، وهى الحياءُ والخجل. التفسير 65 - (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ): لما بشرت الملائكة لوطا عليه السلام بما أَرسلهم الله به، من إِهلاك المجرمين، وإِنجائه وإِنجاءِ أَهله إِلا امرأَته -أَمروه بما أَمر الله به وهو أَن يسرى بأَهله في جزءٍ من الليل أَو في آخره. ¬

_ (¬1) أي دخل في الشروق والنجد وهو المكان المرتفع، والتهامة وهى المكان المنخفض.

والفاءُ لترتيب الأَمر بالإِسراءِ على الإِخبار برسالتهم. وهذا شروع في ترتيب مبادئ النجاة كى تم على ما قضى الله ودبَّر. والمعنى: اذهب بأَهلك جزء من الليل أو في آخره، وكن في أَثرهم، لتطلع على أحوالهم، وتبعث الطمأْنينة فيهم. (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ): أَي ولا يلتفت منك ولا منهم أَحد، لئلا يرى ما وراءَه من هول العذاب فلا يطيقه. وقيل نهوا عن الالتفات، ليوطِّنوا أَنفسهم كل المهاجرة أَو المراد به النهي عن الإبطاءِ في السير فإِن الملتفت قلما يخلو من أَدنى وقفة. ولم يذكر استثناءَ المرأَة من الإِسراء بأَهله وعدم الالتفات، اكتفاءً بما ذكر في آيات أُخر. (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ): أَى واذهبوا إِلى المكان الذي أَمركم الله بالذهاب إِليه، وهو الشام -على ما روى عن ابن عباس والسُّدِّى- وقيل الأَرْدُنّ؛ وقيل مصر. وقيل موضع نجاة غير معيّن. والعلم عند الله تعالى. وأَيَّا كان الأَمر فالجملة تأْكيد للنهى عن الالتفات مع الإِسراع كالسير قُدُمًا امتثالا لأَمره تعالى. وربما كان معهم من يوجههم إِلى المكان الذي أُمروا أَن يذهبوا إِليه. أو عرفه الله إِياه والطريق الموصل إِليه، والله تعالى أَعلم. 66 - (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ): أي وأَوحينا إِلى لوط قضاءَ ذلك الأَمر الذي حكمنا به على قومه حكمًا لا مردَّ له، وهو عذاب الاستئصال الذي فسره سبحانه بقوله: "أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ"، وفي إِبهام الأَمر أَولا وتفسيره ثانيا بما ذكر أَكبر دلالة كل فظاعته وشدة شناعته. والمعنى أَنهم يُسْتأْصلون عن آخرهم وهم داخلون في وقت الصباح فلا يبقى منهم أَحد. وقوله تعالى:

67 - (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ): شروع في بيان ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأَضياف. والمراد بالمدينة مدينة قوم لوط -وتسمى سدوم- وبأَهلها أُولئك القوم المجرمون. والمعنى: وجاء أَهل المدينة منزل لوط عليه السلام مستبشرين فرحين، وذلك أَن الرسل لما نزلوا على لوط ظهر أَمرهم في المدينة وقيل إِن امرأَته أَخبرتهم بذلك فجاءُوا إِلى داره طمعا في أُولئك الأَضياف الغرباءِ الحسان، فلما خشى منهم على أَضيافه ولم يكن يعلم أَنهم رسل الله: 68 - (قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ): أَي إِن هؤُلاءِ أَضيافى فحق عليّ أَن أَبذل الوسع في إِكرامهم، وحق عليكم أَن تعينونى في رعايتهم وحمايتهم، فإِن لم تفعلوا فلا أَقل من أَن تتركوهم ولا تتعرضوا لهم بسوءِ، حتى لا يفهموا أَنه ليس لى عندكم قدر ولا حرمة وتلك فضيحة لى، ومعرة علىَّ، أَو فلا تفضحونى بفضيحة ضيفى؛ فإِن من أُسيءَ إِلى ضيفه فقد أُسيء إِليه! ثم أَكد طلب الكف عن الإِساءة إِليهم إِذا لم يكونوا أَهلا للإحسان فقال ما حكاه الله سبحانه عنه بقوله: 69 - (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ): أَي واتقوا الله في تعرضكم لما يسوءُنى، فلا ترتكبوا فاحشتكم في ضيفى فتوقعونى في الذل والخزى أَمام الأَضياف، فإِن ذلك أَجلب للعار والفضيحة عَلىّ! غير أَن الخبث والانحراف عن الفضيلة كان متأَصلا فيهم، وكلمة العذاب حقت عليهم ومن أَجل ذلك: 70 - (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ): أَي ألم نتقدم إِليك بعدم ضيافة الشبان وحمايتهم ولم ننهك عن العالمين، فلماذا خالفتنا وآويت هؤُلاءِ الشبان، وجعلتنا نحضر إِليك ونطلبهم منك، يعنون أَننا قد نهيناك فعلا عن ذلك. فكأَنهم -أَخزاهم الله- قالوا ما ذكرته من العار والفضيحة إِنما جاء من

قبلك لا من قبلنا، إِذ لولا تعرضك لما نتصدى له لما اعتراك ما يسوءُك؛ وكانوا يتعرضون لكل أَحد من الغرباء بالسوءِ، فكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه وكانوا ينهونه جاهدين أَن يضيف أَحدًا أَو يُجيره. ولما رآهم عليه السلام مصرين على مُنكرِهم لا يقلعون عنه، وأَن نصحه ذهب هباءً: 71 - (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): يعني ببناته نساءَ قومه، فإِن نبى كل أُمة بمنزلة أَبيهم؛ أَو يعني بناته حقيقة، أَي فتزوجوهن وقد كانوا يطلبونهن فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءَتهم، لا لعدم مشروعية الزواج بين المسلمات والكفار؛ فإِنه كان جائزًا كما هو مبين في المطولات. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): أَي إِن كنتم راغبين في قضاءِ الشهوة فاقضوها بالطريق المشروع الذي أَحله الله وهو الزواج؛ فإنه أَطهر لكم وأَكرم. دون الطريق الخبيث المحرم، أَو إن كنتم فاعلين ما أَشرت به عليكم من التزوج، فهؤُلاء بناتى فتزوجوا منهن. وكان مجىءُ هؤلاءِ المجرمين إِلى منزل لوط عليه السلام وما دار بينه وبينهم، من نصحه لهم ومجادلتهم له -كان مجيئهم هذا قبل أَن تُعلمه الملائكة بأَنهم رسل ربه، ويأَمروه بأَن يسرِىَ بأَهله، على ما تقدم بيانه في سورة هود في قوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا" (¬1) إِلى قوله عز سلطانه: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ". وإِنما أُخِّر ذكر مجيئهم هنا وما تبعه من المجادلة، وقُدم عليه ذكر ما كان بينه وبين الرسل من المقاولة -على خلاف الترتيب الواقعى- للمسارعة إِلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإِهلاك قومه وتنجية آله عقب ذكر بشارة إِبراهيم عليه السلام بهما. ولم يراع في النظم الكريم الترتيب الواقعى، ثقةً بمراعاته في مواقع أُخر. والواو للعطف، ولكنها لا تقتضى الترتيب، ولا سيما إِذا دل الدليل على خلافه. ¬

_ (¬1) سورة هود الآية 77 - إِلى الآية 81

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)} المفردات: (لَعَمْرُكَ): أَي لحياتك، وهى صيغة قسم معناها أَقسم بحياتك. والعَمر بالفتح هو العُمر بالضم، ولكنه بالفتح اختص بالقسم للخفة وكثرة دورانه كل الأَلسنه. (سَكْرَتِهِمْ): أَي غفلتهم الشديدة التي أَشبهت السُّكر فجعلتهم كالسكارى .... أَو ضلالتهم كذلك. (يَعْمَهُونَ): يترددون ويتحيرون، من العَمَه، وهو في البصيرة كالعمى في البصر نعوذ بالله تعالى منه! (الصَّيْحَةُ): الصوت الشديد المزعج. والمراد به العذاب الذي أَهلكهم الله به. كما نقله ابن المنذر عن ابن جريج، وكل شيءٍ أَهلك به قوم صيحة وصاعقة! (مُشْرِقِينَ): داخلين في وقت شروق الشمس. (سِجِّيلٍ): طين متحجر. (لِلْمُتَوَسِّمِينَ): للمتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيءِ بِسمَتِهِ وعلامته.

(أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ): أَصحاب الْغَيْضَة وهى جماعة الشجر الكثيف الملتف. والمراد بها البقعة الكثيرة الأَشجار المثمرة. (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ): لفى طريق بيّن واضح يؤتمُّ به. التفسير 72 - (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ): قيل: هذا قسم من الله تبارك وتعالى بحياة نبيه لوط عليه السلام: إِن قومه لفى غفلة غامرة، وضلالة منكرة، جعلتهم كالسكارى يتحيرون ويترددون، فكيف يستمعون للنصح، أَو يستجيبون لداعى الهدى وهم في غوايتهم يتخبطون؟! والمقصود من القسم تأْكيد جهالتهم بعاقبة إِعراضهم وغفلتهم، وقيل هو قسم من الملائكة بأَمر الله تعالى على تقدير القول، أَي قالت الملائكة للوط عليه السلام: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" غافلون عما يصبِّحهم من عذاب قريب لا ريب فيه، كما قال تعالى: "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" (¬1). وقال قوم إِنه قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن جرير وابن كثير وجمهور من المفسرين، وعلى رأْسهم ابن عباس، حيث قال: ما خلق الله وما ذرأَ وما برأَ نفسًا أَكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أَقسم بحياة أَحد غيره (¬2). وعلى هذا تكون الضمائر في قوله:" إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" عائدة على قريش، غير أَن القسم بجياة لوط عليه السلام أَنسب بسياق القصة ولا ضرورة تدعو إِلى أَن يكون القسم هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم. فالله جل شأْنه يقسم بما شاءَ على ما شاء، لحكم وأَسرار، والحكمة هنا تكريم لوط وبيان حسن منزلته عند ربه وإِن لم يستجب له قومه، فقد بذل في هدايتهم غاية الجهد، ولكنا نهينا أَن نحلف بغير الله تعالى أَو باسم من أَسمائه أَو صفة من صفاته، كما قدمنا في تفسير قوله سبحانه: ¬

_ (¬1) سورة هود من الآية 81 (¬2) في كتاب: التبيان في أقسام القرآن لابن القيم تأييد لهذا القول ورد لما سواه.

"لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ (¬1) " الآية. قال صاحب الفتح: قال العماءُ: السر في النهي عن الحلف بغير الله، أَن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إِنما هي لله وحده ... ولما أَفادت الآيات السابقة أَن قوم لوط بلغوا من الإِجرام حدًّا لا ينفع معه نصح ولا إِنذار ذكر سبحانه عاقبه إِجرامهم فقال: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ): الفاءُ في قوله تعالى: "فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ" للإِشارة إِلى أَن عذابهم بالصيحة جاء عقب إِخبار لوط بأَن قومه في سكرتهم يعمهون. والمعنى: فبعد ما أُخْبِرَ لوط بغفلة قومه عما أَعده الله لهم من العقاب على فاحتشهم، أَخذتهم صاعقة العذاب الهون وهم مشرقون -أَي داخلون في وقت شروق الشمس، ويجمع بين قوله تعالى: "وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ" وبين قوله هنا "مُشْرِقِينَ" بأَن ابتداءَ عذابهم كان عند الصبح، وانتهاءَه كان عند الإشراق. ثم بين سبحانه صفة العذاب المدمر الذي أُحيطوا به قال: 74 - (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ): أَي فجعلنا عالِىَ مدينتهم، أَو عالى قراهم سافلها، بأَن دمرناها عليهم وقلبناها فوقهم، وأَرسلنا عليهم طينًا متحجرًا كالمطر المتتابع: أَنزلناه قبل القلب أَو في أَثنائه ليصيب الشذاذ المتفرقين، فلا ينجر منهم جميعًا أَحد. وفي سورة الذاريات: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ" (¬2). ولا ريب أَنها حجارة صنعت من طين لا يعلم كنهه إِلا علام الغيوب والطين إِذا تحجَّر سُمِّى سِجِّيلا! ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية: 89 (¬2) الآية: 33

ثم دعا سُبحانه إِلى النظر والاعتبار بما أَصاب هؤلاءِ المجرمين فقال: 75 - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ): أَى إِن فى ذَلكَ العذاب الذى أَحاط بقوم لوط فدمَّرهم لعلامات بينةً على أَخذ الله للمجرمين. يعرفها أَهل الفطانة الذين يدركون الأُمور بسِماتِها وعلاماتها. فيستدلون بها على حقائق الأَشياء، ويعتبرون بما يحدث فى الكون من عظات وعبر! وفى الآية تنويه بالفِراسة والمتفرسين. وفي تفسير ابن كثير عن أَبي سعيد مرفوعًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فِراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله" رواه الترمذى وابن جرير. وأَصدق الناس فِراسة أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإِحسان. قال ابن القيم: وكان الصديق رضى الله عنه أَعظم الأُمة فِراسةً، وبعده عمر ابن الخطاب رضى الله عنه (¬1) ثم بين سبحانه بيانا مؤكدًا أَن مدينة قوم لوط لا تزال توحى بالعبرة والعظة فقال: 76 - (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ): أَى إِن هذه المدينة، أَو القرى -يعني آثارها- لفى طريق باق ثابت يسلكه الناس يومئذ فيرونها رأْى العين ليعتبر بها أُولو الأَبصار والبصائر، وفى سورة الصافات: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}. (¬2) والخطاب لأهل مكة. ثم حث المؤمنين على النظر مؤكدًا فقال: 77 - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ): أَى إِن فيما ذكر من قصة قوم لوط وما حل بهم لعلامةً عظيمة للمؤمنين بالله ورسوله فإِنهم الذين يعرفون أَن ما حاق بهم من العذاب وَجَعْلِ ديارهم خاويةً بلاقع، إِنما حل بهم لسوءِ صنيعهم، وأَما غيرهم فهم غارقون فى غوايتهم فلا يفكرون فى الآيات ولا يعرفون سبيل ¬

_ (¬1) انظر كتابه:" مدارج السالكين، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين". (¬2) الآيتان: 137، 138

الهدى. وإفراد لفظ (الآية) هنا وجمعها فيما سبق لأن المشار إليه هنا مجمل وهو كونها بسبيل مقيم، والمشار إليه قبل ذلك مُفَصَّل حيث ذكرت قصة إهلاكهم وتدمير قراهم بسبب فاحشتهم، ثم ساق سبحانه نبأ أصحاب الأيكة مجملا فقال: 78 - {وَإِنْ (¬1) كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)}: أى وإن الشأن والخبر كان أصحاب الأيكة لظالمين لأنفسهم، وأصحاب الأيكة قوم أُرسل إليهم شعيب، والأيكة الشجرة الملتفة المتكاثفة، وكانت عامة شجرهم المقل الذي عبر عنه بالأيكة. فنسبوا إليها. وكانت قريبة من مدين قرية شعيب. ولما ظلموا أنفسهم بالشرك ومختلف المظالم أرسل الله إليهم شعيبًا كما أرسله إلى قومه أهل مدين. ولذا قال سبحانه فى كل من السور الثلاث، الأعراف، وهود، والعنكبوت. {وإلىَ مَدْيَن أخَاهُمْ شُعيبًا} (¬2)، الآيات. وقال في سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ}. إلى قوله عز من قائل: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬3). وجملة القول أَن شعيبًا عليه السلام، أُرسل إلى أُمتين عذبتا بعذابين. كما قال ابن جرير وغيره وهو ظاهر الكتاب العزيز. ويبدو أنهم فاقوا أهل مدين في الشرك والطغيان والاستهزاء والبهتان. ولذا كان عذابهم بيوم الظلّة أشد من عذاب أهل مدين بالصيحة والرجفة وهي الزلزلة كما يعرب عنه قوله سبحانه: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬4)، حيث أكد سبحانه أنه كان عذب يوم عظيم. روى غير واحد عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم ¬

_ (¬1) أي وإنه "كان أصحاب الأيكة لظالمين" فإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن والأصل وإنه. أي وإن الحال والشأن كان أصحاب الأيكة الخ، ولذا وقعت اللام الفارقة في الجملة التي بعدها لكونها في محل رفع خبر إن هذه، وسميت هذه اللام (اللام الفارقة) لأنها فرقت بين إن المؤكدة التي تنصب الاسم وترفع الخبر بعد أن خففت نونها بالسكون وبين إن النافية المشبهة لها في سكون النون. (¬2) الأعراف أول الآية: 85 - وهود أول الآية: 84 - والعنكبوت أول الآية: 36. (¬3) الشعراء: الآيات من 176 - 189. (¬4) الشعراء الآية (189).

الحر سبعة أَيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيءٌ. ثم بعث سبحانه عليهم سحابه فجعلوا يلتمسون الروح (¬1) منها فبعث عليهم منها نارًا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة. وقوله سبحانه: 79 - (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ): مرتب على ظلمهم الذي تجاوز كل ظلم، وإِبهام نوع الانتقام هنا ثم تفسيره في سورة الشعراءِ بعذاب يوم الظلة دليل على شدة هوله وعظمه. وقد قلنا مرارًا إن الكتاب العزيز يفسر بعضه بعضا، وضمير التثنية في قوله تعالى: "وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ"، قيل أَنه يعود إِلى الأَيكة ومدين. لأَنه لما كان رسولهما واحدًا هو شعيب عليه السلام كان ذكر أَحدهما منبهًا على الآخر، والظاهر أَنه يعود إِلى مسكنى قوم لوط وأَصحب الأَيكة - قال الآلوسى: وإِلى ذلك ذهب الجمهور. أ. هـ. ويؤيده أَنهما تقدما في الذكر. وقد أُضْمِر سابقًا قرية قوم لوط بضمير المفرد في قوله: "وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ". وأَضمر لها وللأَيكة هنا بضمير المثنى حيث قال تعالى: "وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ". ولعل هذ التكرير العبرة والعظة بما يصيب القوم المجرمين. والإِمام المبين هو الطريق البين الواضح الذي يأْتم به ويهتدى الغادى والرئح. ¬

_ (¬1) الروح: يعني الراحة.

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)} المفردات: (الْحِجْرِ): واد بين المدينة المنورة والشام. (أَصْحَابُ الْحِجْرِ): هم ثمود وقوم صالح عليه السلام، ويسمون عاد الثانية. وأَصل الحجر كل ما أُحيط بالحجارة ومنه حجرُ الكعبة. (الصَّيْحَةُ): الصوت الشديد المزعج. والمراد منها الرجفة التي أُهلكوا بها كما سيأْتى بيانه. التفسير 80 - (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ): هذا شروع في قصة أَصحاب الحجر، قوم صالح عليه السلام، وهى من القصص التي لا تزال آثارها ناطقة بالعبرة والعظة لمن يمر بها. والحجر هوالوادى الذي كانوا يسكنونه. ولا يزال معروفا بين المدينة والشام، وقد كان يمر به راكب الحجاز إلى الشام، ذاهبين وعائدين. وقصتهم هنا مجملة وفي مواطن أُخرى ذكرت مفصلة. وإِليك موجزا في بيان قصتهم التي أَجملتها هذه الآيات: أَرسل الله إِليهم صالحا فكذبوه فكانوا بتكذبيه مكذبين للرسل أَجمعين؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأُصول التي لا تختلف باختلاف الأُمم والأَعصار. ولذلك حكى الله سبحانه تكذبيهم بقوله: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ).

81 - {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}: أي وأعلمناهم بحججنا البالغة الدالة على صدق صالح عليه السلام فيما دعاهم إليه من عبادة الله وحده، والإيمان برسالته. وكانت الناقة إحدى آيات الله البينات: في شربها ودرِّها على خلاف غيرها من النياق؛ ولذلك أضافها صالح إلى الله تعالى حين قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). فكانوا عن هذه الآيات كلها معرضين، بل مكذبين معاندين. 82 - {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}: أى ومكنَّاهم فى الأرض وجعلناهم أُولي قوة ومنَعَة، وحضارة ومهارة، وحذْقٍ بفنون البناء والعمارة، حتى كانوا يتخذون من جبالها بيوتًا حصينة، حيث كانوا يقطعون حجارتها وينحتونها تسوية لها، ثم يبنون بها قصورهم ليعيشوا فيها آمنين عليها من الهدم، وعلى أنفسهم من العدوان والسوء؛ لقوة بنائها وبديع إحكامها؛ أو آمنين من العذاب لحسبانهم أن الحصون التي بنوها تحميهم منه -وكانوا يتخذون من سولها قصورًا عظيمة فى جنات وعيون ... وقد ذكَّرهم بذلك نبيهم صالح عليه السلام فيما حكى الله عنه فى سورة الأعراف إذ قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬2) وفي سورة الشعراء إذ قال. {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (¬3). لكنهم طغوا وبغوا وجحدوا بآيات الله ورسالاته: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬4). وفي سورة هود: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 73. (¬2) الآية 74. (¬3) الآيات من 146 - 149. (¬4) الأعراف من الآية: 77. (¬5) الآية: 78.

وفي سورة الأَعراف: "فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ" (¬1). والرجفة هي الزلزلة، والصيحة من توابعها، فإِن الزلزلة تحدث تموجًا في الهواء شديدًا يفضى إِليها. وكانت صيحة هلاكهم في صباح اليوم الرابع بعد تمتعهم ثلاث أَيام كما أَوعدهم الله على لسان نبيهم صالح عليه السلام في سورة هود: "فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ" (¬2). والفاء في قوله تعالى: 84 - (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): لترتيب عدم الإِغناء والنفع، على ما أَصابهم حين نقول بهم قضاء الله الذي لا مرد له. والمعنى: فما دفع عنهم وما منعهم من عذابه تعالى ما كانوا يكسبونه من تحت البيوت الوثيقة وجمع الأَموال الوفيرة، مع كثرة العدَد والعُدد، بل خروا في ديارهم هلكى خامدين كأن لم يكونوا بالأَمس. هذا، وقد روى الشيخان وغيرُهما عن ابن عمر رضى الله عنهما أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأَصحابه: لا تدخلوا على هؤلاء القوم إِلا أَن تكونوا باكين، فإِن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أَن يصيبكم مثلُ ما أَصابهم. ورويا معنه أَيضًا أَن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر أَرض ثمود في غزوة تبوك، أَمرهم ألا يشربوا من مائها ولا يستقُوا منها، فقالوا: قد عَجَنَّا منها واستقينا! فأَمرهم أَن يطرحوا العجين ويهريقُوا ذلك الماء. وفي رواية: فأَمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَن يُهريقوا ما استقوا من بئرها وأَن يَعلفوا الإِبل العجين، وأَمرهم أَن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. قال العلماءُ: وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم موضع هذه البئر من طريق الوحى. ¬

_ (¬1) من الآية: 65. (¬2) من الآية: 65.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} المفردات: (بِالْحَقِّ): أَي بالأَمر الثابت الذي يحق لنا أَن نخلق السماوات والأَرض عليه طبقا لمقتضى الحكمة والمصلحة. (السَّاعَةَ): أَي القيامة، وسميت بالساعة، لأَنها تفجؤهم في ساعة لا يعلمونها. (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ): أَي فأَعرض عنهم الإِعراض الجميل، أَوفاعف عنهم العفوالجميل الذي لا لوم فيه ولا تثريب. (الْمَثَانِي): جمع مثْنَى من ثنى الشيءَ يَثْنِيه إِذا أعاده؛ أَوجمع مُثنية من الثناءِ، بحذف الزوائد، لما فيها من الثناءِ على الله تعالى. (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ): لا تطمح بنظرك طموح راغب. وسيأْتى بيان ذلك. (أَزْوَاجًا): أَي أَصنافا، جمع زوج أَي صنف. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ): أَلِن جانبك وتواضع، والجناحان من الإِنسان جانباه. التفسير 85 - (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ .... ) الآية .. لما قص الله تبارك وتعالى من أَنباء المكذبين لرسلهم ما فيه عبرة وتذكرة - نبه بذكر هذه الآية الكريمة على حكمته البالغة في إِهلاكهم؛ حيث بين أَنه ما خلق السماوات والأَرض

وما بينهما ذلك الخلق البديع المحكم، إِلا بالحق وهوأَن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئا، فلما جحدوا آياته، وأَشركوا به، وكذبوا رسله، وعثوا في الأَرض فسادا - قضت عدالته وحكمته بأَن يهلكهم ويهلك أَمثالهم، دفعًا لفسادهم، وتطهيرًا للأَرض من شرورهم، وإِرشادًا لمن بقى إِلى الصلاح والإِصلاح. حذرًا من أَن يصيبهم مثل ما أَصابهم. هذا جزاؤُهم في الدنيا، وقد أَشارت إِليه الجمله الأُلى من الآية الكريمة، وأَما جزاؤهم في الآخرة فموعدهم فيه الساعة؛ وإليه تشير الجملة الثانية من الآية، وهى قوله: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ): لا ريب فيها؛ فينتقم الله لرسله، جزاءَ ما كُذِّبوا وأُوذوا. هذا، وفي تلك القصص وما ختمت به تسلية كريمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإِنه صلوات الله وسلامه عليه، إِذا سمع من ربه أَن الأُمم السابقة كانوا يعاملون أَنبياءَهم هذه المعاملة القاسية، هان عليه تحمل سفاهة قومه وأَذاهم، وسهل عليه أَن يعفوَ عنهم عفوًا كريما لا لوم فيه ولا تثريب، وهذا هوالصفح الجميل الذي أَمره الله به إِذ قال: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ): كما روى عن على وابن عباس رضى الله عنهم في تفسير الصفح الجميل، وفي أَمره صلى الله عليه وسلم بالصفح الجميل إِشارة كريمة إِلى تركهم لله تعالى، وأَن يتذرع بالصبر الجميل، حتى يأْتي وعد الله وما قضاه في شأْنهم في الدنيا والآخرة، وأَن يصفح عنهم فلا يحمل نفسه ما لا يطيق من الضيق بكفرهم، ولا تذهب نفسه عليهم حسرات. ثم كرر سبحانه هذا المعنى وزاده توكيدًا فقال: 86 - (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ): أَي إِن الله الذي رباك بنعمه، وتولاك بفضله وكرمه هوالخلاق لك ولهم، العليم بأَحوالك وأَحوالهم، وبما جرى بينك وبينهم، فخليق بك أَن تكل الأُمور إِليه، فهوالحكم العدل الذي يجازيك على حسناتك ويجازيهم على سيئاتهم، وقد علمت أَن الصفح الجميل

أَولى بك إِلى أَن يحكم الله بينك وبينهم وهوخير الحاكمين. ثم امتن سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمنة العظمى، وهى إِنزال القرآن عليه فقال: 87 - (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ): أَي ولقد أَنعمنا عليك إِذ أَنزلنا إِليك فاتحة الكتاب، وهى سبع آيات تُثنَّى وتكرر في الصلوات الخمس وغيرها ويُثنى بها على الله عز وجل؛ وهى القرآن العظيم. وتخصيص الفاتحة بالذكر واعتبارها القرآن الكريم؛ لمزيد فضلها ورفيع مكانتها، ولاشتمالها على مقاصد القرآن كله. وقد روى البخاري (¬1) عن أَبي سعيد بن المعلَّى أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهما في المسجد: لأُعَلِّمنَّك سورة هي أَعظم السور في القرآن ... الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أُوتيته. وروى البخاري أَيضًا عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُم القرآن هي السبع المثانى والقرآن العظيم". فكل من هذين الحديثين الصحيحين نص صريح في أَن فاتحة الكتاب هي السبع المثانى وأَنها القرآن العظيم. والقرآن كما يطلق على الكتاب العزيز كله يطلق عل بعضه. وذكر المفسرون جملة أَقوال أُخرى في المراد بالسبع المثانى، أَصحها وأَقواها ما رُوى عن جمع من الصحابة والتابعين، وفي مقدمتهم ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جُبير رضى الله عنهم، إِذ قالوا، إِنها السبع الطُّول (¬2) أَطول سور القرآن الكريم كله: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأَنعام والأَعراف، والسابعة الأَنفال وبراءَة، فهما عندم سورة واحدة ولذا لم يفصل بينهما بالبسملة. ¬

_ (¬1) في أول كتاب التفسير: باب ما جاء في فاتحة الكتاب ... ثم في قوله تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم" من تفسير سورة الحجر. (¬2) جمع طولى مؤنث أَطول.

وذكر ابن كثير أَن النص الصحيح على أَن فاتحة الكتاب هي السبع المثانى، لا يمنع عن وصف السبع الطول بما اتصفت به الفاتحة. بل لا يمنع من وصف القرآن كله، بأَنه مثانٍ، وقد قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ" (¬1). ولما كان متاع الدنيا وإِن عظم، شيئًا ضئيلا حقيرا بالقياس إِلى ما أَنعم الله به على نبيه من نعمة القرآن الكريم - نهاه أَن يطمح ببصره طموح راغب في هذا المتاع فقال: 88 - (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ... ) الآية. أَي لا ترغب في متاع الدنيا وزخرفها مما متعنا به أَصنافا من الكفرة المشركين وأَهل الكتاب؛ واستعن بما آتَاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬2). وكان صلى الله عليه وسلم يود أَن يؤْمن كل من بعثه الله إِليهم، ويشق عليه - لمزيد شففته - بقاءُ الكفرة على كفرهم فقال الله له رحمة به: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) كقوله: "فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" (¬3) أَي لا تحزن ولا تتحسر إِذا لم يؤْمنوا فما عليك إِلا البلاغ وقد بلغت، فلا تبال بهم بعد ذلك. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ): أَي تواضع لمن اتبعك من المؤمنين وارفق بهم واصبر نفسك معهم. فإِنهم أَولى بك من أُولئك الجاحدين، وإِنك بالمؤمنين رؤوف رحيم. ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية: 23 (¬2) سورة طه الآية: 131 (¬3) سورة فاطر من الآية: 8

{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} المفردات: (النَّذِيرُ الْمُبِينُ): المنذر الموضح لما ينذر الناس به ويهديهم إِليه. (عِضِينَ): أَي أَعضاء وأجزاء متفرقة كل فرقة عِضة، يقال عضَّى الشَّىءَ تعضية إِذا فرقه وجزَّأَه. (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ): أَي فاجهر بما تؤمر به وأَظهره، يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أَو افرُق بين الحق والباطل، من الصدع بمعنى الشق. (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ): أَي تولينا إِهلاك المستهزئين يقال: كَفَيْتَ فلانًا المؤنة إِذا توليتها ولم تحوجه إِليها. التفسير 89 - (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ): امْتنَّ الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الآيتين السابقتين بأَنه آتاه سبعا من المثانى والقرآن العظيم وأَوصاه بوصايا ثلاث:

"أولاها": أَن لا تطمح نفسه إِلى مثل مَا أَوتيه أَصناف من الكفار من المال والجاه فإِن القرآن أَعظم من هذا كله، فهوعز الدنيا والآخرة "والوصية الثانية" أَن لا يحزن عليهم بسبب انصرافهم عن الهدى الذي جاءهم به "والوصية الثالثة" أَن يتواضع للمؤمنين ويخفض جناحه لهم ليشتد حبهم له، واستمساكهم بدعوته والتفافهم حوله، فهم خير له من هؤلاء المترفين المستكبرين، وقد مرَّ الكلام على هاتين الآيتين وجاءَت هذه الآية مشتملة على وصية رابعة، وهي أَن يقول لجميع الناس إِنه هوالنذير الموضح لما أَنزله الله عليه من أَجلهم، من السبع المثانى والقرآن العظيم، وفي جملة ما يوضحه لهم ما أَنذرهم فيه من العقاب على مخالفتهم أَوامر ربهم، حيث يبين دواعيه وبراهينه، وإِنما اقتصر على الإِنذار مع أَن الله أَرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا؛ لأَن المؤْمنين كانوا يومئذ قلة والكافرين كثرة، ولأَن المقام مقام تحذير وتخويف، وفي الصحيحين عن أَبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أَتى قومه فقال يا قوم، إِنى رأَيت الجيش بعينى وإِنى أَنا النذير العُريان، فالنجاء النجاء، فأَطاعه طائفة من قومه فأدْلَجُوا وانطلقوا عَلَى مَهَلِهِم فنجوا، وكذَّبه طائفة منهم فأَصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأَهلكهم واجتاحهم فذلك مثلُ من أَطاعنى واتَّبع ما جئت به، ومثلُ من عصانى وكذب ما جئت به من الحق". 90 - 93 - (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)).

البيان

البيان اختلف العلماءُ في تفسير المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين على سبعة أَقوال نختار منها قولين: (أَحدهما) ما قاله مقاتل والفراءُ، من أَنهم ستة عشر رجلًا، أَرسلهم الوليد ابن المغيرة أَيام موسم الحج فاقتسموا طرق مكة ومداخلها وفجاجها، يقولون لمن سلكوها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدّعى النبوة فإِنه مجنون، وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، وسُمُّوا مقتسمين لأَنهم اقتسموا مداخل مكة فأَماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصَّبوا المغيرة بن شعبة حكمًا على باب المسجد الحرام، فإِذا سأَلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وافق كل فرية هؤلاء المقتسمين، وصدقهم فيما يفترونه - هكذا حكى القرطبى رأْى مقاتل والفراء. (والقول الثاني) لِقَتَادَة وخلاصته أَنهم قوم من كفار مكة، اقتسموا كتاب الله فزعموا بعضه شعرًا، وبعضه سحرًا، وبعضه كهانة، وبعضه أَساطير الأَولين فهؤلاءِ هم المقتسمون جعلوا القرآن عضين، أَي جعلوه أَجزاءً مختلفة وفرقًا متباينة، لكل جزءٍ منه اسم من الأَسماءِ التي مر بيانها. وإِنما اخترنا هذين القولين لأَن السورة مكية، وما جاء فيهما حدث من مشركى مكة. أَما ما قيل من أَن المقتسمين هم أَهل الكتاب، اقتسموا القرآن فيما بينهم، فآمنوا ببعضه وهو ما وافق التوراة والإِنجيل. وكفروا ببعضه وهو ما خالفهما، أَو اقتسموه استهزاءً. فقال بعضهم لبعض: هذه السورة لى وهذه السورة لك، أَو اقتسموا كتبهم ففرقوها وبدَّدُوها - أَما هذه الأقوال الثلاثة فغير مقبولة لأَن السورة مكية. ولم يحدث من النبي صلى الله عليه وسلم في مكة احتكاك بأَهل الكتاب. ولا تبليغ القرآن لهم حتى يقولوا فيه ذلك، كما أنه لم يسبق لأَهل الكتاب في السورة كلها ذكر مطلقًا حتى يتوهم رد المقتسمين إِليهم وتفسيرهم بهم. وأَما ما قيل من أَن المراد بهم قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين كما قال سبحانه في سورة النمل حكاية عنهم: "قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ

ما ترتبط به هذه الآيات ومعناها

لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} -أَما هذا القول- فهو بعيد أيضًا لأنهم وإن ذكروا فى هذه السورة بعنوان أصحاب الحجر فى الآية رقم 80 لكنهم لم يجعلوا القرآن عضين فإنهم لا علم لهم به لتقدمهم على نزوله فضلا عن أن المقام لا يسمح بإرادتهم. وكيف تتصل هذه الآية وما بعدها بقصتهم وبينهما تسع آيات، وفي أفصح الكلام، إن هذا لجد بعيد. ما ترتبط به هذه الآيات ومعناها قد مرَّ بك أيها القاريء الكريم أننا اخترنا الرأيين الأولين فى تفسير معنى المقتسمين لاتفاقهما على أنهم من أهل مكة. وهذا يناسب كون السورة مكية وترتبط تلك الآيات الأربع بقوله تعالى قبلها مباشرة: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} والمعنى على هذا: وقل أيها الرسول للناس: إني أنا المنذر لمن خالف ربه وكفر به وعصاه، المبين لهم ما أُنذروه كالإنذار الذي ننزله بشأن المقتسمين من أهل مكة الذين جعلوا القرآن أجزاء وفرقوه أوصافًا. فتارة يسمونه سحرًا وأخرى يزعمونه شعرًا وحينا يدَّعون أنه كهانة. وأخرى يفترون أنه أساطير الأولين. وهذا الإنذار الذي ننزله بشأنهم ونبينه لهم هو قولنا لك تسلية. ولهم وعيدًا وتهديدًا: فوحق ربك الذي أحاطك بحمايته ورباك بنعمته وشرفك برسالته لنسألنهم أجمعين عما كانوا في دنياهم يعملون من كفر وتكذيب وإعراض وافتراء {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬1) فيحاسبهم أدَق حساب ويعاقبهم أشد عقاب. فليس الأمر كما يزعمون إذ يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬2). وعبر بالماضى بقوله: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}، مع أنه تعالى لم ينزل فى الماضي بشأنهم قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنَّما أنزله وقتما أمر النبي بقوله له: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} الآيات. -وعبر بالماضي في قوله: {أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} - لأن المحقق إنزاله في المستقبل في حكم الذي نزل فعلا. ولأن نزوله سابق في علم الله وقضائه. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم الآية (42). (¬2) سورة الأنعام الآية (29).

ويجوز أن يراد مما أنزله الله على المقتسمين ما سبق نزوله من الإنذار للمعرضين عن القرآن المتقوِّلين عليه كقوله تعالى فى حق الوليد بن المغيرة: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}، وقوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}، وقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1). وذلك عقاب له على قوله في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}. وكقوله فى سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬2). وعلى هذا يكون قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وعيدًا آخر غير ما سبق نزوله بشأنهم. ويجوز أن يكون الضمير في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} عائدا على الناس جميعًا، وليس خاصًّا بهؤلاء المقتسمين، أي وحق ربك يا محمد لنسألن الناس جميعًا - مؤمنهم وكافرهم عما كانوا يعملون فى دنياهم {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (¬3). وليس سؤاله سبحانه سؤال استفهام واستعلام وإِنما هو سؤال تقريع وتوبيخ أَو تقرير، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يسألهم الله تعالى: هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم وإنما يقول: لم عملتم كذا وكذا؟ وروى الترمذي بإسناد حسن صحيح عن أبي برْزة رضىي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القيَامَةِ حَتَّى يُسَألَ عَنْ أرْبَع: عَنْ عُمُرِه فِيم أفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ منْ أيْنَ اكتَسَبَهُ وَفِيْمَ أنفَقَهُ، وَعَن جِسْمِهِ فِيمَ أبلَاهُ"؟ ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى فى سورة الرحمن: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (¬4). وكذا فى سورة المرسلات: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المدثر الآية من 11 - 30. (¬2) فصلت الآية 13. (¬3) سورة النجم من الآية 31. (¬4) الآية 39. (¬5) الآيتين 35، 36.

لأَن يوم القيامة طويل وفيه مواقف فيسأَلون في بعض المواقف ولا يسأَلون في بعضها. وفي التعرض لوصف الربوبية مضافًا إِلى ضميره عليه الصلاة والسلام، من تسليته واللطف به، ما لا يحتاج إِلى بيان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إِلى الله تعالى سرًّا حتى نزلت هذه الآية: 94 - (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ): أَي اجهر بما يأْمرك الله به، وأَعلِنْ رسالته التي أَرسلك الله بها إِلى الناس كافَّةً، ولا تبال بالمشركين وأَذاهم فالله حافظك وناصرك وعاصمك، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" (¬1). ولما كان المستهزئون بالدعوة هم أَكبر المعوِّقين لها والصادِّين عن سبيل الله - وعده الله سبحانه أَن يهلكهم ويكفيه شرهم فقال: 95 - (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ): الذين يستهزئون بك وبالقرآن! والمستهزئون نفر من رؤساء كفار قريش، اختُلف في عدَّتهم وفي أَسمائهم، والمشهور أَنهم خمسة، وكانوا يبالغون في إِيذاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستهزاءِ به. وبالقرآن، وهم: الوليد بن المغيرة المخزوى وهو رأَسهم، والعاصي بن وائل السهمى، والأَسود بن الطَّيب، والأَسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس، وقيل غير ذلك. غير أَن المعلوم في شأْنهم أَنهم كانوا طائفة ذات قوة وشوكة، لأَن أَمثالهم هم الذين يجترئون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو منصبه وعظيم قدره في عشيرته. وقد وصف الله المستهزئين، وأَكد وعده لرسوله بأَنه سيكفيه شرهم فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) سورة: المائدة، من الآية 67

96 - (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): أَي أَنهم لم يقتصروا على الاستهزاءِ بك يا محمد بل اجترءُوا على عظيمة العظائم وكبيرة الكبائر: أَلا وهى الإِشراك بالله عز وجل، ولهذا كله "فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" ما يحل بهم في الدنيا من الإِهلاك والإِبادة، وفي الآخرة من العذاب العظيم. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} المفردات: (يَضِيقُ صَدْرُكَ): أَي ينقبض ويُحرج. (مِنَ السَّاجِدِينَ): أَي من المصلين، وإِطلاق الساجدين عليهم؛ لأَن السجود في الصلاة أَظهر ما فيها من أَمارات الخضوع والاستسلام والذلة لله تعالى. (الْيقِينُ): المراد به هنا الموت؛ وعبر عنه باليقين لتحققه. التفسير بعد أَن جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة امتثالًا لأَمر ربه، اشتد إِيذاءُ قريش له ولمن آمن به، حتى ضاق صدره وعظم همه، بما كانوا يقولون من كلمات الشرك والسخرية فأَنزل الله عليه: 97 - (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) الآيات. أَي وإِنا لنعلم ما يصيبك من انقباض صدرك، وعظِمِ همك وألمك، بسبب ما يقول المشركون فيك وفي اقرآن من كلمات الشرك والاستهزاءِ به. 98 - (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ): أَي فافزع إِلى ربك فيما يصيبك من ضيق الصدر وانقباضه، ونزِّهه عما يقول المشركون،

حامدًا له سبحانه على أَن هداك إِلى الحق وشرح صدرك به. وكن من المصلين الخاشعين، يكشف همك وغمك، ويذهب الضيق الذي تجده في صدرك. ولأَن السجود في الصلاة أَظهر ما فيها من الخضوع، وأَفضل أَجزائها من الخشوع - عبر الله به عنها، وأَمره به بصيغة تدل على الدوام والاهتمام بالصلاة وبالسجود معًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا حَزَبه أَمر فزع إِلى الصلاة (¬1). وقد روى عن مسلم في صحيحه عن أَبي هريرة رضى الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأَكثروا الدعاء". وفي ختام السورة الكريمة بقوله تباركت أَسماؤه: 99 - (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ): أَمر إلهى كريم للنبي صلى الله عليه وسلم بدوام العبادة لربه والدعوة إِليه حتى يأْتيه اليقين، أَي الأَمر الموقن به وهو الموت. أَي دم على بما أَنت عليه من الصلاة والعبادة لربك ما دمت حيا. والآية دليل على وجوب العبادة - وعمادها الصلاة - على كل مكلف ما دام عقله ثابتًا. ولو كان مريضا كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حُصينٍ رضى الله عنهما أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلِّ قائما، فإِن لم تستطع فقاعدا، فإِن لم تستطع فعلى جنبك". والآية الكريمة دليل كذلك على تخطئة من ذهب من الملاحدة إِلى أَن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أَحدهم إِلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم! وهذا كفر وضلال وجهل، فإِن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا هم وأَصحابهم أَعلم الناس بالله، وأَعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أَكثر الناس عبادةً ومواظبةً على فعل الخيرات، إِلى الممات. وإِنما المراد باليقين هنا الموت كما قدمناه. ولله الحمد والمنة، وهو المسئول أَن يتوفانا على أَكمل الأَحوال وأَحسنها فإِنه جواد كريم. ¬

_ (¬1) حديث مشهور ذكره ابن جرير وغيره، وقال ابن الأثير في النهاية: كان إِذا حزبه أَمر صلى. أَي إِذا نزل به مهم أو أصابه غم. اهـ.

سورة النحل

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سورة النحل المقدمة السورة مكية إلاَّ الآيات الثلاث الأَخيرة على أَرجح الآراء، وهى تتناول النعم العديدة المتوالية من الله سبحانه على خلقه، ولهذا سميت أَيضًا سورة "النعم". وإِن كثيرًا من البشر يقابلون هذه النعم بالجحود والكفران كما قال تعالى: "يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ" النحل (83) وأَهم مشتملاتها: 1 - أَنها أَشارت إِلى أَن عذاب الله واقع ماله من دافع، على من يستحقونه من الطغاة العُتاة، وإِن أَمهلهم الله حتى حين فليس معنى ذلك إِفلاتُهم من عقابه الأَليم إِذا هُمْ أَصروا على الكفر والعصيان، فإِن الله ليملى للظالم حتى إِذا أَخذه لم يُفْلِته. ومن لطفه سبحانه بعباده أَنه ينذرهم قبل معالجتهم بالعذاب عن طريق تنزيل الملائكة بالوحى السماوى على من يصطفيهم من رسله ليبلغوه إِلى أَقوامهم: "لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (¬1). 2 - أَنها بينت أَن الله سبحانه خلق السماوات والأَرض من العدم بالحق والحكمة، وخلق الإِنسان من نطفة من ماءٍ مهين ثم سوّاه إِنسانًا سويًّا، فإِذا هو مجادل مكابر مُقْبِلٌ على الخطإِ بعيدٌ عن الصواب، ومع هذا فالله سبحانه يغمره بإِحسانه وكرمه، فقد خلق له الأَنعام وسخرها له ينتفع بأَصوافها وأَوبارها وأَشعارها ويأْكل لحومها وما تدره من الأَلبان، وهيَّأَ له استخدام الدواب يمتطيها ويحمل عليها أَثقاله إِلى مكان بعيد، ومع أَن الله منَّ عليه بذلك هداه إِلى السبيل السوِىِّ المستقيم ليعبد الله حق عبادته، فبعث إِليه رسله؛ وبين له آياته. ¬

_ (¬1) سورة النساء - الآية: 115

3 - وأن من رحمة الله بخلقه أَنه أسقط لهم المطر يستغلونه فى الشُّرْب وإعداد الطعام وسقي المواشى وزراعة الأرض لتخرج أنواع الثمار والفواكه والبقول وغيرها، ومن نعم الله أيضًا على عباده أنه مهَّد لهم العيش على سطح الأرض، ونظم دورانها حول محورها بصورة تستتبع تعاقب الليل والنهار وهيأ لهم الانتفاع بضوءِ الشمس ونور القمر، والاهتداء فى ظلمات الليل بالنجوم أَثناء الحِلِّ والترحال، كما سخر لهم الانتفاع بالبحار والمحيطات وما تضمه من خيرات، وما تهيئه لهم من سهولة الانتقال بالسُّفن بين شتى البلاد والأقطار، وتظهر آثار حكمته سبحانه فى أنه ثبت الأَرض فى دورانها بالجبال الشامخة حتى لا تميد بما تحمله من العوالم العديدة. 4 - وأن الله سبحانه هو الذي خلق الخلق بحكمته وقدرته وغمرهم بإِحسانه وفضله فهو وحده الجدير بالعبادة فكيف يشركون به أحدًا من خلقه، مع أن نعم الله عليهم لا تحصى ولا تعد، وهو يعلم ما يسرون وما يعلنون، وسيجازى كل إِنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب كما جازى الأُمم السابقة لهم فى الدنيا والآخرة، في حين أَن ما يعبدونهم من دونه لا يستحقون شيئًا من العبادة لفقدانهم أَهليتها، فهم لا يملكون لأنفسهم ولا لسواهم نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. 5 - وأن الموت نهاية كل إنسان والناس إزاءَه فريقان: فريقٌ تتوفاه ملائكة العذاب ومصيره إِلى جهنم وبئس المصير، وفريق مؤمن تتوفاه ملائكة الرحمة فتبشره بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة؟ ولقد بعث الله الرسل وأَنزل معهم الكتب فاستجاب لهم فريق وكفر بهم فريق، وسينال كلُّ جزاءه بقدر عمله، والذين هاجروا فى سبيل الله سيشملهم الله برحمته ورضوانه فى الدنيا {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. 6 - وبينت السورة أنه تعالى لم يرسل قبل محمد ملائكة حتى يحتجوا بهذا، وإنما أرسل رجالًا أوحى إليهم برسالاته، فهل أمن الكفار أن يخسف الله بهم الأرض جزاءَ كفرهم وعنادهم أَو يصيبهم بعذاب مباغت وهم آمنون، أَفلا ينظرون إِلى الكائنات المنقادة لمشيئته الخاضعة لإرادته سواءُ فى الأرض أم فى السماء، فهو إله واحد لا شريك له، تظهر آثار قدرته وحكمته وإِحسانه على خلقه، وإِن كان بعضهم يقابل الإِحسان بالإساءة والجحود، ويزعم

أن الملائكة بناتُ الله، ويضيق بإنجاب البنات، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيبقيهن مع احتمال الذل والهوان أم يدفنهن أحياءً في التراب - ولو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم لأزال كل ما يدب على سطح الأرض من الكائنات الحية ولكنه يؤخرهم إلى أجل محدود لا يتجاوزونه بأى حال. 7 - وبينت السورة أنه تعالى أرسل الرسل إلى الأمم السابقة فكذبوهم فأصابهم ما يستحقونه من العذاب، وأنه تعالى أنزل على رسوله الكتاب إِرشادًا وتوضيحًا وهدى ورحمة، وكما أنزل الله الهداية الروحية لإحياء النفوس أنزل سبحانه الماءَ لإحياء الأرض بعد موتها، وسخر سبحانه الأنعام لتمنحهم من بطونها اللبن السائغ العذب، وأنبت لهم من الأرض ثمرات النخيل والأعناب يتخذون من ثمراتها شرابا حلوا وأكلًا شهيًّا، وسخر النحل وهداها لتتخذ من الجبال ومن الشجر والعرائش بيوتا لها ولتتناول من الثمار غذاءً تحيله إلى عسل شهيٍّ فيه غذاء وشفاء. 8 - وبينت أن الله خلقنا ثم قدر علينا الموت، وقد يمهل بعضنا حتى يبلغ أرذل العُمُر فلا يعلم شيئًا؛ والله اختبرنا بتفضيل بعضنا على بعض فى الرزق، وخلق لنا أزواجًا من جنسنا حتى نأْنس بِهِنّ ونَسْكُن إليهن، ومنحنا منهُنَّ أبناءً وحفدة ورزقنا من طيبات الحياة فكيف نقابل إحسانه بالكفر، ونؤْمن بالباطل والضلال ونعبد مِنْ دونه من لا يملك أن يرزقنا ولا يستطيع الرزق إن أراد. 9 - وأنه لا يستوى العجزة والقادرون ولا الأغبياءُ والأذكياءُ؛ وللجميع نهاية يوم القيامة الذى يباغت به الجميع مباغتة تقع كطرفة العين؛ ومن آيات الله التى ينبغي مراعاتها وشكرها أنه سبحانه أخرجنا من بطون أُمهاتنا. ونحن لا نعلم شيئًا، ثم منحنا نعمة السمع والبصر والعقل المفكر لكي نعبده ونشكره حق شكره، وأتاح لنا رؤية الطير المحلِّقة فى أجواز الهواء ضد الجاذبية الأرضية، وما يحفظها في تحليقها إلا الله الحكيم القدير العليم. 10 - ومن نعم الله العديدة علينا أنه هدانا لاتخاذ البيوت المستقرة، كما هدانا لأن نتخذ البيوت المتنقلة من الخيام المصنوعة من جلود الأنعام. وهيَّأ لنا أن نتخذ من أصوافها

وأوبارها وأشعارها أثاثًا لبيوتنا وملابس تقينا من لفح الحر ولذع البرد، وهدانا إلى اتخاذ الدروع التى تحمينا فى ساحة القتال، ولكن كثيرين منَّا يعرفون هذه النعم وهم لها جاحدون. 11 - وأن الله سبحانه أمر عباده بمراعاة العدل والإحسان وصلة الأرحام، ونهاهم عن ارتكاب الآثام، كما أمرهم سبحانه بالوفاء بالعهود المُبْرمة والأيمان المؤكدة، وألَّا ينقضوا ما أبرموه وألَّا يتخذوا أيمانهم وسيلة للخداع والتمويه وألا يستبدلوا ما عاهدوا عليه الله بعرض زائل ولا ثمن قليل، فإنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى وسيجزى الله عبادهُ المتقين أَجزل الثواب. 12 - وأن على المؤمنين حين يتلون كتاب الله أن يستعيذوا به من وسوسة الشيطان حتى لا يُفْسِد عليهم تلاوتهم أَو يصرفهم عن تدبر آيات الله البينات؛ فإنه لا سلطان للشيطان على المؤمنين المتوكلين على الله، وإنما سلطانه على الموالين له المنصرفين عن عبادة الله. 13 - وأنه إذا أنزل الله آية بدلا من آية كذَّب المشركون رسولهم، وكان عليهم أن يعلموا أن الرسول لا يفترى على الله الكذب، وأنه تلقى وحى الله عن طريق الروح الأمين تثبيتًا لقلوب المؤمنين وهدى وبشرى للمسلمين؛ وأن المشركين يزعمون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن عن طريق غلام أعجمي بمكة، وفاتهم أن هذا الغلام أعجمى لا يكاد يبين وأن القرآن الكريم عربي مبين، وافتراءُ الكذب على الله من شيمة الكذابين الكافرين. 14 - وأن من كفر بالله بعد الإيمان فجزاؤه العذاب الأليم، إِلا من أُكْرِه إكراهًا شديدًا على النطق بالكفر وقلْبُه ممتليءٌ بالإيمان. 15 - وأن النعم تزول بجحودها، وقد ضرب لذلك مثلا بقرية سعدت بأنعم الله فعاشتْ آمنة مطمئنة فلما كفرت أذاقها الله لباس الجوع والحاجة والهوان بسبب كفرها وإنكارها لأنعم الله. 16 - ثم وجه الله عباده إلى أن يطْعموا الحلال وأن يبتعدوا عن الحرام، ونهاهم عن أن يبتدعوا من التحريم والتحليل ما لم يأذن به الله، ونبههم إلى أن من وقع فى الآثام وبادر بالتوبة فإن الله من بعد ذلك لغفور رحيم. 17 - ثم أمر الله رسوله أن يلتزم فى دعوته بالرفق والأناة والموعظة الحسنة وأن يجادل الكُفار بالحسنى، وإذا آذاه المشركون فإنَّ له أَن يقابل إيذاءهم بمثله وله أن يصبر فإن الصبرَ خير عاقبة وأجدى مآلًا فإن الله مع الصابرين المحسنين.

سورة النحل

سورة النحل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)} التفسير 1 - (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ): نزل قضاءُ الله وحكمه بنصر المؤمنين وهزيمة الكفار إِذا أَصروا على الكفر والعصيان، والمقصود أَنه سيأْتى قضاءُ الله في المسقبل، والتعبير عن بالمستقبل بالماضى لأَنَّ وقوعه حتمى مؤكد في الوقت الذي حدَّده الله لوقوعه فكأَنه وقع فعلا، وشبيه هذا قوله تعالى: "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ" (¬1). فإِن المناداة لا تقع إِلاَّ يوم القيامة، والمراد بأَمر الله هنا - كما قال ابن جريح - ما وعد الله رسوله من النصر على الأَعداء. والانتقام منهم بالقتل والسبى والاستيلاء على الديار اهـ. ومن ذلك قوله تعالى: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (¬2). وإِذا كان قضاءُ الله نافذا لا محالة في الوقت الذي قدره الله سبحانه فلا داعى لأَن تستعجلوا وقوعه أَيها المشركون، وقد كانوا يتحدَّوْن الرسول صلى الله عليه وسلم ويستعجلون وقوع العذاب الذي أَنذرهم به. ¬

_ (¬1) الأعراف - 44 (¬2) الروم - 47

(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ): تنزيها للهِ سبحانه وتساميا عن أَن يكون له شريك أَو نظير، يماثله في أَمره كله: "أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (¬1) ". {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} المفردات: (بِالرُّوحِ): المقصود بالروح هنا القرآن الكريم ومنه قوله تعالى: "وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا (¬2) ". أَو القرآن والسنة معا لأَنهما وحيٌ سماوى وإِن افترقا بأَن لفظ القرآن ومعناه أَنزلا من عند الله، أَما السنة فمعناها هو الذي أُنزل من عنده تعالى، وأَما لفظها فهو من تعبير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. (مِنْ أَمْرِهِ): أَي أَن هذا الروح - أَي القرآن - ناشئٌ من أَمره وصادر عنه، ويصح أَن تكون (من) سببيه أَي بسبب أَمره. (أَنْذِرُوا): خوفوا وحذروا. التفسير 2 - (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ): أَي أَنه سبحانه اقتضت حكمته قبل أَن يعاقب خلقه أَن يُرْشِدهمُ إِلى الصواب ويخوفهم العقاب فينزل ملائكته بالوحى السماوى حال كون هذا الوحى ناشئا ومبتدئا من أَمره وحده - ينزله - على من يصطفيهم من خلقه ومهمتهم ما بينه الله في قوله: "أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ" أَي خوِّفوا الناس من مخالفة أَمرى. وبينوا لهم أَنه لا إِله إِلا الله وأَن عليهم أن يعبدوه وحده وأَن يحذروا غضبه وعقابه الشديد الذي يحلُّ بهم إِذا ظلُّوا كافرين عاصين. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف الآية (54) (¬2) سورة الشورى الآية (52)

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)} المفردات: (نُطْفَةٍ): ماءُ الرجل ففيه الحيوانات المنوية، وماءُ المرأَة ففيه البويضة التي تلقح بحيوان من حيوانات مني الرجل، فيحصل الحمل وفقا لمشيئة الله تعالى. (خَصِيمٌ): شديد المخاصمة والمجادلة. (مُبِينٌ): واضح ظاهر. التفسير 3 - (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ): بعد أَن قرّر الله أَن لا إِله إِلا هو ساق الدليل على وحدانيته، بأَنه ابتدع السماوات والأَرض على غير مثال سبق، ونسَّق بينهما أَتمَّ تنسيق، ودفع كلا منهما في فلكه المرسوم، خلق هذا كله مقرونا بالحق، مُتَّسِمًا بِالحكمة السامية في الخلق والتدبير كما قال سبحانه: " {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (¬1). (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ): تنزه الله وتقدس وتسامى عن أَن يكون له شريك في ملكه أَو نطير في خلقه وتدبيره، فإِن هؤلاء الشركاءَ عاجزون عن تدبير أَنفسهم وجلب النفع لهم، أَو دفع التفسير عنهم، فكيف يكونون شركاء لله الواحد القهار، ثم تحدث عن خلق الإِنسان وخاصمته لربه فقال جل ثناؤه: 4 - (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ): وكما خلق الله السماوات والأَرض بالحق خلق الإِنسان في أَبدع تكوين من ماءٍ مهين حيث زوده بالسمع والبصر وأَيده بالعقل المفكر. ولم يكتف بذلك، بل أَرسل إِليه الرسل، ¬

_ (¬1) سورة الدخان الآية: 38، 39

وأَنزل عليه الكتب، وكان مقتضى هذا أَن يقر بوحادنية الله وقدرته، وأَن يبادر بعبادته ولكنه اتخذ هذه المواهب التي أَيده الله بها ليجادل في وحدانية الله ويخاصم الدعاة إِليه إِذ يقول: "مَن يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" (¬1) مع أَنه سبحانه قَوِىٌّ قَهَّارٌ منتقم ممن عصاه، وصدق الله إِذ يقول: "وَهُمْ يُجَادِلُونَ في اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ" (¬2). ويصح أَن يكون المعنى؛ خلق الإِنسان من نطفة فإِذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم بعد أَن كان ماءً حقيرًا لا قيمة له ولا وزن - وهذا المعنى أَنسب بمقام الامتنان بإِعطاء القدرة على الاستدلال على الله تعالى. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)} المفردات: (وَالْأَنْعَامَ): الإِبل والبقر والظأْن والمعز. (ترِيحُونَ): يعيدونها من المراعى إِلى البيوت من الرواح وهي العودة إِلى البيوت آخر النهار. (تَسْرَحُونَ): تطلقون سراحها من الحظائر صباحًا إِلى المراعى الصالحة. (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ): ما يشقُّ عليها ويرهقها ويحملها ما يثقلها من الأَعباء. ¬

_ (¬1) سورة يس من الآية: 78 (¬2) سورة الرعد الآية: 13

التفسير 5 - {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}: أي وكما خلق الله الإنسان خلق له الأنعام وهى الإبل والبقر والمعز والضأن، وجعل له فيها دِفْئًا، حيث يتخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس وأغطية تمنحه الدفء فى الشتاء كما تمنحه الدفء الداخلي بالطعام حيث تمنحه طاقات حرارية حينما يأكل لحومها ودهونها وألبانها، فإن لكل طعام نوعا حراريًّا خاصًّا به يمنحه الله لآكليه، وللإنسان فيها منافع كثيرة كالحرث والرى وغير ذلك من النعم التى تستنبط منها. 6 - {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}: وكما تمنحكم تلك المنافع العظيمة فهي تدخل البهجة والسرور على نفوسكم بجمالها حين تعيدونها من مراعيها مليئة البطون، حافلة الضروع وحين تخرجونها من حظائرها الى المراعي متدافقة متموجة تنساب إليها فى مرح وخفة وحيوية ونشاط متناسقة الأعضاء متسقة التكوين. 7 - {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}: أي ومن نعم الله سبحانه فى منافع الأنعام ولا سيما الإبل. أنها تحملكم وتحمل أمتعتكم الثقيلة من بلد إلى بلد لا تستطيعون الوصول إليه إلا بمشقة وعناءٍ. {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: هذا تعليل لما سبق ذكره من نعم الله على عباده، مؤكد بعدة توكيدات، وفى إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين إظهار لمزيد عنايته سبحانه بخلقه، وعظيم رأفته وواسع رحمته بهم، والرأفة فرع من الرحمة تختص بدفع المكروه وتخفيف ما يشق على عباده، وأما الرحمة فتشمل هذا وغيره من أنواع الفضل والإنعام. 8 - {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}: ومن نعم الله عليكم أنه خلق لكم الخيل والبغال والحمير. وسخرها لكم لتركبوها وتنتفعوا بها في السلم والحرب، كما جعلها زينة لكم وجمالا تلفت الأنظار وتبهج النفوس. {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: وكما خلق لكم الأنعام والدواب يهديكم إلى اختراع وسائل أُخرى للتنقل والحمل لم تكن موجودة في عصر نزول القرآن وما تلاه إلى زمن قريب، مثل

السيارات والقطارات والطائرات والسفن الضخمة التي تسير بالبخار وغيره إِلى غير ذلك من الوسائل التي لم تعرف حتى الآن، وفي هذا الإِعجاز القرآنى ما لا يخفى على الباحثين الدارسين، ولا تزال الكشوف متوالية إِلى ما شاءَ الله بما لم يكن يخطر على بال. {وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} المفردات: (قَصْدُ السَّبِيلِ): مستقيم الطريق. (جَائرٌ): منحرف. التفسير 9 - (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ): أَي وكما أَنعم الله علينا بالنعم الحسِّية الوفيرة تفضل بهدايتنا إِلى الطريق المستقيم الموصل إِليه سبحانه بما أَنزله من الكتب، ومن بعثهم من الرسل، ولو وكلنا إِلى أَنفسنا لضللنا هذا الطريق الذي دعا إِليه جميع الرسل، وهو الذي وصَّانا به سبحانه في القرآن، وباقى الطرق معوج ينحرف عن الحق، وقد نهينا عن سلوكه كما قال تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (¬1). (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ): أَي ولو أَراد سبحانه وتعالى هداية البشر جميعًا بطريق الجبر لهداهم ولكن حكمته السامية اقتضت أَن يختبرنا، ويتركهم لعقولهم واختيارهِم، بعد أَن أَرشدهم إِلى آياته ودعاهم إِلى الحق على أَلسنة رسله "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) الأنعام - 153 (¬2) الأنفال - 42

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} المفردات: (السَّمَاءِ): كل ما ارتفع وعلا، والمقصود هنا السحاب. (فِيهِ تُسِيمُونَ): تبعثون أَنعامكم إِلى المرعى لتسوم في الشجر أَي تأْكل منه. التفسير 10 - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ): استأْنفت الآيات تعداد نعم الله على خلقه فإِنه سبحانه يسلط أَشعة الشمس على البحار والأَنهار فيخرج منها بخار يتحول إِلى سحاب، ويسلط عليه الرياح، فتحمله إِلى حيث يشاءُ الله فينزل منه ماءٌ عذبا يشرب منه الإِنسان والحيوان وينبت به العشب والأَشجار كما قال سبحانه: 11 - (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ): أَي ينبت لكم بالماءِ الذي أنزله من السماءِ أَصنافا مختلفة من النبات بدأَتها الآية الكريمة بالزرع لأَنه أَصل الغذاء وعمود المعاش وبه قوت أَكثر العالم، ثم أَتبعته بذكر الزيتون لأَنه غذاءٌ، ودواءٌ وقدمت النخيل على الأَعناب لأَن فيها غذاء متكاملا وفوائد أُخرى، ولأَنها ينتفع بها زمنًا طويلًا. والمراد بالأَعناب ثمار العنب. ومجيئها بلفظ الجمع لتعدد أَنواعها ومنافعها، ثم ختمت الآية الكريمة ما ذكرته من أَصناف النبات والشجر بقوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ"

للإيذان بأن ما ذكر من قبل إنما هو بعض النعم: وأن خيراته الله وثمرات الشجر تفوت الحصر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: إن فيما سبق بيانه من نعم الله العديدة لآية واضحة. على عظيم قدرته وتفرده بالوحدانية لقوم يتفكرون في آياته الله فيشكرونه على سوابغ نعمه. {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)} المفردات: {ذَرَأَ}.: خلق. {يَذَّكَّرُونَ}: أصلها يتذكرون. أدغمت التاء في الذال بعد قلبها ذالا أي: يتعظون. التفسير 12 - {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: ومن نعم الله الكثيرة كذلك على الإنسان أنه خلق الأرض وهيأها لتدور حول محورها دورانًا نشأ عنه تعاقب الليل والنهار مما أتاح للإنسان السكون والهدوء والراحة في أثناء الليل، ويسّر له العمل والكد والكفاح في أثناء النهار؛ ومن نعمه سبحانه أن سخر الشمس لتمدنا نهارًا بالضوء والحرارة، وسخر القمر ليمدنا بالنور الهادئ المريح ليلا , وجعلهما مراصد للتوقيت الزمنى، ولنعلم بهما مواقيت العبادات وعدد السنين والحساب.

{وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}: أي وكما سخر الله الليل والنهار والشمس والقمر، سَخَّرَ النجوم فهي مسخرات بمشيئته وتمكينه إِياها من أداء ما خلقت لأجله, والنجوم جمع نجم، وقد أطلقه الفلكيون على كل كوكب تشع منه حرارة ذاتية وضوء ذاتي وحوله مجموعة من الكواكب ترتبط به جاذبيةً واستنارةً وحرارةً كشأن الشمس بين كواكبها المرتبطة بها فكل نجم بين مجموعته هو شمس فيها، وجميع النجوم وكواكبها منقادة لإرادة الله تعالى، دائرة في أفلاكها المرسومة وفقًا لحكمته وطبقًا لإرادته. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: إن في تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، لآلات ودلالات بالغة على قدرة الله وحكمته وإبداعه ووحدانيته، لمن استعملوا عقولهم فاهتلوا بها إلى فاطر الأرض والسماوات وآمنوا به وأفردوه بالعبادة والتقديس. 13 - {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}: أي وما خلق لكم في الأرض متعددةً أصنافه مسخر بأمره أيضًا، من حيوان ونبات وجماد، فكل ذلك متنوع الأشكال مختلف الألوان والأصناف متعدد المنافع مسخر لنا لننتفع به كلما أردنا إن في هذا كله لآية عظيمة على قدرة الله وحكمته ورحمته لكل من تذكر وتدبر فاتعظ بما رآه بصره وأدركته حواسه وفقهه عقله. {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} المفردات: {سَخَّرَ الْبَحْرَ}: ذَللَهُ ويسّر الانتفاع به. {مَوَاخِرَ}: جمع ماخر من مخر الماء شقه. {تَمِيدَ}: تضطرب.

التفسير 14 - {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}: وهو الذي سخر لكم البحار بقدرته وحكمته، لكي تستطيعوا اصطياد كائناتها البحرية من الأسماك لتأكلوها طرية أي قبل أن يسرع إليها الفساد وسخرها أيضًا لكي تتزينوا بحليتها، وذلك باستخراج بعض الحلي منها، مثل اللؤلؤ والمرجان والأصداف لاستعمالها في الزينة. {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}. أي وترى السفن تشق سطح الماء تستخدمونها في صيد الأسماك واستخراج الحلي من البحر. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}: أي ولتطلبوا بها منافع أخرى من فضل الله غير ما تقدم، كالتجارة ونقل الحاصلات والبضائع من مرفإ إلى مرفإ ومن قطر إلى قطر, وغير ذلك كالارتحال بها لطلب العلم حيث يوجد العلم والعلماء. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي وأمدكم الله بهذه النعم كلها لكي تشكروه على إحسانه وفضله. وتقدروه حتى قدره. 15 - {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أي ومن نعم الله الكثيرة عليكم أنه جعل في الأرض جبالًا شامخات ثابتات تحفظ اتزانها في دورانها حتى لا تضطرب في حركتها. {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: أَي وجعل في الأرض أنهارا عذبة تجرى مياهها من منابعها إلى مصابها، لتهَيَّئ الري للإنسان والحيوان والنبات، وجعل سبحانه في الأرض طُرُقا كثيرة تنتقلون فيها من مكان إلى مكان للتجارة وجلب الرزق وتبادل المنافع, لكي تهتدوا إلى غاياتكم إذا سلكتموها. 16 - {عَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}: أي وجعل في الأرض علامات لتوضيح الطرق من جبال وأنهار وغير ذلك، كما جعل النجوم في الليل عَلامات واضحة لتحديد الجهات في البحر والبر والجو، فقادة السفن والطائرات ورواد الفضاء يهتدون بالنجم القطبي أو سواه لتحديد مساراتهم واتجاهاتهم للوصول إلى أهدافهم.

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)} التفسير 17 - {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ... } الآية. أي إذا كان الله سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن بما يُعلم وما لا يُعلم وهو الخلاق العظيم فكيف يعبد معه ما لا قدرة له على النفع والضر لنفسه أو لغيره وهو مخلوق لله، وليس له في الخلق أدنى نصيب، أهما بعد هذا التباين متساويان فمن يخلق كل شيء كالذي لا يخلق أقل شيء. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أي أتعرضون عن الحق الذي أيدته الآيات فلا تتعظون بما تسمعون من العظات وبما ترون من الآيات، وقد وهب لكم عقولًا لا تميزون بها الخير من الشر والنفع من الضر فكيف غفلتم عن هذه الحقائق. 18 - {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}: أي وإن تحاولوا أن تعدوا نعم الله التي أنعم بها عليكم فلن تستطيعوا أن تَضبطوا عددها ولا تصل إليه قدرتكم فضلا عن القيام بحق شكرها، فكم له من نعم خافية ونعم ظاهرة ترونها في أنفسكم، وفيما سخره الله لكم من نبات وحيوان وجماد وأمطر وبحار وأَنهار وعيون وآبار وغير ذلك من نعم الله التي سخرها لمنفعة عباده، وصدق الله حيث يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}.

وقد ختم الله هذه الآية بنعمة كبرى تفوق كل نعمة حيث قال جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: فبشرهم بنعمة الغفران والرحمة ليبذلوا ما في وسعهم لشكر نعمه ويحرصوا على طاعته قدر طاقتهم، ولا ييئسوا من رحمته إِذا ما قصروا في طاعته ما داموا مؤمنين بربهم مصدقين برسالة نبيهم تائبين من ذنوبهم. ثم عقب الله هذه الآية بما يفيد التحذير من الغلو في العصيان طمعا في غفران الله، وبما يطمئن أهل التقوى على طاعتهم سِرِّها وجهرها فقال سبحانه: 19 - {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}: أي والله سبحانه يعلم حق العلم ما تخفيه السرائر وما تبديه الجوارح، فيثيب المحسن ويعاقب المسىء ويغفر للمستغفر، وصدق الله حيث يقول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)} المفردات: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: المراد بهم الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله. التفسير 20 - {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية. أَي وكل الذين يعبدهم المشركون من دون الله من إنسان وأصنام وغيرها عاجزة عن أن تخلق أي شيء وإن كان حقيرًا، فإنها مخلوقة وليست بخالقة عاجزة وليست بقادرة، فكيف يعبدونها من دون الخلاق العظيم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 284

21 - {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي أن هذه المعبودات أموات فكيف عبدوها، فهي إما صخورٌ صماءٌ جامدة ليست فيها حياة وإما أحياء، لكنهم في حكم الأموات، وهم لهذا لا يشعرون متى يبعثون، والله سبحانه سيبعث هذه المعبودات الباطلة وعابديها ويخرجهم يوم القيامة للمحاجة فنتبرأ المعبودات من عابديها ثم يقذف بها وبعابديها في النار كما قال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (¬1). أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم شهداء على أقوامهم الذين عبدوهم بغير حق كما فعل أصحاب عيسى من بعده عليه السلام، حيث عبدوه واتخذوه إلهًا. {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} المفردات: {لَا جَرَمَ}: لا بد ولا محالة - أو حقًّا. التفسير 22 - {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: هذه الجملة تعتبر كالنتيجة للأدلة السابقة، فكأنه قال: قد ثبت بما تقدم بطلان أُلوهية غيره تعالى، وتحققت الألوهية لله وحده، فإلهكم إله واحد لا شريك له, ولكن المشركين لا تقنعهم البراهين، فهم كل باطلهم مقيمون فلهذا قال سبحانه: {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}: فالذين لا يصدقون بالحياة الآخيرة وما فيها من عقاب خالد على الشرك، قلوبهم منكرة وحدانية الله تعالى التي ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء , الآية: 98

قال عليها البراهين، لعدم خوفهم من العقاب في شركهم، وهم لهذا مستكبرون عن قبول الحق والاستماع إلى رسوله الأمين، والنظر فيما يقدمه لهم من الآيات والبراهين، ولهذا كان لا بد من وعيد الله لهم بقوله: 23 - {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}: أي لا محالة أن الله تعالى يعلم ما يخفونه في أَنفسهم من الشرك وسوء الطوية وجميع معاصيهم وأسرارهم، كما يعلم ما يعلنونه من ذلك فلا تخفى عليه منهم خافية، فلابد من عقابهم على شركهم ومعاصيهم، فإن الله تعالى لا يحب المستكبرين عن الحق، المتعالين عن أدلته وبراهينه ولا يدخلهم جنته، أخرج مسلم عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَدخُلِ الجنة من كَانَ في قَلبِهِ مثقال ذَرَّةٍ مِنْ كبرٍ". {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} المفردات: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أباطيلهم التي سطروها؛ جمع أُسطورة. {أَوْزَارَهُمْ}: أثقالهم والمراد منها؛ آثامهم. التفسير 24 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: كان الوافدون على مكة للحج أو غير يسألون كفار مكة عن هذا النبي الذي ظهر بينهم، ورأيهم فيه وفيما أنزل

عليه، فكان هؤلاء المشركون يسيئون في إِجابتهم لينفروهم منه، ويبعدهم عن الاستماع إليه، وذلك ما حكاه الله في هذه الآية. والمعنى: وإِذا سئل هؤلاء المشركون المتكبرون عما أنزله الله من الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - زعموا أنه حكايات ملفقة سطرها القدماءُ، وزعم محمد أنها أُنزلت عليه من الله تعالى، وكما حكى الله هذه الفرية عن المشركين هنا، حكاها عنهم في قوله في سورة الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. 25 - {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: أي أن هؤلاء المستكبرين قالوا لمن يسألهم عما أُنزل من الحق على محمد: هذا أساطير الأولين وأباطيلهم، لتكون عاقبتهم أن يحملوا آثامهم كلها، ومنها هذا الذي اقترفوه في التنفير في الحق، ويحملوا أيضًا بعض آثام من أضلوهم وأبعدوهم عن الإِسلام بما افتروه على القرآن الكريم، وهو إثم الإضلال، فهما شريكان في الإثم، هذا يضله، وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر. والمراد من قوله تعالى: {يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: أنهم يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعونهم إليه هو طريق الضلال، وفائدة التقييد بقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذى لب وإنما يتبعهم الأغبياء والجهلة، والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذرا إن كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المُحِقّ الجدير بالاتباع وبين المبطل، أخرج مسلم وغيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "مَنْ سَنَّ سنةً حَسنة كَانَ لَهُ أجْرُهَا وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أجْره شَيء, وَمَنْ سَن سُنة سيئَةَ كاَن عليْهِ وِزرهَا وَوزِرُ مَن عَمِلَ بهَا - .. " الخ. {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}: أي ألا بئس ما يحملونه من آثامهم وآثام من اتبعوهم في الكفر والضلال.

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)} المفردات: {مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: أي كادُوا لِرُسُلِهِم يُرِيدون الإيقاع بهم. {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}: أي فآتي أمر الله بنيانهم من أُسُسِه. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ}: أي سقط عليهم سقف بنيانهم. {يُخْزِيهِمْ}: يُذِلهم بعذاب الخزى. {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}: هم الأنبياء والمؤمنون. التفسير 26 - {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}: بعد أن حكى الله تعالى عن قريش قولهم عن القرآن {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وبين أنهم سوف يحملون يوم القيامة ذنوبهم وذنوب من يضلونهم، جاءت هذه الآية وما بعدها لتبين أنهم قد سبقهم مَنْ قبلهم بالكفر بالله وتكذيب رسلهم، وكانت عاقبتهم في الدنيا الهلاك وفي الآخرة الخزى والعذاب، وأن عليهم أَن يحذروا مثل مصيرهم. والمعنى: قد تآمر الذين من قبل قريش على رسلهم، فدبروا لهم المكايد ليهلكوهم أو ليقضوا علي الحق الإلهي الذي جاءوا به أممهم، فأحبط الله كيدهم، وسقط عليهم بنيان المؤامرة التي دبروها، دون أن ينال الرسل منها كريهة.

شبهت حال الماكرين برسلهم في تدبير مكايدهم التي أرادوا بها الإيقاع برسل الله وفي إبطال الله تعالى تلك الحيل والمكايد, وجعلها أسبابًا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانا، وعمدوه بالأساطين، فأُتِيَ ذلك البنيان من قبل أساطينه، بأن تداعت فسقط عليهم السقف من فوقهم فهلكوا. {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}: أي أتاهم الهلاك والدمار من جهة بنيانهم الذي أقاموه ضد الرسل، وقد كانوا يظنون أنه محكم بحيث لا يأتيهم من جهته ما يؤذيهم، فخيب الله ظنهم وجعله سبب هلاكهم في دنياهم. وكذلك أنتم يا أهل مكة، أحكمتم أمركم ضد القرآن العظيم، وقلتم فيه ما قلتم ومن جملته أنه أساطير الأولين، فسيأتيكم العذاب في الدنيا من حيث لا تحتسبون كما فعل الله بمن قبلكم، إن ظللتم على كفركم. 27 - {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}: أي ثم يوم قيام الناس من قبورهم لحساب ربهم يذل الله المشركين بعذاب الخزى على رءوس الأشهاد، ويقول لهم تفضيحا وتوبيخا: أين شركائى في الألوهية الذين كنتم تخاصمون الأنبياء والمؤمنين في شأنهم، فاستحضروهم ليشفعوا لكم أو لينقذوكم إن كنتم صادقين في مزاعمكم نحوهم، وهيهات أن يجدوهم شافعين أو منفذين بل لائمين مكذبين. {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي قال الذين أوتوا العلم من أهل الموقف وهم الأنبياء والمؤمنون اللذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد ويقيمون لهم أدلته - قالوا لهم - شماتة بهم وتحقيقا لما توعدوهم به: إن الفضيحة والذل والهوان اليوم علي الكافرين بالله ورسله وآياته.

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)} المفردات: {أَلْقَوُا السَّلَمَ}: أظهروا المسالمة والانقياد والإذعان. {مَثْوَى}: مستقر ومكان إقامة. التفسير 28 - {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}: تسوق هذه الآية مشهدا من مشاهد النهاية لحياة الظالمين المصرين على الكفر، وهو أن ملائكة العذاب حين تقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم بالكفر والعصيان، يستسلمون زاعمين أنهم لم يرتكبوا إِثما في حياتهم وأنهم ما كانوا يعملون السوء، فترد عليهم الملائكة قائلة: {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي نعم قد عملتم السوء؛ إن الله سبحانه واسع العلم، محيط بكل ما كنتم تعملونه قبل وفاتكم، فكيف تكذبون على من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ومن {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}. (¬1) ¬

_ (¬1) سورة غافر الآية: 19

29 - {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}: أي فادخلوا جهنم من أبوابها السبعة التي أعدت للكفار والعصاة، لتبقوا فيها خالدين لا تبرحونها أبدا. {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: أي فما أسْوأ المقرَّ الذي أَعده الله للمتكبرين في جهنم. والمراد من المتكبرين هنا من ترفعوا عن عباده الله والاستجابة للرسل، وآثروا الكفر على الإيمان والعصيان على الانقياد والشرك على التوحيد. {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} المفردات: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: بساتين إقامة من عدن بالمكان أقام به. {طَيِّبِينَ}: صالحين. {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ}: وأمان لكم. التفسير 30 - {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ... }. بينت الآيات السابقة حال الأشقياء الذين أشركوا بالله وكذبوا رسله. وقالوا عن القرآن لما سئلوا عنه: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فكان جزاؤهم جهنم خالدين فيها، ثم تلتها هذه الآيات لبيان حال السعداء الذين أحسنوا القول لسائليهم والعمل لربهم. فأجزل لهم ربهم

خيرى الدنيا والآخرة. وهؤلاء يقول فيهم سبحانه: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): أي وقال القادمون على مكة للسؤال عمَّا أنزَله الله على النبي الذي سمعوا بمبعثه -قالوا- للمتقين من المؤمنين: (ماذا أنْزَلَ ربُّكم؟): أى ما الذى أنزله ربكم على رسوله: (قَالُوا خَيرًا): أي قالوا لهم: أنزل خيرًا كثيرًا وهو القرآن ففيه الخير كله، فهو رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به، وهم فى جوابهم هذا يخالفون الكفار. حيث أنكروا إنزاله بما أجابوا به بقولهم: "أساطِيرُ الأوَّلِينَ". روى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام موسم الحج من يأتيهم بخبر النبي عليه السلام. فقد نقل عن السُّدى قال: اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله. فانظروا أُناسًا من أشرافكم. فابعثوهم فى كل طريق من طرق مكة. فمن جاء يريده ردوه عنه. فكان إذا أقبل الرجل وافدًا لقومه ينظر ما يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - فينزل بهم. فيكفونه عنه، ويأمرونه بالانصراف. قائلين له: إِن لم تلقه كان خيرًا لك. لأَنه رجل لم يتبعه على أمره إلا السفهاءُ والعبيد ومن لا خير فيهم، أما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقوه، فإذا كان الوافد ممن أراد الله لهم الرشاد. وقالوا له مثل ما قالوا لغيره أَجابهم بقوله: أنا شرُّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه. فيلقى أَصحاب محمه رضي الله عنهم فيسَألهم فيخبرونه بحقيقة الحال: اهـ. وعلى هذا فالسائلون هم الوافدون. والمجيبون هم المؤمئون: ويجوز أَن يكون السائلون والمسئولون من المؤْمنين، حيث يسأل بعضهم بعضًا. ليقوى إيمانه. وليشعر بلذة الجواب الذى يعلمه. ويرغب فى سماعه، وقد يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه التلاعب والتهكم. ثم أَخبر سبحانه عما أَعدَّه الله لعباده المتقين من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}: أي للذين أحسنوا القول والعمل فى الدنيا حسنة جزاءَ إحسانهم ينالونها فى الدنيا، والمراد بها النصْر والفتْح والمدحُ والثناءُ وغير ذلك من المكرمات.

{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ}: أى مثوبتها خير وأعظم مما أُوتوه فى الدنيا من مثوبة لأنها إلى بقاءٍ. وكل ما فى الدنيا إلى فناءٍ، ولأن نعيمها لا يعدله نعيم آخر. ولهذا ختم الآية بمدحها بقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}: أى دار الآخرة، واعلم أن قوله سبحانه: "للذين أَحسنوا فى هذه الدنيا حسنة .. " الآية -إما أنه مستأنف للثناء على من أجابوا السائلين بأنه تعالى أنزل خيرًا، حيث وصفهم بأنهم أحسنوا فى هذه الدنيا إحسانًا مطلقًا، وعدَّ جوابهم عما سئلوا عنه من جملة إحسانهم، ووعدهم عليه الجزاءَ الأوفى. وإمَّا أن يكون هذا القول الكريم تفسيرا منهم لقولهم: "خيرًا" أى قالوا أنزل خيرًا. ذلك الخير الذى قالوه هو للذين أَحسنوا إلخ. قالوه ترغيبًا للسائل وإخبارًا عما وعد الله به عباده فيما أنزله على رسله. 31 - {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ... }: أى إن الدار التى وعد بها المتقون هى جنات إقامة واستقرار لا يخرجون منها باختيارهم ولا يخرجهم منها أَحد. وهذه الجنات تجرى من تحت أشجارها وبين قصورها الأنهار. إتمامًا لبهَائها وجمالها وكمال الابتهاج بها. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ}: أَى لأهل الجنة دون سواهم من أنواع المشتهيات التى تميل إليها نفوسهم وتركب فيها طباعُهم فتتمناها. {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}: أي مثل ذلك الجزاء العظيم يجزى الله كل من اتقاه وابتعد عن الشرك وتجنب المعاصى والآثام. فلا يختص به أحد دون آخر. وفي هذا الوعد الكريم إشارة إلى تحسير الكفار. وتحزينهم على ما كان منهم. حينما سئلوا عما أنزل ربهم إذ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} حيث حرموا هذا الثواب الجزيل الذى حصل عليه المتقون بحُسن إيمانهم وصادق جوابهم للسائلين. 32 - {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ... }: هذا بيان لحال المتقين عند الاحتضار أي هم الذين تتوفاهم الملائكة طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصى، ومن كل سوءٍ، ووصفوا بذلك للإيذان بأن التقوى لا تتحقق إلا بالطهارة عما ذكر إلى وقت الوفاة، حثًّا لهم على التسمك والاستمرار، ولغيرهم على التحصيل والعمل، وقيل: هو كلام مستأنف

معناه: الذين تتوفاهم الملائكة فرحين طيبي النفوس بما يسمعونه من بشارتهم لهم بالجنة. تلك البشارة التي يحكيها قوله سبحانه: {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ}: أي يقول الملائكة لهم مطمئنين: سلام عليكم وأمان لكم أو تحية لكم من الله. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}: أي أبشروا بدخول الجنة التي أعدها الله لكم ووعدكم نعيمها بعد البعث، فالمراد بالدخول هنا هو دخول أهل الجنة فيها حقيقة يوم القيامة، الأمر به قبل وقته بشارة بتحقيق وقوعه في وقته بعد البعث. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي ادخلوا الجنة بسبب ما وفقكم الله له من ثباتكم على التقوى وتمسككم بالطاعة والاستقامة على عمل الصالحات. ولا تعارض بين هذه الآية وحديث "لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ أحَدُكُم بِعَمَلِهِ" لأن المراد في الحديث أن العمل لا يساوى دخول الجنة، ولا يصلح بذاته أن يكون مقابلًا للجنة، فإن الله تعالى هو الذي أقدرنا على العمل الصالح، فإن كافأنا عليه فذلك محض فضل من الله تعالى، وأما الآية فقد أفادت أنه تعالى نفضل فجعل العمل سببًا شرعيا لدخول الجنة, ولولا ذلك لما استحق أحد بعمله هذا الثواب العظيم.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)} المفردات: {أَمْرُ رَبِّكَ}: المراد به يوم القيامة أو العذاب الدنيوى. {وَحَاقَ بِهِمْ}: وأحاط بهم، وخصَّ لاستعمال لفظ حاق بالإحاطة في الشر، بعد أن كان في أصل معناه للإحاطة مطلقًا. {يَسْتَهْزِئُونَ}: يسخرون. التفسير 33 - {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ... }: أي ما ينتظر هؤُلاء الكفار بعنادهم إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم بالشرك وعمل الشر، أو ما ينتظرون إلا أَن تنزل الملائكة عليهم للشهادة بصدق نبوتك. {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}: المراد بأمره تعالى العذاب الدنيوي المستأصل لهم جميعا كالزلزلة. والخسف، والريح الصرصر ونحوها، وفي التعبير برب مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. إظهار لكمال العناية به والرعاية له. {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: أي مثل ما فعل هؤلاه من الشرك والتكذيب فعل الذين سبقوهم مع أنبيائهم. فعاقبهم الله على فعلهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما يشير إِليه قوله سبحانه:

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}: فيما أَنزل بهم من العذاب. لأنه سبحانه أعذر إليهم، وأقام عليهم حججه. بِإرسال رسله، وإنزال كتبه. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: حيث عرضوها للعذاب بمخالفة الرسل، والتكذيب بما جاءُوا به، أي أن الله لم يظلمهم بتعذيبهم. ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم لمباشرتهم السيئات الموجبة لعقوبتهم. وذلك ظلم بين منهم لأنفسهم. 34 - {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا}: معطوف على قوله سبحانه: {فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا. والمعنى أن الله جل شأنه أنزل بالأمم السابقة أجزية أعمالهم السيئة التي اقترفوها وتمسكوا بها، وتسمية الأجزية سيئات للمشاكلة كما في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1). أو لأنها مسببة عن أعمالهم السيئة، فسميت باسم سببها إيذانًا بفظاعته، وإشارة إلى بالغ قبحه، ويجوز أن يكون المعنى: فأصابهم جزاءُ سيئات ما عملوا. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: أي وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به ويسخرون منه كلما توعدتهم به رسلهم إِن استمروا على كفرهم, وعبر بالحيق الذي خصه الاستعمال اللغوي بإحاطة الشر، للإيذان بأن العذاب لم يقتصر على مجرد إصابتهم، بل شملهم وعمهم، أو المعنى وأحاط بهم جزاءُ استهزائهم برسولهم أو به وبغيره. ¬

_ (¬1) سورة الشورى من الآية - 40 - .

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} المفردات: {مِنْ دُونِهِ}: من غيره. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ}: أي فما عليهم. {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أي التبليغ الواضح أو الذي يبين الحق من الباطل. التفسير 35 - {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا}: شروع في بيان فن آخر من كفر أهل مكة، وهو اقتناعهم مما هم فيه من شرك وضلال واحتجاجهم لصحته بأنه تعالى شاءه لهم ودفعهم إليه، يريدون من قولهم هذا تبرير عدم الاستجابة لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الإيمان بما جاءهم به، والتعبير عنهم بالذين أشركوا، لتقريعهم على الشرك وبيان أنه سبب الداء، وقمة البلاء. والمعنى: وقال مشركو مكة للرسول محتجين لما هم عليه من الشرك: لو شاء الله عدم عبادتنا لشيء غيره لما وقع منا انحراف ومخالفة لمشيئته، ولأخلصْنا العبادة له وحده. فلم نشرك نحن ولا آباؤنا الذين نهتدي بهم، ونتمسك بالاقتداء بآثارهم في كل أمورنا. {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مِما ابتدعوا تحريمه (¬1) واخترعوه من تلقاء أنفسهم وغرضهم من قولهم ذلك. تكذيب الرسول والطعن في الرسالة رأسًا بما حاصله أن ماشاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئًا، ونحل ما أحله، ولا نحرم شيئا ¬

_ (¬1) تقدم بيان هذه المحرمات التي حرموها علي أنفسهم في الآيتين 138 - 139 من سورة الأنعام.

مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى، لكان الأمر وفق مشيئته من التوحيد ونفى الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء مما حرمنا، وحيث لم يتحقق هذا. ثبت أنه جل شأنه لم يشأ شيئًا مما ذكر. بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما تقوله الرسل هو من تلقاء أنفسهم. فرد عليهم سبحانه بقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: أي سئل هذا التكذيب والاستهزاء الشنيع بالرسل وادعاء أن شركهم رضيه الله وشاءه لهم - مثل ذلك كله اقترفه الذين سبقوهم من الأمم المسابقة. فأشركوا بالله، وحرموا ما أحله، وجادلوا رسلهم بالباطل، ليدحضوا به الحق، وأعرضوا عما يدعونهم إليه استخفافًا بهم فأهلكوا. وقد أنكر الله عليهم مجابهتهم للرسل، وتماديهم في عنادهم، وبين أن المرسلين ليسوا مسئولين عن كفرهم بعد أن بلغوهم شريعة ربهم بوضوح وإخلاص فقال سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أي ليس من شأنهم إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحًا. لإظهار طريق الحق وإبانة أحكام الوحى: بما ينبئ أن مشيئته جل شأنه. إنما تتعلق بهداية من صرف قدرته واختياره إلى تحقيق الحق، وفعل الطاعة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1). وهي تتعلق كذلك بإشراك الذين اتجهوا إلى اقتراف الشرك والعصيان، وفق علمه تعالى بطبيعتهم ومباشرتهم الاختيارية لما عملوا. فالله سبحانه إنما شاء شركهم لأنه علم أزلا أنهم لا يؤمنون باختيارهم وسوء تصرفهم، وأما إلجاؤهم إلى الإيمان. فليس ذلك من وظيفة الرسل التي بعثوا بها إلى أممهم، ولا من الحكمة التي يدور عليها التكليف. لأن شأنهم تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها وإجراء موجبها على الناس قسْرًا والجاءً، وإنما المسئولية على الكفار أنفسهم، ولا تنفعهم معاذيرهم الواهنة، ومنها قولهم إنما أشركوا بمشيئة ربهم، فإنه تعالى يقول: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت من الآية رقم (69).

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} المفردات: {الطَّاغُوتَ}: كل ما عبد من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع. التفسير 36 - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}: في الآية تأكيد للرد السابق على المشركين الذين أنكروا أنهم على باطل، بدعوى أن ما هم عليه من الشرك وقع وفق مشيئة الله تبارك وتعالى، حسب ما جاء في النص الكريم حكايته عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. والمعنى: ولقد بعثنا في كل أمة من الأمم السابقة رسولًا خاصا بهم يبلغهم معالم الهدى، ويرشدهم إلى قواعد النظر، ويمدهم بأدلة يدركها السمع والبصر. قائلا لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة سواه كالشيطان والأوثان والكهان وكل داع إلى الضلال, ولما بلغوا ما بعثهم الله به من الأمر بعبادته وحده. واجتناب ما عداه. تفرقت أممهم. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}: أَي أرشده إلى الحق الذي هو دينه، وجنبه الطاغوت بعد أن اتجه العبد إلى ربه، يبتغى منه التوفيق والهداية إلى انتهاج هذا الطريق القويم.

{ومنهم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}: أي لزمته بالقضاء عليه بالكفر إلى موته. لعناده وإصراره على ما اختاره لنفسه من التمسك بالضلال مع وضوح الأدلة الداعية إلى الحق الأبلج. ولم يكن وقوع ذلك عن طريق من طرق القسر والإلجاء كما زعموا. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: أي فسيروا في أكناف الأرض وأنحائها. أيها المشركون المكذبون الذين قلتم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. فانظروا معتبرين بما حدث للمكذبين قبلكم من عاد وثمود ومن سلك طريقهم، فإنكم ستشاهدون في ديارهم آثار الهلاك المبيد، والعذاب المستأصل، فاحذروا أَن يحل بكم مثل ما حلّ بهم، وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلال عليهم، من غير إخبار بحلول العذاب بهم, لأن في أمرهم بالرؤية والمشاهدة لآثار العذاب لمن قبلهم من المكذبين ما يغني عن ذكر حلوله بهم. {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} المفردات: {تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}: تجتهد في طلب هداهم. التفسير 37 - {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بأن من سبقت له الضلالة بسوء اختياره، وإفساده استعداده. لا يهديه الله مهما بذلت من جهد في تقويمه، وقدمت من نصح لإشاده بعد أن أضله وفق علمه بسوء اختياره. والمعنى: إن تحرص أيها الرسول على هدى قومك فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبرًا وقسرًا فيمن وجبت له الضلالة بسوء اختياره.

{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: يدفعون عنهم العذاب يوم القيامة، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ودع أمرهم لربك, فهو أَعلم بحالهم وما ينبغي لهم. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} المفردات: {جَهْدَ}: الوسع والطاقة وهو بفتح الجيم وضمها: من جهد نفسه في الأمر. بذل أقصى جهدها وطاقتها فيه، وبابه نفع. وجهد الأيمان؛ المبالغة فيها أو في تقويتها. التفسير 38 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}: شروع في بيان فن آخر من أباطيل أهل مكة والتعجيب من صفتهم، فقد ذكر الله تعالى أنهم أقسموا بالله. وبالغوا في تأكيد أيمانهم وتغليظها. بأنه سبحانه لا يبعث مَن يموت، وهذا منهم اضطراب وسوء إدراك فإنهم معترفون بأنه تعالى خالق السماوات والأرض وما فيهن، فكيف ينكرون أن يبعث من في القبور تحقيقًا للعدالة بين عباده، بأن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولهذا رد عليهم سبحانه ردًا بليغًا بقوله تعالى: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: أي بلى يبعثهم، وقد وعد الله بذلك وعدًا ثابتا, لابد من إنجازه؛ لأنه أخذ على نفسه العهد بوقوعه، ولن يخلف الله وعده.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: أي ولكن أكثر الناس يجهلون أنهم مبعوثون لجهلهم بشئون الله من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز، ولعدم وقوفهم على سر التكوين، وعلى أن البعث حق لتحقيق العدل حين الجزاء، فلجهلهم بكل هذا وإعراضهم عن الإدراك والانتفاع بالتوجيه والنصح أنكروه وبالغوا في إنكاره وكذبوا الرسل في إخبارهم به. ويجوز أن يكون قوله: {لَا يَعْلَمُونَ} للإيذان بأن ما عند أكثرهم بمعزل عن العلم المعتد به، وإنما هو توهم صرف، وجهل محض، وعلى هذا يكون لفظ {يَعْلَمُونَ} منزلا منزلة الفعل اللازم لم يراع فيه تعلقه بمفعول أصلا. 38 - {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ... }: أي يبعث الله الأموات مؤمنهم وكافرهم يوم القيامة، ليبين لهم بذلك حقيقة الحال، بما يحصل لهم من مشاهدة حقائق الأمور كما هي، ومعاينتها بصورها الحقيقية. فيصل بذلك علم المؤمنين إلى عين اليقين، ويتضح للمكذبين الجاحدين الحق الشامل لجميع ما خالفوه وأعرضوا عنه. بما جاء به الرسل الذين بعثوا إليهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: بالبعث وأقسموا على إنكاره وكفروا بالله سبحانه بالإشراك وتكذيب وعده الحق. {أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}: في كل أقوالهم عن الله ورسله من أَكاذيب ومن جملة ذلك قولهم: "لا يبعث الله من يموت". وجعلت غاية البعث هنا ما ذكر من بيان ما اختلفوا فيه وعلمهم أنهم كانوا كاذبين في إنكاره؛ لأن النص الكريم في معرض الرد علي المنكرين له، وإلا فالمقصود الأصلي من البعث باعتبار ذاته إنما هوالجزاء، وقد تكرر ذكره في مواضع أخر ....

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} التفسير 40 - {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ ... } الآية. استئناف لبيان أن بعث العباد يوم القيامة، ليس بعسير على الله تعالى حتى يستبعده الكفار وذلك لسهولة التكوين عليه بدءا، والإعادة عليه غاية: والمعنى: ما قولنا لشيء إذا تعلقت بإيجاده إرادتنا إلا {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: أي أن نقول تبليغا له: {كُنْ} فإذا قلنا له ذلك فهو يكون. وهو تمثهل لسهولة تأتي المقدورات لله تعالى حسبما تتعلق بها مشيئته، وتصوير لسرعة إيجادها والمقصود أنه تعالى عند تعلق مشيئته بإيجاد شيء أوجده بقدرته في أسرع ما يكون، فلا يمتنع عليه إيجاده عند إرادته له. كما لا يمتنع المأمور الممتثل عند أمر الآمر المطاع، وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون. فإنه تعالى ليس بحاجة إلى ذلك، كما أن المعدوم الذي يريد الله إيجاده لا يعقل خطابه؛ لأن الخطاب يكون للموجود دون المعدوم وإذا كان كل مقدور لله تعالى يتحقق بهذه السهولة والسرعة. فكيف يمتنع عليه البعث كما يدعي المنكرون الضالون مع أنه بعض مقدوراته سبحانه ..

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} المفردات: (الهِجرةُ): بكسر الهاء وضمها: الخروج من أرض إلى أخرى، والهجرة إذا أطلقت انصرفت إلى هجرة المسلمين إلى المدينة قبل الفتح ما لم تدل قرينة علي خلافه كما سيأتي في بيان سبب النزول {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}: لننزلنهم، يقال بوَّأه منزلا وفيه أنزله. كأباءه. التفسير 41 - {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ... }: هذه الآية قيل إنها نزلت في المهاجرين إلى الحبشة من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين اشتد بهم أذى المشركين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج إلى الحبشة فرارا بدينهم، وقد نقل عن ابن عباس أنها نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وأبي جندل وغيرهم، أخذهم المشركون بعد هجرة النبي إلى المدينة فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإِسلام، فأما صهيب فقال أنا رجل كبير. إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم. فافتدى منهم بماله. وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال: ربح البيع يا صهيب، وهذا يفيد أنها نزلت بالمدينة، والصحيح في سبب النزول هو الأول لأن السورة مكية عدا ثلاث آيات في آخرها، ومعنى الآية على هذا: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة من وطنهم مكة وتركوا أموالهم، وأهليهم وكل عزيز عليهم في سبيل الله، لنصرة دينه والحفاظ عليه ابتغاء وجهه والتماس رضاه، وكانت هجرتهم بعد أن حل بهم من الظلم أقساه، ومن التعذيب والتنكيل ما يتجاوز الاحتمال. هؤُلاء المهاجرون المظلومون. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}: أي لنبوئنهم مباءة حسنة. والمراد بها المدينة أو لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة بما استولوا عليه من فتوح صارت لهم فيها ولايات.

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ}: أي ولأجر دار الآخرة أكبر مما وعدوه من أجر الدنيا، وكان عمر رضي الله عنه إذا أعطى رجلًا من المهاجرين عطاء قال له: خذ بارك الله تعالى لك فيه. هذا بعض ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل، ثم تلا الآية. والضمير في قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: إن كان لكفار مكة فالمعنى، لو علموا ما ادخره الله لهؤُلاء المهاجرين من خيرى الدنيا والآخرة لبادروا إلى الإيمان ولوافقوهم في الدين، وإن كان للمهاجرين فالمعنى؛ لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد والصبر كل الابتلاء. 42 - {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: أي أَصحاب هذى البشرى هم الذين صبروا على إيذاء المشركين لهم، وفراق أهليهم وأموالهم ووطنهم وبيوتهم، وعلى ربهم يتوكلون ويعتمدون ولهذا حقق لهم من فضله ما بشرهم به. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} المفردات: {بِالْبَيِّنَاتِ}: بالحجج والبراهين الواضحات، والمراد بها: المعجزات. {وَالزُّبُرِ}: جمع زبور وهو الكتاب، تقول العرب. زبرْتُ الكتاب, أي كتبْتُه. والمراد بالزبُر, الكتبُ السابقةُ. 43 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا ... }: نزل النص الكريم للرد على مشركي مكة - حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. فهلا بعث إِلينا ملكا فقال سبحانه إبطالا لقولهم:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}: أَى جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بألا يبعث الله للدعوة إلى دينه، إلا رجالاً يوحى إليهم بوساطة الملك الذي يحمل إليهم أوامر الله ونواهيه لتبليغها إِلى أُممهم، وتلك الأُمم حسب طبيعتها الآدمية لا تستطيع معاينة الملك على صورته الأصلية، فإنهم يهلكون إِن جاءهم بها، فلا بد من أن يكون بصورة رجل لكي يحتملوا لقاءه، ولكنه في هذه الحالة يلتبس عليهم الأمر فيظنونه بشرًا كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} (¬1)، ولمَّا كان المقصود من خطاب الله لرسوله هو تنبيه الكفار إلى مضمونه. صرف الخطاب إِليهم حيث قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}: أى فاسألوا أهل الكتاب الذين أَسلموا كما قال سفيان، أو المراد أهل الكتاب مؤْمنهم وكافرهم. لأن من لم يؤْمن منهم معترف بأن الرسل كانوا بشرا. أو المراد علماءُ وأَحبار الأُمم السابقة الذين يجيدون ذكرها وحفظها. {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: أن جميع الأنبياء كانوا رجالا فاسألوهم ليعلموكم ذلك. 44 - {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}: البينات: الحجج، والزبر: الكتب؛ جمع زبور وهو الكتاب أى أرسلنا الأنبياء بالحجج الواضحة، والبراهين الساطعة المؤيدة لهم، الدالة على صدقهم، وأرسلناهم بالكتب المنزلة عليهم بيانا للشرائع والتكاليف. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ}: أى القرآن وهو مأخوذ من التذكير أي الوعظ والإيقاظ من الغفلة. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}: من ربهم في هذا الكتاب من العقائد والأحكام والأخلاق بقولك وفعلك. لعلمك بمعنى ما أُنزل إليك، وحرصك عليه. واتباعك له. فتفصل لهم ما أُجمل، وتبين ما أَشكل بيانًا شافيًا، وبنحو هذا المعنى قال مجاهد، فقد نقل عنه أن المراد بهذا التبيين شرح ما أُشكل، وتفسير ما أُجمل إذ هما المحتاجان للتبيين، وأما النص في معناه والظاهر فلا يحتاجان إليه: اهـ نقلا عن الألوسي. وبالجملة فالمعنى أَنزلنا اليك القرآن لتبين للناس ما خفى عليهم من أسراره وعلومه التي لا تكاد تحصى. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 9.

{وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}: أي رغبة في أن يتأملوا فينتبهوا للحقائق. ليكون ذلك داعيًا لهم إلى الاحتراز عما أصاب السابقين من العذاب، ودافعا إلى الاهتداء ليفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} المفردات: {مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ}: أي عملوا السيئات بمكر وخبث. {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ}: أي يشق بهم الأرض فيهلكوا في جوفها، يقال: خسف المكانُ أي ذهب في الأرض، وخسفه الله أي شقه وخسفه بفلان أي شق المكان وغيب الشخص بداخله، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}. وبالجملة فهو لازم ومتعد {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}: أي يهلكهم في حركتهم إقبالا وإدبارا، مقيمين أو مسافرين. {عَلَى تَخَوُّفٍ}: على مخافة وحذر من الهلاك، أَو على تنقص في أنفسهم وموارد رزقهم إلى أن يهلكوا جميعًا. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي وما هم بممتنعين علينا بقوتهم أو بالهرب فرارا من بأسنا. التفسير 45 - {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ... }: هذا وعيد للمشركين من أهل مكة الذين احتالوا بالسيئات في إبطال الإِسلام، فمكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث دبروا في خفاء كل أسباب الإيذاء له ولأصحابه الذين آمنوا معه واتبعوه، وهو وعيد عام لكل ماكر، والاستفهام للإنكار، ومعناه: يجب ألا يأمن هؤلاه الماكرون العقوبات السيئة التي تحل بهم

كما حلت بالمكذبين قبلهم. وكيف يحق لهم أن يأمنوا إنزال أشد العقوبات بهم مع قدرته جل شأنه على: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ}: أي يهلكهم بالخسف وهو تغييبهم في الأرض بتغْويرها بهم - قال ابن عباس: كما خسف بقارون - يشير بذلك إلى قوله سبحانه {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (¬1). {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}: أي يأتيهم عذاب الله وهم في غفلتهم ولهوهم، أو من مأمنهم حيث يبتغون الأمن والسلام، أو من الجهة التي يرجون منها الخير والبركة. كما فُعل بقوم لوط وغيرهم من الأمم المهلكة. ولقد حدث لهم ذلك يوم بدر, فقد أهلكوا مع كثرتهم عددًا وعتادًا وهم يأملون النصر والغنيمة. 46 - {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}: أي ينزل بهم العذاب في تنقلهم للتجارة بعيدين عن مساكنهم. قاله قتادة، وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا ونهارًا. {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي فلا يستطيعون الإفلات والفرار من عذابه تعالى لأنه لا يعجزه شيء يريده، فهو القوي العزيز. 47 - {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ}: أي يأخذهم على مخافة وحذر من العذاب والهلاك. بأن يأخذ طائفة. ويدع أخرى, فتخاف أن ينزل بها من العذاب مثل ما نزل بصاحبتها. أو أن تحدث حالات يخاف فيها عادة كالأعاصير والزلازل والصواعق فيتخوفوا منها فيأخذهم العذاب في حال تخوفهم. أو يأخذهم على تنقص في أنفسهم وفي صحتهم وأموالهم وأولادهم وموارد رزقهم إلى أن يهلكوا جميعًا. فهم في كل لحظة بسبب ما حل بهم في خوف من العذاب لأنهم يترقبون وقوعه. ويلاحظ أن التنقص من معاني التخوف لغة كما سبق بيانه في المفردات. ولما كان المتقلبون في البلاد ليلا ونهارا للتجارة غيرها. بعيدًا عن المسكن والملجأ. مظنة الفرار من العقاب عند ظهور أول بوادره وكذلك المتخوفون من حلول العقاب بهم, فلهذا عبر سبحانه ¬

_ (¬1) سورة القصص الآية 81

عن إصابة العذاب لهم بالأخذ الدال على القهر والشدة نظرًا لحالهما, وسدًّا لِمَنافِذِ النجاة على كليهما، وعبر عن إصابة العذاب لهم حال الغفلة بالإتيان لأنه ليس مظنة الفرار وسلوك أي مسلك للنجاة عادة. فلذلك اختلف التعبير في الإِنذار بالعذاب. وليس المراد حصر الإهلاك في هذه الأحوال الثلاثة، وإنما المراد بيان قدرة الله على إهلاكهم بأي وجه كان. ثم ختمت الآية بما يفيد اقتضاء رحمة الله الواسعة، ورأفته الشاملة ألا يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا ليتسنى لهم التفكر في شأنهم والتدبر في أمرهم. حيث قال سبحانه: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: حيث أمهلكم مع استحقاقكم للعقوبة لما اقترفتم من بغي وعدوان. {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} المفردات: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}: تفيُّؤ الظلال: رجوعها بعد انتصاف النهار. من فاء يفيء. إذا رجع. {دَاخِرُونَ}: أذلاء منقادون، من الدُّخُور وهو الصغار والذل، وفعله. كمنع وخرج. التفسير 48 - {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ... }: استفهام إِنكارى قصد به تقريع الذين مكروا السيئات، والمعنى أعمى الذين مكروا السيئات ولم ينظروا إلى ما خلق الله من كل جسم قائم له ظل مما تدركه الأبصار، ليعلموا عظمة الله وكبرياءه، وأنه سبحانه دانت

له الأشياء والمخلوقات جميعًا جمادها ونباتها وحيوانتها، وأناسبها. كما دانت له ظلالها. فكل ذى ظل منها. {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ}: أَي ينتقل ويرجع من جانب آخر بارتفاع الشمس وانحدارها. أو باختلاف مشارقها ومغاربها. فإن لها مشارق ومغارب حسب مداراتها اليومية التي تتحرك فيها كل يوم من أَيام السنة وفق تقدير العزيز العليم. {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ}: المراد بهما جانبا الشيء، استعارة عن يمين الإنسان وشماله، والمعنى أن ظلال الأشياء متفيئة عن جانبي كل واحد منها. ترجع من جانب إلى جانب. فتكون أول النهار على حال، وآخره على حال أخرى وذلك أنها تميل إلى جهة المغرب من وقت الشروق إلى الزوال. وتميل بعده إلى وقت الغروب راجعة إلى جهة الشرق. {سُجَّدًا لِلَّهِ}: أي حال كون هذه الظلال منقادة لإرادته تعالى في الامتداد والتقلص. والرجوع من حال إلى حال خاضعة لأحكام تدبيره. غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له، وذلك هو المراد بسجودها. {وَهُمْ دَاخِرُونَ}: أي أن أَصحاب هذه الظلال التي انقادت ظلالها لما قدر لها من التفيؤ. أذلاءُ منقادون لحكمه تعالى. يستوى في ذلك الأجرام الثابتة، كالجبال والأشجار والأحجار ونحوها، والأجسام المتحركة من كل ما يدب على الأرض إنسانًا وغيره، وعبر بضمير العلاء وصفتهم مع شمول الحكم لسواهم، تغليبًا للعقلاء على غيرهم. 49 - {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ... }: شروع في بيان سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة بعد بيان سجود الظلال وأصحابها بصفة عامة تأكيدًا لبيان قدرة الله جل شأنه، وأَنه سبحانه يخص لسلطانه وحده كل شيء، وينفاد له جميع ما في السماوات من الملائِكة والشمس والقمر والنجوم والكواكب والرياح والسحاب، وما في الأرض من كل شيء يدب ويتحرك عليها، وقوله من دابة بيان لما في الأرض، وقيل بيان لما في السماوات وما في الأرض جميعًا بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية في أرض أو في سماء، وربما كان ذلك إشارة إلى وجود أجسام عاقلة على بعض الكواكب، وقد عزى هذا الرأى إلى ابن عباس وغيره.

{وَالْمَلَائِكَةُ}: أي وملائِكة الأرض والسماء يسجدون لله تعالى, وإنما أفردوا بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة، وسجود المكلفين المؤمنين لله يعم سجود الطاعة والعبادة، وسجود الخضوع لمراد الله تعالى، أما سجود غيرهم فهو سجود الخضوع والانقياد لما يريده الله بهم من الأمور الاختيارية والقهرية، فهم في كل ذلك ساجدون أي خاضعون لسلطان الله. {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: أي أن الملائكة مع علو شأنهم لا يستكبرون عن عبادته والسجود له. ومخلوقات نورانية عاقلة مطيعة لله تعالى. 50 - {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ... }: أَي يرهبون مالك أمرهم، ويخافونه خوف هيبة وإجلال. وهو فوقهم بالقهر والحكمة والعدم. كما في قوله تعالى: {الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬1). أو المعنى؛ يخافون عذاب ربهم على حذف مضاف لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء. وجملة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} بيان وتقرير لنفي الاستكبار لأن من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}: أي يؤدون كل ما يوجهون إِليه في سلوكهم. فشأنهم المثابرة على العبادة وتنفيذ ما يكلفون به من التدبيرات في كون الله تعالى، وإنما قال سبحانه: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} حيث لم يذكر من يُصْدِرُ لهم الأمْر، لأنه لا يخفى علي أحد، فهو الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية 18

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)} المفردات: {فَارْهَبُونِ}: أَي فخافون واخشوا عقابي إن خالفتم أَمرى. {وَلَهُ الدِّينُ}: وله الطاعة والانقياد أو الجزاءُ، مِن دِنْتُهُ أَي جازيْتُهُ. {وَاصِبًا}: واجبًا لازمًا, وفسّره الربيعُ بن أَنس بقوله: "واصِبًا" خالصًا. التفسير 51 - {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}: حذر الله في الآيات السابقة أَهل مكة من عاقبة كفرهم بما أنزله على رسوله من أَن يصيبهم مثل ما أصاب المكذبين بالرسل قبلهم، من الخسف أَو إتيان العذاب من حيث لا يشعرون، أَو إن يأخذهم في تقلبهم ونشاطهم بغير مقدمات، أو يأخذهم على تخوف من الهلاك بأَن يرهبهم قبله بمقدمات مخيفة، وأَتبع ذلك توبيخهم على أَنهم لم يتفكروا فيما خلقه من الأَشياء التي تنتقل ظلالها عن اليمين وعن الشمائل، من الجبال والأَشجار وغيرها، منقادة لله تعالى في أَمرها كله، وبيَّن أنه - سبحانه - يسجد له ما في السماوات والأرض عن دابة، وكذلك الملائكة مع رفعة شأنهم، فإنهم يطيعون ربهم فلا يعصونه، بل يفعلون ما يؤْمرون. وجاءَت هذه الآية لتأمر أَهل مكة وغيرهم بتوحيده بالعبادة والخوف من التقصير فيما كلفهم به، فإِن منْ هذا شأنه لا يعبد سواه، ولا يخاف غيره. وقد كان مشركو قريش وغيرهم يعترفون بألوهية الله، ولكنهم كانوا يتخذون معه شركاء لتُقرِّبهم إليه، وهم مع ذلك يعتقدون أَن الله يملكها، فهذه قبيلة نزار مثلًا كانت تقول في تلبيتها في الخج: "لبيك اللهم

لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكٌ هو لك. تملكه وما ملك" فهم يوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده، وفي مثل ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. وكانت لهما أَصنام مشتركة، وأخرى لطائفة دون أخرى، أو لبيت دون آخر، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة، وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنمًا فجعل يطعنها بِسِيةِ (¬1) قوسه في عيونها ووجوهها وهو يقول: "جَاءَ الْحقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" ثم أمر بها فكُبَّتْ على وجوهها، ثم أخرجت من المسجد ودُمِّرت. معنى الآية: وقال الله الذي عرفتم سلطانه في هذا الكون: لا تتخذوا يا عبادى لكم إِلهين اثنين فضلًا عما فوقهما إِنما الإِله إله واحد لا شريك له, إذ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. ثم التفت النص الكريم من الغيْبةِ إلى التكلم، لِتربِيةِ المهابة والرهبة فقال: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}: أَي إِن كنتم ترهبون شيئًا وتخافون منه, فإِياى ارهبوا وخافوا دون سواى، فليس غيري أحقّ بالرهبة، فارهبوني فإِنني أَنا الواحد الذي يسجد له ما في السماوات والأَرض ويخضع لسلطانه. ثم بين الله سبب وجوب توحيده بالعبادة والرهبة بقوله: 52 - {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}: أَي ولله وحده كل ما في السماوات والأرض، من أَجزائهما وما استقرَّ فيهما، له كل ذلك خلقًا وملْكًا وتصرفا, وله الطاعة والانقياد واجبًا ثابتًا لا يستحقه سواه، لِما تقرَّر من أَنه الإله الواحد الحقيقُ بأن يُرهب. وعلى تفسير الدين بالجزاء يكون المعنى: وله الجزاء دائمًا، فلا ينقطع ثوابه عمن آمن وعمل صالحًا, ولا عقابه عمن كفر وصدَّ عن سبيله. ¬

_ (¬1) سية القوس: ما عطف من طرفيها.

ثم استنكر الله أن لا يتقي المشركون مَن هذه آيات عظمته فقال سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}: أي أبعد ما تقدم بيانه من أَن كل ما في السماوات والأرض يسجد ويخضع لله، وأن الطاعة واجبة له، والجزاء حق من حقوقه، أبعد ما ذكر تخصون غير الله بالتقوى؟ مع أنه - تعالى - هو المستحق لها دون سواه، ثم أنكر عليهم شركهم مع توالى نعمه عليهم فقال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)} المفردات: {تَجْأَرُونَ}: تتضرعون ليكشف عنكم الضر. والجُؤار، رفع الصوت بالدعاء والاستعاثة (¬1). {فَتَمَتَّعُوا}: أمر تهديد لهم وليس أمر إباحة. التفسير 53 - {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}: المعنى: وما يصاحبكم من نعمة في أَنفسكم وأَموالكم وأولادكم فهى صادرة من الله تعالى. مدبرها وخالقها ورازقها، ثم إِذا أصابكم الضرر إِصابة يسيرة فإليه وحده تتضرعون ومستغيثين ¬

_ (¬1) قال الأعشى: يُراوحُ من صلواتِ الملِيـ ... ـك طورا سُجُودًا وطورًا جُؤارًا

ابتغاء كشفه عنكم، فكيف تشركون معه شركاءكم في العبادة، وليس لها في نفعكم ودفع الضر عنكم من سبيل؟ ثم نعى الله عليهم عودتهم إِلى الشرك بعد أَن كشف الضرَّ عنهم فقال سبحانه: 54 - {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}: أي ثم إذا كشف الله الضر عنكم بعد تضرعكم واستغاثتكم، إذا جماعة منكم يشركون بربهم أصنامهم في العبادة، مع أنها لا دخل لها في نفعهم ودفع الضر عنهم. والخطاب في قوله: "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمة" وقوله: "إذَا كَشَفَ الضرَّ عَنكُمْ" الآيتين، إن كان للمشركين كما هو الظاهر فلفظ "مِن" في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ} لبيان أن الفريق الكافر هو كلهم، فكأنه قيل: إذا فريق كافرٌ هُمْ أنتم, وأَجاز بعض المفسرين أن يكون مِنْهم منِ اعتبر وازدجر، فتكون "مِنْ" على هذا الرأى للتبعيض, كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. (¬1) أما إن جُعل الخطاب في الآيتين للناس كافة، فالكافرون بنعمه وفضله بعضهم لا كلهم فتكون "مِن" في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} للتبعيض لا للبيان ثم بين الله عاقبة إِشراكهم فقال: 55 - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أي أَن فريقًا منهم يشركون باللهِ في العبادة مع توالى نِعَمِهِ عليهم ودفع نِقمِهِ عنهم، لتكون عاقبةُ شركهم وأثرُه أن يكفروا بما آتاهم من النعم، وَيُنكِرُوا كونها منه دون غيره، ثم أنذرهم الله وهددَهُم بسوء المصير فقال: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أَي فاستمتعوا بما أنتم فيه من نعم كفرتم بها ولم تشكروها، فسوف تعلمون عاجلًا أَو آجلًا عاقبة أَمركم وما ينزل بكم من العذاب جزاءَ شرككم وكفرانكم. ¬

(¬1) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (مقتصد) بدلا من (مهتد)

ثم عقب هذا الوعيد بتعداد جناياتهم المستوجبة له فقال سبحانه: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} المفردات: {لِمَا لَا يَعْلَمُونَ}: لآلهتهم التي لا يعلمون حقيقتها وخِسَّة قدرها. {تَاللَّهِ}: قسم؛ أي والله. {تَفْتَرُونَ}: أي تختلفون من الأكاذيب. {مُسْوَدًّا}: المراد من اسوداده؛ كآبته واغتمامه على سبيل الكناية. {كَظِيمٌ}: ممتليء غيظًا. {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ}: أيبقيه على هوان وذل. {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}: أم يخفيه ويدفنه فيه. {مَثَلُ السَّوْءِ}: صفة القبح. التفسير 56 - {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: أي أَن المشركين حين يكشف الله الضر عنهم بعد تضرعهم إليه واستغاثتهم به، يعودون فجأة إِلى الشرك، ويجعلون لأصنامهم التي لا يعلمون حقيقتها وقدرها الخسيس

- يجعلون لها - نصيبًا مما أعطاهم الله من الزروع والأَنعام وسائر الأَوراق، تقربًا إليها, وما لها عليهم من فضل، ولا لها عليهم من سبيل، ولا هي مدركة ما يُتَقَرَّبُ به إِليها، ثم ختم الله الآية بوعيدهم فقال: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}: أي وحقّ الله المنزه عن الشريك والمثيل ليسأَلنكم الله سؤال توبيخ وحساب يوم القيامة، عن الذي كنتم تختلقونه في الدنيا من شركة أَوثانكم لله، واستحقاقها للعبادة معه، ثم يجزيكم على افترائكم. 57 - {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}: كانت خزاعة وكنانة يزعمان أَن الملائكة بنات الله, وقد انطوى هذا الزعم على فريتين: إِحداهما: أَن الملائكة إِناث، وثانيتهما: أَنهم بنات الله, فأَما الزعم الأَول فقد ردَّه الله بقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (¬1). وأَما الزعم الثاني فقد ردَّه الله بهذه الآية. والمعنى: ويجعل المشركون البنات لله حيث يزعمون أَن الملائكة بنات الله - سبحانه وتنزيها له عن هذا الزعم الفاسد - والحال أَنهم يجعلون لأَنفسهم ما يحبون من البنين, فهم بذلك يختارون لأنفسهم في التبني, أفضل مما يختارون لربهم، تعالى الله عن التبنى بجانبيه علوًّا كبيرًا. ثم يُوبِّخُهم الله على هذه النسبة أكثر مما مضى وأَصرح فيقول: 58 - {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا}: أَي وإِذا أخْبِر أَحد هؤُلاءِ بولادة أنثى له، صار وجهه قاتم اللون كأَنما علاه السواد غيظًا من شدَّة الغَمِّ والحياء من الناس كأنما ارتكب ما يخجله. {وَهُوَ كَظِيمٌ}: أَي وهو ممتلىءٌ غيظًا وغضبًا, ثم يبلغ به الخجل من البشارة، بالأنثى إِلى ما حكى الله بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 19

59 - {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ}: أَي يستخفي من قومه حتى لا يروه بسبب ما بُشِّرَ به من السوء حينما أخبروه بولادة أنثى له وجعل يحدث نفسه في شأنه {أَيُمْسِكُهُ} فلا يقْتلهُ. ويظل يمسكه {عَلَى هُونٍ}: على ذلٍّ وهوانٍ. {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}: بأَن يحْفر له فيه حُفْرة فيدفنه فيها حيا. ويهيل التراب عليه كما كانوا يقول: وأْد البنات من المكرمات, وإذا كان هذا حالهم في كراهة نسبة البنات إِلى أَنفسهم فكيف ينسبونها إِلى الله, إِذ يحكمون بأَن الملائكة بناته، ولهذا قبح الله حكمهم هذا فقال: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: أي أَلا قبُح حكم حيث يجعلون ما هذا شأنه من الحقارة والهوان لديهم - يجعلونه وينسبونه - لله المنزه عن الصاحبة والولد ذكرًا كان أَو أنثى في حين أَنهم يتحاشون الإِناث. ويختارون لأَنفسهم البنين. فمدار الخطإ نسبتهم البنات لله وهم يأبون ذلك لأَنفسهم في حين أَنه منزه عن الولد مطلقًا ذكرًا كان أَو أنثى، ولذا قال - سبحانه - عقب ما تقدم: 60 - {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي لهؤُلاءِ الذين لا يؤْمنون بالآخرة والحساب فيها على ما افتروه - لهم - صفة القبح، من الحاجة إِلى الولد ليقوم مقامهم ويرثهم عند موتهم، وحب البنين دون البنات للاستظهار بهم والانتفاع بكدهم, ووأْد البنات خوفًا من العار وحذرا من الفقر، ولله - تعالى - المثل الأَعلى والصفة العظيمة الشأن من الاستغناء المطلق عن الولد ذكرا كان أَو أنثى، فهو الغَنِىُّ المطلق الْغِنَى في أَمره كله، المنزه عن الحاجة إلى الصاحبة والولد ذكرًا كان أَو أنثى، المستوجب لكل كمال، المنزه عن كل نقص، وهو العزير الغالبا القادر مؤَاخذتهم، الحكيم في كل شئونه، فلهذا لم يعاجلهم بالانتقام منهم، لعلهم يثوبون إلى رشدهم, لهذا قال الله تعالى عقب ذلك:

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)} المفردات: {مِنْ دَابَّةٍ}: الدابة ما يدب على الأرضِ، وقيل المراد بها هنا: الكافر، وسنفصل الكلام في ذلك في التفسير. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: ولكن يُوخرُ موْتهم إلى وقت سماه الله لذلك فلا يموتون قبله, ويجوز أن يكون المراد. ولكن يؤخر عذابهم إلى أجل مسمى، وهو إما موتهم حيث يعذبون في قبورهم أو يوم القيامة، فهو الأجل الذي سماه الله في لسان الشرع لجزاء الناس كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}: أي لا يتأخرون عن الأجل المسمى أقل زمن، ولا يتقدمون، والتعبير عنه بالساعة؛ لأنها في لغة العرب مَثَلٌ في القلة. وليس المراد بها الساعة المعروفة عندنا في عصرنا والمقدرة بستين دقيقة، لأَن ذلك اصطلاح مستحدث. التفسير 61 - {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}: بيَّن الله تعالى فيما تقدم ما كان عليه المشركون من الضلال مثل زعمهم أن الملائكة بنات الله، مع أنهم يكرهون البنات ويستاءُون من البشارة بِهِنَّ ويدُسُّونهن أحياء في التراب، وأتبع ذلك تنزيهه تعالى عن ذلك وعن نسبة الولد إِليه سواءٌ أكان ذكرا أم أنثى، وبين سوء حكمهم

هذا, وأن له تعالى الصفة العلية الشأن التي هي مثل في العلوّ والرفعة، وأن ما وصفوه به لا يليق به جل وعلا, فهو غير محتاج إلى الولد مطلقًا، لا لِيَرِثهُ ولا لِيُعِينه فهو الحي الذي لا يموت العزيز الحكيم, فليس بحاجة إلى ولد يعتز به, أو يدبر معه ملكوته، وأن أولئك المُتجنِّين على ربِّهم لهم صفة القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم فهم أهل الفناء، أَما الله تعالى فله صفة الحسن وهي كمال الاستغناء. وجاءَت هذه الآية لتبين رحمة الله بالناس حيث لا يعاجلهم بالعقوبة الشاملة بسبب تماديهم في ظلمهم بل يؤَخرهم إلى أجل مسمى لعلهم يثوبون إِلى رشدهم. قبل أن يحين أجلهم. والآية تحتمل معنيين. أحدهما: ولو يؤَاخذ الله الكفار، بكفرهم ومعاصيهم التي تحدثت الآيات السابقة بعضها، ما ترك على هذه الأرض من دابةٍ كافرة. حيث يهلكهم بشؤْم كفرهم ومعاصيهم، ولكنه لم يفعل رحمة بهم لعلهم يرجعون إلى رشدهم. ويكفون عن كفرهم ومعاصيهم. وإِطلاق الدابة على الإِنسان لغوي. مأخوذ من دب على الأرض أي مشى عليها في هِينةٍ وتمهل, فالإنسان نفسٌ دابةٌ على الأَرض، قال الشاعر العربي: زعمتنى شيخًا ولست بشيْخ ... إِنما الشَّيخ من يدُبُّ دبِيبًا والمعنى الثاني: يتجه بالإهلاك إِلى عموم ما يدب على الأرض, أي ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبه أَهل الذنوب منهم ما ترك على الأَرض من إِنسان طالح أَو صالح ولا ترك عليها غيره من دواب الأَرض. بسبب شؤْم أهل الذنوب. قال ابن مسعود في تفسيرها: ولو أخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأَصاب العذاب الجُعْلَان (¬1) في جحرها. ولأمسك الأمطار من السماء، والنَّبات من الأرض فماتت الدواب ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل: كما قال: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. ¬

_ (¬1) جمع جعل بوزن صرد؛ دابة سوداء من دواب الأرض.

ولعل مما يساعد على إِرادة العموم ما جاءَ في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أراد الله بقومٍ عذابا أصاب العقاب من كان فِيهِمْ ثُمَّ بُعثُوا علَى نِياتهِمْ" وقولُه تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}. وبعد أن بيَّن الله شؤم المعصية وما تجره على أهل الأَرض من الآثار عقب ذلك ببيان رحمته بعباده فقال: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: أَي ولكن يؤَخر إِهلاكهم إلى أجل عيّنهُ لذلك لعلهم يطيعون ربهم وينجون من عذابه, فإِنه تعالي خلقهم ليعبدوه وهداهم بالآيات والرسل إِلى طريق معرفته وطاعته, فلا عذر لهم في عصيانه. ثم بين أَن أجلهم آتٍ لا ريب فيه ولا تغيير له بتقديم أَو تأخير، لعلهم يسارعون في التوبة فقال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}: أي فإذا جاءَ الوقت المحدد لموتهم لا يتأخرون عنه أقل وقتٍ ولا يتقدمون. فإن قيل: إن وقت إِهلاكهم إذا جاء لا يتصور تقدمهم عنه، فلماذا قيل: {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فالجواب أن ذكره للمبالغة في بيان عدم تأَخره بنظمه في سلك ما يمتنع تنْبيهًا على أنه مثله في الامتناع. كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} فإِن من مات كافرا معلوم بالضرورة أنه لا تقبل توبتُه بعد موته, وليس بحاجة إلى التصريح به، ولكنه ذكر مع من لا تقبل توبته عند الغرغرة ومشارفة الموت للإِيذان بأَنهما سواء في عدم قبول التوبة, لأَنها حدثت منه بعد يأسه من الحياة, فكان مِثْل من مات كافرًا في أَنه لا توبة له.

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)} المفردات: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}: أي ينسبون إليه البنات التي يكرهونها لأنفسهم. {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ}: أي تحكي الكذب بادعائها أن لهم العاقبة الحسنى في الآخرة. {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ}: لا بُدَّ ولا محالة (¬1). {مُفْرَطُونَ}: متروكون منسيون في النار. كما قاله ابن الأعرابى وأبو عبيدة وغيرهما. (¬2) وقال الحسن وقتادة: مُعجَّلون إلى النار مقدمون إلها، وأصله من أَفرطته أي قدمته في طلب الماء، والفرط الذي يتقدم إلى الماء، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" أي متقدمكم إليه. {تَاللَّهِ}: أي وحق الله. {وَلِيُّهُمُ}: أي متولي إغوائهم أو ناصرهم. ¬

_ (¬1) نقل القرطبي في جـ 9 ص 20 دار الكتب في تفسير قوله تعالى في سورة هود: "لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون" الآية 22 أن {لَا جَرَمَ} عند الخليل وسيبويه كلمة واحدة بمعنى (حق) وأنها في موضع الرفع على أنها خبر مقدم وأن وما دخلت عليه في تأويل المصدر مبتدأ مؤخر، وأن الفراء قال بذلك كما حكاه الناس، وحكى المهدي عن الخليل أيضا أن معناها لا بد ولا محالة، وحكاه الثعلبي عن الفراء أيضًا وقد اخترنا هذا المعنى في تفسيرها هنا، وفي معناها آراء أخرى وحسب القارئ ما ذكرنا ومن شاء المزيد فليرجع إلى جـ 9 ص 20 من القرطبي في تفسير مثلها في سورة هود - كما تقدم -. (¬2) من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته.

التفسير 62 - {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى}: أنكر الله عليهم في الآيات السابقة زعمهم أَن الملائكة بنات الله، وبيَّن أنه منزه عن الولد مطلقا وأَنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من السيئات لعاقبهم بعقوبات تعُمُّهُمْ وغيرهم بشؤم ظلمهم، ولكنه - تعالى - عظيم الحلم شامل الرحمة، فيؤخرهم إِلى وقتٍ سمَّاه لموتهم لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون، لعلهم يعودون إِلى الرشد, ويدركهم الهدى. وجاءت هذه الآية لتوبيخهم مرة أخرى على ما زعموه في حقه - تعالى - وما ادعوه لأنفسهم من العاقبة الحسنى، ولإنذارهم بسوء المصير على مزاعمهم وعقائدهم. والمعنى: وينسبون لله البنات التي يكرهونها لأنفسهم، ومع هذه الجريمة الشنعاء في حق الله تقول ألسنتهم الكذب وتصفه وتصوره حين تزعم أن لهم العاقبة الحسنى - ثم عقب الله زعمهم هذا بالوعيد عليه فقال: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}: أي لا بد ولا محالة من أَن لهم النار مكان ما زعموه لأنفسهم من أن لهم العاقبة الحسنى. ولا بد أنهم منسيون فيها متروكون في سعيرها لا يخرجون منها ولا يبرحونها. ثم عقب الله هذه الآية بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه من أَلوان الكفر والضلال، بأن ما يحدث له منهم حدث مثلُه للرسل قبله من أممهم، وذلك بقوله تعالى: 63 - {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أَي والله لقد بعثنا رسلنا إِلى أُمم من قبلك أيها الرسول، فحدث منهم لرسلهم مثل ما حدث من قومك لك، حيث زين لهم الشيطان ما هم عليه من أَعمالهم القبيحة من الكفر والمعاصي,

فظلُّوا مصرِّين عليها، فهو متولى إِغوائهم اليوم أَي في العصر الذي كانوا يعيشون فيه، ولهم في الآخرة عذاب شديد الإِيلام، ولا يجدون فيها من ينقذهم أو يخفف عنهم، ويجوز أن يكون المقصود باليوم يوم القيامة، والولاية بمعنى النصرة على سبيل التهكم. والمعنى: فالشيطان الذي أغواهم وزيَّن لهم أعمالهم ناصرهم يوم القيامة، ومن كان الشيطان ناصره يومئذ فهو خالد في العذاب مثله؛ لأنه مذنب ومعاقب وفاقد لأسباب النصرة، ولهذا ختم الله الآية بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وأعاد بعض المفسرين الضمير إلى مشركي قريش, والمعنى: ولقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك فزين الشيطان لهم أعمالهم فصدهم عن السبيل فهو ولي مشركي قريش اليوم كما كان ولي مَنْ قبلهم في أَيامهم, فإنهم مثلهم في ضلالهم ولهم في الآخرة عذاب أليم كما كان لمن قبلهم، ثم بيّن أثر القرآن في تبيين الحق من الباطل فقال: 64 - {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: أي وما أنزلنا عليك القرآن أيها الرسول لسبب من الأسباب إِلا لتبين للناس ما اختلفوا فيه من التوحيد واليوم العظيم الذي هم فيه مختلفون، كما تبين لهما النافع والضار من الأخلاق، والحلال والحرام من الأعمال، وأَنزلناه أيضا للهدى والرحمة لقوم يؤمنون، فإنهم المنتفعون بعلومه. المهتدون بهداه، ويصح أن يراد منهم المستعدون للإيمان المهيئون له بما آتاهم الله من حسن النظر في آياته، فكأنه قال: وهدى ورحمة لقوم شأنهم أنهم يصدقون الحقَّ ويؤمنون به، بما جُبِلُوا عليه من البحث عن الحق والاهتداء إليه بآياته، والبعد عن الجدال بالباطل، ثم شرع الله في ذكر طائفة من آياته العظيمة الشأن فقال:

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} المفردات: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ}: أي عن السحاب، وكل ما علاك يطلق عليه سماءٌ. {بَعْدَ مَوْتِهَا}: بعد يبسها. {الْأَنْعَامِ}: الإِبل خاصة, وقيل: إذا كان معها بقر وغنم فهي أنعام أيضًا وقال أحمد بن يحيى: هي كل ما أحله الله من الحيوان (¬1) لقوله تعالى في سورة المائدة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}: أي مما في بطون جنس الأنعام (¬2) من اللبن، والمراد من البطون هنا الضروع. {فَرْثٍ}: هو ما في الكرش من بقايا العلف بعد هضمه. ¬

_ (¬1) انظر القرطبي جـ 7 ص 111 طبعة دار الكتب - في تفسير قوله تعالى "ومن الأنعام حمولة وفرشا" من الآية 142 من سورة الأنعام. (¬2) قيل: إنها جمع نعم، وأفرد ضميرها؛ لأن "أل" الجنسية تبطل الجمعية، أما من يجعلها من المفردات التي جاءت علي هذا الوزن كأكياش وأخلاق أو اسم جمع فيكون إفراد الضمير إما لكونه مفردا أو لمراعاة لفظ اسم الجمع: انظر أبا السعود وغيره هذا: والأكياش من الثياب ما أعيد غزله مثل الخز والصوف، أو هو الردئ، والأخلاق من الثياب ما عمه البلى: يقال ثوب أخلاق أي عمه البلى. وثوب أكياش أي أعيد غزله أو رديء.

{سَائِغًا}: هنيئًا لا يُغصُّ به شاربُه. {سَكَرًا}: ما يسكر وهو الخمر، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر - وسيأتي لذلك بيان أوسع وتأويل أفضل - إن شاء الله تعالى -. التفسير 64 - {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: تضمنت هذه الآيةُ الكريمةُ شواهد عظيمة الدلالة على أنه - تعالى - هو الجدير بالألوهية والعبادة له دون سواه، فقد أرشدت أَصحاب الفكر الرشيد إلى أن هذه السماء التي نشاهدها خالية من الماء، صافية الأَديم يسوق الله برحمته السحاب تحتها ويزجيه بعد أن كوَّنه من أَبخرة المياه، وجعله ركاما، ثم يبسطه في جو السماء كيف يشاءُ، ويصيب به من يشاءُ من عباده، فيحيى به الأرض بعد موتها، ويبسط فيها الزرع النضير، وينبت فيها الأشجار ذات الأزهار والثمار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأَسماع والأبصار. ومعنى الآية إجمالًا: والله أَنزل من السماء ماءً بقدر معلوم، على الأرض اليابسة التي تشبه الموتى في عدم جدواها، وتوقف الانتفاع بها, فلما أنزل الله الماءَ عليها دبَّت فيها الحياة، حيث اخضرَّت وَرَبَتْ وانبتت من كل صنف بهيج، إن في ذلك لعلامة واضحة الدلالة على ألوهيته ووحدانيته، يبينها لقوم يسمعون التذكير به سماع تدبر وتفكر, ثم اتبعها آية أخرى باعثة على توحيده فقال: 65 - {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}: أي وإن لكم أَيها العقلاءُ الذين تحسنون الاستماع وتفكرون في الشواهد والآيات التي تُذكَّرُون بها - إِن لكم - في الإِبل والبقر والغنم والمعز لعظة عظيمة الشأن حيث تشاهدون أننا نسقيكم مما في أَجوافها لبنًا أبيض خالصه مما يؤَثِّر في بياضه أَو ريحه أو طيب طعمه سائغًا

للشاربين، مع أننا أخرجناه من بين فرث وهو ما في الكرش من روث كريه الرائحة، ودم أَحمر لا يستسيغه الطبع الإنساني. فأنت ترى أن الأنعام تتناول أَعلافَها جافةً ورطبة، فتمضغها وتزدردها، فيحولها القادر الحكيم بما تفرزه كبودها وأجهزتها الهاضمة من العصارات - يحولها - إلى دم أحمر يدفعه القلب بنظام رتيب إلى أجسادها لتغذيتها، وروث تدفعه كروشها إلى أمعائها الغلاظ، لتتخلص منه آنا بعد آن. وهذا الدم القاني يتجه بتدبير الله وحكمته إلى ضروع الإناث منها، تلك الضروع التي هيَّأها الله بقدرته وأعدَّها لتحويله إلى لَبن خالص من كل شائبة من تلك الشوائب التي مرَّت بها عملية الهضم والتحويل، فلا ترى في بياضه حمرة الدم، ولا في طعمه أَثرًا لطعوم الأعلاف والدماء والفرَث، ولا تحسُّ برائحةٍ كريهة من هذه الروائح التي احتبست في أجوافها، بل تجده لبنًا أبيض ناصعا خالصًا سائغًا للشاربين فتبارك الله أَحسن الخالقين. 66 - {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}: قال القرطبي: السكر ما يُسْكِرُ في مشهور اللغة، ونقل عن بعض السلف أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر، وأن المراد بالسكرِ الخمر, وبالرزق الحَسَنِ ما يُؤْكل ويُشرب حلالًا من هاتين الشجرتين، وذلك لأن السورة مكية, ولم تحرم الخمر فيها وإنما حرمت في المدينة، ولست أدري كيف دُسَّ هذا الرأى على أولئك الأعلام من السلف, وكيف أُقحم في كتب التفسير ليقرأه القارئون تفسيرًا لآية من كتاب الله منقولا عنهم، فإما أن يسلموا به تقديرًا لجلال من نسب إِليهم وإِما أن يقولوا ما لا يحل في كتاب الله، حيث يقولون إن هذه الآية نزلت يمتن فيها الله على عباده بما أَنعم به عليهم في النخيل والأعناب من السكر والرزق الحسن، فكيفَ عدل عن استحسان الخمر والامتنان بها في مكة إلى استرذالها وتحريمها في المدينة وهي هي بعينها لم يزد عليها ولم ينقص منها شيء، فإما أن تكون في

ذاتها قبيحة ضارة فتكون حرامًا دائمًا وإما أن تكون حسنة نافعة فتكون حلالًا دائما، فلا يتغير حكمها بتغير المكان. والصواب: ما قاله الطبرى في معنى الآية وهو أَن السكر ما يطعمُ من طعام النخيل والأعناب ويحل شربه من ثمارها، وهو الرزق الحسن، فاللفظ مختلف والمعنى واحد مثل: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} فالبث والحزن بمعنى واحد، وبهذا قال أبو عبيدة، حيثَ قال: السكر الطُّعم. يقال: هذا سَكَرٌ لك: أي طُعمٌ. وقال آخر - كما نقله القرطبي - السكر العصير الحلو الحلال، وسمى سكرًا لأنه قد يصير مسكرًا (¬1) إذا بقى، فإذا بلغ الإسكار حُرِّم - قلت وقد جمع صاحب القاموس بعض ما تستعمل فيه كلمة السَّكر من هذه المعاني وغيرها فقال. والسَّكرُ - محركة - الخمر ونبيذ يتخذ من التمر ونحوه، وكل ما يسكر وما حرم من ثمرةٍ، والخل والطعام والامتلاءُ والغضب والغيظ: اهـ بتصرف. وبما أن الآية للامتنان فالأنسب بمعنى السكر فيها ما يحل من طعام النخل والعنب وشرابهما وإِليك فيما يلي المعنى الإجمالي للآية الكريمة: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه عصيرًا حلوا حلالًا، ورزقًا حسنًا منحكم الله إياه منهما، من رطب وتَمْر وعنب وزبيب، وغير ذلك من الأطعمة والأشربة، كالبسر والدبس (¬2)، والخل وأَصناف الحلوى .. التي تصنع منهما إن في ذلك لعلامة باهرة على قدرة الله ووحدانيته وكرمه وفضله، وهذه الآية والعلامة على ما ذكر موجهة لقوم يستعملون عقولهم فيدركون أنه لا إله سواه، ولا يستحق العبادة غيره. ¬

_ (¬1) هكذا قيل، ولكننا نقول: لماذا لا تكون تسميته سكرًا أخذًا من السكر (بتشديد السين المضمومة وتشديد الكاف المفتوحة) فإن أخذه منه يناسب كونه بمعنى العصير الحلو الحلال، أما تعليل التسمية بأنه قد يصير سكرا، فإنه لا يناسب المقام. (¬2) الدبس (بكسر الدال المشددة): عسل التمر - من القاموس.

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} المفردات: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}: ألهمها وعلمها. {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}: أي وما يهيئه الناس من العرائش والسقف والبيوت والخلايا. {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ}: فادخلي طرق ربك لطلب الرزق. {ذُلُلًا}: جمع ذلول أي مسخرة منقادة. التفسير 67 - {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}: النحل: من الحشرات النافعة للبشرية، بما تفرزه عن العسل الذي جعل الله فيه شفاء للناس وسميت بهذا الاسم، لأن الله سبحانه نحلها هذا العسل، كما قال الزجاج والجوهرى: أي منحها إياه وقد أخبر الله في هذه الآية والتي تليها عن المنهج الذي تسلكه حتى تخرج لنا العسل من بطونها ليتغذى به الناس ويستشفوا من كثير من الأمراض، وبين - سبحانه وتعالى - أن سلوكها هذا المنهج بوحى منه جل وعلا. وللوحى في اللغة معان مختلفة، والمراد منه هنا الإلهام، وهو ما يخلقه الله في القلب ابتداء من غير سببٍ ظاهرٍ. ولا يقتصر هذا الوحى على النحل، بل تفضَّل الله به على كل حيوانٍ فقد ألهمه الله - تعالى - ما فيه منافعه فيسعى إليه، وما فيه مضاره فيجتنبه، وما فيه معاشه فيدبره، حتى لتراه يختزن قوته في الشتاء إذا كان لا يستطيع الظهور فيه والتعرض لبرده، فلهذا يملأ مخازنه بالطعام

ويعقمه بما يجعله صالحًا ولا يتعرض للفساد، ولم يقتصر هذا الإلهام على الحيوان بل تعداه إلى النبات والجماد، فإن البذور والنوى، يلهمها الله أن تتجه بجذورها إلى أسافل جوف الأَرض لتستمسك بها وتتغذى منها، وتتجه ببراعمها وسيقانها وأوراقها وفروعها إلى أعلى دون أن يطرأَ على منهجها هذا أَي اختلاف. وألهم الأَرض أَن تغذِّي جذور النبات، وتيسر لها سبيل التعمق داخلها ولو كانت الأرض صخرية، فكم من غابات وأشجار وأَعشاب تنبت فى الأَرض الجبلية. هذا إِلى جانب ما يتم داخلها من التحولات الخطيرة التى تنشأ عنها المعادن والغازات والعناصر المختلفة وكل ذلك يتم بإلهام الله وتدبيره. ولقد أحسن إبراهيم الحربي قوله: لله عز وجل فى الموات قدرة لم يُدْر ما هي، لم يأتها بها رسول من عند الله، ولكن الله تعالى عرفها ذلك (¬1). ولا غرابة فى ذلك، فقد جاء القرآن الكريم بذلك صراحة عن الأرض فى سورة الزلزلة فقد قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}: أى ألهمها وأعطاها من الأَسباب ما نشأَت عنه تلك المسببات. ولم يحرمنا القرآن العظيمُ ولا السنةُ المطهرة من الإشارة إِلى تلك العجائب التي لم يستطع الإنسان أن يكشف الكثير من أخبارها وأسرارها، فالله تعالى يقول إنه أَمر الجبال والطير أن تُؤَوِّب فى التسبيح وترجِّعه مع داود، وذلك في قوله فى سورة سبإ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} (¬2). وفى سورة ص {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} (¬3). والرسول يقول في جبل أُحد: (أُحُدٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ) فوصف الجبل الأصم بأنه يحب الرسول. ورجف أُحُدٌ والنبي فوقه وأبو بكر وعمر وعثْمان فخاطبه النبي قائلًا: "اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّما فَوْقَكَ نَبيٌّ وَصِدِّيقٌ وشهيدان ". أخرجه البخاري وغيره. ومن عجائب إلهام الله للحيوان ما وقع يوم وصول النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، حيث تجاذب الصحابة ناقته القصواء وهو عليها، ليكون الرسول ضيفًا كريمًا على من يفوز بها ¬

_ (¬1) نقله القرطبي عنه في تفسير هذه الآية. (¬2) من الآية: 10. (¬3) الآيتان: 18، 19.

منهم، فقال لهم: "خلُّوا سَبِيلها فإنها مأمورةٌ" فتركوها وأرخى النبى زمامها دون أَن يوجهها، فجعلت تنظر يمينا وشمالا أَثناء سيرها حتى بَرَكَتْ بفناء بنى عدى بن النجار أمام مِرْبد سهل وَسُهَيل ولدى رافع بن عمرو، ثم ثارت الناقة والرسول عليها حتى بركت أمام باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت وبَرَكَتُ فى مبركها الأول وَأرْزَمَت (أَي صوَّتَتْ دون أن تفتح فمها) ونزل النبي صلى الله عليه وسلم عنها وقال: "هَذَا الْمَنْزِلُ إنْ شاء اللهُ"، واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، وقال أبو أيوب المرْءُ مع رحله، فنزل النبى عنده، وأخذ سعد ابن زرارة ناقته عنده. وقصة (الهدهد) العجيبة مع سليمان، وكذا قصة (النملة) فى توعيتها للنمل من أن يحْطِمهُ سليمان وجنوده، وتعليم الله سليمان منطق الطير كل ذلك واضح فى أن لها إِدراكات ونطقا وعبارات لا يعلمها إلا من علمه الله، فلا غرابة فى أن يُعبر الله عن إلهامه للنحل في معاشها بالوحى، لأن لها إدراكات تعي بها هذا الإلهام، فتبارك الله أَحسن الخالقين. المعنى الإجمالي للآية وألهم ربُّك النحلَ، قائلا فى إلهامه إياها: اتخذي بيوتا لك تأْوين إليها فى الجبال داخل كهوفها ومغاراتها وكُواها، وفى الشجر داخل أَجوافها وبين أغصانها وفيما يعرشه ويُهيئهُ لك بنو آدم من العرايش والخلايا ونحوها. وعرش، معناها هنا: هيَّأ، قال القرطبي: وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إِتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها. ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اهـ ويقول ابن العربي في هندسة النحل لبيوتها: ومن عجيب ما خلق الله في (النحل) أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءَت بينها فرج إلا الشكل المسدس، فإنه إِذا جمع إِلى أَمثاله اتصل كأنه قطعة واحدة: اهـ من القرطبي. 69 - {ثُمَّ (¬1) كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}: أي وكلي أيتها النحلُ بعضا من كل الثمرات، وهو رحيق الأزهار التى هى أساس ¬

_ (¬1) لفظ (ثم) هنا بمعنى واو العطف وليست للترتيب والتراخى، إذ لا ترتيب بين الأكل من الثمرات وبين اتخاذها البيوت ولا تراخي لأكلها عنه، فإنهما قد يكونان متصاحبين، بل ربما سبق الأكل من الثمرات بناء البيوت، فإن البطون الجائعة تضعف قواها عن الباء.

لثمرات أو من الثمرات نفسها، ويقولون إنها قد تأكل من الأزهار المُرَّة، ويعود كل ذلك عسلا حلوا شهيا، وفي ذلك يقول المعرى: والنحل يجنى المُرَّ مِنْ زَهْرِ الرُّبى ... فيعود شَهْدًا في طريق رُضَابِهِ (¬1) والأمر في قوله تعالى للنحل: "ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمراتِ" ليس على حقيقته، بل المقصود منه أنه -تعالى- يسَّر لها ما تشتهيه من الثمرات لتأكل منه، فتجد نفسها مجبولة على أن تتناول منها ما تريد كأنها مأمورة بذلك، لتحيى وتؤدى وظيفتها فى الحياة، من إفراز العسل لغذاءِ الناس وشفائهم، ثم بيَّن الله أن سبلها إلى ذلك مذللة فقال سبحانه: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا}: أي فاذهبي طائرة فى طرق ربك التي توصلك إِلى الحدائق والبساتين فهي مفتوحة لك فى جنبات السماء شرقًا وغربًا، شمالا وجنوبا، مسخرة لك، لا يمنعك عنها مانع فأَنت نافعة للزراعة، وجالبة للأرزاق، وكما ذلَّلها الله لك في الغداة وأنت ذاهبة إلى أرزاقك، ذللها لك فى الأصيل وأنت عائدة إلى بيوتك لا تضلين سبلها، فسبحان الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. وقيل فى معنى الآية: فاسلكى ما أكلت من الأزهار والرحيق فى مسالكه التى يتجول فيها بقدرة الله عسلا. ثم اتجه الكلام من مخاطبة النحل إِلى الكلام مع الناس فى عجائب صنع الله على سبيل الاستئناف، وذلك فى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: يقُصُّ الله علينا في هذه الآية أن النحل بعد أن تتناول غذاءها من كل الثمرات، يخرج من أَجوافها عسل ألوانه مختلفة تبعًا للون ما تناولته من الأزهار والثمرات، فقد يكون أبيض، وقد يميل لونه إلى الصفرة أو الحمرة أو نحوهما، كما قد يتأثر برائحتها طيبة أو كريهة، وقد يكون للجو (¬2) أَوْ لِسِنِّ النحل أثر في ألوان العسل، كما يقوله القدامى والله تعالى أعلم، وقد عبر عنه بشراب لأنه مما يشرب. ¬

_ (¬1) الرضاب -بضم الراء مشددة- يطلق على الريق في الفم، والشهد -بضم الشين المشددة وفتحها- هو العسل. (¬2) فإن الجو الحار يجعل لون العسل يميل إلى الصفرة والكدمه، وقوامه، إلى الكثافة.

والجمهور على أن العسل يخرج من أفواه النحل، ومن ذلك قول الحسن: لُبَابُ البُرِّ بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم: اهـ ونحن نقول: إنما قال الله سبحانه: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا): لأنها هى التى تحيل الثمرات التي تأكلها النحل إلى عسل، ثم تدفعه وتخرجه من هذه البطون عن طريق أفواهها، وقال الآلوسى: وفى الكشف أَن فى قوله تعالى: (ثَمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمرَاتِ) إشارة إِلى أن لمعدة النحل فى ذلك تأثيرًا، وهو المختار عند المحققين من الحكماء: اهـ يريد بذلك أن يردَّ على من يزعم أن المراد من بطونها أفواهها، وأن الأفواه هى التى تصنع العسل دون دخل للمعدات فى تحويل الغذاء إلى عسل. وقد بين الله تعالى أَن هذا العسل فيه شفاءٌ للناس، إما مجردًا وإِما مخلوطا بغيره من المعاجين المختلفة، كما كان قدامى الأطباء يعالجون، وقد اعترف الطب الحديث بفوائده فى كثير من الأمراض والقروح وليس بلازم أَن يكون فيه شفاءٌ لكل الأمراض أو لكل الناس فقد يشفى به مرض فى إنسان ولكنه لا يشفى به في إنسان آخر، وقد يشفى به مرض، ويزيد العلة فى مرض آخر، ولهذا لم يعمم الله تعالى فى لفظ الشفاء، إذ لم يقل: فيه الشفاءُ للناس، بل قال: (فِيهِ شِفَاءٌ) بتنكير شفاء للتبعيض، ليكون المعنى: فيه بعض الشفاء للناس لا كل الشفاء دائمًا (¬1). وقد ذكر قدامى الأطباء أنه ينقي الجروح ويُدمِّلها ويأكل اللحم الزائد، ويشفى من دموع العين وحكتها وجربها كحلا وبخاصة مع ماء البصل، وإن أُذيب فى الماءِ سكن المغص وقطع العطش، إلى غير ذلك مما كتبته كتب الطب القديم فارجع إليها إن شئت فقد كَتَبَتْ عنه كثيرًا من الفوائد والأضرار، وهذه الآية دليل على جواز التداوى خلافا لمن كره ذلك، بل هو مطلوب لقوله تالى: (وَلا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلَى التَهْلُكَةِ). وفى صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَكل داءٍ دواءٌ فإذا أُصِيب دواءُ الداء برأ بإذن الله" وأخرج أبو داود والترمذى عن أُسامة بن شريك قال: قالت الأعراب ألا نتداوى يا رسول الله قال: "نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا واحدًا" قالوا يا رسول الله وما هو؟ قال الهرم" لفظ الترمذي وقال: حديث حسن صحيح إلى غير ذلك من الأحاديث. ¬

_ (¬1) و"أل" فى الناس للجنس لا للاستغراق، فيصدق الخبر بحصول الشفاء فى بعضهم.

ثم ختم الله الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: فإن أَهل الفكر حين يرون هندستها البارعة في بناء بيوتها، وتحول طعامها من الثمرات ولو كان مرًّا إلى عسل شهي مختلف الألوان، نافع للأبدان، يستدلون بذلك على أن لها ربًّا حكيما ألهمها وأعطاها من العجب ما يحير الأفكار، وما لا يستطيعه الإنسان، ولا يترددون في أن يقولوا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)} المفردات: {أَرْذَلِ الْعُمُرِ}: أي أخسه وأَحقره. {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}: أَي متساوون. {وَحَفَدَةً}: جمع حفيد وهو ولد الولد كما قال الأزهري: ويطلق على الخَتَن وهو الصهر كأبي الزوجة وأخيها وسائر أقاربها. رواه زِرٌّ عن عبد الله، وقال ابن عرفَة: الحفدة عند العرب الأعوانُ، فكل من عمل عملا أطاع فيه وسارع فهو حافد - قال - ومنه قولهم: "إليك نسعى ونحفد" وقال الخليل بن أحمد: الحفدة عند العرب الخدم. {الطَّيِّبَاتِ}: النِّعم التي طابت وطاب أكلها وطعمها، أو ما أحله الله من الأرزاق.

70 - {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}: يحكى الله فى هذه الآية بعض عجائب قدرته وسلطانه فى الإنسان، بعد أن بيَّن عجائب إبداعه وحكمته. فى إنزال الماء من السماء، وإحيائه الأرض بعد موتها، وعظيم العبرة فى الأنعام حيث أخرج لنا من بين فرثها ودمها لبنا خالصا سائغا للشاربين، وبليغ حكمته ونعمته فى (النحل) حيث ألهمها تدبير رزقها ومساكنها العجيبة وأخرج لنا من بطونها شرابا مختلف الألوان كثير المنافع للأبدان، والحكمة فى بيان هذه الآيات توجيه العقول إلى الإيمان بمبدعها، وأَنه قادر على إحياء من في القبور. والمعنى: والله -تعالى- خلقكم فأحسن خلقكم؛ ورباكم فأحسن تربيتكم، ولم يجعل حياتكم فى دنياكم إلى بقاء بل أعدها إلى فناء، ففي أَول نشأتكم على وجه الأرض تنمون ثم تَشِبون، ثم يتوقف نموكم عندما يكتمل شبابكم، ولكنه يحفظ عليكم فتوَّتكم وقوتكم إلى أن تصلوا إلى سن الكهولة (¬1) فتضعف قُوَاكُم آنا بعد آن، ويتدرج ضعفكم حينا بعد حين، حتى إذا أطلت الشيخوخةُ بأعبائها، حل على أجسادكم الانحطاط الكبير، وعلى عقولكم الوهن الخطير، فتصبحون في أرذل العمر، وأخسِّ مراتب الحياة، فلا تعلمون من بعد علم شيئا، إِذ تنسون ما كنتم تذكرون ولا تحفظون ما تتعلمون، وفى أثناء هذه الحياة منكم من يتوفاه الله فى طفولته، ومنكم من يميته في شبابه، وبعضكم يأخذه فى كهولة، وآخر يرحلُ إليه فى شيخوخته، ولا يرتبط ذلك كله إلا بإِرادة العليم الخبير، فلا يستطيع حكيم أَن يتحكم فى أجله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2). ¬

_ (¬1) الكهل: من أصابه الشيب، وعرفه بعض اللغويين بأنه من جاوز الثلاثين إلى الخمسين والهرم بوزن الكرم أقصى الكبر، ومن يوصف به فهو هرم، وفعله هرم كفرح، والشيخوخة تبدأ من الحادية والخمسين، وتنتهي آخر العمر، والهرم داخل فيها، راجع تلك المواد فى القاموس وغيره. (¬2) بعض الآية الأخيرة من سورة لقمان.

وليس لمراتب العمر سن معينة، فقد تأتي الكهولة أَو الشيخوخة فى سن الشباب، فكم من شبابٍ شابوا وانحطت قواهم وضعفت ذاكرتهم، ومفتاح هذا كله وعلمه عند الله رب العالمين، ولهذا ختم الله الآية بقوله جل ثناؤه. (إن اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ): أى إِنه تعالى واسع العلم بمقادير أَعماركم، عظيم القدرة على إحيائكم وإماتتكم، وهو صاحب المشيئة المطلقة فإن شاء أمات الشاب النشيط وأَبقى الشيخ الفاني، وإن شاء أجرى الأُمور على ضوابط مطردة، فالحكم لله العلى الكبير. واعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من عدة أُمور منها الهرم حيث يحل أَرذل العمر، ففى صحيح البخارى عن أَنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ فيقول: "اللهم إِنِّى أعُوذْ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وأَعوذُ بِكَ مِنَ الهرمِ، وأعوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ". 71 - {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}: بيَّن الله تعالى فى الآية السابقة دلائله ونعمه فى خلقنا وتفاوتنا فى آجالنا وعلومنا، وجاءت هذه الآية لبيان فضله فى رزقنا، وأننا لا نرضى أن نسوى بيننا وبين ممالِيكِنا فيه، فكيف يرضى المشركون أن يسووا بينه -سبحانه- وبين خلقه فى الأُلوهية، فيشركوهم معه فيها، ويعبدوهم أَكثر مما يعبدونه. والمعنى: والله جعلكم متفاوتين فى الرزق والنعمة، إذ جعل بعضكم غنيا والآخر فقيرًا، وبعضكم سيدًا والآخر مملوكا، وبعضكم مخدوما والآخر خادما، وقد جرت عادتكم أَن لا يُعْطِي من فضَّلهُ الله في النعمة مملوكه أَو خادمه ما يجعله مساويا له فيها، بل يعطيه شيئا يسيرًا، فإذا كانوا لا يحبون أن يجعلوا مماليكهم أو خدمهم مثلهم فى الرزق، مع أنهم مساوون لهم فى البشرية والمخلوقية لله والاستحقاق رزقه، فكيف يرضون أن يجعلوا شريكا مع الله مَلَكًا أَو بشرًا أو كوكبا أو صنما، ويسووه به -تعالى- في الأُلوهية والمعبودية، فى حين أنها مخلوقة له وليس لها من أمر نفسها أو غيرها شيء، فإن الأمر كله لله -تعالى- وختم الله الآية بتوبيخهم على إنكارهم لنعمه بهذا الإشراك فقال:

{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}: أيشركون بالله - تعالى - فيجحدون بهذا الإشراك ما أعطاهم من نعمة حيث اقتضت عبادتهم لآلهتهم أن هذه النعم منهم, أو أنهم شركاء فيها، مع أَنها من فضل الله دون سواه، ثم بين فضله عليهم في الأزواج والأولاد والأَتباع ورزق الطيبات, وعدم قيامهم بموجب إنعام فقال: 72 - {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}: والله تعالى جعل لكم يا بني آدم زوجات من جنسكم لتأنسوا بهن، ويكون أولادكم أمثالكم, فتتناسلوا وتنجبوا نوعا واحدًا بلا تباين ولا اختلاف, وقيل هو خلق حواء من ضلع آدم، والأَول أظهر. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: الحفدة: جمع حافد. وهو من يسرع في الخدمة والطاعة، وقد اختلف العلماء في بيان المراد منه هنا، وقد مرَّ في المفردات بيان بعض ما قالوه في ذلك وأَظهره أنهم أولاد الأَولاد، قال القرطبي: ما قاله الأزهرى من أن الحفدة أولاد الأولاد هو ظاهرُ القرآن بل نصه, ألا ترى أنه قال: "وَجَعَلَ لَكم منْ أزْوَاجِكُم بنين وحفَدَةً، فجعل الحفدة والبنين منهن" اهـ. وهو الذي استظهره ابن العربي. والطيبات: لذائذ النعم، أو حلالها. والمعنى: والله جعل لكم من جنسكم زوجات لتستريح نفوسكم إلى معاشرتهن، وتسكن قلوبكم عند لقائهن، وتزول همومكم بأحاديثهن، ولم يجعلهنّ من جنس آخر تنفر منه الطباع، ويختلف بسببه الجنس البشرى، ورزقكم لذائذ النعم وما أَحله منها، وكان عليكم أن تشكروه ولا تكفروه، وتوحدوه ولا تعبدوا معه غيره, ولكنكم أخللتم بمقتضى نعمته، ولهذا نعى على الكافرين ذلك فقال: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}: أفبالباطل من ألوهية شركائهم وحرمة البحائر والسوائب ونحوها يصدقون, وبنعمة الله التي لا حصر لها يكفرون، حيث يضيفونها لآلهتهم، وينسون الله الذي أنعم بها عليهم.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} المفردات: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}: ولا يقدرون على أي شيء. {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}: أي فلا تجعلوا لله الأشباه والنظائر، باتخاذكم له شركاء. التفسير 73 - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا ... } الآية. أي ويعبد المشركون سوى الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئا من السماء كالضوء والمطر ومن الأرض كالنبات والثمر ولا يستطيع أولئك الشركاء أيَّ قَدْرٍ من الاستطاعة في النفع فضلا عن الضر. 74 - {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: أي فلا تجعلوا لله تعالى الأشباه والنظائر بعبادتكم سواه معه، ولا ينفعكم ما تزعمون من أنها تقربكم إلى الله زلفى، فلا يقربكم إليه سوى توحيده وعبادته وتنزيهه عن الشريك والنظير، أن الله تعالى يعلم الحق فيأمركم به، ويعلم الباطل فينهاكم عنه، وأنتم تجهلون ولا تعلمون، فاجحتنبوا نهيه وأطيعوا أمره.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)} المفردات: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: أورد حجة علي سبيل التشبيه والتمثيل. {هَلْ يَسْتَوُونَ}: المراد أنهم لا يستوون. {أَبْكَمُ}: لا يقدر علي الكلام ولا يسمع. {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}: عالة وعبءٌ ثقيل على سيده الذي يتولى أمره. {يُوَجِّهْهُ}: يبعثه في مهم من الأمر. {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}: يدعو إلى الخير والبر. {السَّاعَةِ}: المراد بها يوم القيامة. {كَلَمْحِ الْبَصَرِ}: رجع الطرف من أعلى إلى أسفل أو هو النظر بسرعة، يقال لمحه لمحا إذا نظره بسرعة. التفسير 75 - {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}:

بعد أن نهى الله سبحانه عن الإِشراك به، وقرع المشركين ووبخهم على اتخاذ الأنداد له تعالى ضرب مثلين يوضح بهما عدم التساوى بينه وبين أحد أو شيء من خلقه ليدرك العاقل أنه إِذا انتفت المماثلة فيهما وجب التوحيد وامتنع الشرك بالبداهة. والمعنى: صور الله حالكم فى إِشراككم أوثانكم العاجزة؛ بالله القدير الكريم الكثير الخير والبر، صور لكم ذلك ومثله بحال من يُسوي بين عبد مملوك عاجز عن التصرف شديد الحاجة إلى غيره وبين حرٍّ رزقه الله رزقا واسعا فهو ينفق منه على غيره ويتفضل به على سواه فى السر والعلانية حسب مقتضيات الإنفاق، ويتصرف فيه بحكمة فكيف يستوى هذا الحر الكامل التصرف مع هذا العبد الشديد العجز عن التَّصرُّف، فضلا عن أَنه لا يملك أَمر نفسه، ولهذا سأل الله العقلاءَ بأسلوب الاستفهام الإنكارى فقال: (هَلْ يَسْتَوُونَ): أي هل يعقل أن هذا العبد الضعيف العاجز عن التصرف يتساوى مع الحر المتصرف على أحسن الوجوه وإذا كانا لا يستويان بداهة، فكيف يسوى هؤُلاء المشركون أوثانهم العاجزة بالله الخالق الرازق المدبر المحسن فى السر والعلن، ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: لبيان أن وضوح هذه الحجة يقتضى الثناء الكامل والحمد التام لله وحده لأنه المستحق له دون سواه، ولكن أكثر هؤلاء الكفار لا يعلمون أن هذا هو الحق وذلك لجهالتهم وغفلتهم، ولمّا كان فريق آخر منهم يعلم ذلك ويعرفه ولكنه لا يعمل بموجبه عنادا واستكبارا فلهذا قيل: (بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُون) ولم يقل: بل هم لا يعلمون. وقيل: المراد أنهم جميعا لا يعلمون فعبَّر بأكثرهم عن جميعهم. 76 - {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: وهذا مثل آخر مؤَكد للمثل الأول فى الدلالة على ما دل عليه بأوضح وجه وأظهر بيان. أي وذكر الله مثلا آخر يوضح فساد مساواتهم آلهتهم بالله، وهو يتجلى فى رجلين أحدهما: أَخرس أَصم لا يُفْهِم ولا يَفْهم وهو مع ذلك لا يقدر على شىء لنفسه أو لغيره من جلب نفع أو دفع ضر لجهله وسوءِ تقديره، وهو لذلك عبءٌ على غيره حيثما يرسله مولاه فى أمر فإنه لا ينال

نجحا ولا يصيب خيرا، أَما ثانيهما: فرجل عاقل له رأى، سليم الحواس ينفع نفسه وغيره يأمر الناس بالإنصاف والعدل، وهو على منهج قويم وسيرة صالحة هل يستويان؟ وإذا كانا لا يستويان ولا يتشابهان فكيف يسوى المشركون الصنم الأصم الأبكم العاجز عن كل شيء بالله القادر الذي يفيض على عباده الكثير من آثار رحمته ونعمته، ويأمرهم بالعدل في توحيده وطاعته وفي أمرهم كله، وهو فيما يدعوهم إِليه على طريق مستقيم موصل إلى خيري الدنيا والآخرة. 77 - {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: بعد أن بين الله تعالى عن طريق ضرب المثل استحالة أَن يستحق العبادة غير الواحد الأحد جاءَ بهذه الآية لتدل على كمال علمه وعظيم قدرته وبعيد حكمته. والمعنى: ولله وحده ما غاب في السماوات والأرض وخفى فيهما على خلقه، لهُ ذلك خلقا وملكا وعلما وتصرفا, ولا سبيل لغيره في شيءٍ من ذلك. {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}: أي وما الشأن في سرعة مجيء الساعة التي يقوم فيها الناس لرب العالمين إِلا كرجع الطرف بإطباق الجفن، فإنه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ونحوه قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} أَي أن قيام الساعة وبعث الخلق للحساب والجزاء في السرعة كطرف العين، وقوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}: ليس للشك بل لتخيير الْمُمثِّل في التمثيل به أو بالذى قبله، وكلاهما كناية عن بالغ السرعة وقيل: إن المعنى بل هو أَقرب عند الله في الحقيقة. وإنما خص الساعة بالذكر من بين علوم الغيب التي لا تحصى لكثرة المماراة والمجادلة فيها وتكذيب الأمم رسلها في إِخبارهم بها: ولذا ختم - سبحانه - الكلام عنها بما يثبت قدرته وأنه تعالى - لا يمتنع عليه شيء أَراده فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فلا يعجزه أمر الساعة، وبعث الأَجساد بعد موتها، كما لا يعجزه شيء سواد.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} المفردات: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: لكي تشكروا. {مُسَخَّرَاتٍ}: مُيَسَّرَات مُهيآت للطيران. {سَكَنًا}: موضعا تسْكُنُون فِيهِ أو تسكنون وتطمئنون إليه. {الْأَنْعَامِ}: هي الإبل والبقر والغنم والمعز. {تَسْتَخِفُّونَهَا}: تجدونها خفيفة سهلة المأخذ. {ظَعْنِكُمْ}: سفركم وارتحالكم. {أَثَاثًا}: الأثاث متاع البيت كالبساط والفراش والغطاء والكساء. {مَتَاعًا}: ما يتمتع وينتفع به. {إِلَى حِينٍ}: إِلى وقت انقضاء حاجتكم وتمتعكم به.

{مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا}: ما يستظل ويتقي به حر الشمس وضوءها من سقف وشجر وغمام وغير ذلك. {أَكْنَانًا}: جمع كِنٍّ وهو ما يستتر به ويسكن فيه كالكهوف. {سَرَابِيلَ}: هي الثياب مطلقا، جمع سربال أو سربالة. {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}: تحفظكم منه، كما تحفظكم من البرد أيضًا، ففيه اكتفاء بأحد الضدين عن الآخر. {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}: هي لباس الحربِ كدروع الحديد وأغطية الرأس منه. التفسير 78 - {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}: بعد أَن ضرب الله المثل للناس على فساد الشرك، واتخاذ الأوثان شركاء لله في العبادة، شرع في ذكر عدد من دلائل قدرته وبديع حكمته وجليل نعمته على عباده التي يستحق بموجبها أَن يُعْبد دون سواه، وأن يشكر ولا يكفر به، ومعنى هذه الآية أن الله تعالى يخرجكم من بطون أُمهاتكم وليست لديكم القدرة علي تحصيل العلم، فقد كانت ملكاتكم في طفولتكم عاجزة عن أداء وظيفتها فمنَّ الله عليكم بنمو أَجسادكم وحواسكم وملكاتكم، لكي تُحصِّلوا بها العلم والمعرفة، فبالسمع تسمعون، وتُدركون المسموعات، وبالبصر تدركون المرئيات، وبالعقول والأفئدة تميِّزُون بين الخير والشر والنافع والضار، وتحصلون العلم، وقد فعلنا ذلك لكم وأنعمنا به عليكم. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أَي لكي تشكروا الله وتعرفوا له فضله فلا تعدلوا به أحدًا سواه. 79 - {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}: هذه آية أخرى حثنا الله فيها علي النظر في عجائب صنعه.

والمعنى: ألم ينظر المشركون إلى الطير مسخرات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة والأسباب المساعدة عليه، فإن من تأمل الطيور السابحة في الجو: لا شيء يجذبها إلى أعلى، ولا سبب يحفظها من السقوط في أسفل، أَدرك أَن الله هو الذي سخرها للطيران وسخر لها الجو وأمسكها فيه، ولم يمسكها سواه، وذلك بما أَمدها به من أسباب تحفظها وتمسكها إن تسقط إلى الأرض، وتجعلها تجوب الفضاء وتعلو وتهبط وتسرع وتبطىءُ، وتميل يمينًا وتنحرف شمالًا، إِنه الله الذي أَعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير في الجو وإمساكهَا من السقوط لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، يسوقها لقوم لهم علم وعقل وإِيمان فما بال المشركين يعرضُون عن هذه الآيات الجليلة المستوجبة لطرح الشركاء، والتوحيد الخالص لرب العالمين. وخص المؤْمنين لأنهم هم المنتفعُون بالنظر والتَّدبُّر، وإن كانت الحجة قائمة على كل عاقل. 80 - {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا}: وتلك آية أخرى ساقها الله، مبيِّنًا بعض نعمه المستوجبة لشكره والإيمان به. والمعنى: أنه هداكم إِلى اتخاذ البيوت لكي تستريحوا وتسكنوا فيها بين أهليكم وأولادكم ولم يترككم تأوون إلى الغابات أَو تعيشون في الكهوف وقت إِقامتكم الدائمة، أما في الترحل والانتقال فقد ألهمكم ما يعينكم على تلك الحياة وهو ما ذكره تعالى بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا}: أي أرشدكم إلى صنع الخيام وضرب القباب في أَسفاركم، وهداكم إِلى اتخاذها من جلود الأنعام حيث: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}: تجدونها خفيفة الحمل قليلة الكُلْفة، فيسهل عليكم نقضها وحملها ونقلها إِذا ارتحلتم، فإذا ما أقمتم سهل عليكم ضربها للإقامة، فيها ما أَقمتم.

{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}: أي وهداكم كذلك إلى أن تتخذوا من أصواف الغنم وأوبار الإبل وأشعار المعز أثاث المنازل من البسط والفرش والكساء والغطاء والخيام، وما قد تحتاجون إليه في إقامتكم وأسفاركم تتنعمون به أنتم، أَو تتجرون به فتتسع أرزاقكم وتنمو بذلك أموالكم وتزداد ثرواتكم وتتمتعون به على أي وجه بما ذكر إِلى حين انقضاء آجالكم وانتهاء أعماركم أو حاجاتكم. 81 - {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ... } الآية. أي أَنه تعالى جعل للضاربين في الأرض مما خلق من الأشجار والجبال والتلال ونحوها ظلالا يستظلون بها من الحر، كما جعل لهم من الجبال ما يسكنون فيه أو يأوون إليه عند الحاجة، من المغارات والكهوف. {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}: ومن نعمه سبحانه أَن ألهمكم اتخاذ ملابس للسلم تقيكم الحر مثل الجلابيب والأردية والقمص والقلانس ونحوها مما يستر أجسادكم ويقيكم حر الشمس وبرد الشتاء. وقد استغنى بذكر الوقاية من الحر عن ذكر الوقاية من البرد لأن العرب تستغنى في لغتها كثيرًا بذكر أحد المتقابلين الآخر اكتفاء بأحدهما؛ لأنه يشعر بالمحذوف ويدل عليه، وكما أرشدكم إلى صنع لباس السم، ألهمكم أَن تصنعوا من الحديد ما يدفع عنكم الضربات ويرد الطعنات في بأس الحرب وشدتها. {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}: أي هكذا تتوالى نعم الله عليكم في حياتكم حتى تتكامل وتتم، لعلكم أنتم وكل من يصلح للخطاب والتذكير تتأملون وتتدبرون فتدركوا نعم الله عليكم، وتعرفوا لِواهِبِها قدْرَهُ فتنقادوا له، ولا تتخذوا معه الأنداد ولا تعبدوا ربًّا سواه، فأنت ترى من سرد هذه النعم أنه تعالى شمل بنعمته أهل الحضر وأهل المدر، فالكل بنعمته ينعمون، وبفضله يتمتعون.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُومِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)} المفردات: {تَوَلَّوْا}: أَعرضوا وأبوا. {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: التبليغ البيّنُ الواضح. {يُنْكِرُونَهَا}: يجحدونها ولا يعرفون فضل المنعم بها. {أُمَّةٍ}: جماعة من الناس. {شَهِيدًا}: أي نبيا يشهد بكفرهم أو بإيمانهم. {لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: أَي لا يسمح لهم بالاعتذار إذ لا عذر لهم. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}: ولا يطلب منهم العُتْبى أَي إرضاء الله يوم القيامة؛ والعُتْبى تطلق على الرضا - انظر القاموس. {يُنْظَرُونَ}: يمهلون ويؤَجل عذابهم. {نَدْعُو} نعبُد. {يَفْتَرُونَ}: يختلقون ويكذبون. {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ}: أي وأظهروا الاستسلام إلى الله يوم القيامة.

التفسير 82 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أي فإن أَعرض المشركون يا محمد بعد بيان الآيات الكونية والتنزيلية ولم يؤمنوا بما جئت به من الحق، فلا تحزن عليهم ولا تأسف على ما يصنعون فلست مسئولًا عن كفرهم. {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أى فما عليك إِلا أن تبلغهم ما أُرْسِلْت به إليهم تبيينًا يوضح معالم الدين ويبين الصراط المستقيم وقد فعلت على أتم وجه وأَكمله، وهم مسئولون ومحاسبون على عدم استجابتهم، أمَّا خلق الإيمان فى قلوبهم فلست بقادر عليه. قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (¬1). 83 - {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}: أى يعرف المشركون أن هذه النعم المذكورة وغيرها من عند الله فإذا سألتهم من الذى خلقها؟ قالوا: خلقها الله، وكان مقتضى هذه المعرفة أن لا يشركوا بالمنعم بها، وأن لا يعبدوا سواه، ولكنهم ينكرون نسبتها إلى الله بأفعالهم، وذلك بعبادة غير واهبها، وشكر غير مُسْدِيها من صنم أو غيره وعطف بثم التى تفيد التراخي والبعد، للدلالة على أَن إنكارهم أَمْرٌ ينبغى أن يكون مستبعدًا، وذلك بعد أن عرفوا نعم الله وسعدوا بها؛ إذ أَن من الواجب على من عرف النعمة وعاش فيها أن يعترف بها لمنعمها لا أن يجحدها وينكرها. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}: أى وأكثر أهل مكة هم الكافرون بها، حيث عبدوا غير الله وأعرضوا عن الحق، أما القليل منهم فقد آمن بالمنعم بها واستجاب لدعوة نبيهم الى توحيده. ويجوز أن يراد من نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يعرفونها بعقولهم ثم ينكرونها بألسنتهم عنادًا، وأكثرهم الجاحدون به، أمَّا القليلون منهم فقد هداهم الله، فآمنوا به صلى الله عليه وسلم، وثبتوا على إِيمانهم مع ما قاسوه من التعذيب والإيذاء. 84 - {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}: لما بين سبحانه حال الكافرين وأنهم عرفوا نعمة الله ثم أَنكروها؛ جاء بهذه الآية وعيدًا للمنكرين. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآية: 40.

والمعنى: واذكر لهم أيها النبى يوم القيامة، ونبئهم بما يقع فيه من الأهوال حيث يبعث من كل أمة شهيدًا من المرسلين، يشهد لمن آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر، حسبما علمه عن أُمته فى حياته. {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: أي لا يؤذن لهم فى الاعتذار إذ لا عذر لهم ولا حجة لديهم يدافعون بها عن أَنفسهم. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (¬1): أى ولا يطلب منهم أَحد فى هذا اليوم العتبى -أَي أَن يرضوا ربهم بتوبة أَو عمل صالح- فقد فات أَوان ذلك حيث كانوا فى دنيا التكليف، وقد أُعطوا الفرصة فيها فلم يفعلوا، فلا سبيل لهم بعدها إلى ذلك، فإِن الآخرة دار جزاء. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬2). 85 - {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: وتلك صورة أُخرى لما يكون عليه الكافرون من أَهل النار، أَى وإذا رأَى هؤلاء الذين ظلموا أَنفسهم بالكفر. -إِذا رأوا العذاب على كفرهم ومعاصيهم وعاينوه وشاهدوه، {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: إذ لا مجال للتَّخْفِيف بتوبة أو اعتذار، {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬3). 86 - {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ ... } الآية. وهذه صورة من الصور التى تكون بين الكافرين وبين من أشركوهم مع الله فى العبادة، أو عبدوهم من دون الله، فإِذا رأوهم نادوْا ربَّهم أذلَّاء صاغرين. {هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}: أَضلونا وحملونا على عبادتهم. كأنما يقولون: هم الذين يستحقون العذاب دوننا. وكل شيء يومئذ ينطق بإِذن الله فلهذا تكذبهم معبوداتهم من كل نوع كما حكى الله بقوله: ¬

_ (¬1) أصل الاستعتاب طلب إزالة العتب والغضب ويكنى به عن سلب الرضا وبهذا فسر قوله تعالى: "ولاهم يستعتبون" بمعنى ولا هم يطلب منهم أن يرضوا ربهم. (¬2) سورة فصلت، الآية: 461. (¬3) سورة التحريم، الآية: 7.

{فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}: أي إنكم كذبتم فيما زعمتم أننا شركاء لله، كما كذبتم في دعائكم أننا أَضللناكم ورضينا بكفركم، أو فيما تقولتم في دنياكم من استحقاقنا للعبادة، وما أضللناكم ولكنكم أَضللتم أنفسكم وعطلتم عقولكم، وما كان لنا عليكم من سلطان. 87 - {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: وهذه خاتمة أحوال الكافرين يوم الدين: إنها خزيهم واستسلامهم. والمعنى أَن المشركين استسلموا صاغرين بعد أن قامت عليهم الحجة وخاب أملهم في آلهتهم وضل سعيهم، وحقت عليهم الكلمة وباءُوا بغضب من الله. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وغاب عنهم كل ما افتروه من شرك آلهتهم لله، وشفاعتها لهم عند ربهم، غاب عنهم كل هذا ولقوا ربهم بفضيحة كفرهم وخزى معاصيهم. {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} المفردات: {صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: منعوا الناس عن الإيمان بدين الله. {شَهِيدًا}: شهيد كل أمة نبيها، فهو شاهدها. {هَؤُلَاءِ}: المشار إِليهم الأمم أَو الأنبياءُ، أَو الكفار من أمة سيدنا محمد. {الْكِتَابَ}: القرآن. {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: توضيحًا لأحكام كل شيء.

التفسير 88 - {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... } الآية. بعد أن ذكر سبحانه وتعالى استسلام الكافرين واعترافهم بكفرهم بين يدي أَحكم الحاكمين أَوضح جزاءهم في تلك الآية الشريفة. والمعنى: أَن الذين كفروا بالله فلم يعترفوا بوحدانيته، وصرفوا الناس عن دينه الذي هو سبيله الأقوم. {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ}: ضاعفنا عذابهم ضعفين، عذابًا بكفرهم وغيهم وضلالهم، وعذابًا بصدهم الناس عن الإيمان وحملهم إياهم على الكفر والفسوق والعصيان فاستحقوا أن يزادوا عذابًا. {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}: بسبب استمرارهم على الإِفساد وإصرارهم على الضلال، وفي الآية دليل على تفاوت العذاب في دركاته كما يتفاوت النعيم في درجاته. 89 - {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: واذكر أيها الرسول للناس يوم القيامة حيث نبعث في كل أمة شَهيدًا عليهم من أنفسهم، أَي من بينهم وجنسهم وبلغتهم لمعذرتهم. وشهيد كل أمة نبيها، يشهد لها أَو عليها بما كان منها من الاستجابه له، أَو الإعراض عنه والصد عن سبيله كما تقدم بيانه. {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ}: وأَحضرناك يا محمد يومئذ شهيدًا على أمتك هؤلاء، تشهد عليهم كما يشهد كل نبي على أمته، ويجوز أن يكون المراد من {هَؤُلَاءِ}: الأنبياءُ، فهم يشهدون على أممهم، وأنت يا محمد تشهد لهم بأنهم بلغوا ما أمروا بتبيلغه كما أخبرك به العليم الخبير في كتابه العزيز، أو جئنا بك يا محمد شهيدًا على الأمم بما لاقوْا به رسلهم من إِيمان وتصديق أَو إِنكار وتكذيب على ما أعلمك ربك. وقد ورد في تفسير تلك الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنه قرأ سُورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: حسْبُنا.

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: أي وآتيناك القرآن مبينًا لأحكام كل شيءٍ من شئون معاش الناس ومعادهم، والبيان الذي جاء به القرآن للأحكام إما بإيراد نص فيها، أَوبالإِحالة على السنة كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). أَوبالإِحالة على الإِجماع حيث أَوجب الأخذ به وتوعد على مخالفته في قوله تعالىَ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). أوبالإِحالة على القياس وذلك في قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (¬3) فالاعتبار التَّبصُّرُ والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس فهذه أَربعة طرق لا يخرج عنها شىءٌ من أحكام الشريعة الإِسلامية، وكلها مذكورة في القرآن، فكان بحق تبيانًا لكل شيء. {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}: أَي وكان منشأ الهداية والرشد، كما أنه رحمة للمسلمين وبشرى لهم بحسن المصير وطيب المنقلب إلى ربهم؛ لأنهم أَسلموا وجوههم إلى الله، وأَحسنوا أقوالهم وأَعمالهم ونياتهم لربهم. {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (¬4). {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} المفردات: {يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}: يأمر بالإنصاف وعدم الظلم. {وَالْإِحْسَانِ}: هوإتقان العمل وإِكماله. {ذِي الْقُرْبَى}: المراد به صاحب القرابة طلقًا. {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ}: الفحشاء ما عظم قبحه قولًا أوفعلًا، ويكثر إِطلاقه على الزنى. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، من الآية: 7 (¬2) سورة النساء، الآية، 115 (¬3) سورة الحشر، من الآية: 22 (¬4) سورة لقمان من، الآية: 22

(وَالمُنكَرِ): كل ما أَنكره الشرع من الذنوب والمعاصي. (وَالبَغْي): وهو التطاول على الناس ظلمًا وعدوانًا. التفسير 90 - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ... } الآية. هذه الآية كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "أَجمع آية في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرها لكفت فى كونه تبيانًا لكل شيء وهدى ". أخرجه البخارى فى الأدب والحاكم وصححه ابن جرير واللفظ له. وقد قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم على الوليد بن المغيرة. فقال له: يا ابن أَخى أعد على فأعادها عليه. فقال له الوليد والله إِن له لحلاوة. وإن عليه لطلاوة، وإن أَعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى، وما هو بقول بشر، ولما سمعها أكثم بن صيفي من وفد قومه إِلى الرسول قال: إني أَراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن مذامها. فكونوا فى هذا الأمر رءُوسًا ولا تكونوا فيه أَذنابًا، ذلك لأنها جمعت إجمالًا بين ما يجب عمله من الفضائل وما يتعين تركه من الرذائل، والعدل الذى يأمر به سبحانه خُلقٌ جامع لكل الفضائل من القول والعمل. يغرس فى الإنسان حب الاستقامة والمساواة، والرغبة فى طاعة الله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وإنصاف الناس من نفسه، وإِنصاف بعضهم من بعض وهذا الخلق يجعله إذا ما تصرَّف فى أَمر من الأمور أو تخلَّق بخلق يتوسَّط فيه بين الإفراط والتفريط، وقال سفيان بن عيينة العدل استواءُ السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا وكما يأمر سبحانه بالعدل ويدعو إليه. فإنه يأمر بالإحسان، وهو إحسان العمل وإتقان العبادة أَى الإتيان بها على الوجه المطلوب الذى يليق بها من حيث الإخلاص لله، وكمال العبودية له، ويشير إلى ذلك ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحْسَانُ أن تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَم تكُنْ تَرَاهُ فَإنهُ يَرَاك" هذا بحسب الكيفية، وأَمَّا بحسب الكمية فبكثرة التطوع بالنوافل الجابرة لما قد يقع فى الواجبات من شائبة التهاون والنقص

أو بالاستزادة من كل ما يحقق للطاعة مراتب الكمال، ويجوز أن يراد به الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم، وأَسْمى درجاته على هذا المعنى، الإحسان إِلى المسيء مع التمكن منه والقدرة عليه، وقد أَمر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن الحكم المنسوبة إلى عيسى عليه السلام قوله: "إنَّمَا الْإحْسَانُ أنْ تُحْسنَ إلَى مَن أسَاء إِلَيْكَ. لَيْسَ الْإحْسَانُ أَنْ تحْسِنَ إلَى مَنْ أحْسَنَ إلَيك" أَخرجه ابن أبي حاتم عن الشعبى. ثم يأمر سبحانه بصلة الأقارب حفاظًا على روابط الدم والنسب فيقول: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}: أي أنه يأمر بصلة ذوى الأرحام. على أي درجة كانت قرابتهم، وذلك بإعطائهم ما يحتاجون إليه، لا فرق بين الأقربين منهم والأبعدين، ويشير إلى ذلك ما جاء في النص الكريم من طلب إعطاء ذى القرابة مطلقًا, ولو طلبها للأقرباء أو للأقارب أو للأقربين لم يفد التعميم؛ لأن هذه الصيغ تقيد الإحسان لأكثرهم قرابة، فلذا جيء بهذا النص الكريم ليعم ذوى القرابة مطلقا، والتصريح بإيتاء ذى القربى مع أنه داخل في الإِحسان الذي يأمر به الله سبحانه، للاهتمام بشأن صلة القرابة وإعطائها حق قدرها، وبعد أن ذكر سبحانه ثلاثة من المأمورات. أَتبعها بذكر ثلاثة من المنهيات فقال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}: أَي ينهاكم عن الفحشاء قولا وعملًا، والفحشاءُ: كل ما عظم قبحه من الذنوب ويكثر إطلاقها على الزنى، وكما ينهاكم عن الفحشاء ينهاكم عن جميع ما أنكره الشرع من المعاصي والآثام، وينهاكم أيضًا عن البغى على الناس ظلما وعدوانًا بانتهاك حرماتهم، واغتصاب حقوقهم. {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: جملة مستأنفة لبيان الحكمة في تشريعات هذه الآية الكريمة التي تعتبر دستورًا لمكارم الأخلاق. والمعنى: أَنه تعالى ينبهكم بما جاء في هذه الآية الكريمة، لكي تتعظوا فتسلكوا سبيلها وتعملوا بما جاء بها.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)} المفردات: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}: العهد ما ألزم الإنسان به نفسه أو أَلزمه به غيره بموافقته، وعهد الله يعم كل تكليف من الله، ويدخل فيه البيعة على الإِسلام. {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ}: المراد من نقضها عدم الوفاء بها. {كَفِيلًا}: شاهدًا أو رقيبًا. {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}: حلَّته بعد فتله وإحكامه. {أَنْكَاثًا}: جمع نِكْث على وزن حِمْلٍ وهو الصوف بعد حله. {دَخَلًا بَيْنَكُمْ}: أي خديعة ومفسدة. {أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}: أَكْثَر منها مالا وأَعز نفرًا. التفسير 91 - {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}: لما ذكر سبحانه في الآية السابقة الأمور التي يترتب عليها إصلاح الفرد واستقرار الجماعة علي سبيل الإجمال. أتبع ذلك تفصيل بعض ما أجمل ليوضح لعباده معالم الطريق إلى الأمن

والسلامة فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} أي التزموا الوفاء بكل عهد وبيعة لله تعالى، ويدخل فيها البيعة على الإِسلام، والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله سبحانه: {إِذَا عَاهَدْتُمْ} بعد قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} لتأكيد وجوب التزامهم بالوفاء، وذلك بتذكيرهم بأن هذا العهد قطعُوه على أنفسهم برغبة منهم واختيار. {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: أي لا تحنثوا في الأيمان التي تحلفون بها عند البيعة وغيرها, ولا سيما الأيمان التي أَكدتموها بتكرارها وتنويعها. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}: أَي رقيبًا يتكفل بوفائكم، حينما تعاقدتم، فلا سبيل لكم إِلى نقض العهد والحنث في الأيمان لأن الكفيل مراع لحال المكفول مهيمن عليه، فلا يستطيع الإفلات من قبضته، فكيف إِذا كان هذا الكفيل، هو الله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض يعاقب الغادرين، ويثيب الأوفياء. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}: من نقض المواثيق والعهود أَو الوفاء بها، وفي هذه الجملة تعليل للنهي عن نقض الأيمان، مشعر بالوعد على الوفاء والوعيد على الغدر. 92 - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}: أي ولا تكونوا في نقضكم لما تعقدون من عهود كالمرأَة الحمقاء التي كانت تغزل غزلها قويا متماسكًا ثم تنقضه من بعد ما أحكمته، تنقضه أنكاثًا أي طاقات، وذلك بفك أجزائه بعضها من بعض ونفشه لتعاود غزله وتلك حماقة لا تعدلها حماقة، ويراد من هذا التشبيه تقبيح حال النقض للعهد، بتمثيل الناقض له بحال هذه المرأة المعتوهة في أخس أحوالها، تنفيرًا منه وتقبيحًا له. حيث جعل في عداد حمقى النساء، والكلام من باب ضرب المثل، ولم يقصد به امرأَة معينة، كما قاله مجاهد وقتادة. {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}: الدخل في اللغة ما دخل في الشيء وليس منه، والمراد به هنا الغش والخديعة والمعنى: لا تكونوا في نقضكم للعهود مشابهين للمرأة التي سبق بيان شأنها، حال كونكم متخذين أيمانكم التي حنثتم فيها خديعة ومفسدة حيث جعلتموها وسيلة للغدر وعدم الوفاء وكان من حقها عليكم أَن تكون سبيلا إِلى أن تلتزموا بما عاهدتم الله عليه، والجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكارى تقديرا. أي أتتخذون إيمانكم دخلا بينكم بمعنى لا ينبغي أَن يقع ذلك م

{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}: أي لا تنقضوا العهود طمعًا فى التحالف مع جماعة هى أكثر مالًا وأَعز نفرًا، بدل جماعة أخرى أَقل منها وأَهون، كما كانت تفعل قريش، فكانوا ينقضون العهود مع حلفائهم، ويحالفون أعداءهم إذا ما رأَوا فيهم قوة ومنعة، قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون منْ هُو أكثر منهم وأعز نفرًا فينقضون حلف هؤُلاء ويحالفون أُولئك فنهوا عن ذلك اهـ - وعلى هذا تكون الآية تحذيرًا للمؤْمنين أَن يغترُّوا بكثرة قريش وسعة أموالهم، فينقضوا بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيًّا كان السبب فالآية قاعدة عامة تحض على الوفاءِ بالعهود. والمعنى الإجمالي للآية: ولا تتخذوا أَيمانكم للخديعة والمكر، بأن تحلفوا للناس على ما عاقدتموهم عليه ليطمئنوا إليكم، ثم تغدروا بهم رغبة فى إِرضاءِ أُمة أقوى من الأُمة التى عاهدتموها، لتكون قوة لكم ومنعة بدلا منهم. وإِذا كان الله سبحانه قد نهى عن الغدر والحالة هذه. فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة الذاتية بطريق الأولى. {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ}: أَى إِنَّما يختبركم بكثرة أُمة عن أُمة، لينظر أَتتمسكون بعهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أم تخدعكم كثرة قريش وقوة شكيمتهم وقلة المؤْمنين وضعفهم حسبما يدل عليه ظاهر الحال. أو يختبركم أَيها المؤْمنون جميعًا بهذا التشريع فى عهودكم ومواثيقكم ليظهر ما تضمرونه من غدر أو وفاءٍ. {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}: فى الدنيا، فيجازى كل عامل على عمله خيرًا كان أَو شرًّا. وستجد كل نفس ما عملته محضرًا، لا تخفى منه خافية، وفى ذلك إشارة واضحة إِلى الإِنذار والتحذير. 93 - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}: أى ولو شاء الله إِلْجاءَكُمْ على الإِيمان لجمعكم عليه وجعلكم أمة واحدة. {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}: أَي ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك حيث أضل فريقًا وهدى آخر، فأما الفريق الأول. فهو من استحب العمى على الهدى، وأما الفريق الثاني فهو من آثر الحق على الباطل، فقد اقتضت عدالته أَن يجعل لعباده اختيارًا، فمن اختار شهوات الدنيا على طاعة ربه. تركه وما يريد تبعًا لاختياره وإصراره، ومن

اختار رضا الله بالعمل الصالح سهَّل له ما أَراد تحصيله بدافع مما عنده من رغبة واختيار، وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أَي وتأكدوا بلا شك أَنكم ستسألون جميعًا يوم القيامة سؤال محاسبة عن عملكم في الدنيا، لينال كل عامل جزاء عمله ثوابًا أَو عقابًا. {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)} المفردات: {الدَّخَل}: الغدر والمكر والخديعة ونحوها. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}: زلَلُ القدمِ حسب اللغة زلقُها في طين ونحوه، ويُكنى به عن الوقوع في البلاء والمحنة بعد العافية والنعمة كما هنا {السُّوءَ}: المكروه. {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: بسبب إِعراضكم عن أَحكام دينه، في سبيله إلى الوفاء بالعهود والأيمان وسائر الفضائل. {ثَمَنًا قَلِيلًا}: عرضا قليلًا، {يَنْفَدُ}: يذهب ويفنى. التفسير 94 - {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} الآية. تحذير صريح من الله لعباده من اتخاد الأيمان دخلا أي خديعة، بعد تحذيرهم فيما سبق تلميحًا واستنكارا في قوله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} .. الآية قصدًا إلى المبالغة في قبح الغدر المنهي عنه، وللتمهيد لقوله سبحانه:

{فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}: والمعنى: احذروا هذه الأيمان الكاذبة لئلا تحيد قدم عن سبيل الإِسلام بعد رسوخها فيه، وإفراد القدم وتنكيرها للإِشعار بأَن زلل أي قدم ذنب عظيم وإثم كبير، فكيف بالأقدام الكثيرة. وهو مثل يضرب لكل من كان على الطريق المستقيم فجانبه. {وَتَذُوقُوا السُّوءَ}: إلى ما يسوءُكم من العذاب الدنيوى ومختلف المكاره. {بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: بسبب إعراضكم عن دين الله وعدم الاهتمام بتعاليمه، أو بما تسببتم فيه من صد غيركم عن هذا الدين, لأَن الكافر إذا رأى المؤْمن قد عاهد ثم غدر أَو حلف فحنث أو نقض عهد رسول الله وارتد. لم يبق له وثوق بدين، وكان داعيا له إلى شدة الإعراض عن الإسلام. {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: أي ولكم في الآخرة عذاب لا يعلم مداه ولا يحيط بقدره إلا الله جل شأنه. لقاء ما اقترفتم من كبائر وسيئات. 95 - {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ... }: قيل المراد من عهد الله، بيعة رسوله صلى الله عليه وسلم على الإيمان أو هو الآيات الداعية إلى إيجاب المحافظة على العهود والأيمان. والمعنى: لا تستبدلوا به ولا تعتاضوا عنه. {ثَمَنًا قَلِيلًا}: أي تأخذوا بمقابل عهده سبحانه عرض الدنيا وزينتها، فإن هذا العرض مهما كثر في موازينكم فإِنه يكون ضئيلا بالنسبة إلى عطاء الله. أو هو عرض يسير في واقعه وحقيقته فلا يحل لأحد أن يتناوله, ويتخلى عن عهد الله الذي يجب الوفاءُ به، ويستحق الوفيُّ به عند الله أجرًا عظيمًا أَما عرض الحياة الدنيا فهو قليل وزائِل كما قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}. ويشار بالثمن القليل القليل إلى ما كانت تعد به قريش ضعفاء المسلمين للارتداد عن الإِسلام، وقال ابن عطية: هذا نهْىٌ عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله. أو فعل ما يجب عليه تركه، وعلى ذلك فالمراد بعهد الله ما يعم ما سبق وغيره. {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ}: أي إِن الذي عند الله من نصر وتوفيق وثواب أخروى دائم.

{هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. من هذا الثمن القليل الذي يعدونكم به لإِغرائكم بنقض العهود، أَو الذي يصل إِليكم عن أَي طريق، في مُقابل ترك عهد الله والتخلى عنه. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أَي إن كنتم من أهل العلم والإدراك والفهم. فتدبروا التفاوت البين بين خيري الدنيا والآخرة. وبين ما يمقته سبحانه وما يرضى عنه. 96 - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ... }: أي ما لديكم من خيرات الدنيا وطيباتها يذهب وينتهي مهما طال به الأَمد، وامْتدَّ به الزمن. وكثر منه العدد. {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ باقٍ}: فهو يعطيكم من فيض رحمته. وخزائن نعمه التي لا نفاد لها ولا فناء لنعيمها في الدنيا والآخرة. أَما حصول ذلك في الآخرة فظاهر. وأما في الدنيا فلأن نعيمها موصولا بنعيم الآخرة ومستتبع له, ولهذا الارتباط كان النعيمان من الباقيات الصالحات، ومن هنا كان التعبير في الآية بلفظ {بَاقٍ} أولى من التعبير بلفظ يبقى لإِفادة الدوام والاستمرار. {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أكّد سبحانه النص على منح الصابرين أَجرهم الخاص بهم بجملة القسم {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ} المعبر فيها بنون العظمة، لحفزهم على قوة الاحتمال والثبات على إِيذاء المشركين لهم, والصبر على مشاق التكاليف التي تنتظم احتمال الأذى في سبيل الوفاء بالعهود والبر بالأيمان. والمعنى: ولنَجزينَّ الذين صبروا على مشاق التكالف الشرعية ومنها الوفاء بالعهد، - لنجزينهم - بحسب أَحسن اعمالهم. فيكون عطاؤُنا لهم جزاءً الأدنى من هذه الأعمال كعطائنا لهم جزاءَ الأعلى منها من الأجر الجزيل, تفضلا منَّا وكرمًا، وتلك عِدَة كريمة بغفران ما قد يعترى صبرهم على مشاق التكاليف من تفسير أَو قصور, فإن أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون يقتضي هذا التجاوز والغفران.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} المفردات: {حَيَاةً طَيِّبَةً}: يراد بها حياة هنيئة مرضية. {قَرَأْتَ}: أَردت القراءَة. {الرَّجِيمِ}: المطرود من رحمة الله. {سُلْطَانٌ}: تسلط وقهر. {يَتَوَلَّوْنَهُ}: يتخذونه وليًّا يتبعون أَمره. التفسير 97 - {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: شروع في ترغيب المؤْمنين جميعًا وحثهم على كل عمل صالح. تدعو إِليه شرائع الإسلام وتعاليمه، إِثر ترغيب جماعة منهم في الثبات على العهد والاستمساك بما هم عليه من عمل صالح خالص مهما قدم لهم عن المغريات على نكثه. والمعنى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى من المكلفين وهو مصدق تمام التصديق بما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أَعمال الكفرة لا اعتداد بها , لا وزن لها مهما كان فيها من البر، وأوثرت الجملة الإِسمية في قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لدلاتها على الدوام والاستمرار. {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: أَي فلنُعطينَّهُ في الدنيا ما تطيب به حياته من كل ما يتطلبه عيشه, من سعة في المال، وبركة في الصحة والعيال أو بما وهبناه من قناعة ورضا بما قسم له, وتوقُّعٍ للأجر العظيم في آخرته. وقيل: هي حياة الآخرة التي تكون في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر. وصحة بلا سقم. وسعادة بلا شقاوة. أخرج ابن جرير,

وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال: ما تطيب الحياة لأحدٍ إِلا فى الجنة، وقيل هى حياة البرزخ ففيها يشعر الميت بأنه من أهل السعادة أو من أَهل الشقاء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي ولنجزينهم فى الآخرة جزاء موافقا لأحسن أَعمالهم حسبما نفعل بالصابرين الذين ذكر جزاؤُهم فى الآية التى سبقت. وقد ذكر الجزاء هناك خاصًّا بالصابرين، وهنا عاما لبيان شموله لكل من يعمل عملا صالحا خالصا لوجه الله. وذلك لا يدع أى مجال لشائبة التكرار بين الآيتين حيث اختلف الغرض المقصود من كل منهما. 98 - {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}: بعد أن ذكر سبحانه أن أَساس الجزاء الموفور هو صلاح العمل واستقامته. جاءت هذه الآية لبيان ما يصان به العمل الصالح ويخلص من شوائب النقص أو الفساد. والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاسأل الله سبحانه أن يعيذك ويحفظك من وساوس الشيطان المطرود من رحمة الله، والأمر بالاستعاذة منه للندب عند جمهور العلماء، وروى عن الثوري وعطاء أنه للوجوب، نظرًا لظاهر النظم الكريم، وهو مخالف للمنقول عن جمهور العلماء، والخطاب عام لكل مسلم يقرأ القرآن الكريم، وهذا هو الذى يقتضيه السياق، وقيل إِنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وتوجيه الخطاب إليه، على هذا الرأى، للتنبيه على أنها لغيره صلى الله عليه وسلم آكد، فإنه صلى الله عليه وسم مُحصَّن من الشيطان، ومع هذا فقد أُمر بالاستعاذة منه، فما ظنك بغيره، وصيغة الاستعاذة المأثورة هى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لتضافر الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ كذلك. وروى عن ابن مسعود أنه قرأ على النبى صلى الله عليه وسم: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له صلى الله عليه وسلم: " يا ابن أُم عبْدٍ: قُلْ أعُوذُ بِاللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجِيم. هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ" روى ذلك الثعالبى والواحدى. 99 - {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: أي أنه ليس للشيطان تسلط وتأثير على المؤْمنين المتوكلين على الله ربهم، حيث إن دعوته لهم إلى الشرك والمعاصي غير مستجابة، ووسوسته لا تؤثَر فيهم، لاعتصامهم بالإيمان المتين،

وإخلاصم العبادة لله رب العالمين، وتوكلهم عليه وحده في كل ما يعملون وما يتركون، واستعانتهم به على تحمل مشاق التكاليف ونزغات الشيطان، أو أنه كما قال الثورى: ليس له عليهم سلطان يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه. 100 - {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}: أي ما سلطانه وتأثيره وهيمنته وولايته، إلا على أتباعه الذين يطيعونه ويستجيبون لإغرائه ووسوسته إلى درجة الشرك، وهم بمعزل في غوايتهم هذه عن القهر والإكراه، فلو أصروا على عصيانه لنجوا من كيده، حيث يقول جل شأنه حكايته عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وفي ذلك يقول الله تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬1). {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} المفردات: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}: جعلناها بدلا منها لإحلال حكم محل آخر. ¬

_ (¬1) سورة الحجر؛ الآية: 42

(مفْتَرٍ): مختلق وكاذب. (روحُ القُدُسِ): جبريل عليه السلام، والقدس الظهر. (يُلْحِدُونَ إلَيْهِ): يميلون إلَيْه من الإلحاد وهو الميل عن القصد. ومنه اللحْدُ لميل الشق فيه إلى الجنب. (أَعجَمِيٌّ): أَى أنه فى نطقه عجمة تتنافى مع الفصاحة القرآنية. التفسير 101 - {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}: أي وإِذا أنزلنا من القرآن الكريم آية تفيد حكما جديدا، وجعلناها مكان آية فى شريعة سابقة تخالفها فى الحكم أَو جعلنا معجزة بدل معجزة كانت لنبى سابق. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: على أنبيائه من أَحكام أو معجزات ويعلم وجه مناسبته لزمانه، فكل وقت من الأحكام والآيات ما يناسبه، فما يكون مصلحة فى زمن. قد يكون مفسدةً في زمن غيره، وما يكون معجزة لنبي مع قوم بعث إِليهم قد لا يتناسب مع آخرين ليحصل به التحدي والإفْحام. وجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} ذكرت اعتراضا بين الشرط والجواب لتوبيخ المشركين والتنبيه على فساد رأيهم، لأنهم لو أنصفوا أنفسهم لتركوا أمر ذلك إلى علم الحكيم الخبير. وحكى شأنه جرمهم الذي اقترفوه عندما وقع التبديل، فقال تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}: أي قال الكافرون مخاطبين الصادق الأمين: ما أَنت إلَّا مُتقولٌ على الله مختلق نسبة الأحكام إليه لأنك تنسخ أَحكاما جاءت فى الرسالات السابقة، مع أنها من عند الله، ولم يقولوا ذلك عن دراية {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: شيئًا أصلا فهم جهلاء أَغبياءُ أو لا يعلمون أن في التبديل حِكمًا بالغة. وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم، لأن بعضهم كان يعلم يقينا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإِنما يصفه بالافتراء مكابرة وعنادا. 102 - {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}: قل أَيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يصفونك بافتراء القرآن، قل لهم ليس هذا القرآن مفترى بل نزله روح القدس جبريل عليك بالحق من ربك الذى يحيطك بآثار ربوبيته، نزله عليك ليُثبت الذين آمنوا على الإيمان ويبعدهم عن ضلال العقيدة، لما فيه من الحجج والبراهين المطمئنة للقلوب، وليثبتهم على التصديق بأن النسخ فيه لمصلحة

البشر, وليهديهم إلى سبيل الرشاد، ويبشرهم بحسن الجزاء وكريم اللقاء، وفيه دليل على أن أَضداد الصفات المذكورة للمفترين من الكفار، فلهم خزي الدنيا وعذاب النار. وإطلاق روح القدس على جبريل عليه السلام؛ لأنه ينزل بالقدس أي الطهر من الله, والمراد به الوحى الذى يطهر النفوس من الجهل والإثم، وقيل لطهره من الأدناس البشرية، فهُو من إِضافة الموصوف إلى صفته، فكأنه قيل: نزله الروح المقدس .. أي المطهر - كما يقال: حاتم الجود .. أي حاتم ذو الجود. 103 - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}: رد من الله سبحانه لفرية خبيثة أثارها كفار مكة حول محمد صلى الله عليه وسلم. حيث قالوا: إنه لا يعلمه هذا القرآن إلا بشر نعرفه, يريدون به غلامًا أعجميا كان يقرأ التوراة والإِنجيل ورأَى فيهما أَوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه بعد أَن تحقق من صفات النبوة فيه. ولقد كذبهم الله تعالى في زعمهم هذا بقوله جل شأنه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}: أَي كلام الرجل الذي ينسبون إِليه تعليم الرسول, ويُميلون إليه فريتهم ما هو إِلا كلام أعجمي لا يفهمه عربي. {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}: أي وهذا القرآن الذي تدعون أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعلمه من أعجمي, إنما هو كلامٌ عربي بلغ القمة في البيان والفصاحة والبلاغة, حتى عجزت العرب عن محاكاته، وهم على ما هم عليه بلاغة وفصاحة وقوة بيان، وعذوبة لفظ, وسلامة قول: بل لو اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لاستبان عجزهم, وظهر قصورهم، ولو كان بعضهم لبعض نصيرًا ومعينًا، فكيف تجعلونه من تعليم بشر أعجمي، وهو لا يمكن أن يصدر إلا عن واهب القوى والقدر جل وعلا. 104 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: المراد بالآيات هنا القرآن الكريمُ، كما دلت عليه الآيات السابقة.

والمعنى: إن الذين لا يؤْمنون بآيات القرآن ولا يصدقون بأنها آيات الله وينسبونها تارة إلى الكذب والافتراء، وأخرى إلى أنها مُعلمة من بشر {لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ}: أي لا يوفقهم إلى طريق النجاة، لعلمه سبحانه أنهم ليسوا أهلا لذلك، لسوء حالهم التابع لسوء اختيارهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: في الآخرة لكفرهم بآيات الله، وإعراضهم عن هداه. 105 - {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: ردّ لقولهم إنما يعلمه بشر، ببيان أن الذين ينسبون الافتراء والكذب إلى رسول الله ما هم إلا الذين اعتادوا الكفر بآيات الله وحججه الدالة على وحدانيته، فلا غرابة في تكذيبهم رسول الله المؤيد بآياته الواضحة في القرآن العظيم الذي أعجز ... الجن والإنس، وظهر لهم عجزهم عن الإتيان بسورة مثله، وثبت بذلك أَنه منزل من عند الله، فهم بإنكارهم هذه الحقيقة يفترون على الله الكذب، حيث زعموا أَن ما هو كلام الله مفترى عليه، ولا يجرؤُ على افتراء الكذب وقلب الحقائق إِلا الكافرون الذين اعتادوا على تكذيب آيات الله وبراهينه أمثالهم. ويصح أن يكون المعنى: ما يفتري الكذب وينسبه إلى الله إلا الذين لا يصدقون بالبراهين والآيات الدالة عليه سبحانه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس منهم، فهو أكمل الناس علمًا بربه، وإيمانا بآياته الدالة عليه، وقد عرفتموه بينكم ودعوتموه بالصادق الأمين، فكيف يفترى الكذب على الله، كما نسبتموه إليه زورا وبهتانا. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}: أي أولئك الموصوفون بعدم الإيمان بآيات الله، هم المتناهون في الكذب، إذ لا كذب أشنع من تكذيب آيات الله والطعن فيها، مع وضوح أنها آياته وبراهينه سبحانه وتعالى.

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} المفردات: {أُكْرِهَ}: أُجْبر على التلفظ بكلمة الكفر. {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: آثروها على الآخرة فعملوا لها. {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: ختم عليها، والمقصود أنه حال بينها وبين الحق لإصرارها على الكفر. {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}: من طابت به نفسه. {لَا جَرَمَ}: لا محالة، {فُتِنُوا}: امتحِنُوا وابتلوا. التفسير 106 - {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ}: هذا ابتداءُ كلام. لبيان حال من كفر بآيات الله بعد إيمانه إثر بيان شأن من جحدها. ولم يؤْمن بها أصلًا.

والمعنى: من جحد وجود الله أو أَنكر دينه الحق من بعد إيمانه، وسلوكه سبيل المؤْمنين فإِن الله يغضب عليه ويعذبه عذابا عظيما (¬1). ثم استثنى الله من هذا العقاب منْ أكره على الكفر بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}: أي إلا من أُرغم على الكفر بشيء يخشى منه على نفسه أو على عضو من أَعضائه. فكفر. وحاله في اطمئنان قلبه, وسلامة عقيدته لم تتغير، فلم يخالط يقينه أي شك أَو تردد فلا، يضره وهذا الكفر. بل هو في كنف الله ورعايته. {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}: أي لم يكن مكرها على الكفر. بل آثره واطمأنت إليه نفسه، وتفتَّح له قلبه. انشرح به صدره {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ}: أَي فينزل عليهم ويحل بهم غضب عظيم من الله. لا يدركون كنهه, وقد أَشعر إظهار اسمه الجليل في معرض الوعيد بشدة العذاب لهؤُلاءِ الكافرين المتعمدين للكفر. وفي سبب نزول هذه االآية روىَ العوفِيُّ عن ابن عباس: أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم - فوافقهم على ذلك مكرها , وجاء معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأَنزل الله هذه الآية، هكذا قال الشعبي وأَبو مالك وقتادة، وفي رواية ابن جرير. فشكا ذلك إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك" قال مطمئنا بالإيمان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عادوا فَعُد". 107 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}: الإشارة راجعة إلى وعيد من كفر بعد الإيمان. أَي ذلك الوعيد السابق. بإِنزال الغضب والعذاب العظيم عليهم منه تعالى بسبب إيثارهم الدنيا وزينتها وتعلقهم بمطامعها ومفاتنها وإِعراضهم عن الآخرة. إيثارا للعاجل الفاني. على النعيم الباقي. {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}: أَي وذلك الوعيد أيضا بسبب أَن الله تعالى لا يهدي القوم الكافرين الإِيمان، على سبيل القهر والإلجاء؛ لأنه ثبت في علمه المحيط اختيارهم الكفر على الإيمان وإِصرارهم عليه، فلهذا لم يعصمهم من الزيغ, ولا مما يؤدي إِليه من إنزال الغضب عليهم. والعذاب العظيم بهم, فمن بعُد عن الله بعد اللهُ عنه وأَدناه من عقابه، ومن تقرب إلى الله قرب الله منه وأدناه من رحمته. ¬

_ (¬1) هذا الجواب الذي قدرناه هنا مستفاد من قوله تعالى فيما سيأتي: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه.

108 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .. }: أي أولئك الموصوفون بما ذكرته الآيات السابقة من ألوان الكفر، وقبائح الأعمال، ختم الله على قلوبهم فصارت مغلقة لا تقبل الحق، وعلى أسماعهم فلم يعودوا يسمعون سماع فهم وتدبر كأَنهم صُمّ، وختم على أبصارهم فلا تحسن رؤْية ما يحيط بهم من عجائب الكون التى تتحدث بقدرة الخالق، ووحدانية المبدع جل شأنه. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}: أي وأُولَئِك هم الغارقون فى الغفلة البالغون غايتها ومنتهاها دون سواهم، إذ لا غفلة أقوى في آثارها من الغفلة عن تدبر العواقب الوخيمة، والتفكير فى المصالح العظيمة. وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما. أنه قال: غافلون عما يراد بهم في الآخرة. 109 - {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: أَى لا محالة أَنهم هم الخاسرون فى أُخراهم، حيث ضيَّعوا أعمارهم فيما لا يفيد، وصرفوها فى اقتراف المعاصي والآثام التي تفضي بهم إِلى غضب الله عيهم، والخلود فى العذاب الأليم، وكان عليهم أَن يتجهوا إلى ما خلقوا له من توحيد الله وعبادته، وإلى كل عمل نافع لهم فى الدنيا والآخرة. 110 - {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا}: أي ثم إن ربك يا محمد نصير لمن هاجروا من دار الكفر إِلى دار الإِسلام من بعد ما فتنهم الكافرون وآذوهم بالعذاب لحملهم على الارتداد، ثم جاهدوا أنفسهم وصبروا على أذى معذبيهم، فلم يشكوا ولم يكفروا، بل ظلموا على سلامة عقيدتهم التى يخفونها ويضمرون التمسك بها. والآية نزلت فى عمار وخباب ونحوهما ممن أُوذوا في سبيل الله. وقرأ ابن عامر: {مِنْ بَعْدِ مَا فَتَنُوا} بالبناء للفاعل أي من بعد ما فتنوا غيرهم، أي من بعد عذب المشركون المؤْمنين كالحضرمي أَكْره مولاه جبْرًا على الارتداد ثم أسلما وهاجرا. وأصل الفتْن إدخال الذهب فى النار لتمييز الجيد من الرديء. ثم أُطلق على البلاء وتعذيب الإنسان مجازًا، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: إِن ربك يا محمد من بعد ما فعلوه من الهجرة والجهاد فى سبيل الله والصبر على المشاق لعظيم المغفرة. يغفر لهم ما أُكرهوا عليه من كلمة كفر قالوها ليتقوا بها العذاب. ويغفر لهم غيرها من السيئات -إن ربك عن بعد

ذاك - لواسع المغفرة والرحمة فيتفضل بإثابتهم على ما صنعوا من هجرة وجهاد وصبر، من بعد فتنتهم وإيقاع العذاب بهم، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. إشارة إلى إظهار كمال اللطف به، والعناية بشأنه، مع الإشعار بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة ببركته عليه الصلاة والسلام لكونهم أتباعًا له صلوات الله عليه وسلامه. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} المفردات: {تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}: أي تدافع عن ذاتها بالاعتذار. التفسير 111 - {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ... } الآية. لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة طرفا مجملا من طغيان المشركين، وقسوتهم في تعذيب الضعفاء من المؤْمنين - عقب ذلك بذكر الحساب على الأعمال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) ودفاع كل إنسان عن نفسه، وأن كل مكلف ينال جزاء ما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. والمعنى: اذكر أيها المكلف من الناس - اذكر اليوم الذي تجيءُ فيه كل نفس تدافع عن ذاتها وتعتذر بشتى المعاذير جاهدة في خلاصها يشغلها إلا شأنها من شدة الكرب الذي يحيط بها، حتى تفِر من أقرب الأقربين إليها، كما قال الله جل شأنه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} (¬2). ومن هول الكرب في ذلك اليوم، يقسم المشركون كاذبين، يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬3)، يتبرأ المتبُوعون والتابعون بعضهم من بعض، كما قال جل سلطانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة المطففين: الآية: 6 (¬2) سورة عبس: الآيات: 34 - 37 (¬3) سورة الأنعام، من الآية: 23

اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (¬1). {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ}: أي ويعطى الله تعالى في ذلك اليوم العظيم كل نفسٍ جزاء الذي عملته. وافيًا غير منقوص {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). وضمير الجمع في قوله عز من قائل: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: عائد على كل نفس. أَي وكل النفوس التي يجزيها الله يوم القيامة لا يظلمون بزيادة في العقاب. ولا ينقص في الثواب، ولا تعاقب نفس ما بغير ذنب, ذلك لأن الذي يتولى الجزاء يومئذ, هو الحكم العدل اللطيف الخبير، الذي يقول وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). وبالجملة فقد ختمت الآية بقوله سبحانه: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} لتأكيد عدالة الله مع المقصرين في عبادته وغيرهم، فكل يأخذ جزاءه عادلا، ويضاعفُ أجر حسناته حسب كيفية أدائها، ويجازي سيئاته بمثلها. {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)} المفردات: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: المثل في هذه الآية ونظائرها، الحال أو القصة التي لها شأنٌ وفيها غرابة. وضرب المثل ذكره للاعتبار به. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيتان: 166 - 167 (¬2) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 , 8 (¬3) سورة النساء، الآية: 40

(قَرْيَةً): المراد أَهل قرية. (رَغَدًا): واسعًا سهلًا. التفسير 112 - {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ... }: أَشار الفخر الرازى فى ربط هذه الآية بما قبلها بقوله: اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد فى الآخرة هددهم أيضًا ببعض آفات الدنيا، وهي إصابتهم بالجوع والخوف كما ذكره فى هذه الآية: اهـ. ولما كان هذا المثل ينطبق على أَهل مكة، ذهب كثير من المفسرين إلى أَن القرية فى الآية الكريمة هى مكة، كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما. وقال ابن كثير: هذا مثلٌ أُريد به أَهل مكة فإِنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، وكان يجبى إليها من ثمرات كل شيء فكفرت بأنعم الله وأعظمها بعثة محمد إليهم، فعوقبت بالجوع والخوف: اهـ. بتصرف، ويشارك أهل مكة فى انطباق المثل عليهم كل من حذا حذوهم وسار سيرتهم إِلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكفى بالقرآن حجة بالغة، وعظة ناطقة. والمعنى: وجعل الله تعالى مثلا قرية كانت ذات أمن وسلامة من كل مَخُوف، لا يهيج أهْلَها أحدٌ بإغارة أَو اعتداءٍ عليها، وكانت (مُطْمَئِنَّةً): ساكنة قارَّة، لا يزعج أَهلها مزعج، ولا يرتحل عنها أَحد بسبب جوع أو خوف. يسوق الله إليها أَقواتها واسعة سهلة من كل بلد، وتحمل إليها من كل مكان برًّا وبحرًا (¬1). {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: أي جحد أَهل هذه القرية نِعم الله عليهم فقابلوها بالكفر بدل الشكر، وبالمعصية بدل الطاعة فعاقبهم الله بعقاب من الجوع والخوف تمكن منهم، وأحاط بهم إِحاطة اللباس بلابسه، بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والمعاصي. والتعبير عن سيئاتهم بقوله سبحانه: (بِمَا كاَنُوا يَصْنَعُونَ). للإيذان بأَن كفران النعم صار صناعة لهم وخلقًا راسخًا فيهم. ¬

_ (¬1) والتعبير عن هذه الصيغة بالفعل المضارع (يأتيها رزقها) لإفادة أن أرزاقها متجددة وأما كونها آمنة مطمئنة، فهو ثابت مستمر، فلذا عبر عنه بالاسم المفيد للدوام والاستمرار.

ومن تتمة المثل قوله تعالى: 113 - {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}: فقد جيءَ به لبيان أن ما صنعه أهل تلك القرية من الكفر بأَنعمه سبحانه، لم يكن امتهانًا للعقل وتحقيرًا له فقط، بل كان كذلك معارضة لرسولهم، أى ولقد جاء أهل تلك القرية رسول من أنفسهم، هم أدرى الناس بأصله ونسبه وخُلُقه، يخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وينذرهم سوءَ عاقبتهم إن لم يفعلوا عن الكفر والمعصية، ففاجأُوه بالتكذيب من غير تروٍّ ولا تدبر، ثم استمروا فى كفرهم وعنادهم إِلى أن حلَّ بهم عذاب الله بالجوع والخوف وهم متلبسون بالظلم واغلون فيه. وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى. وهى أنه لا يعذب من كفر به حتى يبعث إِليهم رسولا يحذرهم عاقبة كفرهم، ويرشدهم إلى آيات ربهم وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬1). ولقد تم المثل بعذاب القرية الظالمة، وظهر جَلِيًّا أن حال أهل مكة أشبه بحال تلك القرية، في السوء واستحقاق العذاب، فقد كانوا فى حرم آمن، ويُتَخطَّف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف والفزع، وكانت تجبى إِليهم فيه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه سبحانه، استجابة لدعوة خليله إِبراهيم عليه السلام، إِذ قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬2). ولقد جاءهم رسول من أَنفسهم هو أَعظم الناس خُلُقًا وأَكرمهم معدنًا ونبلا، نشأَ بينهم زكيًّا نقيًّا حتى سموه الأمين، قبل أَن يرسله ربه رحمة للعالمين. دعاهم رسول الله إلى الله، وأنذرهم. وحذرهم: ولكنهم آذوهُ وكذبوه، واستمروا فى تكذيبهم عنادًا وكبرًا، حتى أخرجوه وأَصحابه من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. هنالك انتقم الله منهم واستجاب دعاء نبيه فيهم إذ قال: "اللَّهم أعِنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف": فأصابتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة، وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع والجهد (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 15. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 126. (¬3) اقتباس من حديث البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، في تفسير سورة الدخان.

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} المفردات: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}: أَي وما ذكر اسم غير الله تعاد عليه: وسُمِّى الذكر على الذبيحة إِهلالًا لأنهم كانوا يرفعون به أصواتهم. {غَيْرَ بَاغٍ}: أي غير ظالم لغيره. {وَلَا عَادٍ}: ولا متجاوز ما يسد رمقه ويدفع جوعه. التفسير 114 - {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ... } الآية. الظاهر أن الخطاب في هذه الآية لمن ضرب لهم المثل من كفار مكة وأَمثالهم كما قدمنا، لأنه هو الذي يقتضيه النظم الكريم، فهو مفرَّع على التمثيل السابق، وصادٌّ لهم عما يؤدى إِلى مثل عاقبته. والمعنى: وإذ تبين لكم حال من كفر بأنعم الله وكذب رسوله، وما حل بهم - بسبب ذلك من العذاب فانتهُوا عما أنتم عليه من الكفر والتكذيب، والتحليل والتحريم بأهوائكم، وكلوا مما رزقكم الله في أَرضه من الأنعام والحرث حال كونه حلالًا لا حرمة فيه ولا إثم، طيبًا لا تعافه النفوس الكريمة. {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ}: بطاعته وطاعة رسوله. والفاءُ في المعنى داخلة على الأمر بالشكر، وإِنما أُدخلت على الأمر بالأكل، لأن الأكل وسيلة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله عقب أكلها، واعرفوا لها حقها, ولا تقابلوها بالمعصية والكفران.

{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: أي إن كنتم تعبدون الله كما تزعمون، فأطيعوه فيما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه: ولا تحرموا ما أحل الله لكم، ولا تفتروا على الله الكذب بتحريم البحائر والسوائب ونحوها. وقيل إن الخطاب في الآية الكريمة للمؤْمنين، وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه اقتصر ابن كثير. ومعنى الآية على أن الخطاب فيها للمؤمنين خاصة: وإذ تبين لكم أيها المؤمنون حال من ضُرب لهم المثل من الكفار وما انتهوا إليه. فاسلكوا أنتم سبيل الشكر، وكلوا بما رزقكم الله وجعله لكم حلالا طيبا, ولا تحرموه على أنفسكم، واشكروا نعم الله عليكم بطاعته وطاعة رسوله, إن كنتم تخصون الله ربكم بالعبادة, كما هو مقتضى إيمانكم به وحده. ويجوز أن يكون الخطاب في الآية الكريمة للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم. فيشمل القولين السابقين، وهو مناسب لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (¬1). ولعل هذا هو مراد شيخ المفسرين ابن جرير الطبرى إذ قال: يقول تعالى ذكره: (فكلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم - كلوه - حلالًا طيبا مُذكَي بريئًا من الإثم، واشكروا الله علي نعمه التي أنعم بها عليكم، من ذلك من غيره من النعم, إن كنتم تعبدون الله وحده فأطيعوه فما يأمركم به وينهاكم عنه) اهـ بتصرف يسير. ولما أمرهم الله تبارك وتعالى أن يأكلوا مما أحل لهم من رزقه ناسب أن يبين ما حرم عليهم ليعلموا أن ما عداه حلال طيب، وأن التحلل والتحريم بأمره سبحانه لا بأهوآئهم فقال: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 168

115 - {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... } الآية. أي ما حرم الله عليكم من المطعومات إِلا هذه الأصناف الأربعة، التي حرمها لمصلحتكم دينًا ودنيا: أولها: (الْمَيْتَة) على أيِّ نحوٍ كان موتها، وهي كل ما لم يُذكَّ ذكاة شرعية. ويستثنى من الميتة السمك والجراد فقد أُحلت ميتتهما، لما أخرجه ابن ماجه والحاكم وغيرهما من حديث ابن عمر رضى الله عنهما مرفوعًا: (أُحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطُّحال). وثانيها: (الدَّم) والمراد به الدم المسفوح، كما جاء صريحًا فى قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (¬1). وإِنما حرم الدم المسفوح: لأنه يحتوى على جراثيم الأمراض، ويسرع إليه الفساد، بخلاف المعقود وهو الكبد والطّحال، ولذا يحل أكله إذا كان من حيوان مذكًّى. وثالثها: (لَحْمُ الخِنْزِيرِ) فإنه قذر، وأشهى الغذاء إليه القاذورات والنجاسات، وهو ضار في جميع الأقاليم ولا سيما الحارة منها. وأكل لحمه من أسباب الدّودة الشريطية الفتاكة: ومثل لحمه شحمُه وغضاريفه فإِن جميع أَجزائه قذر نجس ولو ذبح. ورابع هذه المحرمات: (مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ) أى ما ذكر اسم غير الله تعالى عليه. حرمت الثلاثة الأُولى لخبث ذاتها، وحرم ما ذكر اسم غير الله تعالى عليه لخبثه معنًى، فقد ذكر عليه عند ذبحه اسم غير خالقه المنعم به. والمراد بغير الله تعالى: ما يشمل الأصنام وغيرها من المعبودات. وذهب جماعة من التابعين وأَهل العلم، إلى أن المراد بما أُهل لغير الله به: ما ذبح للأَصنام، لا ما ذكر عليه اسم المسيح أو عُزَير، لقوله تعالى في سورة المائدة -وهي من آخر السور نزولًا-؛ {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}. فالمراد بطعام الذين أُوتوا الكتاب: ذبائحهم، كما روى البخاري فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما، أمَّا مطلق الطعام كالخبز والفاكهة فإنه يحل من أيِّ كافر كان بالإجماع. قال الآلوسي فى تفسيرها: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 145. والدم المسفوح هو المصبوب السائل من الحيوان.

واختلف العلماءُ فى حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم عزير والمسيح، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا تحل، وهو قول ربيعة؛ وذهب أَكثر أهل العلم إلى أَنها تحل، وهو قول الشعبي وعطاء، قالا: فإِن الله قد أَحل ذبائحهم وهو أَعلم بما يقولون؛ وقال الحسن: إِذا ذبح اليهودى والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى، أَنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله تعالى لك. اهـ. وإلى هذا الرأْي نذهب. فلا نرى أكل ما علمنا أن اسم غير الله ذكِر عليه عند ذبحه، ولو كان الذابح كتابيًّا، هذه المحرمات الأربع المحصورة فى هذه الآية. هي نفسها المحصورة فى آية البقرة وفى آية الأنعام. وأما ما زاد على هذه الأربع فى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ ... } الآية (¬1) فإِنه مندرج فيها فالمنخنقة، والموقوذة، والمتردية. والنطيحة، وما أكل السبع - داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل فيما أُهل لغير الله به. وبهذا تبين أنه تعالى حصر المحرمات -في الأَصناف الأربعة- فى هذه السور الأربع: فى العهد النبوي الكريم مكيَّة ومدنية؛ فإِن سورتي الأنعام والنحل مكيتان، وسورتي البقرة والمائدة مدنيتان. والمائدة من آخر ما نزل. وفي إعادة البيان قطع للأعذار، وإزالة للشُّبه. {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي فمن دعته الضرورة الملحة إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات، غير ظالم لمضطر آخر، ولا متجاوز قدر الضرورة وسد الرمق (¬2)، فإِن الله واسع الغفران، شامل الرحمة، فلهذا يرفع عنه الإِثم لاضطراره ويرحمه ولا يعاقبه - وقد صرحت آية البقرة برفع الإثم فى مثل هذه الحالة وذلك فى قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). هذا، واستُدل بالآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. على اعتبار أن الآية خطاب لجميع المكلفين: مسلمين وكافرين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 3. (¬2) أجاز مالك للمضطر إلى أكل الميتة أن يشبع منها ولا يقتصر على ما يسد به رمقه. (¬3) سورة البقرة من الآية: 173.

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} المفردات: {لَا يُفْلِحُونَ}: أي لا يفوزون بمحبوب. ولا ينجون من مكروه. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}: أي انتفاع قليل لا يدوم. التفسير 116 - {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ... } الآية. لما حصر الله تبارك وتعالى المحرمات في الأصناف الأربعة التي ذكرت في الآيات السابقة جاءَ بهذه الآية لتأكيد ذلك الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء. والمعنى: ولا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم - لا تقولوا الكذب في شأن حل أكلها وحرمته، كقولكم - فيما حكاه الله عنكم -: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (¬1): وغير ذلك من أَقاويلكم الباطلة التي لا دليل لكم عليها في وحى الله وشرعه, ولكنها ناشئة عن الهوى والكذب على الله عز وجل. أو المعنى: ولا تقولوا شأن البهائم هذا حلال وهذا حرام عند الله، لكي تصف ألسنتكم الكذب بذلك القول، فإنه دعوى من غير حجة ولا بينة، فإذا حكته ألسنتكم فقد صورت الكذب بصورته وأوضحته على حقيقته. وقوله تعالى: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: معناه أَن قولكم: هذا حلال وهذا حرام, بدون حق. عاقبته أنكم تفترون على الله الكذب , وتقولون عليه ما لم يقل، وتلك كبيرة الكبائر. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 139

وخلاصة المعنى: لا تقولوا في شأن الذبائح والأطعمة برأيكم تحلون وتحرمون دون علم أو وحي، فإن قولكم هذا هو الكذب؛ إذ لا سند له ولا دليل عليه. ثم توعد المفترين على الله الكذب عامة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}: أَي لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم إلا بانتفاع قليل زائل في هذه الدنيا الفانية، كما قال تعالى: 117 - {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي متاعهم في هذه الدنيا بنعيمها وزخرفها متاع ضئيل زائل لا يعتد به, ولهم في الآخرة عذاب شديد الإِيلام، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (¬1). ويدخل في هذا الوعيد الشديد كل من أَحل ما حرم الله، أو حرم ما أَحل الله, بمجرد رأيه وهواه. ومن هنا كره كثير من السلف - ومنهم مالك - أن يقول المفتى: هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية. وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه , أَو رسوله صلى الله عليه وسلم. ويقال في المسائل الاجتهادية: إني أَكره كذا وكذا، أَو نحو ذلك، فهو أَبعد من أَن يكون فيه توهم الافتراء على الله عز وجل. قال ابن كثير: ويدخل في هذا كل من ابتدعَ بدعة ليس له فيها مستند شرعى. اهـ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ" رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" أي فإِثْمُهُ عليه, وعمله مردود عليه. ثم يبين الله تعالى ما حرمه على اليهود دون غيرهم فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) سورة يونس: الآيان: 69، 70

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)} المفردات: {هَادُوا}: أَي اعتنقوا اليهودية ودانوا بها. التفسير 118 - {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ... } الآية. والمعنى: وعلى أمة اليهود خاصة دون سائر الأمم. حرمنا ما قصصاه عليك أيها الرسول، من قبل نزول هذه الآية، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (¬1) اهـ. وقوله تعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} (¬2). دلت الآيتان في سورتي الأَنعام والنساء كما نبهت إليها هذه الآية من سورة النحل، على أَن هذا التحريم إِنما كان بسبب ظلمهم وعصيانهم. وكانوا يقولون: لسنا أَول من حُرِّمت عليهم هذه الطيبات, وإِنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومنْ بعْدهما حتى انتهى الأَمر إِلينا. فكذبهم الله تعالى. وقد نفى سبحانه ظلمه إِياهم؛ لأَنه هو الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}: بذلك التحريم الذي كانوا هم السبب فيه. {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: حيث جنوا عليها بالكفر والمعاصي، فعوقبوا دون سواهم بالحرمان من الطيبات بسبب ظلمهم لأَنفسهم. وفي الآية تنبيه على أن التحريم كما يكون دفعًا للمضرة, يكون للعقوبة. ¬

_ (¬1) الآية: 146 (¬2) الآية: 160

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)} المفردات: {السُّوءَ}: لفظ جامع لكل قبيح؛ من كفر ومعصية وإيذاء ويشمل الافتراء على الله عز وجل. {بِجَهَالَةٍ}: أي بِسُوء معرفة باللهِ تعالى وشديد عقابه، أو بطيش وغفلة وسفه. التفسير 119 - {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ... }. لما هدد الله تعالى المشركين بالعقوبة على قبائحهم من ضروب الكفر والمعصية، بين في هذه الآية أَن قبائحهم - وإن عظمت وطال أمدها - لا تحول دون قبول التوبة منهم والفوز بمغفرته ورحمته سبحانه إذا رجعوا إليه وأنابوا وأصلحوا. والمعنى: ثم إن ربك يا محمد للذين عملوا القبائح بجهالة وسوء معرفة بالله تعالى وشديد عقابه؛ أو غير متدبرين في العواقب، لغلبة الشهوة والغفلة عليهم، ثم أقلعوا عن سوء ما عملوه تائبين نادمين، وأصلحوا أَعمالهم واستقاموا على التوبة. {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي إن ربك يا محمد من بعد التوبة عن عمل السوء مع الإقبال على الصلاح - إن ربك من بعد ذلك لعظيم المغفرة للتائبين المصلحين، واسع الرحمة بهم، يثيبهم على الطاعة فعلا وتركًا، فضلا منه وإحسانًا. وتكرير قوله: "إنَّ رَبكَ" لزيادة تأكيد الوعد، وإظهار كمال العناية بإنجازه , وللترغيب في التوبة النصوح الصادقة، فهي التي يتقبلها الله عن عباده، وفي إضافة لفظ

(رب) إِلى ضميره صلى الله عليه وسلم إِشارة كريمه إِلى كمال اللطف به صلى الله عليه وسلم، ثم بالتائبين الصادقين. حيث تشير إلى أنه تعالى أكرمهم بسببه، لأنهم من أتباعه. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} المفردات: {كَانَ أُمَّةً}: الأمة، الجماعة الكثيرة، والمراد أَنه كان بمنزلة أمة في الإيمان باللهِ وعبادته حيث كان رائد التوحيد في أُمة مشركة ولم تلن له قناة. {قَانِتًا لِلَّهِ}: أَي مطيعا خاضعًا لله سبحانه وتعالى، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع. {حَنِيفًا}: أي مائلا عن الباطل إِلى الحق، من الحنِفِ وهو الميل. {اجْتَبَاهُ}: أَي اختاره واصطفاه. التفسير 120 - {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: لما أبطل الله تعالى في هذه السورة مذاهب المشركين: منَ ادعائهم الأنداد والشركاء له سبحانه وتعالى، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترائهم الكذب على الله في

التحليل والتحريم, مع قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيم، جاءَت هذه الآية للثناء على إِبراهيم ووصفه بصفات تدل دلالة قاطعة على أنه عليه السلام، بريءٌ من الشرك والمشركين وأنهم أعق الأبناء لأَكرم الآباء. المعنى: إن إبراهيم كان أمة أي بمنزلة جماعة عظيمة في الإيمان باللهِ وحده والإِخلاص له في العبادة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان عنده من الخير ما كان عند أمة اهـ: وذلك لاستجماعه من الخيرات والفضائل ما لا يكاد يوجد إلا متفرقا في أمة عظيمة. ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد فهو إمام الموحدين , وقدوة أَهل اليقين، نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامه، وخفض رايات الشرك وحطَّم أصنامه، وبذل نفسه وأسلم وجهه لله رب العالمين. وقال مجاهد: سمِّى عليه السلام أُمة، لانفراده بالإيمان في وقته مدةً ما. وفي صحيح البخاري ومسلم أنه قال لامرأته: يا سارَّة، ليس على وجه الأرض مؤْمن غيري وغيرك .. {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: أي مطيعًا لله سبحانه، مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق غير زائل عنه. {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في أَمر من أمور دينهم، صرح بذلك مع ظهوره للرد على كفار قريش في قولهم: نحن على ملة أبينا إبراهيم، وزعمهم أَنه عليه السلام كان علي ما هم عليه. 121 - {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}: أي كان إبراهيم عليه السلام شاكرًا لنعم ربه كلها عليه, لم يخلَّ بشكر نعمة منها قولًا أو عملا. وفي هذا تعريض بالمشركين، وإيذان بأنهم في شركهم باللهِ وإسنادهم النعم لشركائهم ليسوا على منهاج أَبيهم إِبراهيم عليه السلام.

{اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أَي اختاره ربه واصطفاه، وهداه إِلى الطريق الموصل إِليه سبحانه وهو الإِسلام: دين الله الذي أَرسل به جميع رسله قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1). وقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬2). وإجتباءُ الله للعبد: تخصيصه إِياه بفيض إِلهي يحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي ولا اجتهاد، ويكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة، وقيل يكون لهم ولمن على سنتهم من الصديقين. وهداية الله ولإبراهيم عليه السلام، كان لها أثران عظيمان: أحدهما في نفسه، والثاني في قومه، حيث دعاهم إلى دين الله وأَرشدهم إلى آيات ربه. 122 - {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ... } الآية. أَي أعطيناه في الدنيا نعمة حسنة إذ جعلناه قدوة لجميع أَهل الأَديان السماوية، وأَورثناه ثناءهم عليه وحب الانتساب إليه، تحقيقًا لدعائه عليه السلام إذ قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬3). وللعلماءَ أَقوال في تفسير الحسنة التي أَعطاها الله خليله إبراهيم في الدنيا فعن الحسن - أَنها النبوة وقيل هي الأولاد الأَبرار على الْكِبر، والمال الكثير ينفقه في وجوه الخير والبر؛ والعمر الطويل في السعة والطاعة، وقد من الله عليه بكل ذلك في الدنيا. والانتقال إِلى ضمير المتكلم في قوله سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}. لإِظهار الاعتناء بشأنه, وتفخيم مكانه عليه السلام. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: أي داخل في عداد إخوانه المرسلين، الكاملين في الصلاح، ذوى الدرجات العلا، تحقيقًا لدعوته إِذ قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران، من الآية: 19 (¬2) الثورى، من الآية: 13 (¬3) الشعراء، الآية: 84 (¬4) الشعراء، الآية.: 83

ولما أثني الله على خليله هذا الثناء العظيم، قال لخاتم النبيِّين صلوات الله عليه وعليهم: 123 - {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: وملة إِبراهيم عليه السلام، هي الإِسلام المعبر عنه آنفًا بالصراط المستقيم، والمقصود بها: العقائد وأصول شريعته, فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور باتباعها دون فروعها فإنها خاصة بأمة أبراهيم عليه السلام، وكل رسالة تشترك غيرها في العقائد والأصول العامة, وتختص بفروع من الشريعة تناسب عصرها واستعدادها. وذلك هو المقصُود بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬1). وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} تكرير لما سبق من قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لزيادة التوكيد والتقرير. ولتنزيهه عليه السلام عما. كانوا عليه من عقائد الشرك والضلال المبين. {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)} المفردات: {جُعِلَ السَّبْتُ}: المراد؛ فرض تعظيم يوم السبت وتقديسه. التفسير 124 - {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ... } الآية. كان اليهود يزعمون أنَّ تعظيم يوم السبت والتخلي للعبادة فيه من شعائر ملة إِبراهيم عليه السلام، وأَنه كان من المحافظين عليه - فكذبهم الله تعالى، وبين أَنه لم يشرع ذلك ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 48

التعظيم إِلا لبني إِسرائيل في رسالة موسى، بعد إِبراهيم عليهما السلام بمدة طويلة كما سيأتي بيانه. والمعنى: ما فرض الله تعالى تقديس يوم السبت بالتخلى للعبادة فيه، إلا على الذين اختلفوا في تقديسه على نبيهم, حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فاختاروا السبت، وهم اليهود، أخرج الشافعي في الأم، والشيخان في الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة, بيد أَنهم أوتوا الكتاب من قبلنا (¬1) ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه, فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد". وقيل إن موسى عليه السلام لما جاءهم بتعظيم الجمعة اختلفوا فيما بينهم، فأبى أكثرهم إلا السبت، وقالوا إِنه اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض، ورضيت شرذمة منهم بالجمعة، فأذِن الله تعالى لهم بالسبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه؛ وهكذا شددوا على أَنفسهم فشدد الله عليهم. وقد أطاع فريق منهم فكانوا لا يصيدون يوم السبت، وعصى أكثرهم فكانوا يصيدون فيه، فأَبغضهم الله ولعنهم, وجعلهم في خِسة القردة, قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬2). وقال سبحانه: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) في إحدى روايات الشيخين زيادة (وأوتيناه من بعدهم) والحديث رواه النسائي أيضًا. (¬2) البقرة, الآية: 69. (¬3) الأعراف، الآية: 166 وقد قدمنا في بيان المراد من قوله تعالى "كونوا قردة خاسئين" أنه إما علي الحقيقة وأن الله تعالى حولهم قردة وإما أنه مجاز عن مسخ قلوبهم وصرفها عن الخير. راجع الوسيط في تفسير الآية 65 من سورة البقرة، ط ثانية.

ثم جاء عيسى عليه السلام بتعظيم الجمعة. كذلك, فاختلف عليه النصارى، وأبوا إلا الأحد، وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبدأ الخلق عندهم. ثم جاءَ بتعظيم يوم الجمعة خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم - لخير أمة أخرجت للناس, فهداهم الله له. ففازوا بفضيلته, وحماهم الله تبارك وتعالى من الاختلاف فيه, ولله سبحانه الحمد والمنة. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم , أو لكل من يصلح للخطاب، أي وإن ربك سيقضي يوم الجزاء الحق بين المختلفين على نبيهم, أو المختلفين فيما بينهم، فيجازى كُلا بما يستحقه من الثواب والعقاب. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} المفردات: {سَبِيلِ رَبِّكَ}: أي طريق ربك الموصل إِلى مرضاته، وهو الإسلام. {بِالْحِكْمَةِ}: أي بالمقالة الحكيمة وهي الحجة الموصولة لليقين. {الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}: أي النصيحة الجميلة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل. {وجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: أَي وراجعهم بالطريقة التي هي أحسن في إظهار الحق.

التفسير 125 - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... }: بعد أَن أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم حنيفا - بين له في هذه الآية طريق الدعوة إليها. والمعنى: ادع أيها الرسول جميع المكلفين الذين بعثت إليهم. ادعهم إلى الإِسلام، بالحجج المزيلة للشبهة، الموصلة إلى اليقين، وبالنصائح الجميلة المرغبة في الحق والخير، المنفِّرة من الباطل والشر، ومن جادلك منهم فجادلهم بأحسن طرق المراجعة والمجادلة، أَي باللين والرفق، كما راجع إِبراهيم أباه وقومه، وكما حاجّ الطاغية الذي آتاه الله الملك (¬1). وإنما لم يقل: ادع إِلى سببيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هي أَحسن لأن الجدال ليس طريقًا أصيلًا في الدعوة إلى الله عز وجل، وإِنما يكون عند المراجعة والمحاورة بقصد إظهار الحق والرجوع إليه والطمأنينة به، لا لقصد إفحام الخصم وغلبته، كما يتبع ذلك بين أهل الجدل والخصومة. ذلك بأن منهج القرآن الحكيم في دعوته وهدايته، قائم على الحجج القاطعة، والنصائح الرشيدة الهادية، في كل ما دعا إليه، وما جاءَ به .. من وحدانيته تعالى وقدرته، وبعثه الناس ليوم لا ريب فيه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) إشارة إلى الآية الكريمة رقم 258 من سورة البقرة. (¬2) سورة النحل, الآية 111.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}: هذا إعلام من الله تبارك وتعالى، بأن ليس على الرسول إلا البلاغ بالطريقة التي بيَّنها له، فأما ما وراء ذلك من حصول الهدى والضلال، والجزاء عليهما، فإِلى الله تعالى وحده, فإِنه هو العليم بمن يبقى على الضلال، وهو العليم بمن يهتدى إِلى ربه، فيجازى كلا بما يستحقه, طبقًا لما اختاره لنفسه. وتقديم الضالين في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} لأَن الكلام فيهم، وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث, لأن الضلال تغيير لفطرة الله التي فطر الناس عليها, وذلك أَمر عارض، بخلاف الاهتداء فإنه ثبات على الفطرة، فلذا جىء به على صيغة الاسم المنبىء عن الثبات, ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم, من اللطف والعناية. {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} التفسير 126 - {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } الآية. سبب النزول: عن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأَنصار أَربعة وستون رجلا, ومن المهاجرين ستة منهم حمزة رضي الله عنه، فمثلوا بهم، فقالت

الأنصار: لئِنْ أَصبنا منهم يوما مثل هذا لنرْبيَنَّ عليهم في التمثيل, فلما كان يوم الفتح نزل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية. فقال رجل .. لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كفوا عن القوم إلا أَربعة .. أخرجه الترمذي. وفي رواية عن أُبيٍّ أَيضا .. " ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. نصبر ولا نعاقب" والآية - بناءً على هذا السبب نزلت .. في فتح مكة, وتسمى مدنية على الأرجح وهو أَن كما ما نزل بعد الهجرة فهو مدني وإن نزل بمكة وقال القرطبي: وتبعه الأَلوسى: أطبق جمهور أَهل التفسير أن هذه الآية مدنية لما شق على المسلمين ما رأوا من تمثيل المشركين بقتلاهم، في غزوة أحد فتوعدوهم بأزيد مما فعلوا, إذا ظفروا بهم!! وقال النحاس: إِنها مكية, والمعنى متصل بما قبلها من المكي اتصالا حسنا, ثم قال القرطبي: ولكن ما قاله الجمهور من أنها مدنية أثبت، وساق حديثا رواه الدارقطني عن ابن عباس مؤيدا لما ذهب إِليه الجمهور من مدنيتها. وسواء أكانت هذه الآية الكريمة مكية أم مدنية، وسواء أصح نزولها في شأن التمثيل بحمزة أم لم يصح، فإِن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .. ووجه اتصال هذه الآية بقوله تعالى قبلها: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الآية. أن الدعوة إِلى الله سبحانه لا تكاد تخلو من مخاصمة الأَعداء .. ومقابلتهم لها بالعداوة والإيذاء, لأنها تتضمن رفض عقائدهم الباطلة الموروثة, ونبذ عاداتهم السيئة المورثة, ولما كان هذا شديدا عليهم وباعثًا لهم على الخصومة الشديدة، فلهذا أَمر الله تعالى نبيه وأَصحابه أَن يقابلوا إِساءتهم بمثلها إِن أرادوا عقابهم عليها - والمعنى: وإِن أردتم أيها المؤْمنون عقاب من يصدكم عن دين الله, ويعتدي عليكم وأنتم تدعونه إِلى سبيل الله، فعاقبوه بمثل ما فعل بكم، وما ناله منكم، ولا تجاوزوا هذا المثل بحال، كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬1) وليس ما فعله العدو أولًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية:

عقابا ولكن العقاب هو الثاني؛ لأنه هو الذي يرد به المسلمون عدوان العدو، عقابًا له ودفاعا عن دينهم وأَنفسهم، وإِنما سمى اعتداء العدو عقابا من باب مماثلة الكلام ومشاكلته .. (¬1) كما سمى جزاء الاعتداء اعتداء في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2) وكما سمى جزاء السيئة سيئة في قوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬3). ولم يقتصر العدل الإلهي على طلب المماثلة في العقوبة، وعدم التجاوز فيها. بل حث على العفو والصبر؛ فقال سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}: أي ولئن صبرتم أيها الداعون إلى الله تعالى. لصبركم هذا هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم من الانتصار بالمعاقبة، فإن الصبر والعفو وكظم الغيظ من أمهات الفضائل التي يسمو بها العبد، ويرفعه الله بها درجات، ويرد بها عدوَّه الألَد وليًّا حميما وصديقا مصافيا .. وإنما يحمل العفو عند القدرة، وحيث تدعو إليه المصلحة في عزة الإِسلام وسماحته، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر أمرا صريحا بعد ما ندب إِليه من قبل تعريضا فقال جل ثناؤُه: 127 - {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ... } الآية. لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور, لمزيد علمه بشئون ربه، ووثوقه به أي اصبر أيها الرسول على ما أصابك من قومك، من إِعراضهم عن دعوتك، وايذائِهم لك .. وما صبرك إلا بمعونتة تعالى وتأييده وتوفيقه وتثبيته. {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}: أي ولا تحزن على الكافرين وكفرهم بك وعدم متابعتهم لك، كما قال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) المشاكلة التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته وهي فن من فنون البديع. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 194 (¬3) سورة الشورى، من الآية: 40 (¬4) سورة المائدة، من الآية: 68

{وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}: أَي ولا تكن في حرج وضيق صدر من مكر الكفار بك، فإِن الله كافيك وحافظك منهم، ومظفرك بهم، وفي هذا تأكيد لتسليته صلى الله عليه وسلم, ولأمر الله له بالصبر، ثم ختم الله سبحانه هذه السورة الكريمة بتلك البشارة العظيمة؛ بمعيته للمتقين المحسنين - والنبى إِمامهم، فقال عز من قائل: 128 - {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}: والمعنى أَن الله جلت آلاؤُه، مع الذين جمعوا بين فضيلتي التقوى والإحسان, واستمروا عليهما .. والمقصود من معيَّته تعالى هنا أنه سبحانه يعينهم ويحفظهم من مكر الأعداء بهم، وينصرهم عليهم، فهي معية رعاية وحفظ. كالتي يشير إِليها قوله تعالى لموسى وهارون وقد أَرسلهما إلى فرعون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬1). والتي يشير إِليها قول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار، كما حكى الله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬2). ولا ريب أَن هذه المعية الخاصة أعلى وأجل من المعية العامة التي في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3). فإنها معية العلم والرقابة والمحاسبة، وتلك معية العناية والرعاية والمحبة. وشتان ما بينهما - ذلك وقد اشتملت خواتيم هذه السورة على تعليم حسن الأَدب في الدعوة وترك التعدى، والأمر بالصبر على المكروه. وعظيم البشارة للمتقين المحسنين. وقد روى ابن جرير .. وغيره أن هرم بن حبان (¬4). قيل له عند الاحتضار أوصِ. فقال: إِنما الوصية من المال ولا مال لي: وأوصيكم بخواتيم سورة النحل. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 46 (¬2) سورة التوبة، من الآية: 40 (¬3) سورة الحديد، من الآية: 4 (¬4) قائد فاتح من كبار الزهاد التابعين ولى بعض الحروب في أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما ومات في إحدى غزواته.

سورة الإسراء

سورة الإسراء هذه السورة مكية بتمامها عند الجمهور، واستثنى بعضهم أَربع آيات فإنها مدنية وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ}. وقوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ}، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}. وقوله: {وقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} وقيل غير ذلك، وسيأتي تحقيقها في مواضعها، وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها وسورة الزمر كل ليلة، كما أَخرجه الإِمام أَحمد والترمذي وحسنه والنّسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها، وكما تسمى سورة الإسراء تسمى سورة بني إِسرائيل، لكثرة ما ذكر فيها من الحديث عنهم. صلتها بما قبلها قال الجلال السيوطي: لما قال الله سبحانه في آخر النحل {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ}: ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها لهم سبحانه في التوراة، فقد أَخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه قالَ: إن التوراة كُلها في خَمْس عشرةَ آية من سُورة بني إِسرائيل، وذكر تعالى فيه عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم، واستفزازهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإِرادتهم إخراجه من المدينة، وسؤالهم إياه عن الروح، ثم ختمها جله شأنه بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون وأَخبر سبحانه أَن فرعون أراد أَن يستفزهم من الأرض فَأهلِك ... الخ. مقاصد السورة اشتملت هذه السورة الكريمة على مقاصد كثيرة نذكر منها ما يلي: 1 - إسراء الله بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى ليطلعه على بعض آياته العظيمة. 2 - وإِيتاء بني إسرائيل التوراة ليعبدوا الله وحده ويهتدوا بهداه، ولكنهم ضلوا وأفسدوا في الأرض مرتين إفسادا شنيعا، فبعث الله من عباده الأقوياء أَهل الشدة والغلبة

من عاقبوهم أشد العقاب، فقد جاسوا خلال ديارهم وقتلوا كثيرًا من رجالهم وأسروا نساءهم وذراريهم، وحطموا هيكلهم، وقد أَنذرهم الله إن عادوا إِلى الإفساد في الأرض أَن يعود إلى عقابهم. 3 - وبيان أَن القرآن يهدى إلى الشريعة الأقوم ويبشر المؤمنين الصالحين وينذر الكافرين الطالحين. 4 - وأَنه تعالى جعل الليل والنهار آيتين، وجعل من أثرهما أَن نبتغى من فضله، ونعلم عدد السنين والحساب وأَلزم كل مكلف بعمله، وسجله في كتاب ليقرأَه، يوم القيامة ويعرف منه مصيره. 5 - وأنه تعالى لا يهلك قرية إلا بعد أَن يرسل إِليها رسوله ويدعو مترفيها إلى الحق ويأمرهم بترك الفساد، ويستمروا على ما هم فيه فيحق عليهم قضاؤه، - فيدمرها عليهم وعلى أتباعهم. 6 - وأَن من أراد العاجلة أَعطاه الله ما قدره له منها, وليس له في جنة الآخرة من نصيب، بل يعاقب على كفره بالنار يصلاها مذموما مدحورًا، ومن أراد الآخرة وعمل لها وهو مؤمن، شكر الله سعيه ومتعه بالجنة دار السلام. 7 - ووصيته تعالى لعباده أن لا يشركوا به شيئًا, وأن يحسنوا إِلى والديهم وبخاصة في حالة الشيخوخة، ونهيه الآباء عن قتل الأولاد خشية الفقر فإنه يرزقهم وإياهم، ونهيه الناس عن الزنى وقتل النفس بغير حق، وإعطاء ولى القتيل سلطان المطالبة بقتل غريمه، فلا يتعداه إلى سواه، ونهيه الأولياء والأوصياء أن يقربوا مال اليتيم بغير حق، وأَمره الناس بالوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان المستقيم, ونهيه عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم وأن يمشي في الأرض مرحًا وكبرا، فإنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا، فلا وجه لكبريائه على الناس مهما أَوتي من النعم، فإنها إِلى زوال. 8 - كما أَنكرت علي من يزعم أَن الملائكة بنات الله، ووصفت هذا الزعم بأنه عظيم الخطورة على قائله.

9 - وبينت أَنه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا سبيلا إلى صاحب العرش لينازعوه في ملكه كما يفعل الشركاءُ، وبذلك تفسد السماوات والأرض، ولكنها لم تفسد فانتفى بذلك وجود شركاء له تعالى، وثبت أنه هو الذي تسبح له السماوات والأرض دون سواه. 10 - كما بينت أَن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأَ القرآن على من يجحدون الآخرة لم يفقهوه، وولوا على أدبارهم نفورا لكفرهم وإعراضهم، ووصفوه بأنه رجل مسحور، وأَنكروا أَن تبعث العظام والرفات، مع أَنهم لو تحولوا وصاروا حجارة أَو حديدا أو غير ذلك، فإنه تعالى يعيدهم كما فطرهم أول مرة. 11 - وتضمنت أنه تعالى فضل بعض النبيين على بعض، ومن أَمارات هذا التفضيل أن يكون لهم كتب خاصة بهم، كداود عليه السلام، حيث آتاه الله زبورا. 12 - وبينت أن شركاء المشركين لا يملكون كشف التفسير عنهم إذا دعوهم، وأَن المعبودات العاقلة التي يعبدونها لا تقرهم على عبادتهم لها؛ لأنها تتبارى في طلب الوسائل أيها أقرب في الوصول إلى رضا الله تعالى، يرجون رحمته ويخشون عذابه، كما هو الشأن في الملائكة التي يعبدونها ومن على نهجهم من البشر. 13 - وتضمنت أنه تعالى لم يحقق لهم ما طلبوه من الآيات الكونية حتى لا يهلكهم بالكفر بها، كما أهلك أمثالهم ممن كذبوا رسله قبلهم. 14 - وأَنه تعالى أمر ملائكته بالسجود لآدم، وأن إبليس تكبر على أن يسجد له وقد خلق من طين، وأن إبليس توعد ذريته بإغوائهم إلا قليلًا منهم، وهم المؤمنون الصالحون الذين قال الله فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}. 15 - وأنه تعالى كرم بني آدم ورزقهم من الطيبات وفضلهم على كثير من خلقه، ولذا كلفهم بعبادته، وأنه سيدعو كل أُمة بإمامها يوم القيامة، وإمام كل أمة كتابها، فيقال يأهل القرآن يأهل التوراة ماذا فعلتم بكتابكم؟ أو إِمامهم نبيهم، ويعطي كل واحد منهم كتابه فيعرف منه مصيره.

16 - كما اشتملت على تكليف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بأَن يقيموا الصلاة لدلوك الشمس أَي زوالها عن وسط السماء إلى سواد الليل, ووقت قراءة الفجر، يشير بذلك إلى إِجمال مواقيت الصلوات الخمس، وتكليفه صلى الله عليه وسلم خاصة بقيام الليل والتهجد على سبيل الوجوب، رجاء أن يبعثه الله المقام المحمود يوم القيامة، وهو مقام الشفاعة العظمى. 17 - وبينت أن الروح من أَمر الله، وأَن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا لا يؤهلهم لمعرفة حقيقتها، وأَن القرآن معجز للإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. 18 - وأنه لم يمنع الناس أَن يؤْمنوا حين جاءهم الهدى على لسان أَنبيائهم إلا زعمهم أن الله لا يبعث من البشر رسولًا، وأَن الله رد عليهم بأنه لو كان إرسال الملائكة للبشر يجعل الملائكة يمشون على الأرض مطمئنين ولا يطيرون، بل يبقون بينهم كشأن البشر لنزلَ عليهم من السماء ملكًا رسولًا، ولكن الملائكة خلقت لتطير في ملك الله، ولو حولوا إلى مثل البشر لاشتبه أَمرهم عليهم، فزعموا أَنهم بشرٌ وليسوا ملائكة ولو بقوا على خلقتهم لصعق البشر من لقائهم. 19 - وتضمنت إِيتاء موسى تسع آيات بينات، وزعم فرعون أنه مسحور، وكفره بما جاءَ به من البينات، وإغراقه وجنوده جزاء كفرهم وعنادهم. 20 - وختمت السورة بأمره صلى الله عليه وسلم وأَمر أُمته تبعًا له، بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك ولا ولى من الذل، وأن يكبره تكبيرا.

البيان

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} المفردات: {سُبْحَانَ}: هو علم للتسبيح عند الزمخشرى، والتسبيح التنزيه، ولا يجوز استعماله شرعًا إلا في الله تعالى (¬1). {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}: الإسراءُ سير الليل كالسُّرى، اتقول: أسريتُ وسريتُ إذا سرتَ ليلًا، وأسريتُ به سرتُ به ليلًا، والمراد بالعبد هنا محمد صلى الله عليه وسلم. {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: هو مسجد مكة المشتمل على الكعبة. {الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}: مسجد بيت المقدس، ووصف بالأقصى لأنه أقصى أي أبعد مسجد يعظم بالزيارة بالنسبة لأهل المسجد الحرام. {بَارَكْنَا حَوْلَهُ}: البركة، الخير والنماءُ والسعادة، ومباركة الله حول المسجد الأقصى حسية بجعل الأرض حوله دائمة الثمار والخيرات، ومعنوية بدفن الأنبياء والصالحين فيها. البيان 1 - كانت رحلة الإسراء العظيمة في أخريات العهد المكى بعد أَن قاسى النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن حولهم من العنت والإيذاء، والإعراض والكبرياء ما يهدم الأجساد، ويحطم القوى، فلهذا أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وبرحلة المعراج من بيت المقدس إلى ما وراء سدرة المنتهى، لينفس عنه ¬

_ (¬1) قال صاحب الكشف انتصارا للزمخشري: لا تمنع علميته من إضافته كما في حاتم طى، وعنترة عبس انظر الآلوسى.

المعنى الإجمالي للآية

ما أصابه، ويسبغ عليه أسمى نعمه ورحمته، ويكشف له عن بعض آياته، ترفيها له ومكافأة على ما ناله من أذى قومه، وشحذًا لهمته في المرحلة المقبلة للدعوة، فقد كان الإسراء والمعراج به صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة، حيث اشتد إيذاءُ قريش له بعد وفاتهما. وحكى أَبو حيان في البحر أنه أسرى - صلى الله عليه وسلم - في سبع عشرة من ربيع الأول، وعمره إحدى وخمسون سنه وتسعة أشهر، وثمانية وعشرون يوما، وهذا التاريخ يقتضي أن الإسراء كان قبل الهجرة بعام واحد، وأنه كان في أَواخر السنة الثانية عشرة من النبوة تقريبا. المعنى الإجمالي للآية تنزيها شاملا لله الكبير المتعال الذي نقل عبده المختص به، ونبيه الخفيّ به، نقله وأسرى به ليلًا بكيفية عجيبة من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، الذي أحاطه بالبركة والخير الكثير، من رياض وغياض وثمار وأنهار، وزروع وأشجار, ومن نفحات الأنبياء والصالحين، وبركات رسل الله الراحلين، وقد نقله وأَسرى به لكي يطلعه على بعض آياته العظيمة، إعظاما لمقام عبده ورسوله، وتنفيسا عنه بعد ما أجهده قومه، أنه تعالى هو السميع لأقوال عبده ورسوله في تبليغ دعوة ربه، العليم بأفعاله الخالصة عن شوائب الهوى، المقرونة بالصدق والهمة، الجديرة بالقرب والزلفى، فتعالى الله الذي له هذه القدرة وهذا العلم، تعالى عن جميع النقائص، فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابًا. المعنى التفصيلي كيف كان الإسراء: جاء حديث قصة الإسراء في جميع كتب السنة، وذكر النَّقَّاشُ ممن رواه عشرين صحابيا فهو لهذا من الأحاديث المتواترة، ومن ذلك ما أَخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك بن صعصعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينا أنَا في الحجرِ - وفي رِوَايَةٍ في الحَطيمِ - بَيْنَ النائمِ واليَقظَان، إذ أتَاني آتٍ فَشقَّ مَا بَيْنَ هذه

إِلى هذه، فَاستَخْرَجَ قَلْبِى فَغَسَلَة، ثُمَّ أعِيدَ، ثُم أتِيتُ بِدَابةٍ دُونَ البَغْلِ وَفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ، يقَال لَهُ البُراق، يضَعُ حَافِرَهُ عِنْد مُنْتَهى طَرفِه، قَالَ فَركِبتهُ حَتى أتَيتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ - قالَ - فرَبَطْتُهُ بِالحَلقَةِ التِى تَرْبِطُ بِها الأنْبِيَاءُ، ثُم دخلْت المَسجِدَ فصَليْت فيهِ رَكْعَتَينِ، ثُمَّ خَرَجتُ فَجَاءني جِبْريلُ عَلَيْهِ السلاَمُ بِإنَاء مِنْ خمْرٍ وإناء مِن لبنٍ، فَأخذتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبرِيلُ اخْتَرتَ الفِطرَة: قَالَ: ثُم عَرَجَ بِنا إلىَ السماء" إلى آخر قصة المعراج، وسنَعْرِض لها إِن شاء الله تعالى في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}. وجاء في رواية البخاري في طريقة غسل قلبه الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: "فاسْتَخْرَجَ قَلْبِى، ثُم أُتيتُ بِطَست من ذَهَب مَملوء إيمانًا فَغَسلَ قَلْبِى ثُمَّ حَشَا، ثُمَّ أعِيدَ". وكان الإسراءُ والمعراج والعودة في بعض ليلة واحدة، واختلف العلماءُ هل كانا بالجسد والروح، أَو بالروح فقط، أَو كانا مناما، والجمهور على أَنهما كانا بالجسد والروح يقظة، ويشهد لذلك التعبير عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (بِعَبْدِهِ) والعبد يشمل الجسد والروح معا، كما يشهد له إعداد البراق له وركوبه إياه، ووصفه بأنه كان يضع حافره عند منتهى بصره، ومن أقوى الأدلة على ذلك ما حدث له صلى الله عليه وسلم من شق صدره وغسله بالإيمان وحشوه، فإنَّ هذا كناية عن أنه تعالى كلف الملك بإعداده جسديا وروحيًا لتلك الرحلة الخطيرة، وشحنه بالقوى الإلهية التي تجعله في منعة من الأخطار الكونية أَثناء هذه الرحلة, وتجعله أيضًا مستعدا لاستقبال الأنوار الإلهية، ومن العلماء من قال: إن ذلك كان مناما، وبه قال الحسن، وروى ذلك عن عائشة ومعاوية، ورد ذلك بأن عائشة - رضي الله عنها - كانت حينذاك صغيرة ولم تكن معه صلى الله عليه وسلم، وأن معاوية كان كافرًا فلا يصح ما أسند إليهما، أَما الاستناد إلى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} فهو دليل عليهم وليس دليلا لهم, فإن الرؤيا هنا بمعنى الرؤية البصرية كما في قول الراعي يصف صائدًا: وكبر للرؤيا وهشّ فؤاده ... وبشر قَلبًا كان جما بل

ولو كانت رؤيا منامية لما كانت فتنة للناس حين علموا بها، لأن النائم قد يرى نفسه في السماء وأنه يطير بين المشارق والمغارب ولا يكذبه أحد، ومثله يحدث عادة لكثير من الناس مناما. وسيأتى بيان فتنة قريش حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء، عند شرح قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} (¬1). والعبودية لله عند العارفين من أهل الحق أشرف الأوصاف، ولقد كان المحبون للبشر يفخرون بها، ومن ذلك قول قائل في محبوبته: لَا تدعني إلا بِيَا عَبدَها ... فَإنهُ أَشرَفُ أسمَائيا فكيف بالعبودية لمالك الملك والملكوت، على أن في وصفه صلى الله عليه وسلم بالعبودية وقد وصل إلي ما هو عليه من الرفعة العلية، سدا لِبَاب الغلو فيه, كما وقع للنصارى مع نبيهم عيسى عليه السلام. قال القشيري: لما رفعه الله إلى حضرته السنية، ورقاهُ فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة. والمسجد الحرام وقت الإسراء كان مليئًا بالأصنام التي كان العرب يعبدونها قبل إيمانهم، وتسميته بالمسجد الحرام مع هذا، لأن المسجد في اللغة مكان السجود وهو الخضوع، وكانوا في عبادتهم لأصنامهم خاضعين لها أشد الخضوع، وكان حرمًا آمنًا يحرم فيه القتل والأخذ بالثأر عندهم. والمسجد الأقصى بيت المقدس، فكان مسجد النبيين ومصلاهم (¬2)، بناه يعقوب بعد بناء إبراهيم الكعبة بأربعين سنة، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}. ثم شرع في تجديده داود، وأتمه سليمان ابنه عليهما السلام، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآية 60 (¬2) فلذا أطلق عليه لفظ المسجد، ويصح أن يكون إطلاق على كليهما باعتبار ما آل إليه أمرهما في الإسلام.

وهو أَحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال لأن ثواب الصلاة فيها يضاعف، قال صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَد الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلَاثةِ مَسَاجِد، مسجِدِي هذا والمسجِد الحرامِ والمسجد الأقْصَى" والصلاة في المسجد الحرام أعظمها أجرا، ثم المسجد النبوى ثم المسجد الأقصى، والغاية من الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أَن يطلع الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على بعض آيات قدرته تعالى في رحلة الإسراء والمعارج، وما وقع فيها من الأعاجيب، وكان ذلك من قبيل الإعداد للمرحلة التالية للهجرة، ولا شك أَن في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وشحنه بالإيمان، العلوم والتقوى الإلهية، أثرًا عظيمًا في تحمله لتلك الرحلة الكونية العظيمة، التي رأَى فيها بعض ملكوت السماوات والأرض، وفي تقوية روحه ومضاعفة همته وعزيمته، لكي يستقبل المرحلة التالية للهجرة وهو جمُّ النشاط عظيم الاحتمال. {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} المفردات: {بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أبناء يعقوب عليه السلام، فقد كان يدعى إسرائيل. {وَكِيلًا}: ربا تكلون إليه أموركم، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}: ذرية من آمنوا بنوح وحملناهم معه في السفينة، لننجيهم من الغرق بالطوفان. التفسير 2، 3 - {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}:

معنى الآيتين

لما بين الله تعالى في الآية السابقة أنه بارك حول المسجد الأقصى، جاءَ بهاتين الآيتين ليبينَ بعض البركات الروحية هناك، حيث آتى موسى الكتاب لهداية بنى إسرائيل الذين أسكنهم الله الشام حول المسجد الأقصى، بعد هجرتهم من مصر وخروجهم من التيه، ثم إِن هاتين الآيتين وما بعدهما تعتبر تمهيدًا للحديث عن هداية القرآن للتى هي أقوم، ليعرف بنو إِسرائيل أَنهم لم ينصفوا أَنفسهم حين أَعرضوا عن الطريق الأقوم، والشريعة المثلى، بعدم إيمانهم بالقرآن ومن أنزل عليه القرآن، في حين أنه مَنَّ الله تعالى عليه بهذه المنزلة العلية، حيث أسرى به في بعض ليلة، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى ما وراء سدرة المنتهى، حيث أوحى الله تعالى إلى عبده ما أَوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}. معنى الآيتين وأَعطينا موسى الكتاب في ألواح مشتملة على التوراة، وجعلنا هذا الكتاب هاديًا لبني إسرائيل إلى الحق، بعد أَن دانوا في مصر بعبادة العجل الذي كان يعبده الفراعنة، وقد أَعطينا موسى هذا الكتاب لكيلا تتخذوا سواى ربا تكلُون إِليه أموركم يا ذرية من حملناهم في السفينة مع نوح، وأنجيناهم من الغرق، إن نوحًا كان عبدًا، شكورًا لنا، فلم يتخذ ربا سوانا، وكذا من حملناهم في السفبنه معه, فلهذا حفظناهم من الطوفان وأغرقنا سواهم، فكونوا يا بني إسرائيل على سنة من أنجيناهم من الغرق من أَهل التوحيد، لتكونوا بمنجاةٍ من عقوبة أهل الشرك. وفي التعبير عن بني إسرائيل، بذرية من حملنا مع نوح، تذكير بفائدة التوحيد وأَثره في الدنيا، وتحذير في الشرك وعقوبته، كما أن فيه إشارة إلى أن غيره تعالى من الوكلاء والأرباب المزعومة، لا تستطيع أَن تأتي بمثل هذه الآية الكبرى التي تتمثل في الطوفان العالي لإغراق من لم يعبدها، وفي السفينة لإنجاء من عبدها، فهي أحقر من أَن تهلك أَو تنجى ذبابة، فسبحان الكبير المتعال الذي ينجي المؤمنين ويهلك الكافرين، بما لا يتصوره البشر ولا تطيق مثله جميع القوى والقدر. وأجاز بعض العلماء عود الضمير في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} إلى موسى عليه السلام، تعليلا لإيتائه الكتاب، فكأنه قيل وآتينا موسى الكتاب هداية لقومه؛

كان عبدًا شكورا، وما اخترناه أظهر وأَولى، لما فيه من رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو نوح عليه السلام. {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} المفردات: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أَي أوحينا إليهم (¬1) على سبيل الجزم والقطع. {فِي الْكِتَابِ}: أَي في التوراة، {فِي الْأَرْضِ}: أي في جنس الأرض، أو هي الشام وفيها بيت المقدس. {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}: العلو، الارتفاع، والمراد به هنا الاستكبار والتغلب على الناس بالظلم. {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ}: سلطنا عليكم. {عِبَادًا لَنَا}: أَي ناسا مملوكين لنا كي يؤدبوكم، ولا يقتضى وصفهم بالعبودية أَن يكونوا مؤْمنين فالكافر والمؤمن عباد مملوكون لله، تجري عليهم أَحكامه. {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}: أصحاب قوة وبطش شديد في الحروب. {فَجَاسُوا (¬2) خِلَالَ الدِّيَارِ}: أي ترددوا بينها لطلبكم وعقابكم. {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}: أي وكان ما ذكر من إرسال العباد ليعاقبوكم، وعدًا نافذًا لا مفر من وقوعه، والوعد يستعمل في الخير والشر، ويفرق بينهما بحسب المقام، وقد يفرق بينهما لفظًا، فيقال في الخير وعَدَ، وفي الشر أوعدَ ومنه قول الشاعر: وإني وإن أَوعدته أَو وَعَدتُه ... لمُخْلفُ إيعادى ومنجزُ موعدى وقد يقال في الخير وَعْدٌ وفي الشر وَعِيدٌ. ¬

_ (¬1) تفسير القضاء بالإيحاء لتعديه مجرف (إلى) وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس أن المعنى (وقضينا عليم) فتكون إلى بمعنى علي. (¬2) الجلوس طلب الشيء باستقصاء.

التفسير 4 - {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} الآية. بين الله تعالى في الآية السابقة أَنه أعطى موسى التوراة ليستهدي بها بنو إسرائيل، جاءت هذه الآية لتبين أنهم انحرفوا عنها وأفسدوا في الأرض مرتين, مخالفين ما أَمرهم الله به في التوراة من الصلاح والاستقامة. والمعنى: وأوحينا إِلى بني إسرائيل في كتابهم التوراة، أَو قضينا عليهم بسبب انحرافهم عن هداه، لتفسدن في الأرض التي تعيشون عليها في الشام، أو في جنس الأرض - لتفسدن فيها - مرتين، ولتستكبرن استكبارًا كبيرًا على الله تعالى، فلا تلتزمون بهداه، وعلى الناس فتغلبونهم وتظلمونهم وتسيئون إليهم، وتحديد هاتين المرتين اللتين أفسدوا فيهما متعذر لأنهم قد أفسدوا مرات كثيرة منذ نزلت التوراة حتى الآن، ومما جاء في إِفسادهم، أنهم لما مات ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا, ولم يسمعوا النصح من نبيهم زكريا، بل عدوا عليه وقتلوه، وقد رواه ابن إسحاق، وفي الكشاف أن أولاهما قتل زكريا وحبس أَرميا، وثانيتهما قتل يحيى وإرادة قتل عيسى عليهم السلام ومنها أنهم في سنة (71) إحدى وسبعين بعد الميلاد حاولوا أَن يثيروا المتاعب للرومانيين فبطش بهم القائد الروماني (صيطس - أوتيتوس) وقتل منهم خلقًا كثيرين، وخرب هيكلهم المقدس الذي كانوا يفاخرون به الأمم، ويباهون بضخامته وما فيه من آنية الذهب والفضة، فتفرق كثير منهم في الأرض، وذهب بعضهم إلى الحجاز، فتكون منهم يهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع حول المدينة، ويهود خيبر وغيرهم كما فر بعضهم إِلى الشام ومصر وغيرهما. ومن هاجر منهم إلى الحجاز اختاروها لأنهم قرءوا في التوراة خبر نبي يبعث من بين إخوتهم، وهم بنو إسماعيل، وأن دينه سيذيع وينتشر من يثرب - أي المدينة - فلذا أقاموا حولها ليؤَازروه، حتى يعيد إليهم مجدهم وكانوا إذا تحاربوا مع الأوس والخزرج قبل البعثة وانتصروا عليهم، قالوا لكليهما: سيبعث نبي من بني إسماعيل وسنؤمن به ونقتلكم

معه قتل عاد وإرم, وكانوا أحيانا يخرجون التوراة ويضعون أصابعهم على اسمه صلى الله عليه وسلم، ويستفتحون به علي أعدائهم، فكانوا يقولون اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أَن تبعثه آخر الزمان، أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). وفي سنة 135 ميلادية ثاروا مرة أخرى على الرومان، فاحتلوا المنطقة اليهودية في القدس ودمروها وقتلوا أهلها، وهدموا هيكلها من جديد، وحرثوا أرضه، وبنوا مكان المنطقة اليهودية مدينة أخرى حرموها علي اليهود (¬2). إلى غير ذلك من حوادث الإفساد. وترتيبها زمنا أَو أثرا لتعرف المرتان المقصودتان من الآية الكريمة فيه صعوبة إن لم يكن متعذرًا، ولهذا قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر إفسادهم في الأرض مرتين، ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر. 5 - {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}: أي فإذا جاء موعد عقابكم على أولى مرتَيْ إفسادكم في الأرض، سلطنا عليكم عبادا لنا أَصحاب قوة شديدة وبطش في الخروب، فترددوا بين دياركم وتخللوها طلبًا لكم، وكان العقاب الموعود علي تلك الإفسادة وعدًا نافذًا لا خلف فيه، قال القرطبي في هؤُلاء العباد: هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر (¬3) في المرة الأولى حين كذبوا أَرمياء وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره، وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد: انتهى كلام القرطبي. وقال الآلوسى: الجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ورقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل، وحرقت التوراة: اهـ ولا تغفل عما قلناه من أن تعيين المرة الأولى وعقابها اجتهادى لا قطعي. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 89 (¬2) وكان ذلك بقيادة الحاكم الروماني هارديان. (¬3) وهو المعروف عند المؤرخين باسم نبوخذ

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} المفردات: {رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}: جعلناكم تغلبونهم بعد أَن غلبوكم، وأصل الكرة الرجعة، وإِطلاقها على الغلبة هنا لما فيه من الرجوع إليهم بعد هزيمتهم منهم. {أَكْثَرَ نَفِيرًا}: النفير والنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته لمؤازرته والمراد من قوله {أَكْثَرَ نَفِيرًا} أكثر عددا بما كنتم أو من أَعدائكم (¬1). {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}: أي وإن أَسَأتم فعليها، فاللام هنا بمعنى على. {وَعْدُ الْآخِرَةِ}: وعد المرة الآخرة من مرتَيِ الإفساد. {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}: ليظهروا المساءة عليها بسبب ما نالكم من أَذاهم. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ}: المراد بالمسجد هنا بيت المقدس {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}: وليهلكوا ما غلبوه واستولوا علية إِهلاكا شديدا. {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}: وإن عدتم للإفساد عدنا للعقوبة. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}: وجعلناها لهم سجنا يحصرهم ويحبسهم (¬2) ويمنعهم من الإفلات. ¬

_ (¬1) قيل النفير مصدر, وفعله نفر بمعنى خرج، أي أكثر خروجا للغزو، قال الشاعر: فأكرم بقحطان من والد ... وبالحميريين أكرم نفيرا (¬2) من الحصر وهو الحبس وهو إما اسم جامد لا يلزم تأنيثه مع المؤنث، وإما وصف بمعنى فاعل، علي أنه صيغة نسب سماعية، أي ذات حصر ومنسوبة إليه، كما في لابن وتامر أي من منسوب إلى اللبن والتمر.

التفسير 6 - {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}: أَي ثم رددنا لكم الدولة والغلبة ورجعناها لكم على من غلبوكم وتسلطوا عليكم وذلك بعد أَن صلحت أحوالكم واستقامت أموركم، واتحدت كلمتكم، وعملتم بنصائح أَنبيائكم، وأمددناكم بأموال كثيرة بعد ما نهبت أَموالكم، وأمددناكم ببنين بعد ما سبيت أولادكم، وجعلناكم أَكثر رجالا ينفرون معكم للقتال، بعد ما قل رجالكم الذائدون عنكم، فاستطعتم بما أمددناكم به من هذه النعم، أن تستردوا حريتكم وتعود إِليكم دولتكم، وينتهى استعباد أعدائكم لكم. ويفسر أَبو حيان في البحر إعادة الكرة عليهم بقوله: إِن ملكا غزا أَهل بابل، وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا، ممن يقرءون التوراة، وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إِسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن مما كانوا، انتهى. ولعل أَبا حيان يشير بما يقول إلى غزو الفرس لأهل بابل، ففي سنة 539 قبل الميلاي غزا الفرس فلسطين واحتلوها بعد أَن احتلوا بابل، وأَلحقوها بدولتهم قرنين من الزمان، وفي عهدهم عادت قبيلة يهوذا من بقايا الأسر البابلى إلى القدس، وأعادت بناء الهيكل من جديد. وقيل رد الكرة: بأن سلط الله تعالى داود على جالوت فقتله، وعادت الدولة إليهم بملك طالوت عليهم، وتلاه داود عليه السلام، ثم سليمان ثم انقسموا وتحاربوا، فسلط الله عليهم عباده للمرة الثانية، وستأتي بقية الحديث عن ذلك بمشيئة الله تعالى. 7 - {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}: بعد أَن بين الله تعالى أنه رد لهم الكرة علي أَعدائهم ونصرهم، جاءت هذه الآية، لتبين أَن ما نالهم من العقاب أَولا والنصر ثانيا إنما يجري على قاعدة الجزاء العادل فإن هم أحسنوا أُثيبوا، وإن هم أساءُوا عوقبوا.

والمعنى: إِن أحسنتم يا بنى إسرائيل بعودتكم إلى طاعة ربكم، كانت منفعة هذا الإحسىان لكم، حيث يثيبكم عليه فى الدنيا النصر والثراء وكثرة الأولاد، وإِن أَسأْتم بالبغي والطغيان والاستعلاء، كانت مضرة هذه الإساءة عائدة عليكم، وقد عرفتم هذا الدستور الإلهي، فيما تناوب عليكم من الضراء أولا بسبب إفسادكم الفظيع أَول مرة، والسراء ثانيًا حينما تبتم إِلى الله، وعرفتم طريق الصلاح والاستقامة. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}: فإذا جاء عقاب المرة الآخرة من الإفساد والاستعلاء الكبير على الناس، بعثنا عليكم يا بنى إسرائيل عبادًا لنا أقوياء أشداء لكي يعاقبوكم على المرة الثانية من الإفساد، وليظهروا بهذا العقاب العنيف آثار المساءَة الشديدة على وجوهكم من الحزن والخوف والرعب، والصفرة والحيرة -فإن الأعراض النفسية تتجلى آثارها واضحة على الوجوه- وبعثناهم أَيضًا ليدخلوا المسجد الأقصى -بيت المقدس- بالسيف والقهر والغلبة والإذلال كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ويهلكوا ما علوْه وغلبوه واستولوا عليه تتبيرا وإِهلاكا شديدًا لا يوصف واختلف فى المبعوث لعقاب بنى إِسرائيل فى هذه المرة، فقيل هو الإسكندر وجنوده، وقيل هو ملك من ملوك الطوائف اسمه "بيردوس" (¬1)، وهؤلاء الملوك ظفروا بعد أَن استولى الإسكندر على الفرس وقتل "دارا" ملكهم، فقامت من بعده دولة ملوك الطوائف، وعددهم يربو على سبعين ملكا، ومدة ملكهم خمسمائة واثنتا عشرة سنة وكانت هذه العقوبة على قتلهم نبيهم يحيى عليه السلام، وكان بين عقوبة بختنصر لهم وهذه العقوبة نحو سبعمائة وخمسة وثلاثين عاما، وبينها وبين قتل الإسكندر لدارا نحو ثلاثمائة سنة، وقيل غير ذلك، انظر الآلوسي. وقال بعض العلماء الأجلاء: إِن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ بعثهم وتعيين سبب العقوبة مما لا يتعلق به كبير فائدة، إذ المقصود أَنه لما كثرت معاصي بني إسرائيل، سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أُخرى: اهـ. وهذا أسلم والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) وقد رجح هذا الرأي صاحب الكشاف.

8 - {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}: أي لعل الله تعالى يرحمكم بعد العقاب بالبعث الثاني، إِن تبتم عن المعاصي، ولازمتم طاعته، فيكف عنكم عقابه وانتقامه، ويبدلكم من بعد خوفكم أمنا، وإن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم في الدنيا، على نحو ما حدث في عقاب المرتين السابقتين أَو أَشد أو أَدنى حسب درجه آثامكم، وجعلنا جهنم لجميع الكافرين منكم ومن غيركم سجنا حاصرا لهم ومحيطا بهم، فلا مهرب لهم منه، فاحذروا العودة إلى آثامكم، لكي تنجوا من عقوبة الله في الدنيا والآخرة، ولقد عاد هؤلاء إلى الإفساد مرة بعد أخرى، فسلط الله عليهم من دمرهم وشتتهم في بقاع الأرض، وتراهم دائما يتجمعون في مكان واحد، تتجمع فيه بيوتهم، ويغلقون مسالكه حتى لا يعرف أحد أَسرارهم، وليأمنوا الاعتداء عليهم ممن يتآمرون ضدهم وقد تآمروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصدوا قتله، فسلطه الله على بني قريظة، فقتل رجالهم، وأجلى بني النضير وقاتل أهل خيبر، وضرب الجزية على من بقي منهم حول المدينة. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} المفردات: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}: يرشد للطريقة التي هي أعدل (¬1). ¬

_ (¬1) قيل إن التفضيل هنا غير مراد، فالمقصود أنه يهدي إلى الطريق المستقيمة دون سواها إذ لا مشاركة بين طريق القرآن وسواها في الاستقامة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان والرازى وخلاصته أن أفعل التفضيل هنا علي غير بابه، وفي ذلك يقول تعالى {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.

{أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. أعددنا لهم عذابا شديد الإيلام. {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ}: أي يطلبه لنفسه، وكُتِبَتْ (يَدْعُ) في المصحف بدون واو مراعاة للنطق، وأصلها يدعو بالواو بعد العين. {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}: أَي يدعو لنفسه بالشر مثل دعائه لها بالخير فلا يفرق بينهما لجهله. التفسير 9 - {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}: بين الله فيما تقدم أنه تعالى أَعطى موسى كتاب التوراة وجعله هدى لبني إسرائيل، وأنهم لم يعملوا به، بل أفسدوا في الأرض، وجاءت هذه الآية والتي بعدها لبيان أَن هذا القرآن أعطاه محمد - صلى الله عليه وسلم - لكي يهدى الناس جميعًا إلى ملة الإسلام، فإنها أَقوم الملل، وأن علي جميع الخلق أن يؤمنوا به ومنهم أهل الكتاب. والمعنى: إِن هذا القرآن الذي أَنزلناه عليك يا محمد يهدى الي الملة التي هي أقوم الملل وأعدلها وهي ملة الإِسلام إلى الله، والتوحيد الخالص من كل شوائب المشرك، والتنزيه له تعالى عن شوائب المماثلة للبشر، وعن سمات النقص التي لم تتورع عنها الملل والنحل المختلفة وكما يهدى إِلى الملة التي هي أقوم يبشر المؤمنين بأحكامه وعقيدته، الذين يعملون الأعمال الصالحة التي دعاهم إليها - يبشرهم - بأن لهم في مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم أَجرًا كبيرًا في ذاته وفي أوصافه الكريمة، ينالونه في جنة عرضها السماوات والأرض أُعدَّت للمتقين. 10 - {يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}: معطوف علي ما بُشِّرَ به الذين آمنوا داخل في حيز البشارة لهم، فكأنه قيل: يبشر المؤْمنين الصالحين بأجر كبير لهم، ويبشرهم أيضًا بأن أَعداءهم الذين لا يؤمنون بالآخرة الإيمان الصحيح، أَعددنا لهم فيها عذابا مؤلما، فإن الانتقام من العدو سرور يستحق أن يبشر به عدوه، وبخاصة إذا كانت العداوة من أجل الحق تبارك وتعالى (¬1). ¬

_ (¬1) ومن أجل ذلك يسخر المؤمنون من الكافرين في الآخرة، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} الآيات 34 , 35 , 36 من سورة المطف

ويصح أن يراد من البشارة مطلق الإخبار الشامل للإخبار بما يَسُرُّ وبما ليس كذلك على سبيل المجاز، ومن استعمال التبشير في العذاب قوله تعالى في سورة النساء: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (138) وفي سورة التوبة: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (34). 11 - {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}: بينت الآيتان السابقتان منزلة القرآن الكريم من الهداية للطريقة التي هي أقوم، وبشارته للمؤمنين بحسن المثوبة، وإنذاره للكافرين بشديد العقوبة، وجاءت هذه الآية لتبين أَن الإنسان لم يراع مصلحة نفسه حيث يطلب الشر ويتعجله بدل الخير، والمراد بالإنسان الجنس، وقد أُسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر والعاصى، أو حاله بصفة عامه في بعض أَحيانه. والمعنى على الأول مع ربطه بما سبق: أن هذا القرآن يهدى إلى الملة والشريعة التي هي أقوم ولكن الإنسان الكافر والعاصي يدعو لنفسه بالشر - أَي يطلبه لها - بكفره وعصيانه - يدعو لنفسه بهذا الشر مثل دعائه بالخير وطلبه لها، من غير تفرقة بين ما يؤَدي به إلى العقوبة وما ينتهي به إلى المثوبة جهلًا منه وسوء تمييز، وكان الإنسان بطبعه مبالغا في العجلة حيث سارع إلى ما يؤدي به إلى الضرر بغير تريث ولا مبالاة،، تجاهل ما ينتهى به إلى الخير والمنفعة عاجلها أَو آجلها, ولو تريث وفكر لاختار الإيمان والطاعة لحسن عاقبتها, ولنبذ الكفر والمعصية لسوء منقلبها، وقد منحه الله العمل ليقوم به غرائزه فلا عذر له في إهداره وعدم الانتفاع بتقويمه. والمعنى على الثاني: إِن هذا القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير, وهو في بعض أحيانه يترك الدعاءَ بالخير ويدعو الله لنفسه وماله وأَهله وولده بالشر لمرض أَصابه أو غضب حل به، أَو ضجر من بليّة ومحنة، وكان الإنسان بحسب غريزته وجبلته شديد العجلة، لا يميل إلى التأني حتى تزول المحنة أَو العارض الذي استتبع دعاءه، ولو تأنى وتذرع بالصبر الذي يدعو إليه العقل والشرع، لآثر الدعاء بالخير بدل الدعاء بالشر. وقد جاءَ النهي عن ذلك صريحا، فقد أخرج أَبو داود والبزار عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تدْعوا عَلَى أَنفسِكم لَا تدْعُوا عَلَى أولَادِكم لَا تدْعُوا عَلَى أَموَالِكم، لئِلا توَافِقوا مِن الله تعَالى ساعَة فِيها إِجَابَة فيستجيب ل

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} المفردات: {آيَتَيْنِ}: علامتين ودلالتين على وجود الله وسائر كمالاته. {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ}: أَي أزلنا ظلمته بضوء النهار. {مُبْصِرَةً}: أَي مبصرا أَهلها في ضوئِها، وإنما أسند الإبصار لفظًا إلى آية النهار على سبيل المجاز؛ لأنها سبب الإبصار. {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}: لتطلبوا رزقا من خالقكم ومربيكم. التفسير 12 - {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}: بين الله قبل هذه الآية أن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، ويبشر المؤمنين، وينذر الكافرين، وجاء بهذه الآية ليهدينا بها إلى الطريق العقلى الهادي إلى معرفة الله، وهو النظر في آياته الكونية. والمعنى: وجعلنا الليل والنهار في تعاقبهما واختلافهما طولا وقصرا، حسب اختلاف مطالعهما ومغاربهما، وفي تباينهما ظلمة وضياء حسب ظهور الشمس ومغيبها - جعلنا الليل والنهار في ذلك كله علامتين تهديان العقل إلى أَن لهما صانعا حكيما، ومدبرا علمًا، وقادرا عظيما، ثم فصَّل حال الليل والنهار وفائدتهما فقال سبحانه: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} (¬1): أي فجعلنا الليل الذي هو آية وبرهان على خالقه، جعلناه ممحوّ الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء: كما قال سبحانه: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ويجوز أن يكون المعنى: فأزلنا ¬

_ (¬1) إضافة آية إلى الليل بيانية، يعني آية هي الليل , وكذا يقال في آية النهار.

ظلمة آية الليل بالضوء الباهر والنور الساطع المنبعث من الشمس المشرقة. {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ... } الآية. أَي وجعلنا النهار الذي هو آية على بارئه ومدبره - جعلناه مضيئا، بحيث تتبين به المسالك والدروب وأسباب الأرزاق، لكي تبتغوا وتطلبوا في ضوئه رزقا من فضل ربكم لا يتيسر لكم في ظلام الليل، ولتعلموا بتفاوت الليل والنهار وتعاقبهما وسائر أَحوالهما، عدد السنين التي مرت بكم، وحساب الشهور والأيام والليالى، وغير ذلك مما ترتبط به مصالحكم ومعايشكم وعباداتكم. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}: أي وكل شيء يرتبط بمعايشكم ومنافعكم الدنيوية والأخروية، بيَّنه الله سبحانه في القرآن تبيينا تاما لا التباس فيه ولا خفاء، كما جاء في قوله لرسوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وبهذا ظهر كون القرآن هاديا للتى هي أَقوم ظهورا بينا. واعلم أَن القرآن اشتمل على قواعد كلية للعقائد والشرائع، وأما التفاصيل الجزئية فقد أَحالها الله تعالى على نبيه لتبيينها، وذلك في قوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). فالصلاة في القرآن أَوجبها الله بنحو قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ولم يتعرض لكيفية أَدائها وبيان أَوقاتها، وقد تكفل الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك بوحى من الله تعالى.: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النحل: الآية 44 (¬2) سورة النجم: الآيات 3 - 5

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} المفردات: {طَائِرَهُ}: أَي عملة من خير أَو شر، وقيل المراد رزقه وأَجله وعمله وجميع ما قدره الله له. {فِي عُنُقِهِ}: تمثيل لشدة لزوم عمله له. {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}: أي يجده مبسوطا غير مطوى. {حَسِيبًا}: أي حاسبا عملك لك أو عليك. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: الوزر في اللغة الحمل مطلقًا, المراد به هنا الذنب، أي ولا تتحمل نفس حاملة للوزر ذنب نفس أخرى. التفسير 13 - {وكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}: فسر بعض العلماء الطائر هنا بالعمل - خيرًا كان أَو شرًّا - وفسره آخرون بجميع ما جرى به القدر وأَحاط به العلم من الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة وسائر أحوال الإنسان، وإِطلاق لفظ (الطائر) على هذا أو ذاك على سبيل المجاز، فكأنما يطير إِلى العبد من عُش الغيب الذي علمه الله أزلا في شأن عبده. وتفسير الطائر بالعمل هو الذي نختاره في تفسير الآية؛ لأنه المناسب لقوله تعالى في آخرها: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}.

أَي ونخرج للإنسان يوم قيامِ الناس من قبورهم وبعثهم لحساب ربهم - نخرج له كتابا يحوي تفاصيل أعماله خيرها وشرها، يلقاه منشورا مبسوطا أمامه ليقرأه بنفسه، ويتعرف على حسناته وسيئاته، أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لكَ صَحيفةٌ وَوُكِّلَ بكَ مَلكانِ كريمَانِ، أَحدُهُمَا عن يَمينك، والآخر عن شمالك حتى إِذَا مِتَّ طُويتْ صَحيفَتُكَ فَجُعِلتْ في عُنقِك قبرِكَ، حَتى تَجِيء يَومَ الْقيَامَةِ فَتُخْرَجُ لَكَ": اهـ والمقصود من جعلها في عنقه ارتباطها بصاحبها معنويا لا حسيا؛ لأن الإنسان يفنى في قبره، ولهذا قال الحسن في آخر عبارته، (حتى تَجيء يَومَ القِيَامَةِ فتخرج لك) وبعد أَن عرفنا أن أعمالنا تسجل علينا بهذه الآية الكريمة، وبنحو قوله تعالى: "ما لْفِظُ مِن قَوْل إلاَّ لَدَيْهِ رَقيِب عَتِيدٌ" وأَنها تنشر يوم القيامة، فلهذا ينبغي للغاقل أن لا يملي على الملكين الكاتبين لصحيفته إلا الأعمال الصالحة التي يفرح ويسعد بنشرها وقراءتها يوم القيامة، ويدعو غيره إِلى قراءتها فرحًا بها وبحسن عاقبتها كما حكاه الله تعالى عن السعيد الذي أوتي صحيفته بيمينه بقوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} (¬1). وهَذَا القول يصدر منه بعد. أن يقرأَ كتابه، تنفيذا لأمر الله تعالى إياه بقوله لكل مكلف سعيدًا كان أو شقيا: 14 - {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}: فإذا قرأَه وعرف منه حسن عاقبته قال ذلك. والمعنى: يقال لكل إِنسان بعد أن يجد كتابه منشورا مسجلا فيه عمله اقرأ كتابك كفى بنفسك حاسبا عليك سيئاتك، وحاسبا لك حسناتك، فكل ذلك واضح مسطور في الكتاب، كما قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬2) وكما ترى المجرمين مشفقين مما فيه ترى الصالحين مستبشرين فرحين بما فيه كما تقدم بيانه. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: الآيات 19 - 23 (¬2) سورة الكهف: الآية

والآية ظاهرة في أَن كل مكلف يستطيع قراءة كتابه وإن لم يكن في دنياه قارئا، ولهذا كلف الله كل إِنسان بقراءة كتابه، قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا في الدنيا، ومن العلماء من فسر كتاب الإنسان بنفسه، فإن ما يصدر عنه من خير أو شر يطبع في نفسه وينقش في روحه، وهي في دنياها مشغولة بواردات الحواس المتجددة مشغولة عن هذه الآثار المنقوشة فيها والثابتة على صفحتها، فإذا انقطعت علاقتها بتلك الحواس قامت قيامة الإنسان، وأدرك كل ما صدر عنه من خير وشر منقوشا وثابتا في نفسه وروحه، بعد أن انكشف عنها الغطاءُ بالموت الجسدى، وكما يظهر ذلك من نفسه عقب موته، يظهر له منها في ساحة القيامة يوم النشور، فيقال له حينئذ: اقرأ كتاب نفسك واذكر أعمالك، كفى بنفسك مُحاسِبة لك بما ثبت فيها من عملك، ومعلوم أَن العبد إذا مات قامت قيامته الصغرى وأحسّ من نفسه بمصيره الذي ينتظره، فإذا بعث قامت قيامته الكبرى وكان الحساب والجزاءُ. ويقرب هذا المعنى للذهن أن الإنسان بدواعي المعاني يتذكر في دنياه أمورا مضى عليها عشرات السنين، وذلك ناشيء من انطباع صور الحوادث في نفسه. 15 - {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}: بين الله فما سبق أَن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم، ويبشر المؤْمنين المهتدين بالأجر الكبير، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يطلب لنفسه الشر طلبه للخير، فإن عمله ملازم له إلى يوم القيامة، وجاءت هذه الآية لتبين أَن المهتدى بهدى القرآن هو الذي ينتفع باهتدائه، وأن من ضل عنه فهو الذي يُضَر بضلاله، أَما المولى سبحانه فإنه لا ينتفع بطاعة عباده، ولا يضر بمعصيتهم، وأَما الرسول صلى الله عليه وسلم فليس عليه إلا البلاغ. والمعني: أن من تأثر بمواعظ القرآن، وتفتحت بصيرته لمعارفه، واهتدى بهداه فلا تعود منفعة ذلك إِلا عليه وحده، وأن من انحرف عن سبيله، وضل عن طريقه فلا يعود وبال ضلاله إلا عليه وحده دون سواه، وتعالى الله أَن تنفعه طاعة المهتدي، أَو

تضره معصية المنحرف، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة جزاه الله عن دينه خير الجزاء. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: هذه الجملة مؤكدة لمضمون الجملة السابقة، أَي ولا تحمل نفس مثقلة بوزرها وحاملة لذنبها - لا تحمل ذنب نفس أخرى، فكل امرئ بما كسب رهين، فلو أَمر شخص آخرٌ بمعصية، ووعده بأن يحمل عنه عقوبته, فوعده كاذب وكلاهما مسئول، فالآمر بالمعصية مسئول عن أَمره بها ومعاقَب عليها، ومنفِّذ المعصية مسئول عن تنفيذها ومعاقب عليها، روى عن ابن عباس أَنها نزلت في الوليد بن االمغيرة لما قال: اكفروا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وعليَّ حمل أَوزاركم: اهـ وفي ذلك بقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1). فإن قيل إنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الميت يُعذبُ بِبكَاء أَهْلِهِ عليه" فإن فيه أَخذ الإنسان بجزم غيره وقد أجيب عنه بأن الحديث محمول على ما إذا أَوصى بذلك قبل أَن يموت، أَو أنه يتألم لمعصية أَهله ببكائهم عليه وشقّهم الجيوب من أَجله، وعدم رضاهم بقضاء ربه، فهو لهذا يعذب نفسيا، وأَما قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فكل من المضل والضال حمل ذنب نفسه لا ذنب غيره، فالمضل حمل ذنب إضلاله لغيره، وغيره تحمل وزر ضلاله بسببه، فالجهة منفكة، وكل ما جاء على هذا النمط يُؤَول هذا التأويل. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}: بعد أَن بين الله تعالى أَن عاقبة الهدى والضلال لا تعود إلا على صاحبيهما، جاءت هذه الجملة لتبين عظيم رحمة الله وعدالته وفضله. والمعنى: وما صح ولا استقام في حكمتنا وسنتنا أن نعذب أحدًا بنوع بما من العذاب دنيويا كان أَو أخرويًا - على فعل شيءٍ أَو ترك آخر، حتى نبعث رسولا يهدى إلى ¬

_ (¬1) العنكبوت: آية 12.

الحق، وينهى عن الباطل، ويقيم الحجج ويبين الشرائع، حتى تتم أسباب التكليف وتقوم به حجة الله على خلقه. واستدل الأشاعرة وفقهاءُ الشافعية بالآية على أن أهل الفترة ناجون وقد أَطلقوا القول فى ذلك. وبما أنه قد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة، فقد أُجيب عنهم بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة -كما دلت عليه- الآية -وبأنه يجوز أَن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك، علمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه. وقيل إن تعذيب هؤُلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غيَّرَ وبدَّل من أهل الفترة بما لا يعذر به، كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، كما فعل عمرو بن لحي الذي استحدث عبادة الأوثان ولا يخفى أن هذه الإجابات عن هؤُلاء لا تتفق مع إطلاقهم القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولا تكليف قبل البعثة، قال الآلوسي (¬1): ولو ثبت أن من جاءت الأحاديث بتعذيبهم فى الفترة بين الرسل كانوا من أَتباع رسول سابق بقى شرعه حينذاك كعيسى عليه السلام لم يبق إِشكال- انتهى بتصرف يسير. ويقول المعتزلة: إن الإيمان بالله واجب بالعقل قبل البعثة وبعدها، ويحتجون بأن معرفة الله لا يمكن الوصول إليها إلا بالعقل حتى بعد البعثة، ولهذا يقول الله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}. فالله تعالى يأمرنا بأن نعرفه بالنظر في آياته الكونية، ولا يمكن إثبات رسالة الرسول إلا بعد معرفة الله الذى أَرسله، فوجب أن تكون معرفة الله أولا بالعقل، وثبت أَن من كفر به قبل البعثة يستحق العذاب، ويقولون أيضًا إن الأحكام تعرف بالعقل لأنه يدرك حسن الأفعال وقبحها قبل ورود الشرع (¬2). وقد أثبت الإمام الرازي ¬

_ (¬1) الآلوسي جـ 15، ص 38 منير. (¬2) فإذا لم يرد في الشرع كنا مكلفين ومحاسبين على الأخطاء، والله تعالى أرسل الرسل لتأييد العقل ومساعدته في أحكامه كذا قالوا.

الوجوب العقلي، وفسر قوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} بوجهين (أحدهما): حمل الرسول على العقل (والثاني): تخصيص العموم بأن يقال: المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها بغير الشرع إلا بعد مجيء الشرع، ثم قال والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أَن يجب علينا فعل ما ينتفع به، وترك ما يتضرر به، ويمتنع أن يحكم العقل على الله تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل، اهـ (¬1). وحمل الآية أبو منصور الماتُريدى وتابعوه على نفي تعذيب أهل الفترة بالاستئصال في الدنيا، وذهبوا إلى تعذيبهم في الآخرة بترك الإيمان والتوحيد، وأهل الفترة كل من كان بين رسولين، ولم يكن الأول مرسلا إليهم، ولم يدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيب أهل الفترة الإِمام النووى في شرح مسلم، فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، وليس في هذا مؤَاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام. قال الآلوسى تعليقًا على رأي النووى: والظاهر أن النووي يكتفى في وجوب الإيمان على كل أحد، ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإِن لم يكن مرسلا إليه. وقال الحليمي (¬2) في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى، فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أَهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فيكون كافرًا - ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم، والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، ولو أمكن أنه لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي، ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهًا - ولآ نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل، أو لا بد من انضمام النقل؟ اهـ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص 37 (¬2) المصدر السابق آخر 37 وأول ص 38

رأي الإمام الغزالي

وعلق عليه الآلوسي بقوله: وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أَحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل عليهم السلام وإِن لم يكن رسولا إليه، وبالغ بعضهم فى اعتماد ذلك حتى قال: فمن بلغته دعوة أَحدٍ من الرسل بوجه من الوجوه، فقصر فى البحث عنها فهو كافر من أَهل النار، فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أَهل الفترة مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأن آباءَهم الذين مضوا فى الجاهلية فى النار. ثم قال الآلوسي (¬1): والذى يميل إِليه القلب أَن العقل حجة قبل ورود الشرع فى معرفة الصانع تعالى ووجدته وتنزهه عن الولد للأدلة السابقة، أما إرسال الرسل وإنزال الكتب فمن رحمته تعالى، أو أنَّ ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والمعاملات والحدود، فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا اكتفاءً بالعقل، وقيل في جواب هذا الإِشكال: لما كان أمر البعث والجزاء. مما يَشُقُّ على العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه فلهذا بعث الله الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين، لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداهة العقول، فالبعْرة تدل على البعير، والأثر على المسير، فسماءٌ ذات أبراج وأَرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير: اهـ. بتصرف. رأي الإمام الغزالي ثم حكى الآلوسي رأي الإمام الغزالي في ذلك إذ قال (¬2): الناس بعد بعثته صلى الله عليه وسلم أَصناف، صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أَصلا، فأُولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والصفات الكريمة ولم يؤْمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه السلام وسمعوا به بطريقة مشوهة لا تظهره على ما كان عليه من الكمال في أَمره كله، فهؤُلاء أَرجو لهم الجنة إن لم يؤْمنوا به: اهـ بتصرف. وقد علق الآلوسي على هذا الرأي بقوله: ولعل القطع للأولين بالجنة، ورجاءها للآخرين إِذا كان هؤُلاء وأولئك مؤْمنين بالله تعالى، أما إذا كانوا غير مؤْمنين به فهم على الخلاف في أمرهم: اهـ بتصرف يسير. ¬

_ (¬1) انظره في جـ 15 ص 39 طبع منير. (¬2) المصدر السابق في آخره ص 39 - 12.

الرأي الذي نرتضيه

الرأي الذي نرتضيه تبين من هذا البحث أن أحاديث صحيحة وردت بتعذيب بعض المشركين في الفترة بين رسولين، وبما أنه تعالى قال {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإننا نرى أن ما ذهب إِليه الماتريدية أَسلم، لما فيه من الجمع بين الكتاب والسنة، فبالسنة يحكم على أهل الفترة بالكفر واستحقاق عذاب النار، لإشراكهم بالله تعالى، وهم غير معذورين في هذا الشرك، فقد كان البدوى منهم يعرف أن البعرة تدل في البعير، وآثار السير على المسير، وأَن هذه الأرض ذات الفجاج، وهذه السماء ذات الأبراج، براهين علي وجود الخالق الكبير العليم، وأَن الشركاء التي عبدوها معه، ليس لها شيء عن الخلق والرزق، فهم لهذا لا يعذرون وإن لم يبعث فيهم رسول, لأن معرفة الله لا تتم إلا بالعقل قبل إِرسال الرسل، وبعدهم - كما تقدم ببانه - ويحمل نَفْى العذاب في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} على نَفْىِ عذاب الاستئصال في الدنيا ما لم يبعث إليهم رسول فيكفروا ويصروا، فبهذا يستحقون الاستئصال، ومعلوم أن الماتريدية من أَهل السنة كالأشاعرة - والله تعالى أعلم. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} المفردات: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}: أمرنا الرؤَساء والمنعمين فيها بالطاعة، وقِيل جعلناهم أمراء (¬1). {فَفَسَقُوا فِيهَا}: أي فخرجوا عن الطاعة وتمردوا فيها. ¬

_ (¬1) قال القرطبي في تعليله: لأن العرب تقول: أمير غير مأمور أي غير مؤمر وبالمعنى الأول قال ابن عباس وعليه الأكثرون.

رأى الزمخشري

{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}: أي فوجب عليها القول، أي فوجب عليها الوعيد بالعذاب. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}: التدمير: الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا}: كم خبرية للتكثير أَي وكثيرا أَهلكنا. {مِنَ الْقُرُونِ}: جمع قرن وهو من الزمان مائة سنة، والمراد من القرون أَهلها. التفسير 16 - {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}: بينت الآية السابقة أن عاقبة الهدى لا تعود إلا على المهتدي، وعاقبة الضلال لا تتعدى صاحب الضلال، فلا تحمل نفس وزر نفس أخرى كما لا تثاب نفس فاسقة بطاعة نفس أخرى وأنه تعالى لا يعذب أمة حتى يبعث إليها رسولا ينصحها ويرشدها فتستمر على ضلالها وجاءت هذه الآية لتؤَكد سابقتها، ببيان أَن الله تعالى جرت سنته أن لا يهلك قرية بعد بعث الرسول إِليها، حتى يأمر رؤساءها بطاعته ليستقيم أمر العامة فيها، فإذا لم تستجب دمرها تدميرا. والمعنى: إذا شئنا إهلاك قرية أعرضت عن رسولها، فإننا لا نكتفي بما علمناه أَزلا من انطماس بصيرة أهلها وجحودهم، ولا بمقابلة رسولهم بالتكذيب والكفر، بل نخص المترفين فيها بتكرار أَمرهم بطاعة ربهم، لأنهم أئمة الضلال وسبب فساد العامة، ولكى تسقط حجتهم يوم حساب ربهم، فاستمر فسقهم فيها ومن ورائهم عامتهم، فحق عليها وعيد ربهم بعذاب الاستئصال الدنيوى، فدمرها الله تدميرا هائلا، حيث أهلك أولئك الفاسقين المتمردين واستأصلهم بما شاءه الله من أَسباب الاستئصال، فصارت قريتهم بعدهم خرابًا، وانطمست معالمها. رأى الزمخشري يرى الزمخشري أَن الآية فيها استعارة تمثيلية، وخلاصة المعنى عليها: وإذا أردنا أن نهلك قرية كفر أهلها وعصوا وأصروا علي ذلك، أَمددناهم بالنعم وأترفناهم في الحياة،

استدراجًا لهم، فكان هذا الاستدراج بالنعمة كأنه أَمر لهم بالفسق، ففسقوا فيها فحق الوعيد بتعذيبهم فدمرناها تدميرا. والمعنى الأول، أوضح وأظهر، وأساسه ما نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن من أَن المراد بأمر مترفيها أمرهم بالطاعة، ولذا قال تعالى في مقابله: {فَفَسَقُوا فِيهَا} أَي قابلوا الأمر بالطاعة بالفسق. 17 - {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}: والقرن زمان طويل، وأشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة، وقد جاءَ في حديث أنه صلى الله عليه وسلم (دعا لرجل فقال: "عِش قرنًا" فعاش مائة سنة) ويجمع القرن على قرون والمراد منها أهلها لاقترانهم في زمان واحد. والمعنى: وكثيرا ما أَهلكنا من الأمم المقترنة، كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن جاءوا بعد قوم نوح واستأصلناهم كما استأصلنا قوم نوح، وقد قصصنا عليك يا محمد أخبار بعضهم، ولم نقصص أَخبار غيرهم وكان إِهلاكهم لكفرهم وتكذيبهم لرسلهم، وكفى بربك بذنوب عباده الخفية والظاهرة خبيرًا بصيرا، أي عالمًا بدقائقها محيطًا بتفاصيلها فيعاقبهم عليها، فلا تبتئس يا محمد بما صنع قومك معك، فسوف نعاقبهم كما عاقبنا من قبلهم إِن أصروا على كفرهم، وإِنما قال من بعد نوح ولم يقل من بعد آدم، لأن نوحًا أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم الله بعذاب الطوفان، ولظهو رحال قومه لم يذكروا ضمن الأمم المهلكة، على أن ذكره رمز إِليهم وإِلى ما حدث لهم وقدم "خبيرًا" على "بصيرًا" لتقدم متعلقه من الاعتقاد والنِّيات تقدمًا وجوديًا ورُتبيًا، فإِنها مبادئ الأعمال الظاهرة قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأعمَالُ بالنيات" الحديث.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} المفردات: {الْعَاجِلَةَ}: أي الدار العاجلة، والمراد بها الدنيا. {يَصْلَاهَا}: بدخلها ويقاسي حرها. {مَدْحُورًا}: مطرودا مبعدا من رحمة الله. {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}: كان عملهم للآخرة مقبولا من الله مجزيا منه بحسن الثواب، وأصل معنى السعي: المشي السريع - وهو دون العَدو- يستعمل في الجد في الأمر خيرا كان أو شرا، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة - كما قال الراغب - {مَحْظُورًا}: ممنوعًا. التفسير 18 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}: بين الله قبل هده الآية أنه تعالى لا يهلك أُمة عاصية إلا بعد أن يبعث إليها رسولا يأمر مترفيها أن يتركوا ما هم عليه من الكفر والمعاصي حتى تستقيم عامتهم، وأنهم إذا أصروا علي فسقهم دمرهم واستأصلهم، وأنه قد أجرى هذه السنة في كثير من القرى والأُمم من بعد نوح، وجاءت هذه الآية وما بعدها لتبين سنة أخرى لله تعالى في جزاء الناس على أعمالهم، فمن قصد بعمله دنياه وحدها، أعطاه منها ما تعلقت به مشيئته، ولكنه معاقب في الآخرة، ومن قصد بعمله أُخراه وكان مؤمنا أُثيب أحسن الثواب في أُخراه.

والمعنى: من كان يقصد بعمله منافع هذه الدار العاجلة، من الاستمتاع بما فيها من المتع واللذائذ والذكر الحسن بين الناس دون أَن تخطُر الآخرة بباله، أَو يبتغي بعمله وجه ربه -كما هو شأن الكافر والمنافق- فإن الله تعالى يعجل له فى هذه الدار ما شاء تعجيله له من نعيمها ومنافعها، لا كل ما يريد العامل للدنيا. وليس بضروري أن يجيبه فيها إلى شيء من مآربه، فإنه لا يعطى إلا من أراد إعطاءه فإن أعطاه فعل سبيل الاستدراج والكيد بسبب إصراره على الكفر، وليس في سبيل الجدارة والاستحاق - كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وقد بين الله عاقبة هذا الصنف من الناس بقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}: أى ثم جعلنا له جزاءً على إهداره أُخراه وإيثاره دنياه، جعلنا له جهنم بدخلها ويقاسى حرها، ولا يقتصر أمره على ذلك، بل يضاف إليه الذم والإهانة والطرد من رحمة الله تعالى، فلهذا قال: {يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} فما أسوأه من مصير، وفى مثل ذلك يقول الله تعالى فى سورة الشورى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. 19 - {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}: أى ومن قصد بعمله الدار الآخرة وحسن الجزاء فيها، وجَدَّ في عملها اللائق بها وهو مصدق بربه ونبيه تصديقًا واثقًا لا تشوبه شائبة موهنة، فأولئك المصدقون المريدون الآخرة العاملون من أجلها كان سعيهم المتواصل مقبولا عند الله مثابا عليه أضعافًا مضاعفة، كما قال تعالى في سورة الشورى: (¬1) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. 20 - {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}: أي كلا ممن يسعى للعاجلة ومن يسعى للآخرة نمده ونزيده مرة بعد أُخرى، بحيث يكون اللاحق مددا للسابق -نمدُّ هؤلاء وهؤلاء- من عطاء ربك ونعمته، فصاحب العاجلة يمده الله حسب مشيئته تعالى بالنعم الدنيوية التي سعى إليها وآثرها على الآخرة، ولم يعطها حقها من ¬

_ (¬1) أول الآية (10) منها.

الشكران والطاعة والإيمان، وصاحب الآخرة يمده ربه بما يعينه على طاعته وشكره، ويستتبع حسن مثوبته، وما كان عطاءُ ربك أَيها المكلف ممنوعًا عمن يريده، بل هو فائض على ما يشاؤه الله بموجب حكمته، ولا يمنع بره عن عباده كفر ولا عصيان، وسَيُجزَى كلٌّ في أخراه على ما قدمت يداه. {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} َ المفردات: {فَتَقْعُدَ}: القعود هنا بمعنى الإقامة أَو المكث، سواءٌ أَكان في مكثه قاعدا أَم قائما وقيل القعود بمعنى الصيرورة، من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أي حتى صارت كأنها حربة، وقيل غير ذلك. {مَخْذُولًا}: أَي عديم النصير. التفسير 21 - {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}: الخطاب في هذه الآية لكل مكلف، فالله تعالى يدعوه فيها إلى التأمل في فضله وتمييزه بعض الناس على بعض في الرزق والنعمة في الحياة الدنيا - دون نظر إلى عمل، ويبين أن التفاوت في الآخرة بين عباده سيكون أَعظم، تبعًا لتفاوتهم في الدنيا في العمل. والمعنى: انظر أيها المكلف وفكر في تفضيل الله بعض الناس على بعض في الرزق في هذه الحياة الدنيا من غير نظر إلى إيمانهم وكفرهم، فقد يكون الكافر أَوسع نعمة وأَعظم

جاها من المؤمن في الدنيا، وقد يكون العكس؛ لأن العطاء في الدنيا لا ينظر فيه إِلى العمل غالبًا، بل هو كرم غير مشروط، وتذكير وامتحان يستتبع الجزاء. وهذا التفاوت الذي تراه في الدنيا لا قيمة له بجانب التفاوت الذي سوف يكون في الآخرة، فإن التفاوت فيها سيكون أَعظم، ودرجات التفضيل ستكون أَكبر، تبعًا لتفاوتهم إيمانًا وكفرا، وطاعة وعصيانًا، فبعضهم في أَعلى عليين وبعضهم في أَسفل سافلين، وغيرهم من سائر الخلق متفاوتون في الدرجات أو الدركات، وقد جاء في تفاضل أَهل الجنة في الدرجات عن أبي سعيد الخدرى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أَهلَ الجنة لَيَتَرَاءون أَهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدرى العابر من الأُفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى. والذي نفسى بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلينَ" أَخرجه الشيخان واللفظ لمسلم. وقد صح أَنه تعالى أَعد لعباده الصالحين ما لا عين رأَت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلبِ بشر. رروى ابن عبد البر في (الاستيعاب) عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشى، وكان أَحد الأشراف في الجاهلية, وأَبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأَهل بدر - وكان يحبهم - فقال أَبو سفيان: ما رأَيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إِلينا، فقال سهيل - وكان أعقلهم -: أيها القوم .. إن والله قد أَرى في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأَبطاتُم، أَمَا والله لَمَا سبقوكم به من الفضل أَشدُّ عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه ... انتهى بتصرف يسير .. وفي الكشاف أَنه قال: إنما أتينَا من قِبَلِ أنفسنا، إنهم دعوا ودعينا، فأسرعوا وأَبطأنا، وهذا باب عمر .. فكيف التفاوت في الآخرة؟ ولئن حسدتموهم على باب عمر، لَماَ أَعد الله لهم في الجنة أَكبر.

22 - {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا}: أي لا تجعل أيها المكلف مع الله إلها آخر تشركه معه في الألوهية - وتتجه إليه معه بالطاعة والعبودية، فيترتب على هذا الإشراك أنك تمكث في جهنم جامعا على نفسك الخذلان من الله حيث يدخلك جهنم، ومن الآلهة الشركاء حيث لا قدرة لها علي أن تخلصك من عقاب وربك. ويترتب عليه أيضا الذم من الله والملائكة والمؤمنين من عباده لأنك اتخذت إلها فقيرًا مثل فقرك، عاجزا مثل عجزك، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضررا، كما لا تملك لنفسك، ونسبت إليه ما لا يصلح، وجعلته شريكا لمن لا شريك له، وهو الذي خلقك ورباك، وبرزقه كفاك، نعوذ بالله من الشرك خفيه وظاهره، ونسأله العافية وحسن الختام. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} المفردات: {وَقَضَى}: وأمر أمرا قاطعًا .. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا}: أي إن وصلا أو أحدهما إلى الشيخوخة والكبر في كنفك وكفالتك. {أُفٍّ}: اسم صوت يدل على الضجر. {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}: أي ولا تنههما عمالا يعجبك بغلظة. {قَوْلًا كَرِيمًا}: أي قولًا لينا جميلا يقتضيه حسن الأدب. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}: أي ألِنْ جانبك شفقة عليهما

وتواضعا وتذللا لهما، كالطائر يخفض جناحه شففة كل أولاده. {الْأَوَّابِينَ}: الرجاعين التائبين. التفسير 23 - {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}: بعد أن نهى الله كل مكلف عن أن يجعل مع الله إلها آخر؛ لأنه لا رب سواه أَتبع ذلك بيان أن الله قضى أمرا قاطعًا ألا يعبدوا إلا الله، وأن يحسنُوا إلى والديهم .. والمعى: أمر ربك يا محمد أن يوحده عباده بالطاعة ولا يشركوا به أحدًا فهو ربهم وخالقهم ومدبر أمرهم، وصاحب الآلاء والنعم التي ينعمون بها، يدركون بعضها ويخفى علي كثير منهم معظمها، ويعييهم ويعجزهم عدها وحصرها، ونواصيهم بيده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فمن خطل الرأى - إذن - وسوء التقدير أن يشركوا - معه إلها آخر، لا يضر ولا ينفع، ولا يملك من أمر نفسه موتا ولا حياةً ولا نشورًا. {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}: وكما حكم وألزم الأولاد أن يحسنوا إلى والديهم بالقول الطيب والرعاية التامة والقيامِ بشأنهما، فهما أحق الناس بحسن الصحبة، ورضا الله في رضاهما وسخطه في سخطهما. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} أي إذا تقدمت بهما أو بأحدهما السن وانتهيا إلى ضعف بعد قوة، ومرض بعد صحة ولم يستطيعا القيام علي أمرهما، وتدبير شأنهما لما أصابهما الكبر من وهن الجسم وإِلحاح العلة وضعف التفكير وتلك الحال مظِنة أن يصدر منهما ما يغضب أو يثقل على النفوس، أو يعوق عن سعى في الدنيا أو يكثر النفقة ويرهق الأُسرة ويشق عليها - إن حدث ذلك - فلا تقل لوالديك الكبيرين أو لأحدهما ما يدل علي ضجرك، أو يسيء إليهما، من قول بعيد عن حسن الأدب، أو فعل لا يليق من الولد لأبيه، فقد غذاه مولودًا، وعاله يافعًا، وسهر ليله لسقم أصابه، أو مرض ألمَّ به، أيكون جزاء هذا الأب الحاني غلظة القول وجفاء الخلق؟ أو يكون جزاء الأم الرؤوم أن تقابل بما يكسر قلبها، ويثير ألمها وينال من كرامتها، وهي التي كان بطنها له وعاء، وثديها

سقاءً، وحِجْرها مهادًا ووطاءً، تؤثره على نفسها، وتَفْدِيه بروحها، هذا فضلًا عن أن الجنة تجت أقدامها، فَبِرُّها خير وبركة، وغنى وسعادة، وبالجملة فبر الوالدين ينبغي أَن يكون في أَجمل وأبهى حلله فإنه بعض الوفاءِ لِفضلهما {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} وإِن من سوء الطالع أَن يعق الولد أبويه، فيقابل الحسنة بالسيئة، والنعم والفضل بالجحود والكفران، والعناية بالترك والإهمال، إن فى هذا لَبَوَارًا وخسرانًا فى الدنيا، وغضبًا من الله وحرمانًا من رضوانه فى الآخرة. 24 - {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}: أَى إِن حق الوالدين لا يقف عند إخفاء الضجر والبعد عن الانتهار والزجر، ولا عند الإحسان بالقول الطيب واللفظ اللَّين كما جاءت به الآية السابقة، بل إن وراءَ ذلك ما جاءت به هذه الآية من أَن تبسط لهما من نفسك، وتخفض جناح الذل منك كما يخفض ويبسط الطائر جناحه على فراخه رعاية وشفقة وحنانًا، بحيث لا يشوب هذا الخفض تكلف ولا تصنع ولا رياءٌ، ولا تخالطه رائحة استعلاءٍ أو يشم منه أَثر كبر أو مَنّ، بل يكون ذلك عن رحمة لمن أسدى إِليك معروفًا وقدم إِليك برًّا ورعاية، وقد أتاح الله لك فرصة فاغتنمها بأداء بعض ما عليك لهما، والوفاءِ بما لديك من دَيْنهما، فهما مفتقران إِلى من يأخذ بأيديهما ويعطف عليهما ويقوم على برهما فى كبرهما، وأنت أولى الناس بهما، ثم لا يقف بك الأمر عند هذا بل توجه إِلى الله بقلب ضارع تَقِيٍّ أن يرحمهما برحمته الواسعة فى الدنيا والآخرة، فتكون بذلك نعم الولد الذى يدعو لوالديه فيصلهما بره حتى بعد وفاتهما ولا ينقطع عملهما وأَنت تدعو لهما، وهذا الدعاءُ جزاءُ تربيتهما لك، ورحمتهما بك، فقل: رب ارحمهما كما ربَّياني صغيرًا، فتكون نعم المجازى والمكافيء .. وفي أمر الله الولد أَن يدعو لوالديه بالرحمة مع قيامه ببرهما والإِحسان إليهما، ما يشير إلى أن الولد مهما بذل وأَعطى وأَحسن إِلى والديه فلا يستطيع أَن يوفيهما حقهما، وأَنه لا يفي بذلك الحق سوى الله تعالى، فلذلك يدعوه سبحانه ليجبر عنه النقص فى برهما .. هذا وإِنَّ بِرَّ الوالدين لا يتوقف على كونهما مسلمين أَو طائِعَيْن .. بل يشملهما ولو كانا فاسقين أَو كافرين ولكنه لا يطيعهما في كفر أَو فسق، قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ

لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وله أن يدعو لأبويه الفاسقين بالغفران والرحمة بعد موتهما، طمعًا في فضل الله، ولكن ليس له أن يدعو لهما بذلك إِن كانا كافرين، لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. وعليه أن ينصح والديه الفاسقين أَو الكافرين في رفق ولين، فإن وفقه الله تعالى فمن فضله عليه وعليهما، وإلا فقد أعذر لربه كما أعذر له إبراهيم عليه السلام في نصح أَبيه آزر: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} الآيات من سورة مريم. هذا وإن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، بل جعله الله موصولًا بعد وفاتهما إكرامًا لحقهما وتوكيدًا لمكانتهما. فعن أبي أُسَيْدٍ وهو مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: "بينا نَحْن جلُوس عِند رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلم. إذ جاء رَجل مِنْ بَنِي سلمَة فقال: يا رَسُول الله هَل بقِى مِنْ بر أَبَوَىَّ شيء أَبرُّهُمَا بِهِ بعد مَوْتِهِمَا؟ فقال: نعم الصلاة عليهما، الاسْتغْفَارُ لهما، وإِنفاذ عهدهما، من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما" (¬1). 25 - {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}: أي إِن الله الذي خلقكم ورباكم بنعمه وفضله أعظم علمًا بما انطوت عليه صدوركم وما انعقدت عليه قلوبكم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فإن كنتم من الذين مَنَّ الله عليهم بالتقوى وجعلهم في زمرة الصالحين ورجعتم إِليه تائبين، فإنه سبحانه يتفضل عليكم بالتجاوز عما وقع منكم، من تقصير بَدَرَ منكم بمقتضى الجِبِلة البشرية التي هي مظنة الجهالة، فإنه كان ولا يزال غفورًا للتوابين، وفي هذه الآية وعد صريح وبشارة واضحة للمُطيع البار، وإِنذار ضمني للعاصي المعاند، فالله سبحانه يحاسب كلا على عمله ونيته "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِىءٍ ومَا نَوَى" .. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود.

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)} المفردات: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}: وأعط صاحب القرابة حقه من البر والصدقة. {وَابْنَ السَّبِيلِ}: المسافر في غير معصية الذي لا مال معه. {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}: التبذير إتلاف المال في المعاصي أو الترف. {إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}: أي أصحابهم المطيعين لهم. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}: أي وإن أعرضت عن إعطاء أصحاب القرابة والمسكين وابن السبيل لعدم وجود ما تعطيهم إياه من البر. {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}: فقل لهم قولا سهلًا، بوعدهم بالعطاء عند اليسر أو الاعتذار لهم. {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}: أي ولا تبخل بخلًا شديدًا، كأن يدك مغلولة إلى عنقك. {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}: بالتبذير المنهي عنه. {مَحْسُورًا}: مغمومًا نادمًا علي إسرافك. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: يوسعه. {وَيَقْدِرُ}: يضيق الرزق حسب مشيئته تعالى وحكمته.

التفسير 26 - {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}: بعد أن أمر الله المسلم بأداء حقوق الوالدين أمر - سبحانه - برعاية الأقرباء وذوي الأرحام بالنفقة الواجبة والعطاء والصلة، فإن ذلك يديم الود ويبقي على التراخم، كما أمره أن يشمل بره وفضله إخوته في الإِسلام والإنسانبة, فيحنو على مسكينهم يخفف عنه شدة الحياة ولأوَاءها، بمنحه مما أفاء الله عليه ما يقيم به أوده ويسد خلته، ويبقى على إنسانيته غير ذليلة ولا مهينة، كما يمتد عطاؤه إلى ذلك الإنسان الذي انقطعت به سبيل الحياة، ونأى عن أهله وماله، أصبح غير معروف لأحد بنسب أو قرابية سوى أنه ابن للطريق الذي يسير فيه، يعطي هذا المُنْبتَّ ما يبلغه أهله ووطنه رحمة به وتوطيدًا للأخوة, وبذلًا للمعروف واستجابة لداعي المروءة، بهذا قد حدد الله لنا مجال البر وإطار الخير، فلا خروج عنه إلا إلى مباح في اعتدال، إذ لو جنح صاحب المال عما أمر الله وأحل, فإنه يكون مبذرًا، ويصير من إخوان الشياطين، كما قال الله تعالى: 27 - {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}: يعني أن المبذرين الذين يصرفون أموالهم في المعاصي, الترف الواسع، يشبهون الشياطين ويماثلونهم ويتأسَّون بهم وكفران النعمة لصرفها فيما حرم الله, يتلفونها في ترفهم وينسون المبرات، فإذا ساروا على طريقتهم هذه لم يرجعوا يرجعوا إلى ما شرعه الله، حشروا في النار مع قرنائهم وأمثالهم من الشياطين الذين يسيرون وفق إغوائهم، ويسلكون سبيلهم، والجزاء من جنس العمل. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}: أي أن الشيطان دأب على كفران النعم، حيث إنه يصرف القدرة التي منحها الله له إلى المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس، وكان حقها أن تصرف فيما خلقت له، في عبادة ربه وطاعة مولاه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فاحذروا أن تتشبهوا بالشياطين في الجحود والكفران، حتى لا تكون عاقبتكم البوار والخسران كَعاقبتهم. 28 - {وَإِمَّا (¬1) تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}: أي وإن أعرضت وملت عن هؤُلاء الأقارب والمساكين وأبناء السبيل فلم تحقق لهم ¬

_ (¬1) إما مركبة من إن الشرطية وحرف ما. والغرض من وصل (ما) بإن الشرطية هو تقرير الشرط وتقويته.

ما يطلبون أَو لم تمنحهم ما يؤملون، وذلك لعسر أصابك، أو فقر نزل بك، وأنت تتطلع وترجو من، ربك أن ييسِّر لك ويفرج كربك، واثقًا بفضله طامعا في رحمته - إن أَعرضت عن هؤلاء لذلك - فاعتذر لهم بالقول الطيب والكلام اللين والدعاء، مع الوعد الجميل ببرهم، عندما يزول عذرك، لتسر نفوسهم وتفتح باب الرجاء أَمامهم، وهذا تأديب وتوجيه يبقى المودة ويديم الألفة بين المؤمنين ولله در هذا الشاعر حيث يقول: إلاَّ تَكنْ ورِق (¬1) أجود بها ... للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالى وإما حسن مردودي 29 - {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}: أَمرنا الله فيما تقدم بالإنفاق في البر، جاءت هذه الآية ليعلمنا الله أَدب إنفاق المال، فنهانا - سبحانه - عن البخل والشح وعن الانطلاق في البذل. والمعنى: ولا تجعل يدك - كالمغلولة الممنوعة بالغُلّ عن الانبساط في الإنفاق، بل تَعوَّدْ بسط اليد والسخاء والجود حتى لا يلومك ويعتب عليك أَهلك، ويذمك من يعرفك من أصابك وعشيرتك، ويمَلكَ اهلك وولدك ويتمنوا هَلاَككَ، ولا تسرف في الإنفاق وتتجاوز الحد، فتكون كمن بسط يده ونشرها فضاع ما كان فيها من مال، بل تدبر أَمر مستقبلك أنت ومن تعول حتى لا تضيعهم فترجع ملوما من الله تعالى ومن الناس ومن نفسك إذا احتجت كما تصير بهذا الإسراف كليلا منقطعا، كالذى بلغ الغاية في التعب والإعياء، فلم يستطع مواصلة سيره، فعليك أَن تكون وسطا بين الإفراط والتفريط، متصفا بصفات عباد الرحمن الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ويلاحظ أن الإسراف قد يؤدى إِلى الإثم إن أَضاع العيال، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كَفَى بِالْمَرء إثمًا أَنْ يُضَيِّع منْ يَعُول". 30 - {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}: أي إن بسط الرزق وتوسعته وقبضه ليس لك ولا هو من شأنك أيها المربوب الضعيف الذي لا تعلم أمر نفسك وما يصلحها، ولا تقدر على تدبير شأنك من غير معونة ربك، فهو الذي ¬

_ (¬1) الورق ... بكسر الراء - الدراهم المضروبة.

يبسط الرزق لمن يشاءُ ويضيقه، وأنت مأمور منه سبحانه أن تكون معتدلًا في الإنفاق في حالتى الفقر والغنى، وأَن تسعى في سبيل رزقك، والله يعينك في سعيك إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، يعطى عباده حَيْثُمَا جرت به مشيئته وحكمته فمن حكمته تعالى أن يغاير بين الناس في الفقر والغنى، ليستقيم أَمر الحياة وينتظم شأنها، فطائفة تيسر لعمل، وثانية تسخر في آخر، وهكذا ييسر الله كلا لما خلق له فتسير الحياة ويستقيم أَمر الخلق، ولو جعل الله الناس على حال واحدة لاختل النظام وفسد وانتهى أمر الخلق إلى فوضى، وتعطلت جوانب كثيرة من حياة الناس، وصدق الله حيث يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} المفردات: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}: خوف فقر وفاقة. {خِطْئًا كَبِيرًا}: ذنبا عظيما وخطيئة كبيرة، والخِطْءُ بكسر الخاءِ تعمد الذنب، قال الأزهرى: خطِيء يخْطَأ خِطْئًا - بوزن علم يعلم علمًا - ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: من الآية (32).

إذا تعمد الخطأ، مثل أثِمَ يأثمَ إثْما، وأخطأ إذا لم يتعمد، إخطاءً وخَطَأً. (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى): ولا تدخلوا في شيء من مقدمات الزنى، فضلا عن مباشرته. (فَاحِشَةً): فعلة سيئة ظاهرة القبح. (لِوَلِيِّه): لوارثه الذى له المطالبة بدمه فإن لم يكن له ولى فالسطان وليه، (سُلْطَانًا): تسلطا واستعلاءً على القاتل ومؤَاخذته بالقصاص أو الدية. (فَلَا يُسْرِف في القتْلِ): بأن لا يقتل غير القاتل ولا يمثل بالمقتص منه. (يَبْلُغَ أشُدَّه): يصل إلى حد الرجال، ويبلغ وقت اشتداد قوته فى البدن والعقل وتدبير المال وصلاح الحال. (وَأوْفُوا الكَيْلَ): اجعلوه وافيا كاملا مضبوطا بلا خديعة. (بِالقِسْطَاسِ المستَقِيمِ): بالميزان العادل. (وَأحْسَنُ تَأويلًا): وأحسن مآلا وعاقبة فى الدنيا والآخرة. التفسير 31 - {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}: بعد أن بين الله -سبحانه- فى الآية السابقة أن أمر الرزق بيده توسيعا وتضييقًا نهى عباده في هذه الآية عن قتل الأولاد مشفقين من فقر ينالهم. والمعنى: ولا تقتلوا أولادكم خوفا من فقر ينالكم بسبب قيامكم بالإنفاق عليهم، لأن قتلهم كان في شرع الله منذ القدم إثما عظيما، لا يقع إلا ممن لا يؤْمن بربه ولا يتوكل عليه، فنفسه خواء وقلبه فارغ ليس به أثر إيمان ولا بقية يقين، إن هذا العمل الشائن الفاجر ذنب كبير ناشيء عن تزيين الشركاء من الجن أو سدنة الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ليوقعوا الآباء في مهاوي الضلال والفساد والهلكة قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (¬1). فلو تركتم -أيها المشركون- عبادة غير الله وآمنتم برَبكم حق الإيمان لعلمتم أنه -سبحانه- قد تكفل بأرزاق خلقه جميعا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: من الآية رقم 137. (¬2) سورة هود: من الآية 6.

وليس عليكم إِلا أن تتخذوا للرزق أسبابه التي يسرها الخالق - سبحانه, واعلموا أن أولادكم الذين تتوهمون أنهم مُنْتقصون من أرزاقكم إنما يرزقهم الله معكم لا تبعًا لكم، فمن الهمة القاصرة والعزيمة الخائرة أَن يستبد بكم هذا الوهم، فتقدموا على فعلتكم الشنعاء هذه. وفي هذه الآية قدم ضمير الأولاد في منح الرزق على ضمير المخاطبين إذ قال: {نَحْنُ نَرْزُقهُم وَإياكُم} ليبين للآباء أن رزق الأولاد محل عناية واهتمام من الله تعالى فليس هناك داع - إذًا - للإشفاق والخوف من وقوع الفقر، وقدم ضميره الآباء في سورة الأنعام في قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقهُم وَإياكُم} للمبادرة بطمأنة الآباء على أَرزاقهم وأنها واصلة إِليهم لا محالة فلا موجب لقتلهم أولادهم - وفي التعبير بلفظ كان في قوله تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إيذان بأن هذا الفعل الأثيم كانت تأباه كل الفطر السليمة وترفضه الطبائع الكريمة وجميع شرائع الله تبارك وتعالى التي أَنزلها على أنبيائه عن قبل, فهي شريعة موروثة، فكيف ساغ لهم الإقدام على قتلهم. 32 - {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}: وبعد أن نهى - سبحانه - فيما سبق عن قتل الآباء أولادَهم، وبين أن قتلهم هو جرم فاحش وذنب كبير، حذر في هذه الآية من الدنو من الزني، وبين أنه كان في عرف الناس وشريعة الله فعلة ظاهرة الفحش، وساء طريقا في الحياة، والتحذير من القرب من الزنى تحذير من مباشرة دواعيه وأسبابه، ولهذا أمر كلا من المؤمنين والمؤْمنات بغض البصر فالنظرة الآثمة سهم من سهام إبليس وهي بداية كل شر، كما نهى ومنع خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية؛ لأن الشيطان يجيد السفارة فيها، فيوسوس لكل منهما، ويزين الشر ويأمر بالفحشاء، وفي الأثر: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" كما نهى سبحانه أَن تبدى المرأة زينتها لرجل لا يحل له. ذلك منها، فإن فعل ذلك يحرك الرغبة الآثمة بينهما ويدعو إلى الفجور.

ومما يؤَدي إِلى الفاحشة أَن تلين المرأَة وتخضع في كلامها، فيطمع فيها من في قلبه مرض الفحش وداءُ الرغبة الآثمة في الفساد، هذا هو تحذير الله عباده من أَن يقربوا الزنى فما بالهم إذا قارفوه وفعلوه ووقعوا فيه، إِنه سبب في اختلاط الأنساب وهتك الأعراض وتفكك المجتمع، وشيوع الرذائل، وذهاب الإنسانية الفاضلة والنزول بها إِلى درك الحيوانية، فضلا عن أَن من يمارس ذلك يذهب بهاؤُه وتهون منزلته، ويفضح في أهله، فالزنى عمل بالغ الفحش، سيء المغبة، وخيم العاقبة، وساء طريقا، فهو يورد صاحبه موارد الهلاك، وينزل به إلى منازل السفلة، الذين ينأى عن صحبتهم كل طاهر كريم عفيف. 33 - {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية. أَي ولا تعتدوا بالقتل على النفس الإنسانية التي حرم الله قتلها وجعلها مصونة لا يجوز الاعتداءُ عليها، ما لم ترتكب جرما يقتضي قتلها، كما إِذا ارتد مسلم أو قتل مؤْمنا عمدًا أَو ثبت زناه بعد إِحصان، فقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إِلا الله وأَني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فإذا اعتدى إنسان على آخر بالقتل دون ذنب أَو جريرة تُحِل ذلك القتل، فقد جعل الله لقريب ذلك المقتول ووليه حق المطالبة بدمه، فإن شاء هذا الولي القصاص فهو حقه وإِن شاء أخذ الدية فذلك له أَيضا، وإن شاء عفا، والسلطان ولى من لا ولى له، وبما أَن الله - جل جلاله - قد أعطى الولى الوارث للقتيل هذا الحق فالواجب عليه - عند استيفاء القصاص - ألا يسرف فلا يقتل غير القاتل ولا يندفع إِلى الأخذ بالثأر على غير بينة. أو إِثبات، وليس جعل الحقوق المذكورة لولى الدم مقتضيا أن يباشرها بنفسه، بل عليه أن يرفع الأمر إِلى القضاء ليصدر حكمه فيها بما تقتضيه القواعد الشرعية، فإن قضى بالقصاص أَمر من يباشره حتى لا يندفع الناس إلى القتل جزافا وَلأوهَى الأسباب، وإِنما حرم الله ذلك الإسراف لأن الله قد نصر ذلك الولى وأَيده، حين شرع القصاص وأعطاه حق المطالبة به فما وراء ذلك فهو عدوان و

34 - {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}: وكما نهاكم الله تعالى عن أن يقتل أحدكم غيره إلا بحق فقد نهاكم أيضا عما يشبه القتل وهو أَكل مال اليتيم بغير حق، فلا تقربوا ماله بسوء فتجمعوا عليه بين فقد الوالد وحنان المربي، وبين ضياع المال الذى يقوم عليه أمره ويصلح به شأنه، إن هذا الاعتداءَ لؤْم وخسة وَقسوة على إِنسان ليس لديه قدرة على الدفاع عن نفسه، إن الرحمة والمروءة تقتضيكم أن تقربوا ماله بما يحفظ أصله، وينمي فرعه، بهذا تكونون قد قمتم على أَمر هذا المال بأحسن الطرق، وأَفضل الوسائل التي تعود على صاحبها بالنفع والخير، وداوموا على إِصلاح ذلك المال حتى يبلغ اليتيم أَشده، بوصوله إلى سن الرشد، ونمو عوده وقوة جسمه، وزيادة خبرته ومعرفته، ونمو تجربته وقدرته على التصرف الحسن والسلوك القويم، فإذا بلغ راشدا فعليكم أَن تدفعوا إليه ماله غير منقوص، ولا تمسوا ماله بسوء بعد ذلك. {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}: وكونوا أَوفياءَ بكل ما عاهدتم الله على القيام به، من تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وفي جملة ذلك رعاية اليتامى وما عاهدتم الناس عليه مما يصح فيه العهد شرعا، فلا تخيبوا رجاءهم، ولا تقطعوا آمالهم التي عقدوها عليكم في إصلاح أمرهم، إن العهد سيسألكم عنه ربكم يوم القيامة، فأوفوا به ولا تضيعوه. وأَظهر العهد إِذ قال: {إِنَّ الْعَهْدَ} ولم يقل إنه - لكمال العناية بشأنه والحث على الوفاء به، وإنما عبر بقوله: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} مع أن السؤال لصاحب العهد على سبيل المجاز، والمراد أنه مسئول عنه يوم القيامة. فيقال لصاحبه: لِمَ نَكَثْتَ عهدك وضيعته ولم توف به؟ فيجمع الله عليه التبكيت مع العقوبة على عدم الوفاء به. 35 - {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}: واجعلوا الكيل وافيا عادلا، لا نقص فيه إِذا كلتم لغيركم، واكتفى بالأمر بإيفاء الكيل عند البيع عن الأمر بتعديله عند الشراء من الناس، لأنه يُؤذِنُ بحرص الشارع على وصول الحق إِلى صاحبه، فكما لا يبخسه حقه عندما يبيع له، كذلك لا يظلمه عندما يشترى منه، وقد جاء النص صريحا عن التطفيف في الجانبين فى قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.

{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: أي وَزِنُوا بالميزان السوى الذي لا خداع فيه، ولا غش ولا تدليس، إِذا وزنهتم فإنه لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه. {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}: أَي ذلك المذكور من إيفاء الكيل عند البيع، والوزن بالميزان السوى المستقيم، خير لصاحبه ولمن يعامله، وأحسن مآلا ومرجعا عند الله تبارك وتعالى، أما الكسب الحرام فهو كالوقود الفاسد لا يُسيِّر الآلة .. بل يتلقها ويفسدها وربما يؤَدي إلى احتراقها وقد تهلك صاحبها, ولكن الكسب الحلال الطيب يبارك الله فيه، فينمو ويزيد ويكون وخيرا وبركة على صاحبه وأهله وولده، إذ يبعث على الطاعة ويقوى على الخير، ويقرب من الله ويدنى من الناس، ويكون لصاحبه لسان صدق بينهم. {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)} المفردات: {وَلَا تَقْفُ}: .. ولا تتبع، مأخوذ من قولهم قفوت فلانا إذا تتبعت أثره. {مَرَحًا}: اختيالا ... واستكبارا، وفخرا، والمرح شدة الفرح. {الْحِكْمَةِ}: الأمور المحكمة والأدب الجامع لكل خير. {مَدْحُورًا}: مطرودا ومبعدا مقصيا في النار.

التفسير 36 - {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: أي لا تتبع ما لا تعلمه، فلا تقل بغير علم ولا تتهم بغير بينة، ولا تقل سمعت وأنت لم تسمع، ولا تشهد بالزور، ولا تتبع الظن والحدس في حق الناس، فإنك بذلك تكون قد قلت ما لا تعلم، واتبعت ما ليس لك به علم وأخطأت بذلك في حق الله وحق عباده وحق نفسك. وهناك أمور يعمل فيها بالظن، كالحكم على شخص معين بالإيمان تبعًا للظاهر، وكالإفتاء بالأحكام الشرعية عن الأدلة الظنية، وكالعلاج بالعقاقير التي يظن فيها الشفاء. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}: أي أَن كل واحد من أَعضاء السمع والبصر والقلب كان صاحبه مسئولا عنه، فلا يحل له استعمالها في غير ما أحل الله تعالى، فلا تتسع إلى غيرك محاولا كشف عوراته، ولا تلق بأذنك إلى ما لا يحل من فحش القول، أَو إلى ما يلهيك عن عبادة ربك، وكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أَما البصر فاغضضه عما لا يحل لك ولا تمده إلى ما متع الله بغيرك تحسده عليه، بك عليك أن تنظر بذلك البصر ما يقربك من ربك، وما يوصلك إلى رزقك، أَما قلبك فاحفظه من شيطان موسوس أَو حسد قاتل مدمر أو عُجْب أو نفاق أَو رياء، فإن هذه الصفات وما يشبهها من الموبقات المهلكات، واطرد حظ الشيطان من نفسك حتى لا يكون له عليك سلطان, فيصبح قلبك سليما، وتلقى ربك راضيا مرضيا فتدخل رحمته وتفوز برضوانه. 37 - {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}: أي لا تسر في الأرض مختالا مسرفا في فرحك ومرحك، بل تواضع لله الذي خلقك ورزقك، وهو قاهر لك قادر عليك، فإن غلبك البطر والغرور لجاهك، فاعلم أن الجاه نعمة من الله يمنحها ويسلبها، وإن طغيت على غيرك لعافية وصحة بدن فتذكر أنها وديعة الله عندك يستردها متى شاء، وإن دعتك نفسك الأمارة بالسوء إلى التكبر على عباده بمالك فاعلم أن الله يغار عليهم فهو ربهم وخالقهم، وإن زهوت بالبنين فتذكر أنك ستقدم على ربك بعملك فحسب {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

{إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}: إنك مهما تخايلت بخطواتك واشتددت في إيقاع أقدامك على الأرض, فإنك لن تخرقها بخطواتك, ومهما تطاولت بهامتك كبرا وفخرا ورفعت رأسك تيها وعجبا , فلن تساوي الجبال الشواهق بطولك أو تطاولك. فدع عنك الخيلاء والتعالي على الناس , فأنت مخلوق ضعيف. 38 - {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}: أي كل ذلك المذكور في الأوامر والنواهي السابقة من الخصال كان السيء منه مكروها في حكم الله وشرعه , فدع ما نهاك عنه واستمسك بما أمرك به حتى لا تكون مبغضا من الله, وبعيدًا عن رضوانه ورحمته. 39 - {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}: أي ذلك المذكور من الآداب. والأحكام التي جاءت في الآيات المتقدمة , هو ما أنزله إليك وحيا, وجعله من الأمور المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ, فهي موجودة في جميع شرائع الله , لأنها جامعة لكل أدب وخير ففيها محاسن الأخلاق ومحامد الشيم فلا تنسخ ولا تتغير باختلاف الشرائع. {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}: أي واحذر أيها المكلف أن تتخذ مع الله إلها غيره {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إن فعلت ذلك فقد حق عليك أن ترمي وتطرح في نار جهنم في مهانة وذلة , وأنت معلوم من نفسك على ما اقترفت وملوم من الملائكة خزنة جهنم حين تعنفك فتقول لك ولأمثالك: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فتجيبون بذلة ومهانة وتقولون: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الزمر: من الآية 71

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} المفردات: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ}: أَفضلكم ربكم فآثركم بصفوة الأولاد. {عَظِيمًا}: أَي كبيرا، والمراد به هنا الأمر البالغ النُّكْرِ والقبح. {صَرَّفْنَا}: بَيَّنَّا المعاني بوجوه وصور مختلفة. {نُفُورًا}: إِعراضا ... ، {لَابْتَغَوْا}: لطلبوا مجتهدين في الطلب. التفسير 40 - {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا}: بعد أن بين سبحانه - فساد طريقة من يجعل لله شريكا ونظيرًا، نبه في هذه الآية على شِدة جهل من أَثبت لله الولد .. وخصه سبحانه بالإناث.

والمعنى: أفضلكم ربكم على جنابه - سبحانه - فخصكم بأفضل الأولاد، واختار لذاته أدناهم وأقلهم شأنا, فإن دعواكم أَن الله قد اختار الملائكة بنات له - سبحانه - تَستَلْزمُ أَنه اختار لكم البنين أفضل النوعين وأحبهما إِليكم، ورضى لنفسه البنات وهن أدناهما في نظركم مع أنه هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا حد له فكيف تنسبون إِليه ما تسوءُ البشارة به وجوهكم، ويملأ الغيظ بسببه قلوبكم، أتجعلون لله ما تكرهون دون حياء, فتأتي قسمتكم جائرة ظالمة، تدل على جهلكم بالله وسوء تقدير لعظمته، إنكم بافترائكم على الله تعالى .. وقولكم إِن الملائكة بنات الله تقولون قولًا منكرا .. كبيرًا في الإثم تحاسبون عليه وتعذبون به أشد العذاب يوم القيامة، فإنه تعالى واحد أحد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. 41 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا}: أي ولقد كررنا وأَكدنا العبر والعظات والأحكام في هذا القرآن المجيد بأساليب متنوعة، ليتعظوا ويعتبروا فيهتدوا إِلى الحق، ويرججوا إلى بارئهم رجاءً في ثوابه وخوفا من عقابه، ولكن هؤلاء المجرمين الضالين المكذبين لا يريدون هداية ولا إرشادا، بل إنهم مع تكرار التذكير وتأكيد التوجيه إلى الخير، لا يزدادون إلا تباعدًا عن الحق وإصرارًا على الباطل، وإِعراضا عن التدبر والاعتبار. 42 - {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}: قل يأيها الرسول لهؤلاء المشركين المغترين العابدين للأصنام، وغيرها من دون الله - قل لهم: لو صح ما تزعمونه وتفترونه - وهو وجود آلهة مع الله - سبحانه وتعالى - لطلب هؤلاء الآلهة بكل جهدهم واجتهادهم أن يسلكوا طريقا إلى الله ذي السلطان والقهر ليشاركوه الأمر، أو ينازعوه السلطة ولكن شيئًا من ذلك لم يكن؛ لأن ما تزعمونه من آلهة هي في الحق عاجزة لا تقدر على خير ولا شر ولا تملك من أَمر نفسها شيئًا، فضلا عن أن تملك أمر غيرها.

43 - {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}: تنزه سبحانه، وتعالى علوًّا شاملا عما يقوله هؤلاء من نسبة الشريك والولد لله تعالى .. فالله جل جلاله هو الواحد الأَحد لا شريك له ولا ولد. 44 - {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}: بعد أَن بين الله لهؤُلاء المشركين فساد زعمهم بنسبة الشريك والولد لله، ونزه نفسه تنزيها كاملا عن ذلك، جاء بهذه الآية ليبين لهم: أَن الخلائق جميعها علويَّها وسفليها، عظيمها وحقيرها، ما يدركه الإنسان وما هو فوق إدراكه، كل ذلك خاضع له معترف بقهره وسلطانه ونعمه وآلائه. والمعنى: أَن السموات السبع بأجرامها وكواكبها وأفلاكها وسكانها وجميع قواها وعناصرها .... وكذلك الأرض بما اشتملت عليه من إِنسان وحيوان ونبات وجماد وغيرها، كل أولئك يسبح وينزه حامدا الله تعالى بلسان الحال والدلالة كما تدل الصنعة على الصانع. ولا نرى مانعا من أن يكون لهذه الكائنات تسبيح قولى غير مسموع منا وغير معروف الحقيقة والكيفية لنا، كما يشير إليه قوله تعالي: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} (¬1). أى رجعى التسبيح مع داود، وقوله سبحانه: " {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (¬2). أى سخرناها لتسبح مع داود فى وقتى العشى والإشراق، ولو لم يكن تسبيحا قوليا لَمَا قيد بهذين الوقتين كما يؤَكد ذلك ظاهر قوله تعالى هنا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬3). لأَن لغة الجمادات والحيوانات لايفقهها من البشر سوى من أوتى خاصية فهمها كداود وسليمان عليهما السلام، وفيهما يقول الله تعالى؛ حكاية عنهما: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}. ولكنكم أيها الناس لاتفقهون تسبييحهم ولا تدركونه. ويجوز أَن يكون الخطاب للمشركين الذين تقدم الحديث عنهم، تقريعًا لهم، والمعنى على هذا: وما من شىءٍ إِلا ينزه الله تعالى عن الشريك والولد، ولكنكم أيها المشركون لا تعقلون ¬

_ (¬1) سورة سبأ: من الآية 10. (¬2) سورة ص الآية 18. (¬3) سورة الإسراء الآية 44.

تنزيههم هذا , لأنكم لا تنظرون في الكائنات نظر المفكرين في خلق الله ومع غفلتكم هذه وعنادكم فإن الله سبحانه أمهلكم فلم يعجل لكم العقوبة , وذلك لحلمه عليكم , لعلكم تثوبون إلى رشدكم وترجعون إلى ربكم , فإذا تبتم وأنبتم كان غفران الله لكم وعفوه عنكم. . فإنه كان ولا يزال كثير الحلم واسع المغفرة, قابل التوب. {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} المفردات: {حِجَابًا مَسْتُورًا}: أي غير حسي فهو لهذا مستور لا يرونه. {أَكِنَّةً}: جمع كنان والكنان هو الغطاء الذي يكن فيه الشيء أي يحفظ ويستر. {أَنْ يَفْقَهُوهُ}: أن يفهموه فهم تدبر وتأثر واستجابة. {وَقْرًا}: صَمَما مانعا من سماعه , والوقر الثقل في الأذن. {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ}: انصرفوا على أعقابهم هاربين معرضين. {نُفُورًا}: جمع نافر وهو منصوب على الحال - أي نافرين, والنافر المتباعد المتجافي, أو مصدر نفر منصوب على المفعولية المطلقة لولوا, لأنه بمعناه.

{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}: أي أصحاب نجوى يتناجون فيما بينهم بالافتراء والإثم، والنجوى هي حديث السر بين من يَخْلُون بأنفسهم ليتناجوا في خفية وإسرار. {رُفَاتًا}: والرفات الأجزاء المفتتة من كل شيء ينكسر، وقيل الرفات والفتات ما تكسر وتفرق من التبن ونحوه، والمراد هنا - والله أَعلم - ما تصير إليه أَجسادهم من التفرق بعد الموت. التفسير. 45 - {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا}: أي فإذا قرأت يا محمد القرآن تدبرا وعبادة لله، وإرشادا وتعليما لقومك، جعلنا بينك وبين المشركين الكافرين بالآخرة حجابا ساترا، يمنعهم أن يدركوا ما أنت عليه من النبوة والرسالة وجلال القدر وعظيم المكانة، حتى اجترءوا عليك ونسبوا إليك نقائص وعيوبا أَنت منها برىء، ومن ذلك قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}. 46 - {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}: هذه الآية مفسرة للحجاب المستور الذي جاءَ في الآية السابقة، وكأنه قيل: وذلك الحجاب المستور هو أنا جعلنا على قلوب هؤلاء المشركين أكنة وأغطية تمنعهم من فقه القرآن، والوقوف على كنهه، كما أَصبنا آذانهم بالصمم والثقل العظيم ليجول بينهم وبين سماعهم لكتاب الله سماع لائقا به، فإنهم كانوا يسمعونه سماع استهزاء وسخرية لا سماع تأمل وتدبر، وهذا المنع كان جزاء لهم على إعراضهم، فلم ينعموا بنعمة الاهتداء إلى القرآن، لإصرارهم على الجحود والإنكار. {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}: أَي وإذا سمعك هؤلاء المشركون تقرأ من القرآن الكريم ما ينطق بتوحيد الله وتسبيحه، أَدبروا وفروا هروبا وانزعاجا من سماعه، لأنه ينفرهم من أَصنامهم - وينهاهم عن عبادتها مع الله تعالى.

47 - {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}: هذه الآية الكريمة فيها تسلية لرسول الله , ووعيد لهؤلاء المستهزئين, فقد أخبر الله رسوله بأنه - سبحانه - يعلم بحالهم الذي يستمعون به القرآن وقت استماعهم إليه حين يتلوه , من الاستخفاف وإثارة اللغو والتصفيق والصفير , وكما يعلم ذلك - سبحانه - أمرهم حين يتناجون فيما بينهم ويتهامسون عنه في خلواتهم, ويفترون عليه الكذب. ويقول هؤلاء المشركون الضالون عن صراط الحق يقولون للناس إنكم حين تتبعون محمدا لا تتبعون إلا رجلا قد أصابه السحر فاختلط عليه الأمر , ويعقب الله هذه التهم بقوله: 48 - {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}: انظر يا محمد - عليك الصلاة والسلام - متعجبًا من حمقهم وسفاهتهم, كيف تطاولوا عليك فزعموا أنك ساحر, كما زعموا من قبل أنك كاهن وشاعر ومجنون, فضربوا لك الأمثال فضلوا وبعدوا عن الحق وتحيَّروا في أمرهم معك , فهم لا يهتدون إلى الحق ولا إلى طريق ينال منك أو يصرف الناس عنك. 49 - {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}: وقال هؤلاء المشركون - منكرين البعث مستبعدين له -: أئذا متنا وصرنا عظاما وحطاما مفتتا , نبعث من قبورنا, نخلق خلقا جديدا كما يقول لنا محمد , وهذا القول منهم هو غاية الإنكار لأدلة الإمكان والوقوع, أما الإمكان فلأن الله الذي خلق الناس ابتداء باعترافهم قادر على إعادتهم وبعثهم من قبورهم للحساب لأن الإعادة أيسر من الابتداء عادة , وأما الوقوع فلأنه تعالى عادل فلا يعقل أن يترك المحسن دون إثابة, والمسيء دون عقاب , فلا بد من البعث لينال كلٌّ جزاء ما قدمت يداه.

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)} المفردات: {فَطَرَكُمْ}: خلقكم على غير مثال سابق. {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ}: يحركونها تعجبًا وسخرية. {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}: تلبون دعوته حامدين إياه على بعثكم بعد الموت , وعلى ما يتصف به من عظمة وقدرة وحكمة ظهرت آثارها في البعث بعد الموت. التفسير 50 , 51 - {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}: الآية الكريمة إجابة عن سؤال الكفار السابق: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}. والأمر بالقول موجه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكل داع بدعوته. والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين, وليقل كل داع إلى الحق لأمثلهم: لماذا تستبعدون وتنكرون بعثكم بعد أن صرتم عظاما ورفاتا, كونوا ما شئتم بعد الموت ولو حجارة أو حديدا أو خلقا مما يعظم في نفوسكم ويعلو عن أن تحله الحياة فإنكم عائدون إلى الحياة.

{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا}: فسيقولون في دهشة واستنكار من الذي يستطيع أن يعيد إلينا الحياة بعد هذا التحول العجيب، من الحياة الدافقة المتحركة إلى الموت ثم إلى العظام والرفات، فضلا عن التحول إلى الحجارة أو الجديد أَو أشباههما، وقد أَمر الله تعالى أن يجابوا عن هذا التساؤل الذي لا مبرر له بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: أي قل لهم أيها الرسول: الله الذي خقكم أول مرة من عناصر التربة الأرضية الجامدة الميتة على غير مثال سابق، هو الذي يعيد إليكم الحياة وإن تحولت أجسامكم من عظام ورفات إلى حجارة أو حديد أَو نحوهما، والمعروف لنا أن الإعادة عند البشر أسهل، ولكنها تحت قدرة الله لا توصف بالسهولة أَو الصعوبة، فكل الممكنات عنده سواء؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العلبم. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}: أي فحينما يستمعون هذا الجواب سيحركون رءُوسهم منكرين ساخرين قائلين في دهشة وإنكار: متى يتم هذا البعث؟ فقل لهم: سيكون هذا البعث قريبا؛ لأن كل آت وإن طال الزمان قريب. 52 - {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}: أي يتم بعثكم يوم يدعوكم إليه فتهبون من قبوركم ملبين دعوته، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (¬2). والمقصود بالدعوة النفخة الثانية، المعبر عنها بالصيحة في قوله سبحانه: {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (¬3). وعند بعثكم تلهحون بحمده تعالى مدركين عظمته وقدرته، وأنه أهل للحمد والثناء ويزول عنكم هذا الإنكار والعناد، بعد أَن شاهدتم الحقيقة التي كنتم سمعتموها من رسولكم في دنياكم: ¬

_ (¬1) سورة. يس: الآية 82 (¬2) سورة الروم: الآية 25 (¬3) سورة ق: الآية 41 , 42

{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}: أي تعتقدون عند البعث أنكم لم تلبثوا في الدنيا أو في الحياة البرزخية إِلا زمنا يسيرا، كما قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (¬1). {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} المفردات: {يَنْزَغُ}: يفسد ويغوى بالعداوة والبغضاء ويثير الضغائن والأحقاد. التفسير 53 - {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: بعد أَن بين الله جحود الكفار للبعث ومعاداة الحق أمر رسوله في هذه الآية أن يقول للمؤمنين: عليكم أن تلهجوا بالقول الحسن وأن تتمسكوا به وأن تطبقوه في حياتكم .. والمعنى: قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا بي وشرفوا بالنسبة إلي، قل لهم يقولوا الكلمة التي هي أحسن الكلام، وأَن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يقابلوا الإساءة بالإحسان فإن هذه سنة عباد الرحمن، كما قال سبحانه في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (¬2). وقيل: المقصود بالعباد جميع الناس فإنهم جميعًا عبيد الله والنصيحة عامة لهم. والمعنى على هذا: قل أَيها الرسول لجميع الناس مؤْمنهم وكافرهم يأمرون بما أمر الله به وينهون عما نهى الله عنه. ¬

_ (¬1) سورة النازعات: الآية 46 (¬2) سورة الفرقان: الآية 63

{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}: إن الشيطان يفسد بين الناس، ويثير بينهم العداوة والبغضاء ويبث فيهم الأحقاد والضغائن، فيمزق شملهم ويفرق كلمتهم، ويهدم وحدتهم، أو يغريهم بالكفر والإلحاد وارتكاب الشرور رالآثام، فلهذا ينبغي أَن يعالجوا بالكلمة التي هي أحسن. {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} أي إن الشيطان كان عدوا للإنسان واضح العداوة منذ أغوى أَباهم آدم وأخرجه من الجنة، فعليهم أَن يتغلبوا على إغوائه بالتزام الكلمة الطيبة والقول الحسن، ليردوه عن متابعة وسوسته وإغوائه، فإنه يزين القبيح للإنسان ويجلوة أمامه في صورة حسنة، فيدفعه إليه دفعا، ويقبح له الحسن فينفره منه تنفيرا. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} المفردات: {وَكِيلًا}: كفيلا. {زَبُورًا}: الزبور هو الكتاب المنزل على نبي الله داود عليه السلام، وهو كتاب ليس فيه تشريع، وإنما هو دعاء وتحميد. وتمجيد. التفسير 54 - {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}: بعد أن بين الله أحوال الكافرين, ودعا المؤمنين إلى التزام القول الحسن وحذرهم من إغواء الشيطان، خاطب المكلفين جميعا بأنه مطلع على أعمالهم وأَقوالهم ونياتهم، فإن يشأ

شملهم برحمته لأنه يعلم أنهم أهل لرحمته، وإن يشأ عذبهم لأنه يعلم أَنهم قصروا في جانبه، ومشيئته مرتبطة بحكمته {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1). {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}: أَي وما أَرسلناك أيها الرسول كفيلا لهم ومسئولا عن طاعتهم أَو معصيتهم، فكل امريء منهم بما كسب رهين. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). 55 - {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أَي أنه سبحانه يحيط علمه بكل من في السماوات والأرض {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فلهذا اختار من يعلم أنهم صفوة البشر أَنبياء، وفضل بعضهم على بعض، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}. وكان تفضيلهم بالفضائل النفسانية والعلمية، لا بكثرة الأموال والأتباع وغير ذلك من أمور الدنيا، وأَقربهم إليه خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أَرسله ربه رحمة للعالمين. قال صلى الله عليه وسلم: "أَنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأَنا أَول شافع وأول مشفع ولا فخر" رواه أَحمد والترمذي وابن ماجة. {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}: خص الله سبحانه داود بالذكر مع دخوله في الأنبياء قبله، ليبين أَنه عليه السلام ممن فضلهم الله على بعض الأنبياء وذلك بإنزال الزبور عليه، وقد اشتمل على تسابيح الله وإِشارات إلى جلاله وعظمته وقدرته وكان يرتله بصوت عذب شجي، تردِّده معه الطيور والجبال كما قال تعالى في سورة ص: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) الكهف: من الآية 49 (¬2) الزلزلة: الآية 7، 8 (¬3) ص: الآية 18 , 19

وهذه الجملة {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} تشير إلى أن الكتب المنزّلة على الأنبياء, هي شهادة من الله بفضلهم، وبمقدار مسئولياتهم فيها تتفاوت درجاتهم. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} المفردات: {زَعَمْتُمْ}: أدعيتم كذبا. {كَشْفَ الضُّرِّ}: إزالته. {تَحْوِيلًا}: صرفًا وإبعادًا. {الْوَسِيلَةَ}: الصلة أَو السبب. {مَحْذُورًا}: أي مخشيا مرهوبا. التفسير 56 - {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}: بينت الآيات السابقة أن علمه تعالى محيط بخلقه، وأنه يرحم من يشاءُ ويعذب من يشاءُ طبقا لعلمه وعدله وحكمته، وجاءت هذه الآية لتبين للمشركين عجز آلهتهم، والمعنى: تضرعوا أَيها المشركون إلى الآلهة الذين عبدتموهم من دون لله، وانظروا هل تسمع إلى ضراعتكم، أَو تجيب دعاءكم أو تدفع عنكم الضر أو تجلب إليكم النفع.

{فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا}: أَي أن هذه الآلهة المزعومة لا تستطيع ولا تملك أَن تزيل عنكم ما يعتريكم من التفسير، ولا تملك أن تحوله عنكم إِلى غيركم، بل إنهم عاجزون لا محالة؛ لأنهم كما قال تعالى في سورة الفرقان: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬1). فكيف تعبدونهم من دون الله؟ 57 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}: كان بعض العرب يعبدون الملائكة، وبعضهم يعبدون الحق تبارك وتعالى، كما كان بعض اليهود والنصارى يتخذون أَحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، فنزلت هذه الآية في شأن من يعبدون غير الله. والمعنى: أَن هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله هم خلق من خلق الله، وعبيد من عباده، خاضعون لمشيئته، منقادون لأمره يرجون رحمته ويخشون عذابه، يسبحون بحمده ويلهجون بذكره، ويتنافسون في التقرب إِليه بكل وسائل الزلفى. {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}: أَي هم مع ما تقدم من عبادتهم لله وتقربهم إِليه يرجون رحمته ويخافون عذابه، لأن عذابه شديد أليم. فهم لا يعتمدون على طاعتهم، بل يخشون عقابه حذرا من تقصيرهم. ويجوز أن يكون المعنى: أولئك المشركون الذين يعبدون الأوثان يبتغون بعبادتها الوسيلة إِلى الله، ويرجون بذلك رحمة الله ويخشون عذابه، فأيهم أَقرب إِلى الله؟ لا شك أَن أولئك العابدين أقرب إِلى الله تعالى من أَوثانهم، فهو سبحانه أقرب إلى عباده من حبل الوريد، فلا يصح أَن يتقرب هؤلاء المشركون إِلى الله بعبادة من هم أبعد منهم عن الله وأَحط قدرا وأضعف قوة وشأنا، إن عذاب ربك يا محمد كان أمرا محذورا ومخوفا، فلماذا لا يحذره هؤلاء العابدون لأوثانهم، وقد أَشركوا به من هو مَثَلٌ في الضعف والهوان. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: الآية 3

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} المفردات: {قَرْيَةٍ}: القرية اسم للموضع يجتمع فيه الناس ويتخذون منه سكنا لهم، وتطلق أيضًا على سكانه. {الْكِتَابِ}: اللوح المحفوظ. {مَسْطُورًا}: مكتوبا مسجلا، {الْآيَاتِ}: المعجزات التي طلبها المشركون. {مُبْصِرَةً}: داعية إِلى إِبصار الحق بدلالتها عليه وإِرشادها الناس إِليه. التفسير 58 - {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا}: حذر الله المشركين في آخر الآية السابقة من عذابه بقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، وجاءت هذه الآية لتأكيد هذا التحذير. والمعنى: إن من سنة الله تعالى مع الظالمين أَنه ما من أَهل قرية يقابلون أَنعم الله بالجحود والكفران ويكذبون الرسل وينكرون المعجزات إِلا أَهلكهم الله سبحانه وفقا لوعيده، كما أَهلك عادا وثمود وأَصحاب الأيكة وقومِ تبع، وفيهم يقول الله تعالى في سورة (ق): {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}. وربما يصيب الله أَهل هذه القرية بعذاب شديد دون الإهلاك ليرجعوا إِلى الله تائبين نادمين, لأنه سبحانه يعلم أنهم سيفيئون إلى الإيمان قبل نهاية حياتهم، مثل أهل مكة،

أَو لأنه تعالي يعلم أَن من ذريتهم من يعبد الله، أو لغير ذلك من الحكم، وقيل إن المراد أن الله سبحانه سيهلك جميع القرى قبل قيام الساعة ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة المزمل: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث طويل عن الرجال، رواه بسنده عن النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى ريحًا طيبة فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرارُ الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة". {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}: كان الإهلاك أَو التعذيب قضاء محتوما وقدرًا نافذا سجله الله عنده في اللوح المحفوظ لتنفيذه في الأجل المحدود. 59 - {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}: روى النسائي وأَحمد والحاكم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟ قالوا نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل، فقال: إِن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإِن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، قال: بل باب التوبة والرحمة فأنزل الله سبحانه هذه الآية. والمعنى: أَن الله لم ينزل المعجزات التي طلبها المشركون لأنه سبحانه يعلم أَن قريشا سوف تجحد هذه المعجزات كما جحدها السابقون. وحينئذ تستحق الهلاك تطبيقًا له لسنته في شأن المكذبين بعد تحقيق ما طلبوه، والله تعالى يعلم أنها ستستجيب لدعوة الإسلام بعد حين، فلم ينزل هذه المعجزات المطلوبة واكتفى بِإعجاز القرآن الكريم، كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: الآيتان 50 -

وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ألا يعذب قومه ما دام فيهم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬1). {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}: أي أَن الذي اقتضى عدم إِرسال الآيات المقترحة أَن قريشًا ستكذب بها، كما كذب بها الأولون فتتعرض للهلاك مثلهم، كما تعرضت ثمود لهذه التجربة حيث اقترحوا على نبيهم أَن يأتيهم بناقة ترعى الكلأ وتشرب الماء كله يوما، ثم تترك لثمود الكلأ والشراب يومًا آخر وتدر عليهم من أَلبانها ما يكفيهم، فعقروا هذه الناقة، جاحدين منكرين {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). ومعنى مبصرة: مدركة وعارفة نصيبها في الكلأ والماء، فلا تتعداهما إِلى نصيب ثمود فيهما، أو موضحة للناس الدلائل الباهرة على صدق نبي الله صالح عليه السلام (¬3). {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}: وما ننزل المعجزات المقترحة إلا إِنذارا وإرهابًا للأمم الضالة، لتعود إِلى الإيمان. فإذا أصرت على الكفر والعصيان استحقت الهلاك والنكال والدمار. {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} المفردات: {أَحَاطَ بِالنَّاسِ}: شملهم بعلمه أَو أحاطت بهم قدرته. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 33 (¬2) سورة فصلت: من الآية 17 (¬3) من أبصر المتعدى بمعنى أنها جعلت ثمود يبصرون الآية والمعجزة في شئونها المختلفة، فلم يبق لهم عذر في التكذيب.

{الرُّؤْيَا}: ما يراه النائم في منامه، وقد تطلق على ما يراه الإنسان في يقظته، كما قال الشاعر الراعي يصف صائدا: وكبَّر للرؤْيا وهشَّ فؤاده ... وبشر قلبًا كان جمَّا بلَابِلُه وقال بعضهم: هي حقيقة رؤيا المنام، ورؤيا اليقظة ليلًا، والمشهور الأول. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}: شجرة الزقوم التي وصفها الله سبحانه بأنها {شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (¬1). {الْمَلْعُونَةَ}: الملعونَ آكِلُها، أو البعيدة عن مواطن الرحمة لأنها في أصل الجحيم. {طُغْيَانًا}: مجاوزة للحد في العنف. التفسير 60 - {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ}: بعد أن تناولت الآيات السابقة أَقوال المكذبين والمعاندين، أدخل الله السكينة والطمأنينة على نفس رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية. والمعنى: واذكر يا محمد وعدنا إِياك أَن الله سبحانه أحاط علمه وشملت قدرته الناس جميعًا ومنهم المشركون، فلا يمكنهم من إِيذائك أَو إِيقاع الضرر بك، كما قال سبحانه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬2). وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬3). وهو سبحانه سيجزي كلا منهم بما يستحقه من جزاء .. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}: أَي أَن ما أَطلعناك عليه عيانا من آياتنا الكبرى ليلة الإسراء، لم نجعله إلا اختبارا لإيمان المؤمنين وامتحانا للمشركين، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قومه بحديث الإسراء سخر منه المشركون، وارتد عن الإسلام ¬

_ (¬1) سورة الصافات: الآية 64، 65 (¬2) سورة الحجر: الآية 95. (¬3) سورة المائدة: الآية 67.

قِلَّةٌ من ضعفاء الإيمان، وثبت على تصديقه والإيمان به الصادقون المخلصون، وفى مقدمتهم أَبو بكر رضي الله عنه، ومن يومها أُطلق عليه لقب الصديق. راجع تفسير السورة. {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ}: أي وما جعلنا شجرة الزقوم المذمومة في القرآن بأنها طعام الأثيم، وما جعلناها إلا اختبارا للناس، مؤمنهم وكافرهم، فقد وصف الله سبحانه وتعالى هذه الشجرة بأنها {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} (¬1). ويجوز أَن يكون المراد من لعن الشجرة فى القرآن لعن آكلها أو أنها بعيدة، من اللعن بمعنى البعد لأنها بعيدة من مواطن الرحمة لأنها {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}. ولما نزلت هذه الآيات، قال أبو جهل: إن محمدا يتوعدكم بنار وقودها الناس والحجارة، ثم يقول: إنها ينبت فيها الشجر، وما يُعْرَفُ الزقوم إلا التمر بالزبد، ثم أَمر جاريته فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه ساخرا: تَزَقَّمُوا، والمعنى: وما جعلنا ما أَريناك ببصرك من الآيات الكبرى في السماء والأرض، إلا فتنة وامتحانا للناس مؤمنهم وكافرهم، وما جعلنا شجرة الزقوم إلا فتنة لهم أيضا، فثبت الصادقون، وارتد بعض الضعفاءِ من المؤمنين، وأنكر المشركون، لأن عقولهم القاصرة المحدودة لا تتصور أن تكون شجرة في قاع جهنم جهلا منهم بقدرة الله التي لا يعجزها شيء فى الأرض ولا في السماء. {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}: أي وننذرهم بالآيات المنزلة ونذكرهم بما أَصاب الأُمم السابقة من هلاك ودمار، فما يزيدهم الإنذار إلا إِمعانا فى الضلال وغلوا فى العناد والكبرياء، وإيغالا فى الجبروت والطغيان، والفعل المضارع (نخوفهم) يدل على أنه تعالى يتعهدهم من آن لآخر بالإنذار والتخويف. ولكنهم مع ذلك لا يزدادون إلا طغيانا كبيرا. ¬

_ (¬1) سورة الصافات: الآيات 64 - 68.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)} المفردات: {أَرَأَيْتَكَ}: أخبرني. {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ}: لأستولين عليهم بالإغواء, يقال، احتنك فلان فلانا، إذا استولى عليه وتولى قيادته كما يحتنك الإنسان الدابة بأن يضع حول فمها حبلا يقودها به وهو الرسن. التفسير 61 - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}: واذكر يا محمد للمشركين الذين استجابوا لإغواء إِبليس في الضلال والكفر، قصة عداوته للبشرية. اذكر لهم حين قلنا للملائكة آمرين: اسجدوا لآدم الذي أبدعته قدرتنا من طين - اسجدوا - تحية له وتعظيما لقدرتنا، فاستجابت الملائكة فسجدت سجود طاعة لربها وتعظيم لآدم الذي خلقه دون وسيط، ولكن إبليس أعلن التمرد والعصيان في تكبر واستعلاء. {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}: أي قال: كيف أَسجد وأنا مخلوق من النار لمخلوق خلقته من الطين المهين ... وهو بهذا يعلن عصيانه لأوامر الخلاق العظيم ويجحد حكمته التي اقتضت خلق الإنسان وجعلته خليفته في أرضه، وحامل أمانته بين خلقه، وتعليمه الأسماء

كلها، غفل إِبليس عن هذا كله وأَعلن تمرده وعصيانه وخروجه على طاعة خالقه، وبهذا استحق الطرد من رحمة الله (¬1). 62 - {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ}: أي قال إبليس لربه: أَخبرني عن هذا المخلوق الذي فضلته عليَّ مع أنه غير جدير بهذا التفضيل والتكريم. {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}: أي والله لئن مددت في عمرى إلى يوم القيامة لأستولين على ذريته، لأقودهم إِلى الدمار والخراب وإلى الفساد والعصيان كما يقود الراكب دابته، إلا طائِفة قليلة منهم لا أقدر عليهم لأنك عصمتهم يارب من الضلال والإضلال، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬2). ويقول سبحانه حاكيا على لسان إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬3). {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} المفردات: {اذْهَبْ}: امض في طريق غوايتك وإغوائك مطرودًا من رحمتي. ¬

_ (¬1) راجع القصة بتمامها في تفسير الربع الثاني من سورة البقرة، والربع الأول من سورة الأعراف. (¬2) سورة الحجر: الآية 42. (¬3) سورة ص: الآية 82، 83.

{مَوْفُورًا}: كاملا غير منقوص. {اسْتَفْزِزْ}: استحف واحفز وخادع. {بِصَوْتِكَ}: بدعوتك إِلى المعصية. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ}: صِحْ عليهم صياحا شديدًا واستحثهم على الشَّر وادفعهم إِليه دفعا. {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}: أي براكبي خيلك، وجنودك الماشين على أرجلهم والمراد من يساعدك من أَعوانك على اختلاف طاقاتهم وقدراتهم. {غُرُورًا}: غشا وخداعًا. التفسير 63 - {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}: لما توعد الشيطان أَبناء آدم بالإغراء والإِغواء لصرفهم عن عبادة الله سبحانه زجره الله سبحانه بهذه الآية والمعنى: امض أيها الشيطان في طريق غوايتك وإِغوائك، مطرودا من رحمتي أنت ومن اتبعك من البشر، فمصيرك وإياهم جهنم تجزون فيها جزاء موفورا تاما وبئس المصير. 64 - {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}: وادفع إلى الشر من استطعت دفعه منهم بصياحك عليهم. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}: أي وادفعهم دفعا إلى ارتكاب الشر والموبقات مستعينا عليهم بجنودك من شياطين الإنس والجن من فرسان مسرعين ومشاة مبطئين، أَي بمختلف أَساليب الإغواء، وذكر الخيل والراجلين من باب التمثيل. {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}: واشترك معهم في مباشرة كسب الأموال الحرام بالباطل، واشترك معهم في دفعهم إِلى تنشئة أَولادهم على الكفر والعصيان والضلال. {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}: أَي واخدعهم بالمواعيد الكاذبة مزيِّنًا لهم الشَّر مقبحا لهم الخير، وألق الشك في قلوبهم بحقيقة البعث والنشور، وما ينتظرهم من عذاب أليم، وما مواعيد الشيطان إِلا أباطيل زائفة وأَوهام خادعة لأن طبيعته قائمة على التغرير والخداع والنفاق فليفعل ما يشاء، فليس له على أحد سلطان إِلا الغاوين.

65 - {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}: بينت الآيات السابقة أن الشيطان توعد ذرية آدم بأنه سَيَحْتنكهم ويغويهم إِلا قليلا وأن الله هدده وأنذره بالفشل في وسوسته مهما ضللهم بوعوده الزائفة، وجاءَت هذه الآية لتبين أنه تعالى يحفظ عباده الصالحين من نزغات الشيطان وينجيهم من إغوائه وأَباطيله كما قال سبحانه فيه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (¬1). وحسبك أَيها النبي أَنت والمؤمنون الصالحون حسبكُم حماية ربك لك ولهم وكفالته إياكم، وتخليصكم من مكايد الشيطان وجنوده، فتوكلوا عليه واعتصموا به - وقيل إن الخطاب في قوله تعالى: "وكفى بربك وكيلا" - موجه إلى الشيطان، كما في الجملة السابقة أَي وكفى بربك أَيها الشيطان وكيلا للمؤمنين من عباده: فليعوذوا بي من شرك فإني أعيذهم منه. {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} المفردات: {يُزْجِي}: يبعث ويرسل. {الْفُلْكَ}: السفن. {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ}: انصرف عنكم أو غاب عن نصرتكم ومعونتكم من تعبدون. {كَفُورًا}: جاحدا للنعمة. ¬

_ (¬1) سورة النحل الآيتان: 99، 100

التفسير 66 - {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ... } الآية. بعد أن تحدثت الآية السابقة عن فضل الله على عباده المخلصين بإنقاذهم من غواية الشيطان إِذا لجأُوا إليه واعتصموا به، واستمسكوا بكتابه، بعد ذلك تحدثت هذه الآية عن فضل الله على خلقه وموقفهم من هذا الفضل. والمعنى: إن إلهكم صاحب النعمة الجزيلة عليكم هو الذي هيأ لكم صناعة السفن وتسخيرها في حملكم من بلد إلى بلد، وفي نقل حاصلات الشرق إِلى الغرب وحاصلات الغرب إلى الشرق، بأقل نفقة وبأيسر كلفة عبر المحيطات والبحار, كما يسر لكم بها الانتفاع بخيرات البحار من لؤلؤ ومرجان وأصداف ولحوم وزيوت الأسماك، كما سخرها ليمكنكم من منافع أخرى تبتغونها من فضله، مثل استخراج البترول من قاع البحار. {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}: سخر الله لكم سبحانه هذا كله لأنه كان ولا يزال واسع الرحمة بكم، ييسر لكم سبل الرزق من حيث تحتسبون أو لا تحتسبون. 67 - {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}: وإِذا تعرضتم لأخطار البحار، من نحو زوابع وأعاصير وعواصف وأَنواء وأَسماك مفترسة متوحشة، وتطلعتم إلى من يمد يده الرحيمة لإنقاذكم من الهلاك والدمار، ذهب عن أَذهانكم من تدعونه لتفريج كربتكم سوى الله القوي القدير اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه، فإنكم تدعونه وحده ليكشف الضر عنكم وينجيكم بما أصابكم. {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}: فلما أنقذكم الله بفضله ورحمته، وأوصلكم إلى الشاطئ سالمين قابلتم نعمته عليكم بالجحود، وأعرضتم عنه منصرفين إِلى آلهتكم. ومن المشاهد أَن الإنسان بطبيعته وفطرته يلجأ إلى خالقه في شدته، فإذا جاءه الرخاءُ أعرض عن ربه إلا من عصم الله كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة يونس: الآية 12.

{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} المفردات: {يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ}: يغيبكم في جوفه وقد ظننتم الأمن فيه. {حَاصِبًا}: ريحا ترميكم بالحصباء فتهلكوا. {وَكِيلًا}: حافظًا يرعاكم. {قَاصِفًا}: عاصفا محطما مدمرا. {تَبِيعًا}: ناصرا ومعينا. التفسير 68 - {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}: إِذا نجاكم الله من أهوال البحر وعدتم إلى البر قابلتم فضله بالجحود، فهل أمنتم أَن ينالكم عذابه وأَنتم في البر، بأن تتعرضوا لزلزال مدمر يقلب بكم الأرض ظهرا لبطن فيدفنكم فيها وأنتم أحياء، كما خسف بقارون وبداره الأرض، أَو أن يرسل عليكم ريحا تحمل الحصباء, كما فعل بقوم لوط. {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا}. ثم لا تجدوا حينئذ من تكلون إليه أمر الدفاع عنكم، بأن يصرفه عنكم أَو يحفظكم من ضرره، فإِنه لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه. 69 - {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ}:

بل أَأَمِنْتم أن يعيدكم إلى ركوب البحر مرة ثانية فيرسل عليكم ريحا عاصفا محطما مدمرا يطويكم في جوف الأمواج فتغرقون بسبب كفركم، وبالجملة ينبغي أَن يعلم كل امريء أَنه في قبضة إِله قوى جبار فعال لما يريد, فعليه أَن يطيعه ويخشاه، سواءٌ أكان في بحر أَم في بر، ولا ينبغي له أَن يأمن مكر الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}: ثم لا تجدوا لكم حينئذ نصيرا أو منقذا يتابعكم ليدفع عنكم الأخطار، أو متابعا لنا مطالبا الثأر لكم منا. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} التفسير 70 - {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: يخبر الله سبحانه بهذه الآية عن تكريمه بني آدم، وتفضيله إياهم حيث خلقهم جميعا، برهم وفاجرهم، على أَحسن الصور التي تتمثل في اعتدال القامة وتناسق الخلق وجماله ونعمة العقل والإدراك، وفي طعامهم وشرابهم، وَكُلُّ شأن من شئون حياتهم يتميزون به عن غيرهم من جميع مخلوقاته، وإتماما لتكريمه سبحانه إياهم وهبهم قدرة تمكنهم ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 97 - 99.

عن التسلط على ما في الأرض، من كنوز ومياه ومعادن وبترول، وغير ذلك مما جعلهم يقيمون الصناعات، ويستنبتون الزروع ويغرسون الأشجار، ويملكون سبل التقدم والعمران كما مكنهم من الانتفاع بما في السماء، من هوائها وسحابها. وسائر كواكبها وأجرامها التي أَمدتهم وتمدهم بطاقات كثيرة لا غنى لكائن حمىّ عنها، فضلا عن الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، وقصارى القول أن الله تعالى سخر كل شيء لتكريم الإنسان. وكان هذا التسخير بقدرته تعالى، وليس بقدرة البشر. {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: أي أنعمنا عليهم فحملناهم في البر على الدواب من الإبل والخيل والبغال وعلى غيرها من وسائل الانتقال. كما حملناهم في البحر على السفن المختلفة الأشكال والأحجام المختلفة الأغراض. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: التي تجمع فنون المطاعم والمشارب الذيذة التي منحناهم إياها، مما لا يتسنى لهم أن يحصلوا عليها بصنعهم، وإن صنعوها فبتيسير الله وإِقداره، وإجرائها في مواد مخلوقة له سبحانه، أما غيرهم من الحيوانات فأرزاقها مما تعافه أَنفسهم. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}: أَي أَن الله جل شأنه فضلهم تفضيلا عظيما على كثير ممن خلقهم سبحانه بأمور كثيرة، إذ شرفهم بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله، وتفهم تعاليمه، ويحصل بهديه التمييز بين الحق والباطل والحسن والقبيح، وذلك مما يوجب عليهم شكر المنعم المتفضل، ويتحقق شكره بتوحيده وإخلاص العباة له سبحانه، ورفض الشرك الذي لا يقبله من له أَدنى تمييز. فكيف بمن فضل على ما سوى الملإ الأعلى، من كل ما يدب على وجه الأرض أَو يحلق في أَرجاء السماء، وكما فضلهم بالعقل فضلهم بأُمور خلقية ذاتية، مثل النطق والصورة الحسنة, والقامة المديدة المعتدلة، إلى غير ذلك مما امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان. واعلم أن الرسل من البشر أفضل من الملائِكة مطلقا، ثم الرسل من الملائكة مفضلون على من سواهم من البشر والملائكة. ثم عموم الملائكة على عموم البشر. هذا رأى الجمهرة من العلماء.

{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} المفردات: {نَدْعُو}: ننادى. {بِإِمَامِهِمْ}: بنبيهم أَو بكتاب أعمالهم. {فَتِيلًا}: الفتيل هو الخيط الدقيق الممتد في شق النواة طولا. والمراد به المقدار البالغ الغاية في القلة من العمل. {أَعْمَى}: يراد به أَعمى البصيرة. التفسير 71 - {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}: هذا شروع في بيان تفاوت أحوال الناس في الآخرة حسب تفاوت أحوالهم وأَعمالهم في الدنيا. والمعنى: اذكر لقومك أَيها النبي يوم ننادى كل جماعة من بني آدم بمن ائتموا به واتبعوه من نبي وكتاب تشريع، أَو كتاب الأعمال التي قدموها، فيقال لهم يا أَتباع محمد أَو موسى أَو عيسى عليهم السلام، أَو يا أتباع القرآن أَو التوراة أَو الإنجيل أَو يا أَصحاب كتاب الخير. أو يا أصحاب كتاب الشر. والراجح أن يكون المراد هنا بالإمام كتاب الأعمال على ما رواه العوفى عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أَي بكتاب أَعمالهم، وكذا قال أَبو العالية والحسن والضحاك، لقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬1). ويجوز أن ¬

_ (¬1) سورة يس: الآية 12.

يكون المراد بإمامهم دينهم الذي دانوا به في الدنيا صحيحا أَو فاسدًا، فينادى يا أصحاب دين كذا ليسلّموا كتبهم. {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}: أي فمن أعطى كتاب أعماله من أولئك المدعوين فأخذه بيمينه كان ذلك تبشيرا وتشريفا له. {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ}: أَي فهؤلاء المختصون بتلك الكرامة يقرأ كل منهم كتابه، وحين يسر بقراءته ينادي إخوانه مبتهجا تعالوا فاقرءُوا كتابي، لتروا ما أَكرمني الله به من الثواب العظيم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (¬1). {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}: أَي ولا ينقصون من ثواب أَعمالهم المكتوبة في صحائفهم أَي شيء ولو بلغ الغاية في القلة. فكان قدر فتيل وهو الخيط الرفيع في شق النواة ويضرب به المثل في الصغر وفيما لا قدر ولا اعتداد به لدى المخلوقين. 72 - {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} الآية. أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى البصيرة عن حجج الله وبيناته، وعن كل ما أولاه الخالق جل شأنه من نعم ظاهرة وباطنة. فهو في الآخرة أَعمى لا يهتدى إلى ما ينجيه. ولا يجد ما يجديه، لأن عماه في الدنيا بإِعراضه عن توحيد الله أوجب هذا التخبط في الآخرة والحرمان فيها. وعن ابن عباس: ومن كان في هذه النعم والآيات التي رأى أَعْمى، فهو في الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وقيل ومن كان في هذه الدنيا أَعمى القلب حشر يوم القيامة أَعمى العين كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}: عما كان عليه في الدنيا، حيث استحالت عليه جميع أسباب النجاة لفقده كل طريق يوصل إِليها، إذ لا توبة في تلك الدار ولا إِمهال. ولا عودة لتدارك ما فات. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: الآية 19، 20

وهذا الفريق الذي عميت بصيرته في الدنيا وكان أَعمى في الآخرة، هو لفريق الذي أَوتى كتابه بشماله، بدلالة ذكره مقابلا للفريق الذي أوتى كتابه بيمينه، ولم يذكر بعنوان أوتي كتابه بشماله صريحا كما ذكر الفريق الأول بعنوان إيتاء كتابه بيمينه، اكتفاء بذكر السبب الموجب لذلك وهو ونه أعمى البصيرة في الدنيا، وأَعمى وأَضل سبيلا في الآخرة. {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} المفردات: {وَإِنْ كَادُوا}: وإِن قاربوا {لَيَفْتِنُونَكَ}: ليصرفونك. {لِتَفْتَرِيَ}: لتختلق. {خَلِيلًا}: صفيا وصاحبا من الخُلة، بضم الخاء وهي الصحبة. {تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ}: تميل إليهم. التفسير 73 - {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... } الآية. قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، إن وفد ثقيف أَتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا وقالوا متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدي لها فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرم وادينا كما رمت مكة حتى يعرف العرب فضلنا عليهم، فهمَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يعطيهم ذلك فنزلت. وقيل سبب نزولها هو قول أكابر قريش

للنبي - صلى الله عليه وسلم - اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالى، حتى نجلس معك ونسمع منك، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم فيما يقولون فعصمه الله وأَنزل الآية. والمعنى: وإِنه كاد هؤلاء المشركون بما اقتوحوه عليك أَن يوقعوك في الفتنة بأن تستجيب إلى ما طلبوه منك من أمور تقربك منهم. {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ}: أَي يأملون بذلك أَن تختلق علينا غير الذي أنزلناه إليك، وأَمرناك باتباعه فتخالفه إلى تنفيذ ما اقترحته عليك ثقيف من تحريم واديهم كتحريم مكة أَو طلبته قريش من إِقصاء الفقراء عنهم، فكادت نفسك تميل قليلا إلى موافقتهم رجاء إيمانهم رحمة بهم. {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا}: أَي لو استمعت إليهم لقربوك منهم، صفيا وصاحبا وكنت وليًّا لهم. 74 - {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}: أَي ولولا تثبيتنا إِياك وعصمتنا لك لقاربت أَن تميل إِليهم ميلا قليلًا لشدة احتيالهم عليك، وخداعهم لك ومكرهم بك، ولكنك أَدركتك عنايتنا، فحالت بينك وبين القرب من أدنى مراتب الركون، وهذا صريح في أَنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إِليها، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما, ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أَحد منهم إِلى المشركين في شيء من أَحكام الله تعالى وشرائعه. 75 - {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}: أَي لو قاربت الركون إليهم لجمعنا عليك عذابا مضاعفًا في الدنيا والآخرة، حيث يكون هذا العذاب ضعف ما يعذب به غيرك في الدارين إذا فعل مثل هذا الفعل، لأنه كلما كانت الدرجة أَعلى والمنزلة أَسمى كانت المؤاخذة على الخطيئة أَشد وأَقوى. {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}: يمنع عنك العذاب ويحول بينك وبينه إذ لا سلطان فوق سلطاننا حتى تجد فيه ملجأ أَو معينًا.

{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} المفردات: {وَإِنْ كَادُوا}: أَي وإن قاربوا. {لَيَسْتَفِزُّونَكَ}: ليزعجونك، يقال استفزني فلان أزعجنى. {خِلَافَكَ}: بَعدك. التفسير 76 - {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}: قال مجاهد وقتادة: نزلت هذه الآيات في همِّ أهل مكة بإِخراجه صلى الله عليه وسلم من أُم القرى ولو أَخرجوه منها لما أمهلوا ولكن الله أَمره بالخروج فخرج. والمعنى: قارب أهل مكة أن يزعجوك بعداوتهم وشدة إيذائهم. ليخرجوك من الأرض الطيبة أرض مكة قبل أن يأْذن الله لك بالهجرة. {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}: أَي ولو حققوا ما همُّوا به، بإكراهك على الخروج لم يبقوا بعد إكراهك عليه إلا زمنا قليلا يستأصلون ويهلكون جميعًا بعده. والواقع أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة بإكراه قريش له، وإِن كانوا قد هموا به بل كان خروجه بأمر ربه حين أذن له في الهجرة، حفاظا على الدعوة وتمكينا لها من المضي في طريقها لأداء مهمتها السامية في جو من الأمن والاستقرار. وليسلم منهم ومن أَعقابهم من يشرف بالإِسلام، لذلك لم يقع لهم الاستئصال، وعن مجاهد قال: أَرادت قريش ذلك ولكنها لم تفعل لأنه سبحانه أَراد استبقاءَها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أَعقابها من يسلم، فأذن لرسوله بالهجرة، فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم.

وأسند الإخراج إليهم في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} (¬1). وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مخرجي هُمْ". وفي قول ورقة - ليتني كنت جذعا إِذ يخرجك قومك، - أَسند الإخراج إِليهم - لِهَمِّهِمْ به ومزاولة مقدماته باستفزازهم له ولأصحابه. 77 - {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا}: أَي سننا سنة في أُمم المرسلين قبلك، وهي إن تعذب كل أمة كفرت برسولها وآذته وجعلته يخرج من بين أظهرها، وذلك بإِهلاكها بحيث لا تلبث بعده إلا قليلًا حتَّى يحيق بها الدمار والنكال، ولولا أنه - صلى الله عليه وسلم - رسول الرحمة لجاء قومه والذين كفروا بها بعذاب من عند الله لا قبل لهم به في الدنيا. لهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬2). وإِسناد السنة إلى الرسل مع أَنها لله جل شأنه لأَنها سنت لأجلهم. {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}: أَي لا خلف في وعدها ولا تغيير في وقتها ونوعها. {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} ¬

_ (¬1) سورة محمد الآية 13 (¬2) سورة الأنفال الآية 33

المفردات: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: لميلها عن وسط السماء. يقال "دلكت الشمس" أي مالت وانتقلت من وسط السماء إِلى ما يليه غَرْبًا. {غَسَقِ اللَّيْلِ}: شدة ظلمته، يقال غسق الليل غسقا ويحرك وغسقانا وأَغسق اشتدت ظلمته، ويطلق الغسق على ظلمة أول الليل. {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}: قراءته والمراد بها صلاته. {فَتَهَجَّدْ}: الهجود النوم، والتهجد التيقظ منه للصلاة. {نَافِلَةً}: زائدة على الفريضة. {مُدْخَلَ صِدْقٍ}: إِدخال صدق، فهو مصدر ميمى من الرباعي، وكذلك {مُخْرَجَ صِدْقٍ}: أَي إِخراج صدق. {سُلْطَانًا}: حجة لها سلطة على العقل بقولها. التفسير 78 - {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}: لما ذكر سبحانه في الآيات السابقة محاولة المشركين صرفه - صلى الله عليه وسلم - عن الدعوة وإِزعاجه بالفتن والأذى، أَتبعها هذه الآيات بأَمره فيها بإقامة الصلاة لما فيها من التثبيت والصبر والقوة الروحية على مجابهة فتن المشركين. والمعنى: أقم الصلاة أَيها الرسول وسائر المؤمين عند ميل الشمس عن وسط السماء إلى أَن تشتد ظلمة الليل بعد غروبها، وهذا الوقت يشتمل على أربع صلوات هي الظهر. والعصر والمغرب والعشاءُ. والأَمر بإقامتها بين دلوك الشمس وغسق الليل يراد به إقامة كل صلاة منها في وقتها الذي عين لها بينهما، ببيان جبريل عليه السلام. كما أن كيفية كل صلاة منها بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، بتعليم جبريل عليه السلام، وإِنما فرضت في الأوقات المعينة لها لأن شأن الإِنسان فيها أن يكون متيقظًا وقد أفرد الله تعالى صلاة الفجر بأَمر خاص تضمنه قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} اهتماما بها لأنها تكون بعد نوم يفصلها عن الصلوات الأربع، وعبر عن صلاة الفجْر بالقرآن لأَنها يطلب فيها تطويل القراءَة أَكثر من غيرها، ولهذا تشهدها الملائكة كما سيأتي، وبذلك تكون الآية الكريمة قد أَشارت إِلى الصلوات الخمس.

وقيل المراد بالصلاة في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} صلاة المغرب، ويكون معنى دلوك الشمس غروبها وغسق الليل ظلمته، باختفاء الشفق فيكون آخر وقت صلاتها أَداء. {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار حينما يتعاقبون، والمراد بهم الكتبة، وقد روى الترمذي عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: "تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار حديث صحيح، وأَخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يَتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر" وقيل تشهده كثرة من المصلين عادة أو من حقه ذلك، أَو تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة، واليقظة بالنوم وهو أَخو الموت، وإظهار لفظ القرآن في مقام الإِضمار لمزيد الاهتمام به. 79 - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ (¬1) ... } الآية. التهجد التيقظ بعد النوم، والمقصود بالتهجد هنا الصلاة ليلا بعد النوم، والضمير في قوله: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} يعود على القرآن، أَي فتهجد بالقرآن وصل مُتَلبسًا بقراءته بعد الفاتحة، وذلك بعد قيامك من النوم ليلًا، ويستدل بذلك على تطويل القراءة في التهجد ويجوز عود الضمير على الليل. والباءُ بمعنى في. أي: وبعض الليل وفتهجد فيه. {نَافِلَةً لَكَ}: فريضة زائدة على المفروض على الأمة. خاصة بك فالخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل كانت في الابتداءِ واجبة عليه وعلى الأمة ثم نسخ الوجوب وصار الأَمر فيها للندب، فهو إِذا تطوع بما ليس بواجب عليه, كان ذلك زيادة له في الدرجات. أَما غيره من الأمة فتطوعه لجبر نقص ولتدارك خلل يقع في الفرض أَو لتكفير ذنب يلم به أَو لزيادة ثواب. قال معناه مجاهد وغيره. {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}: أَي وبعض الليل فتهجد فيه لتكون على رجاء أن يبلغك ربك إِلى كمالك الذي أنت أهل له في الدار الآخرة. فيقيمك في مقام محمود عند نفسك وعند الناسِ أجمعين. وذلك هو مقام الشفاعة العظمى في فصل ¬

_ (¬1) الهجود: النوم، والتهجد إزالة الهجود بالتيقظ من ال

القضاء، حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "مقامًا يحمد فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق، تَسْأَل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أَحد إِلا تحت لوائك". وقيل المقام المحمود هو إِعطاؤُه عليه السلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أَصلا، وعلى الجمله فالمقام المحمود ينتظم كل مقام بتضمن كرامة له - صلى الله عليه وسلم - ويشير إِلى ذلك التنكير في قوله: {مَقَامًا} حيث يفيد التعميم والتفخيم. 80 - {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} (¬1): لما وعد الله رسوله المقام المحمود، أَمره أَن يتجه إليه بدعائه لينجز له وعده أَي قل مناديًا ربك: أَدخلنى فيما أَمرت به من الطاعات إِدخالا مرضيا، وأَخرجني عما نهيت عنه إخراجا نظيفا من المعاصي، وهيئ لي كل أسباب العزم والقوة لجهاد أعداء دينك، حتى أَنتصر عليهم بسلطانك وتأْييدك، حتى أَكون أهلا لما وعدتني من المقام المحمود، وقيل علمه جل شأنه أَن يدعوه بأَن يخرجه من دار المشركين دار الإِيذاء والغدر، وأَن يُدخله موطنا للطمأنينة والأمن فدعا ربه كما أَمره فأَخرجه من مكة وأَدخله المدينة، وروى هذا المعنى الترمذي عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت. وقال الضحاك: هو خروجه من مكة مهاجرًا، ودخوله مكة يوم الفتح آمِنًا - وتقديم الإِدخال في الآية على الإِخراج مع أَن إخراجه من مكة أَسبق من إدخاله فيها بعد ذلك، لأن إِدخاله فيها هو الهدف المقصود، وقيل المعنى: أَدخلني في الأمر الذي أَكرمتني به من النبوة مدخل صدق وأَخرجنى منه مخرج صدق إذا أَمتنى، قاله مجاهد. {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}: أَي حجة ثابتة وبرهانا بينا يكون به النصر على من يخالفني، وكون السلطان مرادًا به ما ذكر، موافق لرأْى الشعبى وعكرمة. وذهب الحسن إِلى أَن المراد به إظهار دينه على الدين كله، بالتسلط على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بإقامة الحد، وبعصمته من كل أذى يوجه إِليه وإِلى دين الله. وقد استجاب الله لدعاء رسوله، فأَظهر دينه على الأَديان كلها وعصمه من أَذى الناس وكيدهم، يشير إِلى ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ¬

_ (¬1) مدخل صدق، أي إدخال صدق، ومخرج صدق أي إخراج فهو مصدر ميمي في كلي

{وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1). وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬2). وقد أشعر وصف "سلطانا" بقوله "نصيرا" وهي من صيغ المبالغة - أَشعر بأنه صلى الله عليه وسلم يدعو بنصر حاسم. 81 - {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}: أي وقيل جاءَ الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم برده، وهو الإِسلام المؤيَّد بمعجزة القرآن الكريم، الداعي إِلى الإيمان الصادق والعلم النافع، وذهب الباطل واضمحل فهلك الكفر والشرك، وما زينه الشيطان من شرور وآثام. {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}: وعد من الله جل شأنه بنصر الحق على الباطل أَي أن الباطل شأنه عند الله أن يكون مضمحلا ولا بقاء له مهما طال به الأمد، وامتد به الزمن، وتعدد المستمسكون به، وفي بيان ذلك يقول سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (¬3) ويروى البخاري والترمذي عن ابن مسعود قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح وحول الكعبة ثلثمائة وستون نصبا - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يطعنها بمخصرة في يده، وربما قال: بعود، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} جاء الحق وما يبدىءُ الباطل وما يعيد، هذا لفظ رواية الترمذي، قال القشيرى: فما بقى منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أَمر بها فكسرت. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} المفردات: {خَسَارًا}: الخسار، الهلاك والضلال. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: الآية 33 (¬2) سورة المائدة: الآية 67 (¬3) سورة الأنبياء: من الآية 18

التفسير 82 - {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ... }: أي شفاءٌ لما في الصدور من شك ونفاق، وزيغ وشرك، وذلك بتخليصها من مرض الجهل، وداء العناد، وشهوة الإعراض حتى تستبين الأمور الدالة على الله تعالى، فالقرآن في تقويم النفوس، وتنقية القلوب كالدواء الشافى للمرضى، وهو جميعه كذلك. ويرى بعض العلماء أَنه يستشفي به من الأمراض الظاهرة، استنادا إلى حديث صحيح في ذلك، قال القرطبي: روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ثلاثين راكبًا، قال فنزلنا على قوم من العرب، فسألناهم أن يضيِّفونا فأبوا - قال: فلدغ سيد الحي، فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب؟ إن الملك يموت. قال.: قلت أنا - نعم، ولكن لا أَفعل حتى تعطونا، فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه "الحمد لله رب العالمين" سبع مرات فبرأ، فبعث إلينا بالنُّزل (¬1)، وبعث إلينا بالشاء (¬2)، إلى آخر الحديث. {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}: هو رحمة لهم، ففيه بواعث الإيمان والحكمة، والرغبة في كل فضيلة ومكرمة، فتعمهم بالعمل به الرحمة التي تشمل تفريج الكروب. وتكفير الذنوب ومضاعفة الأجور. {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}: أي ضلالا وهلاكا لتكذيبهم المتتابع، وكفرهم المتكرر بكل آية يوحى بها، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن، باعتبار كونه سببها حيث تمادوا في كفرهم به وتكذيبهم له كلما أُنزل، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (¬3). ¬

_ (¬1) النزل: بوزن القفل؛ الطعام الذي يهيأ للضيف الذي ينزل بك. (¬2) الشاه: هي الغنم التي جعلوها لهم عطاء وأجرا علي رقيا الملك الملدوغ. (¬3) سورة فصلت: الآية 44.

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)} المفردات: نأى الشيء بعد، ونأيته ونأيت عنه: بعدت. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: تكبر وتباعد. {يَئُوسًا}: شديد اليأس. {عَلَى شَاكِلَتِهِ}: على طريقته ومذهبه. التفسير. 83 - {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: يخبر الله بهذه الآية عن نقص الإنسان من حيث طبيعته في حالتي الرخاء والشدة، فإذا أنعم عليه بمال وصحة، وفتح ونصر، ونال كل مآربه أو بعضها، أعرض عن طاعة خالقه، وبعد عن عبادته، وإذا مسه شر، أو نزلت به كارثة، بالغ في اليأس من رحمة الله - وتمادى في الجزع، فالآية نزلت تذكر منهجًا عامًّا سلكه جنس الإنسان عند ممارسته لشئون الحياة، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة. والمعنى: وإذا أنعم الله على الإنسان بالصحة وبسط له كل أَسباب النعمة والقوة لم يذكر فضل الله عليه كأنه ومستغن عنه، وبدل أن يقوم بشكره، ويذل لسلطانه، تكبر وتباعد، وطوى عن الطاعة عنقه وأعطاها عرض وجهه وبعد بجانبه وولاها ظهره، وتلك الآية تبرز مبالغته في الإعراض والبعد عن ربه غرورًا واستكبارًا، مصورة بصورة الأمور المحسوسة تقبيحا له وتقريعًا على ما اقترف من إثم عظيم. {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}: أَي إذا نزل به شر من مرض أَو فقر أَو كارثة من الكوارث التي تلم به، كان شديد اليأس والقنوط، من فرج الله الذي وعده عباده المؤمنين، وذلك لأنه لم يقبل عليه في الرخاء، حتى يرجوه في الشدة، ولو أَنه صبر لظفر، فقد جاء في حديث ابن عباس: "وَاعْلَمْ أنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبْر، وَأن الفَرجَ معَ الكرْبِ، وأَن مع العسر يسرًا".

84 - {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}: تهديد للمشركين ووعيد لهم، وطمأنة للمؤمنين وحفز لهم، أي أن كل واحد منكم سواء أكان مؤْمنا أَم كافرا، مقبلا أم معرضًا، راجيًا أم قانطا. يعمل على طريقته ومذهبه وأخلاقه التي ألفها في الهدى والضلال. وسيُجْزَى كل عمله لا تخفى منه خافية. {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}: أَي فربكم الذي خلقكم أعلم بمن هو أبين منهاجا، وأرشد طريقا وهو المؤْمن المهتدى فيثيبه ويجزل عطاءه، كما هو أعلم بمن يمشي مكبا على وجهه شديد العناد في سلوكه، فلا يمنحه توفيقه، ولا يزيده إلا خسارًا ونكالًا. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} المفردات: {الرُّوحُ}: يطلق على ما به حياة الأنفس يُذَكَّر ويؤنث، ويطلق أيضًا على القرآن وعلى الوحي وجبريل، - كما يطلق على غير ذلك، وسيأتي بيان المراد منه في الآية. {مِنْ أَمْرِ رَبِّي}: من شأنه الذي اخْتَصَّ به سبحانه وتعالى. التفسير 85 - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}: نزلت هذه الآية الكريمة حينما سألت قريش الرسول عن الروح بإيعاز من اليهود فقد أخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وجماعة من ابن عباس قال: قالت قريش لليهود اعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل، فقالوا سلوه عن الروح فنزلت. وقيل بعثت النضر ابن الحارث، وعقبة بن أَبي معيط إلى أحبار يهود المدينة فقالوا: سلوه عن أَصحاب الكهف وعن ذى القرنين وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت، فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فجاءُوا وسألوه فبين لهم صلى الله عليه وسلم القصّتين وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع

عليه ملكًا ولا نبيًّا مرسلا فكان ذلك سببًا لنزولها، وكان السؤال عن حقيقة الروح ومسلكه في بدن الإنسان، وامتزاجه بالجسم واتصال الحياة به وهذا شيءٌ لا يعلمه إلا الله، وذلك ليعرف الإِنسان على القطع عجزه عن فهم حقيقة نفسه ومصدر حياته مع علمه بوجودها. وفى هذا دلالة ناطقة على أنه وقد عجز عن إِدراك حقيقة نفسه فهو عن إدراك كنه خالقه أَعجز، لأنه اللطيف الذى لا يعلم ذاته سواه. وقيل في معنى الروح أَقوال منها: أنها صورة كالبدن تسري فيه سريان الماء فى العود الأخضر، وقيل غير ذلك، والصحيح أنها شيءٌ لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى آمرا نبيه بإجابتهم: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}: وكان المقام للإضمار فيقال قل هو من أَمر ربي، ولكن الإظهار لكمال العناية بالمسئول عنه. أَي قل إن الروح من الأسرار الخفية التي تعجز عن إدراكها عقول البشر وتكل عن معرفتها أفهامهم، فهي من الأمور التي استأثر الله بعلمها، والإضافة إِلى ضميره صلى الله عليه وسلم فى (ربي) للتشريف والتعظيم. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}: اختلف فيمن خوطب بهذا، فقيل: السائلون فقط، وقيل: اليهود بجملتهم، وقيل: العالم كله وهو الصحيح فقد أَخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} أفعنيتنا أم قومك؟ قال كُلًّا عنيتُ - قالوا فإنك تتلو أنا أُوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إِن عملتم به استقمتم، وأَنزل الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). ولا شك أَن القِلة والكثرة من الأُمور الإضافية، فالشيءُ يكون قليلا بالنسبة إِلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته، فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله حيث إن علمه ¬

_ (¬1) سورة لقمان: الآية 27.

سبحانه يتعلق بكل شيء في ملكوته من الخلق والتكوين والحياة والموت والسماوات والأرض، والثواب والعقاب. {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)} المفردات: {لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: أي لَنُزيِلنَّه، يقال ذهب به أزاله كأذهبه. التفسير 86 - {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا}: أي ولو أردنا أن نذهب بالقرآن الذي أوحيناه إِليك وثبتناك عليه حينما حاولوا فتنتك لو أردنا ذلك لذهبنا، ثم لا تجد لك بالقرآن وكيلا يلتزم باسترداده منا، كما يلزم الوكيل باسترداد ما ذهب منه ووُكِّل فيه، ولكن الله تفضل بإبقائه في صدرك وصدور المؤمنين ومصاحفهم رحمة بعباده، وفي ذلك يقول الله: 87 - {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}: أي ولَكِن رحمة من ربك تركه غير مذهوب به، فيكون ذلك امتنانًا بإبقائه بعد الامتنان بإنزاله، وترغيبا في المحافظة على أداء حقوقه؛ لأنه أَجل النعم وأعظمها {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}: إذ اصطفاك على سائر الخلق واختصك بالمقام المحمود. وجعلك خاتم الأنبياء والمرسلين، وأَنزل عليك كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكفل ببقائه وحفظه، وينصرك على أَعدائك بما أمدك به من رعاية وتوفيق.

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} المفردات: {ظَهِيرًا}: معينا ونصيرا. {صَرَّفْنَا}: رددنا وكررنا. {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}: أَي ما قبل أكثرهم إلا الجحود والإعراض. التفسير 88 - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}: نزلت هذه الآية حين قال الكفار: ولو شئنا لقلنا مثل هذا أي قل للذين لا يعرفون قدر القرآن العظيم. وشأنه الجليل فزعموا أنه من كلام البشر وأن في مقدورهم الإتيان بكلام مماثل له، قل لهم لو اتفقت كلمة الإنس منهم والجن، وتضافرت همههم وأقبلوا بكل عقولهم وأَفكارهم على تحقيق رغبتهم في الإتيان بمثله في سمو الأسلوب، ودقة التنسيق، وكمال المعنى وقوة التشريع، والإخبار بالغيبيات وغير ذلك، لو اجتمعت على ذلك لعجزوا عن الإتيان بمثله، لا بِعِيٍّ فيهم فهم أهل لسن وبلاغة، وإنما الإعجاز فيه في لفظه ومعناه وتشريعه وتأثيره النفسي جعله فوق مستوى الجن والإنس. {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}: أَي لا يأتون بمثله على أَي حال مفروضة، بمعنى أنهم سيبوءُون بالإخفاق على الانفراد، أَو على الاجتماع متعاونين، وفي ذلك حسم وقطع لأطماعهم الضالة التي أملت عليهم، وزينت لهم الإتيان بمثله، وتأكيد لعجزهم عنه على أَي حال من الأحوال.

89 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: أي كررنا ورددنا للناس في هذا التنزيل من كل معنى بديع غاية الحسن يستجلب النفوس ويستميلها كما تستميلها الأَمثال السائرة، أو ذكرنا في القرآن طرقا متنوعة توجب زيادة وضوح في البيان ندعهما بالحجج الواضحة والبراهين القاطعة التي تبعث في النفوس الثقة والاطمئنان، أَو وجهنا للناس القول فيه من كل مَثَلٍ رائع في الحكمة الإلهية والترغيب والترهيب والأوامر والنواهي وقصص الأولين والجنة والنار وشئون القيامة وغير ذلك من العبر. {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}: والمراد بأكثر الناس الناس من كان في عهده صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب واستظهر في البحر أَنهم أهل مكة بدليل أَن الضمائر الآتية لهم، أَي ما رضي أكثرهم إلا الكفر والجحود للحق، وأَنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإِباء. وأوثر إِظهار لفظ الناس مع أَن المقام للإضمار لزيادة التأكيد والتوضيح. {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)}

المفردات: {تَفْجُرَ}: تشق وتفتح. {يَنْبُوعًا}: الينبوع العين الكثيرة الماء. {فَتُفَجِّرَ}: بالتشديد للتكثير. {كِسَفًا}: أي قطعا جميع كسفة كقطعة. {قَبِيلًا}: مقابلة ومعاينة، أو كفيلا بما تدعيه. شاهدا بصحته. {مِنْ زُخْرُفٍ}: الزخرف الذهب والزينة. {تَرْقَى فِي السَّمَاءِ}: تصعد في معارجها. التفسير 90 - {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}: بعد أن تبينت حجج القرآن لقريش وظهر عجزهم عن محاكاته، وهم أهل اللغة والفصاحة، اجتمع رؤساؤهم وذوو الشرف فيهم، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاجتماع بهم فقالوا له: إِن كنت تريد مالا جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الشرف فنحن نسودك علينا، وإِن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان الذي يأتيك رَئِيًّا (أَي تابعا من الجن) بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أَو نُعْذَر فيك، فلم يجبهم إلى ما طلبوه، وانصرف إلى أَهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع فيه من إيمانهم, ولما رأَى من مباعدتهم إياه، كان ذلك سببا في نزول الآيات التي تحكى تعنتهم بما اقترحوه من الأمور الستة التي طلبوها منه، متعللين بما لا يمكن وقوعه عادة وما يستبعد عقلا. وما قصدوا بما اقترحوا إلا العناد واللجاج، إلا فقد كانت تكفيهم معجزة القرآن التي تخر لها صُمّ الجبال. والمعني: أَنهم قالوا لن نصدق بما جئت به حتى تشق لك بأرض مكة عينا لا ينقطع ماؤُها الكثير عن الجريان والاندفاع. 91 - {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ}: أي بستان تستُر أشجارُه العالية وأغصانه المتشابكة ما تحتها من فضاءٍ، وإِنما خصوا النخيل والعنب لأنهما النوعان المعروفان بأرض مكة.

{فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا}: فتجرى الأنهار وسط تلك الجنة جريانا قويا دائما للانتفاع بها في ري تلك الجنة وغيرها. 92 - {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا}. أَو تسقط السماءَ علينا قطعا متناثرة كما أَوعدتنا في قولك {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} (¬1) فعجّل لنا ذلك وأسقطها. {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}: أو أَن تأتي بالله مقابلا وبالملائكة كذلك بحيث نعاينهم ونراهم، وعلى أن القبيل بمعنى الكفيل يكون المعنى: أَو تأتي باللهِ كفيلا وبالملائكة كفلاء. بما تدعيه، يشهدون بصحة ما قلته ويضمنونك فيما يترتب عليه. 93 - {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ}: من ذهب لأننا لا ننقاد لك ولا نؤْمن بك مع فقرك الذي نراه. {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ}: أي تصعد في معارجها. {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}: أَي لن يقع إِيمان منا بك من أجل رقيك في السماء فحسب، أو لن نصدق أنك رقيتها حتى تصحب معك كتابا منزلا من الله بلغتنا وفيه تصديقك منه سبحانه، ويكون موجها إلى كل رجل منا، كما حكاه الله بقوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} (¬2). وبلغ من عنادهم الحاقد وتعنتهم البالغ إن طلبوا منه شهودًا من الملائكة على صحة ما ينزل عليهم من السماء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن أبي أمية لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه "أَنا أَنظر إِليك حتى تأتيها وتأتي معك بصك منشور معه أربعة ملائكة يشهدون أَنك كما تقول. {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}: أَي قل لهم يا محمد متعجبا من فرط حماقتهم، وتنزها لله عز وجل، سبحان ربي أن يتقدم أحد بين يدي جلاله في أمر من أمور سلطانه وملكوته، مما لا يليق من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت أَعظم الجرأَة على الله رب ¬

_ (¬1) سورة سبأ: الآية 9. (¬2) سورة المدثر: الآية 52.

العالمين، فلا يحق لأحد أن يطلبها لأنه الفعال لما يشاء، فإن شاء أَجابكم إلى ما سألتم, وإِنْ شاء لم يجبكم إِليه، أَو قل لهم: تنزيها لله ربي أن أطلب منه تحقيق ما طلبتموه فما أنا أَيها القوم إِلا رسول أَتبع ما يوحى إِلى، وأبلغكم رسالات ربي، ولم تكن الرسل من قبلي يأتون أممهم بما يريدونه من الآيات، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالةِ على صحةِ نبوّتهم، فسبيلى سبيلهم. {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)} المفردات: {النَّاسَ}: أَي الذين حكيت أباطيلهم. {مُطْمَئِنِّينَ}: مقيمين فيها كالبشر. {خَبِيرًا}: يقال خبرت الشيء أخبره من باب نصر، خُبرًا بضم الخاء وسكون الباء. علمته فأنابه خبير، والمراد منه وصفه تعالى بأنه محيط ببواطن الأمور ودقائقها. {بَصِيرًا}: أَي عليما: يقال بصرت بالشيء بضم الصاد والكسر لغة بصرًا بفتحتين علمت، فأنا بصير به، والمراد به أَنه تعالى عليم بالأمور علم إِحاطة وشمول. التفسير 94 - {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}:

أَي ما منع أكثر الناس الذين حكيت أباطيلهم في الآيات السابقة، أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك وقت مجىء الوحي إِلا قولهم على سبيل الإنكار: أَيحق أن يكون رسول الله من جنس البشر؟ وقصدهم نفى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر، والرسالة في اعتقادهم إِنما تكون للملك لا للبشر, وقد أمر الله رسوله أَن يجيبهم بقوله: 95 - {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}: أَي قل لهم أيها النبي منبها إلى رحمة الله بعباده، وفضله عليهم: لو وجد في الأرض ملائكة يسكنونها ويمشون فيها كما تمشي البشر ولا يعرجون في السماء ليعلموا ما يجب عليهم علمه، لبعث إِليهم ملكا منهم وعلى شاكلتهم، ليتفقهوا عنه ويعلموا منه ما لا تستقل قدرتهم بعلمه, حيث يتسنى لهم مخاطبته ومكالمته؛ لأن الجنس إلى الجنس أَميل، وبه آنس, أَما سكان الأرض من البشر، فهم بمعزل عن إمكان التلقى عن الملائكة، فبعث الملَك إليهم مناف للحكمة المقتضية لوجوب التجانس بين الرسول ومن يرسل إليهم، أما إرسال الملَك بوحى إلى الرسل من البشر كمحمد وعيسى وموسى عليهم السلام. فلأن الله أعطاهم من القوى الروحية العليا ما يجعلهم أهلا لتلقي الوحى عن الملك حيث جعل لهم جهتين؛ جهة ملكية بها من الملك يستفيضون، وجهة بشرية: بها على البشر يفيضون, وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة. وكان الملك يظهر للرسول على وجه يسهل معه التلقي عنه، كما ظهر جبريل عليه السلام للرسول في صورة دحية الكلبي، وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أَثر السفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرهما، فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أَجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله

عنهم. فقال صلى الله عليه وسلم هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم, والحديث في البخاري والنسائي وغيرهما. 96 - {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: يروى أَن كفار قريش حين سمعوا قوله سبحانه: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} قالوا: فمن يشهد لك أَنك رسول الله؟ فنزل قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... } الآية. والمعنى قل كفى باللهِ شهيدا على أني رسول أديت واجب الرسالة إليكم على أكمل وجه، وعلى أنكم بالغتم في التكذيب والعناد، فهو شاهد لي وعليكم، عالم بما كان مني ومنكم. {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}: هذا تعليل لكفاية شهادة الله مع الإِيذان بطمأَنة الرسول، وتهديد الكفار، أَي أنه سبحانه محيط بأَحوال وأعمال عباده جميعا: الرسل والمرسل إِليهم، عليم بظواهرهم وبواطنهم لا تخفى عليه منهم خافية، يهدى من أقبل عليه، ويتخلى عمن تولى عنه، ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)} المفردات: {عُمْيًا}: جمع أَعمى وهو الذي لا يبصر. {بُكْمًا}: جمع أبكم وهو الذي لا ينطق.

{وَصُمًّا}: جمع أَصم وهو الذي لا يسمع. {كُلَّمَا خَبَتْ}: كلما سكن لهيبها وصار عليها غشاءٌ وطبقة من رماد. {رُفَاتًا}: هو في الأصل كما قال الراغب ما تفرق من التبن ويطلق على الحطام, والمراد هنا بَالِينَ متناثرين. التفسير 97 - {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}: هذا كلام مبتدأ يفصل به سبحانه ما أشار إليه قوله {إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا} أَي ومن يوفقه الله للهداية بحسن استعداده وقبوله للحق، فهو المهتدى إلى الحق، وإِلى كل ما يؤدى إِلى الثواب وحسن الجزاء، أو المهتدى إِلى كل مطلوب يستقيم به دينه، ويتحقق به هداه، ومن يضلِلْه: أَي يتخلى عنه فلا يوفقه للهداية لسوء اختياره، وقبح استعداده، وفساد طبعه، كهؤلاء المعاندين، فلن تجد لهم أَنصارا من دون الله يهدونهم إلى طريق النجاة من عذاب استحقوه بإمعانهم في الضلال والعناد، أو يهدونهم إلى الحق والسعادة في الدارين. وأوثر لفظ الإفراد في قوله {فَهُوَ الْمُهْتَدِ} ولفظ الجمع في قوله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ} رعاية للفظ {مَنْ} في الأول ولمعناها في الثاني. تلويحا بوحدة طريق الحق وقلة أَتباعه، وتعدد سبل الضلال، وكثرة الضالين. {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}: أي أنهم بعد الحساب يوم الحشر يساقون إِلى جهنم على وجودهم، مدفوعين إليها دفعا سريعا لا يلوون على شيءٍ أَخذا من قول العرب، قدم القوم على وجوههم إِذا أَسرعوا أو أنهم يسحبون إليها على وجوههم كما يفعل في الدنيا مع من يبالغ في امتهانه وتعذيبه أو أنهم يمشون على وجوههم ليدخلوها، ويشهد لذلك ما أَخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: "الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أَن يمشيهم على وجوههم" وحين يحشرون يكونون عميا لا يبصرون شيئًا تقر به أَعينهم، وبكمًا لا ينطقون

ما يقبل منهم، وصُمًّا لا يسمعون ما تطمئن به أسماعهم. قال ابن عباس والحسن: عمْي عما يسبرهم بكمٌ عن التكلم بحجة، صمٌّ عما ينفعهم. وعلى هذا فحواسهم باقية على ما هي عليه ويكون ذلك على المجاز، وقيل إِنهم يحشرون عميا بكما صما على سبيل الحقيقة تحقيرا لهم وامتهانا، ثم تعاد إليهم تلك الحواس عندما يحشرون إلى النار ليبصروا لظاها ولهيبها القوى وأَهوالها البالغة. كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} (¬1). وليتكلموا بما يزيدهم أَلمًا وحسرة قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (¬2). وليسمعوا ما يذيب نفوسهم فزعا وهلعا وقلوبهم خوفا ورهبة قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬3). وقيل يحصل لهم العمى والبكم والصمم بعد دخول النار لشدة سوادها، وقسوة أَهوالها. {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}: أي أن جهنم مستقرهم ومقامهم، يصلون العذاب فيها الدائم، وحتى يبقى شديدا أليما فإنه كلما خبت زادها الله سعيرًا ونارًا تلظَّى. 98 - {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}: أَى ذلك العذاب الشديد جزاءُ كفرهم في الدنيا بآياتنا القرآنية والكونية الدَّالة على البعث، دلالة بيِّنة لا لبس فيها ولا إبهام، أَو الدالة على صحة ما أَرسلناك به مطلقا، فيشمل ما ذكر من الدلالة على البعث الذى أنكروه أَشد الإِنكار، واستبعدوا وقوعه حيث قالوا: أَبعد أَن أَصبحنا ترابا أَو أجزاءً متفتتة تفرقت وتناثرت، أَبعد ذلك نبعث خلقا جديدا أَي بعثا جديدًا، تتلاقى فيه منا الأجزاءُ وتستقيم القامات. أَو المعنى أَنبعث مخلوقين على سبيل الإيجاد والتكوين مرة أُخرى؟ وقد رد الله على إِنكارهم الإعادة بعد الفناء بما يأتي من الآيات، فقال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية 53. (¬2) سورة الفرقان الآية 53. (¬3) سورة الفرقان. الآية 12.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} المفردات: {أَوَلَمْ يَرَوْا}: الرؤْية هنا علمية، والهمزة لنفي عدم علمهم وتحقيق أَنهم يعلمون، والوار عاطفة على فعل مقدر، والتقدير: أغَفلوا ولم يعلموا؟ وحاصل معنى الجملة أنهم قد علموا ... {خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}: المراد؛ خزائن رزق ربي ونعمه التي يفيضها على الموجودات كافَّة. {قَتُورًا}: أي مُبالغًا في التقتير والبخل، يقال: قتر يقْتِرُ واقتر وقتَّر: إذا ضيّق النفقة وقللها. التفسير 99 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ... } الآية. دأب المشركون على إنكار البعث مع وضوح أَدلته التي لا يُمارِى فيها إلا عنيد مكابر، ينكر الشمس وهي ساطعة؛ فنبههم الله تبارك وتعالى في هذه الآية، على قدرته العظيمة التي غفلوا عنها ولم يتفكروا في آثارها!

والمعنى؛ قد علموا أن من قدر على خلق السماوات والأرض من عدم، وعلى غير مثال سبق فهو قادر على أن يبعثهم ويعيد خلقهم، كما بدأَهم أول مرة، بل الإعادة أهون عليه كما قال جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). {وجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ}: أي وجعل سبحانه لبعثهم وإعادتهم، ميقاتًا محدودًا عنده لا يعلمه إِلا هو، وهو ميقات محتَّم مَجِيئُه، لا ينبغي لأحد الشكُّ فيه، فضلا عن إنكاره، وهو يوم القيامة، لكن المشركين الذين ظلموا أنفسهم، وكفروا بآيات ربهم، وجحدوا قدرته وحكمته - لكن هؤُلاه المشركين الظالمين، أصروا على إِنكار البعث مع قيام الحجة عليهم، جحودا وعنادًا، كما قال سبحانه: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا}: أي: فلم يرض هؤُلاء الكفرة الظالمون، إلا مُضيًّا في كفرهم وجحودهم، بعد أَن دمغتهم الحجة فأزهقت باطلهم. ولما بينت هذه الآية أن المشركين أفرطوا في العناد والكفر، جاءت الآية التي تليها، لتبين أن هَؤُلاءَ المشركين، أَفرطوا في الشح والبخل كذلك، فقال عز من قائل: 100 - {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ... } الآية. أَي قل يا محمد لهؤُلاء المشركين: لو أنكم تملكون التصرف في خزائن رزق الله لأمسكتم عن الإنفاقِ منها ولَبَخِلْتُمْ بها فلم تُعطوا أَحدًا شيئًا مخافة نفادها، مع أَنها لا تنفَد ولا تفرغ أبدًا؛ ولكن الإمساك والبخل مركوزان في طباع الإنسان إلا من وفقه الله وعصمه؛ قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 27 (¬2) سورة المعارج، الآيات: 19 - 22

ولما كان البخل والشح في طبيعة الإنسان وجِبِلَّتِهِ، قال سبحانه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}: أَي شديد البخل والحرص. وقد بلغت هذه الآية الكريمة من وصف الإنسان بالشح الغاية القصوى حيث أفادت أَنه لو استولى على خزائن رحمة ربه التي لا تحدّ ولا تنفَد، وانفرد بملكها دون مزاحم له - لأمسكها لشدة حرصه وبخله على عباد الله. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} المفردات: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}: أَي أدلةً واضحات، والمراد بها: المعجزات التسع الآتية. {مَسْحُورًا}: أي مختل العقل من أَثر ما سُحِرتَ. {بَصَائِرَ}: جمع بصيرة، وهي الحجة التي تُبَصِّر بالحق وتهدى إِليه. {مَثْبُورًا}: مُهْلَكًا، من ثيَر الله الكافر إذا اهلكه؛ أَو مصروفا عن الخير، مطبوعًا على الشر، من قولهم: ما ثَبرَكَ عن هذا؟ أي ما صرفك عنه ومنعك؟.

{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ}: أي فأراد أَن يزعجهم ليخرجهم من الأَرض. {لَفِيفًا}: أي جميعا. وأَصل اللفيف: الجماعة من قبائل شتَّى. التفسير 101 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... } الآية. لما حكى الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة ما حكى، من تعنت المشركين وعنادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم - سلَّاه سبحانه في هذه الآية وما بعدها, بما جرى لكليمه موسى عليه السلام مع فرعون، وما صنع سبحانه بفرعون وقومه. والمعنى: ولقد أيَّدْنَا موسى بتسع آيات من المعجزات الساطعة، والحجج القاطعة، على نبوته وصدقه فيما أَخبر به عن ربه، أرسلناه بهذه الآيات التسع إلى فرعون وقومه وهي - في أرجح الأقوال وأولاها بالقبول -: (1) عصاه التي كان يلقيها فإذا هي حَيةٌ تسعى. (2) ويده التي يدخلها في جيبه، ليخرجها بيضاءَ من غير سوء. والجَيْبُ: هو الفتحة التي في أعلى الثوب، تحت الذقن. (3) والسنون، والمراد بها: سنوات القحط والجدب، بسبب انقطاع الأَمطار وانخفاض ماء النيل، يقال مسَتْهُمْ سَنَةٌ، وأسْنَتُوا: إذا قحطوا وأَجدبوا. (4) ونقص الثمرات، بسبب كثرة العاهات والآفات. (5) والطوفان، بسبب المطر الغزير الذي غشَّى منازلهم ومزارعهم. (6) والجراد الذي قضى على الزروع والثمار. (7) والقُمَّل، وهو نوع من القُرادِ، كان يخالط طعامهم وملابسهم وأَجسامهم وقيل هو القمل المعروف. (8) والضفادع التي ملأت بيوتهم وطعامهم. (9) والدم الذي حل محل الماء؛ أَو هو الرُّعاف الذي أصابهم.

وقد تقدمت هذه الآيات كلها في سورة الأعراف مفصلة (¬1) فارجع إلى تفسيرها هناك. قال الحافظ ابن كثير وغيره من أَئمة التفسير: هذه الآيات التسع هي المرادة هُنَا، وهي التي شاهدها فرعون وقومه من أَهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودا كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (¬2). وهي غير الآيات التي أرسل بها - عليه السلام - إلى بني إسرائيل؛ من تظليلهم بالغمام، وإِنزال المنّ والسلوى عليهم، إِلى غير ذلك مما أرسل به بعد مفارقتهم بلاد مصر، مما لم يشاهده فرعون وقومه. والخطاب في قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ}: لمن يريد أَن يتحقق من صدق ما جاء به القرآن عن الآيات التي أَيد الله بها موسى حين أَرسله إِلى فرعون وقومه، أَي فاسأل بني إِسرائيل إِذ جاءَهم بها، فهم يعرفون مطابقتها لما جاءَ عنها في القرآن فإنه مصدق لما بين يديه من التوراة. وقيل في معنى الآية: سلهم يا محمد إِذ جاءَهم موسى بهذه الآيات، سؤال تقرير ليعرف اليهود صحةَ ما يقوله محمد اهـ. والظاهر الأول. ويجوز أَن يكون خطابًا لموسى عليه السلام على تقدير القول، أي: آتينا موسى هذه الآيات التسع فقلنا له: اسأل بني إسرآئيل، أَي اطلبهم يا موسى من فرعون, كقوله: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬3). وهناك أَوجه أخرى ذكرها الآلوسي في تفسيره. ثم هنا كلام مطويّ يشعر السياق به، ويدل المقام عليه. أَي فذهب موسى إلى فرعون وبلغه رسالة ربه، مؤيدا بالمعجزات الدالة على صدقه. ¬

_ (¬1) في الآيات 107، 108، 130، 133 (¬2) سورة النمل، الآيتان: 13، 14 (¬3) سورة الأعراف، من الآية: 105

{فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ}: في سخرية وكبرياء {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}: أي سُحِرت فاختل عقلك، ولذا اختل كلامك وادعيت ما ادعيت، وهذا كقوله: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (¬1). وقيل: {مَسْحُورًا} هنا معناه: ساحرا .. ويؤيده قوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} (¬2). 102 - {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ... } الآية. هذا رد كليم الله على عدوه وعدو الله، بعد أَن بلغ الجهد هو وأَخوه في دعوته، واستنفدوا كل قول ليِّن في سبيل تذكيره، خوفا من أن يفرط عليهم أو يطغى، وصبرا عليهما السلام صبر أُولي العزم من الرسل، فلم يزدد عدو الله إلا جحودا وعنادًا، مع أن هذه المعجزات لا يقدر عليها إِلا رب السماوات والأرض، رب موسى وهارون. هنالك قال موسى عليه السلام لفرعون - وقد يئس من إيمانه: لقد علمت يا فرعون أن هذه المعجزات من عند الله تعالى، أوجدها حججا ساطعةً علي صدقي فيما دعوتك إليه من الإيمان بمالك الملك ربي وربك ... {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}: المراد من الظن هنا العلم، وقد عبر به موسى عنه تلطفًا مع فرعون، أي وإني لأعلم أنك يا فرعون هالك، أَو مصروف عن الخير إلى الشر بسوء فعلك وطغيانك. وقرىء: {لَقَدْ عَلِمْتُ} بضم التاء .. فعلى هذه القراءة يكون موسى قد ردّ بها عن نفسه دعوى أَنه ساحرٌ أو مسحورٌ كما زعم فرعون عدو الله، أَي قال موسى لفرعون لقد علمت أنا حَقّ العلم أَن الذي أنزل هذه الآيات هو خالق السماوات والأرض ومدبرهما، وأننى لست بساحر ولا مسحور كما زعمت: وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالآيات التسع: الأصول العامة التي أنزلها الله في الكتب الإلهية للعقائد والشرائع السماوية كلها، وجعلها مشتركة بين ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، من الآية: 27 (¬2) سورة الشعراء، من الآيتين: 34، 35

جميع الرسالات والنبوات, وإليها يشير قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. ويؤيد هذا ما رواه جمهرة من أئمة الحديث، عن صفوان بن عسَّال رضي الله عنه أن يهوديَّيْن قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله, فأتياه صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئًا؛ ولا تزنوا؛ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ ولا تسرقوا؛ ولا تسحروا؛ ولا تأكلوا الربا؛ ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله؛ ولا تقذفوا محصنة؛ ولا تفِرُّوا من الزحف - وعليكم يا يهود خاصة ألا تعتدوا في السبت - فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أَنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا: إِن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا أَن تقتلنا اليهود (¬1). 103 - {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا}: أي استبد بعدو الله مكرُه، فأراد أن يزعج موسى وقومه ليخرجهم من أرض مصر التي هم بها؛ أو من الأرضى جميعا، ليستأصلهم فلا يُبقى منهم أحدا، فعكسنا عليه مكره، فأغرقناه ومن معه، فلم نبق منهم أحدا. ونجيناه ببدنه ليكون لمن خلفه آية (¬2). وبهذا أخرجناه من أرضه أفظع إخراج {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (¬3). 104 - {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ... } الآية. وقلنا من بعد إغراق فرعون - علي لسان موسى - لبنى إسرائيل، الذين أراد فرعرن استفزازهم - قلنا لهم: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أَن يخرجكم منها. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}: فإذا جاء وعد الدار الآخرة بعد قيام الساعة: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}: جئنا بكم أَنتم وهم مختلطين، لنحكم بينكم، ونميز سعداءكم من أشقيائكم. ¬

_ (¬1) انظر تفسير: الطبري، والقرطبي، والآلوسى. (¬2) اقتباس من الآية: 92 من سورة يونس. (¬3) سورة فاطر، من الآية: 43

قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا بشارة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، مع أَن السورة مكية نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} (¬1). ولهذا أَورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة - على أَشهر القولين، وقهر أَهلها ثم أطلقهم حلمًا وكرما، كما أَورث الله القوم الذين كانوا يُستضعفون من بني إِسرائيل في مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬2). {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} المفردات: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ}: الحق؛ الأمر الثابت الذي لا يتبدل ولا يزول، ضد الباطل. {فَرَقْنَاهُ}: أَنزلناه مفرقا منجما، أو أَنزلناه مبينا موضحا. {عَلَى مُكْثٍ}: أَي على تُؤَدة وتأنٍّ. {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ}: يقعون على أذقانهم. {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}: أي إِن الشأن في وعد ربنا أنه كائن لا محالة. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 76 (¬2) سورة الشعراء، الآية: 59

التفسير 105 - {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... } الآية. قال الآلوسي: هذا عود إلى شرح حال القرآن الكريم، فهو مرتبط بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}. وهكذا العرب، تأخذ في شيء وتستطرد منه إِلى آخر، ثم إلى آخر .. ثم تعود إلى ما ذكرته أَولًا، والحديث شجون. والمعنى: وبالحق أَنزلنا هذا القرآن المجيد من اللوح المحفوظ، وبالحق نزل على عبدنا ورسولنا محمد، فهو مؤيد بالحق محفوظ بحفظنا له وحراستنا إِياه، حاله إِنزاله على رسولنا محمد، وما بعدها إلى أَنْ تقوم الساعة، لا تعتريه زيادة عليه ولا نقص منه؛ وصدق منزله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). ويقول: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2). وقيل: المراد بالحق؛ الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله ونزوله. والمعنيان متلازمان. وأَيًّا كان المعنى المراد، فلا ريب أَن هذا الكتاب الحكيم مشتمل على دلائل التوحيد، وصفات الجلال والإكرام؛ وعلى تعظيم الملائكة، وإقرار النبوات، وإثبات المعاد؛ وعلى أصول الإِسلام والشرائع الثابتة التي لا تتبدل ولا تُنسخ بحال من الأحوال، ولا في زمن من الأزمان. فلهذا استحق أَن يصفه الباري سبحانه، بأنه أَنزله بالحق محروسًا بعنايته حتى وصل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 9 (¬2) سورة فصلت، الآية: 42 (¬3) سورة الشعراء، الآيتان: 210، 211

ولما بين سبحانه حال القرآن الكريم في إنزاله ونزوله، بيّن حال من أنْزلَ القرآن عليه فقال مخاطبًا إياه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}: أَي: وما أرسلناك - يا محمد - إِلى الناس كافة إلا مبشِّرا للمطيعين منهم بالثواب، ومنذرًا للعاصين منهم بالعقاب، فما عليك إلا البلاغ بالتبشير والإنذار، وليس عليك إِكراه أَحد منهم في الدين، فقد تبين الرشد من الغي. 106 - {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ... } الآية. أي وأنزلنا عليك - يا محمد - قرآنًا، عظيمًا أَوحيناه إِليك وأيدناك به - أَنزلناه منجمًا مفرقًا، على حسب الأحداث والمناسبات؛ لتبلِّغه الناسَ على تؤدة وتأنٍّ، ليكون أيسر للحفظ، وأعون على الفهم، وأبين لوجوه الإعجاز به، في هدايته وبشارته ونذارته، ولذا أكد هذا المعنى فقال: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}: أَي نزلناه بحسب الحوادث والمصالح، حيث لم ينزل جملة واحدة، للحِكَم التي مر بيانها. وقد نزل القرآن الكريم مفرقا حسب الحوادث المقتضية لنزوله في مدة الرسالة المحمدية، وهي ثلاثة وعشرون عاما تقريبا. وهذا التنزيل المفرق خاص بالقرآن الكريم، دون سائر الكتب السابقة، لأنه أنزل على خاتم النبيِّين والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أَجمعين، فكان لهذا آخر كتاب أُنزل من عند الله ليبقى حتى تقوم الساعة، وقد تكفل الله بحفظه، وجعل من أسباب حفظه نزوله مفرَّقًا حسب الوقائع، حتى يكون أَيسر لحفظه؛ وأَعون على فهمه، وأَدعى إلى الحرص على نصوصه، أَما غيره من الكتب السماوية فقد نزل كل منها جملة واحدة، ولم يتكفل الله تعالى بحفظها كما تكفل بحفظ الكتاب العزيز، لأنها كانت موقوتة بأزمنتها، ومن هنا وقع فيها التغيير والتبديل بعد أَن وضح الحق، وأسفر الصبح لذى عينيين. ولما أصر أَهل مكة على الكفر بالقرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى تسلية لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ووعيدًا للكافرين وتهديدا لهم:

107 - {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ... } الآية. أي قل أَيها الرسول لهؤُلاء الكافرين بهذا القرآن العظيم: سِيَّانِ إيمانكم بهذا القرآن وعدم إيمانكم به، فإن إيمانكم به لا يزيده كمالًا، وعدم إيمانكم به لا يورثه نقصًا، فهو حق في نفسه, أنزله الله تعالى ونوه بذكره في سالف الأزمان، في كتبه المنزلة على رسله - ولذا قال: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}: المقصود بالذين أوتُوا العِلْم مِن قبل القرآن الكريم، مؤمنو أَهل الكتاب من علمائهم، كعبد الله بن سلام وأَضرابه. والمعنى: إن العلماء الذين قرءُوا الكتب السماوية من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا حقيقة الوحى وأَمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، ورأَوْا فيها نعتك ونعت ما أنزل إليك، هؤلاء العلماءُ إذا يُتْلَى القرآن عليهم يقعون على وجوههم ساجدين لله تعالى، تعظيما لأمره، وشكرًا لله سبحانه على إِنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك، ومن الحق الذي جئت به. والتعبير عن سجودهم على وجوههم بخُرورِهِمْ للأذقان، للإِيذان بكمال تذللهم وخضوعهم وشكرهم لله على إنزال هذا الكتاب العظيم. وقيل المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض. قال الآلوسي: وهو وجه حسن جدًا. 108 - {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}: أَي: ويقولون وهم يتضرعون إِلى الله تعالى في سجودهم ودعائهم: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} أَي تنزه ربنا تنزيها عن خلف وعده، وعن كل ما لا يليق به بما يفتريه الكفرة، إن الشأن في وعد ربنا أَنه كائن لا محالة. ولا يخفى ما في عنوان الربوبية، وإضافتهم أنْفسَهم إليه - مكررًا - من اعتزازهم بالعبودية لله تعالى.

وفي الآية دليل على استحباب التسبيح في السجود كما دلت السنة علي ذلك، ففي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أَن يقول في سجوده وركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي". 109 - {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}: ويقعون على وجوههم ساجدين لله وهم يبكون، ويزيدهم القرآن تواضعا لله وخضوعا، كما يزيدهم عليها ويقينا باللهِ تعالى. وإِنما كرر الخرور للأَذقان لاختلاف السبب , فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى وشكره على إِنجاز وعده؛ والثاني لشدة تأثرهم باستماع القرآن ومواعظه. ودلت الآية على مدح البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه. من خشية الله تعالى، ولو كان التالى للقرآن مصلّيًا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَلجُ النارَ رجل بكى من خشية الله، حتى يعود اللبن في الضَّرع، ولا يجتمع غبارِ في سبيل الله ودخان جهنم" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن عبد الله ابن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: "أَتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ولجوفة أَزيز كأزيز المِرجَل من البكاءَ (¬1) ". {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} ¬

_ (¬1) قال النووي في رياض الصالحين: حديث صحيح، رواه أبو داود، والترمذى في الشمائل, بإسناد صحيح، والأزيز: صوت البكاء، والمرجل - كمنبر -: القدر.

المفردات: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}: أي سَمُّوا الإِله باسم الله أَو باسم الرحمن، فهو مسمًّى بهما معًا، أَو نادوه بأي الاسمين شئتم، فالدعاءُ يطلق على التسمية وعلى النداء. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}: المراد ولا تجهر بالقراءة في صلاتك. {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}: أي ولا تُسِرَّ بها. والمخافتة ضد المجاهرة، يقال: خفت الرجل بصوته: إِذا لم يرفعه، وخافت بقراءته: إِذا لم يرفع صوته بها. وقيل الصلاة هنا: الدعاء. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: أَي واقصد أو اسلك بين الجهر بقراءتك والإسرار بها طريقا وسَطًا. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}: أَي وليس له سبحانه ناصر يحميه من الذل؛ لأنه عزيز بنفسه. {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}: أَي وعظمه تعظيما يليق به. التفسير 110 - {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ... } الآية. أَخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا الله يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إِلى هذا الصابئ: ينهانا أَن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين: فنزلت". وقيل: إن اليهود قالت: ما لنا لا نسمع في القرآن اسمًا هو في التوراة كثير؟ يعنون الرحمن: فنزلت. والمعنى: قل يا محمد لهؤُلاء المشركين أَو اليهود: إِن هذين الاسمين الكريمين: الله والرحمن، اسمان لمسمًّى واحد هو الإله المعبود بالحق جل جلاله، فسمُّوه أَو نادوه أَو اذكروه بكل منهما أو بأيِّهما.

وليس الدعاءُ مقصورا على هذين الاسمين، فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1) وقال صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا - مائةً إلا واحدا - من أحصاها دخل الجنة، إنه وتْر يحب الوتر". ولم تذكر الأسماءُ التسعة والتسعون في رواية الشيخين، ولكنها ذكرت في رواية الترمذي وابن حِبّان والحاكم وغيرهم. وهذا نصُّها في جامع الترمذي (¬2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحدة (¬3) من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إِله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤْمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المُقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى المتين الولى الحميد المُحْصِي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤَخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالى المتعالى البر التواب المنتقم العفو الرؤُوف مالك الملك ذو الجلال والإكرّام المُقْسِط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور". وليس المقصود من الحديث حصر أسمائه الحسنى - تبارك وتعالى - في هذه التسعة والتسعين، بدليل حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد وصححه ابن حِبان: "أَسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أَنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ... " الحديث (¬4). وإنما المقصود بشارة من حفظ هذه الأسماء، ودعا الله بها بأنه من أهل الجنة، والحكمة في الاقتصار على هذه العدَّة: أنها ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 180 (¬2) اختلفت الروايات اختلافا كثيرا في سرد الأسماء، ورواية الترمذي هذه هي أقرب الروايات إلى الصحة، وعليها عول غالبا من شرح الأسماء الحسنى كما قال الحافظ كتاب الدعوات من فتح البارى. (¬3) أي غير تسمية واحدة. (¬4) تمامه: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب

الأسماء الجوامع، الدالة على ما عداها، مما لا يحصيه إلا الله - تباركت أسماؤه وجلت آلاؤُه، وأنها جمعت من معاني الجلال والكمال ما لم يجمعه غيرها. والحكمة في تخصيص هذين الاسمين بالذكر، أن لفظ الجلالة عَلم على الذات الأقدس، واسم الرحمن أنسب بالدعاء. فقد كتب على نفسه الرحمة. هذا، وقد اتفق الثقات من العلماء على أن أسماء الله تعالى توقيفِيَّة، فلا تجوز تسميته إِلا بما سمى به نفسه: مما جاء في كتابه عز وجل، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: روى الشيخان وغيرها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم مخْتَف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسُبوا القرآن {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}: عن أصحابك فلا تسمعهم حتى يأخذوا عنك. {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}: بقول بين الجهر والمخافتة. اهـ. والمراد بالصلاة القراءة التي هي أَحد أركانها. والظاهر أَن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها. ويروى أَن أَبا بكر رضي الله عنه كان إذا صلى بالليل خفض صوته جدا ويقول: أناجى ربي وقد علم حاجتى؛ وكان عمر رضي الله عنه إذا صلى من الليل رفع صوته جدًا ويقول: أَطرد الشيطان وأوقظ الوسنان. فلما أَنزل الله هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ارفع من صوتك شيئًا، وقال لعمر أخفض من صوتك شيئًا فالقراءة بين المخافتة والجهر هي الوسط، وخير الأمور أَوسطها، ومن الأحكام العامة لدى الخاصة والعامة: الجهرُ في ركعتى الفجر والجمعة والعيدين، وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء. ولا ريب أَن الجهر في هذه الصلوات من الشعائر المتواترة في الشريعة الإِسلامية.

وقيل: الصلاة هنا بمعنى الدعاء: لما أَخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نزلت هذه الآية: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} في الدعاءَ". ومعروف أَن الصلاة في أَصل اللغة هي الدعاءُ. ولما أَثبث سبحانه الأسماء الحسنى لذاته الكريمة نزه ذاته عن النقائص، فقال: 111 - {وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ... } الآية. وهي رد لمزاعم اليهود والنصارى وبنى مُليح من كفار العرب، إِذ قالوا عزير ابن الله! والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله؛ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. ونفيُ اتخاذ الولد ظاهر في نفى التبني، ويعلم منه نفى ولد الصلب عنه سبحانه من باب أَولى. وقد نفى ذلك صريحا في قوله سبحانه: {لَمْ يَلِدْ} (¬1) وقوله عز وجل {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}؟ (¬2). {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}: فكيف يتخذ المشركون معه آلهة يعبدونها، مع اعتقادهم أنه هو الذي خلق هذا الملك العظيم وحده، ودبره بحكمته، دون سواه، كما حكى الله عنهم، يقول سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬3). {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}: أَي ليس له سبحانه ناصر يحميه من الذل؛ لأنه سبحانه عزيز بنفسه؛ فليس بحاجة إِلى أن يوالى أَحدا أو يخالفه، من أجل مَذلَّةٍ به، ليدفعها عنه. وفي حمده تعالى على هذا التنزيه إِيذان بأن المستحق للحمد العظيم، مَن هذه صفاته دون غيره، ولذا عطف على الأمر بحمده الأمر بتكبيره فقال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}: أَي وعظمه تعظيما بليغا مؤَكدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه. والتكبير، أبلغ كلمة للعرب في معنى التعظيم والإجلال. ¬

_ (¬1) سورة الإخلاص، من الآية: 3 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 101 (¬3) سورة الزمر، من الآية: 38

وفي الآية تنبيه على أن العبد - وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في الطاعة والتحميد - ينبغي أَن يعترف بالقصور في حقه، والتقصير في حمده وشكره، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أَثنى على نفسه. هذا وَرَوى عَمْرُو بنُ شعيب عن أَبيه عن جده قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أَفصح الغلام من بني عبد المطلب، علمه هذه الآية: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى آخرها" وسماها عليه الصلاة والسلام آية العز - كما أَخرج أَحمد والطبراني عن مُعاذ بن جبل رضي الله عنه.

سورة الكهف

سورة الكهف تمهيد: سورة الكهف - ويقال لها سورة أَصحاب الكهف - مكية. وهي الثامنة عشرة في ترتيب المصحف وآياتها عشر ومائة. وقد افتتح الله تعالى كتابه بالحمد في سورة الفاتحة ثم افتتح بالحمد كذلك أربع سور مكيات، اشتملت كل سورة منهن على أصول الإسلام الثلاثة: التوحيد، والرسالة؛ والبعث، وهي أهم مقاصد القرآن المجيد. الأولى: الأنعام، وهي آخر سورة في الربع الأول من هذا الكتاب العزيز، والثانية سورة الكهف وهي مشتركة بين آخر الربع الثاني، وأول الربع الثالث، والثالثة والرابعة سبأُ وفاطر، وهما آخر الربع الثالث. ومما يذكر في مناسبتها لسورة الإسراء: افتتاح تلك بالتسبيح، وافتتاح هذه بالتحميد. والتسبيح والتحميد أخوان مُتلَازمان في ميزان الأعمال، وفي كثير من الأحوال. ومن هذا التآخي سبحان الله والحمد لله؛ ومنه قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (¬1). ومن المناسبات التشابه بين اختتام تلك وافتتاح هذه؛ فإن في كل منهما حمدًا، وهناك مناسبات أخرى يدركها القارئ. ابتدأ الله تبارك وتعالى هذه السورة الكريمة بالثناء على ذاته المقدسة؛ لإنزاله كتابه العزيز على عبده ورسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، يهدي به إِلى صراط مستقيم، نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤْمنين، ولما حمَّل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه من الحزن على إعراض قومه - ما لا يُطيق - قال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (6) يعاتبه على إجهاد نفسه فرق طاقتها رحمةً به، فما عليه إلا البلاغ، وقد بلغ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (29). ثم قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قصصا من إنباء الغيب، في كل قصة منها عبرة وتذكرة، وتقريرٌ لمقصد من مقاصد القرآن الكريم في الدعوة إِلى الهدى والحق: ¬

_ (¬1) سورة النصر، من الآية: 3

(1) وأولى هذه القصص: قصة أصحاب الكهف الذين سميت باسمهم، واختصت بذكرهم فلم تذكر في سورة سواها. وفيها يتجلى الإيمان وآثاره إذا خالطت بشاشته القلوب، ولم تخش إلاَّ علَّام الغيوب. وإذًا فلا ترضى بغير الله بديلا، وقد ذكر الله تبارك وتعالى قصة أصحاب الكهف برهانا عمليا حقا على أَن البعث حق في يوم لا ريب فيه {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (21). (2) وثانية القصص: قصة الرجلين صاحبي الجنتين: أَحدهما غنى كافر يعتز بماله وبنيه، ويتكبر على أَخيه؛ ويكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم سواه رجلًا، ويظن أَن جنته لن تبيد أبدا. وصاحبه فقير صابر، راض بقضاء الله يرى أَن رضا الله كنز لا يفنى، وعز لا يبلى، فكانت العاقبة له، والندم والخسران لصاحبه، الذي اغتر واستكبر {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (44). (3) والثالثة: قصة أبي البشر آدم عليه السلام مع عدو الله وعدو آدم، وفيها التحذير منه ومن ذريته وأنصاره وشيعته. ومنها أن إِبليس كان من الجن، ولكنه انضم إلى الملائكة فصار كأنه منهم في عبادته لله وطاعته له, فلما أَمره الله تعالى بالسجود لآدم مع ملائكته، غلب عليه غروره وكبرياؤُه، فأبى واستكبر، فحذر الله عباده منه ومن فتنته، وبيّن أنه عدو لأبيهم من قبل، فمن المحال إن يكون صديقًا لأحد من ولده {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (50) ولا يخفى أن التنبيه على أن إبليس كان من الجن، خاص بهذه السورة، لم يذكر في غيرها من السور التي ذكرت قصة سجوده لآدم عليه السلام، وسيأتي تحقيق المراد من قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}. (4) والرابعة: قصة موسى كليم الله مع العبد الصالح، وهي مما اختصت به هذه السورة أيضًا، فلم تذكر في سورة سواها. وفيها: أَن عالِمَ الغيب والشهادة سبحانه، يُظهر مَن شاء من الصالحين من عباده - على لَمَحات من غيبه المكنون، ويأذن لهم أن يبوحوا بها في حدود إِلهية لا يتجاوزونها, ولحكم ربانية قد أحاط بها؛ لئلا يَدعِي مُدع أن الله أعلمهُ شيئًا من غيبه، إِلا إِذا جاء بسلطان بيِّن من لدن عالم الغيب والشهادة، وحسبنا بر

ذلك أَن العبد الصالح لم يعرِفْ موسى عليه السلام إلا بعد أَن عرفه موسى بنفسه حين التقيا بمجمع البحرين وقال له العبد الصالح: أَنت موسى نبى بني إسرائيل؟ قال: نعم، كما في حديث الصحيحين - ولو كان يعلم من الغيب غير اللمحات التي أطلعه الله عليها لعرف موسى قبل أَن يسأله مستفهمًا. وفي قصة موسى والعبد الصالح: فضل الرحلة في طلب العلم، واحتمال مشاق الأسفار في طلبه؛ وفيها تواضع المتعلم للمعلم، ولو كان المتعلم أَفضل من معلمه؛ وفيها صبر العالم ورفقه بمن يعلِّمه، وتنبيهه إِذا غَفَل, وتحذيره أَن يعود إلى مثل ما غفل عنه؛ وفيها أَن علم الله تعالى لا نهاية له، وأَن العالم إِذا سئل: من أَعلم الناس؟ لا يقول: أَنا، بل يرد العلم إلى الله تعالى، ولو كان نبيا ورسولًا من أولى العزم ... وسيأتي بيان مأخذ ذلك في هذه القصة. (5) والقصة الخامسة: قصة ذي القرنين، وقد مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيءٍ سببا فساح في الأرض، واستعان بهذه الأسباب على بسط سلطانه بالعدل والإِحسان، حتى بلغ مغرب الشمس ثم مشرقها - في رأْى العين - ودعا إِلى الله في كل رحلة يرحلها. وكان غياثا للمظلومين وعونا لهم، وكان مثلًا صالحا في كل أَقواله وأَعماله وهدايته إلى الخير، حتى فتح الله به مغاليق الأمور، وأَصلح كثيرا من الفساد في الأرض. ثم كان من آيات الله على يديه أن أقام سد يأجوج ومأجوج بين جبلين مرتفعين ارتفاعا عظيما، وهنالك وجد {قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (93) استغاثوا به من فساد يأجوج ومأجوج وإغاراتهم التي لا تنقطع: فبنى لهم هذا السد الحصين المنيع، دون أَن يأخذ منهم أَجرا، قائلا: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (95). وهذا مثال من المُثُل العليا في التعاون على البر والتقوى، ابتغاءَ وجه ربه الأعلى. ولما أَتم الله على يدي ذى القرنين بناء هذا السد الحصين المنيع، الذي عجزت يأجوجُ ومأجوجُ أَن يعلُوه، لعظم ارتفاعه وملاسته، أَو ينقبوه، لعظم تخانته وصلابته - لما أتم الله ذلك على يديه - حمد الله وشكره قائلًا.: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (

وقد اشتملت هذه السورة أَيضًا على مقاصد أخرى لا تنفرد بها، بل يشاركها فيها غيرها من السور. ومن هذه المقاصد: التحذير من فتنة الحياة الدنيا وزينتها {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}. ثم ختمت السورة الكريمة بالحث على إعداد العدة للقاء الله تبارك وتعالى بالعمل الصالح - ونعم اللقاءُ لقاؤُه - {فَمَنْ كَانَ يَرْجُولِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}. بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} المفردات: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}: العوج - بكسر العين وفتحها -: الميل والانحراف عن القصد حسيا كان أَو معنويا. وقيل يختص مكسور العين بالمعاني، ومفتوحها بالأعيان: فتقول: في رأيه أَوْ قولِه عِوج، وفي عصاه عوَج. والمراد نفى العيب والخلل عن القرآن الكريم لفظا ومعنى. {قَيِّمًا}: أي مستقيما، أو كفيلا, أَو مُهَيْمِنا. {لِيُنْذِرَ}: الإنذار؛ التحذير مع التخويف. ضد التبشير.

{بَأْسًا}: أَي عذابا. وأَصل البأس: الشدة في الحرب. {أَجْرًا حَسَنًا}: أَي جزاء كريما، والمراد الجنة ونعيمها الدائم. التفسير 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ... } الآية. أي الثناءُ الجميل مستحق لله الذي أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم كتابه المعروف بالكمال من بين الكتب السماوية، ولَو لَم يُضَف إِلى مُنزله جل وعلا. وفي حمده تعالى ذاتَه المقدسةَ على إنزال هذا الكتاب العزيز - تنويه بشأن ذلك الكتاب وعلوّ مكانه. وفي التعبير عن الرسول عليه الصلاة والسلام بالعبد، مضافا إلى ضمير الجلالة - تشريف له صلى الله عليه وسلم أَي تشريف, وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدًا لله الذي أَرسله، لا كما زعمت النصارى في شأن عيسى عليه السلام. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}: أَي ولم يجعل الله سبحانه في كتابه شيئًا من العوج: بنوع اختلال في نظمه، أو تناقض أو اضطراب في معناه، أَو انحراف عن دعوته إلى الهدى والحق، بل جعله تعالى قَيِّمًا أَي معتدلا مستقيما كما قال: 2 - {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ... } الآية. وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة - وربما كان في أَحدهما غنى عن الآخر - فائدة الجمع بينهما التأكيدُ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، ولكنه لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والبحث. أو جعله تبارك وتعالى مهيْمِنا على سائر الكتب السماوية، مبينا للحق فيها قبل تحريفها، أو جعله - جلت آلاؤه - كفيلا بمصالح العباد الدينية والدنيوية وببيانها لهم، كشأن القيم على الأمور الكفيل بها, لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد بالقسطاس المستقيم، لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد، ولا تفريط فيه حتى يحتاج إلى كتاب آخر يكمله؛ فكان ذلك وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال.

وصدق منزله إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) ولا عَجَب إذن أَن يكون هذا الكتاب المبينُ خاتمَ الكتب، كما أَن من أَنزله الله عليه هو خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليهم أَجمعين؛ ولا شك أن سلامته من العوج برهان على أنه من عند الله، وشاهد على نبوة من أنزل عليه، وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). أَنزل الله تعالى كتابه لينذر الكافرين به ويحذرهم عذابا شديدًا صادرًا من عنده، عاجلا أَو آجلا جزاء كفرهم بكتابه وتكذيبهم له. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}: أي ويبشر المؤمنين بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم وأَيدوه بالأعمال الصالحة المبينة في تضاعيفه، يبشرهم - بأن لهم أجرًا حسنًا، والمراد به الجنة وما فيها من النعيم المقيم والثواب العظيم، ويؤيد كونَ المراد بالأجر الحسن الجنة. قوله عز من قائل: 3 - {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}: أي مقيمينَ في أجرهم وهو الجنة خالدين فيها أبدًا، لا يتحولون عنها ولا يزولون منها؛ إذ لا انتهاء لمكثهم وخلودهم، فضلا من الله ونعمةً {وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬3). وتقديم الإنذار على التبشير، للعناية بزجر الكفار عما هم عليه من كفر وضلال مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية، وذلك نوع من بديع الكلام، بعد صدق المعنى وجزالته. ومصاحبة الأعمال الصالحة للإيمان الحق شرط لنيل الأجر الحسن، فإن الإيمان من غير العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى ورضيه، كالشجر الذي لا ظل له ولا ثمر كما أن العمل الصالح الذي لا يُبنى على الإيمان الحق، وفق ما جاء به الكتاب المبين، وبعث به خاتم النبيين - لا وزن له عند الله تعالى. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 38 (¬2) سورة النساء، من الآية: 82 (¬3) سورة الجمعة، من الآية: 4

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} المفردات: {كَبُرَتْ كَلِمَةً}: أَي عظمت مقالةً في الشناعة والقبح مقالتهم هذه: والكلمة واحدة الكلم، وكثيرا ما يراد بها الجملة من الكلام أو الجمل منه، كما في قولهم: أَلقى فلان كلمة وربما كانت خطابا طويلًا. {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: أي فلعلك قاتلها أو مهلكها. وحرف الترجي {لَعَلَّ} هنا، يراد به النهي عن الحزن على عدم إيمان قومه رحمة به. {أَسَفًا}: أَي حزنا شديدًا وغما. التفسير 4 - {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}: أي: ويحذر الله سبحانه من بين الكافرين الذين استحقوا عذابه الشديد السابق - هؤُلاء الفرق الثلاث، الذين نسبوا لله ولدا، وهم: (1) كفار العرب المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله! (2) واليهود الذين زعموا أن عزيرا ابن الله! (3) والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله! وإنما خص الله تبارك وتعالى هؤُلاء الفرق بهذا الإنذار مع دخولهم في عموم الإنذار السابق؛ لشدة إمعانهم في الكفر، وقبح اجترائهم على الله عز وجل. والمنذر والمبشر

في الآيات الثلاث هو الله تبارك وتعالى؛ أو الكتاب الكريم، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نزّه الله تبارك وتعالى ساحته، وحمى حماه، عن مفتريات هذه الفرق الضالة المضلة، فقال عز من قائل، مكذبا لهم تكذيبا قاطعًا: 5 - {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ... } الآية. أي ليس لهؤلاء الكفرَة الفجرَة، باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا، شيء من علم ألبَتَّة؛ وليس لأبائِهم وأَسلِافهم الذين قلدوهم أثارة علم كذلك، بهذا الاتخاذ المزعوم! أَوليس لهم علم بما قالوه: أَصواب هو أَم خطأ، بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر ولا روية، كما في قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1). أوليس لهم علم، بفظاعة ما قالوا وقبح موقعه من الشناعة، كما في قوله سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} (¬2). وهذا هو الأنسب بقوله جل من قائل: {كَبُرَتْ كَلِمَةً}: أي عظمت مقالتهم هذه مقالة في الكفر والافتراء، لما فيها من نسبته تبارك وتعالى إِلى ما لا يليق بجلال كبريائه. وقوله جل من قائل: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: صفة لكلمة، تفيد استعظام اجترائهم على التفوه بها، فإن كثيرًا مما يوسوس به الشيطان، وتحدث به النفس، لا يمكن أَن يُتفوَّه به، بل إنه يُطرح ويصرف عنه الفكر، فكيف بهذا المنكر الذي لا مستند له إلا مجرد افتراء الكذب؟! ولهذا قال وقوله الحق: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}: أَي ما يقولون إِلا قولًا هو الكذب بعينه، فلا يدخل تحت إمكان الصدق بتَّة. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 100 (¬2) سورة مريم، الآيات: 88 - 92

6 - {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}: سبب النزول: قال الآلوسي: اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أَبا جهل بْنَ هشام والنضر بن الحارث وأُميةَ بن خلف ... في نفر من قريش - اجتمعوا وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد كبُرَ عليه ما يرى من خلاف قومه إِياه، وإِنكارهم ما جاء به من النصيحة، فأحزنه ذلك حزنا شديدًا! فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}. الآية. وقال ابن جرير الطبرى رحمه الله في تفسير هذه الآية: وهذه معاتبة من الله عزَّ ذكره على وَجْده - صلى الله عليه وسلم - بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان باللهِ والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما اهـ. شُبهت حاله صلى الله عليه وسلم، في شدة حزنه على إعراض قومه وتوليهم عن الإيمان بالقرآن - شبهت حاله هذه - بحال من يُتوقع منه إهلاك نفسه على عدم تحقق أمر أهمه، فقيل له رحمة به وإِشفاقا عليه: لا تهلك نفسك حسرة عليهم، بل هون عليك، وبلغ رسالة ربك، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. ومثل هذه الآية في تسلية الله له رحمة به، قولُه سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬1). وأمثال هذه التسلية مَبْثُوثَة في القرآن الكريم، من رب به رحيم. والمعنى الإجمالى للآية: فلعلك أيها الرسول مهلك نفسك أسفا، عقب انصرافهم عنك، إن لم يومنوا بهذا القرآن الذي هو حديث الله وكلماته، ووحيه إلى عباده - ليهتدوا به. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 3

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} المفردات: {زِينَةً لَهَا}: أي بهجة لها وجمالًا. {لِنَبْلُوَهُمْ}: أي لنعاملهم معاملة المختبر بتكليفهم بشرائعنا. {لَجَاعِلُونَ}: لمُصَيِّرون. {صَعِيدًا جُرُزًا}: ترابا، لا نبات فيه، يقال: جُرِزت الأرض: إذا ذهب نباتها. بقحط أو جراد. التفسير 7 - {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ... } الآية. لما تضمنت الآية السابقة نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، عن إجهاد نفسه فوق طاقتها - رحمة به - جاءَت هذه الآية والتي تليها تسلية له صلوات الله وسلامه عليه وتسكينا لأسفه الشديد وحزنه، لما جاء فيها من أنهم مجزيُّون على أعمالهم. والمعنى: إنا أنشأنا جميع ما على الأرض: حيوانا كان أَو نباتا أَو معدنا - أنشأناه زينة لها ولأهلها، ينتفعون به ويتمتعون إلى حين. {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}: أي لنعاملهم معاملة المختبر، ثم نجزىَ كلًّا منهم علي حسب عمله وإخلاصه لله فيه، فكل العباد نبتليهم بالتكاليف ونحاسبهم عليها. فمن خالف ربه وعصاه عوقب علي عصيانه ومخالفته؛ ومن أحسن أثيب على إحسانه {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 8

وحسْنُ العمل في هذه الدنيا صرفُها إلى ما ينبغي، واتخاذُها وسيلة إلى معرفة خالقها، والتمتعُ بالحلال الطيب منها، وشكر الله - جلت آلاؤُه - على نعمه فيها، مع الحذر كل الحذر من فتنتها والاغترار بها. واتخاذها وسيلة إلى الشهوات والمفاسد، شأن أرباب الهوى، ولا ريب أن مراتب الحسن والقبح متفاوتة. ويجمع كل ما قدمناه - بل يزيد عليه - ما حكاه الله تعالى في قصة قارون إذ قال له قومه وقد خرج عليهم في زينته: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (¬1). 8 - {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}: أَي وإِننا لمصيرون - حتمًا - ما على الأرض من المخلوقات قاطبة - عند تناهي عمر الدنيا - ترابًا لا نبات فيه ولا بهجة، من بعد ما كان يتعجب من بهجته النُّظار، وترنو إليه الأبصار؛ وفي هذه الآية الكريمة تكميل لسبب نهيه صلى الله عليه وسلم عن إجهاد نفسه الرحيمة فوق طاقتها؛ كأن الله تعالى يقول له: لا تحزن أَيها الرسول بما عانيت من تكذيب قومك لما أنزلنا عليك، فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها، اختبارًا لأهلها؛ وسينتهي العُمران فيها إلى خراب، والحياة فيها إلى موت، ثم نجزي كل نفس بما أسلفت, وسننتقم لك منهم. ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيتان: 76، 77

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)} المفردات: {أَمْ}: معناها هنا: بل، التي للانتقال من حديث إِلى حديث، مع همزة الاستفهام المتضمنة معنى النهي. {حَسِبْتَ}: أي ظننت؛ أَو علمت، من الحسبان بمعنى الظن أو العلم، وقد استعمل في كل من المعنيين. {الْكَهْفِ}: النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن متسعًا فهو الغار. {وَالرَّقِيمِ}: هو اللوح الذي رقمت فيه أسماءُ أصحاب الكهف، أو قصتهم؛ قيل كان من حجارة، وقيل كان من رصاص. {الْفِتْيَةُ}: جمع فَتِى بوزن صبىّ؛ وهو الشاب الحَدَث القوي. من الفَتَاء، وهو الشباب وزنًا وَمَعْنًى، أو من الفتوة، وفيها معنى الشهامة والنجدة. {وَهَيِّئْ}: أي يسِّر وسهِّل. {رَشَدًا}: أَي إصابة لطريق السداد والرشاد واهتداء إليه، وهو خلاف الغَيِّ. {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}: المفعول ملاحظ، تقديره حجابا، أي ألقيناه على آذانهم. والمراد أنمناهم إِنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات.

التفسير 9 - {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}: لما بين الله تعالى في الآيات السابقة أنه جعل ما على الأرض زينة لها، ليختبر عباده في هذه الدنيا الفانية، التي ستنتهى إلى تراب لا نبات فيه، ثم يجزي كُلا منهم على حسب عمله وإخلاصه - قصّ عليهم قصة أهل الكهف والرقيم (¬1) برهانًا عمليا واضحًا، ينطق بأن يوم البعث والجزاء آتٍ لا ريب فيه, وقد أجمل الله قصتهم في الآيات الثلاث التي حكيناها من قبل، والخطاب لكل من يصلح للخطاب من البشر المكلفين. والمعنى: لا تظن - أَيها المكلف - أن قصة أصحاب الكهف والرقيم - وإن كانت من خوارق العادات - لا تظن أنها عجيبة دون غيرها من آياتنا، أو لا تظن أنها أعجب آياتنا وأعظمها! فإن من آياتنا ما هو أعجب منها وأعظم؛ كخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، وجعل ما على الأرض زينة لها؛ لحكمة الابتلاء في الدنيا والجزاء في الآخرة؛ كل هذه الآيات العظيمة وما إليها من آياتنا الدالة على قدرتنا - أعجب وأعظم من قصة أصحاب الكهف والرقيم. 10 - {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ... } الآية. أي اذكر حين التجأ هؤُلاء الفتية المؤمنون بالله إلى الكهف، فرارا بإيمانهم من الشرك وأهله، فقالوا ضارعين إلى ربهم مستغيثين به: يا ربنا هب لنا من عندك رحمة عظيمة، من خزائن رحمتك الواسعة، فيها الأمن والطمأنينة والمغفرة والسكينة. ¬

_ (¬1) أصحاب الكهف هم أصحاب الرقيم عند الجمهور. وقيل أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وهم ثلاثة ممن كانوا قبلنا أصابهم مطر: فأووا إلى غار، فانطبقت عليهم صخرة منه وهم فيه، فأنجاهم الله بعد أن توسلوا إليه بأخلص أعمالهم .. انظر تفسير الآلوسي.

{وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}: أَي ويسِّر لنا من أمرنا هذا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار، - يَسِّر لنا - هدايةً إِليك وتثبيتا على الإِيمان بك والإِخلاص لك، حتى نكون من عبادك المهتدين الراشدين. وقال ابن كثير: أي وقدِّر لنا من أمرنا هذا رشدًا، أي اجعل عاقبتنا رشدًا، وما قضيت لنا من قضاءٍ فاجعل عاقبته رشدًا؛ وفي المسند من حديث بُسْر بن أَرطاةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: اللهم أَحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة. 11 - {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}: أَي فاستجبنا دعاءَهم عقب ندائِهم، وأَنمناهم في الكهف آمنين مطمئنين، نومةً ثقيلة طويلة تشبه الموت، بلغت سنين كثيرة تُعَد عَدّا. وسيأتي التصريح بعدد هذه السنين في قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... } الآية مع حكمة التأخير، التفصيل بعد الإِجمال. وتخصيص الضرب على الآذان بالذكر، مع مشاركة سائر الحواس والمشاعر لها في الحجب عن الشعور والإِدراك عند النوم - لأَن الآذان هي الوسيلة إِلى التيقظ غالبا, ولا سيما عند انفراد النائم واعتزاله عن الخلق. ولما كانت نومة أَهل الكهف في عمقها وطولها كأنها الموت، عبر عن إِيقاظهم منها بالبعث فقال سبحانه: 12 - {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}: أَي ثم أَيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت؛ لنظهر ما علمناه بشأن لبثهم، بإِيضاح الأحداث التي مرت بهم، حتى يتبين للناس أَىُّ الفريقين أدق إِحصاءً لمدة لبثهم: ألبثوا يومًا أو بعض يوم، أَم لبثوا أَحقابًا ودهورًا؟! واعلم أن الله تبارك وتعالى يعلم أَزلا علمًا تفصيليًّا بكل ما يقع في الكون، طبقًا للأجل المسمى عنده، ووفقا لما قدره سبحانه وعلمه، فإذا حدَث ما قدّره، علِمَه واقعًا، بعد علمه أزلًا بأنه سيقع.

والمراد بالحزبين بعض الفتية: وهم المترددون القائلون: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} - والحزب الآخر أَهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، وكان عندهم تاريخ غيبتهم، قال ابن عطية: إن هذا قول جمهور المفسرين: اهـ وسيأتي الحديث مستفيضًا عما قيل في بيان مكان الكهف، وزمان رقودهم، وزمان بعثهم. {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} المفردات: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ}: النبأ؛ الخبر الخطير ذو الشأن. {بِالْحَقِّ}: أَي بالصدق الذي لا يحوم حوله شك. {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}: المراد قَوَّيْنَا قلوبهم وثبتناها على الحق والصبر على الإيمان وآثاره. {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}: أَي لقد قلنا إِذا قولًا ذا شطط، أي ذا بُعدٍ عن الحق والصواب. والشطط: مجاوزة الحد في كل شيء.

{لَوْلَا}: حرف تحضيض فيه معنى اللوم على عدم الفعل. {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}: أي ببرهان ظاهر قوي. {فَمَنْ أَظْلَمُ}: استفهام انكارى فيه معنى النفي. {يَنْشُرْ لَكُمْ}: يبسط لكم ويوسع عليكم. {مِرْفَقًا}: المرفق - كمِنبَر ومجِلس -: ما يُرتَفَق وينتفع به. التفسير 13 - {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ... } الآية. هذا شروع في تفصيل ما أُجمل آنفا في قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ... }. أي نحن نخبرك الخبر اليقين الصادق عن هؤُلاء الفتية وهو ما يلي: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}: أَي إِنهم جماعة من الشباب النقي الفطرة الصادق العزيمة، هُدوا بفطرتهم إلى ربهم فاطر السماوات والأرض، فأَيقنوا إن الذي أَبدعهما على غير مثال سبق، هو الحقيق بأن يعبد بحق، وأَن يكون وحده ربًّا لهذا الكون وإِلَهًا، هكذا اهتَدوا إلى الله بآياته، وهكذا آمنوا بربهم على هدى وبصيرة، فزادهم ربهم بالعمل الصالح والعقل الرشيد يقينا إلى يقينهم، وإِيمانا مع إيمانهم، ثم أَعلن ثناءه عليهم، فقال في محكم كتابه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}: ونحو هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬1). والشباب - كما قال الحافظ ابن كثير -: أقبل للحق، وأَهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكْثَر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا. ولعل في قول الحق تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} إِشارة إلى أَن في عهده صلى الله عليه وسلم من كان يقص نبأهم لكن بغير الحق، وفي هذا دليل على ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 17

أن قصة أهل الكهف كانت من علوم العرب وإِن لم يكونوا عالميها على وجهها. وقد ذكر المفسرون والمؤرخون كثيرا من أَخبارهم، نقلا عن محمد بن إسحق وغيره من أَصحاب السير (¬1) , وحسبنا ما قص علينا العليم الحكيم من نبئهم {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (¬2). ثم بين سبحانه لطفه بهم، وجميل صنعه لهم، حينما عزموا على التوجه إِليه بعبادته وحده فقال: 14 - {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ... } الآية. أي قوَّينا قلوبهم وثبتناهم على الحق حين قاموا في قومهم فقالوا كلمة الحق، لا يخافون إِلا الله، ولا يرجون أحدا سواه: قالوا ربنا وخالقنا هو رب السماوات والأرض وخالقها وحده، فهو الحقيق بألا نعبد إلا إِياه، وألا نتخذ إلها ولا رب سواه، هذا اعتقادنا الذي نحيا ونموت عليه، لن نتحول عنه أَبدا، وقولهم: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}: تأكيد لقولهم الحق الذي قالوه؛ واعتقادهم الحق الذي اعتقدوه. أي والله لو قلنا غير هذا القول، وعبدنا مع ربنا الذي خلقنا إلها غيره - لكان قولنا هذا حينئذ بعيدا عن الحق والصواب غاية البعد، وكنا بعبادة غير ربنا وخالقنا مفرطين غاية الإفراط في الضلال والظلم! وفي هذا القول الذي قاله الفتية دلالة على أنهم دُعُوا إلى عبادة الأصنام وحُمِلوا عليها وأُنذروا على تركها، وكان ذلك بين يدي الملك الجبار العابد للأوثان. وسيأتي بيان أمره معهم. أخرج ابن النذر وابن أَبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم هو أَشجعهم: إِنى لأجد في نفسي شيئًا ما أَظن أَحدًا يجده، قالوا ما تجد؟ قال أَجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض، فقالوا جميعًا نحن كذلك، فقاموا جميعًا فقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن جرير، والآلوسي. (¬2) سورة فاطر، من الآية: 14

وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ... } الآية. وصبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم لهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة؛ فإنه قد ذكر غيرُ واحد من المفسرين من السلف والخلف: أنهم كانوا من أَبناء سادة الروم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه، وكان لهم ملك جبار عنيد يأمر الناس بعبادة الأصنام والذبح لها، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤُلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إِلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم - عَرفوا أَن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إِلا لله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل منهم يتخلص من قومه وينتحى ناحية، حتى جمعهم الذي جمع قلوبهم على الإِيمان به، كما جاءَ في الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". ثم توافقوا كلهم على عبادة الله وحده .. فلما انتهى أَمرهم إِلى ملكهم استحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوا بالحق ودَعَوه إلى الله عز وجل، وقد أجمل الله ذلك بقوله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ... } الآية. ويقال إنهم لما دَعوا الملك إلى الإيمان باللهِ أبي عليهم وتهددهم وتوعدهم، ثُمَّ أجَّلَ النظر في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم. قال الحافظ ابن كثير: وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النَّظِرَة توَصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة! انتهى ما قاله ابن كثير ملخصًا. ثم قال بعض الفتية لبعض، إِنكارا على أهل بلدهم، وتمهيدا لاعتزالهم: 15 - {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ... } الآية. أَي أشرك أهل بلدنا هؤُلاء بعبادة غير الله، من الأصنام التي اتخذوها آلهة فعيدوها معه هلا يأتون على عبادتهم لهذه الأصنام ببرهان ظاهر وحجة واضحة!!

وهذا تبكيت صارخ؛ لأن الإتيان بالبرهان على عبادة الأصنام محال. وفي هذا دليل على أن مجرد التقليد في العقائد مردود. ومما لا شك فيه أنك لو سألت أحدا من عوامّ المؤْمنين عن دليل وجود الله الذي يعبده؛ فإنه لا يتردد في أَن يشير إلى سمواته وأَرضه، ويشير إلى نفسه، فهو يعلم أنها أَمارات شاهدات على الحي القيوم. ثم بينوا أَن قومهم أَظلم الظالمين فقالوا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: أَي لا أحد أشد ظلما ممن اختلق على ربه كذبا بنسبة الشريك إِليه؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. 16 - {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}: كان قوم الفتية يعبدون مع الله آلهة شتى، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى، فقال بعضهم لبعض: وإِذ فارقتم القوم بقلوبكم وبدينكم، ففارقوهم أَيضا بأبدانكم، فالجئوا إِلى الكهف لعبادة ربكم مخلصين له الدين، يبسط عليكم رحمة من عنده يستركم بها في الدارين، ويسهل لكم من أَمركم ما تنتفعون به في حياتكم، قالوا ذلك ثقةً بفضل الله تعالى، وقوةً في رجائه، لتوكلهم عليه سبحانه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). ثم أتبعوا مقالتهم الحكيمة، تنفيذ عزيمتهم الصادقة، فأووا إِلى كهفهم، في حراسة ربهم وكفالته، لم يرهم أَحد من قومهم، وقد جدوا في طلبهم! قال الحافظ ابن كثير: وعمَّى الله خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه، حين لجأ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إِليه، مع أَنهم يمرون عليه! وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، من الآية: 3

لما رأى جَزع الصديق في قوله يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إِلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟! وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). قال ابن كثير: فقصة هذا الغار (أي غار ثور) أَشرف وأجَل، وأَعظم وأَعجب، من قصة أَصحاب الكهف!! ذلك، وقد دلت الآية الكريمة على مشروعية الهجرة. ولا شك أَنه إذا اشتدت الفتن في دار الكفرة، ولم يستطع من بها من المسلمين أَن يأمنوا على أنفسهم ودينهم - فعليهم أن يهاجروا حيث يأمنون على دينهم وأنفسهم. وقد هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بأَمره فرارا بدينهم من الفتن! ثم هاجر صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه! واحتملوا في هجرتهم أَهوالًا ثقالا، كان عاقبتَها نصرُ الله والفتح. {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)} ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 40

المفردات: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ}: تتنحى وتميل عنه. {تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}: تتركهم ناحيته، من قرض بمعنى ترك. {فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}: في مُتَّسَع من الكهف. {أَيْقَاظًا}: جمع يَقِظ بمعنى منتبه غير نائم. {وَهُمْ رُقُودٌ}: راقدون - أي نائمون. {بِالْوَصِيدِ}: بالفِناء أمام الكهف، ويطلق الوصيد أَيضًا على العَتبَة، فلعله كان يجلس بباب الكهف ومدخله عند موضع العتبة لحراستهم. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}: لو رأيتهم وشاهدتهم. {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ}: لأعرضت بوجهك عنهم. التفسير 17 - {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}: أَفادت الآية التي قبلها أن بعضهم أشار عليهم بعد اعتزالهم قومهم المشركين، أن يأووا إِلى الكهف رجاءَ أَن يبسط الله لهم من رحمته بعد فرارهم بدينهم، وأَن يسهل لهم من أمرهم ما يرتفقون به، وقد جاءَت هذه الآية لتُبيِّن حالهم بعد أن أوَوْا إِلى الكهف استجابة لمشورة أحدهم، وقد حدث بعد لجوئهم إِلى الكهف أَنهم ناموا, ولم يذر بخلدهم ماذا يكون من أَمرهم بعد نومهم من عجائب الأمور، فضرب الله على آذانهم حِجابًا كثيفًا يمنع سماعهم لما يجري حولهم، بأَن جعل نومهم عميقًا يشبه رقود الموتى ولم يصرح بذلك هنا اكتفاء بإِجمال حالهم من قبل في قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (¬1). والخطاب في قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} إِمَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما لكل أَحد، إِيذانًا بغاية ظهوره والمعنى: وترى أَيها الباحث عن حالهم في كهفهم - ترى - الشمس إذا طلعت تتزاور وتتنحى (¬2) عن كهفهم جهة يمين الداخل إِليه، وتراها عند غروبها تعدل عنه ولا تدخله جهة الشمال، ¬

_ (¬1) الآيتان 10، 11 من سورة الكهف. (¬2) من قولهم تزاور عنه. أي عدل وانحرف - انظر القا

مع أَنهم في متسع من الكهف، بحيث يمكن معه أَن يصلهم شعاع الشمس، ولكن الله تعالى حماهم من حرِّها فأبعد شعاعها عنهم حتى لا تؤذيهم بحرارتها طول النهار وكرامةً لهم، في حين أَنه سبحانه جعل الهواء يدخل إِليهم، لتبقى حياتهم إِلى حين بعثهم من رقادهم. {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}: أي ذلك الذي حدث من تحول أَشعة الشمس عنهم، وعدم وصول ضوئها الحارِّ إليهم طَوَالَ النهار - كل يوم مدة رقودهم - مع اتساع مدخل الكهف وصلاحيته لتوصيل أشعة الشمس إليهم - ذلك كله - من آيات الله العظيمة الدالة على كمال قدرته وحكمته في تدبيره، حيث أبطل حكم العادة، ليعم الناس أن الحكم لله لا للأسباب العادية، كما أَنها من آيات الله على كرامة أَهل الكهف ومنزلتهم لديه، وأنه تعالى يحمى أولياءه، ويكرم أصفياءه. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}: أَي أن مَنْ يرشده الله سبحانه إرشادا يوصلُه إلى الحق، فهو الواصل إليه لا محالة، لأن نفسه مستسلمة إِلى إرشاد الله، ومستجيبة لآياته ودلاتله، ومن كان كذلك فله الجزاءُ الكريم في الدنيا والآخرة، أما من يصرفه الله ويبعده عن الهدى لأنه اتَّجَه بسوء اختياره إِلى الضلال وأوغل فيه، فلن تجد له معينا يرشده ويهديه إلى الحق، ويأخذ بيده إلى سواء السبيل. وقَد أَفادت هذه الجملة من الآية الثناء على أهل الكهف والشهادة لهم بإِصابة الهدى والرشاد، وأَن ذلك كان بتوفيق الله وهدايته لهم، لسلامة فطرتهم، وصفاء قلوبهم وعقولهم وانصرافهم عن تقليد آبائهم، إلى اتباع آيات الهدى والرشاد، وأما غيرهم من عبدة الأوثان، فقد اتبعوا هَوَاهم، وأعرضوا عن هُداهم، فتخلى الله عنهم، لأن سنة الله أن من يقبل على الله يهده الله، ومن ينصرف عن هداه، فهو متورط في الضلال، وليس له سبيل إِلى الهدى، ولا معين له على الوصول إليه، بعد أن تخلى الله عن إنقاذه، لإصراره على الضلالة.

18 - {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}: وتظنهم أيها الناظر إليهم أَيقاظا وهم نيام - تظنهم كذلك - لانفتاح عيونهم، وقال ابن عطية: تحسبهم أيفاظا لشدة الحفظ الذي كان من الله عليهم وقلة تغيرهم؛ لأن الغالب على النيام استرخاءُ الأعضاءِ وهيْئَاتٌ معينة، فإِن لم توجد حَسِبَهُم الرائِي أيقاظًا وإن كانت عيونهم مقفلة، والرأي الأَول هو الظاهر. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}: ونقلبهم - وهم رَقُودٌ - جهة أيمانهم وجهة شمائلهم حِفْظًا لأجسادهم من البلى والضرر، على نحو ما جرت به العادة في النائمين، أَو لكي يدرك من يراهم وقد طال نومهم أَنهم أحياءٌ، فلا يسد الكهف عليهم ويدفنهم فيه، أَو لغير ذلك من حكم يعلمها خالقهم. {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}: أَي أن كلب أَصحاب الكهف مادٌّ ذراعيه وهو جالس على مُؤخّرته (¬1) بفِناء الكهف أو بمدخله كأنما هو يحرسهم وهم نيام. واختلف العلماءُ في أمره - هل نام كما ناموا، أم أنه لم يستغرق في نومه كما استغرقوا، ومثل هذا الخلاف لا يمكن حسمه إِلا بدليل ولا دليل، وقد أضيف الكلب إليهم فقيل كلبهم، واختلف العلماءُ في صاحبة، فمنهم من قال إنه كلب مَرُّوا به فتبعهم، وأَصر على أَن يكون معهم، ومنهم من قال إنه كلب راع مرُّوا به فتبع دينهم وذهب معهم وبصحبته كلبه، ومنهم من قال إِنه كلب صيد لأحدهم وهذا الخلاف ليس له أساس، فالكلب كلبهم كما جاء به النص الكريم، واللهِ أَعلم كيف وصل إليهم. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}: أي لو عاينتهم وشاهدتهم لأعرضت بوجهك عنهم، ولملئت منهم خوفًا بسبب ما أَلقى الله عليهم من الهيبة والجلال وقيل: إن سبب الرعب فيمن يراهم ما كانوا عليه من طول الشعور والأظفار وصفرة الوجوه وتغير الثياب، وهذا القول غير مقبول، فإنهم لو كانوا كذلك لأنكروا أحوالهم بعد أَن تيقظوا, ولم يقولوا لبثنا يوما أَو بعض يوم، وَلَمَّا بعثوا أَحدهم إلى المدينة ليشترى لهم منها طعاما، وأَوصوه بأن يتلطف ولا يشعر أحدا بهم؛ لأن منظرهم يوحى إِليهم بأنهم من ¬

_ (¬1) وتسمى هذه الجلسة الإق

أين الكهف ومن أي البلاد أصحابه

أهل القرون الماضية، فلا مجال لأن يقولوا لصاحبهم في شأن الطعام ما قالوا, ولأنه لما ذهب إلى المدينة لم ينكر حال نفسه وإنما أَنكر معالم المدينة وأَهلها، فالحق أَن الله تعالى لم يغير حالهم بعد مئات السنين، ليكون ذلك آية بينة لمن يراهم بعد يقظتهم كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى. أَين الكهف ومن أَيِّ البلاد أصحابه يقول بعض المفسرين إنه في بلاد الروم، وإن أَصحابه منها، ويضيفون إلى ذلك أَنهم باقون على الحالة التي توجب فِرَارَ مَنْ يطَّلع عليهم ورُعْبَهُ منهم، ويستدلون لذلك بما أَخرجه ابن أَبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس قال: "غزوْنَا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكرَهم اللهُ تعالى في القرآن، فقال معاوية: لَوْ كُشِف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله تعالى ذلك مَنْ هَوُ خيرٌ منك فقال: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فقال معاوية: لا أَنتهي حتى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فبعث رجالًا وقال اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا، فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحًا - فأَخرجتهم" وأصحابُ هذا الرأْى يقولون إن الخطاب في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} للرسول خاصة. وقد روى عن ابن عباس عكس ما تقدم، فقد أَخرج عبد الرازق وابن إلى حاتم عن عكرمة أَن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أَكثر من ثلاثمائة سنة، فهذا الأثر ينفى ما دَلّ عليه الخبر السابق، من بقاءِ أجسادهم سليمة. ونحن نرى أَن الخطاب في قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} لكل من يصلح أن يُخَاطَبَ، وإن المراد من الآية الكريمة حكايته حالهم وقت رقودهم وقبل بعثهم, وأما أمرهم بعد موتهم واتخاذ مسجد عليهم، فهو من الغيبيات التي لم يكشف النقاب عنها على وجه تطمئن إليه القلوب.

ومن المفسريين من نقل أنهم بالشام، قال أَبو حيان: إِن في الشام كَهْفَ موتى، ويزعم مُجَاوروه أَنهم أَصحاب الكهف، وعليهم مسجد وبناءٌ يسمى الرقيم، ومعهم كلب رمة: اهـ ولعل أَبا حيان يشير بكونهم في الشام إلى أنهم في الأردن، فإن الأردن من الشام، فقد كان إقليم الشام يعم سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وقد صرح بوجودهم في الأردن الهروي، إذ قال: إن البلقاء بلد به الكهف والرقيم، عند مدينة يقال لهاَ عَمَّان، بها آثار قديمة، ووافقه ياقوت، وقال القدسي: الرقيم قرية على فرسخ من عمان على تخوم البادية، فيها مغارة لها بابان صغير وكبير وقد روى عن ابن عباس أن الرقيم واد بين غَضبان وأيْلَة دون فلسطين، وفيه أَصحاب الكهف: اهـ وغَضْبَانُ بالضاد المعجمة واد بالشام، وهذه الرواية تخالف ما روى عنه سابقًا من أَنهم وكهفهم في بلاد الروم، ولعلها أقرب منها إِلى الصواب. وقد دفَعت هذه الرواية وغيرها مصلحة الآثار بالمملكة الأردنية إلى التنقيب في هذه المنطقة حتى كشفوا كهفا وآثارًا، وظنوا أن هذا هو الكهف الذي جاءَ ذكره في سورة الكهف؛ بل لقد أَكد الأستاذ رفيق الدجاني المساعد الفني لمدير الآثار العربية بالأردن أَنه هو بعينه، والله أعلم بصحة هذا أو مخالفته للحقيقة، فقد علمت ما تقدم نقله من وجودهم ببلاد الروم، ونقل الآلوسي أن بالأندلس في جهة غرناطة كهف موتى ومعهم كلب رمة، وأَكثرهم قد ذهب لحمه، وبعضهم متماسك، وهم بقرب قرية تسمى لوشة، ويزعم ناس أنهم أَصحاب الكهف. قال ابن عطية: دخلت عليهمُ فرأَيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومى يسمى الرقيم، كأنه قَصْر مخلق قد بقى بعض جدرانه, وهم في فلاة من الأرض خربة، وبأَعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب: اهـ. فمن تضارب الروايات في مكان كهفهم، فإننا لا نستطييع الجزم به، كما لا نستطيع الجزم بالأمة التي نشأوا منها، وكل ما نستطيع القطع به هو قصتهم وواقعيتها، وأنهم من آيات الله تعالى، فلندع العلم بما وراء ذلك إِلى علام الغيوب.

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} المفردات: {بَعَثْنَاهُمْ}: أَيقظناهم. {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ}: ليسأل بعضهم بعضا. {كَمْ لَبِثْتُمْ}: كم زمنا أَقمتم نائمين. {بِوَرِقِكُمْ}: الورِق بكسر الراء الفضة المضروبة كالدراهم، وقيل يطلق على الفِضَّة وإِن لم تكن مضروبة. {أَزْكَى طَعَامًا}: أَطيب طعاما أو أطهره. {وَلْيَتَلَطَّفْ}: وليستعمل اللطف في المعاملة حتى لا تقع خصومة تكشف أَمرهم. {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}: إن يطلعوا عليكم ويعرفوكم. {يَرْجُمُوكُمْ}: يقتلوكم رجما بالحجارة، أَو يقذفوكم بألفاظ السباب. التفسير 19 - {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}: بينت الآيتان السابقتان حالهم في الكهف الذي أوَوْا إليه، بعد أن فارقوا أهلهم المشركين، وأن الله تولى حفظ أَجسادهم فيه حتى لا يفنيهم تعاقب السنين عليهم، فجعل الشمس لا تصيبهم طوال نهارهم مع أنهم في فجوة من الكهف بحيث تتمكن الشمس من إصابتهم، وجعل يقلب أَجسادهم ذات اليمين وذات الشمال، وجعل أَجسادهم تعيش

مئات السنين بلا طعام ولا شراب، وجعل منظرهم يبعث الرعب والفرار منهم، ليكون ذلك أَدعى إلى سلامتهم، وأَدفع للشر عنهم، وأَبعد للوحوش المفترسة عن إيذائهم، وكل ذلك من آيات الله. وجاءت هذه الآية الكريمة لشرح حالهم بعد يقظتهم من هذا الرقاد الطويل الذي لم يغير شيئًا من ثيابهم ولا من شعورهم وأَجسادهم، فقد بينت أَنهم استيقظوا فتساءَلوا كم من الزمن لبثتم؟، فأجاب المسئول منهم سائِلَهُ بأنهم لبثوا نائمين يوما أَو بعض يوم، ولو طالت لحاهم أَو أظافرهم أَو بليت ثيابهم أو ضرب بياض الشيب شعرهم لما كان جواب المسئول لبثنا يوما أو بعض يوم، ولما بعثوا بعضهم ليشترى لهم طعاهًا بدراهمهم التي مضى على ضَرْبها مئات السنين، وقد حدثت هذه الآية على هذا النحو العجيب، ليُعْرفَ أمرهم، ويتبين للناس من حالهم أن الله يبعث من في القبور، كما سنعرض له في موضعه إن شاءَ الله تعالى. والمعنى: أَنمناهم علي هذا النحو العجيب الدال على قدرتنا، ثم أَيقظناهم من نومهم على هيئة لا تغير فيها لشيءٍ من أحوالهم، لكي يسأل بعضهم بعضا: كم من الوقت لبثنا نائمين بعد أَن أَوينا إلى هذا الكهف مرهقين من رحلة الهرب من أهلينا المشركين، قال بعضهم جوابا للسائل: لبثنا يوم أَو بعض يوم، فاستراحت بذلك أجسادنا المكدودة. والمشهور أَن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وحرف (أَو) في قول المجيب على السائل {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} يحتمل أَن يكون للشك في مدة لبثهم أهى يوم أو بعض يوم، لأنهم في جوف الغار ولوثةُ النوم لم تفارقهم بعد، وقال أَبو حيان إنها للتفصيل على معنى: قال بعضهم: لبثنا يوما, وقال آخرون: لبثنا بعض يوم، وقول كليْهما مبنى على غلبة الظن. {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}: قال بعض آخر التبس عليه الأمر: ربكم أَعلم بالوقت الذي مكثتم فيه نائمين، فلا سبيل إِلى التحقق من أَنه

يوم أَو بعض يوم، فدعوا الحديث عنه، فابعثوا أَحدكم بدراهمكم هذه التي أحملها، ليذهب بها إلى المدينة التي خرجنا منها مهاجرين إِلى الله، فلينظر أي البائعين بالمدينة أَطيب طعاما، وأبعده عن الإثم، فقد كان أَهلها يذبحون للطواغيت، فليأتكم برزق من أطيب الطعام، وليتلطف في معاملته مع بائع الطعام حتى لا تقع خصومة بينه وبينه ويَنكشف بها أمركم، ولا يفعلن ما يؤدى إِلى شعور أحد من أهل المدينة بكم, لننجو من العواقب الوخيمة التي تترتب على معرفتهم بمخبئكم عن طريقه. وفي إِقرارهم في النص الشريف على حملهم للدراهم معهم دليل أَن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله، يحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله، فإن الحياة بنيت على اتخاذ الأسباب ثم يأتي التوكل على الله بعد ذلك ليساعد من استعان به على نجاح أسبابه، قال تعالى في سورة الملك: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}. وقال صلى الله عليه وسلم لمن أَناخ ناقته ولم يعقلها، قائلا إني متوكل على الله - قال له الرسول - "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل". 20 - {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}: إن قوْمكُم الذين هجرتموهم وتركتم دينهم إن يطلعوا عليكم ويظفروا بكم يرجموكم بالحجارة فيقتلوكم لمخالفتكم إياهم فيما هم عليه من الدين، واعتزالكم إِياهم وما يعبدون، وشق عصا الطاعة ومخالفة الجماعة في أقدس أمُورها يوجب القتل عندها إِلا إن تعودوا إِلى ملتهم وتستجيبوا إِلى فتنتهم مكرهين، ولن تفلحوا أبدا إن دخلتموها ولو مكرهين، فإنهم سيستدرجونكم مع الشيطان إلى استحسانها والاستمرار عليها، وسيحيطونكم بمختلف الفتن والمغريات حتى يطفئوا نور الإيمان في قلوبكم. ثم إن هؤُلاء الفتية بعثوا أحدهم بدراهمهم ليأتيهم برزق طيب من المدينة بعد أن سمع من إخوانه نصيحتهم، واشتهر أَن اسمه يمليخا, ولما ذهب إِلى المدينة حدث ما أَشار إليه بقوله:

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} المفردات: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}: أجل العثور السقوط لِجِهة الوجه، كما قال الراغب، ثم تجوز به عن الحصول أو الاطلاع على أَمر مصادفةً، وأَعثرنا عليهم معناها في الآية أطلعنا عليهم أَهل مدينتهم. {لَا رَيْبَ فِيهَا}: لا يصح أن يرتاب فيها أحد. {السَّاعَةَ}: القيامة، وسميت بذلك لأنها تفجأ الناس في ساعة يجهلونها، ويختص الله بعلمها. {يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}: يتخاصمون في نومهم ثانيا بعثهم، فمِنْهم مُقِر بدلالته على البعث الأخروى، ومنهم نافٍ له، أو يتخاصمون في نومهم ثانيا بعد يقظتهم أَهو موت أم هو رقود كما كانوا. التفسير 21 - {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}: تحكى هذه الآية ما آل إليه أَمرهم بعد يقظتهم من رقدة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، حيث مكثوا نياما "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" ثم كان من قصتهم ما سنذكره إِجمالا ثم نفصله، والمعنى: وكما أَنَمْنَاهُم هذه النومة الطويلة العجيبة، وأيقظناهم بعدها بحالة عادية ظنوا معها أَنهم لبثوا نائمين يومًا أَو بعض يوم - كما فعلنا ذلك - أطلعنا الناس عليهم بعد تلك الأجيال العديدة التي ظلوا فيها نائمين، ليعلموا بما عرفوه من أحوالهم العجيبة، أن وعد الله تعالى

تفصيل بعض أحداث القصة

بأن يبعث الناس بعد الموت للحساب والجزاء حقٌّ، وأَن الساعة التي يقوم فيها الناس لرب العالمين لا ينبغى أَن يرتابوا فيها. {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}: في هذا الكلام تتمة الحديث عن قصتهم بعد الإعثار عليهم، والمعنى الإجمالى للآية ما يلي: وكذلك أعثرنا الناس على أَصحاب الكهف بعد بعثهم وقيامهم من رقودهم، حيث كشفت الدراهم التي كانت مع مبعوثهم أَنها ضُربت منذ مئات السنين في عهد ملك وثني جبار كان أصحاب الكهف قد هربوا منه ومن قومهم الوثنيين فى عهده، وظهر للفتى المبعوث أَنهم في عهد ملك آخر، وجيل يختلف كل الاختلاف عن الجيل الذى عاشوا فيه، وكان ذلك كله ليعلم الناس أَن وعد الله بالحياة الآخرة حق، وأن الساعة التي يقوم الناس فيها لرب العالمين آتية لا ريب فيها، فلما عاد الفتى إِلى أصحابه فى الكهف، وفي صحبته بعض من وقفوا على أمره من زعماء هذا العصر وأهله -لما عاد الفتى إلى أَصحابه- توفاهم الله تعالى، اذكُر لأُمتك أيها الرسول، حين يتنازع قومهم فى بعثهم، أيشبه بعث الآخرة أو يخالفه، أو يتنازعون فى أَنهم ماتوا أَو ناموا كما حدث أول مرة، ثم فرغوا من التنازع فى ذلك، واهتموا بإجلال قدرهم وتعظيم أَمرهم، بعد أَن تبين لهم موتهم، فقال بعضهم لبعض: ابنوا على باب كهفهم بنيانا، لئلا يتطرق الناس إليهم، قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن على بابهم مسجدا تكريما لهم، وَحَثًّا للناس على عبادة ربهم، وبهذا البيان أجملنا تفسير هذه الآية التى طَوَتْ تحت عباراتها القصيرة أحداثا عظيمة نفصل بعضها فيا يلى: تفصيل بعض أحداث القصة بعد أن ضَرب الله على آذان الفتية فى الكهف فلم يسمعوا ولم يدروا بما حولهم أكثر من ثلاثة قرون، -بعد ذلك- لم يبق أحد من أُمتهم التي اعتزلوها، فحِينَمَا بعثوا من رقودهم الطويل، كان يوجد غيرهم يحكمهم ملك مؤمن، فاختلف أهل مملكته في أَمر البعث، أيكون أو لا يكون؟، وإذا حدث البعث أيكون للأرواح وحدها أم يكون لها وللأجساد،؟ فشق ذلك على الملك، فلبس المُسُوح وجلس على الرماد، ودعا الله أن يبعث لأُمته آية

حكم اتخاذ المساجد فوق القبور

تبين لهم الحق فيما هم فيه مختلفون، فبعث أصحاب الكهف من رقودهم الطويل، فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعامًا، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه التي يراها، وقد اختلفت عليه معالم المدينة كثيرًا، ورأى مظاهر الإيمان بادية على أهل المدينة، ثم أقبل متلطفا على رجل ليشترى منه طعامًا، فلما نظر الدراهم أنكرها، لأنها مضروبة من عهد بعيد، حيث كان يوجد ملك وثنيٌّ -قيل إنه يدعى دقيانوس- فاتهمه بكنز عثر عليه، وطلب منه أن يدله عليه حتى لا يرفع أَمره إلى الملك، فقال الفتى هي من ضربه، أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل: لا. بل هو فلان -وكان اسمه كما قيل (بندوسيس) فاجتمع الناس وذهبوا به إِلى الملك -وهو خائف- فسأله عن شأنه، فقص عليه القصة، وكان الملك قد سمع أن فِتْيةً خرجوا ولم يعودوا على عهد دقيانوس، فدعا مشيخة أهل بلده، وكان عند رجل منهم أسماؤهم وأنسابهم، فلما سألهم الملك عن هؤلاء الفتية، تقدم هذا الرجل، وذكر له ما عنده من أمرهم، فقال الفتى صدق، ثم قال الملك: أيها الناس. هذه آية بعثها الله لكم، لتؤمنوا بالبعث وأنه على نحو ما رأيتم، ثم خرج هو وطائفة من أهل المدينة ومعهم الفتى، فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم، ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم، لم تَبْلَ ثِيابُهم، فأخبروه مما قوا من دقيانوس، فبينما هم بين يديه إذ قالوا له: نستودعك الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله، ودعوا له بخير، ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى ثم كان من أَمرهم ما قص الله تعالى. تلك إحدى الروايات التي تحدثت عن قصتهم، اكتفينا بها فى فهم ما أجمله القرآن من أمرهم، انظر الآلوسي فى بيان هذه القصة. حكم اتخاذ المساجد فوق القبور استدل بعض الفقهاء بالآية على جواز اتخاذ المساجد فوق قبور الصلحاء والصلاة فيها، وهو استدلال باطل، فإننا لو سلمنا أن هؤلاء بنوا عليهم مسجدًا للصلاة وفق شرعهم، فإن شرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يَردُّه، وقد جاء فى شرعنا ما يحرمه ويرده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذينَ عَلْيَهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" أخرجه أَحمد وأبو داود والترمذي وغيره عن ابن عباس، وقال - صلى الله عليه وسلم -.

"لَعَنَ اللهُ تَعَالَى الْيَهُودَ وَالنصَارَى. اتخَذُوا قبُورَ أنْبِيَائِهِم مَسَاجِد" أَخرجه الشيخان والنسائي عن عائشة، ومُسلِم عن أبي هريرة، إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الناهية عن اتخاذ المساجد فوق القبور. ويرى بعض علماء الحنابلة وهدم المساجد التي تبنى على القبور، والقباب التي تبنى عليها، على أَن الآية ليست نصا في أنهم بنوها وفق شرعهم، فليس فيها سوى حكايته قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح والحض على التأسي بهم، فحيث لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ولك أن تقول أَيضًا: إن اتخاذهم المسجد عليهم، يراد منه اتخاذهم إِياه عند قبرهم في كهفهم، وقريبًا منه، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية السدي للقصة، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورًا، ويمكن أن يقال إن (على) في قولهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} يمكن أن تكون بمعنى لام التعليل، أَي لنتخذن لأجلهم مسجدًا، كما تقول لشخص أحَسن في صُنْعِه: لأعطينك عليه جائزة، أَي لأعطينك لأجله هذه الجائزة، ومن كل ذلك نفهم أَنه لا يوجد في الآية ما يستدل به على جواز بناء المساجد فوق الأضرحة. {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}

المفردات: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}: رميا بالخبر الغائب الخفى عنهم. {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ}: فلا تجادل فيهم، والمماراة المحاجة والجدال، قال الراغب: هي المحاجة فيما فيه مرية - أي تَرَدد - مأخوذ من مَرَيْتُ الناقة إِذا سمحت ضرعها للحَلْب. (إلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا): إلَّا محاجة وجِدَالا بما هو ظاهر، وذلك بالاقتصار على ما نزل به الوحي من غير تجهيل لمن يحاورك فعهم، فقد يكون مصيبا والقرآن لم يستوعب قصتهم، بل جاءَ ببعضها. {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}: ولا تستفت في شأن أَهل الكهف أحدًا من الخائضين ولا ترجع إِليهم في قصتهم، ففيما أخبرناك به كفاية وغُنْية عن سؤالهم، فضلا عن أن ما يعرفون عنهم مشوب بالخطأِ. {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}: أي لأقرب وأظهر من نبأِ أصحاب الكهف من براهين نبوتك. التفسير 22 - {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}: أَجمل الله فيما تقدم قصة أهل الكهف، وآخرها العثور عليهم وموتهم عقب التعرف عليهم، واعتزام من غلب على الأمر في أمَّتِهِم في ذلك الوقت أَن يبنى عليهم مسجدًا، وجاءت هذه الآية، لتبين أن بعض معاصرى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سيخوضون في قصتهم، وأنه تعالى نهاه عن أن يخوض معهم في أمرهم، وأن لا يزيد على ما أنزله الله إليه في شأنهم، وأن لا يستفتيهم في بيان أَمرهم أكثر بما نزل به الوحي، فليس بحاجة إلى ذلك، وليسوا هم على مستوى الفتوى في أَمر لا يعلمه إلا الله وقليل من عباده. والمعنى: سيقول الخائضون في شأنهم من أهل الكتاب: أهْلُ الكهف ثلاثةُ أَشخاص من الرجال رابعهم كلبهم، ويقول آخرون منهم: هم خمسة سادسهم كلبهم، سيقول هؤلاء وأولئك ما قالوه في عددهم، رميا بالخبر الغائب من غير سند لما قالوه، ويقول جماعة

ثالثة منهم: أهلُ الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، يقولون ذلك عن ثقة وطمأنينة نفس (¬1)، ولذلك لم يتبع الله عبارتهم بما أتبع به عبارة من سبقهم، من أَنهم يرجمون بالغيب، بل أشار إِلى علمهم بقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ}: فهم من القليل الذين يعلمون عدتهم. قال ابن عباس: "حين وقعت الواو انقطعت العدة" أي لم يبق بعدها عدة لأحد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبت. وقد نص عطاءٌ على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر، فقد صح عن ابن عباس أنه قال: "أَنا من أولئك القليل". وقيل إن المختلفين في عددهم هم نصارى نجران، تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الملكانية: هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقال النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وهذا القول في حكاية المختلفين مرْوِيٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أما أسماؤهم، فقد خاض بعضهم في ذكرها، وعزوها إلى ابن عباس تارة، وإلى الأمامِ عَليّ تارة أخرى وكل منهما يخالف الآخر. ونحن نرى أن لا دليل على ما ذكر في الروايتين في أسمائهم، فإنها لم تصل إِلى - ابن عباس أو علي أَو غيرهما عن طريق معصوم، ولعل هذه الأسماء كانت تذكر على ألسنة أهل الكتاب، فتسربت إِلى المجتمع الإسلامي عنهم، فالكف عن التقيد بها أولى. {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يريد أَن يتحدث في أمرهم من أَهل العلم مع سواه ممن يخوض في شأنهم. والمعنى: إذا كنت قد عرفت أن من يخوض في عددهم، منهم المخطىءُ ومنهم المصيب، فلا تجادلهم في شأن هؤلاء الفِتْية إلا جدالًا ظاهرًا لا عمق فيه، بأن تقتصر في أمرهم على ما نزل به الروح الأمين، من غير تجهيل للجاهل منهم ولا تفضيح لحاله، فإن ذلك يخل بمكارم ¬

_ (¬1) ولهذا أكدوا عبارتهم بالواو في قولهم كما حكى الله عنهم "ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم" قال العلماء: هذه الواو تدخل علي الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الجملة الواقعة حالًا عن المعرفة في نحو قوله: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت يزيد وفي يده سيف، ومن الأول قوله تعالى: "وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم" وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف - انظر الآلوسي في هذه الج

الأخلاق التي جاء الإسلام ليتمها، ولا تستفت فيما لم يتعرض الوحي لبيانه من أحوال أهل الكهف -لا تستفت- أحدا من الخائضين فى شأنهم من أهل الكتاب، فلست بحاجة بعد ما أُوحي إليك إلى المزيد من التعريف بأحوالهم، فإن فيه العبرة للمعتبر، وليس مَنْ يُسْتَفْتَى في شأنهم من أهل الكتاب أهلا للفتوى لجهالتهم أو ضحالة ما عندهم من أَمرهم. 23، 24 - {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... الخ}: لا يزال الكلام متصلًّا بشأن أَهل الكهف، فإن هذه الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال صلى الله عليه وسلم غَدًا أُخْبركم، فأبطأ عليه الوحي ثم نزل الوحى بعد الموعد، وقد نبَّه الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن لا يقول في أي شأن من الشئون سواءٌ كان فى أمر الشريعة أو سواها -أن لا يقول- إني فاعل ذلك غدًا إلا مرتبطًا بقوله إن شاء الله فإن أَمكنه أن يفعله غدًا فعله، وإِلا فقد وقع التخلف وفقًا لمشيئة الله الذي لا يقع فى ملكه إلا ما شاءه سبحانه، ونحن مكلفون بهذا التوجيه الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسوتنا وإمامنا. والمعنى: ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله: إني فاعل ذلك غدًا أو فيما يستقبل من الزمان إلا مُقْتَرِنًا بمشيئة الله، وذلك بقولك إِن شاء الله، لتخرج من العهدة بالتخلف عن الفعل فى الموعد المضروب، لعدم تحقق مشيئة الله به فيه، فإن حصل نسيان للمشيئة وقت الوعد بالفعل فليذكرها الإنسان عندما يتذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}: أي واذكر مشيئة ربك إِذا تذكرت أنك نسيتها، تداركًا لما فاتك من ذكرها، سواءٌ قصر الفصل أم طال، وهذا ما جنح إليه ابن عباس، فقد أَخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يرى الاستثناءَ ولو بعد سنة ويقرأُ الآية، والمراد من الاستثناء التعليق بالمشيئة، وهذا هو مذهب أَهل البيت ونقل في رواية أنه رأي للإمام أَحمد. وأَخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسى الاستثناء -أي التعليق على المشيئة- فأفتى بأن له الاستثناء إلى شهر، ومذهب عطاء أن له الاستثناء بعد اليمين إلى مقدار حلب ناقة، أَما طاووس فإنه يرى ذلك ما دام في المجلس وجمهور الفقهاء يشترطون

لصحة الاستثناء في اليمين بالتعليق على مشيئة الله أن يكون متصلًا بالمحلوف عليه، قالوا: ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام، لما تقرر طلاق ولا عِتاقٌ ولا صح إقرار، ولم يعلم صدق ولا كذب. وكان أبو حنيفة لا يوافق على رأى ابن عباس، ويرى أَن التعليق بالمشيئة يجب اتصاله بما ارتبط به، فعلم بذلك أبو جعفر المنصور، فبعث إلى أَبي حنيفة ليلومه على مخالقته لرأى ابن عباس، فقال أبو حنيفة: هذا يرجع إِليك أَنت، إنك تأخذ البيعة على الناس بالأيمان، أَفَتَرْضَى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا قائلين: إن شاء الله، فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه. والحق في هذه المسألة أن الآية ظاهرة في أمر تفويض العبد في أُموره التي عزم عليها إلى مشيئة الله، فِإن نسيها ثم ذكرها فليقلها مهما كان الفاصل من الزمان، أما الأحكام في نحو الطلاق والعتاق والبيع والشراء ونحوها، فالآية لا صلة لها بها، ومن ثمَّ فما قاله ابن عباس راجع إلى التفويض لا إلى الأحكام، وعلى هذا فإن التعليق بالمشيئة في الأحكام إنما يَرْفَعُها إذا اتصل بها، فإِن انفصل عنها فلا يرفعها، فمثلا، له قال لزوجته: أَنت طالق، وعقبه بقوله: إن شاء الله لم تطلق، فإن تأخر التعليق بالمشيئة على الطلاق وانفصل عنه، وقع الطلاق - ولا نظن ابن عباس يخفي عليه شيءٌ من ذلك - والله أعلم. ومعنى هذه الجملة بعد أَن اتضح المقام، واذكر ربك بالتعليق على مشيئته إنْ تَذكرتَها بعد أن نسيتها فيما عَزَمْتَ عليه من المقاصد، وقيل أَرجو أَن يوفقنى الله لشيء أقرب رشدا وَخَيْرًا من هذا الذي نسيت التعليق على مشيئة الله تعالى بشأنه. وعلى ارتباط هذا الجزء من الآية بسبب النزول يكون المعنى: وقيل أيها الرسول عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من نبإ أصحاب الكهف إرشادًا للناس ودلالة على نبوتي. وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج، وقد حقق الله لرسوله هذا فقد آتاه الله من الآيات ما هو أعظم من ذلك وأَبين، كقصص الأنبياء في الأعصار والدهور البعيدة، والحوادث التي سوف تنزل في المستقبل إلى يوم الساعة, إلى غير ذلك بما يبدو نبأ أَهل الكهف بالنسبة إِليه أمْرًا هينًا ضئيلًا - مع عظمة وَرفْعَةِ ش

{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)} المفردات: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: له سبحانه ما غاب فيهما خلقا وملكا وتصرفا وعلما. {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}: ما أعظم سمعه وبصره. {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ}: ليس لهم من غيره تعالى من يتولى أمررهم. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}: لا قدرة لأحد على تبديل كلماته سبحانه. {مُلْتَحَدًا}: ملجأ تَلْجأ إِليه عند الملمات. التفسير 25 - {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}: هذه الآية مبينة لما أجمل من مدة لبثهم في قوله تعالى -: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} وأخر هذا البيان عنها ليتخلل بينهما إجمال قصتهم، حتى تنتهي إلى أنهم تنازعوا واختلفوا في مدة لبثهم، واختلفوا في عددهم، فيأتي هذا البيان بعد الشوق إليه، ليعظم عجيب الناس من قدرة الله، ويشتد إيمانهم بقدرته على البعث، والمعنى: ولبث أصحاب الكهف مَضْروبًا على آذانهم فيه ثلاثمائة سنة وتسع سنين ازدادوا بها فوقها, ولم يقل ثلاثمائة وتسع سنين مع أَنه أَخصر (من ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا) لكي يشير بالثلاثمائة إلى مدة لبثهم بالسنين الشمسية التي عليها أَهل الكتاب، وبزيادة

التسع عليها إلى ما عليه العرب من الحساب القمرى الذي يفرق تسع سنين زائدة عليها تقريبا، لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما تقريبا، والقمرية ثلاثمائة وأَربعة وخمسون يوما تقريبا، وهذا الرأي منسوب إلى الإمام علي. وقيل: يجوز أَن أهل الكتاب اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم، فجاء قوله {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} الخ رافعا للخلاف مبينًا للحق، ويكون {وَازْدَادُوا تِسْعًا} تقريرا للعدد، ودفعا للاحتمال، فكأنه قيل: وازدادوا تسعا فوق الثلثمائة، نظير الاستثناء في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} وقيل إِنهم انتبهوا قليلًا بعد الثلاثمائة، ثم رُدُّوا إِلى النوم فبقوا نائمين تسع سنين زائدة على الثلاثمائة والرأي الأول في تفسير الآية أحرى بالقبول. 26 - {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ... } الآية. أي قل يا محمد للناس: الله أَعلم بما لبثوا، فلذا حكى لكم أنهم لبثوا ثلاثمائة وازدادوا عليها تسع سنين، وفْقًا لما علمه الله من أَمرهم. {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (¬1): أي للهِ تعالى علم جميع ما غاب في السموات والأرض وخفى من أحوالها وأحوال من فيهما، فضلا عن علمه بما ظهر فيهما، ما أَعظم بصره بالأشياء وسمعه لها وعلمه بها، فهو إذ ينبئك بمدة لبثهم، فما ينبئك إِلا بالحق {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}: الضمير في "لهم" يرجع إلى أهل الكهف. والمعنى: قل للناس أيضًا ليس لأهل الكهف من غيره من ولى تولى أَمر إنامتهم تلك المدة، وحفظهم فيها حتى يجعلهم أمارة على البعث، ولا يشرك في قضائه بشأنهم أحدا. ويصح أَن يرجع الضمير لأهل السماوات والأرض المدلول عليهم بذكرهما أي ما لأهل السماوات والأَرض من غير الله ولى يتولى أمورهم، وفي جملتهم أهل الكهف. 27 - {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}: ¬

_ (¬1) هذه الجملة من ضمن ما أمر الرسول أن يقوله للناس بشأن أهل الكهف فهي متممة لما أمر به من قوله لهم: "الله أعلم بما لبث

{وَاتْلُ}: يجوز أن يكون أمرا من التلاوة بمعنى القراءة، أو من التُّلُوّ بمعنى الاتباع. والمعنى على الأول: وَدَاوِمْ أيها الرَسول على تلاوة ما أوحى إليك من القرآن بشأن أصحاب الكهف وغيرهم - أوْ دُم على قراءته - لأصحابك وغيرهم، ليهتدى به الراشدون، فقد اشتمل على بيان الغيب الذي لا سبيل لك إلى معرفته، وتضمن من الآيات والمعجزات ما لا سبيل للبشر إِلى الإتيان بمثله، واتضح من أسلوبه الإلهي نداء الحق الذي تستجيب له القلوب والأرواح، لا يستطيع أَحد أن يبدل كلمات الله تعالى التي أنزلها عليك وتولى حفظها بنفسه، ولم يستحفظها سواه، ولن تجد من دونه ملجأ تلوذ به عند الملمات، فاعتمد عليه في تبليغ رسالة ربك ومعونته إياك بالنصر والتأييد. {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} المفردات: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}: الغداة أَول النهار والعشي آخره، وقد تطلق العشي على الوقت من غروب الشمس إلى العَتمةِ، والعتمة وقت صلاة العشاء، وتمتد لغة إلى ثلث الليل كما قال الخليل، والمراد من عبادتهم ربهم بالغداة والعشي أنهم يعبدونه دائمًا.

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): أَي يقصدون بعبادتهم ذات الله مخلصين دون رياء. (ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ): أي لا تجاوزهم عيناك إِلى غيرهم ولا تقتحمهم، يقال: عدا الأمر وعدا عنه، إِذا جاوزه وتركه. (فُرطاً): ضُيَاعًا. (سُرَادِقُهَا): السرادق معروف كالفسطاط: هو ما يحيط بالشيء، وهو هنا مستعمل فى لهب جهنم على سبيل المجاز بالاستعارة المصرحة. (كَالمُهْلِ): المهل ماءٌ غليظ كدردي الزيت -أي عكره-. (مُرْتَفَقًا): متَّكأً، والارتفاق في الأصل الاتكاءُ على مرفق اليد، يقال بات فلان مرتفقا، أَي متكئًا على مرفق يده. التفسير 38 - {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: فى الآية السابقة أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن قرآن ربه ويتلوه على الناس مؤمنهم وكافرهم، وجاءت هذه الآية آمرة له أن يهتم بفقراء المؤمنين ويحرص عليهم، ويدع حرصه على إيمان وجهاء الكافرين، ولا يسمع ما اقترحوه في حق هؤُلاَء الفقراء، فإنهم غير جادين فيما زعموه من الرغبة في الإيمان. وسبب نزول هذه الآية: أن زعماءَ كفار قريش كأُمية بن خلف وغيره من صناديدهم: قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أَبعدت هؤُلاء الفقراء عن نفسك لجالسناك، فإن ريح جبابهم تؤْذينا فنزلت هذه الآية، وكانوا يقصدون إبعاد أهل الصفة من الفقراء المنقطعين للعبادة، والتلقي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كعمار وصهيب وابن مسعود وبلال، والآية على هذا مكية، وهو الذي رجحه أبو حيان، ويؤَيده ما أخرجه ابن مردويه من طريق جبير عن الضحاك عن ابن عباس، كما تؤَيده الآيات التي بعده وهو المناسب للسورة فهي مكية. وهذا يخالف ما أخرجه ابن مردويه وأَبو نعيم فى الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقالوا: (يا رسول الله: لو جلست في صدر المجلس، وتغيبت عن هؤُلاء وأرواح جبابهم -يعنون سلمان وأَبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف، جالسناك -أو حدثناك- وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} إلى قوله سبحانه: {أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} يتهددهم بالنار) وعلى هذا تكون تلك الآيات مدنية في وسط السورة المكية، والظاهر الأول لما قدمناه

والمعنى: واصبر نفسك وثَبِّتْها مع أولئك الفقراء المخلصين الذين يعبدون ربهم في كل وقت تَتَيَسَّرُ لهم العبادة فيه، يريدون بتلك العبادة ذاته ورضاه، دون رياء للناس ورغبة في ثنائهم. {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}: أَي ولا تجاوزهم عيناك يا محمد ولا تقتحمهم، فتبعدهم عن مجلسك استهانة بهم - كما اقترح عليك رؤَساءُ قريش ليجالسوك ويستمعوا إليك - لا تفعل ذلك - تريد بتركهم وإِغفالهم زينة الحياة الدنيا، بأن يكون جلساؤُك من الأشراف، ولا تطع في تنحيتهم عن مجلسك، مَنْ جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ومعرفتنا، بسبب انصرافه عن الحق وبعده عن الهدى، واتباعه لهواه، وكان أمره ضَياعًا وهلاكا، حيث ترك الإيمان, وتعلل بأسباب واهية، فمثل هذا لا وزن له عندنا، والوزن كل الوزن لأهل الحق الثابتين عليه وإِن كانوا فقراء، فدع هؤُلاء، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. 29 - {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}: وقيل أيها الرسول لهؤُلاء المشركين الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا واتبعوا هواهم وكان أمرهم ضياعًا - قل لهم - هذا القرآن الذي أدعوكم إلى الإيمان به هو الحق من ربكم لا ريب فيه، ولست عليكم بجبار، فمن أَراد الإيمان به حق اعتقاد راسخ، دون اشتراط إِبعاد الفقراء فليؤْمن، وله ثوابه، ومن أراد الكفر به عن هوى وحقد وعنادٍ فليكفر وعليه عقابه. {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}: هذه الجملة تعليل للأمر السابق، أَي قل لهم أيها الرسول: ما أَمرناك به من دعوتهم إِلى الإيمان بما أَنت عليه من الحق وتخييرهم بين الإيمان والكفر به على سبيل، الوعيد، لأنا هيأنا لهؤلاء الظالمين المعاندين المستكبرين إن استمروا على كفرهم - هيأنا وأعددنا لهم - نارًا هائلة أَحاط بهم لهبها الذي يشبه السرادق في إحاطته بهم.

{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}: وإن يستغيثوا من شدة العطش ولهيب الأجواف يغاثوا بماء كعكر الزيت، شديد الحرارة بحيث إذا قرب من أَفواههم يشوي وجوههم وينضجها، فما ظنك بأجوافهم؟ بئس الشراب هذا الماءُ الذي يشبه المهل، وساءت النار منزلا ومقرًّا. أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححه وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى - كالمهل - (كعَكَرِ الزيت، فإذا قربَ إِليه سقطت فروة وجهه فيه). {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} المفردات: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: جنات إقامة واستقرار، من عَدَنَ بالمكان أقام به واستقر فيه. {أَسَاوِرَ}: جمع أسورة، جمع سوار بكسر السين وضمها، وهو ما في الذراع من الحلي. {مِنْ سُنْدُسٍ}: السندس رقيق الديباج وهو مُعَرَّب بلا خلاف، قيل أصلة بالهندية سندون وغيرته الروم إلى سندوس، ثم عرب بحذف الواو، وقيل أصله فارسى. {وَإِسْتَبْرَقٍ}: هو غليظ الديباج كما قال قتادة وعكرمة، أو هو ديباج منْسُوج بذهب كما قال ابن بحر. {الْأَرَائِكِ}: السُّرُرُ في الحجال، فإن لم توجد في الحجال فهي سُرُرٌ وليست أَرائك، أَخرجه البيهقى عن ابن عباس.

التفسير 30 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}: بين الله في الآية السابقة سوء مصير الكافرين، وبين في هذه الآية والتي تليها حسن مصير المؤمِنين، وبضدها تتميز الأشياءُ. والمعنى: إن الذين صدقوا بما أنزل الله عليك من الحق، وعملوا بعد إيمانهم الأعمال الصالحات التي دعوتهم إِليها حسبما أوحى إليك ربك، إنا لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا من تلك الأعمال بل نحسن جزاءه عليه، فكيف بالذى تَرَقَّى في عمل الصالحات، وشغل نفسه بالطاعات والخيرات، إن أجره لا شك عظيم، كما يصوره قوله سبحانه: 31 - {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}: فهذه الجملة مستأنفة لبيان عظمة أجور المؤْمنين الصالحين. والمعنى: أولئك المؤْمنون المواظبون على عمل الصالحات، لهم ثوابًا على إيمانهم وصلاحهم جناتُ إقامةٍ واستقرار، لا يبرحونها بأنفسهم ولا يخرجهم منها غيرهم، فهم فيها خالدون تجري من تحت غرفهم وقصورهم الأنهار وهم فيها آمنون ناعمون، يحلون فيها بأذرعتهم من أساور من ذهب لتزداد رفاهتهم ومتاعهم ونعيمهم، وليس الأساور في الآخرة للرجال لا عيب فيه؛ لأنه بين قوم يعتادونه، بخلافه في الدنيا فإنه بين قوم لا يعتادونه، فلهذا يعيبونه، فالشيءُ يكون مستحسنًا في حال, ومستهجنًا في حال آخر. {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}: ويلبس أهل الجنة ثيابًا خضرًا من رقيق الديباج وغليظه، فوق تحليتهم بأساور من ذهب، زيادة في بهائهم ومتعتهم، فإن الخضرة تمنح البهاء وتسر النفس أكثر من غيرها من الألوان، ولهذا قال القائل: ثلاثة يذهبن الحزن. الماءُ والخضرة والوجه الحسن.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}: أي أنهم يتمتعون هذا المتاع في الجنة، في حال كونهم متكئين فيها على السُّرُرِ داخل الحجَال (¬1) نِعْمَ الثواب ذلك الذي وعدوا به، من الجنة ونعيمها المقيم، وحسنت الجنة دار إقامة، بما اشتملت عليه من فنون الجمال، وألوان النعيم. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} المفردات: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ}: أَي أحطناهما بنخل. يقال حَفَّ القومُ بفلان يحُفُّون حفًّا طافوا به والحِفاف الجانب. {بِنَخْلٍ}: النخْل يؤنث ويُذَكَّر اسم جمع، واحدته نخلة وجمعه نخيل. {أُكُلَهَا}: الأكل بسكون الكاف وبضمها التمر والرزق والحظ من الدنيا. {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}: الثمرُ محركة حمْل الشجرة، وأنواع المال، الواحدة ثَمرةٌ بفَتحاتِ وثَمرةٌ كَسَمُرةٍ، والجمع ثِمار كرجال، وجمع الجمع ثُمُرٌ بضمتين. ¬

_ (¬1) الحجال جمع حجلة. وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس - مختار الصحاح.

{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}: يُراجعه، يقال تحاوروا أَي تراجعوا الكلام بينهم. {وَأَعَزُّ نَفَرًا}: النفر محركة جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة. {أَنْ تَبِيدَ}: أن تهلك وتفنى. {خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}: المنقلب العاقبة والمصير. التفسير 32 - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... } الآية. المعنى: واضرب أيها النبي مثلا للمؤْمنين الذين يدعون وبهم بالغداة والعشي مع مكابدتهم ألم الحرمان والفقر، وللكافرين الذين استنكفوا عن مجالسة الفقراء من المؤْمنين. وجحدوا فضل معطِيهم مع تقلبهم في نعيمه، لتبين بهذا المثل للفريقين ولكل من يتعزز بالدنيا ويغترّ بها - لتبيّن - حالًا فيها عبرة للمعتبرين، وتبصرة للمستبصرين. قال الكلبى: نزلت هذه الآية في أخوين مخزوميين من أهل مكة أحدهما مؤْمن وهو مسلمة عبد الله بن عبد الأسود. والآخر كافر هو الأسود بن عبد الأسود. وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إِسرائيل، أنفق أَحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله. ونظرا لهذا الخلاف نرى عدم التقيد برواية منهما، فكما يحتمل أن القصة واقعية يعلم الله صاحبيها، يحتمل أيضًا أَن تكون مثلا ضربه الله لهذه الأمة لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا - ذكره الماوردي. 32 - {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}: أَي جعل الله لأحد الرجلين - وهو الكافر - بستانيْنِ من كروم طابت أصولها، وتنوعت ثمارها مذاقا ولونًا، وكلام الراغب يشير إِلى أَن العنب مشترك بين الثمر والكرم وهو شجرها وفق إطلاق اللغة، وقد أَفادت الآية الكريمة أن النخل محيط بالجنتين من جميع جهاتهما لتصون الأعناب وتحفظها، وأن الزرع وسطها, لتكونا جامعتين للفواكه والأقوات على هذه الصورة الرائعة والوضع الأنيق. 33 - {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}: المعنى أَن كل واحدة من الجنتين أَعطت ثمرها تامًّا كاملًا طيبًا، ولم تنقص منه شيئًا، فليست كسائر البساتين، فإنها غالبا يكثر ثمرها في عام ويقل في آخر بسبب ما يحدث

فيه من تقلبات جوية، وآفات أرضية أو سماوية، وربما لا تثمر أصلًا في بعض الأعوام نتيجة لما ينزل بها من نوازل، تعوقها عن التفتح وإخراج الزهر المفضي إلى الثمر. {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}: وأَجرينا بين الجنتين نهرًا غزيرَ الماء، تيسيرًا لسقيهما، وزيادة في جمالهما وطيب هوائهما، وتقديم إيتاء الأكل في قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} على تفجير النهر في قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} من باب تقديم الغاية على الوسيلة، والمنفعة على سببها لأنها هي المقصودة من إنشاء البساتين، وتفجير الأنهار. 34 - {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}: المعنى: وكان لصاحب الجنتين ثمر من أحمال أشجار أُخرى، وكذا من أنواع المال المثمر من ذهب وفضة وحيوان وغير ذلك كما فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وعلى هذا فالثمر لفظ عام, يطلق على ثمار الاشجار، وعلى جميع أنواع المال المثمر. وهذا الكافر بدل أن يشكر نعم الله عليه. دفعه غروره وتعلقه بمباهج الحياة الدنيا إلى أَن يقول لصاحبه المؤْمن: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}: قال له ذلك وهو يراجعه الكلام في إنكاره البعث وفي تَعْييره له بالفقر، وفخره عليه بالقوة والمنعة، أي أنا أَوْفر منك مالًا تعدَّدت مصادره، وتنوعت موارده، وأعز حشما وأَعوانا. قال قتادة "تلك والله أمنية الفاجر - كثرة المال وعزة النَّفَر". 35 - {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}: أي أَنه تابع اعتزازه وغروره، وتمادى في إعراضه وكفره، ودخل جنته وهو ضار لنفسه حيث عرضها للهلاك، وعرض النعمة للزوال. لوضعه الشيء في غير موضعه. فكان اللائق به أن يعرف للنعمة حقها من شكر المنعم بها، والتواضع لمجريها جل شأنه. لا ما وقع منه من إنكارٍ وكفر، حكاه الله عنه بقوله سبحانه: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}: وهذا استئناف أجيب به عن سؤَال مقدر نشأ من ذكر دخول جنته وهو ظالم لنفسه، كأنه قيل: فماذا قال حينئذ، فقيل: {قال مَا أَظنُّ

أن تبيد هذِهِ أبدا}: أي ما أعتقد أن تهلك هذه الجنة مدى الحياة، فالمراد بالأبديّة طول المكث .. لا معناها المتبادر، وإنما قال ذلك لطول أمله فى الحياة، وغفلته عن نعمة الله. والعدول عن التَّثْنية إلى الإفراد فى قوله سبحانه: {وَدَخَل جَنتَهُ} لاتصال إحداهما بالأُخرى كأنهما جنة واحدة. أو لأن الدخول لا يمكن أن يكون فى الجنتين معا في وقت واحد وإِنما يكون في واحدة فواحدة. 36 - {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}: أي أنه تمادى فى كفره بإنكاره البعث اعتقادًا منه، وردا على صاحبه لما وعظه وخوّفه قيام الساعة، حيث قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي لا أَحسبها كائنة وقائمة فيما سيأتي. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}: أَي أَنه إِن رد إِلى ربه مبعوثًا -على سبيل الفرض والتقدير- كما زعم صاحبه ليجدنَّ في الآخرة خيرًا من جنته في الدنيا مرجعًا ومصيرًا تمنيًا على الله وادعاءً لكرامته عليه، ومكانته عنده، واعتقادًا بأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه. يقول هذا ولم يدر بخلده أَنه إمهال واستدراج. حتى إذا أَخذه لم يفلته (¬1). {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)} ¬

_ (¬1) اقتباس من حديث الشيخين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".

المفردات: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}: أي ثم جعلَكَ سَوِيًّا معتدلًا. {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}: أصله لكن أنا هو الله ربي، فحذفت همزة أنا، وأدغمت نون {لَكِنَّ} في نون {أَنَا} بعد حذف همزتها - قاله الكسائي والفراءُ وغيرهما. {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}: أي ينزل الله عليها عذابًا مقدرًا محسوبًا - ينزله - من السماء، كالثلج والبرد ونحوهما. {صَعِيدًا زَلَقًا}: أي أرضًا لا نبات فيها ولا تثبت عليها قدم، لما فيها من الوحل أو من الرمال التي تزل فيها الأقدام {مَاؤُهَا غَوْرًا}: أَي غائرا فيها وذاهبا في طبقاتها البعيدة. {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}: أي لا تقدر أن ترد الماء الغائر بأية حيلة من الحيل. التفسير 37 - {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ... } الآية. استئناف كما سبق في قوله سبحانه: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ ... } كان سائلًا سأل عما راجعه به صاحبه المؤْمن واعظًا له، وزاجرًا إياه عما هو فيه من الكفر بالله عُجْبًا وغرورًا فأجيب السائل بالآية. والمعنى: أن صاحبه المؤمن - حال محاورته له توجه إليه منكرًا عليه ما وقع فيه من جحود وكفر، فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}: أي كيف تكفر بالذي خلقك من تراب في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام، لما أن خلق كل فرد من أَفراد البشر له حظ من خلق أَصله، فيكون ذلك الكافر مخلوقًا من تراب لأنه مادة أَصله الذي تناسل منه، وقيل {خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} لأنه أصل مادتك التي نشأت منها إذ أنها ناشئة عن أَغذية نبتت من التراب {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}: وهي مادة خلقك القريبة بعد خلق أصلك. وقد بدأَ سبحانه خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}: أي جعلك رجلًا في أَحسن تقويم حيث أنشأك. معتدل القامة سوِيَّ الخَلْق. منذ طفولتك حتى أَصبحت رجلًا، تلى أَمورك وتصرف شئونك. 38 - {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}:

المعنى: أَنا لا أَقول بمقالتك الدالة على الكفر من إنكار البعث وغيره. لكن أنا أقول هو الله ربي. فأنا مؤمن مُوحِّد، أَعترف له سبحانه بالربوبية والوحدانية. وبقوله هذا أثبت لصاحبه الشرك تعريضا. للإيذان بأن كفره كان بطريق الشرك. لأنه لمَّا أَنكر البعث فقد عجَّز البارى ومن عجَّزه فقد سوَّاه بخلقه في العجز وهو شِرك. أو المراد من الشرك مطلق الكفر، وقد أُطلق الشرك عليه كثيرا وجعلوا منه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فأريد من الشرك الكفر الشامل لما عليه اليهود والنصارى وما عليه غيرهم، ويقوِّي هذا الإِطلاق قوله تعالى فيما سبق حكاية عن الصاحب الكافر: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} فهو مُقِرٌّ بعدم الشرك والله سبحانه هو ربه لا سواه. ومع ذلك أُطْلق عليه الشرك هنا تعريضا نظرا لأنه يراد منه مطلق الكفر. 39 - {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ... } الآية. في هذه الآية حث وتحضيض من المؤمن للكافر على ما تضمَّنته من النصيحة، وتوبيخ له على تركها. أَي هلا قلت حين دخلت جنتك ونظرت إلى كمال تنسيقها ومختلف ثمارها. {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فحمدت الله على ما أنعم به عليك، حيث أعطاك من المال والولد والرجال ما لم يعط غيرك، اعترافا منك بقوته، وإِقرارا بعجزك، وإِيمانا بأنه لو شاء لسلبك هذا العطاء الذي جعلته موضع فخرك واعتزازك، لأَن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. كما قال بعض السلف: من أَعجبه شيءٌ من ماله وولده فليقل ما شاء الله لا قوة إِلا باللهِ .. وروى الإِمام أَحمد بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أَدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا باللهِ). {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا}: 40 - {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}: أَي إن ترني أَمامك أَقل منك مالا وأولادًا وأعوانًا، فأَملى في فضل الله يجعلني أتوقع أَن يبدل ما بي وبك من الفقر والغنى فيرزقنى لإيماني جنة خيرا من جنتك التي كانت سببًا في طغيانك وكفرك بربك. {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}: ويبعث على جنَّتك من السماءَ قَدَرا محسوبا يكون سببا في هلا

{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}: أي أرضًا بلقاء لا نبات فيها ملساء لا تثبت عليها قدم حيث تزلق وتزول عن مكانها. بمعنى أنها تصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها. فتكون بذلك أضرّ أرض بعد أن كانت أنفع أرض. 41 - {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}: أَو يُصبح ماؤُها غائرًا أَو ذاهبًا فيها بحيث لا يمكنه استخراجه من جوفها, ولا تقدر على تفجيره بمختلف الوسائل والحيل، والتعبير بغَوْرًا .. بدل غائرًا .. للمبالغة في ذهاب مائها .. كرجل عدْل بدل عادل، للمبالغة في عدله - وإلى هنا انتهت مناظرة المؤمن لصاحبه الكافر وإِنذاره. ويحكي الله عاقبة كفره وغروره فيقول سبحانه: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} المفردات: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}: أهلك ماله كله. مأخوذ من الإحاطة والاستدارة حول الشيء من جميع جهاته، تمكنًا منه وغلبة عليه، ثم استعمل في كل إهلاك. {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ}: يضرب باطن إحدى يديه على ظاهر الأخرى. ثم يعكس الأمر مرارا ندمًا على ما حدث ويجوز في معناها غير ذلك. وسنعرض له في الشرح. {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}: ساقطة على أعمدتها التي هوت قبلها. {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ}: أي جماعة وليس للفِئة واحد من لفظها. {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}: أَي ممتنعًا عما ينزله الله به. {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ}: الولاية بفتح الواو وكسرها: النصرة والغلبة.

التفسير 42 - {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ... } الآية. الآية عطف على مقدر. أَي وقع بهذا الكافر ما خوَّفَهُ منه صاحبه المؤمن {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بإهلاك جنته وما فيها من نخيل وأعناب وزروع. والظاهر أن ذلك كان ليلًا لقوله سبحانه: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (¬1) أي فأصبح يضرب باطن إحدى يديه على ظاهر الآخرى، ثم يعكس صنيعه ويكرره مرارًا ندمًا وحسرة على ما أنفق في عمارتها من مال وما بذل في تنسيقها من جهد، وما علق على بقائها الدائم من أَمل حيث كان يقول: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} ويفسر أبو حيان تقليبه كفيه بأنه يبدى باطن كلتيهما، ثم يعكس ليبْدو ظاهرهما، ويكرر ذلك من شدة الندم. فَعَلَ ذلك حين رآها {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}: أي حين رأَى أشجار الكروم ساقطة على أعمدتها التي تصنع لحملها حفاظًا عليها وذلك لسقوط تلك الأعمدة لما أصاب الجنة من عذاب السماء الذي جعلها صعيدا زلقا. وذِكْرُ هلاك الكروم مُغْن عن ذكر هلاك النخيل والزروع لأنها حيث هلكت وهي على عروش تسندها وتقويها. فهلاك غيرها بالطريق الأولى. {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}: أي يا ليتنى عرفت نعم الله عليّ وعرفت أنها كانت بقدرته فلم أُشرك به، وكأنه تذكر موعظة أَخيه له. لمَّا أبصر ما نزل بجنته، وعلم أن هلاكهما من قبل الشرك وبسببه، لذلك تمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أَصابه. وقيل هذا القول منه توبةٌ عن الشرك. وندمٌ على ما وقع منه. فيكون استحداثا للإيمان. لأن ندمه على الشرك فيما مضى. يشعر بأنه آمن في الحال. فكأنه قال آمنت الآن وليت ذلك كان أولًا. 43 - {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية. المعنى: ولم يكن لهذا الكافر ولد ولا عشيرة ممن افتخر بهم واستعز، يقدرون على ¬

_ (¬1) هذا إذا لم تكن أصبح بمعنى صار، فإن كانت كذلك فلا تشير الآية إلى زمن الهلاك حينئذ.

نصرته بدفع الإهلاك عن جنته أو ردِّ ما هلك، أَو الإتيان بمثله من دون الله. لأنه سبحانه هو الفعال لذلك كله. فهو القادر وحده وبيده مقاليد السماوات والأرض. {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}: أَي وما كان ممتنعا عن انتقام الله بما زعم لنفسه من قوة وجاه. 44 - {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ... } (¬1) الآية. هذه الجملة تأكيد وتقرير للآية السابقة والمعنى في هذا الموطن وتلك الحال التي حلَّت بجنته. لن يجد مُنْقِذا له يدفع عنه ما نزل به. لأن النصرة والغلبة لله الحق. فلا يقدر عليها أحد غيره. واستظهر أبو حيان كون هنالك إشارة إلى الدار الآخرة. ويكون الكلام تم عند قوله: {مُنْتَصِرًا} أَي تقع الموالاة لله الحق يوم القيامة من كل أحد - مؤْمن أو كافر - حين يقع العذاب لقوله سبحانه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (¬2). {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}: أي الله خير جزاءً في الدنيا والآخرة لمن آمن به واتبع سبيله، وخير عاقبة لأوليائه، بمعنى أَن الأعمال التي تكون له سبحانه. ثوابها خير, وعاقبتها حميدة. وليس ثَمَّ غير الله يُرْجى منه نافع حتى يكون رجاءُ الله خيرا، من رجائه ولكنه ورد حسبما يقع في ظن الجهال لا بحسب الواقع تقريعا لهم وتوبيخا، وقد يقال إن التفضيل هنا على غير بابه، فلا ثواب ولا خير يومئذ إلا لله ظاهرًا وباطنًا. {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} ¬

_ (¬1) قرأ الأعمش وحمزة والكسائي الولاية. بكسر الواو والباقون بفتحها وهما بمعنى واحد بمعنى النصرة والغلبة وقيل الولاية بالفتح من الموالاة كقوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} من الآية 257 البقرة، وبالكسر بمعنى السلطان والقوة, وقال أبو عبيدة إنها بفتح الواو للخالق وبكسرها للمخلوق. (¬2) سورة غافر: آية 84.

المفردات: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا}: يابسا متفتتا من الهشْم وهو كسر الشيء اليابس. {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}: تفرقه وتنسِفه. يقال ذَرَتْه الريح تذْروه ذرْوا: إذا طارت به وفرَّقته، ومثله أذرته تُذْرِيه إِذراء. التفسير 45 - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } الآية: أَي اذكر للناس. ولا سيما هؤلاء المتكبرون الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين - اذكر لهم - مثل الحياة الدنيا، ببيان ما يُشبهها في زهرتها ونضارتها. وعدم اسقرارها. وسرعة زوالها حتى لا يطمئنوا إليها ولا يعكفُوا على التعلق بها, ولا يعرضوا عن الآخرة دار الجزاء والبقاء. أوْ بيِّنْ لهم صفتها العجيبة التي تشبه المثل في غرابتها، هذه الحياة: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}: أَي أَنها تشبه حال النبات الذي أنبته الله بماءٍ كثير أَنزله من السماء، فاختلط بهذا الماء نَباتُ الأرض بعد أن روى منه وامتلأت به عروقه، فما وكثر أو اختلط بسبب الماء نباتُ الأرض. فالتف بعضه ببعض بعد أن كثر واستوى على سوقه. هذا النبات الجميل الناضر لم يلبث حتى أسرع إِليه الفناءُ بدون إبطاءٍ. ويشير إِلى ذلك الإِتيان بالفاء في قوله سبحانه: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}: أي فأصبح متكسرا متفتتا من اليُبْسِ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به وتجىءُ، فالمشبه في الآية: الحياة الدنيا في جمالها وزينتها ثم فنائها، والمشبه به: الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات يكون أخضر مهتزا ثم يصير هشيما تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}: أي أنه سبحانه على كل شيء من الأشياء - ومن جملتها الإيجاد والإفناءُ - كامل القدرة يفعل ما يشاءُ جل شأنه.

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} التفسير 46 - {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... } الآية. في هذه الآية بيان لما كانوا يفتخرون به من زينة الحياة الدنيا متمثلة في المال والبنين لأنَّ في المال جمالا ونفعا يصلون به إِلى مآربهم وكل ما تقتضيه حياتهم، وفي الأولاد قوةً ودفعا يبلغون بهما إِلى ما ينشدونه من عزة ومنعة. كما وقع في محاورة الصاحب الكافر لصاحبه المؤْمن حيث قال له على سبيل التعالى والفخر: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}. والمعنى: إن ما تفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد عرفتم شأنها في سرعة زوالها. وقرب اضمحلالها، فكيف زينتها التي هي صفة من صفاتها، إنها تزول وتفنى قبل زوالها - فلا تجعلوها كل همكم، وتعرضوا عن الآخرة دار الكرامة والجزاء بل اعملوا لخيري الدنيا والآخرة مصداقا لقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (¬1). والآية ردٌّ على عيينة بن حصن وأمثاله، الذين افتخروا بالغنى والشرف على الفقراء والمستضعفين من المؤمنين. إِذ بينت لهم أن ما كان من زينة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، وإنما يبقى ما كان زادًا في القبر، وعدة في الآخرة، حيث قال سبحانه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}: قال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة: الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس وقال ابن عباس في رواية أخرى: هي كل عمل صالح من قول أَو فعل يبقى للآخرة: اهـ ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية 77

فيدخل فيه كل عمل جادٍّ لخدمة الإِسلام والذود عنه بالنفس والمال والمقال، وكل عمل ينصر حقا أَو يدفع باطلا. أَو يعاون محتاجا أو ينشر علمًا - وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأخرج الإمام أَحمد والحاكم وصححه، وغيرهما عن أبي سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله). وهناك أَقوال أخرى في معنى الباقيات الصالحات، وحسبنا ما ذكرناه. ويدخل في عموم معنى الباقيات الصالحات. أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي دخولا أوليًّا، فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، وتلك الأعمال باقية دائمة لبقاء عوائدها عند فناء ما تطمح إليه النفس من حُظوظ الدنيا، وحسبها أنها عند ربك وفي كنفه. وتتحقق خيريتها في ثواب جزيل يعود على صاحبها، وأمل عظيم ينال به في الآخرة ما كان يؤمله في الدنيا، كما يشير إلى ذلك قوله جل شأنه: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، أما زينة الدنيا من المال والبنين فليس لها ذلك إذ هي مضمحلة زائلة حيث نسبت إِلى الحياة الدنيا وهي بما فيها ومن فيها إِلى فناء، فمن اهتم بزينتها وقصَّر في عمل الآخرة. باء بالخيبة والخسران. وتقديم المال في الآية على البنين لأن الزينة به أظهر، وهوميسور لكل أَحد، في أَي وقت وحين غالبًا.

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} المفردات: {نُسَيِّرُ الْجِبَالَ}: ننقلها ونزيلها من أَماكنها على وجه الأرض. {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}: ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبل وشجر ونبات وبناء {وَحَشَرْنَاهُمْ}: جمعناهم من كل صوب. {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}: فلم نترك منهم أحدا دون حشر. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ}: "أل" في الكتاب لجنس الكتب، والمقصود كتب صحائف الأعمال. {مُشْفِقِينَ}: خائفين مما في كتبهم. {يَا وَيْلَتَنَا}: الويلة الهلاك وحلول الشر والحسرة. {إِلَّا أَحْصَاهَا}: أي عدها وأحاط بها. التفسير 47 - {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ... } الآية. يخبر الله سبحانه بهذه الآية وما بعدها عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، تحذيرا للمشركين وترهيبا. والمعنى: واذكر لهم أيها النبي يوم ننقل الجبال. ونزيلها من أماكنها. ونسِّيرها على هيئاتها كما نسير السحاب يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ

تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (¬1). ثم تتشقق وتتفتت فتكون كحبات الرمل المتناثرة كما قال سبحانه: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (¬2). ثم تصير غبارا منتشرا تسوقه الرياح حيث أراد الله كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (¬3) وفي نهاية أَمرها. تصبح كسراب يُرى من بعيد حتى إذا جئته لم تجد شيئًا، وذلك لتفرق أجزائها تفرقا تاما كما قال سبحانه: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (¬4). بعد هذا الصنيع من القوى القادر، يظهر سطح الأرض مستويا، لا عوج فيه ولا أَمتا أي لا انخفاض به ولا ارتفاع. ويشير إلى ذلك قوله جل شأنه: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أولكل من تتأتي منه الرؤية، أي وترى الأرض من جميع جهاتها بادية ظاهرة، ليس عليها ما يسترها أويحجب جزءا منها من أودية وكُثْبان، وجبال وأشجار وأبنية وبحار، وزروع وأعشاب، حيث اجتثت جبالها وهدمت أبنيتها، واقتلعت أشجارها، وغاضت بحارها، وانمحت زروعا وأَعشابها وغدت قاعا صفصفا (¬5). أي أرضا مستوية جرداء. وقيل بارزة أي برز ما فيها من الكنوز والأموات، كما قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (¬6). واستغنى بذكر زوال الجبال في الآية عن ذكر زوال غيرها. لأنه يُعلم من ذكر زوالها، زوال غيرها بطريق الأولى: إذ هي أعظمها وأَثبتها وأضخمها. {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}: أَي وجمعناهم إلى الموقف من كل حدب وصوب بعد قيامهم من قبورهم، فلم نترك منهم أَحدا، هانَ شأنه أوعَظُم كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬7). وأَثر التعبير بالماضى في قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ} للدلالة على تحقق وقوع الحشر التابع للبعث الذي أنكروه حيث قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} تكذيبا لهم وتقريعا؟. ¬

_ (¬1) سورة النمل من الآية - 88 (¬2) سورة المزمل الآية 14 (¬3) سورة الواقعة الآيتان - 5، 6 (¬4) سورة النبأ الآية - 20 (¬5) القاع: المستوى من الأرض، وزاد ابن حارس الذي لا ينبت. (¬6) سورة الانشقاق الآية 4 (¬7) سورة الواقعة الآيتان 49،

48 - {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ... } الآية. أي أنهم يُحَضرُون يوم الموقف العظيم لا يتخلف منهم أحد فيقفون مجتمعين غير متفرقين، ليقضى الله بينهم بالحق وفي قوله: {صَفًّا} ما يشير إِلى اجتماعهم صفوفا، وفي الحديث الصحيح: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا". وقال مقاتل يعرضون صفا بعد صف لا أنهم صف واحد. {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: تقريع للمشركين المنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءُوس الأَشهاد، وذلك بأن يقال لهم لقد جئتمونا على هيئة تشبه الهيئة التي كنتم عليها عند خلقكم أَول مرة، حفاة عراة غُرْلا أَي غير مختونين، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلا. قلت يا رسول الله الرجال والنساءُ، ينظر بعضهم إِلى بعض قال: يا عائشة الأمر أَشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". وفي رواية أُخرى "الأمر أشد من أَن يهمهم ذلك". أَو يقال لهم: لقد جئتم وليس معكم شيء مما كنتم تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬1). أي بعثناكم بعد الموت فرادى كهيئتكم عند خلقكم وإحيائكم أول مرة بلا مال ولا ولد ولا سلطان. {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا}: انتقال لمواجهة منكري البعث بالتوبيخ والتقريع أي ادعيتم في الدنيا أن لن تبعثوا, ولن نجعل لكم موعدا نُنْجِزُ فيه ما وعدنا من البعث وتوابعه، وقد خاب ظنكم، وكذب زعمكم، وتحقق عيانا ما أَنكرتموه، فقد أَحييناكم بعد موتكم وجئتمونا للحساب. 49 - {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ... } الآية. الآية معطوفة على قوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} داخلة تحت الأمور الهائلة العظيمة من أهوال يوم القيامة التي أريد تذكيرهم بها. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية - 94

والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضع الكتاب. ويُقصَد به صحائف الأعمال وكتبها، وذلك بِجَعلها في أَيدى أصحابها يأخذ كل منهم كتابه بيمينه أَوبشماله، وحينئذ تُبْصِر العصاة جميعًا خائفين مما في الكتاب من الجرائم التي اقترفوها. والذنوب التي باءُوا بإِثمها، ويدخل فيهم منكروالبعث دخولا أوليًّا. {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}: أي أنهم عند وقوفهم على كل ما فيه وعلمهم بما في تضاعيفه. ترتفع منهم أَصوات الحسرة والحيرة. ويتمنون الموت والهلاك حتى لا يروا العذاب الأليم، وقد دعاهم إلى ما صنعوا، ما وجدوه في الكتاب الذي وضع في يد كل منهم بما يدعوإلى العجب والفزع الذي أشار إِليه قولهم: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ} إلخ حيث إنه ليس له نظير ولا مثيل من الكتب الأخرى. فهوعلى حال لم يَتْرك معها صغيرة ولا كبيرة إلا عدها وأحاط بها. قال سعيد بن جبير: إن الصَّغِيرة اللَّمم كالمسيس والقُبَل، والكبيرة كالمواقعة والزنى. قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أَحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إِلى الله تعالى من الصغائر قَبْلَ الكبائر. {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}: أي ما عملوه في الدنيا وجدوه مسطورا في كتاب كل منهم أووجدوه حاضرا بين أَيديهم حالًا غير مؤَجل، أووجدوا جزاء أعمالهم. {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}: أَي لا يأخذ أَحدا بجرم أَحد، ولا يأخذه بما لم يعمله، وقد وعد سبحانه بإثابة المطيع والزيادة في ثواب ما عمله مما أمَرَهُ بهِ، وارتضاه منه، كما وعد بتعذيب العاصى بمقدار جرمه من غير زيادة على ما عمل، وأنه قد يغفر له ما عدا الكفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). سبُحانه جل وعلا يفعل ما يشاءُ ويختار. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 116

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} المفردات: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}: للسجود معنيان؛ معنى لغوي وهو: التواضع والخضوع تحية وتعظيما بانحناء وغيره لا بوضع الجبهة على الأرض. ومعنى شرعي: بوضع الجبهة على الأرض للعبادة ولا يكون هذا إلا لله تعالى. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: أَي نخرج عن أَمره. لأن معنى الفسق الخروج، من قولهم فسق الرطب فسوقًا إِذا خرج عن قِشْرِه. وفعله فسق كنصر وضرب وكرُم فسقا وفسوقا. وقيل صار فاسقًا بسبب عصيانه أَمر ربه فعن للسببية. التفسير 50 - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... } الآية. أي. واذكر أيها الرسول وقت قولنا لهم {اسْجُدُوا لِآدَمَ} سجود تشريف وتكريم وفق المعنى اللغوي للسجود؛ وهو يحصل بانحناء ونحوه دون وضع الجبهة على الأرض، وهذه تحية أبطلها الإِسلام. وأَحل السلام والمصافحة محلها. أما وفق المعنى الشرعي فلا لأنه لا يتحقق إلا بوضع الجبهة على الأرض قصدا إِلى العبادة وهومأمور به لله وحده. {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}: أَي سجد الملائكة جميعًا امتثالا وطاعة ما عدا إبليس، فإنه لم يكن من الساجدين إباءً منه واستكبارا، وقد حمله على هذا التمرد أَنه {كَانَ مِنَ الْجِنِّ}: فهوأجنبي عنهم حيث خلق من مارج من نار. وخلقوا من نور. فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"خُلِقَت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار" وهذا ظاهر في أنه ليس منهم بل كان معهم ومعتبرا في عدادهم لوجوده بينهم، ولذا قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أَبي حاتم: "قاتل الله أَقوامًا زعموا أَن إِبليس من الملائكة والله يقول: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنبارى في كتاب الأضواء وأَبو الشيخ في كتاب العظمة أَنه ما كان إِبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أَصل الإِنس. ولكون إِبليس عليه اللعنة من الجن، وليس من الملائكة استكبر فاستحب العمى على الهدى، وتنكب الطريق. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}: أي فخرج عن طاعته سبحانه - قاله الفراءُ، وأصله مِنْ فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وقيل معناه فاسقا كافرا بسبب أمر ربه. بمعنى أَتاه الفسق لما أمر فَعَصَى: فعن للسببية، وقيل ففسَق عن رَدِّ أمر ربه بخروجه عن الطاعة، ففي الكلام مضاف مقدر والفسق يقع على القليل والكثير من الذنوب، ولكن تُعُورف فيما كان كثيرا، وهو أَعم من الكفر. وذُكِرتْ قصة إبليس هنا لتشديد النكير عليه والتنفير منه، تبعيدا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به، وذلك لا يعد تكرارا مع ذكرها قبلُ، حيث إِن لها فائدة غير الفائدة التي كانت لذكرها قبلا وهي أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر، وذكر خوف المجرمين ورهبتهم مما سُجِّل في كتبهم من كل صغيرة أَو كبيرة، ناسب الإتيان بها تذكيرا لهم بأن إِبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي، واقتراف الآثام، واتخاذ الشركاء والأنداد، فهم في ذلك تابعون لتسويله وإغرائه كما ينبىءُ عنه قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}: بهذا الاستفهام وبَّخ الله المشركين وأنكر عليهم بعد علمهم بقبائح الشيطان وأباطيله أَن يستجيبوا له فيتخذوه وذريته أولياء وأعوانا لهم من دونه. مع أنهم لا يجهلون حالهم من العداوة والبغضاء لهم، والمراد من {ذُرِّيَّتَهُ} أَعوانه وأشياعه ممن سلك طريقه في الإضلال والإفساد مِنْ شياطين الجن والإنس، وقال ابن عطية في قوله: {وَذُرِّيَّتَهُ} ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسي

الشياطين الذين يأتون بالمنكر، ويحملون على الباطل، ونقل الآلوسي في تفسيره، أَن بعضهم قال: لا ولد له والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين وعُبِّر عنهم بذلك مجازًا تشبيهًا بالأولاد اهـ. وأعدل الأقوال وأَسلمها في المسألة قول القشيرى أبو نصر كما نقله القرطبي: إِن الله أخبر أَن لإِبليس أَتباعًا وذرية، وأَنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤُهم. ولا يثبت عندنا كيفيةٌ في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس. فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح: اهـ. وهو يتمثل ويتصور، ويظهر ويختفي، ويَرى من حَيْثُ لا يُرى. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: "إِن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي فيُحَدِّثهم بحديث الكذب. فيتفرقون يقول الرجل منهم سمعت رجلًا أَعرف وجهه ولا أَعرف ما اسمه يُحَدِّث". وفي التنزيل يقول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬1). {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}: أي بئس البدل عن الله تعالى للظالمين: إبليس وذريته، أَو بئس عبادة الشيطان، بدلا عن عبادة الله. والالتفات من الخطاب في قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} إلى الغيبة في قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} مع وضع الظاهر موضع ضمير المخاطبين، ليشير اللفظ الظاهر إِلى أن ما فعلوه ظلم قبيح يؤْذِن بأنهم أَهل لشدة السخط، وبالغ الازدراء. {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)} المفردات: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ}: ما أَريتهم. {عَضُدًا}: العضد ما بين المرفق والكتف من الذراع، والمقصود هنا. المعين أو النصير. ¬

_ (¬1) الأعراف: من الآية 27

التفسير 51 - {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}: بعد أَن أَبرزت الآية السابقة موضع العجب من اتخاذ هؤُلاء الظالمين إِبَليسَ وذريته أَولياء لهم من دون الله أوضَحت هذه الآية الكريمة عدم صلاحية إبليس وجنوده لأن يكونوا شركاء لله وأَعوانًا له، كما بينت ضلال تابعيهم وغباءهم، حين اتخذوهم أولياء لهم. والمعنى: أَن الله سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما وحده ولم يهيئ لإبليس وذريته مشاهدة هذا الخلق ولا المشاركة فيه. حيث خلقت السماوات والأرض قبل خلق إِبليس وذريته فكيف جعلهم أتباعهم الظالمون أولياء لهم من دون الله، وهم عاجزون عن الخلق والتدبير ولا يعلمون شيئا عن كيفية خلقهم وتدبير أمورهم فإنهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬1). {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}: ولا ينبغي لي - وأنا القوى العزيز - أن أحتاج إِلى مُعِين أَو نصير يساعدني في الخلق والتدبير من هؤُلاء الضالين المضلين. {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} المفردات: {مَوْبِقًا}: أَي مهلكًا يشتركون فيه وهو النار، والموبق اسم مكان من وَبَقَ - كوثب - بمعنى هلك. {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}: الظن هنا بمعنى التوقع والعلم، أي ترقعوا وأَيقنوا أَنهم مخالطوها واقعون فيها، ومثل ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُورَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬2). أي يوقنون أنهم ملاقوه. {مَصْرِفًا}: مجالا للانصراف أَو الهرب والفرار. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: الآية 3 (¬2) سورة البقرة: الآية 46

التفسير 52 - {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ}: واذكر لهم يا محمد يوم الجزاء الذي ينتظرهم طال الزمن أو قصر، يوم يقول لهم العليُّ الأعلى مؤَنِّبًا لهم على اتخاذهم إِبليس وذريته أَولياء لهم من دونه - اذكر يوم يقول لهم - ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من دوني لينقذوكم من العذاب المحيط بكم؛ وفي هول الموقف ينادي الظالمون شركَاءهم فلا يلبون نداءَهم ولا يستجيبون لاستغاثتهم؛ لأنهم في مهلكهم مشتركون، وفي جهنم خالدون، فكيف يستجيبون؟ ولهذا قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا}: أي وجعلنا بين الداعين من المشركين والمدعوين من الشياطين، موبقًا ومهلكًا مشتركا وهو النار التي يصلونها جميعًا. 53 - {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}: وشاهد المجرمون النار فأيقنوا أَنهم واقعون فيها لا محالة. قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الكافر ليرى جهنم ويظن أَنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة". رواه أَحمد وابن جرير. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا}: ولم يجدوا مجالا للهرب من هذا المصير الأليم قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (¬1). {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)} ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية 54

المفردات: {صَرَّفْنَا}: نَوَّعنا ووضحنا. {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: المثلُ الحكمة أَو الموعظة. {جَدَلًا}: مُمَاراةً ومخاصمة. {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}: أي طريقة الله في المشركين السابقين، والمراد بها العذاب الذي حل بالأمم السابقة حينما أصروا على الكفر والعناد. {قُبُلًا}: بضمتين جمع قبيل أي أَنواعًا، وأجاز أبو عبيدة أن يكون معناه مقابلة وعيانًا كقراءته قِبَلًا بكسْر ففَتح، فإن معناه كذلك عند ابن عباس. التفسير 54 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... } الآية. ولقد بينا ووضحنا في القرآن الكريم من التوجيهات الرشيدة والمواعظ الحكيمة، بطرق عديدة وأساليب متنوعة، من القصص والعبر والحكم التي يثْبُتُ بها الحق في الأذهان، ولا تدعُ مجالا للشك والإنكار. وتملك على القارئِ مشاعره؛ لأنها في الغرابة والحسن واستمالة النفس كالأمثال ليتلقوها بالقبول، فلم يمتثلوا. {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}: وكان الإنسان منذ نشْأته حسب فطرته، أَكثر شيءٍ جدالا في الدفاع عن رأيه بالباطل متلمسًا المعاذير التي يبررها تصرفاته (¬1)، إلا من عصم الله. أَخرج الإِمام أحمد والشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه طرق بيت علي وفاطمة ليلًا فقال: ألا تصليان؟ فقال على: يا رسول الله إِنما أنفسنا بيد الله تعالى، إِن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك، ولم يرجع إليّ ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. 55 - {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ... } الآية. ساقت الآية الكريمة مثلا من أَمثلة الإِمعان في الضلال واللجاج والجدال بالباطل، مع وضوح الحق وأَسباب الهداية. ¬

_ (¬1) يذكر علماء النفس أن كل مخطيء يتلمس تبرير خطئه بما يسمونه "نظرية التبرير" وقد ساق القرآن الكريم أمثلة عديدة مما برر به المشركون عقائدهم وأعمالهم.

والمعنى: وما حمل الناس على ترك الإيمان بعد قيام أَدلته ووضوح حجته، إِلا إِصرارهم على العناد واللجاج، وتحديهم للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم العقاب الذي توعدهم الله به، كما أنزله بالأمم السابقة التي أَصرت على الكفر والعناد، وقد حكى الله طلبهم العذاب بقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا}: أو يحل بهم العذاب الأليم عِيانا جزاء إِمعانهم في الكفر والضلال في صور شتى من النكال والوبال، ويجوز أن يكون المعنى أَن الله حال بينهم وبين الإِيمان، لأنهم غير أهل له بما جبلوا عليه من عناد ولجاج، فقد انصرفوا عن دواعي الهدى والرشاد كما قال سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬2). {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} المفردات: {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}: ليزيلوه ويبطلوه. {أَكِنَّةً}: أَغطية - جمع كنان. {وَقْرًا}: ثقلا في السمع، يقال: وَقِرَت أذُنُه وَقْرًا، كفَهم فهِما إذا أصابها ثقل في السمع أَو صمم وَوَقَرَها الله وقرا من باب وَعَدهُ وعْدا. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية 32. (¬2) سورة التوبة، من الآية: 126

التفسير 56 - {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}: وما نبعث الرسل إلى الناس إِلا لتبشيرهم بالمثوبة الحسنى إِن آمنوا باللهِ وأَطاعوه فيما شرعه لهم على ألسنتهم، وإنذارهم بالعقاب الخالد إِن كفروا به وعصوا رسله. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬1). فلم يبعثهم الله ليقترح أَقوامهم الآيات عليهم بعد ظهور المعجزات التي أَيدهم الله بها. {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}: ولكن الكافرين يستقبلون دعوات الرسل بالإنكار والعناد والمكابرة والمجادلة بالباطل، للقضاء على الحق بعد وضوحه، دون استناد إلى دليل أو برهان، كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (¬2). ومن أمثلة هذا الجدل الباطل قول مشركي قريش في القرآن الكريم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (¬3). وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬4). يعنون أَن الرسول ليس من عظماء القريتين، فلا يصح أَن يكون رسولا أنزل عليه القرآن. {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا}: أَي قابلوا آيات الله البينات بالسخرية والاستهزاء فقد سخروا بحديث القرآن الكريم عن شجرة الزقوم (راجع شرح الآية 60 من سورة الإسراء) كما سخروا بالقرآن، فزعموا أنه سحر وشعر وأَساطير الأولين، كما سخروا بوعيده بالبعث والنشور فقالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (¬5). 57 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}: ولا أَحد أَشد ظلما لنفسه وللحق مِمَّن أَعرض عن آيات الله البينات وانصرف عن أدلتها الواضحات إِلى الباطل، فأمعن في ارتكاب الذنوب والآثام ناسيا ما جناه على نفسه وعلى الناس من بغي وعدوان. {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}: إن الحق واضح، وأصحاب العقول السليمة يدركون الرشد من الغي ويميزون الحق من الضلال، والله سبحانه حال بين ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 165 (¬2) سورة الحج، الآية: 8 (¬3) سورة الأنفال، الآية 31 (¬4) سورة الزخرف الآية - 31 (¬5) سورة الإسراء، الآية: 49

هؤُلاء المشركين وبين الإدراك السليم، فجعل على عقولهم أغشية كراهة أن يفهموه فهمًا يؤَدِّي بهم إلى السلوك السوِيِّ؛ لأنهم طبعوا على الخبث والضلال، وجعل الله في آذانهم صَمَمًا عن الاستماع إلى الحقائق وإدراكها وذلك لانصرافهم عن الحق، وتواصيهم بعدم سماعه، حيث قالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (¬1) ولهذا باعد الله بينهم وبين الإِصغاء والاستفادة منه جزاءَ انصرافهم، ولو علم فيهم خيرًا لهداهم وأَسمعهم سماع قبول قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬2). والمقصود من جعل الله الأَكِنةَ على القلوب، والوَقْر في الآذان أن لا يأخذ بقواهم العلمية نحو الحق لإعراضهم عنه. {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}: وإِن تدعهم إلى طريق الهدى فلن يستجيبوا لك؛ لأنهم الآن ليسوا أَهلا للهداية، ولأن الهداية ليست بيدك، وإنما هي بيد الله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وذلك حينما يحين أَوان الهداية، وقد هداهم الله إِلى الحق في فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة. {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} المفردات: {الْغَفُورُ}: واسع المغفرة والصفح. {مَوْئِلًا}: ملجأ يلجئون إِليه. {مَهْلِكِهِمْ}: هلاكهم. التفسير 58 - {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوالرَّحْمَةِ}: وربك - أيها الرسول - واسع المغفرة صاحب الرحمة، حيث كتبها على نفسه فضلا وكرما، فلا يعذب أَحدا من عباده المحسنين الطائعين. ¬

_ (¬1) سورة فصلت من الآية 26 (¬2) سورة الأنفال الآية 23

قصة موسى والعبد الصالح

{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (¬1). أما هؤُلاء المشركون فهم الذين ظلموا أنفسمهم بالإِصرار على الكفر والعناد فاستحقوا سوء الجزاء، ولكنه تعالى يتأتي بهم، ولا يتعجل معهم - كما قال: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}: أي أَنه لسعة رحمته لو يؤَاخذهم بظلمهم لعَجَّل عقابهم، ولكنُه أمهلهم لعلهم يرجعون إلى الصواب، ويفيئون إِلى الرشاد. {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}: وهذا الإِمهال موقوت بأجل معدود {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} (¬2). فإذا حان الأَجل وهم مصِرُّون على كفرهم وعنادهم أخذهم الله بعقابه الأليم حيث لا يجدون ملجأ للنجاة والخلاص. {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ}. 59 - {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}: المراد بالقرى هنا أهلها، والمعنى: وأَهل تلك القرى المهلكة المعروفة، من قرى عاد وثمود وقوم لوط عصوا ربهم، وكذبوا رسله فأمهلهم لعلهم يؤمنون، فلما أصروا على الكُفر وأمعنوا في الضلال أخذهم الله بعذاب الهلاك والاستئصال في الموعد الذي حدده لهم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (¬3)}. روى الشيخان والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إِذَا أخَذه لم يُفْلِتْه". قصة موسى والعبد الصالح قصَّ اللهُ سبحانه علينا في الآيات التالية قِصَّة موسى والعبد الصالح وقد رأَينا أَن نقدم لها ما يعين على إِدراك أَهدافها السامية: ¬

_ (¬1) سورة النساء 147. (¬2) سورة هود 104 (¬3) سورة هود: الآية 102

(1) جمهور المفسرين علي أن العبد الصالح هو الخضر، وقيل اليَسَع وقيل إلياس، قال الآلوسي: والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول. ولقب بالخضر، استنادا إِلى ما رواه الترمذي بسند صحيح عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما سُمي الخضِر لأنه جلس علي فروة بيضاء فاهْتزَّت تحته خضْراء" ومثل ذلك رواه البخاري بسنده. (2) قد يعجب بعض الناس من أَن يحتاج موسى وهو كليم الله ورسوله إلى مَنْ يتعلَّم منه العِلم، وليس هذا موضع عجيب فإن الله {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬1) لحكم يعلمها. روى الشيخان والترمذي عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس إن نوفلا لبكالى يزعم أن موسى صاحب الخضرِ ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدو الله، حدثني أُبَيُّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسُئِل: أيُّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدُّ العلم إِليه، فأوحى الله إِليه إن لي عبْدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا في مِكْتل فحيثما فقدْت الحوت فهُو ثَمَّ، فأخذ حوتا في مِكْتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون .... " وذكر الحديث، والمكتل وعاء مصنوع من الخوص يحفظ فيه المتاع. (3) كثير من العلماء يقولون إِن الخضر - عليه السلام - حَيٌّ، وقد أَجمع الصوفية على حياته إلى الآن كما نقله النووى عنهم، وقد استدلوا بأخبار غير مقطوع بها، ومنها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد بسنده عن ابن عباس أنه قال: "الخضر ابن آدم من صلبه، ونُسِيءَ له في أَجله حتى يكذِّبَ الدجال" ومثله لا يقال من قِبل الرأي. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 105

وذهب جمع من العلماء إلى أنه ليس بحيٍّ اليوم، سئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام -هل هما حيان- فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى على رأس المائة ممَّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية" كما استدلوا بأدلة نقلية وعقلية أُخرى، فارجع إليها في الموسوعات، والإمساك عن الخوض في الخلاف بين الرأيين أولى، مع الجزم بقصته مع موسى عليه السلام -كما جاءت في هذه السورة. (4) اخْتُلِف في الخضر، فقيل هو نبي وليس برسول، وهو قول الجمهور، وقيل هو رسولٌ، وقيل هو وليٌّ، وبه قال القشيري، ويستدل القائلون بنبوته بقوله تعالى في شأنه: "آتيناه رحمة من عندنا" والرحمة تطلق على الوحي والنبوة في عدة مواضع من القرآن، ولأن الله حكى عن قوله لموسى: "ما فعلته عن أمري" أي أن ما حدث منه كان بوحي من الله، ولأن النبي لا يتعلم إلا من نبي ولا يصح أن يكون المتعلم فوق المعلم ... إلخ. (5) وفي القصة توجيهات رشيدة: (أ) أن لله حكمًا عالية فيما يقضيه من أمور، وهذه الحكم قد ندركها وقد تغيب عن عقولنا، ولكننا ينبغي أن نؤمن بها كل الإيمان. (ب) أن الهجرة في طلب العلم مطلوبة، روى مسلم بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا في الجنّة".

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)} المفردات: (فتاه): الفتى هو الشاب، وأضيف إلى موسى لأنه كان يخدمه ويتعلم منه. (مجمع البحرين): موضع التقائهما ولعل المقصود بهما التقاء خليج العقبة بخليج السويس أو التقاءُ أحد فروع النيل القديمة بالبحر الأبيض. (حقُبًا): الحقب الدهر، ومقداره ثمانون سنة، كما قيل. (حوتهما): الحوت؛ العظيم من السمك. (سَرَبًا): السرب فى اللغة النفق، وسيأتي تفسير المراد منه في الآية. (غَدَاءنَا): طعامنا في الغُدْوة أي الصباح وما يُسَمَّى الآن بالفطور.

(نَصَبًا): تعبًا ومشقة وجهدًا. (عَجَبًا): غريبًا عن العادة مخالفا لها يدعو إِلى عجب الناس منه. (فَارْتَدَّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصًا): فرجعا يقصان أثر سيرهما السابق. (آتَيْنَاه رَحْمةً): أَي نعمة كبرى فيها رحمة منا وسيأتي في الشرح بيانها. التفسير 60 - {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}: أبرزت الآيات السابقة لَجَاج الكفار وعنادهم وإِصرارهم على الباطل ومُحَاولتَهم طَمْسَ الحقائق الواضحة التى ساقها الله لهدايتهم، وفى هذه الآية والآيات التالية يضرب القرآن مَثَلًا ساميًا لنبي من أَنبيائه، أَوحى الله إِليه وكلمه تكليمًا ورزقه علمًا ومعرفة، ومع هذا سعى جاهدًا ليتعلم ما لم يعلم، وتحمَّل في سبيل المعرفة ما تَحَمَّل من مشاق، وهو موسى عليه السلام. والمعنى: واذكر لهم يا محمد قصة موسى عليه السلام إذْ صَحب فتاه طالبًا لقاءَ العبد الصالح (الخضر) عليه السلام ليتعلم منه بعض ما لم يكن يعلم. وفتاه هو يوشع بن نون تابعه وتلميذه وخليفته من بعده كما ورد فى صحيح البخاري ومعهما مِكْتل (¬1) فيه حوت أعَدَّاه للطعام وأخبر موسى فتاه أنه لا يزال مُجِدًّا في السير حتى يصل إلى مكان العبد الصالح في مجمع البحرين، ولعل المراد بمجمع البحرين التقاءُ خليج العقبة بخليج السويس أو أحد فروع النيل السبعة القديمة بالبحر الأبيض في دلتا النيل، وعلى أي حال فتحديد المكان لا يتعلق به كبير غرض. وانطلق موسى مع فتاه وقد عقد العزم أَن يواصل السير وإِن طال الزمن حتى يبلغه. 61 - {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}: أي فلما وصلا إلى موضعٍ يَجْمَعُ بين البحرين نسيا حوتهما فاضطرب فى المكتل وقفز إلى الماء يشق طريقه فيه كأنما صنع الحوت لنفسه في الماء نفقًا، فقد صح من حديث الشيخين وغيرهما. "أن الله أَمسك عن الحوت جرْيَةَ الماءِ، فصار عليه مثل الطاق، قال الآلوسي: والمراد به: البناءُ المقوَّسُ كالقنطرة. ¬

_ (¬1) وعاء مصنوع من الخوص يشبه الحقيبة يحمل التمر والطعام وغيرهما فيه.

62 - {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}: فلما جاوزا المكان وأمعنا في السير حتى الصباح شَعَر موسى عليه السلام بالجوع والتعب فقال لغلامه آتنا طعام الغدوة (وهي الصباح) ليَشْبَعا من جوع، ويستردَّا عافيتهما وينعما بالراحة بعد التعب. 63 - {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}: قالَ له الغلام: إني نسيت الحوت عند الصخْرة وإن الحوت قفز إلى الماء. {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}: واتخذ في الماء طريقا عجيبًا كالنفق، ونسبة الإنساء إلى الشيطان لأنه ربما شغله بوساوس عن الأهل والوطن، جعلته يذهل عن هذه الحالة العجيبة بتقدير العزيز العليم، وإلا فتلك الحالة لا تنسى. 64 - {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}: قال إن فقدان الحوت إنما يكون عند التقاء البحرين وهو المكان الذي نريده حيث نلقي العبد الصالح. {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}: ذكر البخاري في باب التفسير: "رَجعا يقصان". أي يَتَتبَّعَان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة. 65 - {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}: أي فوجدا عند الصخرة التي نسي يوشع ما حدث من الحوت لديها - وجدا - عبدا صالحا من عباد الله آتاه رحمة كثيرة من عنده، وعلَّمه علمًا لا يكتنه كنهه من لدنه سبحانه وتعالى. واختلف في الرحمة التي آتاه الله إياها، فقيل هي الوحي والنبوة، وقيل الرزق الحلال، وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم، وأَما العم اللَّدنيُّ فهو علم الغيوب والأسرار الخفية، كما سيأتي بعضه في قصته. 66 - {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}:

تحكي هذه الآية أن موسى حين وجد العبد الصالح سأله الصحبة والمتابعة بشرط أن يعلمه مما علمه الله علما ذا رشد. 67 - {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: قال الخضر إنك إذا أردت الصبر لما استطعت , لأن ما يجريه الله على يدي من الأمور يجعلك تسارع إلى الاعتراض عليه , لخفاء حكمته عليك, روى الإمام البخاري والترمذي في حديث طويل بسند كل منهما يحكي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قصة لقائهما مع العبد الصالح , وقد جاء فيه أنهما, (انتهيا إلى الصخرة) , فإذا رجل مسجًّى - أي مغطى - بثوب, فسلم عليه, فقال الخضر: وأني بأرضك السلام؟ قال أنا موسى , قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا , قال يا موسى إنك لن تستطيع معي صبرا , يا موسى: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت , وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه ... ) الحديث. 68 - {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}: أي وكيف تصبر على مصاحبتي وأنت ترى من أمور المخالفة لشريعتك , ما لم تحط بأسراره علما, يقول الخضر ذلك لأنه كان يفعل أمورا خفية المراد منكرة الظواهر , مما يجعل موسى عليه السلام لا يتمالك إلا أن ينكر وقوعها عند مشاهدتها. {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)} المفردات: {صَابِرًا}: ضابطا لنفسي حين أرى ما يقتضي الإنكار. {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}: فلا أخالف ما تأمرني به. {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}: حتى أفسره لك دون سؤال منك.

التفسير 69 - {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}: وعد موسى عليه السلام الخضر بأنه سيجده صابرا على ما يراه مما أخفي عليه سببه, وقرن ذلك بمشيئة الله , لأن أفعال العباد مرتبطة بمشيئته تعالى , كما وعده أن يلتزم طاعته فلا يخالفه في أمره من الأمور , وهذا ما ينبغي للمتعلم مع معلمه. 70 - {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}: بعد أن وعد موسى صاحبه الخضر بأنه سيصير على ما يراه من الأمور المخفية الأسباب, التي يجريها أمامه وأنه لا يعصي له أمرا - لما حدث ذلك من موسى - أذن له الخضر بصحبته وأرشده إلى ما يقتضي دوامها بقوله: فإن اتبعتني وصحبتني في رحلتي هذه فلا تسألني عن شيء رأيته بعينك وأنكرته بقلبك , واصبر حتى أحدث لك في شأنه ذكرا وبيانا يفسر ما عمي عليك من سببه. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} المفردات: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: أي لقد أحدث منكرا فظيعا. {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}: لا تُحَمِّلني من اتباعي لك ما لا أطيق مما يشق عليَّ حمله.

التفسير. 71 - {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}: جاء في حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما "انطلقا يمشيان على الساحل فَمَرتْ بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نوْل" (¬1) إلى أن قال: "فَلَم يُفْجأ مُوسى إلاَّ وَقَدْ قَلَعَ لَوحَا بِالقَدوم، فَقالَ لَهُ مُوسى: مَا صَنَعت؟ قوم حَملُونَا بِغَيرِ نَوْلٍ، عَمَدت إلَى سَفِينتهم فَخَرَقتَهَا لِتُغرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيئا إمْرا" ويحكي الله اعتراض موسى عليه، بأُسلوب موجز مستنكرًا ما فعل، إذ يقول: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}: وهنا نرى موسى عليه السلام ينسى ما عاهد عليه الخضر ويوجه إليه لوما شديدا ويقرر أن فعله هذا قد يفضي إلى إغراق السفينة بمن فيها، وأنه قابل إحسان أصحابها بالإساءة. ويحكم عليه حكما قاسيًا حسب ما بدا له - بأنه ارتكب ذنبًا عظيمًا قبل أن يستمع إلى سبب هذا الفعل. 72 - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: ذكره الخضر بالعهد الذي ارتبط به معه فقال له: لقد قلت لك ما توقعتُ حدوثَهُ منك وهو أنك لن تستطيع الصبر على صُحبتي حينما ترى ما أفعله، بما يخالف ظاهر شريعتك. 73 - {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}: اعتذر موسى عليه السلام للخضر بأنه نسى ما تعهد له به. والنسيان مَظِنَّة العفو، وطلب إليه ألا يحمّله فوق طاقته، فإنه نبي والنبي لا يسكت عن أمر يراه خطيئة، روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت الأولى من موسى نسيانا" وورد في هذا الحديث: "وجاء عصفور فوقع على حَرْفِ السفينة فنقر من البحر نقْرَة (¬2) فقال له الخضر: "ما علمي وعلْمُك في علم الله إلا مثلُ ما نقصَ هذا العصفور من هذا البحر" وقبل الخضِرُ عذر موسى وسارا في طريقهما. ¬

_ (¬1) أي بغير أجر. (¬2) هذا دليل على أن البحر كان ماؤه عذبا.

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)} المفردات: {غُلَامًا}: الغلام الصبي الذي لم يبلغ. {زَكِيَّةً}: طَاهرة، وفي قراءة "زَاكِيَة". أي نامية أو طاهرة. {نُكْرًا}.): منكرا لا يقره العقل. التفسير 74 - {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ}: روى البخاري بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخَضِرَ غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله .. ". {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}: لم يطِقْ مُوسىَ صبرًا على ما رأى من قتله الغلام فقال في استفهام إنكارى: أقتلت نفسا طاهرة بريئة دون أن ترتكب تلك النفس جريمة تستحق عليها القتل؟ ثم أصدر عليه حكما حاسمًا بأنه ارتكب أمرًا خطيرا منكرًا. 75 - {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}: نبَّهه الخضر عليه السلام إلى خروجه عما عاهده عليه للمرة الثانية، وأكد ذلك بزيادة الجار والمجرور (لك) أي إن هذا هو ما قلته لك لا لغيرك، ولكنك لم تلتزم بما تعهدت لي به في قولك: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}. روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وهذه أشد من الأولى .. ".

76 - {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}: أدرك موسى خطئه فلم يجادل فيه، ووعد بتحمل تبعة اعتراضه عليه مرة أخرى فقال للخضر عليه السلام: إذا اعترضت عليك في أمر آخر فإن لك أن تفارقني ولا لوم عليك في ذلك، بل لك العذر كل العذر في ألا تصاحبني، وقبل الخضر عليه السلام اعتذاره ومضيا في طريقهما. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)} المفردات: (جدارا): الجدار؛ الحائط. (ينقض): ينهار. (أنبئك): أخبرك. (تأويل): تفسير. التفسير 77 - {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}: أي فسارا في طريقهما حتى حلَّا بإحدى القرى -يذكر بعض المفسرين أنها إنطاكية- وطلب من أهلها إعطاءهما طعامًا يأكلانه، فرفض أهلُها إطعامهما شُحًّا وبُخْلًا.

{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}: فرأَيا في القرية جدارا يكاد يقع فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه، فعجب موسى علية السلام من تصرف الخضر، وما بذله من جهد في هدم الجدار ثم إِقامته، لقوم بخلاء يضنون عليهم بالطعام (¬1). روى البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فقال موسى: قوم أَتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ... "؟ {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}: أي لو أردت لطلبت من هؤُلاَء القوم أَجرًا جزاء عملك. ونلاحظ هنا أَن موسى عليه السلام لم يعترض على الخضر ولم يصدر عليه حكمًا بالخطإ كما فعل في المرتين السابقتين، فقد استفاد من الدرسين الماضيين واكتفى هنا بقوله: لو أردت أن تنال أجرًا على عملك لنلته، وعلق الأمر هنا على مشيئة الخضر وإرادته، وهنا أدرك الخضر عليه السلام أن موسى قد استفاد بما مر بهما من أحداث، وأثمرت التجربة ثمرتها المرجوة، فأنهى الخضر لقاءه مع موسى عليهما السلام مبينًا له حكمة ما صنع مما لم يستطع موسى الصبر عليه. 78 - {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: أَي قال الخضر لموسى عليهما السلام، بعد أن اعترض عليه لهدمه الجدار ثم بنائهِ لقوم بُخَلاء: حان لي فراقك وفقا لتعهدك، ولكنى قبل الفراق سأنبئك بتفسير ما قمت به من أعمال استدعت اعتراضك عليها , لتدرك بواعث وأهداف هذه التصرفات ولكنك تعجلت في الحكم عليها دون أن تدرك أسبابها وتقف على بواعثها. جاء في حديث البخاري عن هذه القصة بعد قول الخضر لموسى عليه السلام: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ... } الآية. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَدِدْنَا أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما". ¬

_ (¬1) والتعبير عن قرب سقوط الجدار بأنه يريد أن ينقض صورة بلاغية، من باب الاستعارة المكنية التخييلية.

تنبيه وشكر للقراء الكرام

تنبيه وشكر للقراء الكرام تم تفسير نصف القرآن عند الآية الثامنة والسبعين من سورة الكهف، ويبدأ تفسير النصف الثاني بمشيئة الله من قوله تعالى حكايته عن الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ... } الآية 79. وقد جاء هذا التفسير - بتوفيق الله تعالى - بعيدا عن التعقيد خاليًا من الإسرائيليات والفنيَّات الصعبة، والأحاديث الموضوعة، مع تحري الدقة في التعبير عن المعنى الأساسي للنصوص الكريمة بقدر الإمكان، ولا نبريء نفوسنا من الخطإ أو التقصير - فالكمال لله وحده. وحسبنا أننا بذلنا الوسع، ومهَّدنا السبيل إلى فهم كتاب الله تعالى على الوجه الأمثل. وتتألف لجنة التنسيق حاليًا من السادة الآتية أسماؤهم - حسب ترتيب الحروف الهجائية -. أصحاب الفضيلة: (1) الشيخ السيد مصطفي شريف. (2) الشيخ طه الساكت. (3) الشيخ عبد المهيمن الفقي. (4) السيد الأستاذ علي عبد العظيم. (5) صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير. ويقوم الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير بمراجعة أعمال اللجنة بعد الفراغ من تنسيق كل حزب وتحقيقها، تحريا للدقة والصواب، وإبراء لذمة اللجنة، وهو يباشر هذا العمل الدقيق منذ تفسير فاتحة الكتاب حتى الآن، ولهذا نرى التفسير متقارب الأسلوب بقدر الطاقة. ولقد أَسعدنا قراؤُنا الكرام في العالم الإسلامي؛ بإقبالهم المنقطع النظير على اقتنائه - فما إن يظهر منه حزب في المكتبات, حتى تنفد عشرات الأُلوف من نسخه, ولهذا نتقدم إليهم بالشكر الجزيل علي هذا الإقبال، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يمنحنا مزيدًا من التوفيق في تفسير النصف الثاني من كتابه، وأن يجزي القراء عنا خير الجزاء، وأن يوفقنا جميعا لطاعته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. رئيس اللجنة مصطفى محمد الحديدي الطير

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} المفردات: {الِمَسَاكِينَ}: جمع مسكين؛ وهو الضعيف العاجز، أي كانت لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظَّلَمَةِ، ويشمل المسكين بهذا المعنى من كان ضعفه راجعا إلى نفسه أو إِلى بدنه. وهو مخالف للمراد منه في باب الزكاة. وسيأتى بعض التفصيل لذلك في التفسير. {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}: وراء هنا بمعنى أمام. فهو من المواراة والتغطية، وهى كما تكون فيما خلفك تكون أَيضا فيما أمامك. ولا خلاف عند أهل اللغة في استعماله في المعنيين. {فَخَشِينَا}: الخشية الخوف الشديد. {يُرْهِقَهُمَا} يُغْشى والديه ويغطِّيهِمَا. {طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: مجاوزة لحدود الله وكفرًا به: {زَكَاةً}: طهارة من الذنوب وفساد الأخلاق. {رُحْمًا}: رحمة. قال: رؤبة بن العجاج: يا مُنزل الرُّحم على إدريسَا ... ومنزل اللعن على إبليسَا

{كَنْزٌ لَهُمَا}: مال مدفون لهما. {أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}: أَن يصلا إلى كمال قوتهما العقلية والجسدية، وفي الصحاح: الأشُدُّ القوة. وبلوغ الأشُدّ يكون ما بين ثمانى عشرة سنة إلى ثلاثين. وهو مفرد جاء على بناء الجمع، مثل: (آنُك) ولا نظير لهما، وقيل هو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل غير ذلك. {تَسْطِعْ}: مضارع اسطاع بمعنى استطاع، وهو أصله فخفف بحذف التاء. التفسير 79 - {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}: أفادت الآيات السابقة أن سيدنا موسى عليه السلام قد نَفد صبره من رؤْية تلك الأحداث التي حدثت من الخضر عليه السلام ولم يجد لها مبررا ظاهرا يقتضيها، وأن الخضر اضْطُرَّ لإيذانه بمفارقته لنفاد صبره , وعدم تحمله ما يراه حتى تنتهى رحلتهما إلى غاية أبعد مما وصلت إليه , لكي يخبره في نهايتها عن كثير من أسرار الغد التي يخفيها الله تعالى عن عباده، ويختص بإعلامها بعض أصفيائه. وجاءت هذه الآية وما بعدها لبيان ما انطوى وراء الأَحداث التي أجراها الخضر عليه السلام، والمراد من المساكين هنا الذين لا يقدرون على دفع الظلم عن أنفسهم، لضعفهم في النفس أو في البدن وإن كانوا أغنياء، قيل كانت لعشرة، خسمة منهم زَمْنَى، وخمسة يعملون في البحر. وهذا المعنى للمساكين غير ما قاله الفقهاءُ بشأنهم في الصدقات والكفارات، فإن منهم من فسر المسكين بأنه هو الذي لا يقدر على ما يقع موقعا من كفايته وكفاية من تلزمه نفقتهم، كمن لا يكسب أصلا أو يكسب دون النصف من كفايته، والفقير عند هؤلاء أحسن حالا من المسكين فهو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته وكفاية من تلزمه نفقتهم، كمن يكسب سبعة ولا يكفيه أقل من عشرة. ومنهم من فسره بالعكس , فالمسكين عنده أحْسنُ حالا من الفقير، وسواءٌ أكان الفقير بمعنى الضعيف أم بمعنى المحتاج , فهو مأخوذ من السكون, فكلاهما ساكنٌ ذِلَّةً أو ضعفا، أو فقرا.

والمعنى: أما السفينة التي خَرَقْتُهَا قبل أن تصل إلى الميناء، فقد كانت لضعفاء من الناس يعملون في البحر أي يكسبون رزقهم بها عن طريقه، ولا يقدرون على مدافعة الظَّلَمَةِ عن أَنفسهم لضعفهم، فأردت بخرقها أن أُحدث فيها عيبا يمنع الظالم من مصادرتها وأَخْذها، لوجود هذا العيب فيها، ولم أُرِدْ أنْ أُغرق أَهلها كما توقعت يا موسى (¬1). وقد حكى الله عن الخضر - عليه السلام - السبب في خرقه إِياها بقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}: والوراءُ: اسم لما يتوارى عن العين، سواءٌ كان خلفك أَو أمامك، فهو من أسماء الأضداد والمراد به هنا المعنى الثاني، وبه قرأ ابن عباس: "وَكَانَ أمَامَهُم مَّلِكٌ". والمعنى: وكان أمامهم أعوانُ ملكٍ ظالم يأخذون له كل سفينة صالحة من أصحابها غصبا وقهرا، وذلك إمَّا على سبيل المصادرة والاستيلاء التام، وإِما على سبيل التسخير والاستغلال دون أجر، ثم يردونها لذويها، واستعمال الوراء بمعنى الأمام شائع في اللغة، ومنه قول الشاعر العربى: أَليس ورائِي أن أدب على العصا ... فيأْمن أعدائى ويَسْأمنِى أهلى ولم تتعرض الآية الكريمة لما حدث للسفينة بعد نجاتها من الملك الظالم بسبب خرقها، أعادَ الخرقُ إلى الالتئام بقدرة الله تعالى كرامة للخضر؟ أم أنه رَتَقَ هذا الخرق بنفسه؟ أم أن في أصحابها من أَصلحها؟ أَم أصلحها سواهم بأجر من الخضر لأنه هو الذي خرقها؟ كل ذلك تركت الآية الحديث عنه لفطنة القارىء، فإنه يعتقد أن ذلك المصلح لا يمكن أن يترك ما أفسده دون إصلاح بأى طريق، ولكنها أبرزت الحكمة في خرقه إِياها، ليعلم موسى أن خرقها ليس لغرض الإِغراق أو الإِفساد، بل لما أَبداه من إِنْجَائِهَا من الظلَمَةِ. ¬

_ (¬1) وأسند الإرادة إلى نفسه بقوله: "فأردت أن أعيبها" لأن عيبه لها إفساد في الظاهر، فكان من الأدب أن لا ينسبه إلى الله، فلهذا لم يقل فأراد ربك ومثله ما سيأتى في قتل الغلام "فأردنا أن يبدلهما" أي فأردت بقتلى إياه أن يبدلهما الخ، وكلاما في الحقيقة بأمر الله وإرادته لقوله تعالى: "وما فعلته عن أمرى".

80 - {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: أي وأَما الغلام الذي قَتَلتُهُ أنا واعْتَرَضْتَ يا موسى على قتله دون ذنب ظاهر لك فهو غلام شرير بطبيعته، وكان أبواه مُؤْمِنيْنِ صالِحَينِ، فتوقعتُ أن يغمرهما بمجاوزته الحدود الإلهية، وكفره بالله تعالى، فلهذا قتلته. وفسر بغض العلماء إرهاقه لهما بالطغيان والكفر , بأن يحملهما حبه - لو بقى حيا - على متابعته، وهذا التفسير مأْثور عن ابن جبير. ولكن الخوف من وقوع ذلك في المستقبل لا يبرر قتله للغلام , فقد لا يقع، فلهذا فسر بعض شراح البخاري الخشية هنا بالعلم، أي فعلمنا من الله تعالى أنه لو بلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه، ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما له، أو علمنا أنه لو بلغ لأرهقهما طغيانًا عليهما وكفرا بنعمتهما, بسبب عقوقه وسوء صنيعه، فيلحقهما من ذلك شر وبلاءٌ. ومن العلماء مَنْ قال: إن الغلام كان شابا بالغا وكان شريرا كافرا، ولا يمنع بلوغه من إطلاق لفظ الغلام عليه، فإنه يستعمل لغة فيمن ظهر شَارِبُهُ، وفي الكهل، وفي الشخص من حين يولد إِلى أن يصير شابا - كما جاء في القاموس - ويستدل أصحاب هذا الرأى بما جاء في بعض الآثار من أنه كان يفسد ويقطع الطريق، ويقسم لأبويه أنه ما فعل , فيقسمان بقسمه ويحميانه ممن يطلبه، ولحل هذا الرأي يؤَيده ظاهر الآية التالية: 81 - {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}: أي فأردنا بقتله أَن يرزقهما الله بدله خيرا منه، طُهْرًا في الدين والأخلاق، وأقرب رحمة منه بهما، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أُبدلا جَارِيَةً وَلَدَتْ نَبِيًّا، وقال الثعلبى: إنها أدركت يونس عليه السلام - فتزوجها نبى من الأنبياء، فولدت نبيا هدى الله على يديه أُمة من الأمم. والله أعلم. 82 - {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}: أي وأما الجدار الذي أَقمتُه بدون أجر، وكان وشيك الانقضاض، فكان لغلامين مات أَبوهما فأصبحا بعده يتيمين في القرية التي طلبنا الطعام من أهلها، فبخلوا به علينا،

تحت هذا الجدار كَنز لهما، استحقاه عمن قبلهما، كأبيهما أو جَدٍّ لهما أو غير ذلك، وكان أبوهما صالحًا، فرأيت من المروءة أن أُقِيمَ الجدار على الكنز حذرًا عن انهيار المائل وظهور المكنوز تحته، فيستولى عليه من لا يستحقه من الناس، ولم يمنعنى من البر باليتيمين بخل أهل هذه القرية علينا، فإن للإحسان باليتامى أَجرًا عظيمًا. وكان هذا الكنز من ذهب وفضة، كما أخرجه البخاري في تاريخه، والترمذى والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء، ولم تتعرض الآية الكريمة لبيان من هو الذي أخفى الكنز تحت الجدار، فإن كان أباهما أو جَدَّهُمَا فهو حق لهما في شرعنا وشرع من قبلنا بلا خلاف، وإن لم يعرف كَانِزُهُ فيحمل استحقاقهم له على أنه كان حلالًا في شرعهم، واحتجَّ لهذا بما أَخرجه الطبرانى عن أَبي الدرداء. في هذه الآية قال: "أحلت لهم الكنوز وَحُرِّمَتْ عَليْهِمُ الغنَائمُ. وَأحِلَّتْ لَنَا الْغَنَائِمُ وَحُرِّمَتْ عَلَينَا الْكُنُوزُ". وقيل: إنَّ الكنز لم يكن ذهبًا ولا فضة بل كان صُحُفَ عِلْمٍ، فقد أَخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أَنه قال: ما كان ذهبا ولا فضة، ولكن كان صحف علم. وروى ذلك عن ابن جبير أيضا، وقيل: إِنه لوح من ذهب، فقد أَخرج ابن مردويه من حديث علي - كرم الله وجهه - مرفوعا والبزار عن أَبي ذر كذلك، والخرائطى عن ابن عباس موقوفا، أَنه كان لوحًا من ذهب مكتوبا فيه "عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إِليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله" والله أعلم بصحة ذلك. ثم بين الخضر عليه السلام أنه كان يتلقى الأمر فيما يفعله من الله تعالى فقال: {فَأَرَادَ (¬1) رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}: ¬

_ (¬1) إسناد الإرادة هنا إلى الله لأنه إنعام محض، فمناسب إسناده إليه تعالى بخلاف ما مر في السفينة والغلام فقد كان إفسادا في الظاهر، فلهذا أسنده الخضر إلى نفسه كما مر بيانه بالهامش، وإن كان الكل بأمر ا

أي فأراد مولاك ومربيك يا موسى أَن يبلغ اليتيمان كمال قوتهما في الرأى والبدن، ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار، فأمرنى بإقامته، ولولا أننى أقمته لانقض وبرز الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه والانتفاع به، وليس الذي فعلته من الأمور التي شاهدتَها يا موسى ناشئًا عن اجتهادى ورأيي، بل بوحي من ربك وربى، ذلك الذي شرحته لك من أسرار تلك الأحداث هو مآل وعاقبة الأمور التي لم تستطع الصبر عليها، حتى أبينها لك في حينها. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوعَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)} المفردات: {وَيَسْأَلُونَكَ}: السائلون قريش بتلقين اليهود، أو اليهود أنفسهم. {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}: صفة ملك صالح عَمَّ ملكهُ معظم أنحاء الارض، وسيأتى بيان السبب في وصفه بذى القرنين.

{مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ}: التمكين فيها بمعنى الإقدار عليها، يقال: مَكَّنَهُ أي جعله قادرًا، ومكن له أي جعل له قدرة. (سَبَبًا): أَي وسيلة وطريقة. {فَأَتْبَعَ}: أي فاتَّبع فَهُمَا بمعنى واحد هنا. {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}: أَي في عين ذات حمأة، وهى الطين الاسود - وذلك في رأى الحين - وسيأتى شرح ذلك باستفاضة. التفسير 83 - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوعَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}: ذكر الله قبل هذه القصة ما حدث بين موسى والخضر، وعقبها بذكر قصة ذى القرنين ليكونا آية على نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن القصتين لا يعلمها سوى أهل الكتاب، في حين أَنه صلى الله عليه وسلم لا سبيل له إِلى علمهما إلاَّ بقراءة كتبهم، أو بتعلمها منهم، ولا سبيل له إِلى قراءتها، لأنه أمَّى، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُومِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. كما أنه لا سبيل له إلى تعلمها منهم، لأنهم لا يوجدون بمكة، ولم يكل له اتصال بهم، ولهذا كانوا يسألونه عن تلك الغيبيات، إما بتحريض قريش على سؤاله، وإِما بسؤالهم إياه بأنفسهم، وأكثر الآثار تدل على أن السؤال حصل منهم قبل نزول هذه الآيات، والتعبير بالمضارع {وَيَسْأَلُونَكَ} استحضار للصورة الماضية لغرابة سؤالهم إياه على سبيل الامتحان، مع ما يشاهدونه عليه من الصدق والأمانة، وما أيده الله به من الآيات البينات. وذو القرنين ملِك صالح مكن الله له في المشارق والمغارب، كما سيتضح من تفاصيل قصته إِن شاء الله. وقد اختلف في شخصه، فقيل هو الإسكندر المقدونى - وهو رأى معظم المفسرين، قال النيسابورى: أصَحُّ الأقوال فيه أنه هو الإسكندر بن فيلقوس الرومى الذي ملك الدنيا بأسرها، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه. وقال الفخر الرازى: لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك الدنيا أو ما يقرب منها وثبت في التاريخ أن من هذا شأنه لم يكن سوى الإسكندر، وجب القطع بأن ذا القرنين

هو الإسكندر، ثم قال وفيه إشكال، فإنه كان تلميذًا لأرسططاليس الفيلسوف, وكان على مذهبه، فتعظيم الله له يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق، وهذا مما لا سبيل إليه، وأجاب الرازى عن هذا الاعتراض بما خلاصته أنه ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا، فلعله أخذ منه ما حسن، وترك منه ما لم يحسن. ويقول الآلوسى في تأييد هذا الفهم: إن الحكماء تشاوروا في أَن يسجدوا له إجلالا وتعظيمًا، فقال لهم: لا يجوز السجود لغير الله - كما نقله الشهرستاني - ويلاحظ أن الإسكندر كان موجودًا قبل مبعث عيسى - عليه السلام - بثلثمائة سنة كما نقله الآلوسى عن بعض المؤَرخين. وهناك من قال: إِنه رجل يمانى ملك الأرض كلها. فقد ذكر أبو الريحان المنجم في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية): أن ذا القرنين هو أبو كرب ابن عمير بن امرىء القيس ابن أفريقش (¬1) وهو الذي افتخر به تُبّع اليمانى في قوله: قد كان ذو القرنين جدى مسلمًا (¬2) ... ملكًا علا في الأرض غير مقيد بلغ المغارب والمشارق يبتغى ... أسباب ملك من حكيم مرشد فرأَى مآب (¬3) الشمس عند غروبها ... في عين ذى خُلَبٍ (¬4) وثأْطة (¬5) حَرْمَدِ ثم قال أبو الريحان: ويشبه أَن يكون هذا القول أقرب، لأن الملقبين بكلمة (ذى) كانوا من اليمن، كذى المنار وذى نواس وذى يزن، واختار هذا القول (كاتب حلبى) وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام، وأنه اجتمع معه بمكة وتعانقا. وهناك من يرى أن ذا القرنين هو غورش الفارسى، ويسميه اليهود (كورش) ويسميه اليونانيون (سانرس) وإطلاق ذى القرنين عليه عند أصحاب هذا الرأى ناشئٌ من رؤيا رآها النبي دانيال في منامه، خلاصتها أن كبشًا كان واقفًا على شاطىء ¬

_ (¬1) أفريقش جد أبي كرب، استولى على المغرب، وسميت أفريقيا باسمه، ذكره الشيخ الطنطاوى جوهرى في تفسيره. (¬2) يريد من كونه مسلما أنه مؤمن بربه مستلم له. (¬3) مآب الشمس رجوعها. (¬4) أي عين ماء ذى طين أسود. (¬5) الثأطة: الحمأة وهى الطين الأسود وكذا الحرمد.

النهر له قرنان، وهو ينطح بهما شرقًا وغربًا وجنوبًا، ولا قِبَلَ لحيوان بالوقوف أَمامه، وذكر سفر دانيال المذكور أَن المَلكَ ظهر له وشرح رؤْياه قائلا: إن الكبش ذا القرنين يمثل اتحاد مملكتى (ميديا - وفارى) (¬1) وأن يحكمها ملك قوى لا تقدر دولة على مواجهته، وقد ظهر بعد هذه النبوءة بسنوات الملك (غورش) ملك الفرس المذكور، فوحد (ميديا وفارى) وأَنشأ منهما سلطنةً عظيمة، وهاجم بابل واستولى عليها، وجاء عنه في سفر (أشعياء) ما خلاصته أن الله أخذ بيده اليمنى ليتم مرضاته وليجعل الأمم في حوزته، وينزع القوة من سواعد الملوك، ويفتح له الأبواب تلو الأبواب، ويمنحه الخزائن المدفونة (¬2). وتسميته ذا القرنين على أنه الإسكندر المقدونى أو أبو كرب اليمنى، لأنه بلغ ناصيتى مشرق الشمس ومغربها، مأخوذ منْ قَرْنِ الشمس بمعنى ناحيتها وقيل: كانت له ضفيرتان من شعر فنسب إليهما - ذكره الثعلبى وغيره - والضفائر قرون الرأس عند العرب , والوجه الأول في علة التسمية أولى بالقبول، فإن وَصْفَ ذى القرنين ذكر على أنه علامة مميزة لهذا الفاتح العظيم، وكونه ذا ضفيرتين من الشعر لا يصلح أن يكون علامة مميزة، لأن إرسال الشعر وتضفيره من العادات القديمة للرجال والنساء جميعًا. وبعد أن حكينا أظهر الأقوال في شخصيته نقول: إن شخصيته ليست من العقائد، وإِنما ذكرت قصته للوعظ والإرشاد فليكن هو الإسكندر المقدونى أو رجلا حميريًّا من اليمن، أو ملكًا فارسيًا فالقرآن لم يأتنا ليعلمنا تاريخ اليونان أو تاريخ أي الحميريين أو الفارسيين فإن القرآن أعظم من ذلك كله، ولكنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم عن ذى القرنين، أجابهم بما يجمع بين إجمال المطلوب لهم، والدلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم والعبرة، حيث أَخبرهم بما لا يعلمه سوى أَهل الكتاب، وبين أن الملك الصالح العالم يؤيده الله تعالى ويُمَكِّنُ له في أَرضه. ¬

_ (¬1) انظر الإصحاح الثامن من سفر دانيال. (¬2) أشعيا إصحاح - 45 - وقد جاء في هذا الإصحاح أنه يعيد أسارى وسبايا بنى إسرائيل إلى فلسطين، وكان غورش (كورش) معرفا عند اليهود بذى القرنين, تبعا لرؤيا النبي دانيال المذكورة، ولأنه كان له في عصره تمثالا من الحجر بقدر القامة، وعلى رأسه قرنان مصداقا لهذه الرؤيا، وكانوا يعرفون هذا عن كتبهم وأجدادهم، وقد عثر على هذا التمثال في إيران في القرن التاسع عشر، فلعل اليهود حين سألوا الرسول عن ذى القرنين، كانوا يقصدون (كورش) المذكور، لأنه هو الذي جاء ذكره بهذا العنوان في كتبهم.

والمعنى الإجمالى: ويسألك السائلون من قريش بتحريض اليهود، أو اليهود أنفسهم يسألونك عن صاحب القرنين الذي جَاب الأرضَ كلها، قل أيها الرسول مجيبا لهم: سأقرأ عليكم من قصته نبأً مذكورًا، أَقرؤُه على سبيل التلاوة من وحى الله تعالى الذي أوحاه إليَّ جلّ وعلا. 84، 85 - {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}: أَجمل الله قصته في الآية الكريمة الأولى، تمهيدًا لتفصيلها في الآيات المقبلة، ومعنى الآية: إنما جعلنا لهُ مُكنَةً وقدرة على التصرف في الأرض، وأعطيناه من أجل كل شيء أَراده فيها سبَبًا ووسيلة توصله إِليها، فلا يعوقه عن مراده عائق، ومن هذه الأسباب سعة العلم وحسن التدبير، والحكمة في التصرف، وتدريب الجنود، واختيار القواد، والعتاد الحربى، فأراد التوجه إلى ناحية مغرب الشمس {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}: اتبع واتَّبع بمعنى واحد أي اتبع طريقًا وأسلوبًا من شأنه إنجاح غزوه للأقطار الغربية. وقد أشارت الآية الكريمة {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} إِلى أن معالى الأمور لا تنال إلا باستعمال الأسباب الموصلة إِليها، وأن المجد لا يناله القاعدون الخاملون. 86 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (¬1): أي اتبع الطريق والسبب الموصل إلى مقصده، حتى إذا بلغ في فتوحاته منتهى الأرض من جهة مغرب الشمس، ووقف عند حافة المحيط، وجد الشمس - كما أدركها بصره - تغرب في عين ذات حمأة، والحمأة الطين الأسود. وقرىء {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وبها قرأ معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولا منافاة بين القراءتين، فإِنه لما بلغ حافة اليابسة، وقف ينظر إِلى الشمس عند غروبها، فرآها في نظره كأنما تغرب في عين متقدة نارية، بسبب قرص الشمس الشديد الحمرة، الذي يبدو كأنه وقدة من النار جعلت مكان اختفائها في نظره، كأنما هو عين حامية - وكما يتصورها الناظر تغرب في عين حامية، يتصورها تغرب في عين ذات طين أسود، فإنها لما غابت تحت الماء، أصبح مكان اختفائها فيه مظلمًا باهتًا بعد أَن كان متقدًا. ¬

_ (¬1) صفة مأخوذة من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها - أي طينها الأ

ولما كان كلا الأمرين ضربًا من الخيال , ناشئًا عن خداع النظر, فلهذا قال تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أو {فِي عَيْنٍ حَامِيةٍ} على القراءتين , أي هذا الذي رآه أمر ناشيء في وجدانه وخياله، وليس من الحقائق الواقعة، فما أجمل تعبير القرآن بقوله "وجدها" وما أحراه بالإجلال والاعتبار. وكما يراها الناظر عند غروبها تغرب في عين ماء حمئة أو حامية إذا كان على شاطىء المحيط فإنه يراها تشرق خارجة من اليابسة، وتغرب داخلة فيها إِذا كان واقفًا على متسع فسيح من أرضها، والحقيقة أن الشمس لا تغرب في الماء ولا في اليابسة عند الغروب، ولا تشرق منهما عند الشروق فالشمس أَكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، ولا تختفى عن مدارها، والأرض تدور تحت أشعتها فتعُمُّ الشمسُ نصفهَا بضوئها، لأنها على شكل كرة، فيكون النهار في القسم الذي استضاء بنورها والليل في القسم الآخر. وكلما دارت الأرض اختفت أشعة الشمس عن بعضها: فحل فيه الليل محل النهار، وظهرت أَشعتها في بعض آخرَ تَكشَّفَ للشمس، فَحَلَّ فيه النهارُ مَحَل الليل. والذى يحجب ضوة الشمس عن بعض الأرض هو البروز الكروى للأرض، فهو الذي يمنع أشعة الشمس عما انخفض منها بسبب حركتها الدائرية، ولو كانت مبسوطة وغير دائرة لما غابت الشمس عنها، ولكان وقتها نهارًا دائمًا، وأما ما ورد في القرآن من أن الأرض مبسوطة فمحمول على ما هو في رأى العين، كما في قوله تعالىَ في سورة نوح: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا}. {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}: أي ووجد ذو القرنين في طرف الأرض من ناحية المغرب، وجد قوما عند العين التي تخيلها وتخيل أَن الشمس تغرب فيها، وكان هؤُلاء القوم مشركين، كما هو شأْن الناس عند غياب المرسلين عنهم، قال الله له على سبيل التخيير: ياذَا القَرنَيْنِ، إما أن تُعَذِّبَ هؤُلاء القوم بالقتل إِن أبوا الإِيمان وأصروا على الشرك، وإما أن تتخذ فيهم أَمرًا ذا حسن، بالمصابرة والمطاولة لعلهم يؤْمنون ويَرْشدون، وكان تخيير الله لذى القرنين على النحو السابق إِما على لسان نبى كان موجودًا في هذا الزمان، وإما على سبيل الإِل

87 - {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}: أي قال هذا الرجل الحكيم بعد أَن خيره الله في شأن الكفار من أهل المغرب على النحو الذي بيناه في شرح الآية السابقة - قال -: هؤلاء الناس سوف يكونون بعد دعوتهم إلى الحق قسمين: ظالمين ببقائهم على الكفر وإصرارهم عليه، ومؤمنين تائبين من كفرهم، فأما من ظلم نفسه ببقائه على الكفر والعصيان، فسوف نعذبه بالقتل، ثم يعيده الله بالبعث فيرده إِلى حسابه وجزائه فيعذبه على كفره وعصيانه عذابا منكرا فظيعا. ثم بين مآل المؤمنين التائبين كما حكاه الله عنه بقوله: 88 - {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}: أي وأما من آمن بالله وعمل صالحا موافقًا لما شرعه الله على لسان نبى ذلك العصر , فله المثوبة الحسنى في الدارين , جزاء له على إيمانه وصالح عمله , وسنقول له مما نأمر به موافقًا لشرع الله - سنقول له - قولا ذا يسر وسهولة في مختلف التكاليف , فإن الله لا يكلف نفسًا إلاَّ وسعها. 89 - {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}: ثم اتَّبَعَ طريقًا موَصِّلا إِلى المشرق، ليرجع فيه بعد غزوه المغرب. 90 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}: حتى إذا بلغ ذو القرنين الإِقليم الذي تطلع الشمس عليه أولا في ناحية المشرق على حافة المحيط، وجدها تطلع على قوم بدائيين فطريين لم يرتقوا صناعيًّا، حتى يصنعوا لأنفسهم ثيابًا تسترهم وتحميهم من أشعة الشمس، أَو مساكن تُؤوِيهم من حرارتها، وقد يكون ذلك في المنطقة التي يمكث فيها النهار أَيامًا متتالية في فصل، ثم يمكث الليل أَيامًا متتاليةً كذلك في فصل آخر، وأنه وصل إليها وقتما كان الزمن نهارًا دون ليل، والشمس طالعة فوقهم دائمًا، وليس لهم وقتئذ ليل يسترهم منها، وأن ذلك هو معنى قوله سبحانه: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} وقد أَجمل الله كمال استعداد ذى القرنين لهذه الرحلة، وَعظَّم أمره وفَخَّمه بقو

91 - {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}: أي كان الأمر في الواقع مثل هذا الذي حكيناه عن ذى القرنين في اليسر والسهولة، وقد أحطنا علمًا بما عنده من الوسائل التي حقق بها ما يريد من بلوغ أطراف الأرض مغربًا ومشرقًا. 92 - {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا}: ثم اقتفى طريقًا ثالثًا يصل منه إِلى حيث يوجد يأجوج ومأجوج وجيرانهم الذين يتعرضون لفسادهم. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}

المفردات: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ}: بين الجبلين، والسد الجبل والحاجز، والمراد هنا الأول كما تقدم. {مِنْ دُونِهِمَا}: أي قريبًا منهما، والأصل في استعمال لفظ. {دُونَ} أن يكون بمعنى تحت وبمعنى فوق، وبمعنى أمام وبمعنى خلف، أَي أنه يستعمل في الشيء ومقابله، كما يستعمل بمعنى غير، انظر القاموس. {لَا يَكَادُونَ}: لا يقربون {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}: اسمان لقبيلتين وقد منع صرفهما. (أي تنوينهما) للعلَمية والعجمة. {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}: ما هنا بمعنى الذي و (مَكَّني) أصله مكننى بنونين، فأُدغمت الأولى في الثانية أي ما جعلنى الله فيه مَكينًا وعليه قادرًا خيرٌ من خَرْجِكُم، {رَدْمًا}: أي حاجزًا حصينًا وسدًا منيعًا بعضه فوق بعض من قولهم سحاب مُرَدَّم، أي متكاثف بعضه فوق بعض. {زُبَرَ الْحَدِيدِ}: قطع الحديد، جمع زبرة وهى القطعة. {الصَّدَفَيْنِ}: جانبى الجبلين، ومفرده الصدف وهو الجبل، ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر، فهو من الأسماء المتضايفة، كالزوج وأمثاله. {قِطْرًا}: القطر هو النحاس المذاب وهو قول الأكثرين، وقيل الرصاص أو الحديد المذاب. {أَنْ يَظْهَرُوه}: أن يعلوه ويرتقوا فوقه. {نَقْبًا}: النقب الثقب والخرق. {دَكَّاءَ}: أَي أَرضًا مستوية. {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}: أي جعلناهم يضطربون ويختلطون. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}: الصور آلَةٌ تشبه القرن ينفخ فيها, وتسمى البوق أيضًا، وسيأتى في التفسير بيان آراء العلماء في ذلك بمشيئة الله. التفسير 93 - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}: لما أَتم ذو القرنين رحلته إلى المشرق، وأخضع أهله لحكمه، اتخذ طريقا ثالثا ليخضع لسلطانه قوما آخرين لم يدينوا له بعد، حتى إذا وصل في سيره إِلى منطقة تقع بين جبلين معينين، وجد قريبًا منهما قوما لا يقربون من أَن يفهموا ما يقال لهم منه أو من أَتباعه لقلة فطنتهم، فإنهم لو كانوا أذكياء لفهموا بعض ما يقال لهم بالقرائن.

ولعلهم كانوا يتفاهمون معهم بالإشارة ليعلموا ما يراد منهم أَو ما يجابون به على أَسئلتهم وسنتحدث عن مكان السدَّين وعن يأجوج ومأجوج حديثا مستفيضا بعد الفراغ من شرح الآيات الكريمة التي أجملت الحديث عنهما. 94 - {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}: أي قال القوم الذين هم دون السّدين، يشكون حالهم لذى القرنين، لما عَلموه من قوة سلطانه وعظيم همته، بما سمعوه من أخبار رحلته - قالوا لذى القرنين - يا صاحب القرنين الذي دان له المشرق والمغرب، إن قبيلتى يأجوج ومأجوج المقيمتين خلف السّدين، مفسدون في الأرض التي نحن فيها، كما أنهم مفسدون في غيرها، ونحن لا نقدر على دفعهم عن بلادنا، فهل نجعل لك عطاءً ومالا على أن تجعل بيننا وبين هولاء المفسدين حاجزا بين هذين الجبلين يمنعهم من العودة إلى أَرضنا والعَيْثِ فيها فسادًا، وقرأ حمزة والكسائى وغيرهما "فَهَلْ نجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا". بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال، وقال ابن الأعرابى: الخرج على الرؤوس والخراج على الأرض، ولهذا يقال: أدِّ خَرْجَ رَأسِكَ وَأدِّ خَرَاجَ أرضِكَ، وقيل: الْخَرْجُ ما تبرعت به والخراج ما لزمك. 95 - {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}: قال ذو القرنين ردا على ما عرضوه من العطاء في مقابل إقامته السد بينهم وبين يأجوج - قال لهم - ما مكننى فيه ربي وجعلنى فيه مكينا من الملك والمال والعلم وسائر الأسباب خير مِمَّا تريدون بذله لى، فلا حاجة بي إِلى أموالكم، فأعينونى على بناء السد الذي تريدونه بما أَقوى به على تحقيقه. من العمال وآلات البناء والوقود وقطع الحديد والنحاس، وغير ذلك مما يحتاج إليه في إِقامته حتى يساوى الجبلين، ويكون شديد القوة بحيث لا يقدرون على صعوده ولا على اختراقه، فإن فعلتم أجعل بينكم وبينهم ردمًا أي حاجزا حصينا وحجابا متينا.

واعلم أن الردم في اللغة أقوى من مطلق السد، مأخوذ من قولهم سحاب مُرَدَّمٌ، أي متكاثف بعضه فوق بعض، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال عن الردم: (هو كأشدّ الحجاب) وعلى هذا يكون قد وعدهم بتحقيق مرادهم فوق ما يتخيلون وهذا هو ما يليق بملك عظيم مثله، ثم فصل لهم بعض مطلوبه من القوة التي يعينونه بها فقال: 96 - {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا}: أي أعطونى قطع الحديد , فأتوه بها , فجعل يضع بعضها على بعض بطريقة تقتضى التماسك والارتفاع بالبناء , حتى إذا ساوى ذو القرنين ما بين جانبى الجبلين بما بناه من السد قال لعماله: انفخوا بالكيران في الوقود الموضوع بين قطع الحديد بعد إشعال النار فيه , ليصبح الحديد مثل النار , فيلتصق بعضه ببعض , ففعل العمال ما أمرهم به. {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}: هذه العبارة مترتبة على كلام مقدر مفهوم من المقام، فكأنه قيل: ففعل العمال ما أمرهم به ذو القرنين من النفخ في الوقود المشتعل بين قطع الحديد, حتى إِذا جعل السد يشبه النار في شكله وفي حرارته قال لعماله الذين يقومون بإذابة القطر وهو النحاس أو الرصاص أو الحديد - قال لهم - أحضروا القطر الذي صهرتموه وأذبتموه لأُفرغه على السد، فأحضروه له فأفرغه عليه فسدّت به الثغرات التي كانت بين قطع الحديد بعد أن تم احتراق الوقود الذي بينهما، والتصق بعضها ببعض أشد التصاق. 97 - {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}: أي فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه أَو ينقبوه, فما استطاعوا أن يعلوا ظهره ويرتقوا فوقه لشدة ارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا له خرقا لصلابته وغلظه، قيل: كان ارتفاعه مائتي متر، وكان غلظه خمسين ذراعا، والله أَعلم بصحة ذلك. وفي هذه الآية تساؤلات نذكرها ونجيب عليها فيما يلى، ونسأل الله التوفيق: س 1: لماذا قال ذو القرنين لأهل ما بين السدّين: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} مع أنه امتنع عن أخذ المال منهم، وقال: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر

والجواب: أن امتناعه عن أخذ المال لا يمنع من طلب عمال البناء والأدوات وقطع الحديد ليتقوى بذلك على تحقيق مرادهم على أن يدفع الأجر للعمال وثمن الحديد من ماله، على أن السد لما كان لمصلحتهم، فإن تبرعهم بالقوى العاملة، لا يعتبر عطاءً أو أجرًا على بنائه كما أن زبر الحديد قد تكون من منجم قريب من السد، فإحضارهم إياها، لا ينافى رفضه أجرًا منهم. س 2: كيف يطلب من عماله أن ينفخوا على السور بعد أن بناه بقطع الحديد، مع أن هذا النفخ لا يصهر الحديد دون أن يكون بين قطعه وقود مشتعل.؟ .. والجواب: أن هذا النوع هو من الاختصار القرآنى المتروك فهمه لفطنة القارىء، وهو من الصور البلاغية للقرآن الكريم، ولا شك أنه أمرهم بوضع الوقود وإشعاله قبل أمرهم بالنفخ فيه، وأن الأمر بالنفخ قرينةٌ على ذلك. س 3: لماذا أسند ذو القرنين العمل في السد لنفسه بقوله: {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} كما حكى الله عنه أنه ساوى بين الصدفين وجعله نارا، مع أن كل ذلك تم بمباشرة مهندسيه وعماله .. ؟ والجواب: أنه لما كان ذلك يتم بأمره وإرشاد أسنده إلى نفسه على سبيل المجاز. س 4: كيف يستطيع العمال أن ينفخوا في السور قريبًا منه دون أن يحترقوا بناره، وكيف يفرغون عليه النحاس المذاب مع حرارته الشديدة وناره المتقدة، وارتفاعه العظيم وثخانته البالغة خمسين ذراعا على ما قيل؟ والجواب: أنه لابد أَن يكون ذو القرنين قد وصل إلى حل لهذه المشكلات، بحيث يمكنه تحقيق بنائه على النحو الذي تحدث به القرآن العظيم عنه، دون إضرار بأحد العاملين فيه، وكما أن العلم في عصرنا حل مشكلات كثيرة، فالعلم والحضارة والحكمة عند هؤلاء القدماء بلغت الذروة , فلابد أنهم استعملوا آلات وطرقا علمية لم يصل بعد أحد إلى معرفتها ولا تكاد العقول تصدقها، ما لم تعرف ما كان عليه هؤلاء العظماء، من العلم والحكمة والإبداع، وما معجزة بناء الأهرام عنا ببعيدة عن العيون والأبصار، وكم لله في خلقه من آيات وعظات.

ياجوج وماجوج

98 - {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}: بعد أن فرغ ذو القرنين من بناء السد وإحكامه بحيث يمنع يأجوج ومأجوج من الخروج من ورائه ليفسدوا في الأرض، قال مشيرا إلى السد: هذا أَثر رحمة عظيمة من ربي بعباده، حيث أقدرنى على بنائه وإحكامه وحمى به الناس من غزوات أولئك المفسدين المخربين ,وما أنا إلا منفذ لمشيئة ربي ورحمته بعباده، ولولا ذلك لما استطعت بناءه، فإذا جاء موعد ربي بخروج يأجوج ومأجوج من محبسهم جعل هذا السد أَرضا دكاء أي مستوية، وكان وعد ربي بخروجهم حقا ثابتا لا خلف فيه، وكذا كل مواعيده جل وعلا، وقد يقول قائل: من أين علم ذو القرنين أَن هذا السّد سيُدَكُّ وينهار، وأن الله وعد بذلك، وأنهم بعد دكه سيخرجون مع أَنه ليس بنبى؟ والجواب: أَنه ربما علم ذلك من نبي كان في وقته، أو يكون ذلك عن اجتهاد، أو قراءة في كتاب نبي سبقه، وفي ذلك يقول الآلوسى: وفي كتاب حزقيال عليه السلام الإخبار بمجيئهم في آخر الزمان، من آخر الجربياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلاَّ الله تعالى، وإفسادهم في الأرض، وقصدهم بيت المقدس، وهلاكهم عن آخرهم في بريَّته بأنواع من العذاب، قال الآلوسى: وحزقيال عليه السلام قبل الإسكندر، فإذا كان هو ذا القرنين، فيمكن أن يكون وقف عليه، فأفاده علمًا بما ذكر. والله تعالى أعلم: انتهى كلام الآلوسى. وبعد أن انتهى الحديث عن فتوحات ذى القرنين وإصلاحاته آن الأوان لذكر نبذة عن يأجوج ومأجوج، وعن مكانهم ومكان السد، وهل هو باق حتى الآن، أم أن الله دكه دكًّا، وخرجت يأجوج ومأجوج من ورائه ليفسدوا في الأرض، وإليك البيان فيما يلى: ياجوج وماجوج هما قبيلتان من البشر، وقد أحيطت قصتهم ببعض الخرافات، لا نرى موضعًا لذكرها في تفسيرنا هذا، ويقول الناسبون: إنهم من ذرية يافث بن نوح عليه السلام ولعل منشأ قولهم هذا ما جاء في صدر الإصحاح العاشر من سفر التكوين من أن نوحًا عليه السلام ولد له ثلاثة أَولاد، سام وحام ويافث، وأَنه ولد ليافث جوقر ومأجوج وماداى ... الخ.

اسم السد ومكانه

وفي هذا المعنى ورد حديث مرفوع جاء فيه (ولد لنوح سام وحام ويافث، فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة) وضعفه علماءُ الحديث، والله أعلم، وهما اسمان أَعجميان، أَو عربيان مأْخوذان من أجَّ الظليم إِذا أسرع، أو من أجيج النار، وهو ضوءُها وشررها، وهذا المأخذ يشير إِلى شرهم وفسادهم، وأنهم مثل النار ولا جيرة لهم، كما أن المأخذ الأول يشير إلى سرعتهم في شن الغارات على جيرانهم، والعودة بغنائمهم إِلى حيث يعيشون وراء الجبلين اللذين أقيم السد بينهما، وهذان الجبلان كما يقول بعض الباحثين: (بين سمرقند والهند) وعلى هذا يكون المراد من يأْجوج ومأجوج المغول والتتار. وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالى، وتنتهى غربًا إلى ما يلى بلاد التركستان، وحددت في هضبات آسيا الوسطى شمال الصين، ما بين الدرجة السابعة والعشرين والدرجة الخمسين من خطوط العرض الشمالية، وبذلك تبلغ بلادهم في العرض ثلاثًا وعشرين درجة (¬1). وهذه الأُمم عرفت في التاريخ بإغارتها على الأُمم المجاورة من آن لآخر، كما عرف عنهم تجاوز إِفسادهم إِلى أطراف الأرض، فقد انحدروا من مرتفعات آسيا الوسطى إِلى أوروبا وخربوها كما خربوا آسيا الغربية التي بعث فيها الأنبياءُ، وكانوا يحذرون منهم أقوامهم، وسنتحدث عن جرائمهم في عهد الإسلام بمشيئة الله. اسم السد ومكانه واسم السدِّ الذي بناه ذو القرنين بين الجبلين المذكورين (سد باب الحديد) وراء جيحون في عمالة بلخ، بقرب مدينة ترمذ. وَقد دك هذا السد كما وعد الله تعالى، وإِليه يشير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}. ¬

_ (¬1) راجع ج 9 من تفسير الجواهر ص 199 وقد نقله مؤلفه الشيخ طنطاوى جوهرى عن فاكهة الخلفاء، وابن مسكويه في تهذيب الأخلاق، ورسائل إخوان الصفا.

آراء أخرى في مواطنهم

وقد اجتاز هذا السد تيمورلنك بجيشه، ومر به (شاه روح) وكان في خدمته الألمانى (سبلدبرجر) الذي جاء ذكر السد في كتابه، وذلك في أوائل القرن الخامس عشر، كما جاء ذكر هذا السد في رحلة الأسبانى (كلافيجو) سنة 1403 م، وكان رسولا من ملك قشتالة (¬1). آراء أخرى في مواطنهم ويرى بعض المؤرخين أنهم يسكنون قريبا من خط عرض (90) تسعين من جهة الشمال، وأنه هو المراد بآخر الجربياء في كتاب النبي حزقيال، وأن جبليهم هما جبلا (أرمينية وأذربيجان) وأن سَدَّ ذى القرنين هو سد (باب الأبواب) المشهور، وهذا يستلزم أن يكون يأجوج ومأجوج من الخزر والترك، وأن الذي بنى السد هو ملك الفرس غورش الذي تقدم ذكره، لأنه هو الذي بنى سد (باب الأبواب) - وهذا يخالف ما عليه أكثر المؤرخين من أن الذي بقى سد يأجوج ومأجوج هو الإسكندر المقدونى، وقد بناه في آسيا الوسطى شمال الصين، واسمه "باب الحديد". أَما سد (باب الأبواب) فقد بناه ملك الفرس بناحية أرمينية , لأغراض تتعلق بأمن وسلامة أهل هذه المنطقة ممن كانوا يغيرون عليها من الهنغوليين، فهم الذين حملوا شعب الخزر على الهجرة إلى شرق أوروبا, بسبب كثرة غاراتهم عليهم، وهناك اندمجوا فيهم، والهنغوليون غير يأجوج ومأجوج , الذين كانوا يسكنون بآسيا الوسطى شمال الصين وعلى أي حال فالسدَّ الذي تحدث عنه القرآن وبناه ذو القرنين حقيقة واقعة سواءٌ كان (سد باب الحديد) شمال الصين أم كان (سد باب الأبواب) بناحية أرمينية، وكلاهما مصدق لما جاء به القرآن الكريم، سواءٌ بناه الإسكندر شمال الصين، أم بناه الملك الفارسى بناحية أرمينية، وإطلاق صفة ذى القرنين على هذا أو ذاك، تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوعَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}. ¬

_ (¬1) راجع ج 9 ص 198 من تفسير الجواهر للشيخ طنطاوى جوهرى.

جرائمهم في عهد الإسلام

جرائمهم في عهد الإسلام قلنا إن سد يأجوج ومأجوج تخرب مصداقا لوعده تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} الآية، وقد خرجوا من محبسهم في غزوات تخريبية، ومنها ما حدث في أوائل القرْن السابع الهجرى بقيادة ملكهم (جنكيزخان) حيث أغاروا على بلاد المسلمين فأطاحوا بمملكة (قطب الدين السلجوقى) ملك التركستان والفرس، وأخضعوا بلاد الهند، وهلك الطاغية (جنكيزخان) بعد رجوعه من الهند، وأَغار ابن أخيه (هولاكو) بجنوده على مقر الخلافة ببغداد في عهد الخليفة (المستعصم بالله) وذبحوا الخليفة، وعلقوا جثته بذيل حصان وأباحوا المدينة تسعة أيام سالت فيها الدماء أَنهارا، وطرحوا كتب العلم في نهر دجلة، ثم أذن الله بالنصر عليهم في عهد الملك (سيف الدين قطز) بعد أَن وصلوا في غزواتهم المدمرة إلى الشام، حيث جرد لهم جيشا عظيما من مصر والشام، وحاربهم في معركة فاصلة بعين جالوت، وهزمهم شر هزيمة، وأَجلاهم ولم تقم لهم بعدها قائمة. وفي شأْنهم هذا روى البخاري بسندر عن زينب بنت جحش رضى الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: لا إله إلا الله. ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصْبَعَيهِ الإبهام والتى تليها قالت زينب بنت جحش: أنهلك وفينا الصالحون؟ ففال نعم إِذا كثر الخبث). وتعبيره صلى الله عليه وسلم عن الفتحة بالسد وتصويره إياها بتحليقه بإصْبَعَيْه الإبهام والتى تليها، كناية عن بداية صغيرة لشرهم، ثم اتسع هذا الشر في أوائل القرن السابع الهجرى كما ذكرنا - والله تعالى أعلم. التفسير 99 - {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}: بعد أن حكى القرآن الكريم عن ذى القرنين أَن هذا السد رحمة من ربه، ذكر في هذه الآية ما فعله الله تعالى بيأجوج ومأجوج بعد إقامة السد، وظاهر النظم الكريم أن الضمير في قوله تعالى: {بَعْضَهُمْ} عائد إلى يأجوج ومأجوج، وعليه اقتصر الفخر الرازى، واختاره صاحب البحر. والتَّرْكُ هنا بمعنى الجَعْل، وهو من الأضداد.

والمعنى على هذا: وبعد تمام السد جعلنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعض، أي يضطربون اضطراب موج البحر لما مُنِعُوا من الخروج والفساد في الأرض بسبب السد، ولا يزالون مائجين مضطربين، حتى ينجز الله وعده الحق، فَيَنْدَكُّ السد ويسوى بالأرض، وحينئذ يخرجون مزدحمين في البلاد ويهلكون الحرث والنسل. وقيل: إن الضمير عائد إلى الخلائق من الإِنس والجن. وعلى هذا الرأى يكون معنى الآية ما يلى: وجعلنا بعض الخلائق يضطربون اضطراب أمواج البحر، يختلط إنسهم بجنهم من شدة الفزع والهول عند قيام الساعة، روى هذا عن ابن عباس رضى الله عنهما - قال الآلوسى: ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}: الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام بأمر الله تعالى، كما ثبت في السنة وهو بوق عظيم جدا، جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول، ولكنا نؤمن به، ونكل حقيقته إلى من أَحاط بكل شىءٍ علمًا، وقد صَحَّ عن أبي سعيد الخدرى رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدْ الْتَقَمَ صَاحِبُ القرْنِ الْقَرنَ وَحنَى جَبينَهُ وأصغى سمْعَهُ يَنْتَظرُ أنْ يُؤْمَرَ فيَنْفُخ" (¬1) وهو ينفخ فيه نفختين: الأولى نفخة الصعق والأخرى نفخة البعث والقيام من القبور، وهما المذكورتان في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (¬2). والمراد هنا النفخة الأُخرى بدليل ما بعدها، والضمير في قوله تعالى: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} للخلائق كلها ومنهم يأجوج ومأْجوج - أي عقب النفخة الأُخرى في الصور، والقيام من القبور، نجمع الخلائق كلها حميعًا عظيمًا هائلا: أولهم وآخرهم، إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم بعدما تفرقت أَوصالهم، وتمزقت أَجسادهم - نجمعهم في صعيد ¬

_ (¬1) وذهب أبو عبيدة إلى أن الصور جمع صورة، وأيده بقراءة الحسن (الصور) بفتح الواو، وعلى هذا يكون النفخ في الصور كناية عن إحياء الخلائق، لجمعهم وحسابهم وجزائهم. (¬2) الزمر - الآية:

واحد للحساب والجزاء، كما قال تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (¬1)، وقال سبحانه {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (¬2). {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)} المفردات: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ}: أَظهرناها. {أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ}: أَعينهم عليها غشاءٌ يمنعها من البصر. {عَنْ ذِكْرِي}: عن الآيات التي تذكرهم بي. التفسير 100 - {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}: هذا إخبار منه تبارك وتعالى، عما يفعله بالكفار يوم يجمع الخلائق للحساب والجزاء. والمعنى: وأبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين إِظهارًا جليًا حيث يرونها، ويسمعون لها تغيُّظًا وزفيرًا، ويبصرون ما أعد لهم فيها من العذاب والنكاك قبل دخولهما، ليكون ذلك أَبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، وليعلموا أَنهم مواقعوها لا يجدون عنها مصرفًا. 101 - {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ..... } الآية. وهذا بيان منه سبحانه لبعض أوصاف الكافرين الذين استحقوا بسببها هذا العذاب والنكال، أي هؤُلاء الكافرون بي كانت أعينهم - وهم في الدنيا - في غشاوة محيطة بها، فتغافلوا وتعاموا عن النظر في آياتى المُنْبَثَّةِ في الأنفس والآفاق، المؤدية إلى توحيدى وتمجيدى وذكرى وطاعتى، ويجوز أَن يراد ذكره تعالى الذي أَنزله علي رسله ودعا إليه عباده .. وقوله ¬

_ (¬1) الواقعة، الآيتين: 49، 50 (¬2) الكهف، من الآية: 47

تعالى: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}. نفى لسمعهم آياته على أتم وجه وأبلغه، والمراد أنهم مع تغافلهم وتعاميهم عن التدبر في آياته تعالى، كفاقدى السمع أصالة، فهو تصوير لإعراضهم عن سماع ما يرشدهم إِلى ما ينفعهم. بعد تعاميهم عن آياته المؤَدية إلي ذكره وما ينبغي لجلال وجهه - والتعبير عن إِعراضهم عن الذكر بأنهم كانوا لا يستطيعون سمعًا، يؤْذن بأن ذلك كان دأبهم الذي اعتادوه واستمروا عليه وقد أَفادت الآية أنهم سدوا على أَنفسهم منافذ العلم من السمع والبصر. {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)} المفردات: {أَفَحَسِبَ}: الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ، والحسبان بمعنى الظن. والفاءُ عاطفة على مقدر مناسب سيأتى في التفسير. {أَوْلِيَاءَ}: أي معبودين أو أنصارًا. {أَعْتَدْنَا}: أَي أَعددنا وهيأْنا. {نُزُلًا}: أي شيئًا يقدم لهم، كالذى يقدم للنزيل أَو الضيف. وقيل النزل: موضع النزول، ولذلك فسره ابن عباس رضى الله عنهما بالمثْوَى. {ضَلَّ سَعْيُهُمْ}: أي ضاع عملهم وبطل عند الله عز وجل.

التفسير 102 - {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ... } الآية. لما بين الله سبحانه وتعالى الآية السابقة ضلال الكافرين وتغافلهم عن التدبر في آياته الهادية إلى ذكره وطاعته - أنكر عليهم في هذه الآية اتخاذهم بعض عباده آلهة يعبدونهم من دونه، أو أنصارًا ينصروكم ويخلصونهم من عذابه. والمعنى: أجهل هؤُلاء الذين كفروا بي فظنوا أن اتخاذهم بعض عبادى آلهة أو أنصارًا ينجيهم من عذابي! كلا، إنهم بظنهم هذا لفى ضلال مبين، ولو كان أَولياؤُهم من الملائكة أو العباد المقرببن، ثم أكد سبحانه هذا الإنكار على الكافرين به فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا}: أي إِنا هيأْنا لهؤُلاه جهنم جزاء على عبادتهم لغيرنا واتخاذهم أولياء. وفي هذا ما فيه من التهكم بهم والتخطئة في حسبانهم ذلك، مع الإيماء إلي أَن لهم من وراه جهنم ألوانًا أخرى من العذاب (¬1)، وليست جهنم إلا مقدمة له. وأما إِذا كان النُّزل بمعني المنزل أو المثوى، فالمراد بيان انعكاس مقصودهم من النجاة إلى الهلاك. 103 - {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}: قيل إن المراد بهؤُلاء الأخسرين: أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ولكن ظاهر الآية الكريمة أنها عامة في كل من عبد الله علي غير شريعته التي شرعها لعباده، يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، ولكنه مخطىء وعمله مردود عليه. أي قل أيها الرسول للمشركين خاصة، وللكافرين عامة: هل أُخْبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وحرمانًا من ثوابها؟! ثم فسرهم بقوله: 104 - {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}: أيْ أن الاخسرين أعمالًا من سائر الملل والنحل هم الذين أتعبوا أنفسهم في أعمال يبغون بها ثوابًا وفضلًا، فنالوا بها هلاكًا وخسرا، كالذى اشترى سلعة يرجو بها ربحًا عظيمًا، فخاب ¬

_ (¬1) فإن لفظ "النزل" يعبر به عما يقدم للضيف أول ما ينزل من غير كلفة، ويكون عادة مقدمة لما يقدم له بعد بعناية، وقد عبر به هنا عما يقدم للكافرين أول نزولهم للعقاب وهو جهنم، فما ظنك بما يكون بع

رجاؤه وخسر بها خسرانًا مبينًا. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (¬1) وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬2). ثم بين سبحانه ما ترتب على كفر أولئك الأخسرين أعمالا من الجزاء السيء على ما صنعوا فقال: 105 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا .. } الآية. أي أُولئك الضالون الخاسرون، وهم يحسبون أَنهم يحسنون، هم الذين جحدوا آيات ربهم ودلائله الداعية إِلى توحيده وتمجيده، وضموا إِلى جحودهم آيات ربهم إنكارهم البعث في اليوم الآخر وما يتبعه من الجزاء على الأعمال، فمن ثَمّ حبطت أَعمالهم وبطلت وإذًا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}: بل نزدرى بهم ونحتقرهم، ولا نجعل لهم مقدارًا، لأنه لا مقدار لأحد إلا بالعمل الصالح، وأولئك مجردون من صالح الأعمال، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنَّهُ لَيَأْتِىَ الرَّجُل الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القيَامَةِ لَا يَزِن عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَة، وَقَال: اقْرَءُوا إنْ شئْتُمْ: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أو المعنى لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا لأنها قد حبطت وصارت هباءً منثورًا. وقوله تعالى: 106 - {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}: بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم، إثْرَ بيان أعمالهم المُحْبَطَةِ بذلك الكفر، أي ذلك جزاؤُهم الذي جزيناهم به بسبب كفرهم بي، واتخاذهم رسلى وآياتى التي أيَّدتُهُمْ بها - هزؤًا وسخرية! فلم يكتفوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل، بل ارتكبوا عظيمة أُخرى مثلها، وهى الاستهزاءُ بالمعجزات الباهرة التي أيدت بها رسلى عليهم السلام وبالصحف المنزلة عليهم. ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية: 39 (¬2) سورة الفرقان، الآية:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} المفردات: {الْفِرْدَوْسِ}: أعلى درجات الجنة وأَوسطها وأفضلها. وأصله في اللغة: البستان الجامع لكل ما في البساتين. {حِوَلًا}: أَي تحولا وانتقالا. التفسير 107 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}: بعد أن ذكر الله سبحانه ما أعده من العذاب للذين كفروا بآيات ربهم واستهزءُوا برسله - ذكر جزاء الذين آمنوا به وبلقائه وعملوا الصالحات، قال الآلوسي تبعًا لأبي السعود: هذا بيان - بطريق الوعد - لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة، إثر بيان مآل الكفرة بطريق الوعيد، أَي: إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه، وعملوا الأعمال الصالحات، كانت لهم فيما سبق من حُكْمِهِ تعالى ووعده جنات الفردوس أعلى الجنات منزلة وأرفعها درجة، أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سَألتُمُ الله تعَالى فاسْألُوهُ الفِردَوسَ: فإنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ وَأعلَى الجَنَّةِ وَفوْقهُ عَرْشُ الرحمَن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ). وفي التعبير بقوله "كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِردَوْسِ نُزُلًا". إِيماءٌ إِلى أَن أثر الرحمة، يصل إِليهم بمقتضى الرأفة الأزلية، بخلاف ما مر من جَعْل جهنم للكافرين نُزُلًا، فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم. انظر تفسير أبي السعود.

108 - {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}: أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدًا. قال ابن كثير: وفي قوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تنببه علي رغبتهم فيها وحبِّهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه كد يسأمه أو يمَلُّهُ فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدى، لا يختارون عن مقامهم ذلك تحولا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا. أهـ. {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُولِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}. المفردات: {مَدَدًا}: المداد في الأصل: اسم لكل ما يُمَدُّ به الشيءُ، واختص في العرف بما تُمَد به الدواة من الحبر. {يَرْجُو}: يأمل أو يخاف. {لِكَلِمَاتِ رَبِّي}: أي لكلماته الإبداعية والتشريعية والخبرية، في اللوح المحفوظ وفي القرآن الكريم، وفي شئون الكون حاضره ومستقبله ودنياه وأخراه. التفسير 109 - {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} ... الآية.

سبب النزول: روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حُيَيَّ بن أخطب قال: في كتابكم: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} ثم تقرءُون: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ومراده الاعتراض بوقوع التناقض في القرآن الكريم، بناء على أن الحكمة هي العلم فكيف يكون العلم في القرآن شيئًا قليلًا في آية، وخيرًا كثيرًا في آية أخرى، وقد غفل هؤُلاء اليهود، عن أن الشيء الواحد قد يكون قليلًا في حالة، وكثيرًا في حالة أخرى فالآية جواب عن اعتراضهم بالإشارة إلى أَن القلة والكثرة من الأمور الإضافية، فيجوز أن يكون الشيءُ كثيرًا في نفسه، وهو قليل بالنسبة إلى شيءٍ آخر، ولا شك أن التوراة ليست كل كلام الله تعالى، بل هي بعض قليل منه، ويكفى في كتابتها مداد قليل، أما كلامه تعالى الشامل للتوراة وغيرها من شئون الكون فكثير لا يكفي في كتابته مداد البحر. ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: أو كان ماءُ البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي في التشريع والتكوين وغيرهما، لنَفِدَ هذا المداد وفَنِىَ قبل أن تنفد كلمات ربي وتفنى، ولو جئنا بمثل هذا الماء العظيم مددًا وعونًا، لأن جميع ما في الوجود علي التعاقب والاجتماع - مُتَنَاهٍ، وعلم الله وكلماته لا تتناهى، والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهى. والمراد أن كلمات الله تعالى لا يعتريها فناءٌ ولا نقص، وعلمه لا غاية له ولا نهاية، فما علم العباد جميعًا بجانب علمه تبارك وتعالى إلاَّ كقطرة من ماء البحور كلها. وفي معنى الآية الكريمة قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ً} (¬1). ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بنحو ما بدأها به من البشارة والنذارة فقال: 110 - {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... } الآية. أي قل أيها الرسول للمشركين وللناس جميعًا: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا أدعى الإحاطة بكلماته جل وعلا، ولا أعلم إلَّا ما علمنى ربي، وقد أوحى إلى أنما إلهكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا هو إله واحد لا شريك له. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: أي فمن كان يأمل تكريم ربه إياه بالثواب وحسن الجزاء عند لقائه، فليعمل عملًا صالحًا موافقًا ¬

_ (¬1) سورة لقمان، الآية: 27

لشريعة الله، ولا يُرِدْ بعبادة ربه إِلَّا وجه ربه وحده لا شريك له، وهذان هما الركنان اللذان لا بد منهما لكل عمل متقبل، أَن يكون خالصًا لله سبحانه، وأن يكون صوابًا وفق شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم أو المعنى: فمن كان يخاف سوءَ لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا خالصًا لوجه ربه ولا يخلط به غيره. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالي: (أَنَا أغْنَى الشُّرَكَاء عَنِ الشِّرْك. مَنْ عَملَ عَمَلًا أشْرَك فيه مَعى غَيْرِى. تَرَكْتُهُ وَشركَة) (¬1)، روى الشيخان عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللهُ به" (¬2). وروى مسلم عن أبي هريرة أيضًا (¬3) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوم الْقِيَامَةِ عليْهِ، رجل استُشهد فَأُتِىَ به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرىء، فقد قِيلَ، ثم أمَرَ بِه فسُحِبَ على وجهه حتى ألقى في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمت وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أَمَرَ بِهِ فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ الله عليه وأَعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِيَ به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أَن ينفق فيها إلا أَنفقت فيها لله، قال: كذبت ولكنك فعدت ليقال: هُوَ جوادٌ فقد قيل، ثم أَمَرَ بِهِ فسُحِبَ علي وجهه ثم أُلقى في النار". والله المستعان على الإِخلاص في النيات والأقوال والأعمال ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) هذا كناية عن إحباط ثوابه وحرمانه من أجره، لما اقترفه من ترك الإخلاص فيه والحديث يعم الشرك الجلي وكذا الشرك الخفي المعبر عنه بالرياء. (¬2) أي من مع الناس بعمله، أو راءاهم به ليحمدوه ويثنوا عليه، أظهر الله سريرته لهم وملأ أسماعهم من سوء الحديث عنه في الدنيا والآخرة، فلم يظفر بما أظهره إلا بإبداء ما انطوى عليه من خبث السريرة. (¬3) في كتاب الإمارة: باب من قاتل للرياء والسمعة استحق ال

سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة مريم تمهيد: هذه السورة التاسعَة عَشرَةَ في ترتيب المصحف. ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأَعاجيب، كقصة ولادة يحيي وقصة ولادة عيسى عليهما السلام. ولذلك ذكرت بعدها، وهي مكية إلا آية السجدة (58). وآية الورود على النار (71) وعدد آياتها ثمان وتسعون وقد حوت طائفة كريمة من قصص الرسل وأَنباءِ الغيب. افتتحها الله تعالى بقصة زكريا عليه السلام إذ دعا ربه أَن يَهَبَ له وليًّا يرثه في الدعوة إِليه والحفاظ على شريعته. فاستجاب له ربه وبشره بغلام سماه يحيي ولم يجعل له من قبل سميًّا وآتاه الحكم صبيا. ولما تعجب زكريا من خلق الولد من أُم عاقر وأَب بلغ من الكبر عتيًّا - أَوحى إليه ربه أَن هذا الخَلْقَ {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} ثم ذكر تعالى قصة مريم عليها السلام ... وهي أَعجَب من قصة زكريا!! وفيها أَن جبريل عليه السلام تمثل لها بشرًا سويًّا. ففزعت واستعاذت بالرحمن منه. فطمأنها بأَنه رسول ربها ليهب لها غلامًا زكيًّا. فلما تعجبت من أَن يكون لها غلام ولم يمسسها بشر ولم تَكُ بَغِيًّا - {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}. وكذلك كان عيسى عليه السلام آية من آيات ربه الكبرى: في حمله وولادته. وقوله في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ... } ثم قال تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

ثم ذكر تعالى قصة إِبراهيم عليه السلام وهو يدعو أباه إِلى الصراط السوىّ، بأرق ما تكون الدعوة من الرفق والحنان، فيقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}. فيقابل أبوه هذا الرفق والحنان، بأَشق ما يكون من العنف والقسوة والجحود والعصيان، فيقول: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}. وهنالك لم يجد إبراهيم عليه السلام بُدًّا من أن يعتزل أَباه وقومه وما يعبدون من دون الله. قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}. ثم ذكر تعالى كليمه موسى عليه السلام ومناجاته إياه في الطورِ، وهبة الله له أَخاه هارُونَ نبيًّا. ثم أثنى سبحانه على إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد، وَأَمْرِهِ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}. وعلى إدريس عليه السلام بأنه: "رَفَعْهُ مَكَانًا عَلِيًّا". ثم أثنى تبارك وتعالى على المصطفَيْن الأخيار من عباده فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}. وذم الذين خَلَفُوهم مِنْ بعدهم، فلم يهتدوا بهديهم، بل أَضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوفَ يَلْقَوْنَ جزاءهم {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}. ومما ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة، أَنه يحشر الكافرين يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطيين .. وأَن جميع الخلق يَرِدُون جهنم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} وبعد ذلك يستنكر سبحانه أَشد الاستنكار، ما زعمه الزاعمون من اتخاذه ولدًا، إذ يقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} ثم يَعِد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأَنه سيجعل بينهم محبة وَوُدًّا ثم يختم سبحانه السورة الكريمة ببيان

تيسيره القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه، بإنزاله بلسانه ولسانهم، حيث أنزله {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. ليسهل عليه تبليغهم كتاب ربهم، ويبشر به المتقين بحسن المثوبة، وينذر به المجادلين المعاندين بشديد العقوبة. إذ يقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}. وأخيرا يضرب الله المثل بأمثالهم الذين أهلكهم في القرون الماضية فلم يُبقِ منهم أَحدا، فيقول - وقوله الحق -: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} ذلك. ومما يلاحظ في هذه السورة الكريمة أَنه كثر فيها ذكر الرحمة والرحمن، لما تجلى فيها من رحمة الله على عباده وهم في أشد الحاجة إليها!!

بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} المفردات: {نَادَى رَبَّهُ}: أي دعا ربه عز وجل. {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}: ضعف عظمى ورق لكبر سنى. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}: وتغلغل الشيب في رأسى وَفَشَا فيه. {الْمَوَالِيَ}: المَوْلَى: هو القريب الذي يلي أَمر الرجل من عصبته، كالأخ والعم وابن العم. {عَاقِرًا}: عقيمًا لا تلد. {وَلِيًّا}: ابنًا من صلبى يلي الأمر بعدي. {رَضِيًّا}: مرضيًّا عندك قولًا وفعلًا. التفسير 1 - {كهيعص}: افتتح الله تبارك وتعالى تسعًا وعشرين سورة بأسماء بعض الحروف الهجائية، وسورة مريم واحدة منها. وقد قال كثير من المفسرين: إن معانى هذه الحروف من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وهو أَعلم بمراده منها. وقال بعضهم: هي أسماءٌ للسور التي افتتحت بها، وقال بعضهم: هي رمز للتحدى، بالإشارة إلى أَن القرآن الكريم، مكون من جنس ما يَنْظِمُ العرب منه كلامهم، فإذا عجزوا جميعًا عن الإتيان بسورة من مثله - وهم أَئمة

الفصاحة والبلاغة - وجب التسليم بأنه من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وبأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أَن يأْتي بسورة منه (¬1). 2 - {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}: أي هذا الذي نقصه عليك - أَيها الرسول - هو ذكر رحمة ربك لعبده ورسوله زكريا، وهذا إجمال يأتي تفصيله قريبًا. وزكريا عليه السلام نبى ورسول من أنبياء بني إِسرائيل، من ولد سليمان بن داود عليهما السلام. روى الحافظ ابن كثير وغيره أنه كان نجارًا يأكل من عمل يده في النجارة، وهكذا كان الأنبياءُ يأكلون من عملهم. وقوله تعالى: 3 - {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}: - مرتبط بقوله سبحانه -: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}: أَي أَن رحمة ربك أحاطت بعبده زكريا، حين دعا ربه دعاءً مستورًا عن الناس، ولم يسمعه أَحد منهم وإنما أَخفى دعاءه عليه الله السلام، وأَسر به وهو يتضرع إلى ربه؛ لأن الإِسرار بالدعاء أدل على الإِخلاص، وأَبعد عن الرياء، وأَقرب إِلى الخلاص من لائِمةِ الناس على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة. قال ابن كثير عن بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وَقد نام أَصحابه، فجعل يهتف بربه، يقول خفية: يا رب، يا رب، يا رب، فقال الله له: لبيك لبيك. 4 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي .... } الآية. هذا تفصيل وتفسير لكيفية ندائه ربه عليه السلام. أي: إني ضعف عظمى ورق لكبر سنى. والمراد: ضعُفتُ وخارت قواى. وإِنما أُسند الضعف إلى العظم؛ لأن العظام عماد البدن ودِعَامُ الجسد، فإِذا أَصابها الضعف والرخاوة تداعى ما وراءها وتساقطت قوته! {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}: أَي فشا الشيب وتغلغل في رأْسى، وسرى فيه كما تسرى النار في الحطب. {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}: أي ولم أَكن بدعائِى إِياك خائبًا في ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه عن هذه الفواتح: أول سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة يونس.

في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتُكَ استجبتَ لي، توسل عليه السلام إلى ربه في استجابة دعائه بما سلف من الاستجابة له عند كل دعوة دعاها - إثر تمهيد ما يستدعى الرحمة به من غير سنه وضعف قوته، فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرًا طويلًا لا يكاد يخيبه ابدًا، ولا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره، وفي هذا التوسل من الإِشارة إلى عظم كرم الله عَزَّ وَجَلَّ ما فيه .. ويذكر المفسرون هنا ما يروى أن حاتمًا الطائى - أَو معن ابن زائدة - أتاه سائل فسأله وقال: أنا الذي أَحسنتَ إليه وقت كذا، فقال: مَرْحَبًا بمن توسل بنا إلينا، وقضى حاجته .. وأين كَرَمُ الكرماءِ أَجمعين، من كَرَم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم. 5 - {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا ... } الآية. هذا عطف على قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ... } فندرج فيما يستدعى رحمة ربه واستجابة دعائه، أي وإنى خشيت أقاربى الذين يلون الأمر من بعد موتى، ألا يحسنوا الخلافة، فيسيئوا إِلى الناس، ولا يقوموا مقامي في الدعوة إليك والحفاظ على شريعتك وإِنما خافهم لأنهم كانوا من شرار بنى إِسرائيل، وكانت امرأته عاقرًا لا تحمل ولا تلد، من شبابها إِلى شيبها، وهذا مما يزيد أقاربه تلهفا على خلافته وإِن لم يحسنوها. قدم عليه السلام في ندائه لربه وضراعته إِليه، ضعف قوته وكبر سنه وشيخوخته، وخوفه من مواليه مع عقم امرأته - قدم هذا بين يدي سؤاله ربه هبة طيبة من ذريته (¬1) وذلك قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}: أَي أَعطنى من فيض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة، ابنا من صلبى يلي الأَمر من بعدي يقوم مقامي ويحسن خلافتي، وإنى وإن كنت متقدمًا في السن، وكانت امرأَتى عاقرًا - ولا تزال - فإنك قادر على تحقيق مطلبى من غير الأسباب العادية، وأنك إذا أردت، قلت للشىء: كن، فيكون. ثم وصف عليه السلام وليه الذي استوهبه من ربه فقال: ¬

_ (¬1) اقتباس من قوله تعالى في سورة آل عمران: "هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء" الآية

6 - {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ... } الآية. أي يكون وارثًا لِي في العلم والنبوة، ليسوس بني إسرائيل بمقتضى الشريعة والعدل، فقد تعدى حدود الله كثير منهم، وطغوا وبغوا وضلوا عن سواء السبيل، وقوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} توكيد لهذا الميراث النبوى الذي طلبه لوليه، فإِن زكريا من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم صلوات الله وسلامه، وكانت النبوة في بيت يعقوب وآله - وآل الرجل هم خاصته الذين يئول إليه أَمرهم للقرابة أَو الصحبة أَو الموافقة في الدين فمراد زكريا عليه السلام بهذا التوكيد أَن يكون ابنه نبيًّا كما كانت آباؤه أنبياء، ولم يرد عليه السلام وراثته في المال؛ لأن الأَنبياءَ لم يُوَرِّثُوا آلهم دينارًا ولا درهمًا، فقد كانوا أزهد الناس في الدنيا، وإنما وَرَّثُوا العلم والنبوة. على أن زكريا عليه السلام كان نجارًا يأْكل من كسب يده - كما قدمنا عن الحافظ ابن كثير وغيره. قال الحافظ ابن كثير: وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" وفي رواية عند الترمذي بإِسناد صحيح: "نَحْنُ مَعْشَرَ الأنْبِيَاءَ لَا نُورثُ" (¬1) وعلى هذا فتعين حمل قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} على ميراث النبوة. انتهى ما قال الحافظ ابن كثير ملخصًا. {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}: أي واجعله يا رب مرضيًا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه. ¬

_ (¬1) في مشكاة المصابيح للتبريزى - في أحاديث هجرته ووفاته صلي الله عليه وسلم: عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركناه صدقة" متفق عليه.

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} المفردات: {سَمِيًّا}: أي شريكًا في اسمه أو شبيهًا له. {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ}: كيف يكون لي غلام؟ أَو من أَين؟. {عَاقِرًا}: عقيمًا لا تلد. {عِتِيًّا}: العتي - بكسر العين وضمها وفتحها - غاية الكبر والشيخوخة، يقال: عتا الشيخ أي كبر وولَّى. {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} كيف يكون لي غلام أَو من أين؟ {سَوِيًّا}: سوى الخلق، سليم الجوارح ما به شائبة نقص تعيبه. {الْمِحْرَابِ}: المسجد أو المصلى. {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}: الإِيحاءُ هنا بعض الإِشارة وهي محتملة لأَن تكون بيده أَو برأسه أَو بالكتابة أو نحو ذلك. {سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: نزهوا ربكم دائما، أَو صلُّوا له طرفى النهار.

االتفسير 7 - {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ... } الآية. هنا كلام مطوى يشير إِليه السياق على عادة القرآن الكريم. والمعنى: استجاب الله تعالى دعاء عبده زكريا وقال له على لسان الملائكة: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ .... } كما قال تعالى في سورة آل عمران: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى .... } (¬1). وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}: أَي لم نجعل له شريكا في هذا الاسم، فلم يُسمَّ أحد قبله يحيي، وفي هذا مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام .. وعن مجاهد أن "سميا". معناهُ شبيها، أخذه من قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬2). أي شبيها أَي لم نجعل له شبيها، حيث إنه لم يعص ولم يهُمَّ بمعصية، فقد أَخرج أَحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ أحدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلاَّ وَقدْ أخْطأ أوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ إِلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَريّا عَلَيْهِمَا السلَامُ، لَمَ يَهُمَّ بَخطيئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا". قال الآلوسى:. والأخبار في ذلك متضافرة. أهـ. ويؤيد ذلك قوله تعالى في شأنه: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3). 8 - {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}: أي قال زكريا عليه السلام: يا رب كيف يكون لي غلام وكانت امرأتى - ولا تزال - عاقرا لا تحمل ولا تلد، وقد بلغت سن اليأْس من الولد؟ "وهذا تعجب بحسب العادة"، لا استبعاد منه لقدرة الله - وحاشاه - فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كانت إِذ ذاك مائة وعشرين سنة، وكانت سن امرأته ثمانيًا وتسعين، ولا يولد لمثلهما عادة، ولكن لله تعالى خرق العادة، وما المعجزات التي أَيد الله بها رسله إلا خرق لها ... ¬

_ (¬1) من الآية: 39. (¬2) سورة مريم، من الآية: 65 (¬3) سورة آل عمران، من الآية:

9 - {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ .... } الآية. أَي قال الله تعالى على لسان الملَك مجيبا زكريا عما تعجب منه: الأمر كما بُشِّرْتَ به، وإيجاد الولد منك ومن زوجك هذه لا مِنْ غيرها سهل يسير على. ثم ذكر له ما هو أعجب منه فقال: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}: أي وقد خلقتك من قبل خلق يحيى الذي بشرتك به، ولم تكن شيئًا مذكورا حيث خلقتك من تراب في ضمن خلق أبيك آدم، أو وأنت نطفة لم تكن شيئًا مذكورًا بجانب ما أنت عليه الآن، فمن قدر على خلقك مما يشبه العدم، فهو قادر على تحقيق ما بشرك به. 10 - {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً .... } الآية. أي قال زكريا عليه السلام: يا رب اجعل لي علامة ودليلا على حمل امرأتى، أو على وجود ما وعدتنى به، لتستقر نفسى ويطمئن قلبى، كما قال إِبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1). {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}: أي قال الله تعالى: علامتك على تحقيق ما وعدتك أن يحبس لسانك عن كلام الناس وأنت سوى الخلق سليم الجوارح، ليس بك شائبة خرس ولا بكم. فكان عليه السلام يقرأ ويسبح، ولا يستطيع أن يكلم الناس إِلا إِشارة ورمزا. والمراد ثلاث ليال بأيامها، وفقًا لآية آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬2). 11 - {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: روى أن قومه كانوا من وراء المسجد ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه، فأنكروه وقالوا: ما لك؟ فأشار إِليهم بيده إشارة خفيفة سريعة: أن نَزِّهُوا ربكم دائمًا أو صَلُّوا له طرفى النهار. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 260 (¬2) الآية: 41

{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} المفردات: {الْكِتَابَ}: المراد به التوراة. {الْحُكْمَ}: الحكمة، أو الفهم والفقه في الدين .. وقيل النبوة. {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا}: أي رحمة عظيمة في قلب يحيى من عندنا وشفعة منه على الناس ومحبة لهم صادرة منا. {وَزَكَاةً}: أي طهارة بريئة من الذنوب والآثام. أو بركة عظيمة. {وَكَانَ تَقِيًّا}: وكان في أعلى درجات التقوى لله عز وجل. {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا} ولم يكن متكبرا متعاليًا على الناس. {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ}: السلام هنا: الأمان من الله تعالى في الأيام الثلاثة، أو التحية منه سبحانه. التفسير 12 - {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ... } الآية. هنا كلام مطوى حذف مسارعة إِلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. أي: ولد الغلام المبشَّر به. وبلغ سنًّا يؤمر مثله فيها، فقلنا له على لسان المَلَك: يا يحيى خذ التوراة بجد وعزم فاستطهرها واعمل بما فيها. {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}: أي وأَعطيناه الحكمة والفقه في الدين والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حَدَثٌ. قال الآلوسى: أَخرج أبو نعيم وغيره ضمن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال في ذلك: أُعطى

الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين، وفي رواية أُخرى عن ابن عباس أَيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الغلمانُ ليحيى بن زكريا عليهما السلام: اذهب بنا نلعب، فقال أللَّعِبِ خلقنا؟ اذهبوا نصلى، فهو قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. قال الآلوسى، والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى الحكمة، وقيل هي: بمعنى العقل .. وقيل النبوة، وعليه كثير، قالوا أُوتيها وهو ابن سبع سنين .... ولم ينبأْ أكثر الأَنبياء عليهم السلام قبل الأَربعين. انتهى كلام الآلوسى مختصرا. 13 - {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}: أي وآتيناه رحمة عظيمة في قلبه، وشفقة على الناس ومحبة لهم، وآتيناه كذلك بركة عظيمة من عندنا، فجعلناه مباركا نفَّاعًا، معلمًا للخير وداعيا إِليه، وكان عظيم التقوى لله عز وجل، وتقدم أنه ما هم بمعصية، فضلا عن اكتسابها. 14 - {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}: أَي وكان يحيى عليه السلام كثير الِبر والإحسان بوالديه، إِذ هما أقرب الناس إليه، وحقهما في الطاعة يلي حق الله عز وجل، ولم يكن متكبرا على عباد الله متعاليًا عليهم بل كان لين الجانب متواضعًا كريما مطيعًا لربه قدوة في المكارم، وهذه الصفات التي وصف الله بها يحيى عليه السلام، هي صفات المؤمنين الكاملين، الذين بلَّغهم الله تبارك وتعالى أَعلى درجات الصلاح والتقوى. فسبحانه وتعالى أَعطى وأثنى. وبعد أن أَثنى الله على يحيى بهذه الصفات الكريمة، اتبعها السلامَ عليه فقال عز من قائل: 15 - {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}: أَي: وأَمانٌ منا على يحيى يوم ولدَ - من أَن يناله الشيطان بما ينال به بنى آدم؛ ويوم يموت - من وحشة فراق الدنيا وهول القبر؛ ويوم يبعث حيا - من أَهوال يوم القيامة.

وفي قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} إشارة إِلى أَن البعث جسمانى وروحاني معا. لا روحانى فقط كما يزعم بعض الفلاسفة. أو للتنبيه على أَنه عليه السلام من الشهداء (¬1). وقيل إن المراد بالسلام هنا التحية المتعارفة. قال ابن عطية: إن هذا هو الأظهر، والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي يكون فيها الجد في غاية الضعف والحاجة والفقر إلى الله عز وجل. ذلك. ومما يعد من اللطائف النبوية ما رواه الطبرى وابن كثير عن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام الْتَقَيَا - وهما ابنا الخالة - فقال يحيى لعيسى: استغفر لي أَنت خير مني. فقال له عيسى: بل أَنت خير مني. سلمت على نفسى وسلم الله عليك ... {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)} المفردات: {انْتَبَذَتْ}: اعتزلت وانفردت. {رُوحَنَا}: جبريل عليه السلام، سماه تعالى روحًا، لأَن الدين يحيا بالوحى الذي ينزل به. {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}: فتصور لها إنسانًا مُسْتَوِىَ الخلق كامل البنية. {أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ}: أتحصن بالرحمن منك وألتجىءُ إليه. ¬

_ (¬1) فقد اشتهر أنه هو وأبوه زكريا عليهما السلام ممن قتلهم اليهود. قاتلهم الله. وقد ذكر قتلهم للأنبياء في كثير من أي الذكر الحكيم ... بل زعموا أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} سورة النساء: 157.

{زَكِيًّا}: طاهرا من الذنوب والآثام، من الزكاة بمعنى الطهارة، أَو ناميا على الخير والبركة، من الزكاة بمعنى النمو. التفسير 16 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا}: لما ذكر الله تبارك وتعالى قصة زكزيا عليه السلام، وأنه تعالى وهب له في حال كبره وعقم زوجته غلامًا زكيا مباركا - عطف على قصته قصة مريم وولدها عيسى عليهما السلام، لِمَا بين القصتين من مناسبة عظيمة ومشابهة قوية - وقد قرن تعالى بين القصتين في هذه السورة، وفي سورة آل عمران وفي سورة الأَنبياء عليهم الصلاة والسلام. والمخاطب هو سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم. والمراد بالكتاب القرآن الكريم، كما هو الظاهر. وقال العلامة أبو السعود: المراد بالكتاب السورة الكريمة، لا القرآن كُلُّه، إِذ هي التي صدرت بقصة زكريا المستتبعة لذكر قصتها وقصص الأنبياء المذكورين فيها. اهـ. والمآل واحد، فإن ذكرها في هذه السورة يعتبر ذكْرًا لها في القرآن. والمعنى: واذكر أيها الرسول - في القرآن قصة مريم حين اعتزلت أهلها وانفردت عنهم، وأَتت مكانا شرقىَّ بيت المقدس (¬1)، لكي تتفرغ فيه لعبادة ربها، وكانت مستترة من أهلها ومن الناس بساتر يحجبها، أو اتخذت مكانا شرقى دارها بعيدا عن أهلها لئلا يشغلها أحد منهم عن عبادة ربها وذلك قوله تعالى: 7 - {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ... } الآية. أي فاتخذت بينها وبينهم ساترا يحجبها عنهم، روى أَنه كان موضعها في المسجد، فبينما هي في خلوتها أَتاها جبريل عليه السلام في صورة إنسان تام الخِلْقَة، كامل البِنية جميل الصورة، وذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}: وإِنما جاءها عليه السلام في صورة إِنسان كامل. لتستأْنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إِليها من كلمات ربها إِذ لو بدا لها ¬

_ (¬1) أو أنه كان من المسجد الأقصى بناحيته الشرقية.

على حقيقته الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، ومن عادة الملَك إِذا تصور بصورة إنسان أن يكون جميل الصورة، كما كان جبريل عليه السلام يأتي إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سورة دحية رضي الله عنه، وكان من أجمل الناس. وقد يكون من الحكمة في مجيئه على الصورة الجميلة ابتلاؤها وسبر عفتها، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه ..... 18 - {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}: أي لما تبدى لها جبريل عليه السلام في صورة إنسان، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب - لَمّا حدث ذلك - خافته، وظنت أنه يريد بها سوءًا، فاستعاذت بالله - وهو أرحم الراحمين - أَن يحفظها برحمته منه. ولعل هذا هو السر في استعاذتها باسمه الرحمن دون غيره من أسماء الله الحسنى. وقولها {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} أي إن كنت تتقى الله تعالى وتخشى الاستعاذة به، فلا تمسَّنى بسوءٍ - فإني عائذة به ولاجئة إِليه. 19 - {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}: أي قال جبريل عليه السلام مجيبًا إِياها، ومزيلا خوفها: إنمَا أَنا رسول ربك الذي استعذتِ به مني، فقد بعثنى إِليك لأكون سببا في هبته لك غلاما طاهرًا مباركا بالنفخ في حبيب درعك (¬1). ومن اللطائف ما ذكره الآلوسى عن ابن عباس - رضى الله عنهما -، أَنها لما قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} تبسم جيريل عليه السلام وقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. ¬

_ (¬1) جيب الدرع: طوق القميص.

{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)} المفردات: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}: المراد؛ ولم أتزوج. {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}: أَي ولم أكن زانية تبغى الرجل أو يبغيها الرجال للفاحشة. {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}: أَي وكان حمل مريم أمرًا سبق به القضاءُ أزلا فلابد منه. التفسير 20 - {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}: أَي قالت مريم لجبريل - عليهما السلام - وهي دهشة متعجبة: كيف يكون لي غلام ولست متزوجة ولا زانية، ولا يكون الغلام إلا من إحداهما؟ .. 21 - {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ... } الآية. أي قال جبريل لمريم مجيبا إياها ومزيلا دهشتها وتعجبها: الأمر كما قال ربك: إِن خلق هذا الغلام منك بلا نكاح ولا سفاح سهل يسير علي. وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}: معطوف على مقدر مناسب مفهوم من السياق، والاختصار من الصور البلاغية في القرآن، وتقدير الكلام: لنبين للناس كمال قدرتنا، ولنجعل خلق هذا الغلام من غير أب علامة عظيمة على قدرة بارئهم وخالقهم، الذي نوَّع في خلقهم، فخلق أباهم آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق أمهم حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إِلا عيسى، خلقه من أنثى بلا ذكر، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم

سلطانه، فلا إِله غيره، ولا رب سواه، وقوله سبحانه. {وَرَحْمَةً مِنَّا}: أي ولنجعل هذا الغلام رحمة منا عظيمة، لمن يؤمنون به ويهتدون بهديه، ويسترشدون بإرشاده، وفي ضمنه .. إيمانهم برسول من بعده اسمه أحمد صلي الله عليه وسلم. وقوله جل شأنه: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}: أي وكان خلق هذا الغلام بلا أب أَمرًا قضيناه وقدرناه أزلا، فهو مقضى كائن لا محالة، كقوله جل سلطانه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (¬1). {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}. المفردات: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}: أي فاعتزلت به مكانا بعيدًا عن أهلها. {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ}: فألجأَها أَلم الولادة وشدة أوجاعها. {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}: الجذع هو الساق ليس عليها سعف ولا أَغصان. {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}: النِّسْىُ؛ الشيءُ التافه الذي شأنه أن ينسى لحقارته كالحبل والخِرَقِ البالية، والْمَنْسِىُّ المتروك المهمل لتفاهته، وهو تأكيد لما قبله. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، من الآية: 38

{السَرِيُّ}: الجدول الذي يسرى فيه الماءُ، أو السيد العظيم الخصال. {رُطَبًا جَنِيًّا}: أي صالحا للاجتناء والقطع بعد أَن صار طريا، وقال أَبو عمرو بن العلاء. {رُطَبًا جَنِيًّا} لم يجف ولم ييبس ولم يبعد عن يدي مجتنيه. التفسير 22 - {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}: أي فاطمأنت مريم عليها السلام إلى قول جبريل، فدنا منها فنفخ فيها، فحملته بالغلام الذي بشرها به عقب النفخ فيها، فلما قرب وضعها قصدت مكانا بعيدًا عن أَهلها، فرارًا من تعييرهم لها، وقد روى أَنه قرية على بضعة أميال من بيت المقدس يقال لها بيت لحم. حكى ذلك ابن وهب. 23 - {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ .... } الآية. أي فألجأها الطلق وشدة الولادة وأَوجاعها، بسبب تحرك الجنين نحو الخروج - ألجأَها ذلك - إِلى جذع النخلة وهو ساقها، لتستند إِليه وتتعلق به ليكون عونا لها على قوة الاحتمال، والتستر به عن أَعين الناس، وكان جذعا لنخلة يابسة على أكمة في الصحراء لا سعف له ولا غصن عليه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها عليها السلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إِلى أكمة، فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف. اهـ ولو كانت ذات سعف أخضر وفيها حياة لقال: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى النَّخْلَةِ. ولعل الله أرشدها إِليه ليريها آية من آياته، كإثماره بدون سعف ومن غير لقاح وفي وقت لم يعهد فيه وجود ذلك الثمر، تسكينا لروعها، وتطمينًا لنفسها بمثل هذه الخوارق، ولكنها عندما أحست أَنها ستتهم في الإِتيان بهذا المولود بعد أن كانت عندهم عابدة ناسكة، وأنها سوف تصبح فيما يظنون عاصية فاجرة، تمنت الموت كما حكى الله عنها ذلك بقوله: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}: يا ليتنى من قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتى المولود بغير بَعْلٍ، فهي مدفوعة إِلى هذا القول مما شعرت به من أَلم النفس استحياءً من الناس، وخوفا من لائمتهم وحذرا من وقوعهم في المعصية بما يتكلمون في عفتها، فقد توقعت فتنة شديدة بين أَهلها وذويها، وقذفا عنيفا يمس شرف أَصلها، وطهارة أَبيها وأُ

فأَثار ذلك أَحزانها وجعلها بعد تمنى الموت تتمني أَن تُنسى فلا تذكر أَبدا حيث قالت: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}: أَي وكنت شيئًا تافها، يطرح فلا يتألم لفقده لتفاهته وعدم الاهتمام به، والمنسى الذي لا يخطر ببال أَحد من الناس، فذكره بعد. {نَسْيًا} لتأكيد إهمال هذا الشيء، وكأنها تريد كما قال أبو زيد: لم أَكن شيئًا قط، أو كما قال قتادة: شيئًا لا يعرف ولا يذكر ولا يدرى من أَنا .. 24 - {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا ... } الآية. المنادى إما جبريل، وإما عيسى عليهما السَّلام، فعلى الأول يكون المعنى: فناداها جبريل من مكان أَسفل منها في بقعة تنخفض عن البقعة التي كانت عليها، حين فاجأَها المخاض، وقد ذهب إلى أن النداءَ كان من جبريل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وأما على أن المنادي عيسى فقد أنطقه الله حين الولادة، وروى ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير ونقله الطبرسى عن الحسن. وقرىءَ {مِنْ تَحْتِهَا} بفتح الميم وكسرها، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أَن يكون المنادي جبريل أو عيسى عليهما السلام كما تقدم. {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا}: هذا تفسير للنداء السابق، أَي أَن المنادِي هتف بها عن قرب منها، ينهاها عن الحزن خوفًا من مقالة الناس بشأن ولادتها من غير زوج قائلا في ندائه: لا تحزنى قد جعل ربك تحتك غلامًا شريفًا سيكون له شأن عظيم. ثم أَتبع سبحانه الحديث عن شرف وليدها حديثًا آخر عن طعامها في نِفَاسِها تذكيرًا بآلائه، ورضاه عنها، وتخفيفًا لكربها ... 25 - {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ .... } الآية. أَمرها بهز جذع النخلة لترى آية أخرى من آيات الله في إحياء مواتِ الجذع، أي حرِّكيه تحريكًا متواليًا بطريق الجذب إلى جهتك. {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}: تكفل الله بإطعامها بما لا يتعبها ولا يشقيها، بل بما هو في متناول يدها، حيث أَمرها بهز جذع النخلة إِلى جهتها هزًا متعاقبًا، تُسَاقط أَي تُسْقِط

عليها النخلة تمرًا نضِيجا قد طَرِىَ وأصبح صالحًا للاجتناء؛ والرُّطب - كما قيل - من أطيب الأطعمة للنُّفَساء. فقد ثبت طبيًا أَنه يحتوى علي المواد الغذائية الرئيسية بصورة مركزة سهلة الهضم، محققة الفائدة، ولو علم الله طعامًا يفضله لأطعمه مريم عليها السلام، وعلى الرطب وغيره من أنواع التمر يعتمد كثير من القبائل العربية وغيرها إلى أيامنا هذه، وتجد في تلك الأنواع كل ما تحتاجه مقومات الحياة. 26 - {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا .... } الآية. امتَنّ سبحانه على مريم عليها السلام بما تضمنته الآيتان السابقتان من إخراج الرطب لها في غير وقته خرقًا للعادة، لتسليتها عن حزنها، ولتنزيه ساحتها عما تختلج به صدور المتقيدين بالأحكام العادية، وقد جاءَت هذه الآية تفريعًا على ما ذكر، لتأْمرها بالأَكل من الرطب والشرب مِن الماء حولها، وبأَن تطيب نفسًا إيذانًا بحسن العاقبة. والمعنى: فكلى من الرطب الجنى، واشربي من الماءِ النقى - وقيل من عصير الرطب - وطيبى نفسا بعيسى وأذْهبِي عنك ما أحزنك، بشأن مولده دون أب. وما يترتب عليه من سوء القالة، فسوف نبرئك مما يشينك، ونجعل لولدك شأْنًا عظيمًا. هذا: ومما قيل في معنى {وَقَرِّي عَيْنًا} اجعلى عينك تسكن للراحة والنوم، قال أبو عمرو: أقر الله عينها أي أنامها وأذهب سهرها، وقال الشيبانى {وَقَرِّي عَيْنًا} أي نامي، وكل ذلك متقارب المعاني، وقدم الأمر بالأكل في الآية، ليجاور ما يشاكله وهو الرطب. والأمر يحتمل الوجوب والندب. وذلك حسب حالها التي هي عليها، وقيل هو للإباحة. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}: كائِنا من كان يريد أن يستنطقك ويتحدث معك، فيسألك عن وليدك {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}: أي قولى هذه الجملة وعبرى عن معناها بلغتك تعبيرًا لفظيًا، وبه قال الجمهور، وقال جماعة: القول هنا بالإِشارة لا بالكلام، وكان صومهم إمساكًا عن الطعام والكلام كما تأمرهم به شريعتهم. قال

ابن زيد والسدى: كانت سنّة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام مطلقًا، وقيل الصوم هنا بمعنى الصمت، ولذا قالت عقبه: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} فكان صيامهم الصمت، وقد نذرته، وليس هذا في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا، فإن نذره أَحد لا يلزمه الوفاء به لما فيه من المشقة، وقد دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة نذرت أَلا تتكلم، فقال لها: إن الإِسلام هدم هذا فتكلمى، وكذلك فعل ابن مسعود (¬1). وقد تمسكت مريم بصمتها الذي نذرته حيث حكى الله عنها قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}: أي إني أمتنع اليوم امتناعًا قاطعًا عن تكليم أحد من البشر فرارًا من مجادلة السفهاء الذين ينكرون وجود ولد بدون أَب، ويلِحُّون في الجدل وإثارة الشكوك حولى، وهي بهذه الطريقة المثل تقطع أَلسنة الذين يحبون أَن تشيع الفاحشة بالثرثرة والاختلاق والإعراض عن سماع الحجة، وقالت: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} لأن صيامها لا يمنعها من مناجاة رَبها أو التحدث مع الملائكة إِن حدثوها، وقيل إن قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا .... }، الآية من كلام عيسى: لما قال لها لا تحزنى، قالت له: كيف لا أحزن وأنت معى، لا ذات زوج ولا مملوكة، أي شيء عذرى عند الناس؟ قال لها: أَنا أكفيك الكلام، {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ... } الآية. قال ذلك عبد الرحمن بن زيد ووهب (¬2). ¬

_ (¬1) فقد كان يأمر من نذر الامتناع عن الكلام أن يتكلم، عملا بحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: "بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه". (¬2) تفسير الطبري.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} المفردات: {جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}: الفرى الأمر المختلق المصنوع. وقال الأخفش: فَريًّا: أَي عجيبًا. {امْرَأَ سَوْءٍ}: السوءُ بالفتح والضم، اسم لكل ما ينزل بالإِنسان من كل شيءٍ يسوءُه، وقيل المضموم: الضرر والمفتوح الفساد {بَغِيًّا}: فاجرة. يقال بَغَتِ المرأة تبغى بِغاءً بالكسر فجَرت فهيَ بَغِي. {فِي الْمَهْدِ}: المهد هنا هو الموضع يهيأُ للصبى وَيُوَطأُ في رضاعه كالمِهاد. {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}: مطيعًا غير عَاقٍّ. {جَبَّارًا}: أي عاتيا يمتلىءُ قلبه بالشدة. {شَقِيًّا}: بعيدًا عن الخير. التفسير 27 - {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ .... } الآية. لما اطمأنت مريم لما رأَت من الآيات، وعلمت أَن الله سيدفع عنها، سلمت أمرها لله، واستسلمت لقضائه، واستمسكت باصطحاب ولدها، فأتت به قومها تحمله من المكان

القصى الذي انتبذت به، فلما رأوها ومعها الصبى، حزنوا حزنًا شديدًا، وأعظموا أمرها، واستنكروه بقوة، وعلت أصواتهم محزونين. {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}: أي ثميئًا مختلقًا مُفْتَرًى، وفي البحر أن الفَرِىَّ يستعمل في العظيم من الأمر شَرًّا أَو خيرًا، قولًا أَو فعلا، ويراد به هنا كونه أمرًا خطيرًا، جديرًا بكل إِنكار ... 28 - {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ .. } الآية. الآية استئناف قصد به تجديد تعييرهم لها، وسخريتهم منها، وتأْكيد توبيخهم إياها لِمَا ضيعته من أمجاد أهلها، وليس المراد هارون أخا موسى بن عمران عليهما السلام لما بينهما من سنين طويلة، وإِنما هو رجل صالح في بني إِسرائيل وكان هذا الاسم يشيع فيهم لأنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين فيهم، فكأنهم قالوا لها: يا أُخت هذا الرجل في الصلاح والتقوى في أول أَمرك، كيف انتهيت إلى فعل هذه الخطيئة؟! وقيل: هو رجل فاسد شبهت به شتمًا لها: وقيل المراد به هارون أخو موسى عليهما السلام، أَخرج ذلك ابن أَبي حاتم عن السدى وعلي بن أَبي طلحة، ووصفت بأخوتها له؛ لأنها كانت من نسله، كما يقال يا أخا العرب لمن كان منهم، والتوجيه الأول أصح، ففي مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قَدِمْتُ نجران سألوني فقالوا: "إنكم تقرءُون يَا أخْتَ هَارُونَ" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قَدِمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك فقال: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصلحائهم". ومعنى هاتين الآيتين، كيف تأْتين هذا الأمر العظيم، وقد عُرِفتِ بالصلاح والتقوى كما عُرِفَ بها هارون، وأَبوك لم يكن امرأَ سوء يتصف بِشَرٍّ أو فساد، وما كانت أمك منحرفة فاجرة، بل أنت في ماضيك البعيد والقريب من بيئة لا ينبغي أن تُنْبتَ إِلا الطيبين الطيبات، وفي ذلك إِشارة إلي أَن ارتكاب الفواحش من أَولاد الصالحين أفحش من ارتكابه ممن سواهم وتنبيه على أَن الفروع غالبًا ما تكون زاكية إِذا زكت الأصول، وتكون خبيثة إِذا لم تكن أصولها كذلك.

29 - {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ... } الآية. أَي فأشارت إِلى عيسى عليه السلام أن كلموه وسلوه عما تريدون، تنفيذًا لما أُمرت به، وحينما فهموا إِشارتها. {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}: أي قالُوا منكرين ما فهموه منها حين أشارت إلى عيسى، متعجبين لهذا الأمر، حيث إنه لم يعهد فيما سلف أن صبيا يكلمه عاقل، وهو في فراشه الممهد له وفي سن رضاعه، فكيف نكلم هذا؟ قال السدى لما أشارت إليه غضبوا وقالوا: لَسخْرِيَتُها بنا حين تأمرنا أن نكلم هذا الصبى أَشد علينا من زناها .. 30 - {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ... } الآية. هذا كلام مستأْنف، كأنه قيل: فماذا كان بعد إشارتها إليه أَن يكلمهم بعد أن وقع منهم ما وقع من إنكار وتعجب، فكان الجواب: قال عيسي إني عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبيًا، فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وببروبية الله لعيسى ثم ذكر فضل الله عليه حيث يقول: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أي حكم أزلا بإيتائِى الإنجيل، وإِن لم يكن منزلا إذ ذاك، وحكم كذلك بإيتائى النبوة بمعنى أعَدَّنِي لها، وجعلنى ذا قدرة على تحمل أَعبائها. وفي كل ما قاله تنبيه على براءة أمه، لدلالته على اصطفائه، والله سبحانه أجل من أن يصطفى المطعون في نسبه وذلك من المسلمات عندهم، ففيه من إِجلال أمه بالتلميح ما ليس في التصريح. 31 - {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ .... } الآية. أي وجعلنى ذا بركات ومنافع في الدين، فأي مكان وُجدت فيه فأنا مبارك ممتثل أمر ربي. وعن سفيان: جعلني مُعَلِّم الخير، أَمرًا بالمعروف، وناهيًا عن المنكر. {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}: وأَمرني بأدائهما مدة بقائى حيًّا في هذه الدنيا أمرًا مؤكدًا، فلا أَتوانى عنهما منذ يبدأ تكليفى بهما، حتى ينتهى أجلى، وقد اقتصر على الصلاة والزكاة من بين ما سوف يشرعه الله في دينه لأَهميتهما، ويجوز أن يراد بالزكاة تطهير النفس من الرذائل وقد أَوصانى بذلك ....

32 - {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ... } الآية. أَي وجعلنى بارًّا بها امتثالًا لأمره بهذا البر، فهي السبب في وجودى في هذه الدنيا بعد مشيئة الله تبارك وتعالى. قال ابن عباس: لما قال: وبرًّا بوالدتى ولم يقل وبرًّا بوالدى، علم أن هذا الصغير شىءٌ من جهة الله تعالى. اهـ وفي ذلك تأكيد لطهارة أُمه، وقرىء وبِرًّا بكسر الباءِ على أنه مصدر وصف به مبالغة كأنه نفس البر. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}: أَي ولم يجعلني في علمه الأزلى مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأكون بذلك شقيًّا عاصيًا لربي عاقًا لوالدتى، وقال بعض السلف لا تجد أَحدًا عاقًا لوالديه إِلَّا وجدته جبارًا شقيًّا. 33 - {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ ... } الآية. أي وخصني الله بالسلامة والأمن في الدنيا حين ولدت، وفي القبر حين أَموت، وفي الآخرة يوم أُبعث حيًّا، فقد سَلِمَ عليه السلام في أَحواله كلها، من غضب الله تعالى وعقابه، وفي قوله عليه السلام تعريض بما يصيب مُتَّهِمِى مريم وأَعدائها من اليهود، من فزع واضطراب وما ينزل بهم من سوء اله ذاب. ونظيره {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (¬1). يعني أَن العذاب على من كذب وتولى، حيث كان المقام مقام معارضة وعناد فهو منته إِلى نحو هذا من التعريض. ¬

_ (¬1) سورة طه، من الآية: رقم 47

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)} المفردات: {يَمْتَرُونَ}: يختلفون ويتخاصمون. {سُبْحَانَهُ}: تنزيهًا له جل وعلا عن النقائص. {إِذَا قَضَى أَمْرًا}: أراده وحكم به. التفسير 34 - {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ .... } الآية. ذلك الذي قصصنَا عليك من أمره هو عيسى بن مريم، فليس أمره كما اعتقده اليهود أو النصارى. نقول ذلك {قَوْلَ الْحَقِّ}: أي القول الثابت الذي لا ريب فيه. وقرىء بالرفع على أَنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هو قول الحق، يعنى ذلك أن الكلام السابق هو قول الحق في عيسى {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}: أَي يختلفون ويتنازعون في شأْنه، فيقول اليهود إنه ساحر ويتهمون أمه مما هي بريئة منه، ويقول النصارى إنه إله أو ثالث ثلاثة. وقد كذبهم الله بما سبق من الآيات وبقوله: 35 - {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ... } الآية. لما ذكر الله سبحانه أَنه خلق عيسى عبدًا نبيا، نزه ذاته المقدسة عن اتخاذ الولد بتكذيب فرية المفترين ودحض بهتانهم فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ}.

أَي ما ينبغي وما يستقيم في منطق عاقل أَن يصف الله باتخاذ أي ولد لأنه سبحانه ليس من صفته اتخاذ الولد حيث إنه منزه عن الاحتياج إليه ولا إلى أحد من مخلوقاته، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}. {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: أي إِذا أراد إيجاد أمر من الأُمور تعلقت به إِرادته أوجده بلا توقف بقوله كن فيكون، فمن كان هذا شأنه فكيف يتوهم أن يكون له ولد، وهو من أمارات الاحتياج والنقص، ومع دلالة الآية على تنزيهه تعالى صراحة، فهي تشير ضمنا إلى تكذيب النصارى وتبكيتهم على قبح عقيدتهم. و {مِنْ} في قوله {مِنْ وَلَدٍ} لإفادة التأكيد وقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} على ما ذهب إِليه كثير من أَهل السنة، تمثيل إيجاد ما تتعلق به الإرادة بلا توقف - تمثيله - بالطاعة الفورية من المأمور لآمره، وليس المراد أنه إذا أراد إِحداث شيء أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية، ويرى آخرون أن الأمر في {كُنْ} محمول على حقيقته وأنه سبحانه أَجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكوّنها بكلمة {كُنْ} أزلا ومن ذلك عيسى عليه السلام خلق بكلمة كن فكان ... 36 - {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ .... } الآية. الظاهر أَن هذا من تمام كلام عيسى عليه السلام وهو في مهده، يخبر به قومه بأن هذا الدين القيم هو دين الله الذي هو ربه وربهم - ويأمرهم بعبادته تعالى وبألا يشركوا به شيئًا. لأنه وحده المستحق للعبادة، والسبيل إِليه لا اعوجاج فيه ولا التواء كما يقول تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}: أي هذا الذي حدثتكم به عن الله من التوحيد طريق قويم، من سلكه رشد وسعد ومن أعرض عنه ضلَّ وشقى. وروى أن عيسى بعد تبرئته لأُمه بما تقدم، عاد إِلى حالة الأطفال فلم يتكلم إِلا في الوقت المناسب للكلام ولم يصل ولم يصُم وهو ابن يوم أو شهر، ولو دام نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته من وقت الولادة لكان هذا مما يُروَى ولا يكتم، وإنما اقتصر حديثه على وقت اتهام أُمه لتبرئتها ودفع الحد عنها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر القرطبي جـ 11 ص 103 طبع دار الكتب المسألة الثالثة بعد قوله: (ولم يجعلني جبارًا شقيّ

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)} المفردات: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ}: الأحزاب جمع، مفرده الحزب وهو الطائفة وجماعة الناس، والمراد بالأحزاب هنا من اختلفوا في شأْن عيسى عليه السلام من طوائف أهل الكتاب. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: الويل الهلاك، أو هو تفجيع من هول ما ينزل أَو هو كلمة عذاب. {فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: في ضلال ظاهر لا يخفى على أحد. {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}: أَي تم الفصل بين أهل الجنة وأهل النار. التفسير 37 - {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ .... } الآية. هذه الآية مرتبة على ما قبلها تنبيها على سوء صنيع أَهل الكتاب حيث جعلوا ما يوجب الاتفاق في شأن عيسى عليه السلام، بعد أن تكلم في المهد مبيّنًا أَنه عبد الله ورسوله، وَكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه جعلوا ذلك منشأ للاختلاف فيه فطعن اليهود في نسبه، وغلت فيه النصارى، فقالت طائفة منهم هو ابن الله، وقالت أُخرى هو ثالث

ثلاثة، وقالت طائفة ثالثة هو الله، وفي تهديد هؤلاء جميعًا ووعيدهم يقول تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: أَي فالهول المفزع والعذاب الأليم لهؤُلاء الكافرين بعيسى عليه السلام يوم يقع الحساب والجزاءُ العظيم، حين يتضح لهم أنه عبد الله ورسوله، وأمه طاهرة نظيفة العرض، وأن الله تعالى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وإن مصيرهم السعير وبئس المصير، وإنما أخر عقوبتهم إلى يوم الحساب، لأَنه لا يعَجِّل بعقوبة من عصاه، لعله يثوب إِلى رشده، ويتوب إِلى ربه، ويرجع عن غيّه {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬1). 38 - {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ... } الآية. أي حين يأْتوننا يوم القيامة للحساب والجزاء، تكون أَبصارهم حادة وأسماعهم قويّة فلا يكون أحد أَسمع منهم ولا أبصر، بعد أَن كانوا في دنياهم عُميًا وصُمّا، فحالهم جدير بأَن يتعجب منه، وقيل هو تهديد وتخويف مما سيسمعون وينظرون يوم الموقف العظيم، مما تنخلع له قلوبهم وتسود برؤْيته وجوههم جزاءَ ما اقترفوا من صدّ وإعراض. {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: أي لكن الذين ظلموا أنفسهم في الدنيا في ضلال واضح بين، حيث أغْفلوا الاستماع والنظر، فاعتقدوا كون عيسى إلها معبودا مع أنه بشر مثلهم حملته أُمه كما حملتهم أُمهاتهم، وأكل وشرب واحتاج، ولكنهم في الآخرة يزولُ ضلالهم حين يسمعون الحق ويبصرون آياته، فيعترفون بأَنهم ظلموا أَنفسهم ظلما بينا باعتقادهم الفاسد في بنوة عيسى لله أو ألوهيته، وهيهات أن ينفعهم ذلك الاعتراف بعد فوات الأوان ... 39 - {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي وأنذر الظَّالمين أَيها النبىّ وخوِّفهم من يوم القيامة الذي يتحسّرون فيه على ما فرطوا في دنياهم، وذلك حين يقضى الله في أَمرهم بسوءِ المصير وخالد العذاب - أنذرهم في دنياهم ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 42

وخوفهم من ذلك وهم غارقون في غفلة عن سوء مصيرهم في هذا اليوم وحالهم أنهم لا يؤمنون. فلعلهم بهذا الإنذار يفيقون من غفلتهم، ويثوبون إِلى رشدهم، ويؤمنون بربهم وبمحمد نبيهم، فينجون من عذاب يوم الحسرة، إِن عذابه لأليم مقيم. قال الإمام ابن كثير: قال الإمام أحمد حدثنا محمَّد بن عبيد، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أَبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دَخل أهلُ الجنة الجنة وأهلُ النارِ النار، يجاءُ بالموت كأنه كبش أَملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون ويقولون نعم. هذا الموت. قال: فيقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون ويقولون نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وأَشار بيده، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به، ولفظهما قريب من ذلك. ومجىء الموت في هذه الصورة الحسية التي أبرزت فناءَه بعد أن كان يميت الناس، تبشير لأهل الجنة ببقائهم الدائم في نعيمهم، وتحزينٌ لأهل النار وتيئيسٌ لهم من مفارقة ما هم فيه من شقاء. وقال أبو حيان: الضمير لجميع الناس - والمعنى: خوِّفهم قاطبة يوم يتحسرون، فالظالمون يتحسَّرون على ما فرطوا في جنب الله، والمحسنون يتحسَّرون على قلَّة إحسانهم وتوهم تقصيرهم في طاعتهم .. 40 - {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ... } الآية. يخبر الله تعالى أَنه المالك المتصرف، وأن الخلائق كلها تهلك وتفنى، ولا يبقى غيره سبحانه، فيكون ميراث الأرض ومن عليها له وحده وهو خير الوارثين. {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}: أي يردون إلينا يوم القيامة للجزاء والحساب لا إلى غيرنا استقلالًا عنا أَو اشتراكًا معنا ..

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُورَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)} المفردات: {الْكِتَابِ}: القرآن {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}: ملازمًا للصدق. {صِرَاطًا سَوِيًّا}: أَي طريقا معتدلا لا عوج فيه، والمراد الدين القيم الخالى عن الشرك.

{كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}: أي عاصيا. إذْ العصى والعاصي بمعنى واحد. يقال عصاه فهو عاصى وعصى. {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}: أَي نصيرا وقرينًا تصاحبه في النار. {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (¬1): أَي دهرًا طويلًا. {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}: بمعنى أحاطنى بكثير من رعايته وإكرامه، يقال حفى به كرضى، حَفاوةً بفتح الحاء. وحِفاية بكسرها فهو حاف وحفى بالغ في إكرامه وأظهر السرور والفرح .... التفسير 41 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ .... } الآية. العطف في الآية الكريمة على "اذكر" في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} أو على {أَنْذِرْهُمْ} في قوله سبحانه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أي اتل أيها النبي على قومك نبأ إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، وبلغهم قصته. فقَد عرفوا أنهم من ولده وينتمون إِليه، ويدعون أنهم على ملته، فعساهم يقلعون عما هم فيه من القبائح التي من أَشنعها عبادة الأصنام. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}: أي جامعًا بين ملازمة الصدق في كل شئونه ما يأتى منها وما يدع، وبين النبوة، فهما وصفان متأصلان فيه وفق إعداد الله له، وقال الكشاف: الصدِّيق من أَمثلة المبالغة. والمراد أنه غلب كل من عداه في فرط صدقه، وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله وكل ما وصل إليه عن الله تعالى، فكان نبيًا في نفسه بخلقه وسيرته، لأن ملاك أمر النبوة الصدق وقد صدق في قوله وعمله، وصدّق الأنبياءَ والمرسلين قبله. كما يقول تعالى {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). ومن صدقه الله بآيَاته ومعجزاته حرى أَن يكون كذلك. انتهى باختصار. ¬

_ (¬1) من الملاوة - مثلثة الميم - وهى مدة العيش. (¬2) سورة الصافات، الآية: 37

وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} استئناف مسوقٌ لبيان الحكمة في ذكر قصة إبراهيم عليه السلام في الكتاب والتنويه بشأنه، فكأَنه قيل: واذكر في القرآن إبراهيم لأنه كان صدّيقًا نبيًا، فهو جدير بأَن يذكر فيه تنويها بشأنه ... 42 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ ... } الآية. سلك إبراهيم عليه السلام في دعوة أَبيه إِلى ترك عبادة الأصنام أقوم منهاج للنصح والإرشاد حيث التزم معه الأَدب الحسن، والتواضع الجم، والحجة الواضحة، لئلا يركب متن المكابرة والعناد، فيعرض عن الاستماع إليه بادىءَ ذى بدءٍ، ويَنْكُبَ عن كل طريق قويم يدعوه إلى سلوكه. فقد تقدم إِليه فناداه بقوله: {يَا أَبَتِ} ليحرّك فيه بهذا النداء الحانى عاطفة الأُبوة، فيستمع إلى استفهامه وهو ينكر عليه عبادة ما لا يستحق أن يعبده، حيث قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} أي لم تعبد ما لا يسمع ثناءَك عليه عند عبادتك إِياه، وما تلتمسه منه من جلب نفع أو دفع ضرّ، ولا يبصر خضوعك له وخشوعك في حضرته وما تقدمه إليه من صلات وقرابين، أو لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات، فيدخله في ذلك ما ذكر سابقا دخولا أَوليا. {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}: أي لا يقدر على أن يجلب لك نفعا أو يدفع عنك ضرا، فهو بهذا التساؤل يطلب من أبيه الجواب عن علة عبادة هذا الذي يستخف به كل عاقل من عالم أو جاهل ويأْبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغايةُ البالغة من الإكبار والتعظيم، وهي لا تحق إِلا لمن له الاستغناءُ التام، والإنعام العام، والخلق والتكوين، والإِحياءُ والإماتة، وفي هذا تنبيه على أن العاقل يجب أَن يفعل كل ما يفعل لغرض صحيح وإدراك قويم، فكيف يتخذ غير الله معبودًا وإِن علا شأْنه، إذ أَنه مثله في الحاجة والانقياد. فما ظنك بجماد مصنوع ليس له أوصاف الأحياءٍ، وليس فيه غناءٌ، إنه إفك وضلال بعيد .. وبعد أن بين له في رفق وحكمة ضلاله الكبير بعبادة الأصنام، دعاه إلى الحق المبين والعم الإلهى الذي آتاه الله إِياه، ملتزما معه أسلوب الاستمالة والاستعطاف فق

43 - {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ... } الآية. لم يصف أباه بالجهل المفرط، وإن كان قد بلغ فيه الغاية، ولا وصف نفسه بالعلم الفائق الذي منحه الله إياه فهو نبيٌّ مرسل، بل جعل نفسه معه في صورة رفيق يصاحبه ويخلص له، حتى يستميله إِلى ما يدعوه إليه، فيسير إِلى جانبه في طريق الهدى والرشاد، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}: أي فاتبعنى إلي ما أدعوك إليه، أُرشدك إلى دين قويم يوصلك إلى أسنى المطالب ويبعدك عن الضلال المؤَدى إلى أفدح المعاطب .. والظاهر أن هذه المحاورة كانت بعد أن نُبِّىءَ، بدليل قوله: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} أي جاءَنى العلم بما يجب في حقه تعالى وما يمتنع وما يجوز، على أَتمّ وجهٍ وأكمله. وقيل العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها، وقيل بما يعم ذلك. وهو الأنسب .... وقد واصل إبراهيم نصحه لأبيه فقال: 44 - {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ .... } الآية. وهنا ثبطه عما كان عليه، بتصوير صنيعه بصورة يستنكرها كل عاقل. وذلك. ما حكاه الله سبحانه يقوله: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أي لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام التي عكفت عليها، فإِنه هو الداعى إلى ذلك يغريك به، ويدفعك إليه، ومن أطاعه في معصية الله فقد عبده. {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}: تعليل للنهى عن عبادة الشيطان وتأكيد له ببيان أنه لا يَعْرف للرحمن حقا، فلهذا كان له عصيّا، أي كثير العصيان حين لم يمتثل أَمر ربه بالسجود لآدم، ثم حرضه على معصية ربه بالأكل من الشجرة التي حرمها الله عليه، حتى تسبب في إخراجه من الجنة، وكل من هو عاصٍ حقيق بأن ينتقم الله منه. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه أكثر قبحا، أو لأنه مترتب على معاداته لآدم عليه السلام وذريته، فتذكير أبيه بذلك داع إلى الاحتراز عن طاعته وموالاته، والتعبير بلفظ الرحمن مشير إلى الإنعام والرحمة منه تعالى والشناعة البالغة من الشيطان لعصيانه للرحمن سبحانه، إِذ أَن رحمته تستوجب طاعته جل وعل

45 - {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ... } الآية. لا يزال الحديث متصلًا بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه، فإنه في هذه الآية يحذره عاقبة عبادتة للشيطان من العذاب الفظيع، وهو في تحذيره إياه يبرز له ما يشير إلى مزيد من المجاملة له والاعتناء به. حيث بين أنه مدفوع لذلك النصح بدافع الخوف عليه مما يُبْتلى به، مع مراعاة الأدب معه حيث لم يصرح له بأن العذاب لاصق به، والعقاب واقع عليه بل قال: إني أخشى أن يمسك عذاب من الرحمن. {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}: أَي قرينا له ومصاحبا إياه في العذاب الأليم، واللعن الدائم. ومواجهتُهُ بولاية الشيطان التي يترتب. عليها مَسُّ العذاب الشديد مع أَن المقام معه مقام إظهار الشفقة عليه، لأن القسوة أَحيانا تكون من الرحمة والشفقة كما قال الشاعر: فَقَسَا لِيزْدَجِرُوا وَمَنْ يكُ حازمًا ... فَلْيَقْسُ أحيْانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ 46 - {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ... } الآية. تمادى أبو إبراهيم في عناده وإصراره على كفره فقال: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ... } حيث توجه إلى إبراهيم عليه السلام باستفهام يستنكر به رغبته عن آلهته وانصرافه عنها، مع ضرب من التعجب. كأَن الرغبة عنها في تقديره مما لا ينبغي أن يصدر عن العاقل، فكيف بمن يعمل مع ذلك جاهدا على ترغيب غيره عنها! ثم قال له محذرا ومتوعدا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}: أَي لئن لم تترك ما أنت عليه من النهي عن عبادتها، والدعوة إلى ما دعوتنى إليه من التوحيد. لأرجمنّك بالحجارة، على ما روى عن الحسن. وقيل باللسان والمراد لأشتمنّك وروى ذلك عن ابن عباس ... {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}: أي وابتعد عني بهجر جوارى دهرًا طويلًا، حتى لا يقع بك ما حذرتك منه. وقال علي بن طلحة وغيره عن ابن عباس: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} - قال: سالما سويا قبل أن تصيبك مني عقوبة، واختاره ابن جرير الطبرى: انظر ابن كثير .. 47 - {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ... } الآية. لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بما يسىءُ إليه ردعا له، بل أَجابه بما عوّده إِياه من احتمال له، وتلطف به، ومقابلة للسيِّئة بالحسنة، فقال له: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} أَي أَمان واطم

فلا أُجيبك بمكروه، ولا أشافهك بما يؤذيك. فهو سلام توديع ومفارقة أَو تقريب وملاطفة، ولذا وعد أَباه في الآية بالاستغفار. ومن قال إن سلامه على أَبيه كان تحية مفارق، فهذا على رأى من يجوز تحية الكافر بدءا أو إجَابَةً. قيل لابن عيينة هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ (¬1)} الآية. {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} بمعنى أَني سأطلب منه متضرعا إليه أَن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة، ويهديك إِلى الصراط المستقيم فيكون استغفاره له مرادا منه طلب الهداية له، والاستغفار للكافر بهذا المعنى جائز قبل موته علي الكفر أو تحقق أَنّه لن يؤمن وكان هذا الاستغفار لأبية على هذا النحو ناشئا عن موعدة وعدها آزر إبراهيم عليه السلام بأن يؤمن بما جاءه به فلما تبين لإِبراهيم أن أباه عدوّ لله تبرأ منه كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬2). وقد استغفر له مدة طويلة قبل انقطاع رجائه في إيمانه، كما تشير إِلى ذلك هذه الآية وغيرها من الآيات التي تشتمل على قصته كقوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬3). {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}: أي بليغا في البر بي والإكرام لي، فلهذا أرجو أن يجيبنى إِذا دعوته .. 48 - {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية. أَي وأَجتنبكم وأَتبرأُ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله حفاظا على دينى، حيث لم ينفعكم ما قدمته لكم من نصح وإرشاد {وَأَدْعُو رَبِّي}: وأَتجه إليه وحده بعبادتى، كما يفهم من اجتناب غيره من المعبودات، والمراد من الدعاء العبادة. وجوز أَن يراد به الدعاءُ مطلقا، فتدخل فيه العبادة لما فيها من الدعاء، ولا يبعد أن يريد بدعائه ربه أن يطلب منه الولد، كما في قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}. {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}: خائبا ضائع السعى عديم الأثر، وفيه تعريض بشقائِهم في عبادة آلهتهم ولفظ عسى يستعمل للترجّى، ولكنها هنا تفيد القطع بعدم ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، من الآية: 8 (¬2) سورة التوبة، من الآية: 114 (¬3) سورة إبراهيم، الآية:

شقائه بدعائه ربه؛ لأنَّ من يدعو الله لا يكون شقيا، ولأن إِبراهيم عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يكون شقيا بدعاء ربه، ويحمل التعبير بها على التواضع وحسن الأدب، والتنبيه على أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عَزَّ وَجَلَّ لا بطريق الوجوب، وأن العبرة بالخاتمة، وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير. أفاد هذا روح المعانى ... 49 - {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية. أي فلما ترك ديار أبيه وقومه مهاجرًا إلى الشام، أبْدَ لَهُ الله من هو خير منهم، كما قال سبحانه: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: عن ابن عباس وغيره: آنسنا وحشته بولد اهـ. ونص هنا على أن الموهوب له بعد الهجرة هو إسحاق وابنه يعقوب، لأنهما هما اللذان ولدا بالشام التي اعتزلهم إليها، وكانا من ذرية "سارة" وهذا لا يمنع من أنه وهب له قبل ذلك إِسماعيل، فهو ابنه البكر من جاريته "هاجر"، ويدل لذلك قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (¬1). كما يدل له التبشير بإِسحاق عقب قصة الذبيح مكافأة له على شروعه في ذبحه بعد أن أُمِرَ به في منامه، قال تعالى في سورة الصافات: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2). ولعل ترتب هبة إسحاق ويعقوب فحسب على اعتزاله لقومه لإِبراز كمال النعمة التي أعطاها الله إياه، لما خصهما به من أولاد وحفدة أولِى شأْن خطير وذوى عدد وفير، وهما شجرتا الأنبياء الكثيرين، من عرف منهم ومن لم يعرف {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}: أي وكل واحد من إِسحق ويعقوب وهبه الله النبوة في حياة إبراهيم عليه السلام، فأقر الله عينه بنبوة ابنه وحفيده قبل وفاته، بعد أَن حقق له بشارة ملائكته بميلاد إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب في حياته كبر سنه وعقم زوجته. {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا}: والمقصود بالرحمة التي وهب لهم كل خير دينىّ ودنيوىّ أوتوه. وقال الحسن: الرحمة النبوة. وذكرت بعد جعلهم أَنبياء للإيذان بأن النبوة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 133 (¬2) سورة الصافات، الآية:

من الرحمة التي يختص بها من يشاءُ. وقال الكلبي: الرحمة المال والولد، والرأي الأول أَشمل وأعم. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}: أي أثنينا عليهم ثناءً حسنًا، وجعلنا جميع الأُمم والملل تطريهم مهما تباعدت الأعصار، وتعاقبت الأزمنة. وإضافة لسان إِلى صدق ووصفه بقوله: {عَلِيًّا} للدلالة على أنّهم حقيقون بالثناء عليهم، وأن محامدهم لا تخفى علي أَحد، صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)} المفردات: {الْكِتَابِ}: المراد به هنا القرآن كما تقدم. {مُخْلَصًا}: مختارا، أَي أَخلصه الله واختاره. {رَسُولًا نَبِيًّا}: رفيع القدر من النَّبْوَة بمعنى العلو والرفعة أو من النبإ وهو الخبر. {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}: مناجيًا من المناجاة وهي المسارَّة بالكلام. التفسير 51 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا ... } الآية. لما أمر الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر لقومه قصة إبراهيم عليه السلام في القرآن تعظيمًا لشأنه وبيانًا لجهاده في توحيد ربه، عطف عليها أمره إِياه بذكر نبإ الكليم عليه السلام بيانًا لقدره وثناءً عليه. والمعنى: واذكر أَيها الرسول في القرآن موسى تعظيمًا لشأنه فإنه كان مُخلصًا من كل ما يشينه، وقرىء بكسر اللام بمعنى أنه أخلص لله عبادته - حتى كانت منزهة عن الشرك والرياء.

{وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}: مرسلًا إِلى الخلق لتبليغ رسالة ربه وأَحكام دينه، كما كان رفيع القدر عظيم المنزلة عند ربه، حيث اصطفاه علي الناس برسالاته وبكلامه، وجعله نبيًّا لقومه، يخبرهم برسالته وما اشتملت عليه من التوحيد والشرائع. وقد جمع له بين الوصفين: الرسالة والنبوة، وهو تشريف له عظيم. 52 - {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}: أي كان النداءُ مقبلًا من جانب الطور الأيمن لموسى عليه السلام، والطور الذي حصل النداءُ من جانبه، جبل في سيناءَ التابعة للقطر المصرى، ويجوز أَن يكون الأيمن من اليمن والبركة، فيكون وصفًا لجانب، أي من جانبه الميمون المبارك، وكان موسى عائدًا من مدين إلى مصر ومعه زوجته بنت شعيب، ومن تلك الجهة التي على يمينه أو الميمونة ظهر له كلام الله تعالى الذي ناداه به، وقربه بسببه تقريب تكريم وتشريف، حيث اختاره لمناجاته ومسارَّتِه. مثَّل حاله عليه السلام، بحال من قرَّبه الملك لمناجاته، ورفع الوسائط بينه وبينه ثقة به وإِعلاءً لقدره، فالتقريب معنوى لا حسِّي، تعالى الله عن الحلول بمكان وعن الجسدية والقرب المكاني {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). 53 - {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ... }: المعنى: من أجل رأْفتنا بموسى عليه السلام، ورعايتنا لشأنه، وهبنا له مساعدة أخيه هارون ومؤازرته، استجابة لدعوته التي طلبها بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي} (¬2). ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أَعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيًّا. ذكره ابن كثير. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 11 (¬2) سورة طه، الآيتان: 29، 30

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} التفسير 54 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ... } الآية. الذي ذهب إِليه الجمهور، أَنه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأَخيه، بذكر موسى عليهم السلام، لإِبراز، كمال العناية بأمره ثناء عليه بأشرف الخلال التي أَشار إليها قوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}. وهذه الجملة تعليل لإيجاب الأمر بذكره في الكتاب، ووصف عليه السلام بأنه كان صادق الوعد لكمال شهرته به ببلوغه درجة من الوفاء لم تعهد من غيره، ولا أدلّ على ذلك من أنه وَعَدَ بالصبر على الذبح بقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬1). فوفّى وصدق، وقيل لم يَعِدْ ربه موعدًا إلاَّ أَنجزه وإنما خصه الله بالوعد الصادق، وإن كان ذلك موجودًا في غيره من الأنبياء تشريفًا له وإشارة إِلى أَنه بلغ فيه الغاية العظمى. {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}: أي كان رسولًا إلى قبيلة جرهم على شريعة أَبيه إِبراهيم عليهما السلام، فإن أولاد إِبراهيم جميعًا كانوا على شريعته. وكان {نَبِيًّا} يخبرهم بتلك الشريعة مع تبشير الطائعين وإنذار المفرطين، والجمع لإسماعيل بين وصفى الرسالة والنبوة إشارة إِلى عظيم مكانته عند الله، وقد دلت الآية على أَنه لا يشترط في الرسول أن يكون صاحب رسالة خاصة وشريعة مستقلة، فقد بعث إسماعيل بشريعة أبيه إبراهيم إِلى جرهم، ولعل ذلك بسبب معاصرته لأبيه إبراهيم، وأن إِبراهيم لم يكن رسولًا مباشرا لجُرْهم والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية 102.

55 - {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ... } الآية. هذا أيضًا من الثناء الجميل على إسماعيل عليه الصلاة والسلام لأنه كان يأْمر عشيرته وذوى قرباه بإِقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والمثابرة وبذل الجهد اشتغالًا منه بالأَهم، وهو أَن يبدأَ بتكميلهم بعد تكميل نفسه، يشير إلى هذا قوله سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) وقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (¬2) ولا شك أن الأَنبياءَ وأَهليهم قدوة لأممهم، فلهذا كان معنيًّا بتكميل نفسه وأسرته، والمراد بالصلاة والزكاة معناهما المعروف، فالصلاة إِشارة إِلى العبادة اليومية والزكاة إشارة إلى العبادة المالية. وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وقيل تزكية النفس وتطهيرها. {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}: لاتصافه بأكمل النعوت وأشرفها، حيث استقامت أَقواله وأفعاله، فكان عند ربه موضع الرضا والتكريم. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} المفردات: {وَاجْتَبَيْنَا}: واصطفينا. {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}: خر الشيءُ سقط وهو من باب ضرب والمراد بخرورهم سجدا: وضع جباههم على الأرض. وسجَّدا، جمع ساجد، {وَبُكِيًّا}؛ جمع باك. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 214 (¬2) سورة التحريم، الآية: 6

التفسير 56 - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ .... } الآية. إدريس عليه السلام اسمه أعجمى وليس مشتقا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي لم يقل به أحد، وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعل الله ذلك من معجزاته كما في البحر، كما قيل أنه أَول من خط بالقلم، وخاط الثياب، ولبس المخيط، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأَول من اتخذ الموازين والمكاييل والأَسلحة، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، فكان أَول مرسل من بني آدم. ولكن هذه التفاصيل لم ترد في السنة النبوية، والله أعلم بصحتها، وحسبنا في أَمره قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}: أي ملازما للصدق في كل أمر من أموره متصفًا بالنبوة تتويجا لصدقه الكامل. 57 - {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}: هو النبوة والزلفى عند الله تعالى لأَنه كان صوَّاما قوّامًا، يعبد الله ويكثر عبادته، وقيل المكان العلى الجنة كما روى عن الحسن، ولا شىءَ أعلى من الجنة، وقد صح في حديث المعراج أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه في السماءِ الرابعة وأَنه رحب به ودعا له بخير، وعلى هذا يكون المراد من المكان العلى السماءُ الرابعة، وقيل الذكر الجميل في الدنيا وعلو المرتبة. 58 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ .... } الآية. إشارة إلى الأَنبياء المذكورين في السورة الكريمة، والإِتيان بإشارة البعيد {أُولَئِكَ} للتنبيه إلى علو مراتبهم. وبعد منازلهم في الفضل والشرف بما أنعم عليهم سبحانه من عظيم النعم الدينية والدنيوية. {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}: أي وممن هديناهم إلى الحق، وشرّفناهم بالنبوة والكرامة.

قال السدى وابن جرير رحمه الله: فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به ممن حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم، إسحق ويعقوب وإسماعيل والذي من ذرية إسرائيل (¬1)، موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم. قال ابن جرير ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إِدريس، فإنه كما قيل كان جَدَّ نوح عليه السلام، وقال القرطبى هذا خطأ. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}: أَي إذا سمعوا كلام الله المشتمل على حججه وبراهينه أَسرعوا ساجدين لربهم خضوعًا وخشوعًا واستكانة - تلهج ألسنتهم بشكره وحمده على ما وهبهم من نعم سابغة. وآلاء عظيمة، تذرف أعينهم دموع المهابة منه. فلا ترى أحدا منهم إلا باكيًا شعورا منه بالعجز عن تقدير حقه عليه كما ينبغي له، مهما قدم من عمل وبذل من جهد، تلك صفوة مختارة تعلقت نفوسهم بجلاله وامتلأت قلوبهم بهيبته والإذعان له. {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ... {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} المفردات: {خَلْفٌ}: الخلْف، بسكون اللام: الولد الطالح الشرير، والْخَلَف؛ بفتح اللام وسكونها الولد الصالح أو من يأتي بعد مطلقًا، أو البدل. {غَيًّا}: الغى، الضلال والهلاك أو السوءُ. ¬

_ (¬1) إسرائيل هو يعقوب.

59 - {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ... } الآية. أَي فجاءَ من بعد هؤلاء الأنبياء وهم المثل العليا في التقوى والصلاح والمحافظة على أداه الصلاة في أوقاتها تامة الأركان حافلة بالخشوع والخضوع - جاءَ عن بعدهم طائفة مفطورة على الشر مستمسكة به بعيدة عن التقوى والصلاح، متهاونة في أداء الصلاة في أوقاتها أو تاركة لها أو لبعض أركانها، أو مغيرة لصورتها المشروعة، واتبعوا في دينهم وسلوكهم شهواتهم. {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}: فسوف يجدون في الآخرة، ضلالًا عن طريق الجنة، وعذابًا سيئًا في جهنم {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ثم فتح باب الأمل للتائبين فقال سبحانه: 60 - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}: أي أن الذين خلفوا الأنبياء بما يناقض عقائدهم وأَعمالهم سيلقون جزاء انحرافهم غيًّا أي ضلالًا وسوء عاقبة، لكن من رجع إلى الله وتاب عن غوايته وأَناب إلى ربه وآمن به إيمانًا صادقًا وعمل عملًا صالحًا فأولئك التائبون المؤمنون الصالحون يدخلهم الله الجنة ولا يعاقبهم بما أسرفوا علي أنفسهم فإن الإيمان الصادق يَجُبُّ ما قبله من السيئاتِ، والتوبة تمحو الحوْبة، ورحمة ربي وسعت كل شيء، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآيتين: 53، 54.

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} المفردات: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: جنات إِقامة وثبات واستقرار. {بِالْغَيْبِ}: الغيب ما غاب عن المشاعر. {مَأْتِيًّا}: يأتيه من وعد به لا محالة، وقبل: {مَأْتِيًّا} مفعول بمعنى فاعل أي آتيا. {لَغْوًا}: اللغو العبث أو الضلال أو ما لا فائدة فيه من القول والعمل. {بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: البكرة أول النهار إلى طلوع الشمس، والعشى من الزوال إلى غروب الثسمس، والمراد: أن رزقهم دائم؛ لأنه لا بكرة ولا عشى في الجنة. التفسير 61 - {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}: انتقلت الآيات إِلى وصف الجنة التي وعد الله بها التائبين، وقد جاء في وصفها هنا أَنها جنات عدن، أي جنات إقامة واستقرار وثبات، والله لا يخلف وعده، فإن وعده آت لا محالة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬1). ¬

_ (¬1) النساء، الآية: 87

62 - {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}: ومن صفات هذه الجنات أَنها خالية من العبث والفحش والضلال وما لا فائدة فيه فلا يسمعون فيها ما يعكر عليهم صفاءَهم وإنما يسمعون فيها التحية وأحاديث السلام، ويتمتعون فيها بالرزق الطيب المتاح لهم دائما، جزاءً لما قدموا من تبوبة وإيمان وأعمال صالحات في دنياهم. 63 - {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}: هذا شروع في تعظيم الجنة وبيان من يستحقونها، والمعنى أن هذه الجنة أَعدها الله لمن كان تقيًّا يخشى الله ويبادر بالتوبة إِذا أَذنب ويستمسك بالإيمان والعمل الصالح، والتعبير عن استحقاق الجنة بميراثها للإيذان بكمال استحقاقها، بما يشبه الميراث في القوة والثبوت. {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} المفردات: {نَتَنَزَّلُ}: نهبط. {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: ما نستقبله من الشئون المختلفة. {وَمَا خَلْفَنَا}: ما تركناه خلفنا منها. {نَسِيًّا}: كثير النسيان. {سَمِيًّا}: شبيهًا ومثيلًا. التفسير 64 - {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}:

هذا القول إِما أن يكون من الأَتقياء الذين ورثوا الجنة، فيكون المعنى أنهم ما يتنزلون إِلى وراثة الجنة إِلَّا بفضل الله الذي له ما بين أَيديهم من شئون الآخرة، تركوه وراءَهم من أُمور الدنيا وما بين ذلك من شئون البرزخ، فهو المهيمن عليهم في الدنيا والآخرة، وإِما أَن يكون من كلام جبريل عليه السلام بأمر ربه، يحكيه عنه القرآن الكريم، فقد أخرج أحمد والبخارى والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس في سببه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه الصلاة والسلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}). والمعنى على هذا - وما ننزل إليك أو إلى شأْن من شئون الملكوت برغبتنا، وإِنما ننزل بأمر ربك تنفيذًا لمشيخته، فإِن زمام جميع الأمور بيد الله وحده فهو المالك لما بين أَيدينا من أَمر المستقبل وهو المسيطر على ما خلفنا من شئون الماضي وما هو كائن بين الماضي والمستقبل من الحاضر، وهو الذي يصرفنا بما يشاءُ كيف شاءَ مما تقتضيه حكمته الإِلهية، وهو سبحانه منزَّه عن السهو والنسيان فلن يغفل عنك فإنه ربك المنعم المتفضل الذي منَّ عليك برسالته. 65 - {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: أي أنه سبحانه رب الكائنات جميعها من سموات وأَرضين وما بينهما من القوى والعوالم الكونية، فهو سبحانه الخالق المدبر فكيف ينساك أو ينسى سواك {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}. (¬1) {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}: وبما أنه هو الخالق المدبر المسيطر على الزمان والمكان، فتوجه أنت وأُمتك إليه وحده بالعبادة واصبر على ما تقتضيه العبادة من جهود وتكاليف كما قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬2). {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}: أي أَنك يا محمد لا تعلم له سبحانه مشاركًا في اسم الربوبية للسموات والأرض وما بينهما، لأنه سبحانه لا شريك له في ذلك مطلقًا، ومن كان كذلك وجب إفراده بالعبادة والصبر عليها. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 54 (¬2) سورة طه، الآية: 132

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} المفردات: {جِثِيًّا}: جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه. {شِيعَةٍ}: جماعة متقاربة مشتركة في الميول. {عِتِيًّا}: طغيانًا وعصيانًا. {صِلِيًّا}: احتراقا. التفسير 66 - {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}: القائل هنا أُبيُّ بن خلف وقيل الوليد بن المغيرة، وسواء صح هذا أَو ذاك سببًا لنزول الآية، فهي عامة في كل منكر للبعث والنشور، أو شاك في أن يعود حيًّا بعد أَن تبلى عظامه فيقول هذا منكرًا أَو متعجبًا - فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 67 - {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}: كرر ذكر الإِنسان في التذكير بالبعث، لأنه يتميز بالعقل وكان عليه أَن يتذكر أَن الله سبحانه خلقه من العدم وأنه برز إلى الحياة بعد أَن لم يكن شيئًا مذكورًا، كما قال سبحانه

لعبده ورسوله زكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (¬1). فالذي خلق الإنسان ولم يكن شيئًا يذكر قادر على إعادته بعد الموت وقد أَصبح شيئًا {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬2). والمعروف لدى الإنسان أن الإِعادة أهون من البدء كما قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3). واعلم أن البدءَ والإِعادة سواءٌ عند الله في اليسر والسهولة، فإِنه سبحانه يقول للشىء كن فيكون، ولكن الله يخاطب عباده بما اعتادوا من أن الإِعادة أهون عليهم من البدء، فكيف يستبعدون البعث على الله، وهو إِعادة بعد بداية. 68 - {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}: أَقسم الله سبحانه بربوبيته مؤكدًا بعثهم بعد الموت وحشرهم إِلى موقف الحساب وكل منهم مقرون بشيطانه الذي صرفه عن عبادة الله، وجذبه إلى اتباع أَهوائه وشهواته فينال كل منهما جزاءه العادل. {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}: ثم لنحضرنهم بعد الحشر والحساب إِلى جهنم ليشهدوا مصيرهم المحتوم وليرى المؤمنون عاقبة الكفار وجزاءهم الرهيب وهم باركون على ركبهم، كما قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬4). 69 - {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}: ثم لنخرجن للعذاب أشدهم عتُوًّا وطغيانًا وتمردًا على الرحمن الرحيم، المنعم على الجميع بالخير والفضل العظيم، ويستمر نزع أَعتاهم فأعتاهم، إلى أَن يحاط بهم، فإِذا اجتمعوا ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 9 (¬2) سورة الأعراف، الآية: 29 (¬3) سورة الروم، الآية: 27 (¬4) سورة الجاثية، الآية: 28

طرحناهم في النار على الترتيب، فنقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم، قال ابن مسعود في تفسير الآية: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة أَتاهم جميعًا ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرمًا: اهـ وذلك قوله تعالى: 70 - {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}: ثم لنحن نعلم أَكمل العلم، ونعرف أوسع المعرفة من هو أشد استحقاقًا للاحتراق بنار جهنم منهم، ولقد سجلنا عليهم جميع أعمالهم في كتاب: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (¬1) لتكون حجة عليهم. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} المفردات: {وَارِدُهَا}: داخلها أَو مار عليها. {حَتْمًا مَقْضِيًّا}: قضاءً نافذًا مبرمًا. {جِثِيًّا}: جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه. {مَقَامًا}: المراد بالمقام الإقامة أَو موضعها. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 49

{وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}: الندى موضع اجتماع القوم ومكان حديثهم، فإن تفرقوا فليس بندى قاله الجوهرى: وهم يريدون بكونهم أحسن نديًّا، أنهم في الآخرة في أَحسن مكان حيث يجتمعون في الآخرة في نَدِيِّهمْ على فرض البعث والنشور. التفسير 71 - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}. روى الحاكم وأحمد وابن ماجه بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم بردا وسلاما حتى أَن للنار ضجيجًا من برْدِهِمْ) {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. وفي هذا المعنى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فيما رواه الشيخان: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحِلَّةَ القَسَم) والمراد تقليل زمان المس، والمقصود من القسم ما يفيده قوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ... } الآية. فهو في حكم القسم في التأْكيد، وقد أفادت الآية أن كل إنسان يرد على النار فينجو المؤْمن منها، ويبقى الكفار فيعرف المؤمن منة الله عليه بنجاته من هذا المصير الرهيب. 72 - {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}: ثم نكتب النجاة للمتقين وندع الظالمين جاثمين في نار جهنم. ويذهب بعض المفسرين إِلى أَن الجميع يمرون على الصراط فيجوزه المؤمنون ويتساقط الظالمون في جهنم، معتمدين على ما رواه مسلم في صحيحه: ثم يضرب الجسر على جهنم وهو دحضٌ (¬1) مَزَلَّة (¬2)، فيه خطاطيفُ وكلاليبُ وحسك ... فيمر المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرِّكاب فناج مُسلَّم، ومخْدُوشٌ مُرْسلٌ، ومكدوس في نار جهنَّم (¬3). ¬

_ (¬1) الدحض: الزلق. (¬2) والمزلة: موضع الزل وهو السقوط. (¬3) أي ملقى في جهنم مجتمع فيها مع من سبقه.

ويذهب بعض آخر من المفسرين إلى أَن المؤمن يرد على النار في الدنيا، بأن تصيبه الحمى لأنها من فيح جهنم، كما ورد في الحديث الشريف، روى أحمد والحاكم وابن ماجه أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار مريضًا بالحمّى فقال له: "أبْشِرْ فإن الله تعالى يقول: هي نارى أَسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة" وروى البزار عنه - صلى الله عليه وسلم -: "الحُمى حَظُّ أمَّتِى مِنْ جَهَنم". 73 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا}: أي أن من أَسباب بقاء الظالمين في جَهَنَّم جثيا، أنهم اغترُّوا بالدنيا وفضلوا أنفسهم على المؤمنين بما نالوه من حظوظها، وانصرفوا عن سماع آيات الله الواضحة البينة القوية المعجزة قائلين: ما بالُنا إِنْ كنا على باطِل - أَكثرُ أموالا وأَعَزُّ نفَرًا {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (¬1). {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ... } (¬2). {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)} ¬

_ (¬1) وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين، وإبهامهم أن من كثر ماله فهو المحق في دينه. (¬2) سورة سبأ، الآيات: 35 - 37

المفردات: {مِنْ قَرْنٍ}: القرن؛ مائة سنة وقد يطلق على أهله. {أَثَاثًا}: الأثاث؛ المتاع الذي تؤثث به المساكن للانتفاع أَو الزينة. {وَرِئْيًا}: الرئى: المنظر الحسن والمظهر الجميل. {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ}: فليمهله وليطل عمره، وليزد في رزقه، استدراجًا له من الله سبحانه إلى حين. {مَرَدًّا}: عاقبة. التفسير 74 - {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا}: أي وكثير من أَهل القرون السابقة أهلكناهم، وكانوا أَحسن أَثاثًا ومنظرًا من أَهل مكة، فليست بسطة الرزق وعلو المنزلة ووفرة القوة في الدنيا بالدليل على رضا الله والفوز بمحبته، فقد تكون هذه النعم استدراجًا من الله لهؤلاء المكذبين الضالين قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (¬1). فكونهم أَحسن متاعًا ومنزلة وأجمل مظهرًا، ليس بدليل على أَنَّهم أفضل من المسلمين مكانًا عند الله فَرُبَّ جماعة ضعيفة القوة قليلة الرزق أَقرب إلى الله وأفضل عنده منزلة من سواها من الجماعات الفتية القوية، روى مسلم وأحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رب أشعث مدفُوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره". 75 - {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا}: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183

أي قل يا محمَّد لهؤلاء المشركين المدعين أنهم على الحق بما هم عليه من قوة ومال، وأنكم على الباطل بما أنتم عليه من ضعف وفقر، من كان منكم في الضلالة، فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه، فسيعلمون حين يرون العذاب أو الساعة من هو شر مكانًا عند الله وأضعف جندًا مِنْ سواه، أَهم هؤلاء المؤمنون الضعفاءُ الفقراءُ أم أولئك المشركون الأقوياءُ الأغنياءُ؟. 76 - {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى .... } الآية. لما أخبر الله سبحانه أنه سيمد للظالمين في ضلالهم استدراجًا لهم حتى يبغتهم بالعذاب أو بقيام الساعة، أخبر في مقابل هذا أنه يزيد المهتدين في هدايتهم ويوفقهم ويعينهم على أَداء الأعمال الصالحة الباقية، فهي أفضل من بسطة الرزق وسعة الجاه والقوة والبأْس الذي استدرج الله به الضالين، ليزدادوا إِثْمًا حتى إذا أخذهم لم يفلتهم. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (¬1). {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا}: وإذا كان المال والجاه والقوة فتنة لهؤلاءِ الضَّالِّين، فَإنَّ الأعمال الطيبة أفضل عند الله منزلة وأكرم مكانًا وأعظم أَجرًا، وابقى أَثرًا، فهى الباقيات الصالحات، وقد فسرها ابن عباس بالصلوات الخمس، وقيل الباقيات الصالحات: الأكثار من ذكر الله والثناءِ عليه بما أَلهمنا إيَّاه، روى أحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ... ألا إِنَّ سُبْحانَ اللهِ والْحمْدُ لِلهِ ولَا إله إلاَّ اللهُ والله أكْبر هُنَّ الْباقِياتُ الصالحات) وبالجملة فالإِكثار من الأعمال الصالحات وترطيب اللسان بذكر الله أَفضل عند الله وأدعى إلى قربِهِ وأكرم لديه مما ينغمس فيه الضَّالون من ترف ونعيم وأَحسن عاقبة عنده. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 44

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} المفردات: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ}: أشاهد أمور الآخرة الغائبة عنه. {عَهْدًا}: ميثاقًا. التفسير 77 - {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}: ذكر الشيخان أن هذه الآية وما بعدها نزلت في العاص بن وائل، روى مسلم في صحيحه بسنده عن خباب بن الأرَتِّ الصحابي الجليل قال: كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته اتقاضاه، فقال لي لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: فقلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال: وإِنى لمبعوث بعد الموت؟ فإذا مت ثم بُعثتُ جئتَنى ولى ثَمَّ مالٌ ولى ولد فأُعطيك. فأَنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}. إِلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. فالعاص يتهكم بعقيدة البعث والنشور ويرجئُ سداد دينه إِلى هذا الموعد. والاستفهام في الآية للتعجيب والإنكار على العاص الذي يؤكد أَنه سيكون صاحب مال وولد في الآخرة وفي الدنيا.

78 - {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}: أَي هل انكشف الغيب أَمامه فاطلع على حالته في الآخرة، أم أَخذ على الله موثقًا أَن يغمره بفضله في الآخرة كما غمره في الدنيا. 79 - {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}: هذا رد على العاص بأُسلوب الردع والتكذيب له فِإنه لم يطلع على الغيب ولم يتخذ على الله عهدًا، والمعنى أننا سنسجل عليه هذا الضلال في سيِّئاته لنحاسبه عليه حسابًا عسيرًا أو نزيده عذابًا فوق عذاب. 80 - {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}: أَي أَنه سيموت ويغادر الدنيا ونرث أَمواله وأولاده، ولن ينال في الآخرة إلَّا العذاب الأليم فإنه سيبعث يوم القيامة فردًا مجردًا من الأموال والأَولاد {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} المفردات: {ضِدًّا}: أعداءَ متعاونين عليهم في خصومتهم وتكذيبهم. التفسير 81 - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}: اصطنع هؤلاء الكفار لهم آلِهة غير الله ظانين أن هذه الأَصنام ستكون مصدر عزة وقوة لهم، وقد رد الله عليهم بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89

82 - {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}: كلا: كلمة زجر وردع لهم عما توهموه من كونها عزا لهم، وقد أتبعه ببيان أن هذه المعبودات مصدر عداءٍ وتكذيب لهم فيما ادعوه من أُلوهيتهم، وسبب عذاب ونقمة عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (¬1). ويجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} عائدا على المشركين، أَي أَن المشركين بعد البعث سيدركون أَنهم كانوا على ضلال فيكفرون بعبادة آلهتهم حيث لا يجديهم ذلك نفعًا. {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)} المفردات: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: تدفعهم دفعا. {وَفْدًا}: جماعة. {وِرْدًا}: قوما عطاشًا واردين على جهنم، كالبهائم تساق إلي موارد الماء. التفسير 83 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: ألم تعلم يا محمد أَنا سخرنا الشياطين على الكفار تدفعهم إِلى الكفر دفعا شديدا ابتلاءً منا لهم، فلم يقاوموا هؤلاء الشياطين بل استجابوا لإغرائهم وتحريضهم وانساقوا معهم ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآية: 6

في الضلال انسياقا، وشبيه بهذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (¬1). 84 - {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}: أي فلا تتعجل عليهم وقوع العذاب جزاء عتوهم وجبروتهم فإننا نعدّ لهم أعمالهم ونحسبها عليهم قبل موتهم لنعذبهم بها يوم القيامة قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} (¬2). 85 - {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}: أي أَنه تعالى سيجازى الكافرين على كفرهم حينما يحشر الأتقياءُ إِلى أرحم الراحمين لينعموا بثواب تقواهم، قال ابن عباس وفدا يعنى ركبانا منعمين غير مجهدين. 86 - {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}: وفي هذا اليوم الرهيب نسوق الكفار إِلى جهنم حيث يذوقون أَلوان العذاب والنكال جزاءَ كفرهم وطغيانهم فيردون عطاشا مسوقين لا إلى الماء ليشربوا منه ويطفئوا عطشهم، بل إلى جهنم لتكون مثوى لهم. 87 - {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}: لا يستحقون الشفاعة فلا يشفع لهم أَحد، ولهذا سوف يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (¬3). لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، فإنه يستحق الشفاعة، فيؤذن له بشفاعة الشافعين، وفسر ابن عباس العهد بقوله: العهد شهادة ألا إله إِلا الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وعدم رجاء أحد إِلا الله تعالى. وفسره ابن كثير بقوله: شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 36 (¬2) سورة هود، الآية: 104 (¬3) سورة الشعراء، الآيتان: 100، 101

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} المفردات: {إِدًّا}: الإد؛ المنكر العظيم. {يَتَفَطَّرْنَ}: يتصدَّعن. {وَلَدًا}: الولد كل ما يولد، ذكرًا كان أو أُنثى، واحدا أَو اثنين أَو جماعة. {أَحْصَاهُمْ}: علم عددهم. التفسير 88 - {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}: زعموا أَن الله اتخذ ولدا، فقال المشركون إن الملائكة بنات الله، وزعم اليهود أن عزيرًا ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وقد رد الله عليهم بقوله: 89 - {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}: أي لقد جئتم بقولكم هذا شيئًا منكرا باطلا عظيم الفرية على الله - سبحانه -.

90 - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}: أي توشك السموات - على تماسكها - أَن تتصدع من افترائه على الله، وأَن تنشق الأرض، وأَن تتحطم الجبال وتسقط أَجزاؤها، فإن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إِليه، وكيف يكون لله ولد، وهو بغير حاجة إليه ليعينه أَو ليرثه كما هو شأن البشر، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، فهو حي لا يموت، قادر لا يعجزه شيءٌ. 91 - {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}: أي تكاد السموات والأرض أَن يحدث لها ما ذكر بسبب ادعائهم ولدًا للرحمن، فإنها فرية على الله لا تتقبلها بل تكذبها بما فيها من الإِبداع، فإنه شاهد بوحدانيته وتمام قدرته وعدم حاجته إلى اتخاذ ولد يعينه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. 92 - {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}: ولا يليق بكمال الله وعظمته أن يكون له ولد، فإن الوالد يتخذ الولد ليكون عونا له في شيخوخته وضعفه أو ليكون امتدادًا لحياته حين تنتهى حياته والله سبحانه غنى عن هذا كله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). 93 - {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}: أي ليس في السموات والأرض إِلا عبيدًا لله سبحانه، وسيأتون بوصف العبودية يوم القيامة مهما كان شأنهم، وسيحاسبهم علمًا ما قدموه من خير وشر، فكيف يزعم الزاعمون أن له ولدا "تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبيرًا". 94 - {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}: لقد حصرهم وأحاط بهم علمًا، وعدهم عدًّا، وأحصى عليهم أَعمالهم وأَفكارهم وأَنفاسهم، فلا حاجة به إلى ولد يعينه. ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 35

95 - {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}: وكل منهم سيموت ويبلى ثم يبعثه الله ويحشره إليه منفردا وحيدا، دون معين أَو نصير سواءٌ منهم من كان عابدا أَو معبودا، أو من زعموه لله ولدا. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)} المفردات: {وُدًّا}: محبة. {لُدًّا}: اللد؛ جمع الألد وهو الخصم الشديد الخصومة الْمُلِحُّ في عداوته المجادل بالباطل أَو الظالم أَو الفاجر. {رِكْزًا}: الركز؛ الصوت الخفى. التفسير 96 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}: بعد أَن ذكر الله سبحانه أَحوال الطغاة العتاة ومصيرهم الأليم ذكر في مقابلهم هنا المؤْمنين وما أعده لهم من الحب وآثاره في الدنيا والآخرة. والمعنى أَن المؤمنين الذين يحملهم إيمانهم على أداء الأعمال الصالحة سيجعل لهم الرحمن الرحيم مودة في قلوب الناس وعند الملائكة،

ومن أَجلِّ نعم الله على عبده أَن يمنحه حبه وحب عباده في السماوات والأرض. روى الشيخان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحبَّ الله عَبدًا نادَى جِبْرِيلَ إن الله يُحِب فُلَانًا فأحِبَّهُ فَيُحبُّه جِبْريل، فينادى جبريل في أهل السَّمَاءَ أنَّ اللهَ يحب فلانا فأحبوه فيحبه أَهل السماء ثم يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأرض". ويجوز أن يكون المقصود من حب الله المؤمن الذي يعمل الصالحات أن يكافئه على هذا بما يستحقه من الثواب. 97 - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}: والمعنى: يا محمد إنا أنزلنا عليك كتابنا بلغتك العربية وجعلناه ميسَّرا للسامعين والقارئين لتبشر به المتقين بما ينالون من ثواب جزيل على إِيمانهم، ولتنذر به قوما يعادونك أَشد العداء، ويجادلونك بالباطل - لتنذرهم بعقاب أَليم على هذه الخصومة والمجادلة في الحق بالباطل. {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}. 98 - {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}: أي وأَهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية قبل أهل مكة، لما كذبوا رسلهم. {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}: أي فهل تدرك بإحساسك منهم أَحدًا أَو تسمع لهم صوتا، فبعد أن كانت هذه الأُمم تملأُ الأرض، وتتعالى على أنبيائِهم وتعاديهم وتجادلهم بالباطل، أَصبحت قراهم خامدة خاوية على عروشها، بعد أن دمرها الله على أهلها، عقابا لهم على كفرهم ومخاصمتهم لأَنبيائهم، فليحذر أَهل مكة هذا المصير وليعتبروا به وصدق الله إِذ يقول: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 45

سورة طه

سورة طه تمهيد: هذه السورة هي العشرون في ترتيب المصحف، وسميت سورة طه باسم فاتحتها، وتسمى أَيضًا سورة الكليم؛ لأن معظم آياتها في قصة الكليم موسى عليه السلام، وهي مكية، إِلا الآيتين (131،130) من قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} إِلى قوله سبحانه: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فإِنهما مدنيتان، وعدة آياتها خمس وثلاثون ومائة. ومن وجوه مناسبتها لسابقتها .. أنهما مكيتان، ومبدوءتان بأسماء الحروف المتقطعة، وإن أَول هذه متصل بآخر تلك في المعنى، فقد ذكر في تلك إنزال القرآن الكريم بلسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تبشيرًا للمتقين وإنذارًا للمعاندين، وفي هذه أُكَّد ذلك المعنى. ومما تضمنته هذه السورة ما يلي: 1 - بيان أن إِنزال القرآن الكريم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما هو إلا للتذكرة والعظة وسعادة البشر في الدنيا والآخرة. 2 - تكليم الله لموسى عليه السلام بالوادى المقدس طوى، واختياره لرسالته التي أساسها {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وبهذه الرسالة أَرسل الله رسله جميعًا إلي أُممهم .. 3 - أَمْر الله تعالى لموسى عليه السلام أَن يلقى عصاه {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وأن يخرج يده من جيبه، فتخرج بيضاء من غير سوءٍ، آية أخرى ليرى موسى بعض آيات الله الكبرى. 4 - أمره لكليمه بعد ذلك أَن يذهب إلى فرعون رسولًا مؤيّدًا بهاتين الآيتين ... 5 - سؤَال موسى ربه عزَّ وجل أَن يشرح له صدره، وييسِّر له أمره ويحل عقدة لسانه، ليفْقهُوا قوله، وإن يجعل له أَخاه هارون وزيرًا يشاركه في الرسالة ويعينه على أَعبائها، فقال الله مجيبًا إياه في كل ما سأَل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} يذكره تعالي بنصره له منذ ولادته، حيث نجاه من القتل والغرق، ورَبّاه مكرّمًا مع أمه في بيت عدوه! وقد كان يقتل من يولد في بني إسرائيل من المذكور .. ثم كيف نجاه من قوم فرعون الذين ائتمروا به ليقتُلوه، لما قتل أَحدهم خطأ، ثم ذهب إلى مدين، وصاهر الشيخ الكبير، ولبث

أكثر من عشر سنين، ثم سار بأهله إلى مصر محْفوفًا بعناية الله وحفظه، حتى أمره الله وهو في سيناء أن يذهب هو وأَخوه إِلى فرعون ليبلِّغاه معًا رسالة الله تعالى، فلما بلّغ موسى أخاه ما أمرهما الله به من تبليغ فرعون دعوته سبحانه {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .. 6 - وفي هذه السورة بيان ما دار بين موسى وفرعون من المقاولة، ثم ما دار بين موسى والسحرة، وخيفته عليه السلام حين ألقوْا حبالهم وعصيَّهم فخيل إليه من سحرهم أَنها تسعى، فثبته الله تعالى وأوحى إليه أن يلقى عصاه، فألقاها فإذا هي حية عظيمة مخيفة تبتَلع كل ما ألقاه السحرة، وهنالك آمن السحرة جميعًا برب هرون وموسى، ولم يبالوا بوعيد الطاغية وتهديده إذ قالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}. 7 - وفيها انفلاق البحر ونجاة موسى وبنى إِسرائيل، وغرق فرعون لمَّا تبعهم. 8 - وفيها فتنة السامرى، وإضلاله بني إسرائيل، باتخاذه عجلًا جسدًا له خوار، حين كان موسى عليه السلام يناجى ربه في الطور، ولما رجع أفزعه ما رأَى من إضلال السامرىّ لقومه، حتى عبدوا العجل الذي صنعه، فأخذ برأس أَخيه يجرُّه إليه، فاعتذر أَخوه عليه السلام بمخالفة بني إسرائيل تحذيره إياهم، ونصحه لهم، واستمرارهم في ضلالهم، حتى رجع موسى عليه السلام، وهنا أغلظ موسى قوله للسَّامرىّ، وتوعّده بأَن يعيش في الدنيا طريدًا، وفي الآخرة معذبًا، ثم حرَّق العجل ونسفه في اليم نسفًا، ليريهم ضلالتهم في عبادته، وجهلهم بالمعبود الحق وما ينبغي له من عظائم الصفات .. قائلًا لهم: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}. 9 - وفي السورة التذكير بالذكر الحكيم الذي آتاه الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - .. وفيه الخير كل الخير لمن أقبل عليه وعمل به، وأَما من أعرض عنه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}. 10 - وعقَّبه بالتذكير بأَهوال يوم القيامة: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ... } الآيات.

11 - وفي السورة يصف سبحانه القرآن الكريم بأنه أنزله قرآنًا عربيًا، وصرَّف فيه من الوعيد، وينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العجلة بقراءَته من قبل أن يقضى إليه وحيه، وهو يتلقاه من آمين الوحى جبريل عليه السلام. 12 - ثم يذكر سبحانه قصة آدم عليه السلام بتفصيل غير قليل، من أمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس وإِبائه وتحذيره هو وزوجته من أَن يُخْدَعَا به، إذ قَال سبحانه في خطابه: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}. ولكن الشيطان وسوس لهما وخَدعهما حتى نسيا العهد والنهي عن الأَكل من الشجرة، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما. وانتهى أَمرهما بإخراجهما من الجنة، بعد أن منَّ الله عليهما بالعفو والتوبة. 13 - وفي السورة التذكير بأن من أَتبع هدى الله فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أَعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا ويحشره الله يوم القيامة أَعمى. 14 - وفيها التذكير كذلك بإهلاكه القرون الماضية، ومشيهم في مساكنهم، وما في ذلك من عبر وعظات لأُولى البصائر والنهى. 15 - وفيها يأْمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقوله المشركون من تكذيب واستهزاءً، فسيلقون جزاءهم، ولولا كلمة سبقت منه تعالى بتأخير العذاب إِلى أَجل مسمى لعجله لهم. 16 - وفي خواتيم السورة يأْمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بتسبيحه وتنزيهه، وبأن يأْمر أهله بالصلاة ... وأن يصطبر عليها، لأَنها أساس الخير كله .. {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}.

بسم الله الرحمن الرحيم {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} المفردات: {طه}: اسمان لحرفى الطاء والهاء .. ، هما فاتحة السورة، ويأْتى الكلام عليهما في التفسير، {لِتَشْقَى}: لتتعب تعبًا شديدًا فوق طاقتك. {تَذْكِرَةً}: تذكيرًا وعظة .. ، {الْعُلَى}: جمع العليا، تأنيث الأعلى، مقابل الدنيا تأْنيث الأدنى. {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: العرش في اللغة: سرير الملك ويُكْنى به عن السلطان والعز، {اسْتَوَى} استولى .. ويأْتى في التفسير معنى استوائه تعالى على العرش .. {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} الثَّرى .. التراب النَّدِىُّ - يقال ثَرِيَتِ الأرض - كَنَدِيَتْ وزنا ومعنى - فهي ثَرِيَّةٌ. كَنَدِيَّة؛ إِذا نَديَتْ ولانت بعد الجدوبة واليُبس - والذي تحت الثرى طباق الأرض المختلفة إلى نهايتها. التفسير 1 - {طه}: افتتح الله تبارك وتعالى تسعًا وعشرين سورة ببعض أسماء الحروف الهجائية، وسورة طه .. واحدة منها .. وقد قال كثير من أئمة التفسير إنها من المتشابه الذي استأْثر الله بعلمه؛ فلا يعلم المراد منها إلا هو، وقال بعضهم إنها اسم للسورة، وقيل إنها لتنبيه السامعين،

إلى ما يأْتى بعدها من الآيات والعِبَر، وقيل غير ذلك وأرجح الآراء في تأويلها أنها ترمز إلى التحدى، بأن يأتوا بمثل هذا القرآن المكون من كلمات وجمل، ذوات حروف مما ينظمون منه كلامهم، فإذا عجزوا عن الإِتيان بمثله أو بمثل سورة منه مع ما يمتازون به من الفصاحة والبلاغة، .. فمحمدٌ مثلهم .. وذلك دليل على أَن القرآن من عند الله تعالى، وليس لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيه إلا مجرد تبليغه عن ربه. لا يزيد فيه حرفًا ولا ينقص منه حرفًا. ولا يزال إعجازه قائمًا. والتحدى به باقيًا، ولا يزال حفظه بحفظ منزِّله خالدًا أَبدًا، كما تكفل به جل وعلا - إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). 2 - {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}: سبب النزول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى من المشركين تعبًا مرهقًا. ويأسف أسفًا شديدًا بسبب إعراضهم عن القرآن الكريم وعدم إيمانهم به، فأَنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية تسلية له .. وتخفيفًا عليه .. والمعنى - ما أَنزلنا عليك القرآن أيها الرسول - ليكون سببًا في شقائك وعنائك، وفرط أسفك على كفر هؤلاء المشركين، كقوله عَز وجل: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (¬2). والشقاءُ شائعٌ في معنى التعب والعناء، ومنه قولهم، سيد القوم أشقاهم وقولهم: أشْقَى منْ رائِضِ مُهْرٍ. وهذا الوجه في سبب نزول الآية هو المختار، لمناسبته للسياق. وقوله تعالى: 3 - {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}. أَي ما أنزلنا القرآن عليك إِلا تذكيرًا لمن شأْنه أَن يخشى الله ويخافه، لأَن الذين يخشون ربهم هم المنتفعون بالقرآن ومواعظه، وأما غيرهم فكالعدم، ولا ريب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ وذكَّر وحذَّر وأنذر، فليس مسئولًا بعد ذلك عن كفرهم، فقد قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬3). وقال عز من قائل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ َ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 9 (¬2) سورة الكهف، الآية: 6 (¬3) سورة الغاشية، الآيتان: 21، 22 (¬4) سورة الكهف، من الآية:

ولما ذكر الله تعالى أنه أنزل القرآن تذكرةً لمن يخشى .. أَكد ذلك المعنى وقرره بقوله: 8 - {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}: ووجه التوكيد أنه سبحانه نسب التنزيل إِلى ذاته المقدسة مرتين، مرة بضمير المتكلم في قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ومرة بضمير الغيبة في قوله: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ ... } وإنما نسب التنزيل إلى ذاته المقدسة مرتين، تعظيمًا لشأن المنزل - جل جلاله - وتفخيمًا لشأن القرآن الذي أنزله، وقطعًا لريبة المرتابين في كونه منزلًا من عند الله. والاقتصار هنا على خلق السماوات والأرض؛ لأنه سيُصَرّح بخلق ما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى في الآية السادسة. وتقديم خلق الأرض هنا؛ لأن الأرض أَقرب إلى الحسِّ، والإنعام بها على الناس أَظهر، ووصف السماوات بالعلَى - جمع للعليا - لتوكيد الفخامة، مع ما فيه من رعاية الفواصل. ثم وصف عظمته تعالى وعظمة ملكه فقال سبحانه: 5 - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: وعرش الرحمن جل جلاله أعظم مخلوقاته، ولا يحيط بوصف عظمته إِلا ربه، ومن العرش تَتَنزَّل أَوامر الله في شئون الكون كله، دون أن يكون الله فيه، لاستحالة ذلك عقلا. واستواؤه تعالى على العرش من قبيل المتشابهات التي يجب الإيمان بها وتفويض علم المراد منها إلى الله جل وعلا، وترك تأويلها مع تنزيهه تعالى عن مشابهة الحوادث وهذا مذهب جمهور أهل السنة، وفي ذلك يقول الإمام مالك: الاستواءُ معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والجحود كفر، والسؤال عنه بدعة. ومن العلماء من فسر الاستواء على العرش بأنه كناية عن انتهاء تدبير الكون إلى الله سبحانه وتعالى، بعد إِتمام خلقه إياه، دون أَن يشركه في هذا التدبير شريك، كما لم يشركه من قبل في إِبداعه شريك. وإنما أُضيف لله تعالى الاستواءُ على العرش وحده مع أنه سبحانه مستوٍ على الكون كله، لأن العرش أعظم مخلوقاته، فإذا استوى عليه وهو أَعظمها فقد استوى على كل ما سواه،

وأَما تفسير الاستواء على العرش بالاستقرار فيه كما تقول المشبِّهة، فهو باطل وكفر {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). ثم بين سبحانه سعة سلطانه وشمول قدرته لجميع الكائنات فقال: 6 - {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}: أَي له وحده عَزَّ وَجَلَّ دون غيره، جميع ما في السماوات وَمَا فِي الأرضِ، سواء كان ذلك جزءا منهما أو حالاًّ فيهما، وله ما بينهما من كل كائن في الجوّ كالسحاب والهواء وما لا يعلمه سواه جل وعلا، وله ما وراء التراب من طباق الأرض ومعادنها ومياهها الجوفية، إِلى غير ذلك مما لا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، له كل ذلك خَلْقًا وملكًا وتَصرُّفًا، وذكر ما تحت الثرى مع دخوله تحت قوله {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لزيادة التقرير. 7 - {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}: والخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أُمته، أو لكل مخاطب، والمراد بالقول عمومه، فيشمل الذكر والدعاء وغيرهما، وقيل المراد به ذكر الله تعالى ودعاؤُه خاصة؛ وجواب الشرط مقدر، أَي وإن تجهر بالقول فاعلم أَن الله غنى عن جهرك؛ فإنه يعلم السر وأخفى، وفيه إِرشاد العباد إِلى أن الجهر بالنسبة إِلى الله تعالى لا داعى إِليه؛ لأنه يعلم السر وأَخفى؛ ما لم يكن للعبد فيه غرض شرعى كما سيأتى. والسرُّ ما تُحَدِّث به غيرك في خفاءٍ، والأخفى منه ما تحدِّث به نفسك ولا تَتَفوَّه به أصلًا. والمعنى: وإِن ترفع صوتك أَيها الإنسان بذكر الله تعالى أَو بدعائه أَو بغيرهما فإنه تعالى يعلمه؛ لأنه يعلم السر الذي تسرُّه، ويعلم ما هو أخفى منه مما تضمره وما توسوس به نفسك. وعلى أن المراد بالقول ذكر الله تعالى ودعاؤُه خاصة، فالمعنى: وإِن تجهر بذكر الله تعالى، وبدعائه كقوله جل ذكره {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬2). وإِنما ينهى عن الجهر بذكره تعالى، ما لم تدع إِليه حاجة، كالتعليم والإرشاد وتثبيت الذكر في النفس، ومنع الوسوسة فيجوز في حدود الرفق والاعتدال، قال الآلوسى: فقد صح ما يزيد على عشرين حديثًا في أَنه - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما كان يجهر بالذكر، ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 11 (¬2) سورة الأعراف، الآية: 205

وصح عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىءٍ قدير، لا حول ولا قوة إِلا بالله، ولا نعبد إِلا إِياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناءُ الحسن لا إله إِلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه رفعَ الصوت، ومن الأغراض الشرعية رفع الصوت في تكبيرات العيد، فرحا به وابتهاجًا وتمجيدًا له، واعتذارًا بصدق الله لوعده ونصر عبده، وهزمه لأعدائه المشركين، انظر الآلوسى (¬1). 8 - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}: هذه الآية الكريمة مستأْنفة لبيان أنه سبحانه وإن كانت ذاته المقدسة واحدة، فاسمَاؤُه وصفاته متعددة، فقد كان المشركون يقولون: ما بال محمَّد يدعونا إلى إِله واحد وهو يدعو إلهين، الله والرحمن، فقال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}. (¬3) وقد جاء الاسم بمعنى الصفة ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} (¬4) أي صفوهم. والمعنى: ذلك الذي سبقت نعوته العظيمة، وصفاته الجليلة، هو الله الذي لا اله إِلا هو له الصفات العليا في الحسن والكمال، وإن كانت ذاته جل وعلا واحدة. ¬

_ (¬1) فقد توسع في الكلام علي هذه الآية. (¬2) الإسراء، من الآية: 110 (¬3) الأعراف، من الآية: 180 (¬4) الرعد، من الآية: 33

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} المفردات: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}: الاستفهام للتقرير، ويأتى بيانه في التفسير، وحديث موسى: خَبَرُهُ وَقصَّتُه، ويطلق الحديث علي كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في اليقظة أو المنام. {آنَسْتُ نَارًا}: أي أبصرت نارًا إبصارًا بيِّنا لا شبهة فيه. {بِقَبَسٍ}: أي بشعلة مقتبسة على رأس عُودٍ أو نحوه. {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}: المقدس: المطهر، أو المبارك، {طُوًى}: اسم الوادى وهو الجانب الغربيُّ من الطور. التفسير 9، 10 - {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ... } الآية. هذا استئناف مسوق لتقرير أمر التوحيد، الذي انتهى إلية مساق الحديث، والخطاب فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، للإيذان بأن حديث موسي وقصته جديرة بأن تنتقل مع الأَجيال، ولبُّ هذه القصَّة أمر التوحيد، حيث قال الله لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}.

وبه ختم عليه السلام مقاله إذ قال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. والاستفهام هنا للتقرير، وفيه معنى التنبيه والتشويق، كما تقول لصاحبك: هل بلغك الخبر الفلانيّ؟ فيتنبه ويشتاق لسماع الخبر، فإذا سمعه تقرر في نفسه، لأَنه أَتاه على شوق. ويقرب من هذا المعنى ما قيل: إِن حرف الاستفهام هنا بمعنى قد، أي قد جاءك خبر موسى وقصته، حين رأَى نارا في ابتداء الوحى إليه، وتكليم ربه إياه، وذلك بعد ما قضى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصدًا مصر بعدما طالت غيبته عنها، فضلَّ الطريق المسلوك في ليلة شاتيةٍ باردة مظلمة، وجعل يقدح بزنْدٍ معه؛ ليورى نارًا فلم يُخرِج شررا. فبينما هو كذلك، إِذ ظهرت له نارٌ من جانب الجبل عن يمينه، فاستبشر وبَشَّر أَهله بما رأى، وذلك قوله تعالى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}: أَمر أَهله أَن يقيموا مكانهم، راجيًا أن يجيئهم بشعلة يقتبسها من النار التي رآها ليوقدوا منها ويستدفئوا، أَو أن يجد حول النار هاديًا يرشد إلى الطريق، وقد تاه عنه في ظلام الليل، والخطاب بصيغة الجمع للزوجة والولد (¬1). أَو الخطاب للزوجة وحدها، والجمع للتفخيم، كما في قول الشاعر يخاطب امرأَة واحدة. وإِن شئتُ حرمت النساء سواكمو (¬2). وكانت النار في شجرة عنَّابٍ خضراء يانعة، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنه. 11 - {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى}: أي فلما بلغ مكان النار التي أبصرها ناداه ربه قائلًا: يا موسى. ¬

_ (¬1) الاثنان جمع لغوى، حيث جمع أحدهما بالآخر وضم إليه، وقد نقل عنه - صلى الله عليه وسلم -: الاثنان فما فوقهما جمع. (¬2) أشبعت ضمة الميم فتولدت عنها واو لضرورة الشعر.

12 - {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}: أي إنِّى أنا الله ربك الذي أَكلمك، أي من غير واسطة الروح الأمين جبريل عليه السلام كما قلنا في تفسير قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1). وتكرير ضمير المتكم لتأكيد الدلالة وتحقيق المراد وإِماطة الشبهة، وفي سورة النمل: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). وفي سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3). ولا تعارض بين الآيات الكريمة، فقد ناداه ربه بها كلها، إلاَّ أنه سبحانه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداءُ الكريم، أَي أَنه سبحانه خاطب موسى بما يفيد هذه المعانى والصفات التي اشتملت عليها هذه النصوص المتفرقة، فلما تكررت القصة في سور متعددة أعطى كل سورة جانبًا منها، لمنع التكرار في العبارة والله أَعلم. وأمر سبحانه كليمه بخلع نعليه ليباشر بقدميه الأرض المقدسة، فتصيبه بركة تكليم الله إِياه في الوادى المقدس، ولأن الحفاء أَوصل في التواضع وحسن الأدب، ولذلك كان السلف الصالح يطوفون حفاةً. وقوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}: بيان لحكمة الخلع المأمور به مع الإشارة إلى شرف البقعة وقدسها، وقد نفذ الكليم أمر ربه فخلعهما. 13 - {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}: أي وأنا الله الذي أصطفيتك من الناس، أَو من قومك للنبوة والرسالة، فاستمع لما أوحيه إِليك، وتقبله وتأهب للعمل بما يقتضيه، وفي معنى الآية قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬4). ثم بين الله ما أوحاه إليه في هذه المكالمة القدسية فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 164 (¬2) سورة النمل، الآية: 9 (¬3) سورة القصص، الآية: 30 (¬4) سورة الأعراف، الآية: 144

14 - {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ... } الآية. أَي إِننى أنا الإله الواحد المعبود بالحق لا شريك لي، والفاء في قوله تعالى: {فَاعْبُدْنِي} لترتيب المأمور به على ما قبلها، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل، والمراد بالعبادة غاية التذلُّل والانقياد له في كل ما يكلف به وخصت الصلاة بالذكر، وأفردت بالأمر في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} مع اندراجها في الأمر بالعبادة، لمزيد فضلها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشُغْل القلب واللسان بذكره، وقد سمَّاها الله إيمانًا في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. (¬1) واختلف العلماءُ في كفر تاركها كسلًا، وأما تاركها جحدًا فلا خلاف في كفره. وقوله تعالى: {لِذِكْرِي}: أَي لتذكرنى، فإن ذكرى كما ينبغي لا يتحقق إلاَّ في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرنى فيها، لاشتمالها على الأذكار؛ أو لِذِكْرى خاصة، فلا تَشُبْهُ بذكر غيرى، أو المراد بالذكر هنا، التذكُّر، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد. عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلِّها إذا ذكرها" فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَامَ عَنْ صلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَكَفّارَتُهَا أَنْ يُصَلَيَهَا إذا ذَكَرَها لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلاَّ ذَلِكَ". ثم بين السبب في وجوب العبادة وإقامة الصلاة فقال: 15 - {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ... } الآية. أَي إِن الساعة قادمة لا محالة، لتحاسب كل نفس بما عملت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). {أَكَادُ أُخْفِيهَا}: أُريد إِخفَاءها بعدم تحديد وقتها، ولولا ما في الإخبار بمجيئها من اللطف وقطع الأعذار، لما أخبرت بإتيانها، ومع أنه تعالى أَخفى وقتها فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أماراتها، تذكيرًا للناس بها ليحذروها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 143. (¬2) سورة الزلزلة، الآيتان:

16 - {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}: أَي فلا يصرفنك يا موسى عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها بالعمل الصالح لا يصرفنَّك عن ذلك الكافرون الذين لا يصدقون بها، ويتبعون هواهم بتكذيبها، فتهلك معهم إن اتَّبعت هواهم، وهذا النهي وإن كان ظاهرًا لموسى فالمراد به أمته كما قال كثير من المفسرين، فانه - صلى الله عليه وسلم - لا يصرفه عن الساعة والعمل لها صارف بموجب عصمته. {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} المفردات: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}: الاستفهام للتقرير، يأتي توضيحه في التفسير. {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}: أعتمد عليها. {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}: وأَضرب بها ورق الشجر ليسقط على غنمى فتأْكله. والهشُّ كالهزِّ بمعنى التحريك. {مَآرِبُ}: منافع ومصالح جمع مأربة مثلثة الراء. {سِيرَتَهَا الْأُولَى}: هيئتها الأُولى التي كانت عليها. التفسير 17 - {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ... }: الاستفهام هنا للتقرير، كما تقدم آنفًا في قوله تعالي: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} والحكمة فيه تنبيهه وتوقيفه على أنها عصًا عادية، حتى إِذا قلبها الله تعالى حية تسعى، علم أَنها معجزة عظيمة أَعدها الله لموسى، فازداد يقينًا وطمأنينة وثباتًا وأنسًا.

18 - {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ... } الآية. أَجاب موسى ربه فقال: هي عصاى. وبهذا تم الجواب ولكنه عليه السلام أحب المزيد من مكالمة ربه، استئناسًا به، وفرحًا بمناجاته، فاغتنم الفرصة لذلك في مقام البسط، وذكر من منافعها أنه يعتمد عليها عند الإعياء أَو الوقوف في رأس القطيع. {وَأَهُشُّ بِهَا}: أَي أَضرب بها ورق الشجر فيسقط على غنمى فتأكله، ثم إنه عليه السلام أجمل بقية منافع عصاه فقال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}: أي حاجات ومصالح أخر، وذلك مثل ما قيل: إنه عليه السلام كان إذا سار أَلقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس، والكنانة والمخلاة والثوب ونحوها، وإِذا كان في البريّة ركَزها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاءُ عن الاستقاء وصله بها، وإِذا تعرضت غنمه للسباع قاتل بها، هذا بعض ما قيل في تلك المآب، والله أَعلم بها. قال ابن كثير: وقد تكلف بعضهم ليذكر شيئًا من تلك المآرب التي أَبهمت، فقيل: كانت تضىءُ له بالليل وتحرس له الغنم إِذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأُمور الخارقة للعادة، والظاهر أَنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعبانًا، فما كان يفر منها، ولكن كل ذلك من الأَخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام، وقول الآخر: إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة!! 19 - {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ... }: أَمره تعالى بإلقاء العصا على الأرض ليريه من شأنها ما لم يخطر له على بال، وليكون إلقاؤها قبل لقاء السحرة تمهيدًا لما يظهره الله تعالى على يد موسى وأَخيه من المعجزات، مع الطمأنينة ورباطة الجأش. 20 - {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ... }: فلما ألقاها موسى فوجئ بأنها حية عظيمة تمشى مسرعة على بطنها، والحية اسم علم

يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وقد انقلبت حين ألقاها موسى عليه السلام ثعبانا عظيمًا، كما يفصح عنه قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (¬1). وجاءَ تشبيهها بالجان من حيث الجلادة وسرعة الحركة في قوله تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}. ولا منافاة بينهما، فإِن الجان ضرب قَويُّ من الحيات. 21 - {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ... } الآية. لما انقلبت العصا، بقدرة الله تعالى ثعبانًا يمشي مسرعًا مضطربًا، خاف عليه السلام ونفر وملكه ما يملك البشر عند مشاهدة الأهوال والمخاوف، فثبته ربه وقال له: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} ثم زاده طمأنينة فقال له: {سَنُعِيدُهَا}: أي نرجعها إِلى حالها الأُولى، التي كانت عليها. وفي الآية عِدَة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السلام هي إِعادة العصا إلى هيئتها الأُولى، وإِيذان بأنها مسخرة له، لئلا تعتريه شائبة زلزلة عند مجابهة السحرة. {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 32.

المفردات: {إِلَى جَنَاحِكَ}: أي إِلى جنبك، وأصل الجناح للطائر، ثم أُطلق على اليد والعضد والجنب، وهو المراد هنا. {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: أي من غير قبح ولا عيب، وهو هنا كناية عن البرص. {إِنَّهُ طَغَى}: أي تجاوز الحد في عتوه وجبروته. {اشْرَحْ لِي صَدْرِي}: وسِّع لي صدرى. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}: أي سهل لي ما أمرتنى به، {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}: أَي فك حبسة من لسانى. {وَزِيرًا}: معاونًا من الوزَرِ بمعنى الحمل الثقيل، أو ملجأ أعتصم برأيه من الوَزَرِ، وأصله الجبل يتحصن به، ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا. {أَزْرِي}: أي قُوَّتى، يقال آزره .. أي قواه وأعانه، أو ظهرى. التفسير 22 - {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}: بعد أَن ذكر الله العصا آية موسى الأولى وبرهانه على نبوته، قفَّى عليها بذكر الآية الثانية وهى خروج يده بيضاء من غير سوءٍ من تحت إِبطه. والمعنى: وادخل يدك في طوق قميصك، واجعلها إِلى جنبك تحت إبطك، ثم أَخرجها تخرج بيضاءَ من غير قبح ولا عيب، نجعلها لك آية أخرى على نبوتك، وكان موسى عليه السلام أَسمر اللون، فإذا وضع يده تحت إبطه خرجت بيضاء مخالفة للونه الأسمر، وكانت في بباضها تشعُّ نورًا مضيئًا كما روى عن ابن عباس. 23 - {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى}: أي افعل ما أَمرناك به من إلقاء العصا، وضم اليد إِلى الجناح، لنجعلك مبصرا بعض آياتنا العظمى التي لا عهد لك ولا لغيرك بمثلها، والتى هي شاهدة على عظيم سُلْطَانِنَا، وكامل قدرتنا، وأَنك مرسل منا.

24 - {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}: انتقل النسق القرآنى بهذه الآية الكريمة من المقدمات السابقة، إلى المقصود منها. والمعنى: اذهب إلى ملك مصر وادعه إلى الاستقامة على طريق الحق والعدل، فإنه جاوز الحد في التجبر والطغيان، حيث ادَّعى الأُلوهية، وبغى على الرعية. وحينما كلف الله موسي بهذا الأمر الخطير، تضرع التي الله عزَّ وجلَّ مستعينًا به كما حكاه الله بقوله: 25، 26 - {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}: قال موسى متضرعًا إلى الله: رب وسع لي صدرى، فلا يضيق بكبرياء فرعون وجبروته، ومشقة دعوته ودعوة قومه الذين يعبدونه، واجعله في سعته مقبلًا على هذا الأَمر الجلل، مستريحًا لأدائه، وسهل لي أمرى الذي كلفتنى به بقوة العزيمة، والصبر والاحتمال، وتوفيقي إلى أحسن الأداء، ومعرفة شئون الحق وأحوال الخلق، لأصل بدعوتك إلى قلوبهم. 27 - {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي}: واجعل لساني حين تبليغ الرسالة إلى فرعون طليقًا غير معقَّد ولا حبيس، حتى ينطلق في تبليغه ما تأمرنى به، وتكون عباراتي واضحة لكي يفهموا قولى، ويتأثروا بحسن أدائى. وهذه العقدة التي في لسانه لم نجد في السنة النبوية بيانًا أو سببًا لها، وقد تكلم فيها المفسرون، فنقل ابن كثير عن ابن عباس أنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح عنه لسانه، ولم يرد في هذا الخبر بيان سبب هذه العقدة. وذكر الآلوسى: أنه كان في لسانه رُتَّةُ (¬1) من جمرة أدخلها فمه وهو صغير، وذكر كذلك قصة طويلة مشهورة على ألسنة الناس، وقيل غير ذلك، والله أعلم بصحة ما ذكروه، ويبدو لنا من سكوت السنة النبوية عن بيان هذه العقدة وأسبابها، أنها عقدة يخشى أَن تحدث له عند لقائه فرعون لتبليغه أنه ليس بإله، وأن لَا إله إلاَّ الله رب السماوات والأرض، في ¬

_ (¬1) الرتّة: العجمة في اللسان.

حين أَنه قتل منهم قتيلًا، وأنهم كانوا يأْتمرون به ليقتلوه، فلهذا سأل ربه أنا يشرح له صدره وييسر له أمره، ويطلق لسانه فلا يتلعثم ولا ينعقد عن تبليغ أَمر ربه، وأن يشد أزره بأخيه هارون ليصدقه ويعاونه. ولا يقتضي وصفه له بأَنه أفصح منه لسانًا، أن يكون لدى موسى رتة ولثغة في لسانه كما قيل، فربما كان مقصوده من ذلك أنه لا توجد لدى هارون أسباب يخشى أَن تحبس لسانه، كالأسباب التي لديه، على أَنه لو فرضت زيادة هارون عليه في الفصاحة، فإِن ذلك لا يقتضي وجود عيب في لسانه، فهو فصيح وأَخوه هارون أَفصح منه، والله تعالى أعلم. 29، 30 - {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي}: أي واجعل لي موازرًا ومعينًا من أهلى أَقرب الناس إلَيِّ، وهو هارون آخى، ليحمل معى أَعباءَ الرسالة، من الوِزْر بكسر الواو وسكون الزاى، بمعنى الحمل، ويجوز أن يكون المعنى: واجعل لي هارون أَخى ملجأ أَلجأُ إليه وأَعتصم به عند الشدائد، والمكاره، من الوَزَر بفتح الواو والزاى، بمعنى الملجأ. 31، 32 - {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}: يطلق الأزر في اللغة على القوة وعلى الظهْر، فعلى الأول يكون المعنى: احكم يا رب بأخى هارون قوتى، وأَشركه يا مولاى في تبليغ رسالتى، وعلى الثاني، يكون المعنى: أشدد به ظهرى وأَشركه فيما ذكر من أَمرى. والمقصود من هذا الدعاءِ، أن يجعلهما الله تعالى متعاونين في تبليغ الرسالة إلى فرعون وقومه، وإِلى بني إسرائيل، أَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنه قال في قوله تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}: - نُبِّىء هارون ساعتئِذ - حين نبِّىءَ موسى عليه السلام. أَي أَنه نُبيءَ هارونُ بدعوة أَخيه موسى في وقت مكالمة الله الذي امتد حتى بشره ربه بإجابة دعائه كله كما سيأْتى، فلهذا قال ابن عباس - نُبيءَ هارون حين نُبِّىءَ موسى، أَي أَنه نبىء في وقت المكالمة الذي كان موسي فيه قد نبىءَ، ثم ختم موسى عليه السلام دعاءه بما حكاه الله بقوله:

33، 34، 35 - {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}: أَي اجعل هارون أَخى وزيرا لى، ونبيا ورسولا معى، لكي ننزهك كثيرا يا رب عما لا يليق بك من الصفات، كالشريك والنَّظير، والوالد والولد، ونرد ما يزعمه فرعون من أُلوهيته، وغير ذلك مما تتنزَّه عنه ساحة أُلوهيَّتك، يا إِله العالمين ولكى نذكرك ونثنى عليك بما أنت أَهله ذكرًا وثناءً كثيرا، إِنك كنت يا ربنا ولا تزال بصيرا بنا، في سائر أحوالنا، عليما خبيرًا بنياتنا وأُمورنا منذ خلقتنا، ومن ذلك إيماننا بك وحدك وعبادتك دون سواك بين قوم مشركين، فلعلَّ ذلك يجعلنا أَهلًا لاستجابة دعائي يا إلهى. قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائِما وقاعدا، ومضطجعًا. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} المفردات: {سُؤْلَكَ}: أي سؤَالك، والمقصود منه مطلوبه الذي سأَل ربه.

{مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}: أَنعمنا عليك في وقت آخر بنعم غير هذه النعمة وسيأْتي بعض تفصيلها: {أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ}: ألهمناها كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: ولتربَّى تربية حسنة بعنايتى وعلمى، تقول: صنعت الفرس وأَصنعته: أحسنت رعايته والقيام بشئونه. {يَكْفُلُهُ}: يرعاه ويعنى بتربيته. {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ}: فأنقذناك من الكرب بسبب قتلك القبطى من شيعة فرعون. {مَدْيَنَ}: بلدة شعيب صهر موسى. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}: جئت على موعد مقدَّرٍ لإرسالك إلى فرعون. {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}: اخترتك لرسالتي من الاصطناع بمعنى الاستخلاص، أو خلقتك لها. من الصنعة. التفسير 36 - {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}: أي قال الله لموسى بعد أن دعاه، قد حققنا لك ما سألت، وأجبناك لما التمست، فسنشرح لك صدرك، ونيسّر لك أمرك، ونطلق لك لسانك، فلا تتهيب المواقف فيحتبس عن قول الحق، وسنؤزرك بنبوة أخيك هارون ورسالته، فأقبل على ما كلفناك به في حفظنا ورعايتنا وكفالَتنا، ثم زاده الله اطمئنانا على رعايته له في مهمته فقال: 37 - {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}: أَي وبالله فقد أنعمنا عليك من غير دعاء منك، أَنعمنا عليك مرة أخرى في وقت سابق لم تكن فيه نبيًّا ولا رسولًا، فكيف لا ننعم عليك بما طلبته منا وقد اتخذناك نبيًّا ورسولًا، ولقد بدأ الله هذا الامتنان بالقسم اعتناءٌ به، وبالمقصود منه، ثم عقَّب الله هذا الامتنان المجمل بتفصيله فقال: 38 - {إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ... }: الإيحاءُ هنا ... بمعنى الإلهام. كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي ألهمها - أما الإيحاءُ عن طريق الملك .. فخاص بالأنبياء .. ولا نبوة للنساء. فضلا عن

النحل - وهل كان هذا الإلهام في اليقظة أم كان في المنام؟ والذي يظهر لنا أنه في اليقظة، لأن الذي يكون في النوم يعبر عنه في عرف القرآن بالرؤْيا، كما في قوله تعالى -: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد كان هذا الإلهام قويا مقنعًا، فلهذا لم تَتَرَدَّد في تنفيذه، ولهذا شبهه الله بما يوحى للأَنبياء، في قوة الاقتناع به، والطمأْنينة له. والمعنى على هذا - ولقد ألهمنا أُمك في شأْنك تدبيرًا اقتنعت به تمامًا، لأنه كان مؤكدًا في نفسها تأْكيد ما يوحى إلى الأنبياء، فإن الأرواح قد تصل من الصفاء والشفافية إِلى ما يجعلها تتحقق من صدق إلهامها كأنها تشاهده على الحقيقة، وعن ذلك أن سارية كان قائدا في إحدى المعارك النائية، فأَحسّ عمر بن الخطاب بأَنه في مأزق حرج، فناداه وهو على منبره بالمدينة - يا سارية الجبل، فسمعه سارية فلجأَ برُمَاته إِلي الجبل، فانتصر على عدوه، ولما رجع من المعركة حدث الناس بذلك وفي مثل هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ أمَّتى مُحَدِّثِينَ". 39 - {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ... } الآية. هذه الآية مفسّرة لما أَوحاه الله إلى أمِّ موسى، وكان قد ولد في السنة التي كان فرعون يقتل فيها مواليد بني إسرائيل من الذكور، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬1). وقيل في سبب ذلك: إن فرعون خاف أَن يذهب ملكه على يد مولود من بني إِسرائيل، يولد في هذا العام كما رآه في منامه، فأمر بقتل كل ذكر يولد منهم فيه - {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ولهذا لم يُقْدِر فرعونَ تدبيرُه في دفع ما قدره الله عليه، إذ لا يُغنى حَذرٌ مِنْ قَدرٍ. والمعنى: إذ أَوحينا إلى أُمك يا موسى أَن ضعيه في صندوق محكم الصنع بحيث لا يدخله ماءٌ، فاطرحيه في البحر - وهو النِّيل - يلقيه البحر بساحل فرعون. ولما كان إلقاءُ البحر للتابوت بالساحل أمرا واجب الوقوع، لتعلق إرادة الله به، جُعل البحر في النص الكريم كأنه مأْمور بذلك (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 49 (¬2) على سبيل الاستعارة بالكن

{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ}: المراد بهذا العدو فرعون، وقد نفذت أم موسى ما أُلهمت به فاتخذت تابوتا محكما. ووضعت فيه موسى وألقته في النيل، وكان يذهب منه فرع إِلى بستان فرعون - كما قيل - فرأى آل فرعون التابوت فالتقطوه وفتحوه فوجدوا فيه صبيا أَصْبَحَ الوجه، فأَحبه عدوُّ الله حبًّا شديدًا بحيث لا يمالك أَن يصبر عنه، وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: والمعنى: أَي وأَنزلت عليك محبة مني، إذ أَحببتك وجعلت من يرونك يحبُّونك، فأَحبك فرعون وأنزلك منه منزلة الولد، وأَحبك أَهله وحاشيته، وفعلْتُ ذلك لكي تربَّى وتنشأَ لديه، وفي منزله في رعايتى وحفظى، تلحظك عين عنايتى، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أَحبه الله وحببه إِلى خلقه، وقال في تفسير قوله سبحانه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: يريد أَن تدبير أَمرك بعينى، أَي بعلمى ومشيئتى، حيث جُعِلْتَ في التابوت، وحيث أُلقى التابوت في البحر، وحيث التقطتك جوارى امرأَة فرعون، فذهب بالتابوت إِليها مغلقًا، فلما فتحته رأَت صبيًا لم يُر مثله قطُّ، وأَلقى عيها محبته، فدخلت به على فرعون، وقالت له: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} انتهى باختصار وتصرف (¬1). وقال ابن عطية: جُعِلَتْ عليه مَسْحَةُ جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، وقال النحاس في تفسير {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ولكى يفعل بك الصنيعة - أي الإِحسان - بحيث تربَّى بِالْحُنُوِّ والشفقة، وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشيءَ بعينه، إِذا اعتنى به - يريد أن في الكلام استعارة بالكناية - فليس لله عين كعيوننا، فهو منزه عن مشابهة الحوادث، ولكنها عين العناية والرعاية الصمدانية. 40 - {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ... } الآية. لما قذفت أم موسى وليدها في اليمِّ، صار فؤَادها فارغا من الصبر لفراقه، فقالت لأُخته: قُصِّيه وتعرفى خبره، وكانت امرأَة فرعون قد طلبت له المراضع، فكلما عرض على مرضع ¬

_ (¬1) انظره مطولًا في القر

أَبي أن يرتضع منها، حيث حرم الله عليه المراضع، وكانت أخته تمشى بجوار النيل ترقب مصيره، فبصرت به عن بعد وهم لا يشعرون بأَنها ترقبه، فلما علمت مصيره ورأتهم يطلبون له المراضع، استأذنت من أَجله فأَذنوا لها: فأخذته ووضعته في حجرها، وناولته ثديها فمصه وفرح به، كما روى عن ابن عباس، فعرضوا عليها أَن تقيم عندهم، فقالت إنه ليس لي لبن، ولكن هل أَدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا ومن هي؟ قالت: أمى، فقالوا: أَلها لبن؟ قالت: نعم. من أَخى هارون - وكان قد ولد قبل موسى - ولم يكن قد بدأ القتل في مواليد بني إِسرائيل المذكور فوافقوا على إِرضاعها إياه، فعادت فأَخبرتها، فلما جاءَته تقبل ثديها وارتضع منها، تلك خلاصة ما روى عن ابن عباس في قصة عودته إلى أُمه. والمعنى: واذكر يا موسى حين كانت أُختك تمشى على الساحل لتعرف مصيرك، فعرفت أَنك انتهيت إِلى دار فرعون، وأَنهم بحاجة إِلى مرضع، فقالت لهم: هل أَدلكم على موضع تتكفل برضاعه؟ فوافقوا. {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}: أي فرددناك إِليها لترضعك، وأَنت مكرم في بيت فرعون لكي تستقر عينها، فلا تكون زائغة أو متحركة تنظر هنا وهناك، باحثة عن مصيرك، أَو مشفقة من شدة الحيرة علي فَقْدك. ويجوز أَن تكون قرة عينها كناية عن فرحها، يقولون: قَرَّت العين إِذا بَرَدَتْ عند السرور، وللسرور دمعة بارِدة، وللْحزن دمعة ساخنة (¬1). {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}: لا يزال الكلام مفصلًا في بيان نعم الله على موسى قبل أَن يشرفه بالنبوة والرسالة، والنفس التي قتلها موسى نفس قبطيٍّ كان يقتتل مع رجل من بني إِسرائيل، فاستعانه الإِسرائيلى ¬

_ (¬1) وعلى هذا يكون تقديم عبارة الفرح على معنى الحزن من باب تقديم التحلية علي التخلية كما يقول علماء البلاغة وإن كان العكس هو الغالب.

الذي هو من شيعته على القبطى الذي هو عدوه، وكان القبطى باغيًا على الإِسرائيلى متشبثًا به، فلما لم يرضخ لوساطة موسى بينهما، وكزهُ بيده، أَي ضربه أَو دفعه، فقضى عليه، ولم يكن موسى يقصد قتله، بل تأْديبه، ولعله كان به مرض قلبى لم يحتمل معه تلك الوكزة، فمات منها أَو عندها، وقد جاءَ في الصحيحين أَن قتله كان خطأ ولم يكن عمدًا. والمعنى: وقتلت رجلا من أَقباط مصر على سبيل الخطإِ، حيث كان باغيا على رجل من بني إِسرائيل، فضربته فمات، فأَصابك الغم والحزن بسبب قتله، لما يترتب عليه من غضب فرعون عليك، أو اقتصاصه منك، وخشية أَن نغضب نحن عليك من أَجل قتله، فنجَّيناك من هذا الغم بغفران ما حدث منك بعد ما قلت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ونجيناك من نقمة فرعون بالهجرة إِلى مدين، وابتليناك بالشدائد ابتلاءً شديدًا وأَنت في طريقك إِلى مدين، فرارًا من نقمة عدوك لتعتاد الشدائد والصبر عليها تمهيدًا لتحصل أَعباءِ الرسالةِ. 40، 41 - {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}: أَي ثم جئت من مدين على الموعد الذي قدَّرت إِرسالك فيه، واخترتك لوحى رسالتى. {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} المفردت: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}: ولا تفْتُرا في تبليغ رسالتي، تقول وَنَيْتُ في الأَمر أني فيه ونَّى وونْيًا، أَي تباطأت وفترت فيه، ويطلق الونْى أَيضا على الضعف، والكلال، والإعياء. {إِنَّهُ طَغَى}: إِنه تجاوز الحد في الظلم والجبروت والغرور.

{يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: يتعظ أو يخاف. {يَفْرُطَ عَلَيْنَا}: يعجل ويقابلنا بالقول الغليظ علينا يقال: فرط مني أمرٌ، أي بدر، منه الفارط في الماءِ، الذي يتقدم القوم إلى الماءِ، {أَسْمَعُ وَأَرَى}: لا تخفى عليَّ خافية من أَمركما. التفسير 42 - {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا في ذِكْرِي}: هذه الآية مستأنفة، لبيان المقصود من اصطناع الله لموسى، والمراد بالآيات هنا العصا واليد؛ لأنهما الآيتان اللتان ذهب بها موسى وهارون أولًا إلى فرعون، بدليل أن موسى لما كلمه الله في طور سيناء، أمره سبحانه أن يلقى عصاه فأَلقاها، فصارت حية، وأَن ينزع يده من جيبه فنزعها فصارت بيضاءَ - لمَّا حدث ذلك - قال الله لموسى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (¬1) والتعبير عن هاتين الآيتين بصيغة الجمع في قوله سبحانه: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} إما لأَن المراد من الجمع ما فوق الواحد، وإما لأن كل آية منهما تشتمل على آيات، فانقلاب العصا حيوانا آية، وكونها ثعبانًا عظيمًا لا يقادر قدره آية أخرى، وكونه مسخَّرًا لموسى بحيث لا يضرّه آية ثالثة، وعودته بعد ذلك عصا آية رابعة، وكذلك اليد، فإن تحولها من السُّمرة إلى البياض آية، وكون بياضها مُؤَقَّتًا آية ثانية، وعودتها إلى حالتها الأُولى برغبته آية ثالثة. وأما القول بأن المراد بها الآيات التسع فلا يناسب المقام. ومعنى الآية: اذهب أَنت يا موسى وليذهب معك أخوك هارون بآياتى ومعجزاتى الدالة على أَنكما مرسلان مني، ولا تتباطئا أَو تفترا في تبليغ رسالتى والدعاء إلى عبادتى، وقيل: معناه تذكَّرانى ولا تنسياني واستمدَّا العون والتأْييد مني، فإنه لا يتم أَمركما بغير تأييدى، وعقب الله هذا الأَمر المجمل ببيان من يذهبان إِليه والمقصود من إرساله وطريقة أدائهما الرسالة فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية: 32

43، 44 - {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: لم يكن هرون مع موسى وقت مكالمة ربه، فقد كان موسى عائدًا من (مَدْيَنَ) بعد هجرته إِليها عشر سنين عقب قتله القبطي، وكان هارون مقيمًا بمصر، حيث لم يحدث منه ما يقتضي تركه لها، كما حدث لموسى، والأَمر موجّه إِليهما مع أَن هارون غير موجود في ساحة الخطاب، على سبيل تغليب الحاضر على الغائب، ولأَن هارون سوف يصدق أَخاه حين يبلغه أمر ربه بإِشراكه معه في الرسالة إلى فرعون، فلهذا جُعل في حكم الحاضر المخاطب. وروى أن هارون أُوحي إِليه بمصر، أَن يتلقى أخاه، وقيل: بل أُلهم ذلك، وقيل: سمع بإِقباله فتلقاه، وعلى أَي حال فقد التقى موسى بأخيه هارون، وعرف أن الله أرسله وأَشركه مع موسى في تبليغ رسالة ربه. والمعنى: اذهب يا موسى أنت وهارون أَخوك مصحوبَيْن بآياتى، إلى فرعون ملك مصر، فِإنه جاوز الحدَّ في ظلم الخلق، وفي الغرور حيث ادعى الألوهية، فادعواه إِلى الإيمان بى وترك الطغيان على عبادى، واستعملا أسلوب اللِّين في دعوتكما إِياه إلى الهدى وترك الطغيان لعله بهذا الأسلوب اللين البعيد عن الخشونة يتذكر عظمة الله وآياته، ويمعن في التأمل فيها، أَو يخاف سوءَ المصير الذي ينتهى إليه أَهل الطغيان، فيؤمن بربه، وينتهى عن غروره وطغيانه. ولفظ: (لَعَلَّ) يستعمل للرجاء وللتعليل، فِإن أُريد منها الرجاءُ هنا، فالرجاءُ يكون من موسى وهارون. والمعنى على هذا: فقولا لفرعون قولًا ليِّنًا ترجوان بهذا اللين أَن يتعظ أو يخاف سوءَ المصير فيؤْمن، ولا يصح أَن يكون الرجاءُ من الله، لأنه تعالى يعلم قديمًا من غرور فرعون إصراره على الكفر والطغيان، وأنه بعيد عن التذكرة والخشية، ولكنه أرسلهما إليه ليقيما الحجة عليه، وإن أُريد من لعل التعليل. فالمعنى: لكي يتعظ أَو يخاف. وقد استنبط من الآية أَن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينبغي أَن يكون بأُسلوب لين لا خشونة فيه، لكي يتأَثر باللين من تدعوه إلى الخير، فإن الخشونة في الدعوة تأْتى بعكس المقصود، قال تعالى لرسوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِ

وإِذا كان اللين مطلوبًا من صاحب الرسالة المؤيَّد من الله تعالى، فإنه يكون مطلوبًا من غيره بطريق الأَولى. 45 - {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}: هذا استئناف مبين لما أَجابَا به ربهما بعد أن كلفهما بدعوة فرعون باللين إِلى ترك ما هو عليه، وهذا القول كان وقت مناجاة موسى لربه، فهو من موسى وحده، وإِسناده إِليهما حينئذ على سبيل التغليب، لأَن هارون سوف يخاف من طغيان فرعون إذا بلغه من أَمر الرسالة ما لا يحبُّه، فكأنه مشارك موسى في هذا المقال، فأُسند إليه مع أَخيه، ويجوز أن يكون هذا القول قد حدث منهما معا بعد أن التقى موسى بهارون في مصر وأَخبره بما كلفا به من قبل الله تعالى. والمعنى: قال موسى وهارون: ربنا ومالِك أَمرنا إِننا نخاف إِن بلغنا رسالتك إلى فرعون أَن يبادرنا بقول غليظ، ويجابهنا قبل أَن نقيم له الحجة ونظهر له المعجزة، أَو أَن يطغى، ويجاوز الحد فيعاقبنا أَو يقتلنا. 46 - {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}: أَي قال الله مطمئنًا لهما، بعد أَن أَظهرا له خوفهما من فرعون - لا تخافَا منه ولا من قومه إِننى معكما بالحفظ والنصرة والحماية، أسمع وأَرى ما يدور حولكما، فلن أُمكنه منكما، ثم حضهما على التوجه برسالته سبحانه إلى فرعون فقال:

{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} المفردات: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: المقصود بإرسالهم إطلاقهم من الأسر كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى. {والسَّلَامُ علَى من اتَّبَعَ الهُدَى): أي والأمان من عقاب الله لمن أتبع الهدى الذي أَرسلَنا به. التفسير 47 - {فأِتيَاهُ فَقُولَاَ إنا رَسُولَا رَبِّكَ فَأرْسِل مَعَنَا بَنِى إسْرَآئِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ}: نرى في هذا النص الكريم أن الله تعالى كلف موسى وهارون أَن يطلبا من فرعون في أَول لقاء بينهما أن يرسل بنى إسرائيل معهما، ولم يكلفهما بمطالبته بالإيمان بربه سبحانه، في حين أن سورة النازعات تدل على أَنهما كلفا بأن يهدياه أَولًا إلى معرفة ربه، فقد جاءَ فيها قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وجمعًا بين النصين نقول: إن الله كلفهما بالأَمرين جميعًا، وإنهما تدرجا معه، فطلبا منه إِرسال بنى إسرائيل وإطلاقهم من الأسر، ورفع التعذيب والقتل عنهم، قبل أن يطلبا منه تبديل اعتقاده، فإن الأَول أَسهل عليه من الثاني. والمراد من إِرسال بنى إسرائيل معهما تخليص الأُسارى منهم، وإخراجهم من تحت جبروته، وليس المقصود التصريح لهم بالتوجه معهما إلى الشام، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذه الجملة: "وَلَا تُعَذِّبْهُمْ" أي لا تعذبهم بإِبقائهم في السجون والتسخير، فقد كان هو وقومه يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الأحجار، ومن عصاهم عذبوه وسجنوه.

والمعنى: فاذهب يا موسى أَنت وأخوك هارون إِلى فرعون، فقولا له: إِننا مرسلون من الخالق الذي أَنشأَك ورباك، فأَطلق سراح بنى إسرائيل من السجن ومن السُّخرة، ولا تعذبهم بأَى نوع من أنواع التعذيب الذي تمارسه أنت والقبط في إذلالهم. {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}: أَي وقد جئناك بحجة من ربك، على أننا مرسلون من قبله، ولسنا مفترين على الله، بدعوى إِرساله إِيانا إليك، والسلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع الهدى الذي أَرسلنا الله به، وليس السلام هنا بمعنى التحية، لأنه ليس في ابتداء كلامهم كما هي العادة في التحية، بل هو بمعنى الأمان لترغيبه في حسن العاقبة. ولو جاءَ هذا السلام أول الكلام لتحيته منهما، لما كان مناسبًا لما أَوصاهما الله به، من أن يقولا له قولًا ليِّنًا لعله يتذكر أَو يخشى، فإِن مفاجأَته بأَنه لا تحية له، لأنها لأَهل الهدى وهو ليس منهم، تعتبر مفاجأَة خشنة منفِّرة يقولانها بين يديه غير عابثين بمنصبه في قومه، وَتَمْنَعُهُ من أن يتذكر أَو يخشى، وتخالف اللين المطلوب منهما في محادثته، ولأَنه يعتبرهما من رعيته، وقد نشآ في نعمته وتحت سلطانه، وقال أَبو حيان: الظاهر أَن قوله تعالى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} فصل للكلام، والسلام فيه بمعنى التحية، وجاءَ ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول، إِلَّا أَنهما عليهما السلام رغبا بذلك عن فرعون، وخصَّا به متبعى الهدى، ترغيبًا له بالانتظام في سلكهم: اهـ. والصواب ما قلناه أَولًا، من أَن السلام هنا بمعنى الأَمان، وقد جاءَ في وسط كلامهما مع فرعون وليس في آخره، فقد قالا له عقب ذلك: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكأنما قالا له: والأَمان على من اتبع الهدى الذي جئناك به، لأن العذاب على من كفر به وتولى عنه. فإن قيل إِن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأَ خطابه لعظيم الروم بتحيته على هذا النحو حيث قال له - كما جاءَ في الصحيحين: "من محمد رسوك الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام علي من اتبع الهدى" فلماذا لم يؤمر موسى وهارون بمثل ذلك؟ فالجواب: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم

إنما يفعل ذلك مع هرقل في منزلة من العزة والمنعة، لم يكن فيها موسى وهارون كما تقدم بيانه، فلذا أَوصاهما الله تعالى بملاينته على النحو الذي جاءَ في النص الكريم. 48 - {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}: أي وقولا لفرعون أَيضًا: إنا قد أَوحى الله إلينا أن العذاب في الدنيا والآخرة على من كذبنا، وأَعرض عما جئنا به من وحى ربنا. {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} المفردات: (خَلْقَهُ): ما خلقه عليه من المادة والصورة والوظائف المختلفة. (ثُمَّ هَدَى): ثم أرشد ما خلقه لما يصلحه. (فَمَا بَالُ الْقُرُون الْأُولَى): أي فما شأْن أَهل القرون السابقة وما حالهم. (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ) (¬1): المراد بالكتاب هنا علم الله تعالى، وقيل اللوح المحفوظ، وقيل صحف الأَعمال. (لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى): أَي لا يغيب سبحانه عن شيءٍ يحدث فيفوته علمه، ولا ينسى شيئًا علمه جل وعلا، والجملة مستأْنفة لتأْكيد علم الله بأَحوال القرون الماضية، أَو لتعليل علمه بها. التفسير 49 - {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}: جاءَ في الآيات السابقة أَنه تعالى أمر موسى وهارون بالتوجه إلى فرعون وإِخباره أَنهما رسولان من ربه، وأَن يطلبا منه رفع العذاب عن بنى إِسرائيل، ويخبراه أَن السلام على من اتبع الهدى، والعذاب على من كذب وتولى. ¬

_ (¬1) (عند ربي) خبر أول لقوله (علمها) و (في كتاب) خبر ثان له. وقيل هما خبر واحد مثل: الرمان حلو حامض، وقيل (في كتاب) هو الخبر، و (عند ربي) حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور.

وقد جاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان ما حدث من فرعون بعد لقائهما إياه وتبليغه ما أُمرا بتبليغه إليه. ولم تتحدث الآيات عن أَنهما توجها إليه وأَبلغاه، اكتفاءً ببيان موقفه من رسالتهما، فإِن ذلك يؤْذن بأَنهما توجها إليه وأَبلغاه فبدأ يناقشهما فيما جاءاه به. وأَول ما بدأَ به مناقشته أَن قال: (فَمَن رَّبُّكَما يَامُوسى) فأضاف الربوبية إليهما ولم يضفها إلى نفسه مع أَنهما أَفهماه أنهما رسولان من ربه الذي هو ربُّهما، لأنه لا يريد الاعتراف بربوبية غيره، ولعل فرعون اختص موسى بهذا السؤَال مع أن هارون كان معه، لأن موسى هو الذي قام بتبليغه، وإِلى جانبه هارون يؤيده، ويحتمل أَن يكون للتعريض بأَنه ربه، كما قال: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا) فكأَنه يقول له: فمن ربكما يا مَنْ كنتُ لك مُربِّيا، وجئتَ تنزع الربوبية منى. وعلى أَي حال فالمعنى إِذًا: إذا كنتما رسوليْ ربكما الذي أَرسلكما فأخبرانى من ربكما الذي تدعونى إلى الإِيمان به يا موسى. 50 - {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}: أَي قال موسى جوابًا لفرعون: ربُّنا يعْرَفُ بصفاته، ولا يدرك بذاته، فهو الذي أَعطى كل شيءٍ ما خلقه عليه من المادة والصورة والوظيفة، وأعطاه ما يحقق به ما خلق له، وهداه إلى تحقيقه، فقد أَعطى العين الصورة التي تطابق الإِبصار، وأمدها بالقوة التي تبصر بها وأَعطى الأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وأَمدها بالقوة التي تستمع بها، وكذلك الأنف واليد والرجل وغيرها، أعطاها الله خلقها اللائق بها والمناسب لوظيفتها، وأمدها بالقوة التي تحقق ما خلقت لأَجله، وهداها لتحقيقها، ومثل ذلك يقال في الحيوان والنبات، بل وفي الجماد أَيضًا، فالعلم من آن لآخر يكشف لنا عن عجائب الكون وإِنك لترى في الذرَّة وتكوينها وخصائصها ما يحيِّر العقول، فكيف بغيرها من ملكوت الله.!! 51 - {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}: لما وضح الحق في جانب موسى، خاف فرعون أَن يتأثر الناس بما قاله موسى، فيكفوا عن القول بأُلوهيته، والاندماج في عبوديته، فلهذا وجه إِليه سؤالا يريد أن يحرجه به،

ويظهر ضعفه أَمام سامعيه، فقال له: إِن كنت رسولًا يا موسى فأَخبرْنى: ما حال أهل القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث مفصلة؟ ولما كان موسى عليه السلام خالى الذهن عنها حين سؤاله، أَجابه بما حكاه الله بقوله: 52 - {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}: أي قال موسى: - ردًّا على فرعون -، علم أَحوال القرون الماضية يختص به ربِّى الذي أرسلنى وما أنا إلا عبد له تعالى، فلا علم لى إلا بما أَخبرنى من شئون الرسالة، وقد بلغ من علم الله أَنه تعالى لا يضل ولا يغيب عنه شيء في الوجود، فلا يفوته علم شيءٍ منه ابتداءً، ولا ينسى معلومًا دخل دائرة علمه، فقد أحصى وأحاط بكل شيءٍ علمًا أَزلا وأَبدًا. والمراد بالكتاب على هذا الوجه، علم الله تعالى، تمثيلا لثبوت معلوماته سبحانه، وتقرّرها وتمكنه منها، بما استحفظه العالم وقيده في كتابه، تقريبًا للأَذهان، لأَن علم الله بها أَقوى وأثبت مما حوته كتب الكاتبين، ولكون المراد ما ذكر، عقبه بقوله: (لاَ يَضِلُّ رَبِّى ولاَ يَنسَى) وقيل: المراد به اللوح المحفوظ، والصواب ما قلناه لأنه هو المناسب للمقام - والله أعلم. وقيل: إنما سأله عن إحصاء أعمال القرون الأولى وجزائها، فأَخبره بأنها محفوظة عند الله في كتاب، وسيجازيهم عليها في الآخرة، إِن خيرًا فخير، وإِن شرًّا فشر، ولعل المراد بالكتاب على هذا الوجه، هو السجل الذي يكتب فيه الملك أَعمال المكلف، ويحصِيها عليه، كما جاءَ في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1). وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة ق، الآية: 18 (¬2) سورة الإسراء، الآية: 13

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} المفردات: (مَهْدًا): أي مبسوطة مذَلَّلة، وهو في الأصل مصدر مَهَد الأرض أو الفراش أَي بسطه ويسّره. وفعله من باب فتح يفتح ثم أَطلق المهد على كل ما يبسط ويمهد، وغلب على فراش الصبى. (سُبُلًا): جمع سبيل وهو الطريق. (أَزْواجًا): أي أصنافًا ونظائر متشابهة وأطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض، أَو لأن بعضها ذكر والآخر أُنثى (نَبَاتٍ شَتَّى): أَي متفرق؛ جمع شتيت، من شتَّ الأمر أَي تفرق، وأَلفه للتأْنيث. (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ): أَي سرحوها وأَطعموها من المرعى وهو مكان الكلإِ والعشب. والأَنعام الماشية التي ترعى، وهى تذكر وتؤَنث، وأكثر ما تطلق على الإِبل، ومفردها نَعَم بفتحتين وهو مذكر دائمًا، كما قال الفراءُ يقولون هذا نَعم - انظر المختار. (لِأُولِي النُّهَى): أَصحاب العقول السديدة، وقيل لهم ذلك لأَنهم يُنتهى إلى رأْيهم، أَوْ ينْهَوْنَ أَنفسهم، ومفرده نُهْيةٌ. بضم فسكون. التفسير 53 - {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... } الآية. هذا الكلام إما أَن يكون بقية ما أَبلغه موسى لفرعون عن الله تعالى (¬1)، وإما أَن يكون كلام موسى قد تم، عند قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} وابتدأَ الكلام منه سبحانه لتعداد نعمه على عباده. ¬

_ (¬1) وعلى هذا يكون لفظ (الذي) وصفا لربى. أو خبرًا لمبتدأ محذوف، أما علي الوجه الآتى فيكون خبرأ لمبتدأ محذوف فحسب.

وعلى الأَول يكون المعنى: لا يضل رَبى عن أَحوال القرون الماضية ولا ينساها، ربي الذي الذي جعل لكم الأَرض مُمهدة كمهد الصبى، مبسوطة بحيث تستطيعون التقَلُّب فيها، والاستقرار عليها، والانتفاع بها، وفتح لكم فيما بين وِهادِها وجبالها ووديانها سبلا وطرقا، تسلكونها من بلد إِلى بلد، ومن قطر إِلى قطر، لتستكملوا منافعكم، وتحققوا مآربكم، مما يكون متيسرًا لدى غيركم، ومفقودًا أَو قليلا عندكم. وعلى الثاني يكون المعنى: هو الله الذي أَنعم عليكم بنعمه العظيمة، حيث جعل لكم الأَرض مبسوطة كمهد الصبى، وفتح لكم فيما بينها طرقا .. الخ. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}: إِما أَن يراد من السماء السحاب، وإِما أن يراد ما فوقها، فعلى الأَول يكون قد عبّر بالسماءِ عن السحاب، لأَن كل ما علاك سماءٌ، ونزول الماء من السحاب أَمر واضح لا ريب فيه، وعلى الثاني يكون إنزاله من السماء بمعنى إنزاله بسببها، فإن السحاب يتكون من بخار الماء الناشيء عن حرارة الشمس المسلطة على المحيطات والبحيرات، والأرض المرويَّة، وفيما يلى معنى الآية على الوجهين معًا: المعنى: وهو الذي أَنزل من السحاب أَو بسبب الشمس التي هي في السماءِ، أَنزل ماءً بقدر معلوم، بحيث لا يضر مصلحة البشر، فيغرقهم، فأَخرجنا به أشباهًا ونظائر من النبات، متفرقة في خصائصها، حيث ترونها مختلفة الطعم والشكل واللون والرائحة، مختلفة النفع للإِنسان في بناءِ جسده وعلاجه من أَمراضه، وللحيوان كذلك، وهى مع اختلافها متزاوجة، ومتشابهة في عموم النفع والجمال والنضرة والبهجة، كما أَنها متزاوجة حيث توجد بين أَصنافها الذكورة والأنوثة {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). قالوا: ومن نعمته تعالى، أن أَرزاق العباد تقوم على الأَنعام، وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يستسيغون أَكله، وبعد أَن بين نعمه على خلقه بإنبات أَصناف النبات، أَباحها لهم ولأَنعامهم بقوله: ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، من الآية: 14

54 - {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}: أَي كلوا ما يصلح منها لأَكلكم، وأَطعموا أَنعامكم في المسارح والمراعى ما لا يصلح منها لكم، إن فيما ذكر من النعم لبراهين عظيمة، لأصحاب العقول السديدة، التي ينهون بها النفس عن الغواية، ويبعدونها عن القبائح، منها يستدلون على وجود الخالق العظيم، والمدبر الحكيم، والبرّ الرحيم. {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} المفردات: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}: أي ومن الأرض نخرجكم مرة ثانية حين البعث والحساب، والتَّارة كل فعلة متجددة. {أَبَى}: امتنع عن الإيمان وكرهه، يقال أَباه إباءً وإباءَة بكسر همزتها الأُولى كرهه. {مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ}: أَي وعدًا أَو زمانًا موعودًا نلتزم به. {مَكَانًا سُوًى}: بضم السين وكسرها أَي مكانًا منتصفًا تستوى مسافته بيننا وبينك، أو مستويًا ليس به ارتفاع أَو انخفاض. {يَوْمُ الزِّينَةِ}: هو يوم عيد لهم يجتمعون فيه مع البهجة والزينة. {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}: الضحى يؤَنث ويذكر، ووقته حين ارتفاع الشمس بدون إِبعاد في الارتفاع.

{فَجَمَعَ كَيْدَهُ}: أَي مكره وحيل سحْرِه. {وَيْلَكُمْ}: دعاءٌ عليهم بالويل وهو الهلاك. {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}: أَي فيستأْصلكم به، يقال: أَسحته وسحته بفتح الحاءِ. بمعنى أهلكه. {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}: أَي خسر وهلك من اختلق الكذب. التفسير 55 - {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}: المعنى: من الأَرض بدأْنا خلقكم - فإِن خلق أَبيكم آدم عليه السلام من ترابها وخلقه أَصل لخلق كل فرد من أَفراد البشر، حيث إِن لكل منهم حظًّا من خلقه عليه السلام، انطوت عليه فطرته، وقيل المعنى: خلقنا أَبدانكم من الأَرض، فإِن النطف التي هي أَصلكم تولدت عن الأَغذية التي نبتت ونمت في تراب الأرض الممتزج بالماء. وبهذا يظهر في وضوح أَنه سبحانه خلقنا من الأَرض، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}: أي وفي الأَرض نرجعكم إِذا متم وتفرقت أَجزاؤُكم وبليت أَجسادكم، وإِيثار التعبير بقوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} على {وإِليها نعيدكم .. } للإِشارة إِلى الاستقرار الطويل بعد العودة إليها. {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}: أَي ونخرجكم من الأرض ونحييكم مرة أُخرى للبعث والحساب والجزاءِ، وكون هذا الإخراج حصل مرة أخرى، باعتبار أَن خلق أَبينا آدم من الأَرض إخراج لنا منها أَولا، وإِن لم يكن إِخراج البدءِ وإخراج الإِعادة متساويين من كل وجه، وهذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تموُتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (¬1). 56 - {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى}: حكاية لما جرى بين موسى عليه السلام وفرعون عليه لعنة الله، وقد صدرت الآية بالقسم إِظهارًا لكمال العناية بما تضمنته من الآيات الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وأَنها عرضت على فرعون فعاينها كلها وأَبصر إِعجازها. والمراد بالآيات التي شاهدها فرعون، جميع المعجزات ما يتصل منها بالتوحيد، وما يتصل منها بنبوة الكليم، قصدًا إلى إِلزامه الحجة، حتى يستجيب إِلى دعوة الحق، ويتخلى عن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 25

الكفر والعناد، ولكنه عكس الآية، وجعل أسباب الهدى والطاعة، دوافع إلى الزيغ والتمادى في الضلال وهذا ما يحكيه الله تعالى بقوله: (فَكَذَّبَ وَأبَى) أي فكذب بالآيات، أو كذب موسى عليه السلام من غير تردد أو تأخر، وكره الإيمان وأعرض عنه جحودا واستكبارًا. 57 - {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}: الآية بيان لكيفية تكذيب فرعون وإبائه، أَي قال: نحن ننكر عليك مجيئك إِلينا، لإِنجاء بنى إسرائيل من بيننا، بل لإخراجنا من أَرض مصر بما أَظهرته من السحر، حتى تكون خالصة لك ولقَومك، فكيف تخرجنا منها بسحرك! وهى أَرضنا وأرض أَجدادنا، وإِنما قال ذلك، لحمل قومه على بغضه ومقته، وإثارتهم للانتقام منه، حيث أَوضح لهم أَن مراده ليس إِنجاءَ بنى اسرائيل وتخليصهم، بل إِخراج المصريين من أَرضهم، والاستيلاءَ على أَموالهم، واسترقاق ذراريهم، حتى يبتعدوا عنه، ويبالغوا في عداوته ومدافعته. وتسمية المعجزة سحرًا، لأَنه لم يدرك حقيقتها بعد، ولهذا توعد موسى بأَنه سيأتيه بسحر مثلها على أَيدى سحرته فقال: 58 - {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ .... } الآية. أَي ما دام الذي جئت به سحرًا فلنعارضك بسحر مثل الذي أَتيتنا به، ليتبين للناس أَنه من صنعك، وليس هو من عند ربك، ثم قال لموسى عليه السلام: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ}: أَي فاجعل لاجتماعنا بك وعدًا أَو زمانًا موعودًا، لا يقع إخلافه منا ولا منك، وإِنما نلتزم جميعًا الوفاءَ به، واجعل موعدنا معك {مَكَانًا سُوًى}: أَي اجعله في مكان نَصَفٍ وعَدلٍ، تستوى مسافته بيننا وبينك، وبهذا قال كثير من أَهل التفسير. وأخرج ابن أبي حاتم عن أَبي زيد أَنه قال: {مَكَانًا سُوًى} أَي مكانًا مستويًا من الأرض، بحيث يرى فيه بعضنا بعضًا، ويرى كل المشاهدين ما يصدر منك ومن السحرة، وفيه إِظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه.

واختار الآلوسى ذلك في تفسيره، وقال إنه حسن جدًا، وقد فوض فرعون إلى موسى عليه السلام أَمر الوعد الذي طلبه منه، مع إعلانه الوفاء به، ليثبت لنفسه أَنه متمكن من تهيئة أَسباب المعارضة، وإِعداد وسائل المغالبة طال الأَمر أَو قصر، قاصدًا إِلى إِرهاب موسى عليه السلام منه ومن سحرته، ولكنه عليه السلام فَوت عليه ما قصد إِليه، فأَسرع إلى الاستجابة إِلى طلبه بما حكاه الله عنه بقوله سبحانه: 59 - {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}: أَي وقت وعدكم يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم يجتمعون فيه ويمرحون، ويفاخرون ويزدانون فيه بأَنواع الزينة، أَو هو يوم سوق لهم يزِّينونه ويتزَينون له، وقيل غير ذلك. وأياما كان المقصود به، فهو يوم معروف عندهم بأنه يوم اجتماع لهم وزينة، وبسبب ذلك اختاره موسى عليه السلام للاجتماع الذي طلبه فرعون، حتى يشهد العدد الكثير بطلان معارضة السحر لخوارق الآيات النبوية، ليكون انتصار الحق، وخذلان الباطل في يوم مشهود، ويشيع أَمره بين القاصى والدَّانى. ولم يكتف موسى عليه السلام بتحديد ذلك، بل جعل إِبراز المعجزة في وقت يكثر فيه اجتماع الناس في ذلك اليوم حيث قال: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}: أَي موعدكم يوم الزينة وقت الزينة وقت أَن يجتمع الناس فيه وهو وقت الضحى، حين يبدأُ ارتفاع الشمس في الأُفق ليكون الوقت مُتَّسعًا لأن يأْتوا بكل ما عندهم من سحر وإفك، قطعًا لعذرهم وإظهارًا لعجزهم، وإِبرازًا لخسرانهم، وبعد أَن استمع فرعون إِلى قول موسى عليه السلام، وقع منه ما حكاه الله جل شأْنه بقوله سبحانه: 60 - {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى}: أَي فانصرف عن المجلس بدون إِبطاء، فأَخذ في جمع السحرة من أَرجاءِ مملكته، للاستعانة بما لديهم من حيل ومكر قائلًا: {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} (¬1) فجمع السحرة، وأَخذ يرغبهم ويعدهم بالغلبة، وعظيم المكافأَة، وذلك ما يحكيه الله بقوله: {قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية: 79 (¬2) الشعراء، الآيتان: 4

61 - {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ..... } الآية. لم تذكر هذه الآية إِتيان موسى عليه السلام الموعد للإِيذان بأَنه محقق لا شك فيه، أَي أَنه أتى، وعند لقائهم تحدث إِليهم بما حكاه الله عنه بقوله سبحانه: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: أي قال لهم موسى: عذابًا لكم وقبحا لصنيعكم الذي تخيلون به للناس أَشياءَ لا حقائق لها، لا تختلقوا الكذب على الله بزعمكم أَن ما أَتيتكم به من المعجزة سحر يمكنكم أَن تَنْقَضُّوا عليه بسحركم. {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}: أي فيستأْصلكم الله بعذاب شديد بسبب افترائكم الكذب عليه، وقد استحق الخيبة والحرمان من رحمة الله وثوابه من اختلق عليه الكذب، ونسب إليه ما لا يصح نسبته إِليه، كدعواكم فضل السحر على المعجزة المؤيدة لرسوله، فلا تكونوا أيها السحرة من المفترين. {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} المفردات: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}: أَي تخاصموا بينهم في أمر معارضته وكيفيتها. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}: النجوى: المسارَّة في الحديث، وإِسرار النجوى: المبالغة في إِخفائها. {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}: بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب. {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ}: أَي ائتوا بكل حيلة لكم ومكر. {مَنِ اسْتَعْلَى}: من طلب العلا وسعى سعيه.

التفسير 62 - {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}: لما سمعوا كلامه عليه السلام حين أنذرهم وحذرهم عاقبة أَمرهم، فَكَّرُوا فيما طرق أَسماعهم فتناولوا أَمرهم الذي طلب منهم أَن يفعلوه، وهو مغالبة موسى والانتصار عليه. وتشاوروا بينهم في رسم الطريقة الناجحة في معارضته والانتصار عليه، وأَسرُّوا الحديث الذي دار بينهم مبالغة في إِخفائه عن موسى وهارون عليهما السلام. وكانت نتيجة نجواهم - على ما قاله جماعة منهم الجبَّائي وأَبو مسلم - ما حكاه قوله تعالى: 63 - {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ... } الآية. أَي صدر عنهم بعد المناقشة والمناظرة قولهم الذي اتفقوا عليه وأكدوه، وهو اتهام موسى وهارون عليهما السلام بالسحر، وأَنهما خبيران بصناعته، يريدان أَن تكون لهما الغلبة عليكم، وأَن يستتبعا الناس لهما، ويقاتلاكم فَينتَصرا عليكم ويخرجاكم من أَرضكم مصر بسحرهما الذي أَظهراه. {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}: أي يبطلا مذهبكم الذي هو أَمثل المذاهب وأَفضلها وهو ما كان عليه فرعون، وإنما يفعلان ذلك رغبة منهما في إظهار مذهبهما وإِعلاء دينهما، وقيل: ويذْهبا بأَهل طريقتكم المثلى، وهم أَشرافكم وذوو الرأْى فيكم، ولقد جاءَ هذا الرأْى من السحرة في حق موسى وهارون، متابعةً منهم لفرعون وموافقةً على ما قاله للملإِ حوله، وذلك ما حكاه في سورة الشعراء: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (¬1). 64 - {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا .... } الآية. كأَن بعضهم قال لبعض: ما دام أَمر موسى وهارون كما ذكر من كونهما ساحرين، يبتغيان الاستيلاءَ على أَرض مصر، وإِخراجكم منها، فأجمعوا كل كيْد لكم، وكونوا صفًّا واحدًا ورأْيًا مجتمعًا، بحيث ترمون به عن قوس واحدة، فإِن ذلك أَدعى إلى هيبتكم، وإِبراز كثرتكم، ولذلك أَثره في أَن تكون لكم الغلبة عليهما. ¬

_ (¬1) ولقد أجابه موسى بذلك في قوله: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} من الآية 57 من الس

ونقل خلاف كثير في تعيين عدد السحرة، ولكن مما لا شك فيه أَنه كان عددا كثيرًا، ليواجه به فرعون ذلك الموقف الرهيب الذي أحس برهبته حين قال: {ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}. {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}: هو الذي ختمت به الآية، محكِيًّا عن السحرة، يؤكدون به فوزهم بالمطلوب لهم، من المكافأة التي وعدهم بها فرعون، إن كانوا من الغالبين. أَي .. وقد فاز بالنصر والجائزة من استعلى، أَي من علا وغلب موسى وعصاه بسحره، وقيل: إِن السين والتاءَ هنا للطلب، أَي وقد أَفلح من استحق الموعود به من طلب العلا فبذل جهده، وسعى سعيه بتقديم كل ما يستنصر به من تخييل وخدل، وحيلة وخفة يد حتى تتم لهم الغلبة يوم اللقاءِ. {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} المفردات: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً}: الإيجاس: الإخفاءُ والإِضمار والخوف، أَي أَضمر في نفسه الخوف مما فوجىءَ به. {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا}: لَقِفَه - من باب عَلِمَ - يلقفه لقفًا بالقاف الساكنة، ولقفا بالتحريك تناوله بسرعة، والمراد أَنها ابتلعت ما ألقوه بسرعة. {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا}: أي خرُّوا خاضعين لله تعالى، وسُجدا جمع ساجد.

التفسير 65 - {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}: لما أَتم السحرة استعدادهم، أقبلوا على موسى عليه السلام بجمعهم الحاشد قائلين: إما أَن تلقى ما عندك قبلنا، وإما أَن نكون أول من يُلْقى ما عنده، وكان تخييرهم له عليه السلام، إظهارًا لقوتهم وكمال ثقتهم بالانتصار عليه تقدم أَو تأَخر. 66 - {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}: حينما سمع موسى عليه السلام ما خيروه به، أجابهم باختياره أن يلقوا أَولًا، ليظهر لهم عدم اكتراثه بسحرهم، وليبرزوا أَقصى ما معهم من وسائل التمويه، والخداع، ويستفرغوا جهودهم في معارضته، لثقته بأَن الله سيُظهره عليهم. فأَلقوا ما أَعدُّوه لمنافسته ومغالبته من الحبال والعصى. {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}: أَي فأَلقى كل ساحر ما معه، ففاجأَ موسى عليه السلام في هذا الوقت .. أَن حبالهم وعصيهم بسبب سحرهم تتحرك وتسير، قال الكلبى: خيل لموسى أن الأرض حياتٌ، وأَنها تسعى على بطنها. وما وقع من موسى عليه السلام ليس أمرًا غريبًا أن يصدر من بشر رأى قومًا اشتهروا بالسحر، وأَجادوا طرقه وأحكموا وسائل التَّمويه، وصرْف الأعين عن رؤية الواقع. 67 - {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}: المعنى: فأضمر موسى عليه السلام في نفسه شيئًا من الخوف من مفاجأَة ما رأى بمقتضى الطبيعة البشرية عند رؤْية الأمر المخيف، إِذ هي مجبولة على النَّفْرَة من الحيَّات، وضررها الذي اشتهرت به، وقيل خاف أَن يفتتن الناس بالسحرة، ويغترُّوا بهم قبل أن يُلقى العصا، ويستمروا في اغترارهم إِلى ما بعد إِلقائها وفتكها بسحرهم، تعصُّبًا منهم لبنى قومهم. 68 - {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}: أي قلنا له: لا تستمر على خوفك الذي أَضمرته في نفسك، لأَنك أنت الغالب لهم، المنتصر عليهم عند لقائك بهم - وغلبتك محققة لا شك فيها، كما يؤذن بذلك النظم الكريم المشتمل على جملة من التأْكيدات لا تخفى على فطنة الق

69 - {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا .... } الآية. المعنى: وأَلق يا موسى عصاك، وعبَّر عنها هنا بقوله سبحانه: {مَا فِي يَمِينِكَ}، إِما تصغيرًا لها، فكأنه قيل له: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العود الصغير الجرم الذي في يمينك، وإِما تهويلًا لأَمرها وتفخيمًا لشأنها، وإشعارًا بأَنها ليست من جنس العصى المعهودة، لما لها من آثار عظيمة، وأَفعال غريبة، فكأَنه قيل له: لا تحفل بهذه الأَجرام الكثيرة الكبيرة، فإِن ما في يمينك أعظم منها، وهذه على كثرتها أضعف منها، فأَلقها يا موسى: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ}: أَي إن تلقها تقلف الذي صنعوه من حبالهم وعصيهم التي تسعى، لأن الله يحولها إلى تنِّين عظيم، أي حية هائلة، تبتلع ما ألقوه بسرعة فائقة، والتعبير عما أَلقوه بقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا} للإشارة إلى أَن ما شوهد من سعيها، إنما هو من تمويههم وصنعهم الذي هو كيد ساحر قصد به فتنة الناس وإضلالهم، والتمكين لفرعون وحكمه، وليست له حقيقة: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}: أَي ولا يقدر ولا ينجو حيث جاء، وأَين أَقبل وحيث احتال. 70 - {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}. حينما عاين السحرة ما حدث بعد إِلقاء موسى عصاه، وشاهدوه مشاهدة إِمعان وتأَمل، علموا علم اليقين أن ذلك معجز وليس من قبيل السحر والتمويه، وإِنما هو حق لا شك فيه، ولا يقدر عليه إلَّا الذي يقول للشيء كن فيكون، لأنه بمعزل عن السحر الذي استفرغوا جهدهم للإحاطة بفنونه، وطرقه وكل وجوهه، وأدركوا أنه فوق قدرة البشر، حيث تأَكد لهم أَن الله سبحانه هو الذي غيَّر مادة العصا إلى ثعبان عظيم أَباد حبالهم وعصيهم أَصلا وصورة، ولو كان ما صنعه موسى سحرا لبقيت الحبال حبالا والعصى عصيا بعد أن أبطلت العصا سحرهم فيها، ولما وَقَرَ هذا في قلوبهم اتجهوا إلى موسى فوقع كل منهم على وجهه ساجدًا لله إِعلانًا لتوبته وإِيمانه بالله وبرسالة رسوله موسى عليه السلام، حيث: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وكفرنا بفرعون وبما يدعونا إِليه، قال ابن عباس وعبيد بن عمير: "كانوا أَول النهار سحرةً، وفي آخر النهار شهداءَ بررة ": فقد قتلهم فرعون بعد إِيمانهم بموسى كما سيجىءُ بيانه، وعن عكرمة: لما خَرُّوا سجدًا أَراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، وقد اخلف العلماءُ في عددهم. فمنهم من أَنهم إِلى ثمانين أَلفا، كمحمد بن كعب، ومنهم من قال: إِنهم سبعون ألفًا كالقاسم

ابن أَبي بزَّة، وقال السدِّى: كانوا بضعة وثلاثين الفًا .. إِلى غير ذلك من الأَقوال - والله أَعلم بعددهم، فليس أَمامنا ما يدل على صحة هذه الأَقوال المتباينة. والتعبير في الآية بقوله سبحانه: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} دون فسجدوا إِشارة إلى أنهم رَأوْا ما ألجأَهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين. {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} المفردات: {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}: أَي وقع إيمانكم من غير أن أُبيحه لكم، وأَصل آذن؛ أَأْذنَ مضارع أَذِنَ. قلبت الهمزة الثانية الساكنة ألفًا تخفيفًا. {وَالَّذِي فَطَرَنَا}: أوجدنا (¬1). ¬

_ (¬1) وهو من باب خلق.

{لَنْ نُؤْثِرَكَ}: (¬1) لن نفضلك. {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا}: مفرد خطايا: خطيئة وهى الذنب المتعمد كالْخِطءِ بكسر الخاء، أَما الخَطأُ بفتح الخاءِ فهو ما لم يُتعمد، ويريدون بخطاياهم، الكفر والمعاصي. {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: أَي جنات إِقامة يقال: عدن بالمكان عدْنًا وعُدُونًا من بابيْ ضرب وقعد: أي أَقام. {مَنْ تَزَكَّى}: صلح واهتدى. التفسير 71 - {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ .... } الآية. يخبر الله سبحانه عن فرعون أَنه تمادى في عناده ومكابرته حين رأَى ما أَذهله من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ومن إيمان من استنصر بهم من السحرة أَمام جموع الناس وحشودهم، حين رأَى ذلك توعد كل من آمن بأَقسى وسائل التنكيل والتعذيب، بسبب إِيمانهم الذي أَنكره عليهم أَشد الأَنكار، وعدَّه جريرة تستوجب كل ما ينزل بهم من عقاب وعلى أَي وجه كان، وقد بيَّن جرمهم وفق فهمه السقيم بقوله: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}: أَي أَن إِيمانكم بموسى عليه السلام وقع افتياتا منكم على سلطانى، لأَنه من غير أن آذن لكم به، قال ذلك ليُرِى قومه أن إِيمانهم غير معتد به حيث كان من غير إِذنه، ثم قال قولًا يعلم هو والسحرة والناس كلهم أنه افتراءٌ وبهتان، وهو نسبته إِيمانهم بموسى بعد أَن غلبهم إِلى أَنهم تعلموا السحر من موسى، فهو كبيرهم ومعلمهم، فلهذا تواطئوا معه على كل ما حدث، وقد حكى الله ذلك بقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}: أَي إنه رئيسكم ومعلمكم السحر. فتواطأْتم على ما فعلتم، واتفقتم عليَّ وعلى رعيَّتى لتظهروه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} (¬2). وقد أَراد فرعون بقوله هذا أَن يشيع بين قومه الشك والريبة، توجيهًا لهم إلى عدم الاكتراث بما أَظهره موسى عليه السلام من المعجزة الباهرة، وبما أَعلنه السحرة من الإيمان، حتى لا يتبعوهم، فيؤمنوا كإِيمانهم، وإِلَّا فقد علم فرعون أَن موسى لم يعلمهم السحر، فقد عَلِمُوه قبل قدومه عليهم بل قبل ولادته، ثم توعد الذين آمنوا وعيدًا قاسيًا بقوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}: أَي فأقسم: لأُقطعن أَيديكم وأَرجلكم مختلفات، ¬

_ (¬1) مضارع آثره: أي فضله. (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 123

اليد اليمنى والرجل اليسرى، واختار التقطيع على هذه الكيفية دون التقطيع من وفاق تنكيلًا كما أقسم: لأُصلبنكم أَيضًا في جذوع النخل، وقد نفذ وعيده فقطع وصلب حتى ماتوا - رحمهم الله - قال ابن عباس: (فكان أول من فعل ذلك) رواه ابن أَبي حاتم. وإيثار كلمة (فِي) في قوله: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} للدلالة على بقائهم على الجذوع زمنًا طويلًا كأنها محبس لهم، وظرف احتواهم. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}: أَي وأُقسم إِنكم لتعلمن علمًا لا شك فيه مَنْ منا أَشد عذابًا للناس وأدوم، أَهو موسى، أم أَنا الذي خذلتمونى بتواطئكم معه؟ وقصده من وعيده هذا إظهار صلفه وكبريائه، واقتداره على التعذيب الشديد، واستضعاف موسى والهزءُ به، لأَن موسى عليه السلام لم ينل أحدا بشيءٍ من التعذيب. وقيل: معناه أي الإِلهين أشد عذابًا وأَدوم، أنا أَم إِله موسى. 72 - {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ..... } الآية. المعنى: أنهم أَجابوه على وعيده وتهديده قائلين له في غير اكتراث به وبصنيعه لن نفضلك على ما جاءَنا من الله سبحانه وتعالى من المعجزات الظاهرة على يد موسى عليه السلام، وقيل: لن نفضلك على ما عَلِمْنَاه من الحق واليقين، ولن نركن إليك بتفضيلك على الله الذي خلقنا وسائر الناس، ولم نكن شيئًا مذكورًا، وقيل: إِن لفظ {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسم جوابه محذوف دل عليه ما قبله، وهو قوله: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}: أَي وحق الذي خلقنا لن نؤثرك على الذي جاءَنا من الله على يد موسى عليه السلام من الآيات الباهرة. {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}: أَي فافعل ما شئت واحكم بما أَنت حاكم به، لأَنك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}: يعنون أَنه إِنما ينفذ أَمره وقت هذه الحياة. ولا يقضى فيها إلَّا بمتاع أو عقاب، وما لهم من رغبة في خيرها وزينتها، ولا رهبة من عسرها وعقابها، وهذه الجملة التي ختمت بها الآية وما بعدها تعليل لعدم المبالاة المستفاد من قوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}. 73 - {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ..... } الآية. أَي صدقنا بالله وحده لاشريك له، رجاءَ أن يغفر لنا ربنا ما اقترفناه من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الأُخرى، أما الدار الفانية فليس لنا مآرب فيها حتى نتأَثر بما ينزل بنا من نكال، كما نضرع إليه أَن يغفر لنا السحر الذي أَكرهتنا على المعارضة به،

قال أبو عبيد: إِذا أَمر السطان أَحدًا بفعل شيءٍ فقد أكرهه على فعله، وإن لم يتوعده، لما في مخالفة أَمره من توقع العقوبة، ولا سيما إِذا كان السلطان طاغية جبارًا، وإِلى هذا الرأْى ذهب الحنفية في أَحكمامهم الفقهية. انتهى ملخصًا، ولا ينافى هذا قولهم في آية أُخرى: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} فإِنهم قالوه مرضاة لفرعون الذي أَجبرهم، وقد أَفردوا الإِكراه على السحر بطلب المغفرة إِظهارًا لشدة نفرتهم منه وقوة رغبتهم في مغفرة الله {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}: أي والله خير لنا إن أَطعناه، وأَبقى عذابًا منك إِن عصيناه، أَو والله خير في ذاته وصفاته، لأنه الخالق الرازق وله الأَمر كله، وأَبْقى جزاءً، ثوابًا كان أَو عذابا. 74 - {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}: قيل: هذه الآية والآيتان بعدها من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: بل هي من كلام الله لبيان قاعدتين عامتين في الإِسلام: وهما عقاب المجرمين، وثواب الصالحين. والمعنى أَن من يلقى الله يوم القيامة على الكفر والمعاصي، فهو مستحق لأَن يكون له جهنم دار إقامة دائمة لا يموت فيها لينهى عذابه، ولا يحيى حياة ناعمة وذلك كقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (¬1). 75 - {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}: أَي ومن يوافه مؤمنًا به تعالى، وبما أيد به رسله من المعجزات العظيمة التي من جملتها ما شاهدناه، وقد عمل الطاعات اتباعًا لما أَمر به سبحانه ونهى عنه، فأُولئك ينزلهم ربهم أَعلى الدرجات وأَعظمها التي تقصر دونها الصفات. 76 - {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}: الآية بيان للدرجات التي استحقها أولئك المؤْمنون، أَي أَن لهم الجنات دار إقامة وهى على أكمل صورة وأَجمل إِعداد، حيث تجرى من تحت غرفها وأَشجارها الأَنهار التي تملأ النفوس متعة وبهجة، ماكثين فيها أبد الآبدين وذلك جزاءُ من تطهر من الكفر والمعاصي وعبد الله وحده، لا شريك له. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية:

وعلى ما قيل: من أن الآيات الثلاث التي بُدِئَتْ بآية: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} إلى آخر هذه الآية، من قول السحرة .. يحتمل أَنهم سمعوا ما قالوه من موسى أَو من بنى إِسرائيل الذين كانوا بمصر أو ممن آمن من آل فرعون، وكان فيهم المؤمن الذي يكتم إيمانه ويحتمل أَن يكون ذلك إلهامًا أَنطقهم الله به لما آمنوا. {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} المفردات: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}: أَي سِرْ بهم ليلا: تقول سريت الليل وسريت به إِذا قطعته بالسير، وأَسرَى لغة حجازية. (يَبَسًا): اليَبَس بالتحريك المكان الذي كان فيه ماءٌ فذهب ماؤُه وفعله يبِس من باب علِمَ وفي لغة يَبِس يَيْبِسُ بكسر الباءِ فيهما .. {دَرَكًا} الدَّرَكُ: اللحاقُ أَي لا تخاف أَن يلحقكَ فرعون وجنوده. {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ}: أَي سار خلفهم حتى اقترب منهم، يقال أَتْبعهُ وتَبعهُ بمعنى واحد. {فَغَشِيَهُمْ}: أَي أَصابهم. {مِنَ الْيَمِّ}: من البحر. التفسير 77 - {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ... } الآية. كان فرعون قد وعد موسى عليه السلام أَن يرسل بنى إِسرائيل معه، ويطلقهم من أَسره وقهره بعد أَن ظهر موسى بآياته عليه، ولكنه كان يماطل في الوفاء فينزل به الله وبقومه آيات العذاب، وكان كلما نزلت به آية، وعد عند انكشافها أن يفى بوعده، حتى إِذا انكشف العذاب خاس بعهده، فلما كملت الآيات البينات التي تتابعت عليه لنحو عشرين سنة، بعد ما غُلِبت السحرة (¬1) أَوحى الله إلى موسى أَن يرحل عن مصر ببنى إسرائيل لإِنقاذهم من ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامى كا ذكره الآلوسى أثناء شرحه لقوله تعالى {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} في سورة الأعراف.

ظلم فرعون وطغيانه، وأَن يكون رحيله عنها ليلا حيث يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} وقد أتت الجملة مصدرة بالقسم إبرازًا لكمال العناية بمضمونها. والمعنى: والله لقد أَوحينا إِليه آمرين إِياه أَن يسير ببنى إِسرائيل في الليل حفاظًا عليهم حتى لا يتعرضوا لمنع فرعون. ويقعوا في قبضته. فيذيقهم أَشد العذاب، ولما خرج بنو إِسرائيل بصحبة موسى وتم لهم ذلك أَصبحوا وليس لهم بمصر داع ولا مجيب، فغضب فرعون أَشد الغضب ودفعته شهوة الانتقام إِلى الإِسراع في جمع جنده وقواده قائلا لهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} (1) ولما أَعد للأَمر عدته، سار بمن معه يتبع موسى وقومه، وقد بكروا {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}: أَي عند مطلع الشمس، ولما تراءَى الجمعان نظر بعضهم إلى بعض، فقال أَصحاب موسى عليه السلام {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (¬2). تثبيتًا للأَقدام، وتطمينًا للقلوب، وكان البحر أَمامهم والعدو خلفهم. عند ذلك أُمِر موسى عليه السلام أَن يفعل ما أَشار إِليه قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} (¬3): أَي فَاضرب لهم البحر بعصاك لتتخذ لهم من المكان الذي ضربته فيه طريقا يبسًا لا ماءَ فيه ولا طين. فهو مصدر وصف به مبالغة: بمعنى أَنه يابس جاف يتسنى السير فيه بيسر وسهولة. {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}: أَي تفعل هذا وأَنت في حال لا تخاف أَن يلحقكم فرعون وقومه من ورائكم، لأَنك ومن معك في رعايتى ولا تخشى أَن يغرقكم البحر من حولكم، إِذ لا يحدث شىءٌ في الكون إلا بإِرادتى. 78 - {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ .... } الآية. الفاءُ في قوله {فَأَتْبَعَهُمْ} تشير إِلى مضمر طوى ذكره، ثقة بغاية ظهوره. وتنويهًا بكمال مسارعة موسى إِلى الامتثال. والمعنى: ففعل موسى عليه السلام ما أَمرناه به في السير ليلا. فضرب لهم طريقا في البحر بعصاه، وسلكه بمن معه، فأَتبعهم فرعون بجنوده بحرًا كما أَتبعهم بهم برًا، أَي ¬

_ (ا) سورة الشعراء، الآيتان: 54، 55 (¬2) سورة الشعراء، من الآيتين: 61، 62 (¬3) وقرىء يبْسا بإسكان الباء، وهو إما مخفف من المحرك أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب جمع صاحب، ووصف به الطريق الواحد للمبالغة بجعل الطريق لفرط يبسه كأشياء يابسة أو يراد به الجنس، وكان متعددًا لتعدد الأسباط.

تبعهم وسار في أثرهم، حتى إذا استُكْمِلُوا دخولا، خرج موسى بمن معه إلى الشاطىءِ الشرقى من البحر سالمين، ولم يخرج أَحد من فرعون وجنوده، حيث حاق بهم ما كانوا به يستهزئون ويراد بالبحر: بحر القلزم وهو المعروف الآن بالبحر الأَحمر {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}: أَي فعلاهم وغمرهم ما غمرهم، من الأمر الهائل المروع الذي يعجز البيان عن وصفه، حيث انطبق عليهم الماءُ فأَغرقهم فهلكوا جميعًا، ونجى الله فرعون وأَبقاه ببدنه خاليًا من الروح في اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبنى إسرائيل من الغرق، ليراه بنو إسرائيل بعيونهم، فيطمئنوا ويؤْمنوا بهلاكه، وكانوا من ذلك في شك مريب، ولتكون قصته آية وعلامة لمن وراءَه من أَهل عصره ومن يأْتى بعده. تبين لهم العاقبة المحتومة لكل جبار عنيد، وإِلى ذلك يشير قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (¬1). 79 - {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}: أي وأَضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى الخير بل سلك بهم مسلكًا أَوصلهم إِلى الهلاك في الدنيا والآخرة. حيث أُغرقوا فأُدخلوا نارًا خالدين فيها، والجملة تأْكيد لإِضلاله إِياهم. {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} المفردات: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}: الْمَنُّ مادة حلوة لزجة تشبه العسل، وكانت تنزل عليهم من الفجر ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 92

إلى طلوع الشمس كما قيل. والسلوى: السُّمَانى أو طائر يشبهه. {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}: الطغيان مجاوزة الحَدِّ، ويراد منه في الرزق تجاوز المأمور به في أكله. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}: أَي يجب ويلزم. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي}: أَي ينزل به، وفي المصباح حلَّ العذَاب يحُل بضم الحاءِ في المضارع وكسرها، أَي نزل. انتهى بتصرف. التفسير 80 - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ... } الآية. حكاية لِمَا خاطب الله سبحانه به بنى إِسرائيل بعد إِغراق عدوهم، لِتذكيرهم ببعض نعمه العظيمة، وَمِنَنِهِ الكبيرة التي توالت عليهم، حيث يقول جل شأْنه: {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} أي قد خلصناكم من أَسره وتعذيبه فيسرنا لكم الهجرة إلى سيناء برا وبحرا وحفظناكم من الغرق، وأَغرقنا فرعون وقومه جميعًا وأنتم تنظرون كما يقول تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (¬1). ثم بعد نزولكم سيناءَ قربناكم {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ}: أَي وعدناكم أَن تأْتوا جانب الطور الأَيمن على لسان نبيكم موسى عليه السلام للمناجاة، حيث أَمرناه أن يأمركم بالخروج معه، ليكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام. وقيل: إِن الوعد كان لموسى، وخوطبوا به لأَنه كان لأَجلهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (¬2): أَي وقد أَنعمنا عليكم نعمة عظيمة اخرى، فأَطعمناكم طعامًا طيبًا مباركًا يسرناه لكم، وجعلناه في متناول يدكم حيث كان ينزل عليكم المن والسلوى، فيأْخذ كل منكم حاجته منهما بدون عناءٍ رعاية لكم في التيه، ورحمة بكم، وإحسانًا اليكم، ثم أمرهم أمر إِنعام بها وإباحة لتناولها فقال سبحانه: 81 - {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ .... } الآية. المراد من الطيبات لذيذ الرزق الذي تستطيبه النفوس وتستحسنه الطباع السليمة، وقيل: طيبات الرزق ما أَحله الله منه نوعًا وكسَبا، ولقد عقب الله هذه المنة بنهيهم عن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 50 (¬2) تقدم بيان المن والسلوى في المفر

الطغيان بقوله {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ}: أَي ولا تطغوا بسبب الرزق بأن تحملكم السعة والعافية على العصيان لأَن الطغيان تجاوزُ الحد إِلى ما لا يجوز {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}: أي فيجب ويقع عليكم مقتى. {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}: أَي ومن ينزل عليه غضبي بسبب ارتكابه ما نهيته عنه، فقد هلك، وقِيل: فقد سقط وتردى في الهاوية وهى قعر جهنم. 82 - {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}: وإنى لكثير المغفرة لمن تاب من شركه ومعاصيه وآمن بى وعمل صالحًا، ثم استمر مهتديًا. وقيل: المراد بقوله {ثُمَّ اهْتَدَى} ثم طهر قلبه من الأَخلاق الذميمة، كالعُجْبِ والحسد والكِبر وغيرهما، بعد ما آمن وعمل صالحًا، وقال ابن عطية: الذي يَقْوَى ويظهر في تفسير {ثُمَّ اهْتَدَى} أَن يكون المعنى ثم حفظ معتقداته من أَن تخالف الحق في شيءٍ من الأَشياءِ، فإِن الاهتداءَ على هذا الوجه غير الإِيمان وغير العمل، اهـ. والتوبة التي أَشارت الآية إلى تكفيرها الذنوب والخطايا، هي التوبة النصوح؛ التي يقلع بها التائب عما كان فيه، ويعزم على أَلا يعود إليه أَبدًا، ويندم على ما فعل، فإن كانت المعصية في حق آدمى يزاد على ذلك أَن يبرأَ منها؛ برد الحق إِلى صاحبه إِن كان مالا ونحوه وبتمكينه من نفسه أَو طلب عفوه إِن كان حيًّا. {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} المفردات: {مَا أَعْجَلَكَ}: ما حملك على العجلة والسرعة. {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}: هم قادمون بعدى يسيرون على أَثرى.

التفسير ذهب موسى لمناجاة ربه مع من اختارهم من قومه لصحبته في هذه المناجاة (¬1)، وغلبه الشوق إِلى مناجاة ربه فأَسرع إِلى مكان المناجاة وخلف قومه وراءَه فسأَله الله تعالى - وهو العليم - عن سبب العجلة منكرًا علية تركه للنقباءِ السبعين الذين اختارهم من قومه لصحبته قائلًا: 83 - {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}: أَىُّ شيءٍ حملك على العجلة؟ وكان الجواب المتوقع أَنْ يذكر سبب العجلة وهو شدة الشوق إلى الله، ولكن موسى فهم أَنه تعالى ينكر عليه تركه لقومه خلفه فقال: 84 - {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي}: أَي هم قادمون خلفى يتبعون أَثرى وسيلحقون بى سريعًا. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}: وأَسرعت إِلى مناجاتك طلبًا لرضاك يا ربى وتلبية لأَمرك، ذكر القاسمى: "أَنه سبحانه إنما أراد بسؤَاله عن سبب العجلة - وهو أَعلم - أَن يعلم موسى أَدب السفر، وهو أَنه ينبغي تأَخر رئيس القوم عنهم في السفر ليكون نظره محيطًا بطائفته ونافذًا فيهم ومهيمنا عليهم". وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، أَلا ترى أَن الله عز وجل علم هذا الأَدب لوطا فقال: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} (¬2) على أن موسى غفل عن هذا الأَمر مبادرة منه إِلى رضا الله عز وجل. ومسارعة إِلى الميعاد مع الرحمن وذلك شأْن الموعود بما يسره، يود لو ركب إِليه أَجنحة الطير، ولا أَسَرَّ من مواعدة الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم -. {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} المفردات: {فَتَنَّا}: اختبرنا وابتلينا. {السَّامِرِيُّ}: نسبة إِلى سامراءَ، وينسب بعض الباحثين السامرى إِلى طائفة معروفة من اليهود باسم السامريين، وهم الآن طائفة صغيرة من اليهود تقيم في نابلس وتخالف سائر اليهود في عاداتها وتقاليدها (¬3). ¬

_ (¬1) راجع تفسير الآية 142 من سورة الأعراف من التفسير الوسيط. (¬2) الحجر، من الآية 65 (¬3) راجعه في قصص الأنبياء للشيخ النجار.

85 - {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ....... } الآية. أَي قال الله تعالى لموسى: فإِنا قد أَوقعنا قومك في الابتلاءِ والاختبار ليظهر في واقع الأمر مدى صدقهم في الإِيمان وضعفهم فيه {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}: أَي حملهم على الضلال وفتنهم حتى عبدوا العجل، وسيأتى بيان ذلك تفصيلا ... {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} المفردات: {أَسِفًا}: شديد الحزن. {طَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}: أَي طال عليكم عهد خروجى لإِحضار الألواح بما تحمله من أَوامر ونواهٍ. {بِمَلْكِنَا}: باختيارنا وإِرادتنا - يعنون أنهم مكرهون مضطرون. {أَوْزَارًا}: أَثقالًا أَو ذنوبًا. {عِجْلًا جَسَدًا}: صورة عجل مجسم في هيئة تمثال. {لَهُ خُوَارٌ}: الخوار صوت البقرة. التفسير 86 - {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ..... } الآية. فعاد موسى إلى قومه وهو في أشد الغضب والحزن لكفرهم بعد الإِيمان وضلالهم بعد الهداية {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا}: أي قالَ موسى موبخا لهم: يا قوم

ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور، فكيف تعودون إلى الشرك بعد أن أَنقذكم الله منه؟ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}: أي أَفطال عليكم زمان مفارقة موسى لكم؟ أَو عهد إِنجائكم من فرعون مصر وإغراقه لمن ظلمكم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}: أَي أَنكم بفعلكم هذا كأنكم أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، حيث أَخلفتم وعدكم إِياى بالثبات على الإِيمان بالله وتنفيذ ما أُمرتم به. 87 - {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا .... } الآية. قالوا: ما فعلنا ذلك باختيارنا {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}: ولكنا كنا نحمل أَعباءً وأحمالًا من ذهب المصريين فظنناها موضعًا للمؤاخذة لأنها ليست ملكًا لنا وإِنما استعرناها من المصريين في عيدنا لنردها إِليهم بعد حين: {فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}: فأَلقينا بها في النار تخلصًا منها كما فعل السامرى وكما أَمرنا. {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ}: وكان السامرى ماهرًا في الصياغة فصنع تمثالًا ذهبيًّا للعجل أَبيس معبود المصريين قبل هجرة بنى إسرائيل من مصر، وجعله بحيث إِذا حُرِّكَ صدر منه صوت كخوار الثيران أَو جعل فيه ثقوبًا إِذا هبت فيها الريح أَصدر هذه الأَصوات، والماهرون في صناعة الدمى الآن يجعلونها تصدر بعض الأَصوات أو تحرك بعض الأَعضاء. وأَجاز بعضهم أَن يكون السامرى قذف الحلى في النار بدعوى أَنها محرمة عليهم لسرقتهم إِياها من المصريين، واشترى لهم عجلا جسدا حيا، وسرق الذهب لنفسه. {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}: أَي قال السامرى ومن افتتن به وتابعه: يا قوم ها هو ذا إِلهكم وإِله موسى قد نسيه هنا وذهب يطلبه في الطور ويناجيه هناك، أو نسى موسى أُلوهيته. وضل الطريق إِلى ربه فخرج يبحث عنه، في حين أن هذا العجل هو ربه، وهكذا أَضلهم السامرى وفتنهم حتى عبدوا العجل. 89 - {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}: الاستفهام هتا للتوبيخ، أَي أعمُوا فلم يروا أَن هذا العجل لا يتحدث إليهم ولا يرد على أَسئلتهم وأنه لا يملك أن يضرهم أَو ينفعهم، فكيف يكون إِلهًا مستحقًا للعبادة والتقد

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} المفردات: {فُتِنْتُمْ}: ابتليتم واختبرتم. {لَنْ نَبْرَحَ}: سنبقى. {عَاكِفِينَ}: مقيمين على عبادته. التفسير 90 - {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}: زعم اليهود - كما ورد في سفر الخروج (الإِصحاح) 32 - أَن هارون عليه السلام هو الذي صنع العجل الذهبى لبني إِسرائيل ودعاهم إِلى عبادته، وذلك دأْبهم في تلويث الأَنبياء بل وقتلهم بغير حق إِذا لم يوافقوا هواهم - مع أَنه نبى مرسل معصوم من الأَخطاءِ، وبخاصة الشرك بالله أو الرضا عنه - وقد برَّأه الله في هذه الآية مما أَلصقوه به. والمعنى: ولقد قال هارون لبنى إِسرائيل حين رآهم مقبلين على عبادة العجل - بتزيين السامرى - قال لهم قبل أن يستغرقوا في عبادته: إن هذا العجل فتنة واختبار من الله لكم، أتعبدونه وهو لا يملك من أَمركم شيئًا، أَم ترفضونه وتعبدون الله، فإِنه إِلهكهم الحق الجدير بالعبادة، لأنه المتصف بالرحمة البالغة حيث أَنجاكم من عدوكم، فاتبعونى في عبادته وتوحيده وأَطيعوا أَمرى بالكف عن عبادة العجل. 91 - {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}: أَصروا على باطلهم ولجوا في عنادهم وقالوا: سنظل عاكفين على عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى ويخبرنا بالحقيقة.

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} المفردات: {مَا مَنَعَكَ}: قال عيسى بن موسى معناه: ما حملك على عدم اتباعي، فِإن المنع عن الشيءِ مستلزم للحمل على سواه، وقيل: المنع على ظاهره، وحرف (لا) صلة للتأْكيد وليس للنفى، كما في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}: فهي بمعنى ليعلم، وكما في قوله تعالى في حق إبليس في سورة الأَعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}: فهو بمعنى ما منعك أَن تسجد، ليتفق مع قوله في سورة (ص): {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}. التفسير 92، 93 - {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}: كان موسى عليه السلام قد اشتد به الغضب، فجذب أَخاه هارون من لحيته وشعر رأْسه وقال له: يا هارون ما حملك حين رأيت بنى إِسرائيل ضلوا عن الهدى فعبدوا العجل، ما حملك على عدم اتباعى إلى جبل الطور لتتلقى تعليماتى، أو ما حملك على عدم اتباعى في تشديد النكير عليهم، لتحول بينهم وبين ما فعلوه {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بقولى لك: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (¬1)، فكيف تركتهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إِليه؟ ¬

_ (¬1) الأعراف، الآية: 142

94 - {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}: قال له هارون: يا أخى وابن أمى التي طبعتنا على الحنان والشفقة لا تجذبنى بعنف من شعر رأسى وشعر لحيتى. {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: إني خفت أن أقسو على بنى إِسرائيل فينقسموا إلى فريقين: فريق معى، وفريق يتمسك بعبادة العجل، فتقع بينهم حرب، وأكون أَنا سببًا في تمزيق وحدتهم وتشتيت أَمرهم وتفريق كلمتهم، فكنت أحاول أن أَردهم إلى الصواب بالنصح والإِرشاد. {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} المفردات: {مَا خَطْبُكَ}: أَي ما حالك وما شأْنك، والخطب الأَمر الشديد يكثر فيه التخاطب. {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}: أدركت وعلمت ما لم يعلموه وأَيقنته. {الرَّسُولِ}: قيل المقصود به جبريل عليه السلام، وقيل موسى. {فَنَبَذْتُهَا}: طرحتها. {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}: زينت وحسنت. التفسير 95 - {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}: في هذه الآية يتجه موسى عليه السلام إلى السامرى، ليحاسبه ويوبخه على صرفه قومه إلى عبادة العجل بعد أن فرغ من عتاب أَخيه هارون على تركهم يعبدونه، واعتذر هارون عليه السلام بأَنه نصحهم فلم ينتصحوا وأنه خشى أن يقول له موسى: فرقت بين بنى إسرائيل،

ولم ترقب قولى في المحافظة على وحدتهم، والحكمة في التصرف معهم، وكان للسامرى نفوذ في بنى إِسرائيل، وكان قوى التأْثير عليهم. قال قتادة: كان السامرى عظيمًا في بنى اسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إِسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أَصنام لهم، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬1). فاغتنمها السامري وعلم أَنهم يميلون إِلى عبادة العجل فاتخذ العجل (¬2). 96 - {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}: قال الفخر الرازى: عامة المفسرين على أَن المراد بالرسول: جبريل، والمراد بأَثره: التراب الذي أَخذه من موضع حافر دابته، والأَكثرون منهم على أنه رآه يوم فلق البحر، وعن على أَن ذلك كان حين نزل ليذهب بموسى إِلى الطور، ثم اختلفوا في كيفية رؤيته جبريل دون سائر الناس، وحكى الرازى عن هؤُلاءِ المختلفين حكايات لا أصل لها، وذكر القرطبى وغيره: أَن السامرى لما زينت له نفسه أَن يأْخذ قبضة من التراب الذي تحت حافر فرس جبريل، جعل يلقى منه على الجماد، فيتحول إلى حيوان له روح ولحم ودم، فلما سأَلوا موسى أَن يعيدهم إِلى عبادة العجل زجرهم، فصنع لهم السامرى في غيبته عجلا من الحلى، وأَلقى من هذا التراب عليه، فتحول إِلى جسد من لحم ودم له خوار كسائر العجول، ويقول القرطبي في موضع آخر نقلا عن مجاهد: خواره وصوته كان بالريح لأَنه أَحدث فيه خروقًا، فإِذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وبهذا نقول فإِن تحويل الجماد إلى حيوان حقيقى لا يكون معجزة إلا لنبى، كما حدث لموسى، حين حول الله عصاه الخشبية إلى حية تسعى، ولا يصح أَن يجرى الله مثل ذلك على يد من يعارض النبوة ويثير الشبه حولها، ولو أنهم قالوا إنه كان ساحرًا وإنه خيل لهم بسحره أَنه عجل حقيقى لكان ذلك خيرًا مما قالوه، وقد أَحسن الإِمام الرازى فيما نقله عن أَبي مسلم الأصفهاني، إذ قال نقلا عنه ما خلاصته: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ¬

_ (¬1) من الآية 138 من سورة الأعراف، وقد رد عليهم موسى قائلا: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيات من سورة الأعراف. (¬2) القرطبي ج 11 ص

ذكره المفسرون، ونرى في الآية وجهًا آخر، وهو إن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته وشريعته، وبيان الآية على هذا أَن موسى لما أقبل على السامري باللوم والسؤال عما دعاه إِلى صنع العجل وإِضلال قومه بعبادته، قال بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت ما لم يعرفوه في دينك يا موسى، فقد تبين لي أَنه ليس بحق، فقبضت قبضة من أَثرك أَيها الرسول أَي أخذت شيئًا من سنتك ودينك فطرحته عن قلبى، وحملت القوم على ترك دينك بصناعة العجل وتحويلهم إلى عبادته، فعندئذ أَدرك موسى كفره، فتوعده بالعقاب في الدنيا والآخرة، وإنما وصف موسى بالرسول وهو لا يؤمن به على سبيل التهكم، كما قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. وقد عقب الرازى على هذا الرأْى بقوله: واعلم أَن هذا القول ليس فيه إلا مخالفة المفسرين ولكنه أَقرب إِلى التحقيق. والمعنى على هذا: قال السامرى لموسى ردًا على لومه وتوبيخه: علمت من أَمر دينك ما لم يعلمه قومك، فكرهت البقاء فيه، فقبضت قبضة من دينك المأْثور عنك، فطرحتها عني وحملت قومى على مخالفتك فصنعت لهم عجلا جسدا له خوار بسبب دخول الريح فيه أَو بالسحر، ودعوتهم إلى عبادته، حيث قلت لهم: هذا إِلهكم وإله موسى، فاستجابوا لى وعبدوه وكذلك سولت لى نفسى. {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} المفردات: {لَا مِسَاسَ}: لا يمسنى أَحد. {مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}: أَي وعدا بالعذاب يوم القيامة لا خلف فيه.

{ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}: دمت على عبادته ملازما ومقيما، وأصله ظللت، فخفف بحذف اللام الأولى. {لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ}: أي لَنَنْذروَنَّه ونُطَيّرنه في البحر، والنسف نقض الشيءِ أَو تعريضه للريح ليبعثره أَو ينقضه مما يشوبه، والمراد منه هنا التَّذْرية والذَّرو وهو المعنى الثاني للنسف، والمِنْسف ما ينسف به الطعام. {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: أَحاط علمه بكل شىءٍ. التفسير 97 - {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ..... } الآية. أي قال موسى للسامرى بعد اعترافه بصناعة العجل وحمله قومه على عبادته - قال له: اذهب عنا منفيا من بيننا، بحيث لا يمسك أَحد ولا تمس أَحدا، حتى تلجئك هذه المقاطعة إِلى أَن يختل عقلك فتقول: لا مساس، ترديدا لما يقوله الناس بعضهم لبعض في النهي عن ملامسته، تأْكيدا لفصله عن المجتمع الذي أَضله، وتنفيذا لما أَوصاهم به موسى عليه السلام من مقاطعته وترك معاملته والاتصال به، وهذا هو الذي نراه مناسبا في تفسير الآية. ومن المفسرين من قال: إِن الله عاقبه بمرض جلدى، وكان يصاب بالحمى إِن مسه الناس، فكان يسترحمهم قائلا: لا مساس، فابتعد عنه الناس لا يؤاكلونه ولا يعاملونه لذلك. وأنكر الجبائي هذا الرأْى، وقال: إِنه خاف وهرب إِلى البرية، وجعل يهيم فيها فلا يجد أَحدا من الناس يمسه، حتى صار لبعده عن الناس كالقائل: لا مساس. اهـ وبما أَننا لا نجد دليلا على هروبه إِلى البرية ولا على إِصابته بمرض جلدى، فلهذا نرى أن ما ذكرناه أَولا في تفسير الآية هو المناسب للنص الكريم. وتعتبر هذه الآية من الأصول التي يعمل بها مع الذين يحدثون حدثا كبيرًا في الدين، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك في الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، حيث أَوجب على المسلمين مقاطعتهم حتى عفا الله عنهم. {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ}: وإِن لك يا سامري وعدا بالعقاب في الآخرة لن يحدث فيه خلف، فإِنه تعالى لا يغفر أَن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ.

{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}: قد عرفت مما تقدم أَن العجل الذي صنعه السامرى من حيلهم فيه ثلاثة آراء (أَحدها): أنه عجل تحول من حلي إِلى حيوان، حينما وضع عليه السامرى ترابا من تحت حافر الفرس التي كان يركبها جبريل - كما قيل - (وثانيها): أنه عجل من ذهب لم تحل فيه الحياة، وأن خواره صناعى أو بسبب السحر، فعلى أَنه عجل حيوانى، يكون حرقه بعد ذبحه، حتى إِذا صار رمادا نسفه في اليم، أي ذراه في الهواء في اتجاه البحر، أَما على أنه عجل صناعى لم تحل به الحياة، وأَن خواره صناعى أو بطريق السحر، فيكون حرقه وتصييره رمادا من آيات موسى عليه السلام، لأَن الذهب إِذا صهر بالنار يصبح سائلا ولا يمكن نسفه، (وثالثها) أَنه عجل حيواني اشتراه موسى السامرى بعد أَن صهر الذهب وسرقه، وأمر حرقه بعد ذبحه واضحٌ، وأَن كنا نستبعد أن يحرقه موسى وهو لحم حيوان أحل الله أكله، وكان يكفى - لو صح أَنه حيوان حقيقى - أن يذبحه ليظهر بذبحه عدم صلاحيته للألوهية، ثم يبيح لهم أكله. والذي لم يظهر لنا والله أَعلم أَنه عجل صناعى (¬1) وأَن خواره صناعى أو عن طريق السحر، وأن الحياة لم تحل فيه، فإن ذلك معجزة فلا يجريها الله على يد منافق لا يعترف بوحدانيته تعالى، بل هي من آيات الرسل كما حدث لعصا موسى عليه السلام، وأَن إِحراق موسى له يعتبر آية ومعجزة من معجزاته عليه السلام. والمعنى: وانظر يا سامري إِلى العجل الذي صنعَته وجَعلْتَه لك إلها، وأقمت على عبادته ملازما أنت ومن استجاب لك من قومك، والله لنحرقنه حتى يصير رمادا، ثم لننسفنه ونذرينه ليلقيه الريح في البحر حتى تعلم أَنت ومن تبعك عجزه عن حماية نفسه من النار، وفساد رأْيكم في عبادته. 98 - {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: هذه الآية جاءت لإحقاق الحق بعد إِبطال الباطل، والخطاب فيها لعموم بنى إسرائيل. ¬

_ (¬1) والآية شبه صريحة في ذلك، إذ يقول الله في الآية (77) حكاية عمن عبدوه {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا .... } ال

والمعنى: ما إلهكم يا بني إِسرائيل سوى الله الذي لا إله سواه أَحاط علمه بكل شيءٍ. فكيف تشركون به العجل الذي لا يعلم ما يراد به، ولا يستطيع حماية نفسه، وبهذا تم حديث موسى بشأْن العجل الذي عبدوه. {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} المفردات: {ذِكْرًا}: المراد به القرآن الكريم، وأطلق الذكر عليه لأَنه يذكر الناس بما ينفعهم، أَو لأَنه شرف للرسول ولقومه - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}. {وِزْرًا}: أَي ذنبا ثقيلا. {الْمُجْرِمِينَ}: المشركين. {زُرْقًا}: أَي زرق الأَبدان أَو العيون. {يَتَخَافَتُونَ}: يخفضون أَصواتهم من شدة ما يجدون. {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}: ما مكثتم في القبور أَو الدنيا إِلا عشر ليال. {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً}: أَعدلهم رأْيا. {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}: ما لبثتم في القبور أَو في الدنيا إِلا يوما. التفسير 99 - {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}: أَي مثل ذلك القصص الصادق من خبر موسى وقومه نقصُّ عليك يا محمد أمثاله من قصص الأَولين تسلية لك مما حل بك من قومك، وتأْييدا لنبوتك، وتبصيرا للمستبصرين من

أولى الالباب الباحثين عن الحق، وقد أعطيناك من عندنا قرآنا مذكِّرًا بما في تلك الأنباءِ والقصص من العبر وهو كتاب شريف جامع لكل الكمالات. 100، 101 - {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا}: أي من أَعرض عن هذا الذكر العظيم الذي أَعطيناك أيها الرسول، ولم يؤْمن بما جاء فيه من العقائد والأحكام الدنيوية والأُخروية فإنه يحمل يوم القيامة إِثما عظيما لا قدرة له على احتماله مقيما في جزائه جهنم إِقامة دائمة، وبئس للمعرضين عنه - وبئس لهم - يوم القيامة هذا الحمل الذي حملوه بالإعراض عن الذكر الذي بعثك الله به إِليهم (¬1). 102 - {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}: أي اذكر لهم يا محمد يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة البعث من القبور، حيث يقوم الناس لرب العالمين، ونسوق المجرمين يومئذ بعد البعث زرق الأجساد أو زرق العيون من أجل ما يحملونه من الأوزار، وخوفهم من محاسبة العليم القهار، وسئل ابن عباس عن وصفهم هنا بقوله {زُرْقًا} وفي آية أخرى بقوله {عُمْيًا} فكيف يجمع بينهما؟ فقال: ليوم القيامة حالات، فحالة يكونون فيها عميا وأخرى يكونون فيها زرق العيون. وقال الفراءُ: المراد من {زُرْقًا} عميا لأن العين إِذا ذهب نورها ازْرَقَّ ناظرها. 103 - {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}: أي يخفضون أصواتهم، ويتهامسون فيما بينهم قائلين، ما لبثتم في القبور إلا عشر ليال، أَو عشرة أَيام (¬2)، ومرادهم من قولهم ذلك استقصار مدة لبثهم في القبور وسرعة انقضائِها، بعد أَن تحقق لديهم البعث الذي أَنكروه من قبل، يقولون ذلك على سبيل التنديم، كأَنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إِلا مدة يسيرة، وقد كنتم تزعمون أنكم لن تبعثوا منه ¬

_ (¬1) وإفراد الضمير في قوله {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ} مراعاة للفظ {مَنْ}، والجمع في قوله {خَالِدِينَ} وقوله {وَسَاءَ لَهُمْ} مراعاة لمعناه. (¬2) قيل: إن تقديرها بعشرة أيام أولى من تقديرها بعشر ليال، ليناسب قول أمثلهم في الآية التالية {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} فإن قيل: إن تقديرها بالأيام يقتضي تأنيث العشرة، على قاعدة تأنيث العدد إذا كان المعدود مذكرًا، والعكس بالعكس، وأجابوا بأنه إذا حذف المعدود وأبق عدده فقد لا يؤتى بالتاء، حكى الكسائى: صمنا من الشهر خمسًا، ومنه ما جاء في الحديث "ثم أتبعه بست من شوال" فإن المراد ستة أيام وحسن الحذف مراعاة الفواصل.

أَبدا، وعن قتادة أَنهم قصدوا بهذه العشر مدة لبثهم في الدنيا، استقصارا لها لزوالها وتأسفهم عليها بعد أن عاينوا الشدائد التي لا غاية لها، وأَيقنوا أنهم استحقوها بسبب إضاعتهم دنياهم القصيرة في قضاء الأوطار واتباع الشهوات: انتهى بتصرف. وفي مجمع البيان عن ابن عباس وقتادة أَنهم قصدوا مدة لبثهم بين النفختين، حيث يمكثون أربعين يوما مرفوعا عنهم العذاب. 104 - {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}: نحن أعلم بما يقوله هؤُلاء المتحسرون على ضياع رقادهم أو إقامتهم في دنياهم حين يقول أَحسنهم طريقة في القياس بين ما كانوا فيه وما هم مقبلون عليه. ما لبثتم إِلا يوما واحدا، يريد بذلك حملهم على الندم أَكثر فكأَنه يقول لهم: إن تقدير إقامتنا في القبور أو في الدنيا بعشرة أَيام يعتبر شيئا كثيرا بالنسبة إلى ما نحن مقبلون عليه من الشدائد فما لبثنا أكثر من يوم واحد، ووَصَفَ القرآن قائلَ هذا بأَنه أَمْثَلُهُمْ طريقة لكون ما قاله أَعظم في التنديم، وأقوى في التحسير، وأدل على شدة ما هم مقبلون عليه، ولكل مقام مقال يحسن فيه أكثر من غيره. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} المفردات: {يَنْسِفُهَا}: يذريها ويطيرها. {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}: فيتركها سهلا مستويا. {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}: لا تجد فيها انخفاضًا ولا شيئًا مرتفعا.

{يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ}: يتبعون إسرافيل الذي دعاهم بالنفخ في الصور إلى الحساب. {لَا عِوَجَ لَهُ}: أَي لا عوج للداعى على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه. التفسير 105 - {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}: هذه الآية مستأْنفة لبيان حال الجبال عند قيام الساعة بعد ما سأَل السائلون رسول الله عنها، وهؤُلاءِ السائلون ممن ينكر البعث من قريش، فقد أَخرج ابن المنذر عن ابن جريج أَنهم قالوا على سبيل الاستهزاءِ كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل هم أُناس من المؤْمنين سأَلوا عنها على سبيل التعلم وطلب المعرفة. والمعنى: ويسأَلك السائلون يا محمد عن حال الجبال يوم القيامة، أَتظل باقية على ما هي عليه، فقل مجيبا لهم، يجعلها الله كالرمل أَو التراب ثم يرسل عليها الريح فتذروها وتبعثرها. ولا تستعصى على من يقول للشىءِ كن فيكون. ولا يوجد في القرآن أَمر من الله للرسول مقرون بالفاء، يجيب به السائلين سوى ما هنا. أَما ما عداه فبدون الفاءِ كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الخ. والسبب في هذا أَن الفاءَ للترتيب والتعقيب، وقد جىءَ بها هنا للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل المشرك من بقاء الجبال تبعا لظنه عدم الحشر، أَو للمسارعة إلي تعليم السائل المؤمن حفظا لعقيدته مما يقوله المنكرون، وهذه خلاصة ما نقله الآلوسى عن الإِمام الرازى (¬1). ¬

_ (¬1) ويرى القرطبي أن الفاء هنا في جواب شرط مقدر، أي فإن سألوك عن الجبال فقل، وقد علم الله أنهم سوف يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال، أما سائر ما في القرآن من أسئلتهم، فكان قد وجه إلى الرسول فعلا، فتميز جوابها بعدم ذكر الفاء.

106، 107 - {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}: أَي أَنه تعالى بعد أَن يزيل الجبال ويبعثرها، يترك أُصولها أَرضًا مستوية، كأنها مع غيرها صف واحد على سمت مستو متماثل، بحيث لا ترى في أُصول تلك الجبال المنسوفة انخفاضًا ولا نتوءًا بارزا والعِوج بكسر العين يستعمل في غير المستقيم حسيا ومعنويا أَما مفتوح العين فقاصر على الحسي غير المستقيم (¬1). 108 - {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ... } الآية. أَي يومئذ ينسف ربي الجبال، يتبع الناس داعى الله عز وجل إِلى المحشر، وهذا الداعى هو إسرافيل، وظاهر ما جاءَ في القرآن أن هذه الدعوة هي النفخة الثانية في الصور قال تعالى في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} وهى المعنية بقوله في سورة يس: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} والله أَعلم بحقيقة هذه الدعوة وكيفيتها. ومن المفسرين من جعلها دعوة كلامية، حيث قال. إِن إِسرافيل يضع الصُّور في فمه ويقول: أَيتها العظام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إلى العرض على الرحمن فيقبلون من كل صوب إِلى صوته ... وأَخرج ابن أَبي حاتم عن محمد بن كعب القرظى قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظلمة، تطوى السماءُ وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادى مناد فيتبع الناس صوته يؤُمونه، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}. وقال على بن عيسى: الداعى هو الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل: انتهى. وأظهر الأقوال ما قلناه أَولا، من تفويض العلم بحقيقة هذه الدعوة وكيفيتها إلى العليم الخبير سبحانه وتعالى، ومعنى {لَا عِوَجَ} لا يعوَج للداعى مدْعوٌّ ولا عدول له عنه، وذلك مثل قولهم: لا عصيان له أي لا يعصى، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى: لا شك فيه. ¬

_ (¬1) واختار المرزوقى أنه لا فرق بينهما - انظر الآل

{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}: أي وخفتت أَصوات الخلائق هيبة للرحمن، ورهبة من الموقف الرهيب، فلا تسمع من أحد من أهل الموقف إِلا صوتًا خفيفا خافتا يصدر من فمه. وفي إحدى الروايات عن ابن عباس أن المراد من الهمس هنا خفق الأقدام، وبمثله قال عكرمة وابن جبير والحسن، واختاره الزجاج والفراءُ، ومنه قول الشاعر: وهنّ يمشين بنا همسا. والمعنى على هذا: سكتت أصواتهم وانقطعت كلماتهم، فلا نسمع منهم إلا خفق أقدامهم وهم يمشون إلى المحشر، والخطاب في قوله {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} لكل من له سمع يستمع به. 109 - {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}: أَي يومئذ يدعوهم داعى الرحمن إِلى المحشر للحساب، فيستجيبون له خاشعين، لا تنفع الشفاعة أحدا من أفراد الأُمم، إلا من أذن الرحمن بالشفاعة لأجله من بينهم، ورضى له قول الشافع وأَذن له به. ويصح أن يكون المعنى: ورضى للمشفوع له ما كان يقوله، والمراد منه كما قاله ابن عباس: قوله (لا إله إِلا الله) وخلاصة المعنى على هذا: لا تنفع الشفاعة أَحدا، إلا من أَذن الرحمن في أَن يُشفع له وكان مؤْمنا. والمراد على كل تقدير: أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إِلا من ذكر، وأَما من عداه فلا تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدِّين للشفاعة عن الناس، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}. 110 - {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}: أي يعلم الرحمن ما يستقبله المحشورون من المقادير التي كتبها لهم أو عليهم وما تركوه خلفهم من أعمالهم وأَحوالهم الدنيوية، ولا يحيطون علما بالمذكور من مجموع الأمرين، فإنهم كما قال الجبائى: لا يعلمون جميع ما ذكر، ولا تفصيل ما علموه منه. ويجوز أن يكون المعنى ولا يحيطون به تعالى علما، من حيث صفاته وكمالاته التي لا تتناهى ولا يعرف أحد كنهها ومداها، فنحن لا نعلم من أَمره سبحانه إِلا ما جاءت به الرسل وما تتسع له عقولنا.

* {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} المفردات: {وَعَنَتِ}: وخضعت، وذلت خضوع العانى وهو الأَسير، وفرق بعض اللغويين بين الخضوع وبين الذل، فجعل الخضوع بمعنى الخشوع والتذلل لذى طاعة، وجعل الذل وصفا لمن كان ذليل النفس في ذاته. {الْقَيُّومِ}: الدائم القيام بتدبير أَمر خلقه وحفظهم. {هَضْمًا}: نقصا من الحق. التفسير 111 - {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ... } الآية. المراد بالوجوه جميع الناس أَو المجرمون الذين سبق الحديث عنهم، وإِطلاق الوجوه عليهم مجاز، ويصح أن يراد بها حقيقتها، وتخصيصها بالذكر لأَنها أَشرف الأَعضاء الظاهرة، وأول ما تبدو عليه آثار الخضوع والذل. والمعنى: وذلت الوجوه وخضعت واستسلمت في هذا اليوم العصيب الذي تقدم الحديث عن بعض أهواله - استسلمت استسلام الأسرى لجبار السموات والأَرض، الحي الذي لا يموت، القائم على أُمور عباده، بتدبيرها وحفظها، والقيام بما يصلحها. {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}: المراد بمن حمل ظلما، كل كافر، أو ما يَعمُّهُ وغيره من سائر العصاة، وخيبة كل عاص بقدر ما حمل من الظلم. والمعنى: وخضعت النفوس للحى المسيطر على كل شىءٍ وقد خسر كل من كسب ظلما في دنياه، حين يعرض يوم القيامة على مولاه فيأمر بعقابه على ما كسبت يداه.

وبعدما حكت هذه الآية خيبة الظالمين الآثمين، عقبها الله ببيان حسن حال المؤمنين الصالحين، فقال سبحانه: 112 - {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}: أَي ومن يعمل شيئًا من الصَّالِحاتِ في دنياه وهو مؤْمن به ويجعل دنياه مزرعة لآخرته، فإِنه يُقْبل يوم القيامة على الملك الحق العادل في خلقه، وهو مطمئن النفس، لا يخاف {ظُلْمًا} بأَن يحمل أَوزارا لم يرتكبها {وَلَا هَضْمًا} بأَن ينقص حق من حقوقه، أَو يضيع ثوابٌ لعمل من أَعماله مهما قلَّ أَو خفى بل يُوفَّى أَجره كاملا، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬1). ولا يقتصر جزاؤُه على الوفاء، بل يضاعف ثوابه على قدر نيته وعمله، وفقا لمشيئة الله تعالى {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} المفردات: {صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيد}: كررنا وفصلنا فيه من الإنذار والتخويف. {ذِكْرًا}: اعتبارا واتِّعاظا. {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}؛ فتنزه الله الملك الكامل التصرف في ملكه، الثابت في ذاته وصفاته. {يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}: يتم جبريل تبليغ القرآن الموحى به إِليك. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 47 (¬2) سورة البقرة، الآية: 261

التفسير 113 - {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}: أي مثلما تقدم من التنزيل المشتمل على القصص النافع والوعد بالثواب على العمل الصالح، والوعيد بالعقاب على العمل السىءِ والكفر، ومثل هذا الإِنزال أَنزلنا القرآن كله، بأُسلوب عربى واضح ليفهموه، وليكون آية على نُبُوَّتِكَ، يعجزهم عن معارضته، وكررنا فيه من التخويف والإنذار على الكفر والمعاصي، لكي يتقوها، أو يحدث لهم اعتبارا واتعاظا يؤدى بهم إِلى التقوى. وفسر قتادة التقوى هنا بالحذر والورع، وفسر بعضهم الذكر بالشرف. 114 - {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ... } الآية. أَفاد هذا النص الكريم استعظام شئونه تعالى في ملكه، وما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهى المقتضية لوجوب العمل به، كما أَفاد التعجب من عظمة القرآن ووجوب الإِقبال عليه والعمل به، وتعظيم من أنزله. والمعنى: تقدس الله وتنزه عن النقائص فهو المتصرف بالأَمر والنهي، الحقيق بأن يعمل بكتابه، لكي يرجى ثوابه، ويخشى عقابه، وهو الدائم الذي لا يزول ولا يتغير. {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}: ولا تعجل يا محمد بقراءَة القرآن الذي يوحى به إليك، ترديدًا لما تسمعه من قبل أَن يُتِمَّ جبريل تبليغه إِليك، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا التقى به جبريل وأَلقى عليه القرآن يتبعه عند تلفظه بكل كلمة خوفا من أَن يصعد جبريل عليه السلام ولم يحفظه، حرصا على حفظ الوحى، فطمأَنه الله على ذلك، وبشره بجمعه إياه، ونهاه عن التعجل بقراءَته عند نزوله كما قال تعالى في سورة القيامة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬1). ثم أَرشده الله سبحانه وتعالى إلى الدعاءِ بالاستزادة من العلم مطلقا بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}: وكان - صلى الله عليه وسلم - يسأَل الله دائِما الاستزادة من العلم، ¬

_ (¬1) الآيات، من 16 -

أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم انفعنى بما علمتنى، وعلمنى ما ينفعني وزدنى علما، والحمد لله على كل حال". وهذا دليل على فضل العلم، وحث على التزود منه ما وجد الإنسان إِلى ذلك سبيلا. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} المفردات: {عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ}: أَي وصيناه لا يقرب الشجرة. {عَزْمًا}: ثباتا وتصميما. {فَتَشْقَى}: فتتعب بمتاعب الدنيا. {وَلَا تَعْرَى}: يقال عرى يَعْرَى إذا تجرد من اللباس. {وَلَا تَضْحَى}: ولا يصيبك حر الشمس، يقال: ضَحَا، كَسَلا ضَحْوًا، وَضَحِىَ كَرَضِىَ ضحْيًا، أَصابته الشمس. {فَوَسْوَسَ}: الوسوسة؛ الخَطْرَةَ الرديئة، وتطلق على الهمس الخفى، وعلى حديث النفس. {شَجَرَةِ الْخُلْدِ}: الشجرة التي إِذا أَكل منها الإِنسان خلد ولم يمت

كما زعم الشيطان. {طَفِقَا يَخْصِفَانِ}: شَرَعَا وأخذا يلزقان على عورتيهما ورقة فوق أُخرى من ورق الجنة. {فَغَوَى}: فضلَّ عن مطلوبه. {اجْتَبَاهُ}: اصطفاه. التفسير 115 - {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}: تمهيد: كرر الله سبحانه وتعالى قصة آدم في كثير من السور القرآنية بأَساليب متعددة، ليعرف أبناؤه من البشر عداوة الشيطان لهم ولأَبيهم من قبلهم، حتى يحذروا أَفانينه في تزيين الباطل، وينجوا من سوء المصير الذي يدبره لهم: وقد حكى الله سبحانه في هذه السور كيف أَغوى الشيطان آدم وأغراه بعصيان ربه، فانخدع بأَفانينه الشريرة فوقع فيما أراده من المعصية، ليخرج من الجنة كما خرج، وليتسلط على ذريته كما هدد وتوعد، ولا شك في أَن هذا التفصيل مثل لبيان ما أَجمله الله سبحانه في قوله في الآية السابقه {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} والمراد من العهد إلى آدم وصيته وأَمره، تقول: عهد الملك إِلى فلان إِذا أَوصاه وأَمره. والمعنى: ولقد وصينا آدم وأَمرناه أَن لا يقرب الشجرة فغفل عما وصيناه به ولم يشتغل بحفظه ولم نجد له ثبات قدم في تنفيذه، حيث خدعه الشيطان بأَساليبه، فنسى تحذير الله له منه بقوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}. وفسر ابن زيد وغيره قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} بمعنى لم نجدْ له عزما على مخالفة عهد الله، بل كان عن طريق نسيان تحذير الله له من عداوة الشيطان دون تعمد للإِثم والمخالفة. 916 - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى}: هذه الآية شروع في بيان ما عهد به لآدم، وكيفية نسيانه وفقدان عزمه. والمعنى واذكر يا محمد وقت أَمرنا للملائكة بالسجود لآدم تشريفا وتكريما وبيانا لفضله، فامتثل الملائكة جميعا وسجدوا إلا إبليس فإِنه تَمنَّع عن السجود له حقدا وحسدا، لظنه أَنه أَفضل منه، حيث خلق من نار وخلق آدم من طين، والنار في زعمه أَفضل من الطين.

117 - {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}: أَي فقلنا عقب امتناع إِبليس عن السجود لآدم - قلنا له - تحذيرا وإرشادًا: إِن هذا عدو لك وعدو لزوجك فاحترسا منه، فلا يكونن سببا لإِخراجكما من الجنة فتتعب أَنت وزوجك بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى، وتشقى بكثرة التعب والنَّصَب فيها. 118، 119 - {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}: إِنك في الجنة في عيش رغيد هنىءٍ فلا تعب ولا مشقة، فأَنت في دار كرامة لا يصيبك فيها شىءٌ من الجوع أو العرى، فالغذاءُ فيها يأْتيك بمجرد الرغبة لا عن جوع، والكساءُ الفاخر فيها يأْتيك كذلك لا عن احتياج، لا يصيبك فيها الظمأُ أَو حر الشمس، لأن شرابها تابع للإِرادة لا عن عطش، ولأَن ظلها دائم {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} (¬1). فاجتمعت لك فيها الأَسباب التي توفر الراحة للإنسان، وتجلب له السعادة، فاحرص عليها، وحافظ على البقاء فيها، وابتعد عن كل ما يؤدى بك إلى الخروج منها. 120 - {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}: ولكن الشيطان وهو عدوه المتربص به، الواقف له بالمرصاد، لم يتركه يعيش في هذا النعيم حسدا له عليه، فأَخذ يخطر له في نفسه خطرات من الأمانى الكاذبة، ويهمس له بها همسا خفيا قائلا: إِنى سأَدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا يفنى. 121 - {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}: فتأول آدم نهى الله عن الأَكل من الشجرة، بأَنه نهى عن شجرة بعينها، وهى التي أُشير إِليها في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (¬2). ولم يحملها على الجنس، فأكل من جنسها هو وزوجه ولم يأْكل منها نفسها، فانكشفت لهما عوراتهما - وكانت مستورة عن أَعينهما - عقابا لهما على الأَكل منها، فقد كان الأَجدر به أن يفهم من النهي عمومه لجنس الشجرة لا خصوصه بها. ¬

_ (¬1) سورة الإنسان، من الآية: 13 (¬2) سورة البقرة، من الآية:

ومن المفسرين، من جعل انكشاف عورتيهما مرتبا على الأَكل من الشجرة، لمصلحة أُخرى وليس عقابًا (¬1). {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}: وشرعا يلصقان على عورتيهما من ورق الجنة لسترها. حياءً وخجلا .. {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}: وخالف آدم بذلك أَمر ربه فضلَّ عن مطلوبه وهو الخلود في الجنة، أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة، أَو عن الرشد باغتراره بوسوسة عدوه. وقد عرفت أَن أَكله من الشجرة كان بنوع من التأْويل كما تقدم بيانه، وسمى ذلك عصيانا لعلو منصبه عليه السلام الذي يقتضي مزيد الانتباه لكيد عدوه، وعدم تصديقه في مزاعمه. ومن العلماءِ من فسر ظهور سوآتهما ومحاولة سترها بأَنهما لما ذاقا الشجرة وقد نهيا عن الأَكل منها ظهر لهما أَنهما قد زَلَّا وخلعا ثوب الطاعة. وبدت منهما سوأَة المعصية، فاستولى عليهما الخوف والحياءُ من ربهما. وأَخذا يفعلان ما يفعل الخائف الخجل عادة من الاستتار والاستخفاء حى لا يُرى، وذلك بخصف أَوراق الجنة عليهما ليستترا بها. 122 - {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}: ثم أَلهم الله آدم التوبة، فتاب إِلى ربه فاختاره الله وتاب عليه واصطفاه وقربه إِليه .. 123 - {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .... } الآية. قال الله لآدم بعد أَن أَكل من الشجرة: اهبط أَنت وزجك من الجنة إِلى الأَرض، وقد أمر بذلك تنفيذا لحكمة الله من خلق آدم وحواءَ، وهى استخلافه وذريته في الأَرض كما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} سورة البقرة. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}: هذا إِخبار من الله لآدم بعداوة إبليس له ولذريته إِلى يوم القيامة. ويجوز أَن يكون المعنى: بعض أَولادكما لبعض عدو، وأُسندت العداوة إِلى آدم وحواءَ لأنهما منشأُ أَولادهما المتعادين. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه بسعة عن ذلك في تفسير مثله في سورتى البقرة والأعراف، وهناك تعرف آراء العلماء في الجنة التي كانا فيها وغير ذلك من الأمور الهامة.

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}: وأخبره الله سبحانه وتعالى بأنه سيتعهد ذريته بإرسال الرسل وبيان الطريق المستقيم في كتب ينزلها عليهم، هادية لهم، فمن اتبع الهدى الذي أنزله وسار في الطريق الذي رسمه، وعمل مما شرعه، فلا يضل طريقه في الدنيا، ولا يشقى بالعذاب يوم القيامة، لأنه اختار لنفسه طريق السعادة فسعد في دنياه وأُخراه. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} المفردات: {عَنْ ذِكْرِي}: عن الهدى المذكر بعبادتى. {مَعِيشَةً ضَنْكًا}: ضيقة شديدة، والضنك: الضيق. {آيَاتُنَا}: الأدلة والبراهين الدالة علينا. {فَنَسِيتَهَا}: فتركتها وأعرضت عنها. {أَسْرَفَ}: جاوز الحد فانهمك في الشهوات واسترسل فيها. التفسير 124 - {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا .... } الآية. بعد أَن بين الله حسن مصير من اتبع هدى الله الذي أنزله على أنبيائه، جاءت هذه الآية لتبين مصير من أعرض عنه.

والمعنى: ومن انصرف عن الهدى الذي يذكره بعبادتى فإن له معيشة ضيقة في حياته مهما كان في سعة من العيش، فإِنه يكون شديد الحرص على الدنيا متهالكا على الازدياد منها، خائفا من انتقاصها، وقيل الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه، وزيادة في عذابه يوم القيامة، كما دلت عليه الآيات، وبهذا المعنى فسره ابن عباس، فقد أخرج ابن أَبي حاتم بسنده عنه أنه قال في الآية: كل ما أَعطيته عبدا من عبادى قلَّ أَو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة: اهـ. وفسره عكرمة بالكسب الحرام. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}: أَي ونسوقه يوم القيامة فاقدا البصر على الحقيقة، حتى يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} وكان كذلك لأنه لم ينتفع بما أَعطاه الله من بصر ينظر به في آيات الله. وقيل: عَمَاهُ كناية عن عدم اهتدائه إِلى حجة تنفعه، أَو إِلى حيلة يدفع بها العذاب عن نفسه. 125 - {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا}: أي قال هذا الذي حشره الله أعمى يوم القيامة - قال - في حيرة وحسرة: يا رب لأَي سبب حشرتنى أعمى وقد كنت في الدنيا بصيرًا أَرى كل شيءٍ، فيأْتيه الجواب حينئذ من قبل الله فيما يحكيه بقوله: 126 - {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}: أَي مثل ذلك العمى الذي جئتَ به في الآخرة كنت أَعمى في الدنيا، فقد جاءَتك آياتنا فعَمِيتَ عنها، وتركتها كالشيءِ المنسى الذي لا يخطر بالبال، فاليوم نجازيك مثل عملك، فنجعلك أَعمى عن الاهتداءِ إِلى حجة تنفعك، ونتركك في حيرتك وعماك ترك المنسى، وندفع بك إِلى النار لتَصْلى عذابها وتتلظى بنارها، ولهذا قال سبحانه عقب هذه الآية: 127 - {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}: أَي وبمثل ذلك الجزاءِ العادل نجازى كل من أَسرف على نفسه في ارتكاب المعاصي وترك الإيمان بربه، ولم ينظر في الآيات التي نصبها في الأنفس والآفاق، ولم يعمل بشرعه

أَرسل به رسله، حيث نجعله أَعمى في الآخرة، لا يهتدى إلى سبيل النجاة من عذابها، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى من عذاب الدنيا. {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} المفردات: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}: أَفَلَمْ يتبين لهم ما يدلهم على الهدى. {لِأُولِي النُّهَى}: لأَصحاب العقول الراجحة. {لَكَانَ لِزَامًا}: أَي لكان عقابهم لازمًا لا يتأَخر عنهم. التفسير 128 - {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ... } الآية. أَي أَغفل هؤُلاء المعرضون من أَهل مكة عن ذكر الله، فلم يتبين لهم خبر من أَهلكنا قبلهم من أهل القرون الماضية الذين ضلوا وأغرضوا عن ذكر ربهم، وهم يمشون في مساكنهِم حين أَسفارهم كعاد وثمود الذين يشاهدون آثارهم الدالة على ما كانوا عليه من عظمة وسعة في العيش فلقد أَخذهم الله بذنوبهم، ولم يُغْنِ عنهم ما كانوا فيه من القوة والمنعة - لم يغن عنهم - من عذاب الله شيئًا، وحاق بهم ما كانوا يكسبون، فلو كان هؤُلاءِ أصحاب عقول سليمة لاعتبروا بهؤُلاء السابقين، كما قال سبحانه: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} إن في إهلاك أهل هذه القرون الماضية على كفرهم، لعظات بالغات لأصحاب العقول الراجحة، التي تنهاهم عن الكفر والمعاصي.

129 - {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}: ولولا كلمة سبقت من الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يعذب أُمته في الدنيا بعذاب الاستئصال كما عذبت الأُمم السابقة، ولولا موعد سماه الله لعذابهم وهو يوم القيامة - لولا ذلك - لكان عذابهم العاجل المستأْصل لهم لازمًا محتمًا، لأَنهم سلكوا طريق السابقين في التكذيب والإِنكار، فاستحقوا بذلك العذاب مثلهم، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} المفردات: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}: نَزِّه الله وعظِّمْهُ حامدًا له. {آنَاءِ اللَّيْلِ}: ساعاته جمع إِنَى كَإِلَى (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 33، 34 فارجع إلى تفسيرهما هناك في كتابنا (التفسير الوسيط). (¬2) وأنى كعصا وإنى كعلم.

{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ}: أَي وأَجزاءً منه، جمع طَرَف، وهو الطائفة من الشيءِ - ذكره القاموس والصحاح. {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}: لا تطل نظرهما بطريق الرغبه والميل. {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ}: أَصنافًا من الكفرة. {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: زينتها وبهجتيا. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}: لنختبرهم به. {وَرِزْقُ رَبِّكَ}: ما ادخره الله من الثواب والنعيم في الآخرة. التفسير 130 - {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}: بعد ما أَخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأَن المكذبين له مستحقون للعذاب الذي حل بمن سبقهم، وأَنه لولا ما سبق من وعد الله له بأَنه لا يعذب أُمته وهو فيهم - بعد هذا كله - أمره الله بالصبر على أَذاهم، وتحمل كل ما يقولونه، فإن عذاب الآخرة نازل بهم لا محالة. والمعنى: فأصبر أَيها الرسول على ما يقوله مشركو مكة الذين أَسرفوا في الكفر بآيات ربك وتكذيبك، فقد توعدناهم بأَجل مسمى ينالون فيه عذابًا أَشد وأَبقى، واشتغل بتسبيح ربك وتنزيهه عن النقائص، واحْمدْه، على ما أنعم به عليك من مختلف النعم، وأَعلاها النبوة والمعونة في تبليغ الرسالة مع معارضة هؤُلاءِ المعاندين، وليكن هذا التسبيح والحمد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وفي أوقات مختلفة من الليل وأَطراف النهار، رجاءَ أَن يمنحك الله من مزيد التوفيق وعظيم النصر وجزيل الثواب، ما ترضى به نفسك الصابرة على أذاهم، الصامدة في تبليغ الدعوة إِليهم، وفي معنى هذا الوعد الكريم يقول سبحانه في سورة الضحى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وتأَول بعض المفسرين الآية بأَنها إشارة إلى مواقيت الصلوات الخمس، وجعل التسبيح فيها مجازًا عن الصلاة، فكأنه سبحانه يقول: وصل لربك صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل غروبها، وصلاة العشاء في

بعض آناء اليل وأوقاته، وصلاتي الظهر والمغرب في أَطراف النهار، فصلاة الظهر في آخر طرف النصف الأول وأول الطرف الثاني، وذلك وقت زوال الشمس عن كبد السماءِ وصلاة المغرب في آخر طرف النصف الثاني منه، ولهذا قال سبحانه (أطراف) بصيغة الجمع، ويصح أَن يراد من الجمع ما فوق الواحد، أي وطرفى النهار، وقت الزوال ووقت الغروب .. 131 - {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}: بعد ما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الآية السابقة بالصبر على ما يقوله المشركون في حق آيات ربه، والاشتغال عن سفههم بتسبيح ربه وحمده، نهاه في هذه الآية عن التطلع إلى ما هم عليه من زينة الحياة الدنيا، فإنها فتنة لهم. والمقصود من نهيه عن ذلك دوام التنزيه بما هو عليه من عدم التطلع إلى زينة الحياة الدنيا التي يتحلى بها المشركون، وتبصير المؤْمنين بأن ما عليه المشركون من غنى ويسار إِلى زوال، وما هو إلا فتنة لهم، فلا يتطلعون اليه، ولا يهتمون به، وأَن رزق الله ومثوبته على الإِيمان والإيذاء خير مما هم عليه .. والمعنى: قد أغنيتك بطاعتى وآياتى، فاصبر على ما يقولون في شأْنها وشأنك، ودُمْ على ما أنت عليه من عدم النظر إِلى ما متعنا به أَمثالا من المشركين متزاوجين - أَي متماثلين في الغنى والجاه، حيث أَعطيناهم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، لنفتنهم في هذا المتاع، فهو إلى زوال، وما يرزقك الله في الدنيا من النصر والفتح والغنائم، وفي الآخرة من الثواب على الصبر وقلة المبالاة بدنياهم، أَبقى مما هم عليه من الثراء والجاه الفانى، وعلى المؤْمنين أن يقتدوا برسولهم فيما هو عليه من الزهد في دنياهم وعدم التطلع إِليها، فسيرزقهم الله في دنياهم وأُخراهم ما هو أَجدى عليهم وأَبقى مما يتمتع به المشركون: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 30

132 - {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}: يرشد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية إلى أن يأمر أهله بالمداومة على أَداء الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها المحددة لها، ليكون في ذلك إرشاد لأُمته فتعلم أنها مأْمورة بذلك بطريق الأَولى. والمعنى: وأمر أهلك أيها الرسول بالصلاة، واصطبر أَنت على أَدائها وملازمتها، ونحن حين نكلفك بالصلاة لا نسألك أن ترزق نفسك، نحن نكفل رزقك فنحققه لك وأَنت تقوم بها، وذلك بتهيئة أَسبابه، وإعانتك على تحصيله، فأنت وسعيك ورزقك من صنع ربك، فلن تعوقك الصلاة المفروضة عن تحصيله في وقت الفراغ، والعاقبة المحمودة لأَهل التقوى الذين يصلون، وعلى ربهم يتوكلون وهم يعملون. وقد ائتمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بما أمر الله رسوله وأهله، فكانوا يصلون كما يصلى، ويفزعون إليها في ضيقهم، كما يفزع، أخرج الطبرانى في الأَوسط وأبو النعيم في الحيلة، والبيهقى في شعب الإيمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وتلا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ... } الآية. وأخرج مالك والبيهقى عن أسلم قال: (كان عمر بن الخطاب يصلى من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلى حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} ". ويصح أن يراد من أهل الرسول من آمن به من المؤمنين، كما في قوله تعالى للوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 81

{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} المفردات: {لَوْلَا يَأْتِينَا}: لولا حرف يفيد الحث على تحقيق ما بعده مثل هلَّا. {بِآيَةٍ}: بمعجزة تدل على صحة ما يدعو إليه. {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}: المراد بالصحف الأولى: الكتب السماوية السابقة، وفي جملتها التوراة والإِنجيل، والمراد بما فيها ما اشتملت عليه من قصص الأَنبياءِ والأَحكام المشتركة بين الرسالات، والمراد ببينة ما في الصحف الأُولى: القرآن، فكونه مشتملا على ما جاءَ فيها يجعله آية واضحة على نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأَنه أُمىّ لا علم له بما جاءَ فيها. {نَذِلَّ}: نُهان. {وَنَخْزَى}: ونفتضح. {مُتَرَبِّصٌ}: منتظر. {الصِّرَاطِ السَّوِيِّ}: الطريق المستقيم. التفسير 133 - {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ... } الآية. أَي وقال الكافرون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِنكارا. لما جاءهم به من البينات: هلا يأْتينا بمعجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، مثل ما جاءَ به غيره من الرسل لأَقوامهم من المعجزات الحسية التي شاهدوها، وهم بهذا القول قد بلغوا الغاية في العناد والمكابرة، حيث أَنكروا آية الآيات ومعجزة المعجزات، وهو القرآن الكريم فلهذا رد الله عليهم بقوله:

{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. أَي أَقالُوا ذلك ولم تأْتهم بينة ما في الكتب السماوية الأُولى، ممثلة في القرآن الكريم، فإن اشتماله على ما جاءَ فيها من قصص وعبر وعقائد وأَحكام يعتبر آية بينة على أَنه رسول من عند الله، فإِنه أُمى لا يقرأُ ولا يكتب، ولا صلة له بأَهل الكتاب، فضلا عما اشتمل عليه من أَعلى درجات الفصاحة التي لا يستطيع البشر أَن يأْتوا بمثلها، وقد تحداهم أَن يأْتوا بسورة منه فعجزوا، أَولم يقنعهم ذلك في كونه معجزة حتى يطلبوا معجزة أُخرى سواه وقد فات أَوان المعجزات المادية، وجاءَ أَوان المعجزة العلمية الباقية بقاءَ الزمان ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنَ الأَنبياءَ نبيٌّ إِلا أُعطى من الآيات ما مثُله آمن عليه البشر، وإِنما كان الذي أَوتيتُه وحيًا أَوحاه الله إِلىَّ فأَرجو أَن أَكونَ أَكثرَهم تابعًا يوم القيامة" (¬1) وقد كانت للنبي معجزات غير القرآن كانشقاق القمر وغيره، ولكن التحدى لم يقع إِلا به، ولهذا تكفل الله بحفظه ليبقى آية للرسالة المحمدية الباقية إلى يوم القيامة، أَما المعجزات المادية فلا بقاءَ لها. 134 - {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}: أَي: إِنا بعثنا محمدًا إليهم، وأَيدناه ببينة ما في الصحف الأُولى وهو القرآن، ولو أَنا أَهلكناهم بشركهم ومنكراتهم من قبل محمد أَو من قبل إِتيان البينة، لقالوا محتجين: ربنا هلَّا أَرسلت إلينا رسولا يدعونا إِلى الهدى والرشاد فنتبعه من قبل أَن نذل في الدنيا بالهوان والإِهلاك، ونفتضح بظهور جرائمنا في الآخرة على رءُوس الأَشهاد في المحشر، وبالعذاب المهين في نار جهنم. 135 - {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}: قل أَيها الرسول لهؤلاءِ المشركين المتمردين على الحق - قل لهم -: كل منا ومنكم منتظر ما يؤول إليه أَمره في الآخرة، فانتظروا فستعلمون عن قريب من هم أَصحاب الطريق السوى الذي لا عوج فيه، ومن اهتدى من الضلالة، هل هم المؤمنون بالقرآن العاملون بآياته، أَم هم الذين كفروا به وصدوا عن سبيله، وسيتبين لكم ذلك قريبًا بنصر من اهتدى إِلى طريق رحمة ربه، على من ضلَّ عنه إِلى طريق عذابه، أَو يتبين لكم ذلك عند الموت أو يوم القيامة وكل آت قريب - والله أَعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب فضائل القرآن.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء من السور المكية، وعدد آياتها اثنتا عشرة ومائة، وسميت بذلك لاشتمالها على كثير من قصص الأنبياءِ، وبيان أَحوالهم مع أُممهم، وما لاقوا منهم من عنت وتكذيب، جاءَت في إطار المنهج المكى العام من الدعوة إلى عقيدة التوحيد، وذم عقيدة الشرك، وتوبيخ المشركين على إعراضهم عن الذكر، وعلى دعواهم تنافى النبوة والبشرية، والإخبار بأن الله أهلك كثيرًا من الأمم المكذبة لرسلها عقابًا لهم. وقد اشتملت على آيات الله في السماوات والأرض، وبيان أنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. وأَن المشركين ليس لديهم برهان على مشروعية شركهم ولا على صحته، وأَن التوحيد عقيدة جميع المرسلين، وأن من اتخذوهم أَولادًا لله ليسوا كذلك، بل هم عباد مكرمون، كما بينت أَن السموات والأرض كانتا شيئًا واحدًا ففصل الله بينهما، وسيأتى بيان ذلك في موضعه، كما بينت أنه تعالى حفظ الأرض من الاضطراب بالجبال، وأنه جعل السماءَ فوقنا كالسقف، وحفظها من السقوط ومن العيوب، وخلق الليل والنهار والشمس والقمر، فكيف يعبدون غيره، وأَن الخلائق جميعًا سوف يموتون، وإِلى الله يرجعون، وعابت على المشركين استهزائهم بالرسول لِنَهْيِهِ إياهم عن عبادة آلهتهم، وتوعدتهم على تكذيبهم بيوم القيامة الذي سيأْتى الناسَ بغتة، ثم بيَّنت أنه تعالى سيضع الموازين يوم القيامة، فيقضى بين الناس بالحق، ولا يظلمهم مثقال حبة من خردل، ثم تحدثت عن أَنه تعالى آتى موسى وهارون التوراة ضياءً وذكرًا للمتقين، وآتى محمدًا ذكرًا مباركًا فكيف ينكرونه، ثم حكت قصة إبراهيم مع قومه وأنه حطم أصنامهم، وسفَّه أحلامهم فرجعوا إِلى الحق، ثم لم يلبثوا أن عادوا إلى وثنيتهم ونصرة آلهتهم، وأَنهم حكموا بقتله إحراقا بالنار، فجعلها الله عليه بردًا وسلامًا، فهاجر مع لوط إلى الأرض المباركة، ووهب الله له حال حياته إسحق ويعقوب بن إِسحق عليهم السلام، ثم عقَّبتْ قصته بقصة لوط فنوح فداود وسليمان، فأَيوب فإسماعيل فذى النون فزكريا ويحيى فمريم وعيسى عليهم السلام، لعلَّ المشركين يعتبرون بما جاء فيها من عظات، ويرجعون عن شركهم وعنادهم،

وبعد أن حكت السورة قصص الأنبياء وبينت أنهم جميعًا على ملة واحدة، وهى ملة التوحيد، وأنه تعالى ربهم جميعًا، فلا يحل لهم أن يعبدوا سواه، ونعت على الأمم تفرقهم في الدين، ما بين موحد ومشرك، وبينت أنهم راجعون إليه للجزاء ثم وصفت أَهوال القيامة، وسوء جزاء الكافرين، وحسن جزاء المؤمنين، وبينت أَنه تعالى كتب في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وأَنه أرسل محمدًا رحمة للعالمين، وتوعدتهم على الكفر به، وانتهت بقوله تعالى حكاية عن رسوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. وفي شأنها أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال: "بَنُو إِسْرَائيلَ والكهفُ ومريمُ وطه، والأنبياء هُنَّ من العتاق الأُول، ومن تلادى" يريد من قديم ما كتب وحفظ من القرآن، كالمال التِّلاد - أي القديم، يعنى أَنها من أوائل ما نزل من القرآن، حيث نزلت بمكة.

بسم الله الرحمن الرحيم {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} المفردات: {حِسَابُهُمْ}: أي زمن حسابهم وهو يوم القيامة. {مُعْرِضُونَ}: منصرفون عن التفكير في عاقبتهم. {ذِكْرٍ}: ما يذكرهم من القرآن بواجبات ربهم. {مُحْدَثٍ}: جديد حديث النزول. {يَلْعَبُونَ}: يسخرون ويستهزئون. {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ}: متغافلة بما يلهيها. {النَّجْوَى}: المسارَّاة في الحديث وإخفاؤه. {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ}: تخاليط في رؤى المنام.

{افْتَرَاهُ}: اختلقه من عند نفسه. {مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: المراد من القرية المُهلَكة أهلُها. التفسير 1 - {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}: المراد من الناس هنا: المشركون، فهم الموصوفون بأَنهم في غفلة وإِعراض عن يوم الحساب وبأَنهم يستمعون الذكر وهم معرضون لاهية قلوبهم، وبقولهم عن الرسول والقرآن: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}. والمعنى: قَرُبَ ودنا للمشركين يوم حسابهم - يوم القيامة - وحالهم أَنهم في غفلة عنه، معرضون عن القرآن الذي يذكرهم به، فهم بدنياهم مغرورن، وبأُخراهم مكذبون، ولسوف يندمون حين يرون أَنهم في العذاب محضرون. والتعبير عن وقت حساب الناس في الآخرة بأَنه قريب لهم، لأن ما بقى من عمر الدنيا بالنسبة إِلى ما مضى منها قليل، ولهذا كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الرسالات ونُبُوَّتُهُ خاتمة النبوات، ومن أجل ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت أنا والساعة كهاتين" (¬1) وأشار إِلى أصبعيه الوسطى والإبهام التي تليها، أي أَن بعثته قريبة من الساعة قرب نهاية الإبهام من نهاية الإصبع الوسطى، وقد ظهر من أَمارات قربها أَنك: (تَرَى الْحُفَاةَ العُرَاة العَالة رِعَاء الشاء يتطاولون في البنيان) كما جاء في الحديث النبوى الصحيح، وأن الأرض تزينت وظن أهلها أَنهم قادرون عليها، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (¬2) على أن الموت هو القيامة الصغرى، وهو منهم قريب، وحينئذ يعرفون حالهم ومآلهم. 2 - {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (¬3): هذه الآية مبينة لمدى إِعراضهم عن يوم الحساب الذي هو قريب منهم، وعن الحق الذي قامت به الحجة عليهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن سهل - كتاب التفسير - باب (أيان مرساها). (¬2) سروة يونس، من الآية: 24 (¬3) جملة "وهم يلعبون" حال من الواو في قوله: {إِلَّا اسْتَمَعُو

والمعنى: ما يأتى هؤلاءِ المشركين شىءٌ من القرآن مُذكِّرٌ لهم من ربهم، حديث النزول مع جبريل، إلَّا في حال لهوهم ولعبهم بعباراته، حيث يقدحون فيه ويعترضون عليه، وينكرون ما جاءَ به، جهلًا منهم بمكانته من الحق، ومنزلته من الصدق، ولو أن هؤلاء تذكروا بمواعظ القرآن، لتحققوا من الآخرة وقربها، ولطابت نفوسهم بالتوبة والعمل لأُخراهم، ولم يركنوا إِلى زخارف دنياهم، ولكنهم كما قال الحسن: كلما جُدِّد لهم الذكر، استمروا على الجهل. 3 - {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ (¬1) وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}: أي أَن مشركى مكة كلما أُنزل إِليهم شىءٌ من القرآن حَدِيث النزول، يذكرهم بما يجب لله من صفات الكمال، وبأنهم سوف يحاسبون على أعمالهم، لا يستمعون إِلاَّ وهم عابثون مستهزئون، ساهية قلوبهم معرضة عن ذكر الله متشاغلة عن التأمل والتعقل فيما تنتهى إِليه دنياهم، وما هم منتهون إليه من عذاب السعير، وفي معنى ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} (¬2). ثم أطلع الله نبيه على مؤامرتهم فقال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬3): أَي وبعد أن غمرتهم الغفلة وأعرضوا مستكبرين لاهين مكذبين بالبعث والحساب، أَخفى هؤلاءِ الطاغُون تناجيهم ومسارتهم حين يثبطون المؤمنين ويَصُدُّون الناس عن الإِسلام، بِتنْقِيص الرسول وتكذيبه، وإثارة النفوس عليه، حتى ينفروا منه، ويعرضوا عن دعوته، يقولون لهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}: الاستفهام للنفى المشوب بالتعجب، أي ما هذا إلاَّ بشر مثلكم، فهو واحد منكم، وليس من الملائكة، فكيف تسمعون له وتطيعونه، إِنه يريد أن يتميز عليكم ويتزعمكم، فليس بنبى ولا رسول كما يقول لكم، ومثلهم في هذا مثلُ قوم نوح، حين قال بعضهم لبعض: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} (¬4). ¬

_ (¬1) لاهية حال ثانية من الواو في قوله {اسْتَمَعُوهُ} مؤكدة للعبهم، وقلوبهم فاعل لاهية، لأن الوصف يعمل عمل الفعل. (¬2) سورة الصافات الآيتان: 13، 14 (¬3) (الذين ظلموا) بدل من الواو في قوله (وأسروا) أو أن الواو في (أسروا) حرف للدلالة على الجمعية، و (الذين ظلموا) فاعل، وهذه لغة أزد شنوءة، قال شاعرهم: يلوموننى في اشتراء النخيل أهل وكلهمو ألوم. قال أبو حيان: وهى لغة حسنة وليست شاذة كما قال بعضهم، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما، حيث قالوا: إن الواو في (أسروا) مثلها في (قائمون) ومثل التاء في قامت حرف للدلالة عل جمع المذكر في الأولى وعلى المؤنثة في الثانية. (¬4) سورة المؤمنون: من الآية: 24

ثم زادت قريش في غلوها، فزعمت أَن القرآن سحر، وأن محمدًا يسحر به عقول الناس فقالوا منكرين على المؤمنين اتباعه: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}: والاستفهام في الآية لاستنكار مجىءِ الناس لسماعه، وتسْفيه المؤمنين وتوبيخهم على إيمانهم به. والمعنى: ما لكم تتوجهون إلى السحر وتطيعون صاحبه؟ وأنتم ترون بأعينكم أَنه بشر وتدركون بعقولكم ما يوثِّر بسحره على الضعفاءِ من قريش، فيفرق به بين الوالد وولده، وبين الرجل وأَهله، وغاب عنهم أن الحق أَقوى من السحر، وأَنه هو الذي فرق بين أَهل الهدى وأهل الضلال خوفًا من عدْواهم أو من ظلمهم وعدوانهم، وما محمد بساحر ولا عرف السحر، وما القرآن إلَّا رحمة للعالمين. 4 - {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: قرئ {قَالَ} بصيغة الماضى و (قُلْ) بصيغة الأمر، وقد أفاد مجموع القراءَتين، أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمره ربه أن يقول هذا القول ردا على مزاعمهم في نجواهم، وأَنه امتثل فقاله لهم. والمعنى: قال محمد لمن تناجوا واستَخْفَوْا بأحاديثهم طعنًا في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال محمد لهم: ربي يعلم قول كل قائل في السماوات والأرض، وهو عظيم السمع محيط العلم، فكيف لا يعلم سركم ونجواكم؟ ويعاقبكم على صدكم عن سبيله، وكفركم بكتابه ورسوله، وما أنتم في ملكه وملكوته وفي دائرة علمه وانتقامه إِلَّا شىءٌ قليل. ولم يكتف هؤلاء الظالمون بما زعموه في حق القرآن من كونه سحرًا، بل تخبطوا في وصفه ووصف رسوله، كما حكاه الله بقوله سبحانه: 5 - {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}: الأضغاث في الأَصل: الحشائش والأعشاب اختلط يابسها برطبها، أَي: أن رسالة محمد في نظرهم أَحلام مختلطة رآها في نومه، حملته على أَن يتوهم ما توهم، ويقول ما قال ولا حقيقة في الواقع لما ادعاه، ولا تأْويل له كما لا تُؤَوَّل الأَحلام المختلطة، ومن كان كذلك فلا ينبغي أن يصدق أَو يتبع، ثم أضْربُوا عن هذه الفرية، حين رأَوها هـ

أمام عظمة القرآن وبلاغته، فزعموا أَنه افتراه بفصاحته، ونسبه وحيًا إلى الله، ثم اشتد تخبطهم فعدلوا إلى وصفه بأنه شاعر يجيد صوغ الشعر، ويحسن سبكه ويسحر ببلاغته من يسمعه، حتى يحمله على اتباعه، متجاهلين أَن محمدًا الذي نشأَ بين أظهرهم لا يعرف الشعر ولم يزاوله في حياته: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (¬1). وفي الطبرى أن هذه الدعاوى المفتراة، والمزاعم المختلفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت لطوائف من المشركين لكل طائفة فريتها التي كفرت بها. يقول رحمه الله في تفسير الآية: "ما صدقوا بحكمة القرآن ولا أَنه من عند الله، ولا أقروا بأَنه وحى أَوحاه الله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بل قال بعضهم: هو أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه على الله، واختلقه من قِبَل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر وهذا الذي جاء به شعر" اهـ. وهذا التنقل في أَباطيلهم ومفترياتهم مع علمهم أَنه على الحق، ناشئ عن استكبارهم وعنادهم، حتى قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬2). وصدق الله العظيم إِذ يقول: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬3). {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}: أَي إن كان محمد صادقًا فيما ادعاه من أن الله بعثه للناس رسولًا، وأَنزل معه كتابًا، وأن الذي يتلوه وحى يوحى إليه من الله، ويريدنا على تصديقه فليؤيد قوله بمعجزة كونية تدعم دعواه، كمن سبقه من المرسلين، مثل إِحياء الموتى وإِبراء الأكمه والأَبرص على يد عيسى، وكعصا موسى، وناقة صالح وغيرها، فإن فعل ذلك آمنا به وصدقناه، ودعونا الناس لدعوته، وأعناه على تبليغ رسالته. 6 - {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}: لما اقترحوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأتى بآية تثبت لهم نبوته كمعجزة صالح وموسى وعيسى وغيرهم من المرسلين نزل قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: أَي أَن أي قرية أَهلكناها كانت غير مؤمنة فاقترح أَهلها آيات كالتى تريدها ¬

_ (¬1) سورة يس، آية: 69 (¬2) الزخرف، الآية: 31 (¬3) الأنعام، من الآية:

قريش فلما جاءتهم لم يؤمنوا، وسنة الله أَنه إِذا أَجاب أُمة إِلى ما اقترحت من آيات ثم لم تؤمن أخذها أَخذ عزيز مقتدر. {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ}: الاستفهام فيه للإِنكار والاستبعاد، فمعنى: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أَن قريشًا لا يؤمنون إِن جئناهم بالآيات التي أَرادوها، وحينئذ يحق عليهم من العذاب والهلاك ما حق على الأَولين، فلهذا لم نجبهم إِلى ما طلبوا، لأنهم سيؤمنون بدونها، وينتشر بهم الإسلام وفقًا لمشيئتنا. {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} المفردات: {رِجَالًا}: أَي بشَرًا لا ملائكة. {أَهْلَ الذِّكْرِ}: المراد بهم هنا: أهل الكتاب.

{جَسَدًا} الجسد: جسمُ الإنسان خاصة كما قاله الخليل، وعممه صاحب القاموس في الإنس والجن والملَك، وهو المناسب للآية. {صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْد}: بنصرهم على أعدائهم. {الْمُسْرِفِينَ}: الكافرين. {ذِكْرُكُمْ}: وعظكم أو شرفكم. {تَعْقِلُونَ}: تتدبرون وتتعظون. {وَكَمْ}: كم خبرية تفيد الكثرة. {قَصَمْنَا}: القصم الكسر مع تفريق الأجزاء أَي: أهلكنا. {أَحَسُّوا بَأْسَنَا}: أدركوه بالحاسة أي: عاينوا العذاب الشديد الذي يوشك أن ننزله بهم. {يَرْكُضُونَ}: يفرون هاربين، وأَصل الركض: استحثاث الفرس برجلي الراكب ليسرع في جريه. {مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}: ما وسع الله عليكم فيه من مختلف النعم. {دَعْوَاهُمْ}: دعوتهم. {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا}: أَهلكناهم جميعًا فكانوا كالزرع المحصود. {خَامِدِينَ}: ميتين، والخمود أصلًا للنار، يقال: خَمَدَتِ النَّارُ أَي: - هَمَدَت وَطُفِئَتْ، شبه ذهاب أَرواحهم بخمود النار. التفسير 7 - {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: هذه الآية رد على ما زعموه من أنه لا يصح أن يكون الرسول بشرًا؛ حسبما يقتضيه قولهم السابق: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. المعنى: وما أرسلنا قبلك يا محمد إِلى الأُمم التي سبقت أُمتك، إِلا رجالًا من البشر مثلك، نوحى إِليهم على لسان الملك ما نوحيه من العقائد الحقة والشرائع اللائقة بحالهم وزمنهم وبقصص الأَنبياء الذين سبقوهم مع أُممهم، كما نوحى إِليك، فما بالهم ينكرون عليك الرسالة لأنك بشر، ولست في ذلك بدعًا من الرسل، فكلهم من البشر. والواقع أَنهم يجادلون بالباطل، فهم على علم بأَن الرسول لا يكون إِلَّا بشرًا، إِذ أَنهم يقرون برسالة إبراهيم وإسماعيل، ولهذا يحجون البيت الحرام الذي بنياه، ويزعمون أنهم على شريعتهما، ولقد عاملهم الله بجهالتهم ومغالطتهم، فقال لهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: أَي فاسأَلوا أَيها الجاهلون المفترون على رسالة محمد، اسأَلوا أَهل الكتاب عن الرسل: أَبشرًا كانوا أَم ملائكة، إن كنتم لا تع

حال الرسل السابقين؟ فالمراد بأَهل الذكر: أَهل الكتاب، فإِنهم مع عداوتهم للرسول لا يستطيعون إنكار بشرية الرسل، فإِن موسى صاحب التوراة من البشر، وهذا شىءٌ لا يستطيع اليهود المجاورون للمشركين إِنكاره، وقيل: أَهل الذكر: هم أَهل القرآن، ورد ابن عطية هذا الرأْى بأنهم كانوا خصومهم فكيف يسألونهم. 8 - {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}: بعد أن بيَّنَ القرآن أَن سنة الله في الرسل أن يكونوا بشرًا، بيَّن ما فيهم من بقية صفات البشر فقال: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ}: أي وما جعلنا الرسل الذين أَرسلناهم إِلى الأُمم الماضية جسدًا لا يأْكلون الطعام كما هو شأْن الملائكة الذين تريدون رسولكم منهم، ولكن جعلناهم بشرًا مثله، يأكلون الطعام كما يأكل، وما كانوا باقين أَبدًا في الحياة الدنيا، بل هم إلينا راجعون كسائر البشر. ومع كون الآية مقررة لما قبلها فهى رد على قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ويقول الآلوسى في تفسيرها: (والظاهر أَنهم يعتقدون في الملائكة الحياة الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم، وحاصل المعنى على هذا جعلناهم أجسادًا متغذية صائرة إلى الموت حسب آجالهم، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون) انتهى بتصرف يسير. 9 - {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}: ثم وفينا بوعدنا لرسلنا السابقين بالنصر على عدوهم، وحقت كلمتنا لهم، فأخذنا الأُمم الذين عصوهم وعتوا عن أَمر ربهم بالعذاب بعد أَن أجبناهم إلى الآيات التي طلبوها فكفروا بها، فأَنجينا رسلنا ومن أَردنا نجاته من المؤمنين - أَنجيناهم مما أخذنا به أممهم الكافرة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وأَهلكنا الذين أَسرفوا على أنفسهم بالكفر والتمادى في الضلال، هذه أنباءُ من قبلكم وتلك عاقبتهم فما لكم تعرِّضون أنفسكم لمثل ما نزل بهم بانتهاجكم نهجهم، وسيركم في طريقهم. ¬

_ (¬1) سورة يونس، آية:

10 - {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ..... } الآية. التنوين في {كِتَابًا} للتعظيم، والمعنى: لقد أنزلنا على رسولنا كتابًا عظيمًا، فيه تذكير وموعظة لكم، كما أن فيه عزكم وشرفكم، إن آمنتم به، وصدقتم من بلَّغه، كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (¬1): أَي شرف لمن اتبعه، وعمل بما جاءَ به. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أَي ألا تتفكرون فلا تعقلون، وفيه معنى الأمر، أَي تَفَكَّروا لكي تدركوا فيم يكون خيركم؟ وفيه الإشارة إلى أَن من أعرض عما جاء به الرسول فلم يُعْمِلْ عقله فيه، ولم يتدبر أمره، موسوم بعدم التعقل وقلة التبصر، وهو ما لا يليق بعاقل، ومثله في المعنى قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (¬2). وهل يعرض عن داعية الشرف والاتعاظ عاقل؟ 11 - {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ}: هذه الآية وما بعدها لتفصيل ما أُجمل في قوله تعالى: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} وبيان لكيفية إهلاكهم. والمعنى: إن سنتنا التي لا تتغير هي أَن نأْخذ الجاحدين بالآيات إِذا ما لجُّوا في ضلالهم وكثيرًا من الأُمم قصمنا أي: أَهلكناها إهلاكًا تامًا، ودمرناها تدميرًا كاملًا. فالمراد بالقرية أَهلها على حد: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وتلك القرى التي أَهلكناها كانت ظالمة لنفسها بكفرها ومعاصيها، ظالمة للرسل والمؤمنين بالتكذيب والاضطهاد، وملاحقتهم بالكيد والإيذاء، وأنشأْنا بعد إهلاك هذه القرى الظالمة قومًا آخرين ليسوا منهم، حلوا في أَماكنهم، وسكنوا قراهم، والظاهر أَن هذه القرى المهلكة لا يراد بها قرى معينة، وقيل: إِن المراد بها قرية باليمن تسمى "حضور" قتل أَهلُها نبيَّهم، فانتقم الله منهم أَبلغ انتقام لبلوغهم في الكفر أبشع ما يكون وهو قتل الأَنبياء، والرأى الأول هو الظاهر، فإن لفظ: {كَمْ} يدل على كثرة القرى المهلكة فكيف يُرَادُ به قريةٌ واحدة بعينها؟. ¬

_ (¬1) الزخرف، من الآية: 44 والذكر بمعنى الوعظ أو الشرف والعز. (¬2) المؤمنون، من الآية:

12 - {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}: وهذا بيان لحالهم حين حلول العذاب بهم. أي: فلما أدركوا عذابنا الشديد وشعروا بوقوعه بهم، وأحسوه بحواسهم {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ}: وأصل الركض؛ ضرب الراكب دابته برجله لتسرع، أَي: أَنهم ركبوا دوابهم وركضوها - ظنا منهم أنها تنجيهم من أخذ الله وعذابه (¬1)، أَو هو على تشبيههم في فرارهم بالراكض يسرع طلبًا للنجاة، فجعلوا كأَنهم يستنهضون أَنفسهم حثّا لها على السرعة والتماسًا للنجاة من عذاب لا مفر منه أبدًا" (¬2). 13 - {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}: أَي: قيل لهم هذا، والقائل إما من الملائكة، وإما من المؤمنين، أَو أَن من يراهم يقول بلسان الحال هذا المقال: لا تسرعوا في عَدْوِكم، وعودوا إِلى مقر نعمتكم ومواطن ترفكم الذي أَبطركم حتى جحدتم وكفرتم، وأَقيموا في مساكنكم ووطئوا مجالسكم، كما اعتدتم، لعل أتباعكم يَمثُلُون بين أَيديكم، ويسألونكم عما تأمرونهم به لينفذوه، أَو لعلكم تُسْألون عن باعث هذا العذاب عليكم، وسبب نزوله بكم، أو لعلكم تسأَلون أَن تؤمنوا كما كنتم تسألون قبل نزول البأْس بكم، فتسارعون إلى الإيمان طلبًا للنجاة، وكل ذلك على سبيل التهكم والسخرية بهم، وفي الآية آراءٌ أخرى، وحسب القارئ ما تقدم. وهذا الفرار منهم أبْلَغ في الجهل وأَبعد عن السداد، إِذ أنهم يقيسون أخذ الله القادر القاهر بأَخذ الناس للناس فظنوا الهرب منجيًا، فهربوا فلاحقهم عذاب الله. 14 - {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: أي أن أهل هذه القرى الظالمة لما أَحسوا بأْسنا وعذابنا، ركضوا وأسرعوا طلبًا للنجاة وقالوا - نادمين - يندبون نهايتهم: يا هلاكنا إنا كنا ظالمين لرسلنا ولآيات ربنا ولأنفسنا، فحق علينا قول ربنا، وهكذا يندم الظالمون بعد فوات الأوان، ويتحسرون ويعترفون بخطاياهم حين وقوع العقاب، وسوف ينتهون بعده إلى عذاب دائم: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} (¬3). ¬

_ (¬1) وهو على هذا فعل متعد لمفعول. (¬2) وهو على هذا استعارة مكنية، وقال أبو زيد: ركض تستعمل لازمة بمعنى جرى وعلى هذا لا يكون في الكلام تجوز. (¬3) سورة غافر، آية

15 - {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}: الدعوى هنا بمعنى الدعاء والنداء، والمقصود بها قولهم: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: أي أَنهم ظلوا يولولون مرددين هذه الدعوة، قائلين: يا هلاكنا قد جاء أَوانك؛ فقد كنا ظالمين لأنفسنا بما أَشركنا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وما زالوا يرددون دعوتهم هذه حتى أتم الله إهلاكهم وإفناءَهم وكانوا كالزرع المحصود الذي انقطعت صلته بالحياة، وأَصل الخمود: انطفاءُ النار بعد اشتعالها، فشبه موتهم بعقاب الله بعد حياتهم ونشاطهم - شبه - بخمود النار بعد اشتعالها فتصبح لا ضوء لها ولا دخان ولا حرارة بعد أن تحولت إلى رماد. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} المفردات: {لَاعِبِينَ}: أَي عابثين بدون حكمة. {لَهْوًا}: اللهو كل ما يتلهى ويتسلى به.

{نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ}: نرمى به عليه. {فَيَدْمَغُهُ}: فيصيبه ويقهره. {زَاهِقٌ}: هالك فانٍ. {الْوَيْلُ}: الهلاك والعذاب. {مِمَّا تَصِفُونَ}: بسبب وصفكم لربكم. {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}: وَلا يَمَلُّونَ وَلا يَتعبون. {يَفْتُرُونَ}: يَعيَوْنَ ويضعفون. {أَمِ اتَّخَذُوا}: بل اتَّخذوا؟. {يُنْشِرُونَ}: يُحْيُون الموتى. {لَفَسَدَتَا}: لخربتا واختلَّ نظامهما. التفسير 16 - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}: عقب الله - سبحانه - إخماد الظالمين وإِهلاكهم، واستخلاف قوم آخرين مكانهم بهذه الآية ليشير بها إلى أَن أفعاله تعالى لا تَخلو عن الحكمة، وأن إهلاك الظالمين عين الحكمة، لكفرهم وظلمهم، وقد أَفادت الآية الكريمة أن ما بين السماوات والأرض شىءٌ عظيم يقتضى الإشارة إِليه، وإن لم يصل العلماءُ بعد إلى تفصيله، وإن عرفوا بعضه كالأشعة الكونية والجاذبية والهواء. والمعنى: وما خلقنا السماوات والأَرض وما فيهما وما بينهما من الكائنات والعناصر والعوالم التي لا يعرفها بحقائقها وأوصافها إلا نحن - ما خلقنا ذلك عابثين لمجرد التلهى بل خلقناها مشحونة بالآيات والعجائب، ليتعرف علينا عبادنا بآياتنا، ولمصالح دنيوية وأُخروية، وحكم علوية ظاهرة وخفية، وسيتجلى ذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين. 17 - {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}: هذه الآية مقررة لما قبلها من انتفاء اللهو واللعب في خلق السماوات والأرض وما بينهما، كما أَنها منزهة له تعالى عما زعمه المشركون من أن الأصنام بنات الله، وما زعمه النصارى من أن لله زوجة وولدًا هما مريم وعيسى عليه السلام، وما زعمه اليهود من أن عزيرا ابن الله، تَعَالىَ اللهُ عَمَّا يقُولُونَ عُلُوًا كَبِيرًا.

يقول الإمام الواحدى: اللهو: طلب الترويح عن النفس. ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد، لأنه يُسْترْوَحُ بكل منهما، ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده: رَيْحَانَتَاه. والمعنى: لو أَردنا أن نتخذ لهوا من النساء أو الأولاد، لاتخذناه من عندنا مما نصطفيه ونختاره (¬1)، لا كالذين زعمتموهم، لأَن ولد الوالد وزوجته يكونان عنده لا عند غيره. انتهى بتصرف. وتفسير اللهو بالولد مَرْوِيٌ عن ابن عباس والسدى، وتفسيره بالمرأة مروى عن قتادة، وفسر الجبائى الآية بقوله: لو أَردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا، بحيث لا يطلع عليه أَحد، لأنه نقص فَسَترُهُ أَولى، انتهى. وقد أَفادت هذه الجملة أَنه تعالى يستحيل عليه اتخاذ زوجة أو ولد بأَى صورة في السماءِ أَو في الأَرض، لأَنه تعالى يستحيل عليه أَن يشتغل باللهو، فكل أَفعاله تتسم بالجد والحكمة، ولذا ختم الآية بقوله سبحانه: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أَي أننا لا نفعل ذلك لكونه مستحيلا في حقنا. 18 - {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ... } الآية. ليس من شأْننا التلهى والعبثُ بل شأْننا الحق والجد، ولهذا نقذف الباطل بالحق فيدمغه، ويذهب به، ويقضى عليه ويدمره. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}: هالك زائل، وفي التعبير بالقذف الذي لا يكون إلا في الأجسام الصلبة - عادة - من حجر ونحوه، وبالدمغ الذي أَصله إصابة الدماغ وهو مقتل، وبالزهوق الذي هو خروج الروح من الجسد إِبراز للمعنوى في صورة المُحَسِّ المشاهد، وفي ذلك أبلغ تصوير لغلبة الحق على الباطل حتى يمحقه ويمحوه. قال الزمخشرى في كشافه: "بل" للإِضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه تعالى لذاته كأَنه قال: تنزيهًا لنا أَن نتخذ اللهو واللعب من عادتنا، فموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نَغْلِبَ اللهو بالجد، وندحض الباطل بالحق. اهـ. ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى في سورة الزمر: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} وحرف "لو" في كلتا الآيتين يفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط.

{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}: المخاطبون بذلك ابتداءً هم الكفار من أهل مكة، ولأَمثالهم في كل حين مالهم من الويل الشديد، و"مِنْ" في قوله {مِمَّا تَصِفُونَ} تعليلية، و"ما" مصدرية أي بسبب وصفكم الله تعالى بما لا يليق بجلاله سبحان، ويجوز أَن تكون "ما" اسما موصولا، والمعنى: ولكم الويل من الذي تَصفون الله به مما يجب تنزيههُ عنه من اتخاذ الصاحبة والولد كما قال سبحانه: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} (¬1). 19 - {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}: بينت الآيات السابقة فساد الأديان التي تزعم أن لله ولدا، كما توعَّدت أولئك الزاعمين بإِبطال مزاعمهم، ونَصْرِ الحق على باطلهم حتى يزهق، وأَن الله تعالى سوف يعاقبهم على افترائهم، وجاءَت هذه الآية لبيان كمال استغنائه عن الولد المزعوم وعن طاعتهم، فإنه سبحانه يملك من في السماوات والأرض، وكل من عنده خاضعون لربوبيته. والمعنى: ولله من في السماوات والارض من سكانهما، وما فيهما من سائر المخلوقات، له تعالى كل ذلك خلقًا وملكًا وتصرفًا وتدبيرًا، وإحياءً وإماتة وتعذيبًا وإثابة، دون شريك له فيه، ومَنْ عنده في مكانة الشرف والكرامة من الملائكة، لا يستكبرون عن عبادته وطاعته في كل ما يأْمرهم به، ولا يَمَلُّون ولا يتعبون، فأى حاجة لله تعالى في أن يتخذ ولدًا وهو تام الاستغناءِ عن الولدية، وأَى ضرر أَصابه بعبادتكم لغيره؟ والتعبير عن الملائكة بأَنهم عنده سبحانه، على سبيل التمثيل بِجَعْلِ منزلتهم في الشرف ورفعة الجاه كمنزلة المقربين مكانًا من الملوك، ونَفْيُ استكبارهم عن العبادة، مشعِرٌ بالتعريض بمن كفر من الناس واستكبر على عبادته. ولما بين الله في هذه الآية أَن الملائكة لا يستكبرون عن عبادته الشاملة لكل أَنواع الخضوع لأوامره وتعظيمه وتنزيهه، عقبها بالتنويه بحال من أحوال عبادتهم فقال سبحانه: 20 - {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}: فقد بين سبحانه في هذه الآية حالا من أَحوال خضوع الملائكة لله، وأَنهم لا تشغلهم عبادته والخضوع له فيما يأْمرهم به من شئون الكون عن دوام تسبيحه. ¬

_ (¬1) سورة الجن، آية: 3 ومعنى (تعالى جد ربنا ... الخ) تنزه استغناؤه ومجده عن اتخاذ زوجة أو

والمعنى: ومَنْ عند الله من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته والخضوع لأَوامره، فهم يسبحونه ليلا ونهارًا لا ينقطعون، والمقصود من ذكر الليل والنهار الدوام، سواءٌ كان عندهم ليل ونهار أَو لم يكن، ولا يمنعهم هذا التسبيح الدائم من قيامهم بما يكلفهم الله به، قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. فالتسبيح لهم بمنزلة التنفس لا يشغلهم عنه شاغل. 21 - {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}: بهذه الآية بدأَ التقريع والتوبيخ لمن اتخذوا آلهة لهم غير الله تعالى، وحرف (أَمْ) هنا إِما بمعنى (هل) الاستفهامية الإنكارية - كما جنح إِليه بعض المفسرين - والإنشار بمعنى الإحياءِ. والمعنى على هذا: هل اتخذ المشركون آلهة من الأرض همْ يُنْشِرون الموتى، ويعيدونهم أَحياءً، كلا فإِنهم لا يقدرون أَن يدفعوا الفناءَ عن أنفسهم، فكيفْ ينْشِرُون غيرهم ويحيونهم، فلماذا عبدوهم؟ وإِما أَن تكون (أمْ) بمعنى بل والهمزة، فكأنه قيل: بل اتَّخَذُوا، وتكون (بل) للإضراب الانتقالى عن النقاش السابق، إلى تقريع الكفار وتوبيخهم على اتخاذ آلهة عاجزين. والمعنى على هذا: بل أتَّخَذَ المشركون آلهة من هذه الأرض هم يعيدون الموتى إلى الحياة، كلاَّ فهم أَعجز ما يكونون عن ذلك. وعلى أَي التقديرين في تفسير حرف (أَمْ) فمآل المعنى واحد كما هو واضح مما قدرنا ووصف آلهتهم التي اتخذوها بكونها من الأرض لتحقيرها، وتوبيخ عابديها على تركهم رب السماوات والأرض الذي هو يحيى ويميت إلى آلهة حقيرة لا قدرة لها على إحياء الموتى. 22 - {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}: بعد أَن بين الله فيما تقدم هوان آلهتهم وعجزها، ووبخهم على عبادتها معه سبحانه جاءَت هذه الآية الكريمة، لكي تقيم الدليل العقلى على وحدانيته تعالى.

والمعنى: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله تدبر شئونهما وتصرف أَمرهما لفسدتا؛ وذلك لأن شأن التعدد الاختلاف والتغالب، وأَن يفسد كل من الآلهة عمل الآخر، وبما أن المشاهد هو صلاح السماوات والأرض وبقاؤهما منذ بدء الخليقة على هذا النظام البديع والتدبير المحكم، فإن ذلك يدل أَوضح دلالة على أن خالقهما ومدبرهما هو إِله واحد. والآية الكريمة تشير إلى برهان عقلى يسمى برهان التمانع والتعارض بين إِرادات الآلهة المتعددين، وشاهد صحة هذا البرهان في الحياة، أَن الأمة لا يصلح أَمرها إلا بملك واحد، فإن تعددت ملوكها فسد الأمر فيها، والجسد الواحد لا يصلح أَمره إِلا بقلب واحد، فإِنْ تعددت القلوب فسد الجسم، ولهذا قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} كما أن الأسرة لا يصلح أمرها إِلا برئيس واحد، فإن تعدد الرؤساءُ فيها فسد، والمصنع لا يديره إِلا رئيس واحد، فإن تعدد رؤساؤه تعارضوا وفسد الأمر فيه، وهكذا كل أَمر في الحياة لا يصلح إِلا بإرادة واحدة رشيدة فعالة مسيطرة، ليس لها معارض يفسد عليها تدبيرها، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عما يقوله المشركون عن شركائهم بقوله في نهاية الآية: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}: أي فيترتب على هذا البرهان الواضح تنزه الله صاحب العرش والسلطان المطلق عن وصف هؤلاءِ المشركين إِياه بأَن له شركاءَ تستحق العبادة معه، إذ أَنهم جميعا في ظل سلطانه وتحت عرشه وفي قبضة ملكه، وكرم ربوبيته. وهذه الجملة مع إفادتها تنزيه الله تعالى عما يدَّعيه المشركون، فقد أَفادت التعجب من عبادتهم هذه المعبودات الخسيسة، وفي عدها شريكة لرب العرش العظيم. ولعلماء العقيدة براهين أُخرى، وحسب القارئ ما قدمناه. 23 - {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}: استئناف مبين لما يقتضيه تفرده سبحانه بالألوهية وعظمة الربوبية، وهو أَن يكون سائلا لعباده عما يفعلون لا مسئولا منهم عما يفعله فيهم، يقول العلامة الزمخشرى في

تفسير هذه الآية: "وإذا كانت عادة الملوك أَلا يسالهم مَنْ في مملكتهم عن أفعالهم، وعما يُورِدُون ويُصْدِرُون من تدبير ملكهم تهيبا وإِجلالا مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان مَلِك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورأزقهم أَولى بألا يُسْأل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله معقول، ومرتبط بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأُ ولا فعل القبيح" انتهى بتصرف يسير. أَما العباد فإنهم يُسألون بمقتضى عبوديتهم وتكليفهم بطاعته سبحانه، والعمل بشرائعه التي شرعها لهم على ألسنة رسله، وبمقتضى ما منحهم من عقول صالحة لتمييز الحق من الباطل، والخير من الشر والنفع من الضر، وفي جملة من يسأَلهم الله من عباده من أشركوهم معه كالمسيح والملائكة، فكيف تصلح معبوداتهم للعبادة وهم مسئولون للإِله الواحد سبحانه وتعالى. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} المفردات: {أَمِ اتَّخَذُوا}: بل أتخَذُوا. {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: أَحضروا دليلكم.

{هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ}: أَي ما في القرآن من التوحيد ونفى الشريك ذكرُ من اتبعنى. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}: ممن تقدمنى من أهل الأديان السماوية. {وَلَدًا} أَي: من الملائكة على ما يزعمون. {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ}: لا يتكلمون إلا بأَمره. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}: يعلم ما عملوا وما سيعملون. {لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}: لا يشفعون إلا لمن يأذن الله لهم فيه. {مُشْفِقُونَ}: خائفون على أنفسهم مراقبون لربهم. التفسير 24 - {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ...... } الآية. "أَم" هي المنقطعة المفيدة معنى (بل والهمزة) جاءَت للانتقال من إظهار بطلان ما اتخذوه آلهة في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا .... } الآيتين، إلى تأكيد بطلان ذلك الاتخاذ، والهمزة التي تضمنتها أَم لإِنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه، وتكرار هذا مع ما سبق، لتأْكيد استقباح حالهم، واستنكار كفرهم باتخاذ الشريك لله سبحانه، ومزيد توبيخهم على ذلك، فكأَنه قال: ما أَشد قبح ما فعلتموه من اتخاذ آلهة لا حول لها ولا قوة، بل هي في حكم العدم. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: أَي قل لهم - يا محمد - ردًا عليهم وتفنيدًا لمزاعمهم: أحضروا برهانكم ودليل صدقكم على مُدَّعاكم، عقليا كان أَو نقليا. والمقصود من طلب البرهان على صحة شركهم تعجيزهم وتحديهم والسخرية بمزاعمهم، إِذ لا يوجد برهان عليه عقلا، كما أَشار إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ولوضوح عجز هؤلاء الشركاءِ عن حماية أَنفسهم مما يضرهم أو أن يجلبوا لأنفسهم ما ينفعهم، فكلهم تحت سلطانه تعالى.

كما أَنه لا يوجد دليل نقلى على جواز شركهم، وإِليه يشير قوله تعالى: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي}: أَي هذا التوحيد الذي دعوتكم إِليه، هو ذكر مَن معى من أُمتى، وذكر من قبلى من الرسل وأُممهم، فهو شريعة الله في جميع الرسالات، ولم يختص به الأُمة المحمدية. ويصح أن يكون المعنى: هذا القرآن تضمن وَعْظ الله لأُمتى، ووعظه سبحانه لأُمم الأنبياء والمرسلين قبلى، فاقرءُوا الكتب السماوية كلها، وانظروا هل تجدون في أَحدها ما يخالف الآخر في عدم مشروعية الشرك؟ ثم انتقل الأُسلوب القرآنى من الخطاب إلى الغيبة بطريق الإِضراب الانتقالى، في ختم الآية بقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}: أَن هؤلاءِ المشركين لا يجدى تبكيتهم على عقيدة الشرك التي لا يوجد لأحد عليها دليل عقلى ولا نقلى، فدَعْ مطالبتهم بالبرهان، فإنهم لا يعقلون أَن الشرك لا برهان له، فلهذا لا يفرقون بين الحق والباطل ولا يميزون بينهما، فتراهم يعرضون عن الحق دون تأمل. والتعبير بأكثرهم لأن فيهم من اهتدى إِلى معرفة الحق، ثم آمن به مقبلا عليه متفانيًا في سبيل الدفاع عنه. 25 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}: بيَّن الله في الآيات السابقة بطلان عقيدة الشرك عقلا ونقلا، وجاءَت هذه الآية لتؤكد ذلك ولتبين أن عقيدة التوحيد، كانت عقيدة الرسل التي أَوحاها الله إِليهم، قال قتادة: لم يرسل الله نبيا إِلا بالتوحيد، وإن اختلفت الشرائع. انتهى بتصرف يسير. والمعنى: وما بعثنا قبلك يا محمد رسولا إِلى أمته بشريعة من شرائعنا إلا أَوحينا إليه فيها أَنه لا إِله لهم سواى، فاعبدوني أَنتم وجميع أُممكم ولا تعبدوا أَحدًا غيرى. 26 - {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}: تحكى هذه الآية جناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها، بعد بيان تنزهه عن الشريك مطلقا، وسبب نزول هذه الآية أن حيا من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله،

ونقل الواحدى: أن هذه العقيدة ليست قاصرة عليهم، بل قالها معهم قريش وجهينة وبنو سلامة وبنو مليح، وأَخرج ابن المنذر وابن أَبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود إن الله تعالى صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة، فنزلت. وأيا كان سبب النزول فالآية الكريمة تظهر شناعة هذا القول وقائليه من هؤلاءِ وغيرهم كالنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، وجميع من قالوا: الملائكة بنات الله، وكما تشنع هذه الآية على عقائدهم فيهم، تبين صفة هؤلاء عند الله وهى العبودية دون النبوة. والمعنى: وقال فريق من الناس: اتخذ الرحمن له ولدًا يشاركه في الأُلوهية، وليس الأمر كما زعم هؤلاءِ الزاعمون، بل هؤلاء الذين زعموهم له أَولادا ما هم إلا عباد مقربون عند الله، مكرمون منه، لصفاءِ عبادتهم لربهم، وإخلاصهم لربهم، ولفظ الولد يطلق على الواحد وكذا المتعدد كما هنا، ولهذا جاءَت بعده صيغة الجمع في قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أي: بل الولد الذين زعموهم لله هم عباد مكرمون عنده. 27 - {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}: أي أن من زعموهم أَولادًا لله لا يسبق قولهم قوله تعالى، ولا يعملون إلا بأمره كما هو شأن العبيد المطيعين لسيدهم المنقادين له، فهم تابعون لمولاهم في أَقوالهم وأَفعالهم دائِما، ثم بيَّن السر في أَدبهم هذا بقوله: 28 - {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}: أي أن هؤلاءِ الذين زعموهم أَولادًا، في غاية الطاعة له، لأَنه سبحانه يعلم جميع أحوالهم المستقبلة والماضية، فلهذا يراقبونه تعالى ويخشونه، ويطيعونه في أمرهم كله ولا يتقدمون للشفاعة لأحد إِلا لمن ارتضى أَن يُشْفَعَ له من المؤمنين العصاة دون الكافرين لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقى في البعث، وابن أَبي حاتم عن ابن عباس في بيان من يرتضى الله الشفاعة لهم: "مَن قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ الله" فهو يرى أَن الشفاعة

لعصاة المؤمنين ولو كانوا من أَهل الكبائر، وشفاعتهم تكون بطلب الغفران لهم من ربهم في الدنيا أَو في الآخرة. ومعنى وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}: أنهم مع كرامتهم على الله خائفون من وقوع أَي تقصير منهم في طاعته، مشفقون من تبعاته، وما ذلك الإشفاق والخوف إِلا من شدة خوفهم منه وإِجلالهم لمقام الله تعالى. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} المفردات: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا}: أَي مرتوقتين ومتصلتين ليس بينهما انفضال، والرتق في الأصل: الضم والسَّدُّ، يقال: رتق الفتق من باب نَصَرَ، رَتقًا ورُتوقًا إذا سده.

{فَفَتَقْنَاهُمَا}: الفتق، الشق، وهو ضد الرَّتْق، يقال: فَتَق الشيءَ (¬1) أي: شَقَّه وفصل بعضه عن بعض. {فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ}: أي فيها جبال ثوابت. {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}: لئلا تضطرب اضطرابًا يختل به توازنها. {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا}: الفَجُّ، الطريق الواسع، والجمع فجاج، مثل: سَهْم وسهام، وسُبُلٌ: جمع سبيل وهو الطريق، يذكر ويؤنث. {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ}: المراد بها هنا المُظلة للأَرض. قال ابن الأَنبارى: تذكر وتؤنث، وقال الفراءُ: التذكير قليل. {كُلٌّ فِي فَلَكٍ}: الفَلَكُ محركةً: مدار النجوم والكواكب. والجمع: أَفلاكٌ وفُلُكٌ بضمتين. {يَسْبَحُونَ}: أي يسرع كل منهما في مداره كالسابح في الماء، وجمع الضمير مع أَنه راجع إلى الشمس والقمر، لأن الجمع قد يستعمل فيما فوق الواحد (¬2). التفسير 29 - {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ .... } الآية. أَي ومن يقل من الملائكة على نفسه إني إِله أعْبَدُ من دون الله تعالى {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}: أَي فذلك القائل الذي يُفْرَضُ صدور هذا القول منه، نجزيه أشد العذاب، وننزل به أَقسى النكال لا تغنى عنه صفاته السنيَّة، ولا أعماله المرضية، وهذا فرض غير واقع لعصمة الملائكة. {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}: أَي مثل هذا الجزاءِ الفظيع نجزى الظالمين الواضعين للأُلوهية والعبادة في غير موضعهما، أَو نجزى الذين يتجاوزون الحد، فيضعون الأشياءَ في غير مواضعها، ويتعدون أَطوارهم في شئونهم الدينية. ¬

_ (¬1) وهو من باب "قعد". (¬2) واستعمال ضمير جماعة العقلاء تنزيلا لهما منزلهتم لدقة سيرهما وانتظامه كما يفعل العقلاء.

30 - {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ..... } الآية. تشير الآية إلى تجهيل الكفار بتقصيرهم في التفكر والتدبر في الآيات الكونية الدالة على قدرة الله الباهرة، واستقلاله بالألوهية، وقهره لجميع المخلوقات، وأنها جميعًا تحت سلطانه العظيم. والمعنى: أَعميت بصائر الذين كفروا ولم يعلموا من الشواهد والآيات أَو من الكتب السماوية أَن السماوات والأرض كانتا قبل فصلهما كيانًا واحدا لا انفصال فيه بينهما، حيث كانتا دخانًا في بدءِ خلق الله لهما فشقه وفصل بينهما. روى عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: إن السموات والأَوض كانتا شيئًا واحدًا ملتزقتين، ففصل الله تعالى بينهما، ورفع السماءَ إلى حيث هي، وأقر الأَرض (¬1). ويقول ابن كثير في تفسيرها: أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، وجعل السماوات سبعًا والأَرض سبعًا. انتهى بتصرف يسير واختصار. وتقول لجنة الخبراء في تعليقها على هذه الآية بالتفسير المنتخب، ما خلاصته: إِن هذه الآية تقرر معانى علمية، أيدتها النظريات الحديثة في تكوين الكواكب والأَرض، وهى أَن السماوات والأَرض كانتا في الأَصل متصلا بعضها ببعض على شكل كتلة متصلة متماسكة ثم انفصلتا، واستُدل على ذلك بأدلة علمية عديدة. اهـ. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}: تلك آية أخرى من آيات القدرة العظيمة، أي: وخلقنا من الماء الميت كل ما فيه حياة، كما أنه محتاج إِلى الماءِ في استمرار حياته وبقائها، إذ هو عنصر هام في إِبداع وغذاء وتنمية كل شيء حى - إنسانًا كان أَو حيوانًا أَو نباتًا - أَي: أن كل ما في الكون مما يتصف بالنمو لا يستغنى عن الماءِ، وإِلا لحقه الفناءُ والدمار، ولذلك كان جديرًا أَن يَمُنَّ به سبحانه على خلقه، لأنه من أَفضل النعم على الخلق وأَولاها بالتقدير والاعتبار. ¬

_ (¬1) نقله الآلوسى في تفسير الآية.

{أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}: إنكار عليهم لعدم التصديق بما يشاهدون من الآيات التي تتصل بالآفاق والأَنفس، مع دلالتها على تفرده - جل شأْنه - بالأُلوهية. بمعنى: أيرَوْنَ ذلك مشاهدة ومتكررا في كل شيء حى فلا يؤمنون بمبدعه، وكان عليهم أن يسارعوا إِلى الإيمان به، وقد شاهدوا آياته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}. 31 - {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ..... } الآية. أَي: وجعلنا بقدرتنا في الأرض جبالا ثوابت تحفظ توازنها لئلا تضطرب بهم اضطرابا لا يعقبه ثبات، فلا يكون للناس عليها قرار بسبب ذلك، أَما الميْدُ بسبب الزلازل ونحوها فإن الآية لا تأبى وقوعه، لأنه مَيْدٌ يعقبه ثبات واستقرار. {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: أَي وجعلنا في الأرض جميعها، سهولها وجبالها وهضابها طرقا واسعة، لكي يهتدوا بها إلى مصالحهم ومهماتهم، وذكرت الآية {سُبُلًا} بعد أَن ذكرت قبلها فجاجًا، بيانًا للفجاج ودفعا للإبهام عنها، لأن الفج قد يكون مَسلُوكا وقد لا يكون، ولتدلَّ ضمنا على أَن الله خلق الفجاج ووسعها رعاية للسَّابلة الذين يسلكونها ورحمة بهم. وقيل: إن المعني وجعلنا في الجبال طرقا واسعة ليسلك الناس فيها ويعبروا من قطر إِلى قطر، ومن إقليم إلى إقليم، فقد يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وتلك البلاد، فيجعل الله فيه فجوة واسعة ليسلك الناس فيها من هنا إلى هناك. ويصح أَن يكون المراد من قوله {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَن يهتدوا بذلك إِلى الاستدلال على التوحيد وكمال القدرة والرحمة، أَو ما يعم الاهتداءَ إلى ذلك والاهتداءَ إِلى البَصَر بفضل الله عليهم، وبما يسره لهم من تبادل المنافع التي فيها صلاح أَمرهم، وتقويم شأْنهم. 32 - {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}: هذه آية أُخرى من آيات الألوهية الدالة على وجود الصانع، وكمال قدرته، أي: وجعلنا السماء المُظلة للارض كأَنها قبة عليها، جعلناها سقفا محفوظًا بقدرتنا من أن يقع على

الأرض، مرفوعا عنها بدون عَمَد ظاهرة يرتكز عليها، ودعائم يستند إِليها، وذلك كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (¬1). فقد أمسكها الله تعالى بقوانين تقتضى حفظها مرفوعة في الفضاء بقدرته، إلى أن يشاء الله انفطارها، وانتثار كواكبها {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬2). وقيل: وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا بالملائكة أَو بالنجوم من أَن يسترق الشياطين السمع، ودليله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (¬3). وقيل: سقفًا محفوظًا من الفساد والانحلال إِلى الوقت المعلوم الذي تطوى فيه السماءُ كَطَيِّ السجلِّ للكتب، وقد روى ذلك عن قتادة. {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}: أَي وهم عن آيات السماء الدالة على الوحدانية وكمال القدرة ذاهلون لا يتدبرون في ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، ونجومها وكواكبها، ورياحها وسحابها وغيرها، ولو تأملوها أدنى تأمل لهداهم التأمل إِلى الإيمان واليقين، ولكنهم آثروا الإعراض عنها والبقاء على ما هم عليه من كفر وضلال. 33 - {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ .... } الآية. هذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون، جاء على طريق الالتفات من التكلم فيما سبق إِلى الغيبة هنا، لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام الذي يُذَكِّرهم الله فيه بأنه جل شأنه هو الذي خلقهن وحده، لخيرهم ومنفعتهم، فخلق الليل ليسكنوا فيه، حتى يستريحوا من مشاق العمل ومتاعبه، وخلق النهار لينصرفوا مع إشراقته إلى الدأب والسعى لتحصيل أَرزاقهم التي يسرها الله لهم، وجعل الشمس آية النهار ليستضيئوا بها وينعموا بدفئها، وجعل القمر آية الليل ليهتدوا بنوره المستمَدِّ من ضوء الشمس، ولهما أثرهما النافع في حياة النبات ونموه وخُضرته وإيتاء أُكُلهِ، وبهما يعلم عدد السنين والحساب. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآية: 2 (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 48 (¬3) سورة الحجر، الآية: 17

{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}: أَي كل واحد من الشمس والقمر يدور في مداره في الفضاء لا يرتكز على شيء، ولا يهوى في الفضاء، كالسابح الماهر، يشق الماء، ولا يسقط في قاعه وكذلك شأن سائر النجوم والكواكب {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}. وأسند دورانهما إلى ضمير جماعة العقلاءِ، تنزيلا لهما منزلتهم، في انتظامهما فيما سخرهما الله من أَجله، والمراد بالجمع ما فوق الواحد، واسْتُحسن ليناسب فواصل الآيات، والتعبير عن دورانهما بالسباحة لشبهه بها، من حيث إِن دورانهما في الفضاء دون أَن يسقطا، يشبه سباحة السابح الماهر في الماءِ دون أَن يسقط في القاع. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} المفردات: {الْخُلْدَ}: البقاءُ الدائم. {وَنَبْلُوكُمْ}: ونعاملكم معاملة المختَبر. {فِتْنَةً}: محنة وابتلاءً. التفسير 34 - {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ..... } الآية. نزلت الآية حين قال المشركون: نحن نتربص بمحمد ريب المنون ضيقا بدعوته، وكانوا يدفعون نبوته وينكرونها، ويقولون: إنه شاعر، وسيموت كما مات شاعر بنى فلان.

وكان نزولها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أن ما تمنوه له لاَحِق بهم. والمعنى: وما كان من سنتنا أن يخلد أَخد من قبلك، لا من الأنبياء ولا من المرسلين، ولا من سائر البشر، لكون ذلك مخالفا للحكمة التكوينية التي قدر الله فيها أن يكون لكل حَيٍّ أَجل ينتهى عنده، ثم يبعث الله الموتى ليحاسبهم على ما كانوا يعملون، فلا شماتة في الموت فهو ضريبة القهار على جميع عباده، ولهذا قال سبحانه: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}: أَي أفإن مت بمقتضى حكمتنا فَهُمُ الخالدون حتى يشمتوا بعدك في موتك، كلا، فليسوا بمنجاة من الموت، فإن الموت واقع بهم لا محالة. وفي معنى ذلك قال الإِمام الشافعى رحمه الله: تمنَّى رجال أن أَموت وإن أَمُتْ ... فتلك سبيل لست فيها بأَوحدِ فَقُلْ للذى يبغى خلاف الذي مضى ... تزود لأُخرى مِثْلِهَا فكأن قد 35 - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ........... } لآية. هذه الآية تؤكد المقصود من الآية السابقة {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}. والمعنى: كل نفس يحدث لها الموت، وتذوق مرارة مفارقة الروح للجسد، وهى تختلف شدة وضعْفًا حسب تفاوت الناس إِيمانا وجحودًا، ولعل في التعبير بالذوق إِشارة إلى ذلك. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}: أَي نعاملكم معاملة المختبر لإظهار ما في نفوسكم من خير أَو شر وذلك بما نختبركم به من الشدة والرخاء، والصحة والمرض وغيرها، مما تحبون أَو تكرهون، فننظر هل تصبرون عند البلاء، وتشكرون عند النعماء، أو تقنطون وتكفرون؟ {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}: للحساب والجزاء لا إلى غيرنا، لا استقلالا ولا اشتراكا، فنجازيكم حسبما يظهر منكم من عمل {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1). ¬

_ (¬1) من الآية رقم 49 من سورة الكهف.

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} المفردات: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}: أَي ما يتخذونك إِلا مهزوءًا بك ومسخورًا منك، يقال: هزأ منه وبه كَمَنَع وسَمِعَ، هُزْءًا وهُزُءًا بإِسكان الزاى وضمها أي: سَخِر. {يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}: يذمها ويعيبها بقرينة المقام. {مِنْ عَجَلٍ}: العَجل والعجلة؛ طلب الشيء وتحريه قبل أَوانهِ وقد يكون ضارا، وفِعْله من باب عَلِمَ. {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}: المراد بالوعد مجىءُ الساعة. {لَا يَكُفُّونَ}: لا يمنعون. {بَغْتَةً}: فجاة. {فَتَبْهَتُهُمْ}: تدهشهم وتحيرهم. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: يُؤخَّرُونَ، يقال: نظره: أي تأَنى عليه. وأَنظره: أَخره. التفسير 36 - {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ..... } الآية. المعنى: وإذا لقيك الذين كفروا من مشركى مكة كأَبى جهل والنضر بن الحارث وأضرابهما ما يتخذونك إلا مهزوءًا بك، مسخورا منك، مع علمهم بشرف أَصلك

وعلو قدرك، وكرم خلُقك، وصدق قولك، ويقولون مستنكرين محقرين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}: بالسوءِ والعيب. {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}: أَي يعيبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذِكْر آلهتهم بالسوءِ من ضعف وعجز، وحالهم أَنهم يكفرون بذكر الرحمن المنعم بجلائل النعم وسوابغ الرحمة على عباده، فهم لا يعترفون باسمه ولا يذكرونه، فأى الفريقين أحق بالاستنكار والتحقير؟ إِنهم بما اقترفوه من كفر وطغيان وسفه هم الأَحقاءُ بذلك، وبأَن يُذْكر صنيعهم بالتسفيه والتقبيح. 37 - {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ .... } الآية. في هذه الآية صورة بلاغية، حيث جُعل الإنسان الذي خلقه الله من الطين - جُعلَ - كأَنه مخلوق من عَجَل، وذلك لفرطِ عجلته وقلة صبره، ولهذا تراه قد يبادر إِلى الكفر دون نظر إلى عواقبه، ويندفع في طلب أُمور دون النظر في مآلها، وقد يكون فيها ضرره وهلاكه، ومن ذلك ما صنعه النضر بن الحرث حين استعجل العذاب بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله جل شأْنه: {قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). وكان في ذلك يعبر عن قومه لأنه كان من زعمائهم، ولهذا أُسند القول إليهم وإن كان هو قائله، والعجلة وإِن كانت من طبع الإِنسان، لكن الله جعل لكل غريزة ضوابط من العقل والحكمة، توجهها نحو الخير ومكارم الأخلاق، وتهديها سواءَ السبيل. {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}: خطاب للكفار المستعجلين لنزول العذاب والمعنى: سأُريكم آياتى في عذابى الذي أُنزله بكم في حينه، فلا تستعجلون بإنزاله قبل الأجل الذي ضربته له، فإن لكل شيءٍ أَجلا مضروبا. وقد حدث ذلك في غزوة بدر الكبرى، وما تلاها من الانتصارات الساحقة، التي أتمها الله بالقضاء على عبادة الأَوثان وعابديها بالجزيرة العربية. وقيل: المعنى سأجعلكم تدركون آياتى التي تدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات الباهرة، وما له من العاقبة المحمودة، وسيتحقق وعدى لا محالة، فاتركوا العجلة، لعل الله يشرح صدوركم فتهتدوا. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية:

38 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: المعنى: ويقول الذين كفروا: متى وعد الله؟ قصدًا إِلى استبطاء مجىءِ الساعة، واستعجال إتيانها بطريق الإنكار والاستهزاء، لا قصدًا إِلى تعيين وقت المجىء، بدليل قولهم للنبي والمؤمنين: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في الإخبار عن مجىء الساعة مع ما فيها من هول وعذاب. وقيل: المراد بالوعد العذاب الذي طلبوه، واستعجلوا وقوعه، والرأى الأول أَولى لأنه هو المناسب للآية التالية، وهى قوله تعالى: 39 - {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: أَي: لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم يوم القيامة من الشدائد بسبب كفرهم، كما استعجلوه مستهزئين، فإن نار جهنم تحيط بهم من جميع جهاتهم، فلا يستطيعون دَفْعَها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فَضْلًا عن أطرافهم، وسائر بدنهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم، فإن حالهم في الآخرة كما قال الله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} (¬1). وكقوله سبحانه: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (¬2). وقيل: لو يعلمون ذلك لما أقاموا على الكفر، ولآمنوا بالله ورسوله، ثم بيَّن الله تعالى أَن وقت الساعة مما لا سبيل إلى علمه فقال: 40 - {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ....... } الآية. أي: لا يعلم أحد وقت مجيئها غير الله تعالى، بل تَفْجَؤُهُمْ وتبغتهم من غير شعور بوقت مجيئها، فتحيرهم وتدهشم، بما يكون معها من شدائد وأهوال تغلبهم على أَمرهم {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا}: فلا يقدرون على رد الساعة عن وقتها الموعود مهما بذلوا من جهد. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: أي ولا هُم يُمهلون ولا يُؤَخرون طَرفَةَ عين، لتوبة أَو اعتذار، بل يُؤخذون بالنواصى والأقدام. ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 16 (¬2) سورة الأعراف، من الآية: 41

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} المفردات: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}: سخر منهم أَقوامهم - يقال: هزأ منه وبه، كَمَنَعَ وسَمعَ، وَتَهَزَّأَ واستهزأ أَي: سَخِرَ. {حَاقَ بِهِم}: أحاط بهم ولزمهم، وفِعْله حَاقَ يحيق كباع، حَيْقًا وحُيُوقًا. التفسير 41 - {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: نزلت الآية تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعْزية له ببيان أَن ما حدث له من سخرية المشركين، حتى قالوا له: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} - ما حدث له من ذلك - قد حدث مثله لإِخوانه المرسلين من قبله، وهى مع ذلك وعْد ضمنى من الله بأنه سيصيب المستهزئين به مثل ما أَصاب من سبقوهم من الساخرين برسلهم، لِمَا بَيْنَ جُرْمَيْهِمَا من تشابه وتقارب. وتصدير الآية بالقَسَم للإيذان بالاهتمام بتحقيق مضمونها، أَي: وبالله لقد استهزئ في زمان قبل زمانك برسل ذوى شأْن خطير، وعدد كثبر، فأَحاط بهم الذي كانوا به يستهزئون، حيث أُهلكوا من أجله، فإذا كان هذا حال إخوانك الرسل مع أُممهم، فليس بِدْعًا ما تراه من هؤلاء المعاصرين من كفار قريش ومن وَالَاهُمْ من سخرية واستهزاءٍ، فاصبر كما صبروا، ولسوف ينصرك الله على قومك يا محمد، كما نصر المرسلين من قبلك على أقوامهم، والعاقبة للصابرين.

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} المفردات: {يَكْلَؤُكُمْ}: يرعاكم ويحفظكم، وفِعله كَلأَ، كَمَنَعَ. {مِنَ الرَّحْمَنِ} أي: من سخطه وغضبه. {مُعْرِضُونَ}: لاهون غافلون. {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}: يُجارون ويُمنعون، تقول العرب: أنا لك صاحب من فلان، بمعنى: مجيرك ومانعك منه، وأَصْحَبَ فلان فلانًا أَجاره ومنعه. {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}: أي أحذِّركم وأُخوفكم بالقرآن. {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ}: أَصابهم قدر ضئيل من العذاب. {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا}: يا هلاكنا ودمارنا. التفسير 42 - {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ..... } الآية. أمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أن يسأل أُولئك المشركين

المستهزئين بما جاءَهم به من الحق - أن يسألهم - سؤال تقريع وتنبيه إلى نعمه التي أَسبغها وتفضل بها عليهم، حتى لا يغتروا بما يتقلبون فيه من أمن واستقرار، وإِمهال ومطاولة، فقال - جل شأْنه -: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ}: أَي قل أَيها النبي لهؤلاء الكافرين: من يحفظكم بالليل إذا نمتم، وبالنهار إِذا تصرفتم - من يحفظكم - من عذاب الله الذي رحمكم بإمهالكم؟ لا أَحد يستطيع أَن يحميكم من نقمته بكم. ويجوز أن يكون المعنى: من هذا الذي يحفظكم ويحرسكم من نوازل الليل والنهار بدل الرحمن؟ فَمَنْ هم الذين تركنون إليهم، وتتوهمون حفظهم وحراستهم لكم فيهما؟. وقدم الليل على النهار في الآية، لأن كوارثه أَشد من كوارث النهار، والحفظ منها أَهم، وفي لفظ (الرحمن) تنبيه على أَنه لا يحميهم من عذابه إلَّا رحمته العامة، ولولاها لكانوا أَحقاءَ بتركهم للكوارث تحصدهم حصدًا، وكان عليهم أن يعرفوا ذلك ويشكروه لله ويذكروه، ولكنهم أعرضوا عن آياته، واستهانوا بآلائه، وتمسكوا بما هم عليه من الإِشراك به، كما يقول - جل شأْنه -: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}: أي لا يُخْطِرونه ببالهم فهو بعيد عن مجال تفكيرهم ولهذا لا يخافون بأْسه ولا يعتبرون ما هم عليه من الأمن والدَّعَةِ حفظًا وكلاءَة لهم منه. وإِيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبئ عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته للإِيذان بأَنهم بلغوا الغاية القصوى في الغى والضلال حين أعرضوا عن شكره وذكره سبحانه وتعالى. فإِن قيل: إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتُقَربهم إليه زلفى، فهم يعرفون أَنه ربهم، فالجواب: أَن من عرف الله لا يصح أَن يعبد سواه، ولا أن يلجأ إلى ذكر غيره ويعرض عن ذكره، كما فعل هؤلاء، فكانوا بإشراكهم وإعراضهم عنه جاهلين بجنابه - سبحانه. 43 - {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا .... } الآية. انتقال من بيان جهلهم بكلاءَة الله وحفظه إياهم، وإعراضهم عن ذكره - جل شأْنه - إعراضًا تاما - انتقال من ذلك - إلى توبيخهم لاعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إل

والمعنى: بل أللمشركينِ آلهة تحفظهم وتحميهم من عذاب يأْتيهم من جهتنا، فهم مُعوِّلُون عليها واثقون بها، كلاّ فهم كما قال الله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}: وهو استئناف مؤكد لما قبله من الإنكار، وموضح لبطلان اعتقادهم في أَن تستطيع تلك الآلهة أَن تدفع عنهم ما ينزل بهم من شدائد وويلات، حيث إن آلهتهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، ولا يجدون من يجيرهم ويدفع عنهم قضاءً من جهتنا، بل هم في غاية العجز، فكيف يتوهم أن ينصروا عابديهم، ويستجيبوا لمن يدعونهم من دوننا. وقيل: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}: أُريد به الكفرة، وروى ذلك عن قتادة وابن عباس - رضى الله تعالى عنهما - على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم، ولا يصحبهم نصر من جهتنا. 44 - {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ........ } الآية. إِضراب انتقالى عما تدل عليه الآية السابقة من بطلان توهم نصر آلهتهم - إلى الإخبار بأنهم إِنما وقعوا في هذا التوهم الباطل بسبب أَننا متعناهم وآباءَهم بما يشتهون من النعمة وطال عليهم العمر فيها، حتى ظنوا أنها لا تزول عنهم، فافتروا وأَعرضوا عن التدبر والتفكر في آيات ربهم، وبعدوا عن الحق واتبعوا ما سولته لهم أَنفسهم. {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: يذكر الله قريشًا في هذه الآية الكريمة بعاقبة الكفرة من حولهم، وأَنهم لما بطروا نعمة الله عليهم وكفروا بها أهلكهم وأزال دولهم، وانتقص الأَرض من حولهم، بتخريبها بعد عمرانها، وكذلك يجزى الله الكافرين. والمعنى: أَعَمِىَ هؤلاءِ المشركون بمكة فلم يروا أَنا نأتى أرض الكفرة من حولهم، فننقصها من جوانبها، بتخريب مدنها، والقضاء على عمرانها، وإِهلاك أهلها عقابًا لهم على كفرهم بنعم ربهم وآياته، كما حدث لقرى عاد وثمود وقوم لوط وسبإٍ وغيرهم. {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ}: أَي أَبَعْدَ خراب مدنهم، وإهلاك أَهلها لكفرهم يعتبرون الغالبين؟ كلاَّ، بل هم المغلوبون، ومصيركم يا معشر قريش سوف يكون كمصيرهم: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية:

45 - {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ..... } الآية. بعد أن بينت الآيات السابقة غاية الهول لأولئك الذين يستعجلون إتيان الساعة، وما يصاحبها من عذاب، ونَعت عليهم جهلهم وإِعراضهم عن ذكر ربهم الذي يحفظهم من نوازل الليل وكوارث النهار - بعد ذلك - جاءت هذه الآية لتعلمهم أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ. والمعنى: ما أَنا إلا مبلِّغ عن الله ما أُنذركم به من مجىءِ الساعة وعذابها بما أَوحاه الله إليّ في هذا القرآن المنزل عليَّ من لدن حكيم عليم، وليس من شأْنى أن آتيكم بما تطلبونه مما ينافى الحكمة التكوينية والتشريعية، وما على الرسول إلاَّ البلاغ. {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}: من تتمة الكلام الذي أُمر - عليه الصلاة والسلام - أَن يقوله لهم، توبيخًا وتقريعًا، أي أَنهم لطول إعراضهم عن سبيل الحق، صاروا كالصم الذين أفقدهم الصَّمَمُ حاسة السمع، فجعلهم بمعزل عن سماع صوت الداعى إِذا أَنذرهم وحذرهم، وتقييد نفى السماع بإنذارهم مع أن الصم لا يسمعون الكلام إنذارًا أو تبشيرًا، للإشارة إلى شدة الصم فيهم، لأن الإنذار عادة يكون بأصوات مرتفعة مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه، فإذا لم يسمعوها يكون صَمَمُهُمْ في درجة لا غاية بعدها. ويجوز أن يكون قوله سبحانه: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} كلامًا مستأنفًا من جهته تعالى تسلية لنبيه عما يُنْتَظَر من إِعراضهم، كأنه قيل له: قل لهم أيها الرسول: إنما أُنذركم بالوحى، واعلم أَنهم دائبون على إِعراضهم، فهم بمعزل عن السماع حينما ينذرون، لطول إعراضهم، فلا يَكُنْ في صدرك حرج منه، فما عليك إلَّا البلاغ. 46 - {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: تبين هذه الآية فداحة العذاب الذي أُنذروه فأَعرضوا عن الاستماع إلى نذيره. والمعنى: وبالله لئن أصاب هؤلاءِ المكذبين أدنى إِصابة من عذابه تعالى الذي يَسخَرون منه لَيَدْعَنَّ على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك، وليعترفُنَّ بذنوبهم وأَنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا، فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف، ويندمون حين لا يجديهم الند

وإذا كان هذا حالهم عندما تمسهم نفحة من عذاب الله، فكيف يكون حالهم حينما يغشاهم {مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} المفردات: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ}: أَي نقيم لكل مكلف ميزانًا لوزن أَعماله، ثقلًا وخفة، وسيأْتى بيان المراد من ذلك. {الْقِسْطَ}: العدل، وهو من المصادر التي يوصف بها الواحد والمثنى والجمع كلفظ (العدل). {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ}: مثقال الشيءِ ميزانه. {خَرْدَلٍ}: شجر معروف، حَبُّه من أَصغر الحبوب وأدقها. ويُضرب مثلًا للصغر. {مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}: أَي محاذرون وجلون من أَهوالها. التفسير 47 - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ .... } الآية. هذه الآية مُستأْنَفة لبيان عدل الله بين عباده عند مجىءِ الساعة التي أَنذرهم بها. وأَن أَعمالهم معلومة لديه، فلا تخفى منهم خافية، ولا تُظلم نفس شيئًا.

ويرى جماعة من السلف أَن هذه الموازين حسية وأن الله تعالى يحول أعمال عباده إلى أجسام، لتكون صالحة للميزان الحسي، حتى يرى كل عامل عمله ماثلًا أمامه، إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬1). ويستشهدون على رأيهم هذا ببعض الآثار. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: الميزان تمثيل لعدل الله وليس ثمة ميزان حسى، إذ أنه سبحانه ليس بحاجة إِليه، فهو يعلم السر وأَخفى، في حين أَن أعمال العباد يجدونها مسطرة في كتبهم كما حدثت في دنياهم، وحكْمَ الله مقرونًا بها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (¬2). وبهذا الرأى أَخذ المعتزلة، وينبغى عدم الجدل في حقيقة الميزان وترك أَمرها إِلى الله تعالى. واللام في قوله تعالى: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} بمعنى في، أَو للتعليل - أَي لأجل يوم القيامة. {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}: أي فلا يقع على أَي نفس مؤمنة أَو كافرة ظلم في جزائها الذي تستحقه على أَعمالها، فلا ينقص ثوابها ولا يزاد عقابها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}: حبة الخردل تضرب مثلًا في القلة والحقارة، أَي: وإِن كان العمل الذي أَتى به المكلف في غاية الدقة والصغر جئنا به في صحيفته فيتعرف عليه ويجزى به، وعاد الضمير بالتأْنيث على مثقال، لاكتسابه التأْنيث من الحبة التي أُضيف إِليها، وهى مؤنثة. وقرأَ مجاهد وعكرمة: {أَتَيْنَا بِهَا} أي: جازينا بها، من الإتياءِ بمعنى المجازاة والمكافأَة. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 30 (¬2) سورة الحاقة، الآيات: من 19 - 29

{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}: أي لا أحد أَسرع وأدق حسابًا منا، فنحن نحصى على كل عامل ما قدمه من خير وشر، أَسَرَّ به أَو جهر، صَغُر أَو عَظُم، ثم نجزيه بالعدل والقسطاس المستقيم، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). قال أحمد بسنده عن عائشة رضى الله عنها: "إن رجلًا من أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إِن لى مملوكَيْن يَكْذِبُونَنِى ويخونوننى ويعصوننى، وأَشتمهم وأَضربهم، فكيف أنا منهم؟ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، إن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك عليهم، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كَفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم أقتص لهم منك الفضل الذي يبقى قِبلَك) فجعل الرجل يبكى بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويهتف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَا لَهُ؟ أَما يقرأْ كتاب الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}؟ فقال الرجل: ما أَجد خيرًا لى من مفارقة هؤلاءِ، إني أُشْهدك أنهم أحرار كلهم. أَخرجه الإمام أَحمد بسنده عن عائشة رضى الله عنها. 48 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}: لما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لقومه: ما أنذركم إلاَّ بالوحى الذي يوحيه إليه، أردف ذلك ببيان أن تلك سنة الله في الأنبياء والمرسلين، فكلهم تأْتيهم شرائعهم بوحى من ربهم لتبليغ أُممهم بما أوحى إليهم. والمعنى: ولقد أوحينا إِلى موسى وهارون - كما أَوحينا إليك يا محمد - كتابًا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل وكونه ضياءً يستضاءُ به في ظلمات الجهل، ودياجير الغواية وغياهب الضلال، وتذكيرًا للمتقين ووعظًا لهم، وتخصيص المتقين بذلك الشرف؛ لأنهم المنتفعون به المستضيئون بأنواره. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية:

وفسر ابن زيد الفرقان الذي أُوتيه موسى وهارون بالنصر على الأعداءِ كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). قال الثعلبى: هذا القول أَشبه بظاهر الآية، فيكون المعنى: ولقد آتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياءُ والذكر. انتهى بتصرف يسير. 49 - {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}: الآية تصف المتقين الذين ينتفعون بالتوراة ويستضيئون بنورها، ويتعظون بذكر آياتها البينات قبل نسخها، فتذكر أَخص صفاتهم وهى أَنهم يخشون ربهم، ويخافون عذابه غائبين عن أَعين الناس، وذلك بما وقر في سرائرهم لعمق الإيمان، وقوة اليقين، وهم خائفون من مجىءِ الساعة، وما وراء ذلك من حساب وجزاءٍ، فلهذا تَعظُم خشيتهم من ربهم في سرائرهم غائبين عن أَعين الناس. أَو المراد يخشون ربهم وهو غير مرئى لهم، فقد عرفوا بالنظر والاستدلال أَن لهم ربًّا قادرًا على أَن يجازى على الأَعمال فهم يخشونه - جل شأْنه -، ويخافون عذابه وهو غير مشاهَدٍ لهم، ووصف المتقين بالإِيمان بالغيب، شهادةٌ بصدق إِيمانهم، ومدحٌ لهم، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (¬2). وقوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬3). وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (¬4). إِلى غير ذلك من الآيات، وإنما وصف المتقون بالخشية من الساعة بعد أَن وُصفوا بعموم خشيتهم من الله، لتهويل أَمرها، ووصفهم بضد ما اتصف به المستعجلون الذين لجُّوا في عُتُوِّهم، وأَعرضوا عن ذكر ربهم، والثناء على المتقين من أَهل التوراة قبل أَن ينسخها بالإِنجيل ثم بالقرآن العظيم، الذي أَوجب الله الإِيمان به على اليهود والنصارى وسائر البشر، ولهذا قال سبحانه: 50 - {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}: أي: وهذا القرآن ذكْر يتعظ به أُولو الأَلباب، كثير البركة موفور النفع، أَنزلناه ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، من الآية: 41 (¬2) سورة البقرة، الآية 3 (¬3) سورة الملك، الآية: 12 (¬4) سورة ق، الآية: 33

تأييدًا لرسولنا محمد وآيةً على نبوَّته، أَفأَنتم له منكرون وقد عجزتم عن الإِتيان بمثله، أفَلَيس ذلك آية على أَنه منزل من عند الله كالتوراة التي آمن بها غيركم، لقد ضللتم عن الهدى، وتجاوزتم الحد يا معشر قريش، وكنتم بإنكاركم له من الخاسرين. {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} المفردات: {رُشْدَهُ}: الرُّشد الاهتداء؛ إلى وجوه البر والصلاح. {التَّمَاثِيلُ}: جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه ما خلق الله، والمراد: الأصنام. {عَاكِفُونَ}: ملازمون ومقيمون على عبادتها. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}: انحرافٍ وبُعْدٍ واضح عن النهج القويم. {اللَّاعِبِينَ}: اللاهين العابثين. {فَطَرَهُنَّ}: خلقهن وأَوجدهن من عدم على غير مثال سبق. {الشَّاهِدِينَ}: المصدقين له المؤمنين به. التفسير 51 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ....... } الآية. ذكر - سبحانه - فيما سبق مِن الآيات رسالة موسى وكتابَهُ، والقرآن وما حوى من ذكر وبركة، وجاءَت هذه الآية وما بعدها من الآيات، لنعرف منها قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه.

والرشد هو: الاهتداء لوجوه البر والخير والصلاح، قال الفراءُ: أَعطينا. هداه من قبل النبوة والبلوغ اهـ. فالله سبحانه يخبر عن خليله إِبراهيم أَنه آتاه الهداية إِلى الحق في صغره، وأَلهمه الحجة على قومه قبل النبوة، كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (¬1). {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}: أي وكنا به وبما يتحلى به من الصفات الجميلة، والسجايا الحميدة التي تجعله من أَهل الاجتباءِ والاصطفاءِ، كنا بذلك كله عالمين. ومعنى الآية إجمالا: ولقد أعطينا إِبراهيم رشده وهديناه إلى وجوه الصلاح والخير فيما يفعل وما يدع، وكنا بجدارته وأَهليته لذلك عالمين، فقد صنعناه على أعيننا، وأَعددناه ليحمل رسالتنا، فزودناه بالشمائل الطيبة، والسجايا الكريمة؛ ليكون ذلك عونًا له على أَدائها، وعصمة له من أن يناله أَحد، أو يحط من قدره حَسُودٌ أَو حاقد. وهذا هو شأْن الله - جل جلاله - في اختيار رسله يحيطهم بكريم عنايته ويطهرهم من كل نقص أو عيب. 52 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}: هذا هو الرشد الذي أوتيه إِبراهيم في صغره، حيث أَنكر على قومه عبادة الأَصنام قبل أن تأْتيه النبوة، وكلمة (إِذْ) ظرف لقوله: (آتَيْنَا) في الآية السابقة. والمعنى على هذا: ولقد منحنا إبراهيم هداه وأَرشدناه إلى الطريق المستقيم وقت أَن قال لقومه - ساخرًا منهم ومن آلهتهم -: ما هذه التماثيل التي أَنتم عليها عاكفون، وعلى عبادتها مقيمون، وهى لا تستحق شيئًا مما تصنعون، فليس لها من الصفات ما يقتضي تعظيمها فضلًا على عبادتها، فكيف عكفتم على عبادتها؟ ويجوز أَن يكون لفظ (إِذْ) مفعولًا به لفعل محذوف تقديره (اذكر). والمعنى على هذا: اذكر أَيها الرسول لقومك ما كان من أَمر إبراهيم مع قومه. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 83

والمراد من ذكر هذه القصة: بيان مخالفتهم لجدهم إبراهيم في عقيدته، فقد كان عدوًّا للأَصنام التي يعبدونها، كما أَن فيها حث النبي على أَن يحتذى مع عَبَدَةِ الأصنام من قومه حذو أبيه إبراهيم عليه السلام مع قومه، فيبين لهم فساد عبادة غير الله، ويصبر على أَذاهم. 53 - {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}: أي قال قوم إبراهبم - لمَّا لم يجدوا حجة مقنعة ولا برهانًا يعتمدون عليه - قالوا -: إِنا وجدنا آباءَنا مقيمين على عبادة هذه الأصنام فاقتفينا أثرهم، وسرنا على نهجهم، وفي هذا الرد غاية الامتهان لعقولهم، ونهاية الاستخفات بعقيدتهم؛ لأَن الاحتجاج بالتقليد مُسْتَنَدُ العاجز المفحَم، وكأنهم قالوا: لا دليل لنا على ما نفعل ولا حجة لدينا في عبادتنا تلك إِلَّا تقليد الآباءِ والنسج على منوالهم. والتعلل بتقليد الآباءِ في عبادة غير الله داء استشرى في أُمم كثيرة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1). 54 - {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: وهكذا جاء رد إِبراهيم - عليه السلام - مسفهًا لعقولهم وعقول آبائهم من قبلهم؛ إذ أَقسم لهم أنهم وآباءَهم في ضلال وَغَيٍّ واضح، بعُدوا به عن طريق الحق، وانحرفوا عن النهج القويم. 55 - {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}: أي أَن إبراهيم عليه السلام، لمَّا سفه أَحلامهم، وضلل آباءَهم، واحتقر آلهتهم، قالوا له: أهذا الكلام الذي صدر منك تعيب فيه آلهتنا، وتحط من قدرها، تقوله هازلًا ولاعبًا أو تقوله جادًّا ومحقًّا فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك، فأَجابهم بما حكاه الله بقوله: 56 - {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}: أي: قال إِبراهيم - ردًّا على قومه -: لقد جئتكم بالحق، ولست هازلًا أَو لاعبًا، فليست هذه التماثيل أَربابا لكم ولا لغيركم، بل ربكم المستحق لعكوفكم على عبادته، هو رب السماوات ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية رقم:

والأرض الذي خلقهن وما فيهن دون شريك أَو معين، وأَنا على ربوبيته من الشاهدين، مما قام عندى من الأَدلة والبراهين، فلست مثلكم أَعبد ما لا تقوم على ربوبيته حجة ولا برهان وأَعتذر بتقليد الآباءِ والأَجداد. ويجوز أَن يكون الضمير في (فَطَرَهُنَّ) راجعًا إلى التماثيل، فالله - تعالى - هو الذي خلق المادة التي صنعت منها، وهذا أَدخل في تضليلهم وأَثبت في الاحتجاج عليهم؛ حيث قد عبدوا مخلوقات لله الذي يعبده، تجرى عليها أَحكامه، فهي لا تملك شيئًا من أمر نفسها، فضلًا عن غيرها. ثم توعدهم بأَنه سيفعل بتلك الأَصنام فعلًا له خطره وشأْنه، ليثبت لهم بالطريقة الفعلية أَنها لا تملك من أَمر نفسها شيئًا فقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}

المفردات: {لَأَكِيدَنَّ}: الكيد؛ الاحتيال لإلحاق الأَذى بغيرك. {تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}: تَنْصرفوا عنها وتتركوا حراستها. {جُذَاذًا}: قطعًا، من الجذِّ وهو القطع. {يَذْكُرُهُمْ}: يتحدث عنهم بما يعيبهم. {كَبِيرًا}: أَي كبيرًا في تعظيمهم له، أَو في حجمه. {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}: يسمى بهذا الاسم. {عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ}: على شهود منهم، جمع عَيْن بمعنى شاهد. {يَشْهَدُونَ}: يحضرون مساءَلته وعقوبتنا له على فعله. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}: فعادوا إِلى أَنفسهم يتلاومون. {الظَّالِمُونَ}: الذين ظلموا أَنفسهم بعبادة ما لا يعقل. {نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ}: انقلبوا عليها، والجملة كناية عن أَنهم رجعوا عن رأيهم وذلك بالشروع في الجدل. التفسير 57 - {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}: أكد إِبراهيم - عليه السلام - ما اعتزم من الكيد للأَصنام بلام القسم ونون التوكيد في قوله: {لَأَكِيدَنَّ}. والظاهر أَنه - عليه السلام - لم يواجههم بالوعيد والتهديد المفهوم من الآية، لأَن المواجهة لا تتفق مع الكيد والاحتيال للإيقاع بالأَصنام وتكسيرها. روى أن (آزر) خرج هو وقومه في يوم عيد لهم، فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعامًا، وقالوا: إلى أَن نرجع تكون الآلهة قد بَرَّكت عليه فنأْكل منه، فذهبوا وبقى إِبراهيم معتذرًا بأَنه سقيم، ثم نظر إليها وكانت سبعين صنمًا مصطفة، وثَمَّة صنم عظيم، ونظر إبراهيم إِلى ما بين أيديها من الطعام فقال لها - مستهزئًا -: أَلا تأْكلون؟ فلمَّا لم يجيبوه قال: ما لكم لا تنطقون؟ فراغ عليها ضربًا باليمين وجعل يكسرها بفأْس في يده حتى إذا لم يبق إِلاَّ الصنم الكبير، علق الفأس في عنقه ثم خرج. أهـ

ويشير إِلى ذلك قوله تعالى: 58 - {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}: أَي: فعمد إِبراهيم إِليها تكسيرًا وتقطيعًا حتى صارت قطعا صغيرة. وإنما استثنى كبير الأصنام دون جَذٍّ وكسر؛ لكي يرجعوا إليه ويستخبروه الخبر، فلا يجدوا عنده جوابًا، فهو الجماد الذي لا ينطق، ولعلهم حينئذ يستيقظون من سباتهم، ويتنبهون من غفلتهم، ويكون ذلك سببًا في إقلاعهم عن عبادة الأَصنام، والرجوع إلى دين إِبراهيم، والإيمان بالله رب السموات والأَرض دون سواه، فلما عادوا إِلى أَصنامهم عجبوا لما أَصابها، ولم يستدلوا بذلك على حقارتها، بل حدث منهم ما حكاه الله بقوله: 59 - {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: أَي: قالوا - سائلين على سبيل التعجب والتأْثيم والوعيد - قالوا: مَنْ أَحدث هذه الفعلة الشنعاءَ بآلهتنا ومعبوداتنا فنالها بالتحطيم والتكسير؟ ثم وصفوا المحطِّم لها بقولهم: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}: مؤكدين ظلمه وتعديه بإِنَّ ولام القسم - يعنون: أَنه بما فعل قد ظلم الآلهة بالاعتداءِ عليها، وظلم نفسه بتعرضه لسخطها - كما يزعمون ويتوهمون - كما أَنه ظلم عشيرته وقومه بإهانتهم في تكسير آلهتهم. 60 - {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}: أَي: قال الذين سمعوا إِبراهيم يعيب الأَصنام وعبادتها، ويدعو إلى إِله غيرها: إِنا سمعنا فتى يذكر آلهتنا بسوءٍ، واسم هذا الفتى إبراهيم، فلم يذكر أَحد آلهتنا بسوءٍ غيره، ولم يستهزئ بها وينكر أُلوهيتها سواه، فيغلب على ظننا أَن يكون هو الذي فعل بها ما نرى. وفي تعبيرهم عن إِبراهيم بقولهم: {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} استهزاءٌ به وسخرية منه وإغراءٌ به، وتشغيب عليه للنيل منه. وضمير الجماعة في قولهم: {يَذْكُرُهُمْ}: يشير إِلى أَنهم كانوا يضفون على هذه الأصنام صفات العقلاءِ وأَنها تضر وتنفع. 61 - {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}: أَي: أَنهم لما شاهدوا كسر الأصنام، وقيل لهم: إِن فاعل هذا يُظَنُّ أَنه إبراهيم؛ لأَنه كان يذكرها بسوءٍ، قالوا: فأْتوا به في مكان ظاهر بحيث تراه كل عين وتشاهده؛ ليش

مساءَلته والعقوبة التي تحل به، فيشفى ذلك صدورهم ويذهب غيظ قلوبهم،، ليكون ما ينزل به رادعًا لمن تحدثه نفسه أَن ينال من الآلهة، أو يحاول الميل إلى دين إِبراهيم الذي يدعو إليه، فلما أَحضروه بمشهد من قومه سأَلوه سؤال تقرير حتى يعترف بما فعل ليقدموا على عقابه. 62 - {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}: أَي: أَأَنت الذي حطمت آلهتنا وكسرت معبوداتنا التي هي عندنا بمكان التقديس والتعظيم؟ وكيف تجرأْت على ذلك ولم تخف غضبها عليك، ولا غضبتنا لها، وانتقامنا منك؟ وكان جواب إبراهيم - عليه السلام - غريبًا عجيبًا مخالفا لما كانوا ينتظرون، وذلك ما حكاه الله بقوله: 63 - {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}: لم يكن إِبراهيم يقصد أن صنمهم الكبير هو الذي حطم الأَصنام الصغيرة على الحقيقة، بل كان يريد بهذا الأُسلوب المجازى إِلزامهم الحجة وتبكيتهم، والاستهزاءَ بهم، وتنبيههم إِلى قِصَر فهمهم، وسوءِ تقديرهم، مع إرشادهم إلى الصراط السوى والسبيل المسنقيم، لأن هذا الصنم وإن كان كبيرًا فإنه لا إرادة له ولا حياة فيه، فلا يستقيم أَن ينسب إِليه تحطيم غيره من الأصنام وتفتيتها غيرة منها وكراهة لها، والذي يرشح ويقوى هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وكأَنه قال لهم: لا يعقل أَبدًا ولا يستقيم لدى من عندهم مُسكة من عقل أَن يكون هذا الصنم قد قام بتحطيم غيره من الأصنام، فجميعها جماد لا حياة فيها، وقد صنعت بأَيديكم، ولا يتميز واحد منها على سواه بكبر أَو زينة، فإِن صورها وأَشكالها قد جاءَت حسب أهوائكم ومشيئتكم فكيف تعبدونها؟ وإِذا كانت لا تستطيع حماية نفسها مِمَّن حطمها فكيف تخرون سجدًا لها، أَولى بكم أَن تتدبروا أَمركم، وتثوبوا إلى رشدكم، فتتركوا عبادتها، وتفردوا الله وحده بالعبادة والطاعة. {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}: وهذا غاية السخرية، ونهاية الإِلزام بالحجة الدامغة، فهم لا ينطقون، ومن لا ينطق فلا يستطيع الإخبار عمن اعتدى عليه، ومن كان كذلك فليس أَهلًا للعبادة، وإذا عبده الحمقى والسفهاءُ فجدير به أن يُحَطّ

64 - {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}: أَي فتنبهوا واقتنعوا بأَن إِبراهيم محق فيما قال، ورجعوا إلى أَنفسهم يتلاومون، فوصف بعضهم بعضًا بالظلم: {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}: لأَنهم كذبوا إِبراهيم وعبدوا أَصناما لا تنفع ولا تضر، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا الإِخبار عمن حطمها، وهذه اليقظة العقلية تحدث أحيانا حين تسطع الحجة ويبهر الدليل، ولكنها لا تلبث طويلًا عند الجهلاءِ المقيمين على الضلال، ولذا لم يثبت قوم إِبراهيم على هذا الاقتناع، فعادوا إلى جهالتهم ورُدُّوا إلى سفاهتهم، ولذلك يقول الله تعالى: 65 - {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}: أصل النكس: قلب الشيء، بحيث يكون أَعلاه أَسفله، وأُريد به - هنا -: أنهم عادوا إلى المجادلة بالباطل بعد ما استقاموا بمراجعة إِبراهيم لهم، ولم يستندوا في انتكاسهم هذا إِلى برهان ساطع أَو دليل قاطع، ولكنه العناد الذي تركهم في ريبهم يترددون مع أَن الحجة لا تزال قائمة عليهم بقولهم في الدفاع عن أنفسهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}: وكان مقتضى هذا أن يستمروا على يقظتهم وأَن يخضعوا لحُجَّة إِبراهيم ومنطقه، ولكنهم لغلبة الجهل والصلف عليهم تنكروا للحق، وانساقوا وراءَ الباطل جهلا واستكبارا.

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} المفردات: {أُفٍّ}: لفظ يدل على التوجع والتألم مما يجد. {حَرِّقُوهُ}: أَحرقوه بالغ الإحراق. {انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}: انتقموا لها. {بَرْدًا وَسَلَامًا}: بَرْد أَمنٍ لا برد هلاك. {كَيْدًا}: إِهلاكا ناشئا عن الكيد، وهو تدبير الشر للعدو. {الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}: هي بلاد الشام. {نَافِلَةً}: هبة خالصة وزيادة على ما سأَل إبراهيم. التفسير 66 - {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}: بعد أن ظهرت الحجة لإبراهيم عليهم، قال مبكتا وموبخا لهم: أَتعودون إلى الجهالة

فتعبدون ما لا يجلب لكم نفعا إِن أنتم عبدتموها، كما أَنها لا تضركم شيئا من الضرر إِن أَنتم تركتموها. 67 - {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: قبحًا لكم ولما تعبدون من دون الله، ألاَ تتفكرون فيما صرتم إِليه فلا تعقلون سوءَ عملكم وقبيح صنعكم؟ الأجدر والأَولى بكم أَن تتدبروا وترجعوا إِلى الفطرة السليمة التي تهدى إلى الخالق - جل وعلا - فهو الذي فطركم وربَّاكم. وخلق معبوداتكم، فتعالى الله عن الشريك والمثيل، وعن قبول عبادتكم لسواه. 68 - {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}: أَي قال بعضهم لبعض: حرقوا إِبراهيم وانصروا بذلك آلهتكم، فقد سخر منها ونالها بالتحطيم ولم يرع قدسيتها وتعظيمها عندكم. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}: أَي إِن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مبينا فهذا سبيله، وإِلَّا تفعلوا كنتم مفرطين في حقها، وهذا الذي قالوه هو سبيل المُفْحَم المحجوج الذي بهتته الحجة وعجز عن البرهان، فقد قالوا ذلك بعد أَن استيقنت أَنفسهم أَن آلهتهم لا تستطيع أن تنصرهم عليه، بعد أَن عجزت عن دفع التحطيم عن أجسادها. 69 - {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}: أي قلنا للنار حين ألقوا فيها إِبراهيم: كونى بردا وسلاما عليه، والمقصود من هذا الأَمر الكريم أنه سبحانه سلب منها طبيعتها وهى الإحراق، وجعلها باردة غير ضارة ببرودتها بحيث لكون سلاما عليه، فلا يصيبه منها أَذى في جسده ولا في نفسه، فجمع له الله في تلك النار بين السلامة الحسية والسلامة النفسية، فكان مشروح الصدر مطمئن القلب، سليم البدن. ذكر أَصحاب الأَخبار قصة تحريق إبراهيم - عليه السلام - مرة مطولة، وأُخرى موجزة، ونحن نسوقها باختصار فما يلى: لما اجتمع نمروذ وقومه لإِحراق إبراهيم بنوا له بنيانا كالحظيرة، يشير إِلى ذلك

قوله تعالى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (¬1). ثم جمعوا له الكثير من صلاب الحطب، وأوقدوا نارا عظيمة ثم اتخذوا منجنيقًا ووضعوا فيه إِبراهيم مقيدًا مغلولا، وقذفوه في النار، فأَتاه جبرائيل - عليه السلام - وقال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال له: أَما إِليك فلا. قال جبرائيل: فاسأل الله ربك، قال: حسبى من سؤالى علمه بحالى، فقال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وبهذا رد الله كيدهم إِلى نحورهم. قال أَبو حيان في (البحر): قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذى صح هو ما ذكره الله تعالى من أَنه عليه السلام أُلْقى في النار فجعلها الله عليه بردًا وسلاما، وبقول أَبي حيان نقول، والله أعلم. 70 - {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}: أَي: أَرادوا بإبراهيم عليه السلام مكرا عظيما في الإِضرار به؛ عقابا له على دعوة التوحيد التي جاءَ بها، وظنوا أَنهم سينالون ما يريدون، وأَخذوا لذلك أَسباب إِهلاكه، من إِشعال النار وطرحه فيها، ولكن ضل سعيهم، وباءَ عملهم بالفشل الذريع، فقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، وكان ما فعلوه هو البرهان القاطع على أنه - عليه السلام - على الجادة والصراط المستقيم، وهم على الباطل، فجعلهم الله بذلك أَخسر الخاسرين، وأَتْعَس الماكرين المبطلين. 71 - {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}: أَي: وأَتممنا على إِبراهيم النعم بأَن نجيناه من هؤلاءِ القوم فرحل من بلادهم بالعراق وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (¬2). وهاجرت معه زوجته سارة وابن أَخيه لوط بعد أَن آمن به، ورحلوا معا إلى الأرض المباركة، أَرض الشام التي باركها الله، بأَن جعلها مهبط كثير من الأنبباءِ، ومهد معظم الرسالات، كما أكرمها بكثرة خيراتها وزيادة ثمارها وتدفق المياه ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 97 (¬2) سورة العنكبوت، من الآية: 26

في أَرجائها، وامتلاء أَرضها بالأَشجار، ووفرة الأَرزاق فيها. ثم هاجر لوط إِلى المؤتفكة حيث أَرسله الله إِلى قومها المشهورين بفعل الخبائث وستأْتى قصته معهم قريبا في هذه السورة. وفي تعميم البركة للعالمين ما يفيد أن الذي بها من خيرات ليس مقصورا على أَهلها، ولعل ذلك أَكثر وضوحا في جانب الهداية، لأَن نور الرسالات والنبوات انتشر من هذه البقاع إِلى العالمين، ولم يكن حبسا على المقيمين فيها ولا مختصا بهم. وقد انتشرت في أَرض الشام دعوة إِبراهيم - عليه السلام -، كما أَنها عمت أَرض الحجاز حيث بنى البيت الحرام، ودعا الناس من حوله إِلى عبادة الله وحج بيته الحرام، إِلى غير ذلك من جهات الأَرض التي زارها. 72 - {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ..... } الآية. يعدد الله نعمه على إبراهيم عليه السلام، فإِنه - تعالى - قد نَجَّاه من النار ثم هيَّأَ له ولابن أَخيه لوط الذهاب إِلى الأَرض المباركة، وبعد أن استقر به المقام منَّ الله عليه بنعمة الذرية ليكونوا امتدادًا له في أَداءِ رسالة الله في الأرض، فوهب له من زوجته (سارة) إِسحاق ومن وراء إِسحاق يعقوب. والتعبير عن رزقه بإِسحق وابنه يعقوب بأَنه هبة ونافلة؛ لأنهُ رُزِقَهما في أَعلى سن اليأْس، والنافلة في اللغة قد تطلق على: العطية، وعلى هذا تكون (نَافِلَةً) حالا من إسحاق ويعقوب، ويجوز أَن تكون حالا من يعقوب وحده، فقد قيل: إِن هبة إِسحاق كانت إِجابة لدعوة إِبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1) وهبة يعقوب كانت زيادة وعطية له من غير سؤال منه لربه سبحانه وتعالى. {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ}: أَي وكلا من إِبراهيم ولوط وإِسحاق ويعقوب جعلناهم طائعين لنا عاملين بأَوامرنا مجتنبين محارمنا. ¬

_ (¬1) سورة الصافات، من الآية: 100

73 - {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا .... } الآية. أَي: وأَعددناهم ليكونوا أَنبياءَ هداة وأَئمة يقتدى بهم الناس ويتبعون سبيلهم؛ فهم الأُسوة الحسنة والقدوة الطيبة، إذ الدعوة بالعمل مع القول آكد وأَقوى وأَكثر نفعًا من الدعوة بالقول وحده، ومع كونهم قدوة لغيرهم في عقائدهم وسلوكهم، فهم يهدون بأَمرنا أَي: يدعون الناس إلى دين الله بإِرشاد ووحِي منا، وقد بين الله ما أَوحاه الله إليهم ليعملوا به ويبلغوه فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}: أَي وشرعنا لهم فعل الطاعات والمبرات التي يسعد بها البشر في دنياهم وأُخراهم، ومن أَعظم هذه الخيرات التي شرعناها لهم: إِقام الصلاة، أَي: أَداؤها تامة كاملة على خير الوجوه في أَوقاتها، وإِيتاء الزكاة لمستحقيها مما يحبون ومن خير ما يملكون، لا يدفعهم إِلى بذلها رغبة أَو رهبة من أَحدٍ إِنما يقدمونها ابتغاءَ مرضاة ربهم. فأَنت ترى أَن الله خصَّ الصلاة والزكاة بالذكر مع دخولهما في الخيرات التي أَوحاها وشرعها، لأَن الصلاة أَشرف العبادات البدنية، والزكاة أَفضل القربات المالية، ومجموع العبادتين تعظيم للخالق، ورحمة بالمخلوق. وقد جمع الله لهؤلاءِ الصفوة من خلقه فضائل الصفات، وكرائم الشمائل، فوصفهم بالصلاح لأَنه أول مراتب السائرين إِلى الله تعالى، ثم زادهم فضلا فوصفهم بالإِمامة والقدوة، ثم وصفهم بالنبوة والوحى. وبعد أَن بين أَصناف نعمه عليهم بَيَّن اشتغالهم بعبوديته فقال: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}: أَي: خاشعين لا يستكبرون عن عبادتنا، ولا يتجهون بها إلى أَحد سوانا فقد قابلوا إحسان الله عليهم بإِخلاص العبودية له وحده.

{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} المفردات: {حُكْمًا}: حكمة ونبوة. {الْقَرْيَةِ} قيل: هي سَدوم. {الْخَبَائِثَ}: هي كل منكر من الأعمال، ومن أَفحشها إتيان الذكران. {فَاسِقِينَ}: خارجين عن أَمر الله وطاعته. {الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: الطوفان والغرق. التفسير 74 - {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ..... } الآية. لما ذكر الله قصة إِبراهيم عليه السلام مع قومه، وبين أنه أَنجاه ولوطا إِلى الأَرض المباركة، أَتبعها قصة ابن أَخيه لوط مع قومه. ومعني الآية: وأعطينا لوطا حكمة في سلوكه مع قومه الذين يمارسون أفحش رذيلة في العالمين، فكان يأْخذهم إِلى الفضيلة بالأُسلوب الرشيد والمنطق السديد، كما آتيناه علمًا دينيا وشرعا كريما يتبعه ويأْمر به قومه.

{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}: وأَنعمنا عليه بأن نجيناه وحفظناه من كيد أَهل قريته، وخيانتهم له، ومن الهلاك معهم عندما قلبها بهم ودمرها عليهم، جزاءَ ما ارتكبوا من المنكرات، وكان أَشدها فحشا إتيانهم الذكران، والاستغناءَ بهم عن الحلال الطيب من نسائهم. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}: إِنهم قد طبعوا وجبلوا ونشأُوا خارجين عن طاعة ربهم، مرتكسين في الرذيلة، فكان إِتيانهم الفواحش متفقا مع خسيس طبائعهم ومرذول جبلتهم. 75 - {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}: أَي: وأَدخلنا لوطا في رحمتنا، وأَحطناه بفضلنا وجزيل عطائنا، فمنحناه النبوة وهى قمة المنح، فأَى رحمة أَفضل وأَتم وأَكمل من اصطفاءِ الله لعبده واختياره ليكون مُبلغا عنه تعالى وهاديا لقومه، ويجوز أَن يراد من الرحمة الجنة، أَي: أَدخلناه في جنتنا؛ لأَنه من الصالحين. 77،76 - {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}: المعنى: واذكر - يا محمد - نبأَ نوح وقت أَن اشتد به الكرب، من أَذى قومه تارة بالتكذيب والتسفيه، وأُخرى بالكيد والسخرية، فالتجأَ إِلينا مستعينًا بنا، ودعانا بقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (¬1) وطلب منا أَن نهلك جميع الكافرين من قومه بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (¬2) وذلك بعد أَن أَعلمناه أَنه لن يؤمن من قومه إِلا من قد آمن، فاستجبنا له وحققنا ما طلب فنجيناه وخلصناه من الحُزْن والضيق العظيم ونصرناه من قومه الذين كذبوا بآياتنا، حيث حميناه من شرهم، فإنهم كانوا أَهل سوء وقبح وفساد، وجعلنا عاقبتهم جميعا الإِغراق بالطوفان بعد أن أنجينا نوحا ومن آمن من قومه. ¬

_ (¬1) سورة القمر، من الآية رقم: 10 (¬2) سورة نوح، من الآية رقم: 26

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} المفردات: {الْحَرْثِ}: الزرع. {نَفَشَتْ}: رعته ليلا بلا راع وأفسدته، يقال: نفشت بالليل، وهَمَلَتْ بالنهار. {حُكْمًا}: حكمة وفقها (¬1) {لَبُوسٍ}: اللبوس عند العرب: السلاح كله، درعا كان أَو سيفا أَو رمحا أَو غيرها، والمراد به هنا: الدرع. {لِتُحْصِنَكُمْ} لتحفظكم وتمنعكم. {بَأْسِكُمْ}: البأْس؛ الشدة والحرب. {يَغُوصُونَ}: ينزلون إلى أَعماق البحار. {عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ}: عملا غير ذلك كبناء القصور، والصناعات البديعة. التفسير 78 - {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ .... } الآية. ¬

_ (¬1) انظر القرطبي.

أي: اذكر أَيها الرسول - لقومك قصة داود وسليمان وشأْنهما في قضية غنم لقوم انتشرت في زرع لآخرين، فأَكلت ما أَكلت واتلفت ما أَتلفت، وخلاصة ما ذكره المفسرون في هذه القصة: أَن رجلين دخلا على داود - عليه السلام - أَحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال الأَول: إن غنم هذا دخلت حرثى ورعته وما أَبقت فيه شيئا، فقال داود - عليه السلام - لصاحب الحرث: اذهب فإِن الغنم لك، فخرجا فمرا على سليمان، فقال لهما: كيف قضى بينكما؟ فأَخبراه. فقال: لو كنت أَنا القاضى لقضيت بأَن تدفع الغنم إِلى صاحب الحرث فيكون له نفعها، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، حتى إِذا كان العام القابل، وكان الحرث على هيئته يوم أُكِل رُدَّت الغنم إِلى صاحبها، وقبض صاحب الحرف حرثه، فوافق داود على حكم سليمان، وقال له: القضاءُ ما قضيت، وبمعناه قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}: أَي وكنا شاهدين عالمين بما حكم به كل واحد منهما لا يغيب عنا منه شىءٌ. 79 - {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}: أَي: فأَرشدنا وأَلهمنا سليمان إلى أصوب الرأيين وأرشد الحكمين، فقد اجتهد داود - عليه السلام - في الأَمر فرأى أن ما أَكلته الغنم وأَتلفت يقدر ويقوَّم بثمنها جميعًا فحكم بها لصاحب الحرث، ورأَى سليمان - عليه السلام - أَن غير هذا أَرفق بالفريقين، وقضى بأَن تسلم الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها لبنا وسمنا وصوفا ونسلا، ويقوم صاحب الغنم على الحرث حتى يعود إلى ماكان، ثم يرد إلى كل منهما ما يملك من حرث أَو غنم كما تقدم بيانه. وهذا الحكم قد بنى على اجتهاد من داود وسليمان عليهما السلام - فالنبي - له أَن يجتهد فيما لم يرد فيه نص، والوحى قد يقره أَو يعدله أَو لا ينزل في شأْنه بشيءٍ فيكون تقريرًا للحكم، وكلاهما - عليهما السلام - آتاه الله الحكمة والعلم فلم يخرج حكم أَحدهما على ما تقتضيه الحكمة حسب اجتهاده؛ فكلاهما كانت له المعرفة بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام والبصر بالأُمور، وفضل سليمان راجع إِلى فضل أَبيه، والوالد تسره زيادة ولده ع

{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}: أي وجعلنا كُلاًّ من الجبال والطير تسبِّح الله تعالى حين يسبحه داود، وكان ذلك تسبيح مقال ليكون وجه الامتنان على داود بتسبيحها معه ظاهرا واضحا. وقال بعض المفسرين: إِن التسبيح كان بلسان حالها، فهى لا تنطق، ولكن بديع صنعتها، ودقة تركيبها، وعظيم المهام المتعلقة بها تدل على أَنه - تعالى - هو الخالق البديع. وفي كل شيءٍ له آية ... تدل على أَنه الواحد والرأْى الأَول أوضح وأرجح لما يأْتى: 1 - أَن حمل التسبيح على أَنه كان بلسان الحال لا يجعل لداود مزية على غيره، فكل الأشياءِ - ومنها الجبال والطير - تسبح بلسان حالها. 2 - أَن تخصيص الجبال والطير دون غيرها بالتسبيح وكونها مسخرة مع داود يقتضي أن يكون التسبيح قوليًّا. 3 - أَن الشأْن في اللفظ أن يحمل على ظاهره ما لم تكن - ثَمَّةَ - ضرورة صارفة عن هذا الظاهر ولا ضرورة ههنا. 4 - أن قوله تعالى: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} يشير إِلى ذلك، أَي: وكنا قادرين على أَن نفعل العجائب، أَن تسبح الجبال والطير بلسان المقال. 80 - {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}: أَي: وأَرشدناه إِلى صنع لباس الحرب ودروعها لتمنعكم وتحميكم من بأْس حربكم مع عدوكم وشدته، وقد اتخذ داود - عليه السلام - من الحديد دروعا واقية بعد أَن ألانه الله له، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (¬1). وقدم تسخير الجبال على الطير، لأَن تسخير الجبال وتسبيحها أَعجب وأَدل على قدرة الله وأَدخل في الإِعجاز لأَنها جماد، أما الطير في حيوان يصيح ويعبر عما في نفسه بمنطقه الذي علمه الله إياه. ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآيتين: 10، 11

81 - {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}: وهذا هو الإِنعام الأول الذي خص الله به سليمان عليه السلام. ومعنى النظم الكريم: وسخرنا لسليمان الريح شديدة الهبوب، فلا يعوقها عائق ولا يقف شئٌ دون سيرها، فهى تتخطى كل ما يعترضها وتتغلب عليه. {تَجْرِي بِأَمْرِهِ}: أَي تطيعه وتنقاد له - عليه السلام - فإِن أَرادها سريعة شديدة أَسرعت واشتدت، وإِن أَراد منها غير ذلك كانت على حسب ما يريد ويحكم، تتجه وفق مشيئته به وبرجاله في ليل أَو نهار. {إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}: إِلى أَرض الشام التي باركنا فيها، حيث جعلناها مكان الخصب العميم، والخير الكثير، والماءِ الوفير، والشجر النضير، وهى فوق ذلك مهبط كثير من الرسالات ومهد معظم الأَنبياءِ، فالبركة تشملها حسًّا ومعنى. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أَي: وكنا بكل شيءٍ سخرناه في الكون عالمين بطريقة تسخيره، وتدبير أَسبابه وآثاره، فلهذا سخرنا لسليمان هذه المخلوقات التي تعجز قدرته عن أَن تسيطر عليها، وكل ذلك إِنما يجرى حسبما تقتضيه حكمتنا ويحيط به علمنا. 82 - {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ .... } الآية. وهذه هي النعمة الثانية التي اختص الله بها سليمان - عليه السلام -. والمعنى: وسخرنا لسليمان بعض الشياطين من الجن ينزلون في أَعماق البحار يستخرجون له من الجواهر والنفائس ما يحتاج إِليه ملكه. {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ}: من بناءِ المدن والقصور والحصون ويصنعون الصنائع العجيبة كما قال الله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}. (¬1) {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}: أَي وكنا للشياطين حافظين من أَن يزيغوا عن أَمره أَو يفسدوا ما عملوه أَو يضروا رعيته، وكان أَمرهم معه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة سبأ، من الآية: 13 (¬2) سورة سبأ، من الآية:

ويقول الفخر الرازى تعليقا على تسبيح الحجارة وإِلانة الحديد لداود، وعلى تسخير الريح والشياطين لسليمان عليهما السلام: "اعلم أَن أَجسام هذا العالم إِما كثيفة أَو لطيفة، أَما الكثيف: فأَكثف الأَجسام الحجارة والحديد، وقد جعلهما الله معجزة لداود - عليه السلام - فأَنطق الحجر وليَّن الحديد، وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر؛ لأَنه كما قدر على إِحياءِ الحجارة فأَي بُعد في إِحياءِ العظام الرميمة؟ وإِذا قدر على أَن يجعل في أَصبع داود - عليه السلام - قوة النار مع كون الأَصبع في نهاية اللطافة، فأَي بُعد في أَن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا؟ وأَلطف الأَشياءِ في هذا العالم: الهواءُ والنار، وقد جعلهما الله معجزة لسليمان - عليه السلام - أَما الهواءُ فقوله تعالى: "فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ" وأَما النار فلأَن الشياطين مخلوقة منها، وقد سخرهم الله تعالى له فكان يأْمرهم بالغوص في المياه وهم ما كان يضرهم ذلك، وذلك يدل على قدرته تعالى على إِظهار الضد من الضد" اهـ. {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}

المفردات: {مَسَّنِيَ}: أَصابنى. {الضُّرُّ}: سوءُ الحال بسبب المرض. التفسير 83 - {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}: واذكر فيمن تذكره من الأَنبياء والصالحين أَيوب - عليه السلام - وما أَصابه من البلاءِ وما قابله به من الصبر والضراعة والدعاءِ، واثقا أَنَّ كل شِدَّةٍ إِلى انتهاءٍ وأَن البلاءَ لم ينج منه أَحد حتى الأنبياءُ، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: "أَشد الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأَمثل فالأَمثل؛ يبتلى الرجل على حسب دينه، فإِن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤه، وإِن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يَتْرُكَهُ يمشى وما عليه خطيئة". رواه الشيخان والنسائى وابن ماجه. ويذكر الرواة: أَن أَيوب - عليه السلام - كان واسع الثراءِ، ذا مالٍ وافر وأَولاد، فأَصابه البلاءُ في ماله، وفي ولده، ثم في صحته، واشتد به البلاءُ وحلَّ به الإِعياءُ، فشكا إلى ربه متضرعا قائلا: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ويقول الرازى في المسأَلة الرابعة - تعليقًا على هذه الآية -: إِن أَيوب عليه السلام أَلطف في السؤال، حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة، ولم يصرح بالمطلوب، وعقب الرازى ذلك بقوله: فإِن قيل: إِن الشكوى تقدح في كونه صابرًا، فالجواب ما قاله سفيان بن عيينة حيث قال: من شكا إِلى الله تعالى فإِنه لا يعد منه ذلك جَزَعا، إِذا كان في شكواه راضيًا بقضاءِ الله، إذ ليس من شرط الصبر استحلاءُ البلاءِ، أَلَمْ تسمع قول يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} انتهى بتصرف يسير. وقد ورد في بلاء أَيوب وفي مدته روايات واهنة لا يقبل العقل تصديقها؛ حيث إِنها تصف مرضه بأَنه نفَّر عنه الناس وأَبعدهم منه، وأَنه مكث به عدة سنين, وأَن ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الآية: 35

زوجته كانت تقوم بالخدمة في البيوت لتحصل على رزقه، وكل ذلك باطل من جهة الرواية، ومنْ جهة ما يجب للأَنبياءِ، من الصفات الكريمة التي تجمع الناس حولهم، ولا تبعدهم عنهم، ليستطيعوا أَداءَ رسالة مولاهم؛ وكل ما جاءَ في الآية أَنه تعالى امتحنه بضر، فشكا إِلى ربه راجيا رحمته تعالى لأَنه أَرحم الراحمين، ولابد أَن يكون هذا الضر مما يصاب بنحوه الأَنبياءُ، ولا يبعد عنهم الأَوفياءَ والأولياءَ ولا يمنعهم من أَداءِ رسالتهم. ويقول النسابون: إِنه ابن أَنوص، وكان من ولد عيصو بن إِسحاق، وأُمه من ولد لوط، وزوجته بنت ميشا بن يوسف، أَو رحمة بنت إِفرايم بن يوسف عليه السلام، والله أَعلم بصحة هذا النسب: انظر الرازى والبيضاوى في النسب المذكور. 84 - {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} الآية. فَلَبَّيْنَا دعاءَه وأجَبناه إِلى مطالبه ووهبناه العفو والعافية فأَعدنا له صحته وأَزلنا ما أصابه من مرض في جسمه. {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}: وكما أزلنا ما به من الضر، عوضناه من أَولاده الذين ماتوا أولادًا بعددهم ومثلهم معهم، تفضلا منا وعطفًا عليه جزاءَ صبره ورضاه بما قضيناه عليه، ولتكون قصَّته عبرة وذكرى لكل من يعبد الله ويرضى بقضائه ويصبر على بلائه ويشكره على نعمائه. وليعلم الناس أَن البلاءَ ليس عقابًا على ذنب ارتكبه صاحبه؛ لأَن الدنيا ليست دار جزاءٍ، وليدركوا أَن من أَسباب الفرج دعاءَ الله تعالى والابتهال إِليه, وأَن العاقبة للمتقين، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. 85 - {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}: ذكر هؤلاءِ الأَنبياءِ بعد ذكر قصة أَيوب ووصفهم بالصبر، يدله على أَن كلا منهم قاسى من شدائد الحياة ما اقتضى منه الصبر، أَما إِسماعيل فصبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام بأَرض غير ذى زرع، وصبر على ما عانى في بناء البيت ومشاق التكليف.

وأَما إِدريس فقد قيل: إِنه مصرى بعث إِلى قومه، وإِنه أَول من خاط الثياب ووصفه بأَنه من الصابرين يدل على أَنه عانى من مشاق التبليغ ومحن الحياة ما اقتضى ووصفه بذلك. وأَمَّا ذو الكفل فقد قيل: إِنه ابن أَيوب, وقيل: بل هو إِلياس، واختلف في نبوته، وأَكثر العلماءِ على أَنَّه نبى من أَنبياء الله، ولذا ذكره الله في سورة الأَنبياءِ، ووصفه مع قرِينيه بقوله تعالى: {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} للدلالة على أَن الصبر كان من أَبرز صفاتهم، وأَنهم امتحنوا بمشاق تقتضى التنويه بصبرهم عليها وإن كنا لم نعثر على المحنة التي صبر عليها ذو الكفل. 86 - {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا .. } الآية. المراد بالرحمة هنا: النبوة، أَو الجنة ونعيم الآخرة، أَو ما هو أَعم من ذلك. {إنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}: هذه جملة مستأْنفة في موضع التعليل، وصلاحهم هو الصلاح الكامل؛ لأَنهم الأَنبياءُ المعصومون فاستحقوا بذلك إِدْخالهم في رحمة الله، أو المراد بالرحمة: النبوة، والمعنى: أَنعمنا عليهم بالنبوة التي هي رحمة منا لأَنهم من الصالحين لها. 87 - {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ... } الآية. النون: الحوت، وذا النون: يونس - عليه السلام - ونسب إِليه، لأَنه التقمه وهو مليم، كما سيأْتى بيانه في قصته، والمعنى: واذكر يا محمد لقومك قصة ذى النون حين تولى عنهم مغاضبا لهم، فقد بعثه الله لأَهل نينوى من بلاد الموصل فبلغهم رسالة ربه، وخوفهم عذابه، ولكنهم لم يؤمنوا وأَصروا على كفرهم فهاجر عنهم مغاضبا لهم، وهذا معنى قوله تعالى: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أَي: غضبان على قومه ولم يؤمر بذلك ولا أُذِنَ له فيه. {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}: أَي فظن أَن لن نضيق عليه ولا نؤاخذه في متاركة قومه وخروجه من بينهم دون إِذن منا.

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}: في النص الكريم أُمور ملحوظة دلت عليها قصة يونس في سورة الصافات، حيث بينت أنَّهُ {أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}. والمعنى: أَنه - عليه السلام - لما ترك قومه دون إِذن من الله غضبًا عليهم لكفرهم وإِصرارهم عليه مع طول دعوته إِياهم، التجأَ إلى سفينة مشحونة، فلما لجَّجَت بمن فيها توقفت عن السير فقال قائلهم: إن الريح مواتية، فلماذا تتوقف؟ لابد أَن يكون بها رجل عاص، فأَجروا القرعة بينهم، فخرجت على يونس، وكان بذلك من المغلوبين, فأَلقوه في البحر فالتقمه الحوت وهو مليم. أَي: آت بما يلام عليه، وأَصبح بذلك داخل ظلمة كثيفة كأَنها ظلمات، حيث احتواه بطن الحوت داخل ظلمة البحر فنادى في هذه الظلمات: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، إِذ تركت قومى دون استئذان منك. 88 - {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ .. } الآية. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} دعاءَه الذي تضمنه نداؤُه أَن "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" ففي هذه الجملة طلب يونس - عليه السلام - من ربه بأسلوب التلويح أَن يكشف عنه غمه ويزيل عنه كربه، بعد أَن وصفه بكمال الربوبية، ونزهه عن كل النقائص واعترف على نفسه، وهو من أَلطف أَساليب الأَدب في الدعاء، إِذ يُعَرِّض بطلبه ولا يصرح به {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} الذي نزل به بسبب إِلقائه في بطن الحوت. {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}: أَي وكما نجى الله يونس من غمه ينجى كل مؤْمن يعترف بذنبه ويقرّ بتقصيره فيه نادما عليه، - ينجيه - إِن هو استعان بربه وسأَله العفو والمغفرة.

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)} المفردات: {لَا تَذَرْنِي}: لا تتركنى. {فَرْدًا}: وحيدًا لا عقب لى. {أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}: جعلناها صالحة للإِنجاب. {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: أي يبادرون إِليها ويجتهدون فيها. {رَغَبًا وَرَهَبًا}: طمعًا وخوفًا. {خَاشِعِينَ}: خاضعين مذعنين. {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}: صانته. {آيَةً}: علامة. {تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ}: أَي اختلفوا في دينهم. التفسير 89 - {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ ... } الآية، أَي: واذكر يا محمد نبأَ زَكريَّا حين نادى ربه، أي دعاه قائلا: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا}: لا تدعنى وحيدا لا ولد لى كما جاءَ في قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآيتان: 5، 6

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}: لأَنَّ الأُمور كلها تصير إِليه حتما. 90 - {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ .... } الآية. أَي: أَجبناه إِلى ما طلب، من أَن يرزقه الولد، وهو في سنِّ اليأْس، تفضلا منا ورحمة، وأَصلحنا له زوجه بإزالة موانع الحمل فقد كانت عقيما عاقرًا، كما جاءَ في قوله تعالى حكاية عنه: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا}. {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: هو بمثابة التعليل لما تقدم من قبول الدعاء وهبة الولد وإِصلاح الزوج، أَي: استجبنا له، ورزقناه يحيى في أَقصى سن اليأْس، وأَصلحنا له زوجه العقيم, لأَن أَهل هذا البيت كانوا يسارعون في الخيرات ولا يتباطأُون عنها إِذا ما حانت الفرصة لفعلها. فالضمير في "إِنهم" لزكريا وأَهله. {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}: أَي ويعبدوننا مخلصين العبادة راغبين طامعين في ثوابنا، خائفين مشفقين من عذابنا. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}: خاضعين مذعنين لا يستكبرون عن عبادتنا ودعائنا. 91 - {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا .... } الآية. هي مريم - عليها السلام - أثنى الله عليها بالعفة وعدم مساس البشر قبل أَن تحمل بعيسى - عليه السلام -، فإحصانها فرجها: كناية عن أَنها لم يمسسها بشر. وقد أَراد الله تعالى أن يجعلها آية للناس بقدرته على خلق بشر في أَرحام النساءِ بغير أب على خلاف السنة المعهودة؛ ليعلموا أنه كما قدر على خلق بشر بلا أَب ولا أُم كما صنع مع آدم - عليه السلام - وبغير أُم كما صنع بحواءَ - عليها السلام - فهو قادر على أَن يخلقه دون أَب كما صنع بعيسى - عليه السلام -. ويصور الله خلقه في جوفها بقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}: أَي نفخنا في جوفها من الروح الأَمين جبريل عليه السلام، فهو الذي نَفَّذَ أمر الله تعالى. ومعلوم من الدين بالضرورة، أَن جبريل يطلق عليه (الروح)، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}:

ولذا قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}: أَي وجعلنا ولادتها إِياه على هذه الحال آية على قدرتنا ومظهرا لربوبيتنا. 92 - {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ... } الآية. والأُمة كما تطلق على الجماعة من الناس تطلق أَيضا على الدين والملة, وهو المراد هنا. أَي: إِن الدِّين الذي جاءَ به سائر الأَنبياءِ الذين تقدم ذكر أَنبائهم دين واحد، يدعو إِلى عبادة الله وحده، وإِن اختلفت شريعة كل نبى في بعض التفاصيل الفرعية التي تقتضيها طبائع العصور المختلفة، أما العقائد وأُصول الأَحكام فواحدة من لدن آدم إلى أَن تقوم الساعة. {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}: أَي وأَنا الرب الذي اخترت الدين، وأَرسلت كل رسول إِلى أُمته بشريعته جملة وتفصيلا، على وفق إرادتى, وطبقا لمشيئتى، وأَنا أَعلم كيف أَبعث الرسل إلى الأُمم برسالاتى وأَنا المستحق للعبادة دون سواى، فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى، وحيث كان دين الله واحدًا في أصوله، فيجب الإِيمان بجميع رسل الله الذين يبلغون عنه دينه. فلا يحل لأَحد أَن يؤمن ببعض الأَنبياءِ دون بعض، ولا ببعض الكتب دون بعض, ما لم تغيرها الأَهواءُ والشهوات، وتدخل عليها ما لم يأْمر به الله. 93 - {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ... } الآية. كان الخطاب في قوله تعالى في الآية السابقة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} كان هذا الخطاب يقتضي أَن يقول هنا: وتقطعتم أَمركم بينكم, ولكنه عدل إِلى أُسلوب الحديث عن قوم في حكم الغائبين فقال: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إنزالًا لهم عن شرف الخطاب؛ بسبب ما أَحدثوه من التفرق في الدين وجعله قطعا موزعة، ولكى يحكى أخبارهم لغيرهم ذمًّا لهم، كأَنه قيل: أَلا ترون إِلى عظم ما ارتكب هؤلاءِ من الاختلاف في دين الله الذي أَجمعت عليه كافة الأَنبياء، وفي ذلك ذم للاختلاف في الدين، وإسقاط للمختلفين فيه عن رتبة الخطاب إِعراضا عنهم. ومما اختلف الناس فيه من دين الله: أَمر توحيد الخالق سبحانه.

فقد قال قوم: عزير ابن الله، وقال آخرون: المسيح ابن الله. وغيرهم: الملائكة بنات الله، وعبد آخرون الأَوثان، ومنهم من عبدوا الكواكب وغيرها. وخلاصة ذلك أَنهم أَغفلوا ما أُمروا به، من وجوب الاعتصام بوحدة الدين ونبذ الفرقة فيه. {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}: أي كل الأُمم التي فرقت الدين، واختلفت فيه، عائدون إلينا بعد الموت للجزاءِ والحساب {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)} المفردات: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}: أَي لا يضيع الله أجر عمله. {وَحَرَامٌ}: الحرام الممنوع منه بقهر الله أَو بشرعه أَو بالعقل أَو بأَمر من يطاع أَمْره،

والمراد منه هنا الأَول كما في قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ}: أَي منعنا موسى بقدرتنا من أَن يرضع من المراضع سوى أُمه - انظر المادة في مفردات الراغب. {عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: أَي قدرنا إِهلاكها, والمراد من القرية: أَهلها. {لَا يَرْجِعُونَ}: لا يبعثون. {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}: أَي فتح سدهم الذي كف أَذاهم عن البَشر. {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}: وهم من كل مرتفع من الأَرض يسرعون. {الْوَعْدُ الْحَقُّ}: الموعود الثابت، والمراد به: ما يحدث بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاءِ. {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: أَي مفتوحة لا تطرف. {يَا وَيْلَنَا}: الويل العذاب، والغرض من ندائهم إِياه: التَّحسر. {كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}: أَي أَغفلناه وأَهملناه فلم نعمل له. {حَصَبُ جَهَنَّمَ}: هو الوقود الذي تشتعل به النار. {زَفِيرٌ}: الزفير نَفَسُ؛ المغموم يخرجه من أَقصى جوفه. التفسير 94 - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ .... } الآية. بعد أَن بيَّن الله تعالى تفرق الناس في أَمر الدين؛ فمنهم من آمن ومنهم من كفر، جاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان مصير كل منهم. والمعنى: فمن يعمل من الصالحات التي بينها الله في رسالاته إِلى رسله، وهو مؤمن بما يعمله منها، وبأَن التكليف بها صادر عن الله تعالى، فلا حرمان له من أَجر عمله. وعبَّر هنا عن الحرمان من الثواب بكفران السعى، لبيان كمال نزاهة الله تعالى عنه، بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من القبائح وإبراز الإِثابة في معرض الأُمور الواجبة منه سبحانه وتعالى، مع أنها من فضله وكرمه.

{وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}: الضمير فيه عائد على السعى، أَي: إِننا نثبت هذا العمل في صحيفة صاحبه؛ ليعلم أننا لا نضيع عليه نقيرا ولا قطميرا من طيبات أَعماله، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}. 95 - {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}: بيَّنَ الله في الآيات السابقة أَن الناس تقطعوا أمر الدين فيما بينهم واختلفوا فيه، وأَنهم إِلى الله راجعون للحساب والجزاءِ، وأَن المؤمنين الصالحين سيجزون خير الجزاءِ. وجاءَت هذه الآية وما بعدها لتؤكد للكفار رِجوعهم إِلى الله وسوءَ حالهم يوم القيامة. والمعنى: وممنوع على كل قرية قضينا أَزلا بإهلاك أَهلها لشدة طغيانهم وفسادهم، حرام عليهم، وممنوع تخلفهم عن الرجوع إلينا للحساب والجزاءِ، فلا بد من رجوعهم إِلينا مقهورين بقدرتنا، مسخرين ببعثنا إِياهم وإِعادة الحياة إلى أَجسادهم؛ ليلقوا عقابهم الأُخروى، بعد ما ذاقوا عذابهم الدنيوى. ومن العلماءِ من اعتبر حرف "لا" صلة، وليس نافيا، وأَن المعنى: وممتنع على قرية أَهلكناها أن يرجعوا إِلى الدنيا بعد إهلاكهم, أَو يرجعوا إِلى التوبة. والمعنى الأَول هو المناسب لما تقدم من قوله سبحانه: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} ولما سيأْتى عقبه من الجزاء الأُخروى للمنكرين للبعث، وشخوص أَبصارهم وتحسرهم على كفرهم يوم الجزاءِ. 96 - {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}: (حتى) هذه هي التي يبتدأُ بعدها الجمل، ولا تفارقها معنى الغاية؛ فهى غاية لمقدر يقتضيه المقام. والمعنى: تستمر هذه القرى على ما هي عليه من الهلاك إِلى وقت فتح أَبواب الشر من يأْجوج ومأْجوج وخروجهم من كل مكان مرتفع من الجبال والهضاب، يسرعون إلى البغى والعدوان على خلق الله, والآية واضحة الدلالة على أن خروج يأْجوج ومأْجوج من علامات

الساعة، كما يدل عليه قولهُ تعالى عقبها: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... } الآية. فإِن جملة {اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} معطوفة بالواو على جملة {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}، داخلة معها في حيز الشرط، وجوابهما هو قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فكأَنه قيل: فإِذا فتحت يأْجوج ومأْجوج، واقترب بذلك الوعد الحق، فاجأَتهم القيامة بأَهوالها، كما يدل على ذلك أيضًا حديث مسلم وأَبي داود وغيرهما، فقد جاءَ فيه: "أن الله تعالى يبعث يأْجوج ومأْجوج وهم كما قال الله تعالى: {مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إِلى الله - عز وجل - فيرسل عليهم نغفا (¬1) في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة ... " الحديث. ومن العلماء من قال: إِن يأْجوج ومأْجوج هم التتار, وأَنهم فتحوا السد الذي بناه دونهم ذو القرنين، وعاثوا في الأَرض فسادًا، ويعرف هذا السد بسد باب الحديد - وراءَ جيحون - بين سمرقند والهند، كما يشتهر أيضًا بسد الصين، وقد اجتازه تيمورلنك بجيوشه المخرِّبة ومر به "شاه روح" وكان في خدمته رجل ألمانى يدعى "سيلد برجر" وجاءَ ذكر هذا السد في كتابه, كما تحدث فيه عن مرور "الشاه" به وكان ذلك في أَوائل القرن الخامس عشر (¬2). ولعله يشهد لصحة هذا الرأْى ما أَخرجه مسلم بسنده عن أُم حبيبة بنت أبي سفيان أَن زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزعا محمرًّا وجهه يقول: "لا إله إلا الله. ويل للعرب من شَرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأْجوج ومأْجوج مثل هذه - وحلق بأَصبعه الإِبهام والتى تليها - قالت: يا رسول الله: أَنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم - إِذا كثر الخبث (¬3) ". فهذا يؤذن بأَن بداية فتح السد حدثت في عهده - صلى الله عليه وسلم - وقد توقع النبي من ذلك شرًّا كثيرًا على العرب، وقد وقع ذلك في غزوات التتار على البلاد ¬

_ (¬1) النغف: دود أبيض يكون في النوى إذا أنقع، قاله أبو عبيد. (¬2) راجع ج 9 ص 198 من تفسير الجواهر للشيخ طنطاوى جوهرى. (¬3) الحديث الثاني من "كتاب الفتن" في صحيح م

المعنى الإجمالى للآيات السابقة

وعدًا ثابتا لا يتخلف، ليحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم، ويكون بعد النَّفْخَةِ الثانية في الصور. وجملة {اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} معطوفة بالواو على جملة {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} وكلتاهما فعل الشرط. أَما جوابه فهو قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} كما تقدم بيانه. أَي: فإذا حال الذين كفروا وشأْنهم شخوص أَبصارهم، وفتحها على أَهوال القيامة بحيث لا تطرف ولا تغمض. {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}: أي يقولون من شدة الكرب في حسرة وندامة: يا هلاكنا قد كنا في دنيانا في غفلة عن هذا اليوم، وما فيه من الأَهوال الجسام، ولم ندر أَنَّه مصيرنا، ثم أَضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة، فقالوا: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} لأَنفسنا حيث نبهتنا الآيات والنُّذُر فلم نتنبه للخطر المنتظر، وبقينا كافرين بالبعث والحساب فحق علينا قول ربنا بالخلود في العذاب المهين. المعنى الإجمالى للآيات السابقة ولكى يتضح معنى هذه الآيات الثلاث مجتمعة نجملها فيما يلى: 95 - وممنوع على أَهل أَية قرية أهلكناها لكفر أَهلها وطغيانهم، ممنوع عليهم أَن يتخلفوا عن الرجوع إِلينا للحساب والجزاءِ. فلابد من رجوعهم إِلينا لذلك. 96 - وتستمر هذه القرى المهلكة على ما هي عليه من الهلاك إلى وقت فتح أَبواب الشر من (يأْجوج ومأْجوج) (¬1) وخروجهم من كل مكان مرتفع يسرعون إلى العدوان في آخر الزمان. 97 - واقترب بخروجهم تحقيق الوعد الحق بالبعث، إذ يهلك الله الخلائق ثم يبعثهم ويحشرهم إِلى ساحة الحساب حيث الأَهوال الجسام، فإذا أَبصار الكافرين الذين أَنكروا البعث شاخصة لا تطرف هلعا، يقولون من شدة الكرب: يا عذابنا الشديد الذي ¬

_ (¬1) هذا اسم كنائى لأمة شديدة الجبروت تظهر آخر الزمان، غير التتار الذين احتجزهم ذو القرنين بسده، واجتاحوا السد في القرن الخامس عشر كما تقدم بيانه، وقد دل حديث مسلم على فتحه، راجع ما كتبناه في ص 1157 تحت عنوان: (سؤال هام وجوابه).

ينتظرنا، قد كنا في دنيانا في غفلة عن هذا اليوم بل كنا ظالمين لأَنفسنا بالإِصرار على الكفر. 98 - {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}: الخطاب في الآية لأَهل مكة، ومعلوم أَنهم كانوا مقيمين على عبادة الأَصنام والأَوثان، فالله سبحانه وتعالى يخبرهم بأَن مصيرهم ومعبوداتهم النار، وهذا الحكم عام فيهم وفي كل من عبد غير الله على شاكلتهم، كالذين يعبدون الكواكب أو الأَشجار أَو نحوها. أَما المعبودات العاقلة المؤْمنة فلا تدخل في هذا العموم؛ لأَن (ما) في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} لما لا يعقل. روى أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تلا هذه الآية قال له ابن الزبعرى: خَصَمتُكَ وربِّ الكعبة: أَليست اليهود عبدوا عزيرا والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟ فردَّ عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَجهلك بلغة قومك أما فهمت أنَّ مَا لِمَا لاَ يَعْقِلُ؟ ". ولو جعل الخطاب عاما لم يدخل هؤلاء كما تقضى به أَدلة السمع والعقل، لبراءَتهم من الذنوب والمعاصي التي ارتكبها عابدوهم بتسويل شياطينهم، وسيأْتى النص على براءَتهم في الآية رقم (101). والحَصَبُ: ما تُرمَى به النار لتتقد به - من حَصَبه بكذا أَي: رماه به. والمعنى: إِنكم يا أَهل مكة ومن على شاكلتكم ممن يعبدون غير الله يُرْمَى بكم وبمعبوداتكم في نار جهنم، أَنتم عليها واردون وفيها داخلون، فلا تعصمكم منها آلهتكم كما لا تعصم نفسها منها، فكيف تعبدونها؟ 99 - {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}: أَي: لو كان ما تعبدونه - يا أَهل مكة - من أَوثانكم آلهة، لما دخلوا النار واحترقوا بها، فإن الإله يحمى نفسه من العذاب، وكل من العابدين ومعبوداتهم في نار جهنم خالدين، لا فكاك لهم فيها، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.

ويلاحظ أَن إِحراق آلهتهم معهم لا يرجع إِلى مسئولية الآلهة عن عبادة البشر لهم؛ لأنَّها لا تسمع ولا تعقل ولا تحس، بل المراد منه تسفيه عقول هؤلاءِ الذين عبدوها وإِهانتهم بإهانة آلهتهم. 100 - {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} الزفير: خروج النفَس من الحيوان. والمعنى: لأهل مكة وسواهم من المشركين - لهم في جهنم - أَنفاس متتابعة تخرج من صدورهم، يحاولون بها تنفيس ما بهم من وقود النار وسوءِ الحال، وهم في النار لا يسمع بعضهم زفير بعض ولا صراخهم؛ لشدة ما يعانونه جسديًّا ونفسيًّا، نعوذ بالله من شرها. {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}

المفردات: {الْحُسْنَى}: الجنة، أَو التوفيق للطاعة. {حَسِيسَهَا}: أَي الصوت الذي يحس من توهجها {الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}: الخوف الأَعظم بسبب صرف أَهل النار إِلى النار. {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}: كطى الديوان لصحائفه المكتوبة. {الزَّبُورِ}: المراد به هنا كل كتاب أَنزله الله، مأْخوذ من الزَّبْر وهو الكتابة، وقد غلب لفظ الزبور على كتاب داود - عليه السلام -. {الذِّكْرِ}: المراد به هنا اللوح المحفوظ. {لَبَلَاغًا}: لكفايةً تُبْلغُ الإِنسان إِلى بغيته. التفسير 101 - {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}: بعد أَن ذكر الله سوءَ مصير من يتَّخذون آلهة من دون الله، وأنهم وما يعبدون وقود جهنم وأَنهم فيها مخلدون، جاءَت هذه الآية وما بعدها لبيان حُسْن جزاء المؤمنين. والحسنى: تأْنيث الأَحسن والمراد بها هنا: الجنة، أو التَّوفيق للطاعة، فهو الخصلة الحسنى، ومعنى سبق الحسنى لهم: تقديرها في الأَزل من الله تعالى، لما علمه فيهم من إِيثارهم طاعته على هوى أَنفسهم. {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}: أَي أُولئك الذين سبقت لهم منا الحسنى مبعدون عن جهنم أَي لا يدخلونها. وأَما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (¬1): فقيل: الخطاب للكفار خاصة، وقيل: إِن الورود قد يطلق على القرب، ولا مانع من أَن يحضر المؤمنون من الإِنس والجن حول جهنم حيث لا يحسون بصوتها ولا يشعرون بحرارتها. ويؤيد هذا قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 71

102 - {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}: أَي: لا يسمعون صوتها الصادر عن اتقادها، فضلا عن أَنهم لا تدركهم حرارتها، تكريما لهم - {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}: أَي دائمون فيما أَحبته نفوسهم من أَلوان النعيم حسية كانت أو معنوية، فبكل يتنعمون، وهذه ثلاث صفات لمن سبقت لهم الحسنى، وهى: البعد عن النار، وعدم الإِحساس بما فيها من الشدائد، وخلودهم في الجنة ينعمون بلذتيها الحسية والمعنوية. 103 - {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}: وهذه صفة أُخرى لهم تضمنت الوعد بنجاتهم من بعض أَهوال الآخرة. و {الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}: الخوف الأَعظم، والمراد به: النفخ الثاني في الصور، وقيل: الموت، وقيل: انصراف أَهل النار إلى النار. {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}: أَي يستقبلونهم مبشرين، قائلين لهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}: به في الدنيا، وتبشرون بمجيئه وبالنعيم فيه، ويكون هذا الاستقبال عند القيام من القبور، وهذا يؤيد تفسير "الفزع الأَكبر" بالنفخ الثاني في الصور. وتبشير الملائكة لهم حين تلقاهم يكون بالأَمان والسلامِ وتحقيق الوعد الذي وعدوا به في الدنيا، ويعتبر ذلك أسْمَى نعم الله عليهم، ومنتهى آمالهم وأَمانيهم. 104 - {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ... } الآية. المراد من طى السماء: إِخفاؤها بالمحو لتحل محلها سماءٌ أُخرى، وفاقًا لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} والسجل: الديوان الذي يشتمل على الصحائف المكتوبة، ويطلق أَيضًا على كل صَكٍّ به كتابة مسجلة فيه، والمراد

بالكتب: ما يكتب فيه من الأُمور المختلفة، وقرئ {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أَي: لجنس الكتاب، والمعنى لا يختلف في القراءَتين، ومعنى الآية: واذكر لأُمتك أيها الرسول - اذكر لهم - يوم نخفى السماءَ كما يخفى السجل ما كتب فيه حين يطوى عليه، وذلك {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} حيث يبعث الله الخلائق ويحشرها على أَرض جديدة، وتحت سماءٍ جديدة ليحاسبهم ويجزيهم على أعمالهم. {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}: أَي أَنه تعالى يُعيد السماءَ كما بدأَها بعد أَن أَفناها بقدرته سبحانه؛ فإنه يقول للشىءِ: {كُنْ فَيَكُونُ}. وأَجاز بعض المفسرين أَن يكون المعنى: كما بدأْنا أَول خلق الناس حفاة عراة نعيدهم كذلك، واستندوا إِلى حديث أَخرجه مسلم عن ابن عباس جاءَ فيه: "قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال: يا أَيها الناس: إنكم تحشرون إِلى الله حفاةً عراة غرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَلا وإِن أَول الخلائق يكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام ... " الحديث. كما استندوا إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقوله عز وجل: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. {وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}: أَي وعدنا بإِعادة الخلائق وبعثهم وعدا علينا إنجازه، إنا كُنَّا فاعلين ما وعدناهم، قادرين على تحقيقه. 105 - {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}: المراد من الزبور هنا: كل الكتب السماوية، التي أَنزلها الله على أَنبيائه ورسله. مأْخوذ من زبَرَ الكتابَ (¬1) - أي كتبه - والمراد من الذكر: اللوح المحفوظ الذي هو أُم الكتاب - كما قاله مجاهد وابن زيد، والمراد بالأَرض التي يرثها عباد الله الصالحون: أَرض الجنة، كما قاله ابن عباسٍ ومجاهد وسعيد بن جبير وأَبو العالية، ودليل هذا التأْويل قول أَهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ¬

_ (¬1) وهو من باب ضرب و

الْعَامِلِينَ}. وتأْويل الأَرض بالجنة هو المناسب لما تقدم من قوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} بعد قوله تعالى.: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآيات. والمعنى على هذا: ولقد كتبنا في جنس الكتب السماوية من بعد الكتابة في اللوح المحفوظ: أَن أَرض الجنة يرثها عبادى الصالحون أهل التَّقْوَى، ولأُمة محمد خير نصيب فيها بمشيئة الله تعالى. ومن العلماءِ من ذهب إلى أَن المراد بالأَرض: أَرض الدنيا، والوارثون لها: أُمة - صلى الله عليه وسلم -، يستولون عليها من الكافرين بالفتوحات، سلمية كانت أَو حربية، مصداقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1) وهذا الرأْى هو إِحدى الروايات عن ابن عباس. وعلى أَن المراد بالأَرض أرض الدنيا، والوارثين لها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يصح أن يراد من الزبور كتاب داود - عليه السلام - ومن الذكر التوراة فإِنه يطلق عليها الذكر، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} فتكون البشارة بميراث أمة محمد للدنيا جاءت في الزبور بعد التوراة. 106 - {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}: البلاغ يطلق على الكفاية، وعلى ما يتوصل به إِلى الغاية. والمعنى: أَن ما تقدم مما احتوته السورة من عقائد وشرائع وآداب فيه الكفاية للوصول إلى الغاية المطلوبة لقوم شأْنهم العبادة، فإذا أَخذوا أَنفسهم به واحتكموا إلى شرائعه، والتزموا بآدابه بلغوا ما يرجون من عظيم الثواب، والنجاة من العقاب ... ¬

_ (¬1) سورة الصف، آية: 9

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} المفردات: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: المراد من الاستفهام هنا: الأَمر. {تَوَلَّوْا}: أَعرضوا ولم يُسْلِموا. {آذَنْتُكُمْ}: أَعلمتكم. {مَا تُوعَدُونَ}: أي من غلبة المسلمين للكافرين. {الْجَهْرَ}: ما تظهرونه وتجهرون به. {مَا تَكْتُمُونَ}: ما تسرون وتخفون. {إِنْ أَدْرِي}: لست أَدرى. {فِتْنَةٌ}: ابتلاءٌ واختبار. {احْكُمْ بِالْحَقِّ}: اقض بالعدل. {مَا تَصِفُونَ}: ما تقولونه من الكفر والتكذيب. التفسير 107 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ}: أَي وما بعثناك يا محمد بما بعثناك به من الهدى ودين الحق؛ إِلا رحمة للناس أَجمعين؛ فإِنك توضح لهم به صحيح العقيدة، وتعلمهم الأَحكام التي بها يحكمون، وإِليها يحتكمون، وفيها مناط السعادة في الدارين، فما أَرسلناك بما يُعْنِتُهُم أَو يشق عليهم أَو بما هو فوق طاقتهم، وهو ما يوضحه قوله تعالى:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). وفيه تعريض بما فوت الكافر على نفسه من هذه الرحمة، حين أعرض ونأَى بجانبه، فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. 108 - {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... } الآية. بعد أَن بين الله سبحانه أَنه سيطوى السماءَ، ويبعث الخلائق كما بدأَهم، وأَن أَرض الجنة يرثها الصالحون، وأَنه أَرسل نبيه محمدًا رحمة للعالمين عقب ذلك بأَمره - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو المشركين إِلى التوحيد والإِسلام؛ رحمة بهم لعلهم يسلمون، فينجوا من سوءِ المصير. والمعنى: قل أَيها المبعوث رحمة للعالمين - لهؤلاءِ المشركين من قومك ولغيرهم: ما أَوحى الله إليَّ إلاَّ أنه إِله واحد، فما لكم تتخذون معه آلهة تعبدونها من الحجر والشجر والبشر وغيرها، ولا تصلح العبادة لسواه. {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: أَي فأَسلموا لله وانقادوا لأَمره، والتمسوا رضاه بطاعته؛ حتى تفوزوا بالنجاة وتكونوا من المفلحين. ثم عقب ذلك بإِنذارهم على الإِعراض فقال: 109 - {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ .. } الآية. أَي: فإِن أعرضوا عما دعوتهم إليه، فقل لهم: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ}: أَي بلغتكم ما أَوحى الله إِليَّ أَن أُبلغه من توحيده في العبادة، مستوين في الإِعلام بذلك، فلم أَخص به جماعة دون آخرين. ويجوز أَن يكون المعنى: أَعلمتكم ذلك مستويا معكم (¬2) في العلم بما أَعلمتكم به من وحدانية الله لظهور الأَدلة عليها، كما يجوز غير ذلك من المعانى، وحسب القارئ ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، آية: 128. (¬2) فعلى الأول تكون كلمة "على سواء" حالا من كاف المفعول في "آذنتكم" وعلى الثاني تكون حالا من التاء والكاف أي من الفاعل والمفعول.

وقد نقل الآلوسى عن الزمخشرى أَن في قوله تعالى لهم: {آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} الخ استعارة تمثيلية، حيث شبه حال الرسول معهم بحال من بينه وبين أَعدائه هدنة، فأَحس بغدرهم فنبذ إِليهم العهد، وشَهَرَ النَّبْذَ وأَشاعه، وآذنهم جميعا بذلك - وعقب عليه الآلوسى بقوله: وهو من الحسن بمكان. اهـ {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ}: إن، هي النافية، والمراد بقوله: {مَا تُوعَدُونَ} هو غلبة المسلمين عليهم، أَو هو ما يلقونه من عذاب يوم القيامة، أَي أنا لم أَعلم ذلك لأَن الله استأْثر بعلمه، ولم يطلعنى عليه، إنما علم ذلك كله عند ربي. 110 - {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}: إِنه سبحانه يعم ما تطعنون به عليَّ وعلى شريعتى مجاهرين بذلك، ويعلم ما تخفون في صدوركم من الأَحقاد على المسلمين، وإِذا كان الله يعلم الجهر وما يخفى، وهو مُجَاز عليهما لا محالة، كان على العاقل البصير أَن يخلص النية لله تعالى، وأَن يصون لسانه وقلبه عن الوقوع فيما يوبقه من القول والنية وسوءِ الظن. 111 - {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ .... } الآية. الضمير في {لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} عائد على مفهوم من المقام، وهو تأْخير مجازاتهم، والمعنى: لست أدرى؛ لعل تأْخير مجازاتكم مع إِصراركم على ما أَنتم عليه زيادة لكم في الفتنة وإِبعاد في الاختبار والإِملاء. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}: وتمتيع من الله لكم بلذات الدنيا إِلى وقت مقدر تقتضيه الحكمة الإِلهية، ويعظم فيه قيام الحجة عليكم، فيكون أَشد في الإِيقاع بكم؛ لأَن المعرض مع تتابع الآيات وتوالى النذر يكون أَشد عقابًا وأَبعد نكالا. 112 - {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ... } الآية. ختم الله السورة بحكاية دعاءِ نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتفويضه الأَمر إِلى ربه وتوقعه الفرج منه.

والمعنى: قال الرسول: يا رب اقض بينى وبين قومى بحكمك الحق وذلك بنصرتى عليهم. وقد قرىءَ: قُلْ بصيغة الأَمر، أَي: قل يا محمد داعيًا ربك أَن يفصل بينك وبين قومك بالحق والعدل. قال قتادة: كان الأَنبياءُ يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} فأَمر رسول الله أَن يقول ذلك، فكان إِذا لقى العدو يقول - وهو يعلم أَنه على الحق، وعدوه على الباطل -: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} اهـ. ولا فرق في المعنى على القراءَتين إلاَّ أَن قراءَة "قال" لحكاية ما قاله - صلى الله عليه وسلم - وقراءَة "قل" أَمر من الله لنبيه بما يدعو به. {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}: كانوا يقولون: إنهم على حق في عبادة أَوثانهم، وإِن العاقبة سوف تكون لهم وإِن ما توعَّدهم به القرآن من العذاب على شركهم لو كان حقا لنزل بهم، فلهذا حكى القرآن عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال لهم في مقابل ما قالوه: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. أي: والله الذي مَلَكنا وربَّانا، المنعوت بالرحمة الشاملة هو الذي أَطلب معونته على تفنيد ما تزعمون من تلك الأَوصاف، بإِظهار حقى على باطلكم ونصرى عليكم، وقد كذَّب الله سبحانه ظنونهم، وخيب آمالهم وخذلهم، ونصر الرسول والمؤمنين عليهم وصدق الله العظيم إِذ يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 47

سورة الحج

" سورة الحج" اختلف في كونها مدنية أَو مكية، والجمهور على أَنها مختلطة، فمنها مكى ومنها مدنى، قال القرطبى: وهذا هو الأَصح لأَن الآيات تقتضى ذلك، ثم نقل عن الغزنوى قوله في هذه السورة: "وهى من أَعاجيب السور، نزلت ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، مكيا ومدنيَّا، سلميًّا وحربيًّا، ناسخا، ومنسوخا، محكما ومتشابها". مقاصدها: بدأت هذه السورة بأَمر الناس بتقوى الله، والتحذير من أَهوال يوم القيامة حيث يحاسبون على أَعمالهم، وأَتبعته التحذير من الجدال في الله بغير علم، وبيَّنت أطوار خلق الإِنسان ودلالتها على البعث، كما بينت دلالة إِخراج النبات من الأَرض عليه. ثم حذرت من عبادة الله على حرف - أَي على ضعف وشك - فإِنه وخيم العاقبة، وأَتبعت ذلك بيان حسن مآل المؤمنين الصادقين، وأَنه تعالى سينصر رسوله على من كفر به، وسيفصل بين المؤمنين وأَعدائهم يوم القيامة، وأَنه تعالى يخضع لسلطانه من في السموات والأَرض، وجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأَن كثيرا من الناس يسجد له سجود طاعة عملا بشرائعه، وكثيرا منهم حق عليهم العذاب بسبب عدم سجودهم وخضوعهم لشرائعه، ثم بينت مصير المختصمين في ربهم، فذكرت أَن الكافرين تقطع لهم ثياب من نار، ويعذبون بمختلف أَلوان التعذيب فيها، وأَن المؤمنين يدخلون الجنة ويحلون فيها بالذهب واللؤْلؤ ويلبسون ثياب الحرير، ويهتدون فيها إِلى الطيب من القول مثل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، ويهتدون إِلى طريق الله الحميد في سلوكهم فليس فيها لغو ولا كذب ولا شغب، فأَقوالهم دائما طيبة، وأَعمالهم حسنة، وعشرتهم مرضيه ثم بينت أنه تعالى عرَّف إِبراهيم مكان البيت ليبنيه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأَمره أَن يدعو الناس إِلى حجه مشاة وركبانا، يأْتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأَنعام، وأَن يَطَّوَّفوا بالبيت العتيق، وحذرت من الشرك بالله في أَداءِ المناسك، وأَوجبت تعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب،

ثم ذكرت أَن البُدْنَ المهداة من شعائر الله، وأَنها تذبح قائمة على قوائمها، وبينت أَن الله تعالى لن يصل إِليه شيء من لحومها بل تصل إِليه التقوى ممن أَهْدَوْها فينبغى لهم أَن يشكروه على تسخيرها لهم، ويكبروه على ما هداهم، وأَن هؤُلاء الحجاج الشاكرين المكبرين لهم البشرى على إِحسانهم، ثم عقبت ذلك ببيان أَنه تعالى تكفل بالدفاع عن المؤمنين، لأنه لا يحب كل مختال فخور. وبينت أنه تعالى أَذن للمهاجرين الذين أُخْرِجوا من ديارهم بغير حق أَن يقاتلوا دفاعًا عن أَنفسهم، وأَنه تعالى قد شرع لعباده شرعة الدفاع، فلولاه: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}. ثم ذكرت أَن الرسول ليس وحده في تكذيب قومه إِياه، فقد كُذَّب نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى من أَقوامهم، وأَنه تعالى أَهكهم، وأَنه - سبحانه - أَمهل كثيرا من القرى وهى ظالمة، ثم أَخذها وإِليه المصير ليعاقبها في الآخرة بعد إِهلاكها في الدنيا، والمقصود مما ذكر تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أَصابه من قومه، ووعيد قومه بأَنهم إن لم يؤمنوا أَصابهم ما أَصاب الأُمم التي قبلهم وأَن عليهم أَن لا يَغْتَرُّوا بإِمهالهم. ثم بينت أَن الشيطان كما يوسوس للمشركين من أُمته - صلى الله عليه وسلم - فيلقى في نفوسهم الشَّبَه والتخيلات أَثناء قراءَته ليجادلوه بالباطل، فإِنه فعل مثل ذلك مع أُمم الأَنبياءِ والمرسلين السابقين وأَنه تعالى ينسخ ما يلقى الشيطان من الشبه - أَي يبطله - بتوفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - لرده، أَو بإنزال ما يرده ثم يأّى الله بآياته محكمة لا تنال منها شبهة من الشياطين وأَوليائهم. ثم بينت أَنه لا يزال الذين كفروا في مرية منه لعماهم عن الحق حتى يأْتيهم عذاب يوم عقيم، والملك يومئذ يتفرد به الله، فيحكم بينهم ويجزى كل امرىءٍ بما قدمت يداه. وذكرت أَن من أَدركه الموت بعد الهجرة - سواءٌ أَمات حتف أَنفه أَو قتل في سبيل الله - فإن الله يرزقه في الجنة رزقًا حسنا بسبب هجرته، وأَن من عاقب المعتدى بمثل ما بدأَه به من

الاعتداءِ، ثم تمادى المعتدى فإِن الله ينصر من بُغِىَ عليه، ذلك بأَن الله هو الحق, وما يعبده المشركون من دونه هو الباطل، وأَن الله هو العلى الكبير. ثم تحدثت عن آيات الله في إِنباته من الأَرض نباتًا بهيجًا، وفي تسخيره ما في السموات والأَرض، وإِمساكه السماءَ أَن تقع على الأرض إِلا بإِذنه، وفي الإِحياءِ والإِماتة، وذكرت أَنه تعالى جعل لكل أُمة منسكا وشريعة، فلا يصح أن ينازعك أَحد يا محمد فيما شرعه الله لأُمتك من الشريعة العامة الخاتمة، فإِن جادلوك ففوض الأمر إِلينا، فسوف نحكم بينك وبينهم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. وتحدثت عن أَن معبودات المشركين لا تصلح للعبادة لأَنها ضعيفة وقد بلغ من ضعفها أَنها لا تستطيع أَن تخلق ذبابا ولو اجتمعت لخلقه - وإِن سلبها الذباب شيئًا لا تستطيع استعادته منه {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، وأَن المشركين {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. وأَنه تعالى: {يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} للأَنبياء {وَمِنَ النَّاسِ}، رسلا للبشر فلا وجه لاعتراض مشركى مكة على اختيار محمد - صلى الله عليه وسلم - للرسالة، وطالبتِ المؤمنين في ختامها بأن يركعوا ويسجدوا ويعبدوا ربهم ويفعلوا الخير ليفلحوا، وأَن يجاهدوا في سبيل الله حق جهاده لأَنه اجتباهم، وأنه سبحانه ما جعل عليهم في الدين من حرج ملة أَبيهم إِبراهيم, وأَنه سماهم المسلمين من قبل وفي هذا القرآن ليكون الرسول شهيدا عليهم ويكونوا شهداءَ على الناس، ولهذا يجب عليهم أَن يقيموا الصلاة ويؤْتوا الزكاة ويعتصموا بالله الذي هو مولاهم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.

بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} المفردات: {زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} الزلزلة: التحريك الشديد المتكرر الذي يزيل الأَشياءَ عن مقَارِّهَا (¬1) والساعة: القيامة، وسميت بذلك لأَنها تفجأُ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى، والزلزلة التي تحدث عند الساعة من صنع الله تعالى ككل الزلازل، وإضافتها إِلى الساعة من إِضافة المصدر إِلى فاعله مجازا كما في نحو إِنبات الربيع للبقل، والمنبت في الحقيقة هو الله، أَو هي من إِضافة الحدث إِلى زمن حدوثه، فإِن الساعة زمن حدوث تلك الزلزلة الكبرى، كما أُضيف المكر إِلى الليل والنهار في قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬2). {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} الذهول: النسيان، والمرضعة: التي تباشر الإرضاع فعلا، أَما المرْضِع - بلا هاء - فهى مَنْ شأْنُها الإِرضاع وإن لم تباشر الإرضاع حال وصفها به. ¬

_ (¬1) وأصل الكلمة من زل عن الموضع أي زال عنه وتحرك، وزلزل قدمه أي حركها - قاله القرطبى. (¬2) سورة سبأ، من الآية: 33

التفسير 1 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}. الخطاب في الآية يعم حكمه المكلفين من وقت نزولها إلى أَن تقوم الساعة، والأَصل في الخطاب أَن يكون لمن حضر المشافهة به، ولكن الخطاب الشرعى يعم حكمه كل من يصل إلى سِنِّ التكليف في عهد الرسول أَو بعده إلى أَن تقوم الساعة وذلك بطريق التغليب عند بعض الفقهاءِ، وبطريق الحقيقة عند غيرهم, وعموم الحكم في ذلك أَمر معلوم من الدين بالضرورة، سواءٌ أَكان بالتغليب أَم بالحقيقة، والزلزلة: التحريك الشديد المتكرر كما تقدم بيانها في المفردات، وقد تستعمل في تهويل الأَمر وتعظيم الخطب على سبيل المجاز، والمقصود بها في الآية: إما المعنى الحقيقى المصاحب لقيام الساعة بعد النفخة الثانية وفيه يقول الله سبحانه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). ويقول أَيضا: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (¬2). وإِما أَن يقصد بها المعنى المجازى، وهو ما يحدث يوم القيامة من أَهوال جسام تجعل الولدان شيبا، ويكون الناس بسببها سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. والزلزلة على كلا المعنيين تكون يوم القيامة, وبه أَخذ ابن عباس، فقد روى عنه أَن زلزلة الساعة: قيامها، وممن قال بهذا الرأْى الحسن. وقيل: المراد بها زلزلة تحدث قبل قيام الساعة وقبل طلوع الشمس من مغربها، فقد وردت آثار كثيرة بحدوث زلزلة عظيمة قبل قيامها، وتكون من أَشراطها، ويقول أَصحاب هذا الرأْى: إِنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها. والرأْى الأَول هو الظاهر من الآية - كما يؤذن به صدرها وختامها - فإِنه سبحانه دعاهم فيها إلى التقوى خوفا من العذاب الشديد يوم زلزلة الساعة، فهذا شاهد على أَن ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة. (¬2) سورة الانفطار، الآيات من 1

المراد بالزلزلة: ما يحدث يوم القيامة بعد النفخة الثانية من تغييرات كونية، يشير إليها قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬1) والمعنى الإِجمالى للآية: يأَيها المكلفون من الناس ذكوركم وإِناثكم، معاصرين لنزول الوحى أَو بعده إِلى يوم القيامة: اجعلوا لأَنفسكم وقاية وحماية من عذاب ربكم وذلك بطاعته فيما أَمركم به أَو نهاكم عنه، فإن زلزلة الساعة وأَهوال يوم القيامة، شىءٌ عظيم الخطر منبىءٌ عن مجىءِ الوعد الحق، حيث تحاسبون على أَعمالكم وتجزون عليها. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2)، فالعاقل من أَخذ من يومه لغده، وعمل لما بعد الموت. وبعد أَن نَبَّه الله على خطورة الساعة بتعظيم زلزلتها وتهويلها، عقب ذلك ببيان بعض آثارها على الناس فقال: 2 - {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}: تضمنت هذه الآية ثلاثة آثار لزلزلة الساعة، وما أَحدثته من هول ورعب "أَولها" أَن الأُم التي ترضع وليدها في حنان وإِقبال عليه، تراها حين تحدث زلزلة الساعة الرهيبة، تنسى وليدها الذي تضعه في حجرها، وتنحنى عليه وقد أَلقمته ثديها، تنساه من الرعب الذي هز كيانها، وعطل أُمومتها وأَذهل عقلها وجمد حنانها، وما كانت لتنساه لولا أن الخطب شديد "وثانيها": أَنك ترى الحوامل من شدة الهول والفزع تتعطل أَجهزة الإمساك في أَرحامهن فتنحدر الأَجنة دون إِرادة منهن، ولا يمر الأَسى بقلوبهن على أَجنتهن، فالرعب من الحاضر والخوف من المستقبل يستولى على مشاعرهن "وثالثها": أَنك ترى الناس فقدوا الوعى والرشاد، حتى تحسبهم سكارى من الفزع والاضطراب والهذيان. والكلام على طريق التمثيل، وأَنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت عنه حال إِرضاعها إِياه لشدة الهول، وكذا ما بعده، لأنه لا حمل ولا رضاعة ولا سكر يوم القيامة أما إذا أُريد من الزلزلة ما ورد حدوثه منها قبيل قيام الساعة وقبيل طلوع الشمس من مغربها، فيجوز حمل الكلام على حقيقته. ¬

_ (¬1) سورة، إبراهيم الآية: 48 (¬2) سورة الزلزلة، الآية:

والمعنى الإِجمالى للآية: يوم ترون آثار هذه الزلزلة العظمى تنسى كل أُم ترضع ولدها أَنه في حجرها، وأَن ثديها في فمه، وتغفل عنه غفلة تامة، لشدة ما أَصابها من الرعب والفزع والذهول من أَهوالها، وتتحلل عضلات الإِمساك في أَرحام الأُمهات فلا تستطيع الحفاظ على أَجنتها، فتنحدر تلك الأَجِنَّةُ دون إرادة من أُمهاتها. وترى الناس من قُوَّة الهول والفزع كأَنهم سكارى من شدة الذهول والهذيان، وليسوا سكارى على الحقيقة، ولكن عذاب الله يومئذ شديد عنيف. نسأَل الله الأَمان واللطف بعباده. قال الزمخشرى في كشافه: روى أَن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بنى المصطلق. فقرأَهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُرَ أَكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أَصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا، وكانوا من بين حزين وباك ومفكر. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} المفردات: {يُجَادِلُ}: يخاصم ويحاور، والجدل: شدة الخصومة والمدافعة (مَرِيدٍ): متجرد للفساد، من قولهم: شجرة مرداءُ لا ورق لها، وغلام أَمْرَدُ لمن لم ينبت شعر لحيته. {تَوَلَّاهُ}: اتخذه وليًّا ومتبوعا. التفسير 3 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}: تحدثت الآيتان السابقتان عن زلزلة الساعة وأَهوالها ومظاهر الرعب التي تحدث فيها وعن وجوب تقوى الله والعمل ليوم الوعيد، تفاديا للعذاب الشديد. وجاءَت هذه الآية

والتى تليها عقبهما، لتجهيل من يجادل في الله وقدرته على بعث الناس وحسابهم، وتحذير الناس من سوء عاقبة الذين يتبعونه ويقتدون به، وقد نزلت الآيتان في النضر بن الحارث فقد أَخرج ابن أَبي حاتم عن أَبي مالك رضى الله عنه (أَنه كان جَدِلًا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أَساطير الأَولين، والله لا يقدر على إحياءِ من بَلِىَ وصار ترابًا). والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالنص الكريم في هذه الآية والتى تليها يتناول كل من يتبع أَئمة الضلال، فيجادل في شئون الله بغير علم. والمعنى: ومن الناس من يخاصم ويدافع في شئون الله تعالى بجهالة، فلا يرجع في مزاعمه إِلى برهان عقلى أَو دليل نقلى، كهذا الذي ينكر البعث والنشور ويستبعده على الله الذي خلقنا أَول مرة، وخلق الأَرض والسموات العلى، وكالذى ينسب إلى الله البنين والبنات في حين أَنه تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وكالذى ينكر معجزة القرآن دون حجة أَو برهان، وهو في ذلك وأَمثاله يتبع كل شيطان مريد متجرد للفساد عَرِيًّ عن الخير والحق، من شياطين الجن أَو من شياطين الإِنس وقد عقَّب الله هذه الآية ببيان مصير أُولئك المتبعين لأَئمة الضلال فقال: 4 - {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}: أَي قضى الله على الشيطان المريد من أَئمة الضلال أَنه من اتبعه وسلك سبيله، فشأْنه أَنه: يضله عن سواءِ السبيل في دنياه, بتحسين البدع والمنكرات، وتزيين المحرمات وفاسد المعتقدات ويسوقه باتباعه في ذلك إِلى عذاب السعير في أُخراه، فعلى العاقل أَن ينظر في العواقب، فلا يجعل نفسه تابعا لذى رأْى فاسد، ومذهب ملحد لينجو من سوء المصير.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} المفردات: {فِي رَيْبٍ}: في شك. {مِنْ نُطْفَةٍ}: من مَنِىٍّ، وهى مأْخوذة من نطف الماء إِذا صَبَّه، وكذلك المنى يخرج مصبوبا. {مِنْ عَلَقَةٍ} العلقة: قطعة دم جامدة، وسميت بذلك لعلوقها بجدار الرحم وستأْتى لها عدة معان. {مِنْ مُضْغَةٍ} المضغة: قطعة لحم صغيرة قدر ما يمضغ. {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أَي: مُسَوَّاة سليمة من العيوب والنقصان وغير مسواة لوجود بعض النقصان فيها, فيتبع هذا التفاوتَ في تكوين المضغة، تفاوتُ الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم (¬1)، وسيأْتى بيان ما قيل في تفسير ذلك. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: إِلى وقت سميناه وعيّناه للولادة. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}: ثم لتصلوا إلى كمال قوتكم جسدا وعقلا وتمييزا، والأَشُد: واحد جاءَ على وزن الجمع، أَو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل إِنه جمع شدة بكسر الشين، كنعمة وأَنعم. {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أَي: أَخَسِّه وأدناد وهو زمن الهرَم والخَرَفَ. ¬

_ (¬1) راجع الكشاف.

{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} أَي: ميتة يابسة، يقال: همدت الأَرض إِذا يبست لا عشب فيها، وهمد الثوب: إِذا بلى. {اهْتَزَّتْ} أَي: تحرك نباتها, والإسناد إليها مجازى، أَو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لخروج النبات. {وَرَبَتْ}: ازدادت بالماءِ: وجذور النبات. {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}: وأنبتت من كل صنف حسن يبعث البهجة والسرور في نفس من يراه. التفسير 5 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ... } الآية. هذه الآية مستأْنفة لإِقامة الدليل على إِمكان البعث، وإلزام المجادلين فيه الحجة، بعد أَن حكت الآيتان السابقتان جدالهم في شئون الله ومنها البعث، وأَنهم في جدالهم يتبعون كل شيطان مريد، يضلُّهم ويسوقهم إِلى عذاب السعير. فالمراد من الناس في الآية: المجادلون في البعث المنكرون له، والتعبير عن اعتقادهم فيه بالريب والشك مع أَنهم جازمون بعدم إِمكانه فضلا عن عدم وقوعه، للإِيذان بأَن أَقصى ما يحتمل صدوره ممن لم يشاهد البعث هو الشك في أَمره، وهذا يزيله البرهان التالى، أَما: ما هم عليه من الإِنكار الجازم المصحوب بالمكابرة والعناد، فخارج عن دائرة الاحتمال. وخلقهم من تراب إِما في ضمن خلق أبيهم آدم، وإِما لأَنهم مخلوقون من النطف وأَصلها التراب، فإِنها ناشئة عن الغذاءِ الذي تغذى به الوالدان، والغذاءُ أَصله التراب. والمراد من النطفة هنا: ماءُ الرجل والمرأَة مجتمعين، ففي ماءِ الرجل الحيوانات المنوية وفي ماءِ المرأَة البويضة (¬1) فإِن الجنين يتولد من الماءَين، ولذا يشبه الولد أَبويه، فإِذا حصل اللقاءُ بين الرجل والمرأَة، التقى الماءان في القناة التي بين الرحم والمبيضين، فيحصل ¬

_ (¬1) وهي تخرج منها مرة كل حيض شهرى.

فيها تلقيح البويضة بأَقوى الحيوانات المنوية (¬1) إن أَراد الله خلق جنين من لقائهما - وبعد التلقيح تتكون الخلية الأُولى، وتنقسم بسرعة إِلى خليتين، ثم إِلى أَربع ثم إلى ثمان - وهكذا - وفي اليوم الرابع للتلقيح تكون قد وصلت في انقساماتها إلى مجموعة كثيرة من الخلايا متماسكة، فتنزلق إِلى الرحم، وبعد سبعة أَيام ونصف من التلقيح تقريبا تلتصق بجدار الرحم في قرار مكين وحولها غشاءٌ يقيها، ويكون الجنين حينئذ طبقة من الخلايا لا تمييز بينها. وتظل الخلايا في نموها وتكاثرها وتطورها، وفي خلال الأسبوع الثالث يبدأُ التمييز لما تخلَّق منها. فإِذا مضى أَربعون يوما من التلقيح، انتهى طور التحولات الأَولية للنطفة، وذلك هو الْمَعنِيُّ بالفقرة الأُولى من قوله: - صلى الله عليه وسلم -: (إِن أَحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أَربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا ويؤْمر بأَربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأَجله وشقى أَو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ... ) الحديث أَخرجه البخاري بسنده عن ابن مسعود (¬2). والعلقة في اللغة: واحدة العلق، وتُطلق على الدم الغليظ والجامد، وعلى دودة في المياه الراكدة تعلق بالجسد فتمتص دمه، وعلى كل ما يعْلِق بغيره أَو يُعَلَّق عليه، ويبدأُ طور العلقة بعد أَربعين يوما من بدءِ الحمل، كما جاءَ في الحديث الشريف. واللائق بحال التطور الذي حدث للنطفة، أَن يكون إِطلاق لفظ العلقة على الجنين حينئذ، لأَنه يشبه الدودة العالقة فقد حدث له بعض التصوير الأَولى في مَبْدأ طور العلقة، وهو عالق بجدار الرحم، وليس مجرد دم جامد كما يقولون. فإِذا مضى على هذا الطور أَربعون يوما اتضح تصويره أَكثر من ذي قبل، ووصل وزنه إلى خمسة وعشرين درهما، وامتد طوله إِلى ثمانية سنتيمترات، وبهذا ينتهى طور العلقة ¬

_ (¬1) ليكون نسل الإنسان قويا، كما تفعل اليعسوب (ملكة النحل) فإنها تختار أقوى الذكور لتلقيحها, وحجم البويضة أكثر من ضعف حجم الحيوان المنوى، وكلاهما في غاية الصغر، فالحيوان المنوى يساوى 6/ 1000 "ستة على ألف" من الملليمتر، ولا يرى إلا بمنظار مكبر - تعاليت يا الله -. (¬2) كتاب بدء الخلق - باب ذكر الملائكة - كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذى وابن م

ويليه طور المضغة الذي يستمر أَربعين يوما أُخرى كما جاءَ في الحديث "ثم يكون مضغة مثل ذلك". والمضغة في اللغة: ما يمضغ من لحم وغيره وهى في أَصل الإِنسان: قطعة لحم فيها بعض التصوير، وسميت بذلك لأَنها في مجمل مظهرها تشبه في أَوَّل طورها قطعة لحم قدر ما يمضغ، إِذْ أَنها حينئذ تزن خمسة وعشرين درهما تقريبا، وطولها ثمانية سنتيمترات كما تقدم، ويظل الجنين في طور المضغة ينمو وينتقل في التصوير إِلى ما هو أَكمل حتى يتم خلقه في نهايته، فيكون وزنه نحو سبعين درهما، وطوله نحو ثمانية عشر سنتيمترا، وحينئذ تبدأُ حركته في بطن أُمه حيث قد نفخت فيه الروح، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). ويشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد دور المضغة: "ثم ينفخ فيه الروح" وبهذه الحركة تطمئن الأُم على حياة جنينها. والمقصود من نفخ الروح فيه حينئذٍ إِعطاؤُه دفعة قوية من الحياة تمكنه من الحركة في بطن أُمه بعد أَن تم خلقه، أَما أَصل الحياة فموجود في الحيوان المنوى والبويضة قبل التلقيح، ثم في الخلية الأُولى التي نشأَت من تلقيحه لها، ولولا الحياة فيهما لما تكونت تلك الخلية، ولولا استمرار الحياة لما تكاثرت وتطورت حتى أَصبحت شيئا آخر مخالفا لأَصلها. ويستمر الجنين في النمو وهو محاط بثلاثة أَغشية، وفي نهاية الشهر التاسع يكون قد اكتمل نموه، وأَصبح صالحا لأَن يعيش خارج بطن أُمه، فيولد غالبا إن لم يكتب الله له البقاءَ في بطن أُمه أَكثر من تسعة أَشهر (¬2). والمراد من قوله في المضغة {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}: أَنها صالحة لكمال التخليق والتصوير، لخلوها من العيوب، وغير صالحة لهذا الكمال، لوجود بعض العيوب فيها، فينشأُ عن ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون من الآية: 14 (¬2) إذا ولد الجنين لتسعة أشهر يكون طوله من خمسة وأربعين إلى خمسين سنتيمترا، ووزنه من ثلاثة إلى ثلاثة ونصف كيلو جرام. فتبارك الله أحسن الخالقين.

ذلك التفاوت في خلق الإِنسان فبعضه يكون كامل الخلق سالما من العيوب، وبعضه الآخر يكون به بعض النقصان والعيب في صورته وفي طوله وقصره وأَعضائه ووظائف تلك الأَعضاءِ (¬1) وغير ذلك. وفسَّر بعضهم المخلقة بالمصورة، وغير المخلقة بغير المصورة، والمراد تفصيل حال المضغة، وبيان كونها أَولا قطعة لحم لم يظهر فيها شىءٌ من الأَعضاءِ، ثم ظهرت شيئا فشيئا، ولكن هذا المعنى يقتضي تقديم غير المخلقة على المخلقة، مراعاة للتدرج في الخلقة. وروى عن مجاهد وغيره: أَن المخلقة التي تواردت عليها أَطوار التخليق حتى تمت مدة الحمل، وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، وأَوردوا على هذا الرأْى: أن الآية في خلق الإِنسان من نطفة فعلقة، فمضغة، فكيف يخلق الإِنسان من نطفة ساقطة في أَي طور من أَطوارها، والرأْى الأَول هو المناسب للمعنى ولتفاوت حال الخلائق كمالًا ونقصانا والمعنى الإِجمالى لهذا الجزءِ من الآية ما يلى: يأَيها الناس المنكرون للبعث المجادلون فيه بغير علم: إن كنتم في شك في إِمكانه وحصوله، فلا مجال لإِنكاركم ولا لِشَكِّكُم، فإنا خلقناكم أَصلا من تراب في ضمن خلقنا لأَبيكم آدم، ثم قدَّرنا في خلقكم منهاجًا آخر حيث خلقناكم من نطفة الوالدين، وذلك أَنه حين تلتقى النطفتان تنشأُ عن لقائهما. بمشيئتنا الخلية الأُولى لتكوين الإِنسان ثم تتكاثر تلك الخلية بانقسامها السريع إِلى خلايا متماسكة، ثم تسْتقِرُّ مِنَ الرحم في قرار مكين بأَمرنا، ثم طورنا هذه النطفة في الرحم حتى وصلت إِلى طور العلقة، حيث يصبح الجنين فيها كالدودة العالقة بالرحم، بعد أَن أَفضنا عليه شيئا من التخليق والتكوين ثم كبَّرنا هذه العلقة حتى جعلناها في حجم المضغة، وجعلنا هذه المضغة كاملة التخليق، بحيث ينشأُ عنها إنسان كامل التكوين، أَو ناقصته لينشأَ عنها إِنسان ناقص في تكوينه، بأَن يكون دون الأَول في الحسن وجمال التصوير، أو في تمام الأَعضاءِ وقيام الأَجهزة الجسمية بأَداءِ وظائفها ونحو ذلك - خلقناكم على هذا النمط البديع المتفاوت - لكي ¬

_ (¬1) وهذا المعنى مأخوذ من قولهم: خلق السواك والعود أي: سواه وجعله صالحا للاستعمال، فالمضغة المخلقة على هذا بمعنى المسواة السالمة من العيوب، وغير المخلقة ما فيها بعض العيوب وإلى هذا المعنى ذهب الزمخشرى وغ

نبين ما لا يمكن حصره من عظمة الخالق وحكمته وكامل تدبيره وعظيم قدرته وغير ذلك من عظائم الأُمور التي من جملتها البعث والنشور فإِن من تأَمَّل ما ذكر من الخلق التدريجى جزم بأَن من قدر على خلق البشر من تراب لم يذق طعم الحياة، وأَنشأَه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أُخرى، بتصريفه في أَطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال، مع ما بين تلك الأَطوار من المخالفة والتباين فهو قادر على إِعادته بعد موته، بل هو أَهون في القياس. ثم بين الله حال الجنين بعد تلك الأَطوار فقال سبحانه: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: فهذه الجملة مستأْنفة لبيان مستقبلهم بعد تلك الأَطوار. والمعنى: ونثبت في الأرحام بعد تلك الأطوار ما نشاءُ بقاءَه فيها إِلى أَجل سميناه لوضع كل جنين منكم بعد تمام خلقه وكمال نموه وصلاحيته لأَن يعيش خارج بطن أُمه، وغالِبُه تسعة أَشهر، ويقول الفقهاءُ: أَدناه ستة أَشهر ولحظتان للوطءِ والوضع، وأَقصاه عند الحنفية سنتان، وعند الشافعية أربع سنين وهذا نادِرٌ جدًّا. {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}: المراد بالطفل هنا: الأَطفال، فإِنه يطلق على الواحد والجمع، أَي: ثم نخرجكم بعد مدة الحمل التي أَردناها - نخرجكم أَطفالا بعد أَن كنتم أَجنة، ثم نُنَمِّى أَجسادكم وقواكم لتبلغوا أَشدكم وكمالكم في الجسم والعقل. أَما الذي لا نشاءُ إِقراره في الأَرحام، فإننا نسقطه منها في أَول زمن الحمل أَو في آخره أَو فيما بينهما، تبعا لحكمتنا. ثم بيَّن الله أَحداثا أُخرى تحدث بعد الولادة فقال على سبيل الاستئناف: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أَي: ومنكم من يموت قبل بلوغ الأَشد أَو في أَثنائه ومنكم من يبقى بعد بلوغ الأَشد ويرتد إِلى أَخس العمر وأَحقره، حيث يمعن في الشيخوخة والهرم, فتضعف قواه الجسدية والعقلية، وينتهى أَمره إلى أَن ينسى ما علمه من قبل، ولا يقبل علما جديدا بعد، وذلك زمَنُ

الخرفِ والخيالات التي لا أَصل لها، حيث يعود إلى ضحالة الطفولة وسذاجتها وسوءِ التصرف فيها. وقد أَوصى الله الأَولاد بالإِمعان في الإِحسان إِلى الوالدين في هذه المرحلة الخطيرة، والتجاوز عما عسى أَن يحدث فيها منهم، وأَلا يقابلوهم بالتأَفف والانتهار، إِذ قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1). وقد أَجمل الله أَطوار حياة الإِنسان بصورة أُخرى غاية في الاختصار والبلاغة، حيث قال في سورة الروم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬2). وهذه الأَطوار التي نشاهدها في خلق الإِنسان، نشاهد مثلها في الحيوان والنبات، وينتهى الكل إِلى ممات، ولا يبقى سوى الديان {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬3). {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}: هذا دليل آخر يسوقه الله تعالى حجة على أَن البعث حق لا شك فيه، والخطاب فِيه لكل ذى عينين ممن يجادلون في البعث وغيرهم، والمعنى: وترى أَيها الإنسان بعينيك - ترى الأَرض - يابسة لا نبات فيها فإذا اشتملت على البذور وأَنزلنا عليها الماءَ، دبت الحياة إِلى البذور، فأخرجت جذورها لتعلق بجوف الأَرض وتتثبت بها - كما علقت النطفة برحم الأُم وتشبثت منه بقرار مكين - وأَخرجت براعمها وأَشطاءَها فوق سطح ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآيتان: 23، 24 (¬2) الآية: 54 (¬3) سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27

الأَرض، وقد اهتزت بذلك وعلت قشرتها، وأَنبتت من كل صنف حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الريح، من مختلف أَنواع النبات والطعوم والأَشجار المورقة المثمرة، وشجيرات الزينة ذات المنظر المونق, والعبير الذي يشرح الصدور. ولا شك أَن البعث يتجلي في النبات واقعيًا من آن لآخر, فإِنه كلما يبس ومات بعثه الله من جديد، بإِفاضة الماءِ على بذوره في جوف الأَرض، فتدب الحياة فيها، فتخرج جذورها لتستقر بها، وتنبت براعمها وأَشطاءُها محيطة بسيقانها بقدرة الله الحكيم الخبير، ونرى فيها من كل زوج بهيج مرة بعد أُخرى، فهل بعث الإِنسان بعد موته يختلف عن هذا في كثير أَو قليل؟ وصدق الله إِذ يقول: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (¬1). {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} المفردات: {الْحَقُّ}: الثابت الذي لا شك في وجوده. {لَا رَيْبَ فِيهَا} الريب: الشك، والمراد من نفى الشك في الساعة: أَنها لا ينبغي أَن يحدث فيها شىءٌ من الشك لوضوح أَدلتها، وإِن شك فيها الجاهلون. ¬

_ (¬1) سورة يس، الآيتان: 78، 79

التفسير 6 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذا كلام مستأْنف لبيان السر في تطورات خلق الإِنسان والنبات، والسبب الحقيقى فيها وما تدل عليه من تحقيق البعث. والمعنى: ذلك الذي تقدم بيانه من خلق الإِنسان في أَطوار مختلفة، ابتداءً بخلقه من التراب وانتهاءً بجعله في أَرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا, ومن خلق النبات بمثل تلك الأَطوار - ذلك كله شاهد بأَن الله هو الحق الموجود الذي بيده الأَمر كله، وأَنه تعالى مِنْ شأْنه إِحياءُ الموتى به وإِعادة، وإِلا لما أحيا النطفة والأَرض الميتة مرة بعد أُخرى وأَنه سبحانه قادر تمام القدرة على كل شيءٍ. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). 7 - {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}: معطوف على أَن الله هو الحق، داخل معه في حيز السببية والشهادة أَي: ذلك التطور في خلق الإِنسان والنبات حاصل وشاهد بأَن الله هو الحق، وأَن مِنْ شأْنه إحياءَ الموتَى كما ترون في تطويره الإنسان والنبات وأَنه على كل شيءٍ قدير، ولهذا قَدَرَ على إبداع هذا الكون، وأَن الساعة التي يُنْهى فيها الحياة الدنيا ستأْتى من غير شك في مجيئها، وأَن الله سوف يبعث من في القبور ليحاسبهم في أُخراهم على ما قدموه في دنياهم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬2). فلهذا يريكم الآيات لعلكم تتفكرون. والتعبير بلفظ "آتية" بدلا من لفظ "ستأْتي" للدلالة على تحقق إِتيانها ولا بد، لاقتضاءِ الحكمة مجيئها حتى يأْخذ المحسن جزاءَ إِحسانه والمسىءُ جزاء إِساءَته، وإِلا لضاع على كل ذى حق حقه، ولتساوى المحسن بالمسىءِ في مصيره، وذلك مناف لعدالة الله وحكمته. ¬

_ (¬1) سورة يس، الآيتان: 81, 82 (¬2) سورة الزلزلة، الآيتان:

وإِنما قال سبحانه: {لَا رَيْبَ فِيهَا} مع أن الملحدين يرتابون فيها للإِيذان بأَنها في ظهور دلائلها ووضوح أَمرها بحيث لا يصح أن تكون مجالا للإرتياب فيها، ولا تصلح مظنة للشك على الإِطلاق. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} المفردات: {يُجَادِلُ}: يخاصم ويناوىءُ. {فِي اللهِ}: في ذاته أَو صفاته. {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: بغير يقين ضرورى {وَلَا هُدًى}: ولا نظر سديد يهديه إلى الحق. {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}: ولا كتاب سماوى يضىءُ له سبيل الحق. {ثَانِيَ عِطْفِهِ} العِطْفُ: الجانب، وثَنْيُهُ لجانبه: كناية عن الإعراض تكبرا. {خِزْيٌ}: ذل وهوان. التفسير 8 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}. هذه الآية مستأْنفة لبيان حال الذين يكابرون في الحق بلا دليل، ويؤُمون غيرهم في الضلال، أَما الآية السابقة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} الخ ففي بيان حال من يقلدونهم ويتبعونهم، ويجوز أَن تكون هذه معطوفة على تلك للغرض المذكور (¬1) وأَئمة الضلال في مكة أَشهرهم أبو جهل والنضر بن الحارث ¬

_ (¬1) ويرى ابن عطية أن هذه الآية تكرار للآية السابقة لغرض التوبيخ فكأنه قيل: هذه الأَمثال في غاية الوضوح والبيان، ومن الناس من يجادل في شئون الله الخ، والواو للحال على هذا الوجه.

والأَخنس بن شريق، فقد كانوا يجادلون في شئون الله بغير حق ليصرفوا الناس عن الهدى الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: وبعض الناس يجادل في شئون الله فينكر البعث والنشور، والحساب والجزاءَ, ويجعل الملائكة بنات الله، وينكر اصطفاءَه أَنبياءَ من البشر، وغير ذلك بما أَكثروا فيه الجدل، دون أَن يكون لديهم علم يقينى ضرورى بما يقولون، أَو استنباط نظرى يهديهم إلى الحق، أَو كتاب سماوى ينير لهم سبيله، وكل جدل لا يقوم على شيءٍ من تلك القواعد، فهو منهار وضلال مبين. 9 - {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}: أَي: ومن الناس من يجادل في الله بجهالة، لاويا جانبه، معرضا عن الحق مستكبرا عليه، يفعل ذلك لكي يضل الناس عن سبيل الله، ويصرفهم عن اتباع الحق، له يسبب ذلك خزىٌ وذلٌّ وهوان في الدنيا حين يصرعه الحق ويرتفع لواؤُه، ويبطل باطله ويزول أَثره، ونذيقه يوم القيامة عذاب النار الشديد الإِحراق. 10 - {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}: ذلك الذي تقدم من خزى الذي يضل في سبيل الله وعذابه، بسبب ما حدث منه من الكفر والمعاصي، وأَنه تعالى لا يحدث منه ظلم لعبيده. والتعبير عن نفى مطلق الظلم عنه تعالى بصيغة المبالغة {لَيْسَ بِظَلَّامٍ} لتأْكيد نزاهته عنه بتصوير التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُومِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُولَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} المفردات: {عَلَى حَرْفٍ}: على طَرف من الدين. {فِتْنَةٌ}: شرٌّ وبلاءٌ. {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}: ارتد إِلى الكفر {الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}: الخسران البين الواضح من أَبان بمعنى: اتضح وظهر. {الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}: الانحراف البعيد عن الحق. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}: يقول الكافر لصنمه يوم القيامة بصوت مرتفع حين اتضح له أَن ضره أَقرب إِليه من نفعه. {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}: لبئس الناصر ولبئس المصاحب أَنت أَيها الإِله الذي كنت أَعبده. التفسير 11 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}: لقد صورت الآيات السابقة صنفين من أَهل الضلال، أَولهما، من يجادل في الله بغير علم متبعا في جداله أَئمة الكفر من كل شيطان مريد. وثانيهما: من يجادل

في الله بجهالة، ولكنه يغطى جهالته بِثَنْيِ عطفه وخيلائه سَتْرًا لجهالته وادعاءً للزعامة والإِمامة على من دونه من الكافرين، لكي يتبعوه في سفهه وجداله بالباطل، وجاءَت هذه الآية لتصور صنفًا ثالثًا منهم, وهم أُولئك المذبذبون في عقائدهم، الذين لا يستقرون فيها على حال، بل يتقلبون فيها وفق المنافع والمضار. أَخرج البخاري وابن أَبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أَنه قال في هذه الآية: "كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأَته غلاما ونُتِجَتْ خيله قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأَته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء" وأَخرج ابن مردويه عن أَبي سعيد قال: أَسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده، فتشاءَم من الإِسلام، فأَتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَقِلْنِى. فقال: "إِن الإِسلام لا يُقَال"، فقال: لم أُصب من دينى هذا خيرًا. ذهب بصرى ومالى ومات ولدى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا يهودى: الإِسلام يَسْبِكُ الرجال كما تسبك النارُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة" فنزلت الآية. وعن الحسن أَنها نزلت في المنافقين، ونحن نقول: سواءٌ كان سبب نزولها هذا أَو ذاك، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية فيمن يتَّجِرُ بالدين، ولا يؤمن عن يقين. والمعنى الإِجمالى للآية: ومن الناس من يعبد الله على طرف من الدين لا تعمق له فيه، فإِن أَصابه خير دنيوى كالرخاءِ والصحة والولد، ثبت على هذا الطرف ثبات المستفيد لا ثبات المؤمن المتيقن، وإن أَصابته فتنة ومكروه في نفسه أَو أَهله أَو ماله، انقلب على وجهه الذي كان متجها إِليه، فارتد ورجع عن دينه، ومثله في ذلك كمثل الجندى الخائر العزيمة، جبان القلب، يكون في طرف الجيش، فإِن أَحسَّ بظفر وغنيمة بقى ليحرزها, وإِن أَحس بهزيمة لاذ بالفرار ملطخا بالعار. وقد بين الله عاقبة كفره وارتداده فقال: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} فأَما خسارته في دنياه فعدم حصوله منها على ما يريد، وتعرضه للقتل إِن عُرِفَتْ رِدَّتُه، وأَما خسارته في الآخرة فالعذاب الأَليم والسعير الدائم، وذلك هو الخسران الواضح الذي لا يخفى على ذوى الأَل

12 - {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ}: هذه الآية مستأْنفة لبيان حاله في دنياه بعد ردته عن الإِسلام ونكوصه على عقبيه بعد الإِقدام. والمعنى: أَن هذا الذي انقلب على وجهه وارتد عن الإِسلام، لفوات المنافع الدنيوية التي كان يرجوها منه، يعبد من دون الله أو يدعو لحاجته ما لا يضره إِن كفر به وما لا ينفعه إِن آمن به وعبده أَو دعاه، فهو مخلوق لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فكيف يملكها لسواه ذلك الانصراف عن الحق إِلى الباطل هو الضلال البعيد عن سبيل النجاة. 13 - {يَدْعُوا لَمَنْ (¬1) ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}: وهذه الآية مستأْنفة أَيضًا لبيان مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى. والمعنى: أَن من انقلب عن الإِسلام وعبد غير الله أَو دعاه. يقول يوم القيامة حين يعذب بسبب معبوده الذي ارتد إِليه, وكان يأْمل شفاعته أَو حمايته يقول نادما بصوت مرتفع: المولى الذي ضرره أَقرب تحققا من نفعه والله لبئس المولى الذي يتخذه الإِنسان لنفسه ناصرا، ولبئس العشير الذي يصطفيه عشيرا، فكيف بما هو ضرر محض لا نفع فيه؟. وقد استفيد من هذه الآيات الثلاث أَن الله تعالى لا يقبل النفاق في الدين، والتجارة بالعقيدة، فليس لله من الدين إِلا الدين الخالص، والعقيدة الثابتة، وأَن الصبر على البلاءِ واجب كل مؤمن، وميزة كل تقى. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأَمثل فالأَمثل، يُبْتَلى الرجل علي حسب دينه، فإِن كان في دينه صُلْبًا اشتد بلاؤُه، وإِن كان في دينه رقَّةٌ ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشى على الأَرض وما عليه خطيئة" أَخرجه البخاري وغيره. ¬

_ (¬1) يدعو بمعنى ينادى بصوت مرتفع، واللام في قوله (لمن) موطئة للقسم، و (من) اسم موصول مبتدأ، و (ضره) مبتدأ ثان مضاف إلى الهاء، و (أقرب من نفعه) خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره صلة الموصول وهو لفظ (من) وجملة لبئس المولى ولبئس العشير جواب قسم مقدر أَي والله لبئس المولى ولبئس العشير، وجملة القسم، وجوابه خبر المبتدأ الأول وهو لفظ (من) أي: ينادى المشرك قائلا يوم القيامة للمعبود الذي ضره أكثر من نفعه: والله لبئس المولى ولبئس الع

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} المفردات: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: تجرى من تحت قصورها وأَشجارها. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ}: فليمدد بحبل. {إِلَى السَّمَاءِ}: إِلى سقف بيته، وكل ما علاك سماء. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ}: ثم ليختنق، من قطع بمعنى اختنق - كذا فسره ابن عباس ولعلهم أَطلقوا القطع عليه لما فيه من قطع النَّفس، وقيل المعنى: ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق، على أَن المراد به فرض القطع وتقديره تهكما. التفسير 14 - {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}: بعد أَن حكت الآيات السابقة حال أَصناف ثلاثة من الكفرة, وسوءَ مآلهم، جاءَت هذه الآية للإِخبار عن حسن مآل المؤمنين الصادقين، وجميل ثوابهم في جنات النعيم. والمعنى: إِن الله يثيب المؤْمنين الصادقين الثابتين على دينهم، الذين يعملون الصالحات وفق شريعتهم، فيدخلهم في الآخرة جنات وبساتين تجرى بينها الأَنهار، تحت القصور

والأَشجار، إِن الله يفعل ما يريد، فيثيب المحسن جزاءَ إِحسانه ويعاقب المسىءَ جزاءَ إِساءَته {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}. 15 - {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}: تضمنت الآيات السابقة سُوءَ حال طوائف من الكفار وسوءَ عاقبتهم، وحسن حال المؤمنين بالله ورسوله وجزيل ثوابهم، ولما كان ما يصيب هؤُلاءِ وأُولئك يعتبر نَصْرًا من الله لرسوله، جاءَت هذه الآية لتؤَكده وتحققه، وتتحدى من يقف في سبيله - صلى الله عليه وسلم - وتعده بالنصر الحاسم في الدارين. والمعنى: أَنه تعالى ناصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا بإِعلاءِ كلمته وإِظهار دينه، وفي الآخرة بإِعلاءِ درجته، وإِدخال من صدَّقه جنات تجرى من تحتها الأَنهار، والانتقام ممن كذبه بعذاب الحريق، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يمنعه مانع، فمن كان يغيظه ذلك من أَعاديه, ويظن أَنه تعالى لا يحققه، بسبب مدافعته ومكايده، فليبالغ في استفراغ الجهد فغاية أَمره خيبة مساعيه, وعقم مقدماته وفساد مؤامراته, وبقاءُ ما يغيظه من نصر الله لرسوله، وقد وضع مقام هذا الجزاء قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} لغرض التحدى والتهكم، ومعناه: فليمدد بحبل إِلى سقف بيته ثم ليختنق بهذا الحبل الذي وضعه غُلاًّ في عنقه، فلينظر وليتأَمل هل يشفيه من الغيظ قتله نفسه حسرة على نصر الله لرسوله؟ وتفسير القطع بالاختناق مروى عن ابن عباس ومجاهد وعطاءٍ وغيرهم، مأْخوذ من قطع إِذا اختنق، لأَن الغُلَّ يقطع النفس إِذا ضاق على العنق. وخلاصة معنى الآية: من ظن أَن الله لا ينصر نبيه محمدا وكتابه ودينه وأُمته المؤمنة، وكان هذا النصر يغيظه، فليذهب فليقتل نفسه فإن الله ناصره لا محالة، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآيتان: 51

16 - {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}: أَي: وكما أَنزلنا الآيات السابقة واضحة الدلالة على خذلان الباطل وأَهله، ونصر الحق وذويه, أَنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها الصافية الجلية، ولأَن الله تعالى يهدى من يريد هدايته، ممن أَقبل عليه وشرح الحق صدره - أَنزل القرآن على هذا النحو البديع ليكون داعيهم إِلى الهدى، وقائدهم إِلى سواءِ السبيل. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} المفردات: {وَالَّذِينَ هَادُوا}: هم اليهود، ولعل التعبير عنهم بالذين هادوا لرجوعهم إلى الله وتوبتهم من عبادة العجل بعد عودة موسى من مناجاة ربه. {وَالصَّابِئِينَ}: أَصحاب دين أَقاموه على الروحانيات، وسنعرض لتفصيل أَمرهم في تفسير الآية، والصابئون مِنْ: صَبَأَ، وله عدة معان، منها: خرج من دين إلى دين وهو من باب منَع وكرُمَ ويستعمل بمعنى: صار، وبمعنى: طلع كما في قولهم: صَبَأَ النَّجْمُ كَأَصْبَأَ. {وَالْمَجُوسَ}: قوم يعبدون الشمس والقمر والنار على ما روى عن قتادة.

{يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ}: يحكم بينهم، ويجزى كلا على حسب عقيدته وعمله. {شَهِيدٌ}: أَي مراقب وعليم. {أَلَمْ تَرَ}: أَلم تعلم. {يَسْجُدُ}: يخضع ويَذل. التفسير 17 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}: حكى الله في الآيات السابقة سوءَ أَحوال الكفار - تابعيهم ومتبوعيهم والمذبذبين منهم - وبين سوءَ مصيرهم ومنقلبهم، وبين حسن حال المؤمنين الصالحين وجميل مثوبتهم، وختم ذلك ببيان أَنه تعالى مؤَيِّد رسوله بالنصر والغلبة في الدنيا والآخرة، وجاءَت هذه الآية الكريمة لتؤَكد نصره في الآخرة على جميع الفرق الكافرة. وقد ذكر الله في هذه الآية ست فرق يفصل الله بينها يوم القيامة، أُولاها: المؤْمنون، والمقصود بهم في هذا المقام: من آمن بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وثانيها: الذين هادوا وهم المعروفون باليهود، ولما ذهب موسى لميقات ربه، صنع لهم السامرى عجلا جسدا له خوار، وقال: هذا إِلهكم وإِله موسى فعبدوه، فأَخبره الله بما صنع قومه فرجع إِليهم غضبان أَسفا، ووبخهم على ما فعلوا, وطلب إِليهم التوبة، وقد حكى الله ذلك في عدد من السور، ومنها قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1). فمعنى كونهم هادوا: أَنهم رجعوا إِلى الله وتابوا عن عبادة العجل فتاب عليهم، أَي: قبل توبتهم، فلهذا أَطلق عليهم القرآن: (الذين هادوا) مراعاة لما كان من أَجدادهم، وأَما المعاصرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهم مكلفون بالإِيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يؤْمن به فهو كافر؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (¬2). ¬

_ (¬1) الآية: 54 (¬2) سورة البينة، الآية

وثالثها: الصابئون، وقد جاءَ عنهم في كتاب - الملل والنحل - للشهرستانى: أَنهم كانوا على عهد إِبراهيم - عليه السلام - ويقال لمقابليهم: الحنفاء، وكانوا يقولون: إِنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأَحكامه - جل شأْنه - إِلى متوسط روحانى لا جسمانى - ومدار مذهبهم على التعصب للروحانيات، وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها، ولما لم يتيسر لهم التقرب إِليها والتلقى منها بذواتها، فزعت جماعة منهم إِلى هياكلها، وهى السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إِلى الأَشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى شيئًا وهى الأَصنام. والفرقة الأُولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأَصنام. وقد أَفحم إِبراهيم كلتا الفرقتين وأَلزمهم الحجة - وذكر الشهرستانى في موضع آخر من كتابه: أَن ظهورهم كان في أَول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس اهـ (¬1) وذكر صاحب كتاب "الصابئة" أَنه توجد في سهول الموصل جماعة منهم يؤْمنون بأَن الخالق واحد أَزليٌّ لا أول لوجوده ولا نهاية له، منزه عن عالم المادة والطبيعة، وهو الذي أَوجدها، ولكنهم مع هذا يتقربون إِليه بعبادة الأَفلاك والكواكب، زاعمين أَنها أَقرب الأَجسام المرئية إلى الله تعالى، وأَنها حية خالدة ناطقة، وأَن كل ما يحدث في العالم يكون على حسب ما تجرى به الكواكب حسب أَمر الله لها - كما زعموا - فعظموها ثم جعلوا لها تماثيل وأَصنامًا ترمز إليها فعبدوها (¬2). ونحن نقول: إنهم بجميع فرقهم كفار، ولا يغنيهم اعترافهم بوجود الله على النحو الذي مرَّ بيانه، لأَنهم كالمشركين الذين أَشركوا الأَصنام مع الله في العبادة، مع اعترافهم بأَنه - تعالى - هو الخالق. وقد جاءَ الإِسلام لمحاربة الشرك في جميع صوره، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. ¬

_ (¬1) انظر الآلوسى في الآية, فعنه نقلنا ما تقدم عن الصابئة. (¬2) ومن العلماء من أباح ذبائحهم ونكاح نسائهم ومنهم من منع ذلك، انظر القرطبى في تفسيره: "الصابئين" في آية البقرة ج 1 ص

ورابعها: النصارى وعقائدهم في المسيح معروفة، وهم كافرون بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وخامسها: المجوس وهم كما قال الآلوسى نقلا عن الشهرستانى: طوائف كانت قبل اليهود والنصارى، يؤْمنون بالشرائع على خلاف الصابئة، ولهم شبهة كتاب, وهم يعظمون النار. وروى عن قتادة: أَنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر والنيران، وقال القرطبى: هم عبدة النيران القائلون بأَن للعالم أَصلين: نورًا وظلمة. وسادسها: الذين أَشركوا، وهو وصف شامل لكل من عبد غير الله فيدخل فيه عبدة الحيوان والأَنهار والأُمهات والآباءِ ونحوهم، ممن لا يزالون على تلك المناهج في الهند والتبت وأَفريقيا وغيرها، وكل هذه الفرق كافرة عدا الفرقة الأُولى التي آمنت بالله ورسوله. والمعنى الإِجمالى للآية: إن الذين آمنوا بالله ورسوله وكتابه، واليهود الذين يعاصرون الإِسلام، والصابئين على اختلاف فرقهم التي مرَّ بيانها، والنصارى المعاصرين للإِسلام على اختلاف مذاهبهم، والمجوس، والذين أَشركوا بالله رب العالمين - أَشركوا به - غيره من خلقه في العبادة، إن هؤُلاء جميعًا يقضى الله بينهم يوم القيامة فيظهر المحق منهم وهم المؤْمنون، والمبطل منهم وهم سائر الفرق، ويجزى كلا على حسب حاله، فيثيب المؤْمنين ويعذب سواهم, وما ربك بظلام للعبيد، إِن الله مراقب لعباده شهيد على أَعمالهم محيط بعقائدهم وما كسبته جوارحهم فهو على كل شيءٍ شهيد وبكل خلقه عليم. 18 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: هذه الآية جاءَت لتأْكيد قدرة الله على الفصل بين هذه الفرق التي ذكرت في الآية السابقة وهى التي اختلفت إِيمانًا وكفرًا، ببيان خضوع كل شيءٍ في هذا الكون له تعالى، ومن كان كذلك فإِنه لا يصعب عليه الفصل بين من أَطاعه ومن عصاه، والرؤْية في قوله

{أَلَمْ تَرَ}: رؤْية القلب والعقل، فهى بمنزلة أَلَمْ تعلم، والمراد بالسجود هنا: الخضوع، وهو عام في الإِنسان والحيوان والنبات والجماد فكل ما في الكون خاضع لتدبير الله وأحكامه، والمراد بمن في السموات والأَرض: ما فيهما بطريق القرار فيهما أَو الجزئية منهما "فَمَنْ" مستعملة هنا للعاقل وغيره، كما تستعمل (ما) في مثل ذلك أَحيانًا. وإِفراد الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب بالذكر مع دخولها في عموم من يسجد له تعالى في السموات والأَرض؛ لأَن الناس عبدوها مع الله مع أَنها مخلوقة له وخاضعة لأَحكامه. فذكرت هنا لتنبيه الناس إِلى خطئهم في عبادتها، فالشمس عبدتها حِمْير، والقمر عبدته كنانة، ونجم الدبران عبدته تميم, والشَّعْرَى عبدتها لخم وقريش، والثريا عبدتها طىءٌ، وعطارد عبدته أَسد, وعبد أَكثر العرب الأَصنام المنحوتة من الجبال، والعُزَّى عبدتها غطفان، وهى شجرة من السمر المعروف. ومن الناس من عبد البقر في الهند وغيرها، وقد مرت عقيدة الصابئة في عبادة الكواكب، فلهذا نبَّه الله إِلى خطأ هؤُلاءِ العابدين وكفرهم بمن خلقها وسخَّرَهَا. وقد انتقل الكلام في آخر الآية من سجود التسخير إِلى سجود الطاعة الاختيارية، وذلك في قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} فهو على تقدير: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، وهم صنف المؤمنين من الفرق الست التي مرت في الآية السابقة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}: وهم باقى الفرق الست لأَنهم لا يخصونه بالسجود - كما مرَّ بيان حالهم - ولا يصح أَن يقصد بسجود كثير من الناس سجود التسخير، فيعطف على من في السموات والأَرض، لأَن سجود التسخير عام في الناس جميعًا - مؤْمنهم وكافرهم - فلا يصح قصره على المؤْمنين دون سواهم، ومن العلماءِ من جعل {كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} مبتدأ وقدَّر خبره (حق له الثواب) بدليل ما بعده, وهو قوله سبحانه: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}: أَي وكثير منهم وجب عليه العذاب بكفره وإِبائه السجود الذي كلفه الله بأَن يكون له خالصًا.

ومن العلماءِ من جعل "كثير" مبتدأَ وقوله "من الناس" خبره على معنى: وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون المستحقون للثواب، أَما غيرهم فقد خرجوا عن حقيقة جنسهم بانحرافهم في عقائدهم. والمعنى الإِجمالى للآية: أَلم تعلم أَيها المفكر العاقل أَن الله تعالى يخضع لتدبيره وحكمته وسلطانه كل ما في السموات والأَرض، ما استقر فيهما أَو كان جزءًا منهما، وأَنه تخضع له الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهى مخلوقة له وخاضعة لتدبيره وسلطانه، فكيف يتخذها الناس آلهة معه؟. ويسجد لله تعالى سجودَ طاعة واختيار كثير من الناس وهم المؤمنون المتقون، فحق لهم الثواب. وكثير من الناس لا يخصونه تعالى بالسجود فحق عليهم العذاب, ومن يُهِنْهُ الله تعالى بتعذيبه على معاصيه وسوءِ عقيدته، فليس له من يكرمه بإنقاذه من الإِهانة والتعذيب، فإِنه تعالى يفعل ما يشاءُ، مما تقتضيه حكمته وعدله، فلا معقب لحكمه ولا معارض، لمشيئته. {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}

المفردات: {هَذَانِ خَصْمَانِ}: الخَصْم المخاصم مذكرا أَو مؤنثا، مفردا أَو مثنى أَو جمعا. {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}: وقع الجدل بينهم في شأْن ربهم. {الْحَمِيمُ}: الماءُ الحار. {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: المقامع جمع مِقْمعة كَمِكْنَسة وهي: الأَعمدة من الحديد يضرب بها. {عَذَابَ الْحَرِيقِ}: أي عذاب الاحتراق ويكون بالغليظ من النار. التفسير 19 - {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ..... } الآية. المراد بهذين الخصمين اللذين اختصموا في ربهم: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين المنقسم إِلى الفرق الخمس التي ذكرت عطفا على المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وقد أُريد بهما ذلك تعيينا لطرفى الخصام وتحريرًا لمحله، وإِزاحة لما عسى أَن يتبادر إِلى الذهن من كون الخصام بين كل واحدة من الفرق الست وبين البواقى, وروى عن مجاهد والحسن وعطاءِ بن رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي ما يؤيد ذلك من أَنهما فريقا المؤمنين والكافرين، وهذا يتفق مع ما روى عن ابن عباس من أَن الآية رجع إِلى الأَديان الستة المذكورة في الآية التي أُشير إِليها سابقًا. وبه يتبيَّن كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع مَن عطف عليهم من الفرق الخمس الكافرة. ومعنى اختصامهم في ربهم: اختصامهم في شأْنه - عز وجل - فيما يتعلق بذاته وصفاته، وفيما يليق به وما لا يليق، فآمن به على ما ينبغي فريق وكفر فريق، ولما كان كل خصم يجمع طائفة جاءَ (اختصموا) بصيغة الجمع, واعتقاد كل من الفريقين حقِّية ما هو عليه، وبطلان ما عليه الفريق الآخر، وبناءُ كل منهما أَقواله وأَفعاله على اعتقاده، يكفى في تحقيق خصومته للفريق المقابل له، وإِن لم يجر بينهما الجدل والخصام على سبيل المواجهة. وحمل الآية على العموم المذكور لا ينافى ما قيل من أَنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث - رضى الله عنهم -، وعقبة وشيبة ابنا ربيعة

والوليد بن عتبة، أَو أَنها نزلت في المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأَن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم فَصَّلت الآية ما أجمل سابقا في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ببيان ما أُعد لكل فريق من جزاءِ فَصْلا لهذه الخصومة فقال سبحانه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}: أي تُقَطَّع لهم في الآخرة من النار الهائلة قِطَع تشبه الثياب في كونها على مقادير جثثهم, وإِحاطتها بهم كما تحيط الثياب بلابسها, وذكر التقطيع بصيغة الماضى (قُطِّعَت) مع أَنه سيقع في المستقبل، لأَن ما كان من أَخبار الآخرة فالموعود به كالواقع المحقق. "وأَخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب، وليس شىءٌ حمِىَ في النار أَشدّ منه, فليست الثياب من نفس النار بل من شيءٍ يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أَقبحها كسوة!! ولذا قال وهب: "يُكْسى أَهل النار, والعُرْى خير لهم" اهـ من تفسير الآلوسى والله أَعلم بصحة ما نقل عن سعيد بن جبير، فإِنه من الغيب الذي لا يعرف إلا بالوحى. {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}: أَي يصب على رءُوسهم الماءُ الحار الذي انتهت حرارته إلى غايتها. 20 - {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}: أَي: يذاب بالحميم إذا صب على رءُوسهم - يذاب به - ما في بطونهم من الشحم والأَمعاءِ. قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وكذلك تذوب به جلودهم بمعنى: تتساقط. وقيل التقدير: يذاب به ما في بطونهم وتحرق الجلود، كقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}. 21 - {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}: أي: وجعل الله لتعذيبهم أَعمدة من حديد يضربون بها ويُدفعون. وقيل المقامع: المطارق وهي المرازب أَيضا، وقيل: هي سياط من نار، وسميت بذلك لأَنها تقمع المضروب أَي: تُذِلُّه.

22 - {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا .... } الآية. أَي: كلما أَرادوا الخروج من النار لِغَمٍّ عظيم من عذابها رغبة في الخلاص منه، وأَشرفوا على الخروج، وذلك حين تجيش بهم النار وتثور، فترفعهم إِلى أَعلى نحو أَبوابها - كلما حدث منهم ذلك - ضربوا بالمقاطع فأُعيدوا إلى معظم النار، لا أَنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعادون إِليها. قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إِن الأَرجل لمُقَيَّدَةٌ وإِن الأَيدى لَمُوثَقَةٌ، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها، وقال الحسن: معنى الخروج: أَن النار تضربهم بلهبها، فتلقيهم إِلى أَعلاها، فضُربوا بالمقامع فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وكلا الرأْيين يدور على أَن إِرادة الخروج من النار ليست على حقيقتها، بل هي مجاز عن مشارفتهم الخروج منها، برفعهم إِلى أَعلاها. وقال: بعضهم إن المعنى: كلَّما أَراد أَحدهم أَن يخرج من مكانه المعدّ له في النار إِلى مكان آخر، فخرج أُعيد فيه بضرب الزبانية إِياهم بالمقامع. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أَي: وقيل لهم إِذلالا وإِهانة: ذوقوا عذاب الحريق، وهو عذاب الغليظ من النار العظيم الإِحراق، جمعا لهم بين التعذيب البدنى والنفسى. {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}

المفردات: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}: الأَساور جمع أَسْوِرة كأَسْلحة، وواحد أَسْوِرة سُوار - بكسر السين وضمها - كسلاح وغراب، وهو ما يلبس في اليد {وَلُؤْلُؤًا}: وهو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف. {إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}: إلى طريق الله المحمود. وهو الدين الحق. التفسير 24 - {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .. } الآية. لما أَخبر - سبحانه - عن حال الفريق الأَول فريق الكفار وما هم فيه من العذاب والنكال؛ عقَّبه بذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين ببيان ما هم فيه من نعيم مقيم. والمعنى: أَن الله تعالى يكافىءُ المؤمنين على إِيمانهم مكافأَة كريمة، فيدخلهم جنات تجرى الأَنهار في أَرجائها وتنساب في جوانبها، وتحت أَشجارها، وبين قصورها. ليصفو جوها ويَرقّ هواؤُها، وتطيب الإِقامة فيها، واستكمالًا لنعيمهم {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}: أَي تلبسهم الملائكة في الجنة بأَمر ربهم أَساور متخذة ومصنوعة مِنْ ذهب، ويمنحون لؤلؤًا يحلَّون به, وقال القشيرى: المراد: ترصيع السوار باللؤْلؤ. ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤْلؤٍ مصْمَت بمعنى أَنه لا يخالطه شىءٌ، ثم يضعون كل ذلك في أيديهم (¬1)، كما في صحيح مسلم من حديث أَبي هريرة قال: سمعت حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المسلم حيث يبلغ الوضوءُ" {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}: أَي: أَن جميع ما يلبسونه يكون من حرير سُنْدسِه وإستبرقه. كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} (¬2). وذلك في مقابلة ثياب الكافرين التي قطعت لهم من نار ¬

_ (¬1) تطلق اليد على المعصم، كما تطلق على الكف وعلى الذراع كلها. (¬2) سورة الإنسان، من الآية: 21

قال النص الكريم: {وَلِبَاسُهُمْ} ولم يقل: ويلبسون، كما قال: يُحلَّون. للإِشعار بأَن اللباس لهم أَمر محقق غنى عن البيان إِذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإِنما يحتاج إلى بيان نَوْعِهِ. بخلاف التحلية، فإنها ليست من لوازمهم الدائمة؛ فلذا جعل بيانها بصيغة (الفعل) المضارع ليفيد التجدد من آن لآخر، وفي تصدير الآية الكريمة عن المؤمنين بالتوكيد {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ ... } إظهار لمزيد العناية بهم وإِشارة إِلى تحقق ما وعدوا به، والتحلية بلبس الحرير قيل: هو حكم عام في أَهل الجنة، وقيل: هو باعتبار الأَغلب، لما أخرج النسائى وابن حبان وغيرهما عن أَبي سعيد الخدرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أَهل الجنة ولم يلبسه هو) اهـ. قال القرطبى في تفسيره: وذلك لاستعجال ما حرم الله عليه في الدنيا. ثم قال هذا نص صريح، وإِسناده صحيح. 24 - {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}: أَي وهدى الله - سبحانه - المؤمنين في الدنيا، ووفَّقهم إِلى الطيب من القول، وهو كلمة التوحيد واتباع الأَوامر, واجتناب النواهى، وحكى الماوردى: هو الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأَذكار {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}: أَي إِلى طريق الله المستحق غاية الحمد لذاته، وصراطه: هو الإِسلام فهو سبيل الله إِلى الجنة. وقيل: إِن ذلك يكون في الآخرة، بأَن يقولوا عند دخول الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (¬1). {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (¬2). وما يقع في محاورتهم من طيب القول: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (¬3). كما هدوا فيها إلى طريق الجنة فهى المكان المحمود الذي يحمدون فيه ربهم على ما أَحسن إِليهم، وتفضل به عليهم. كما جاءَ في مسلم. (إِنهم يُلْهَمُون التسبيح والتحميد كما يُلْهمون النَّفَس). ¬

_ (¬1) سورة الزمر، الآية: 74 (¬2) سورة فاطر، الآية: 34 (¬3) سورة الواقعة، الآيتان: 25

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} المفردات: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: أي ويمنعون الناس عن طريق الإِسلام، لأَن الصد: المنع. والسبيل: الطريق. {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: يراد به المسجد نفسه، وقيل: الحرم كله ومنه مكة. {الْعَاكِفُ فِيهِ}: أَي المقيم فيه الملازم له، وفعله من باب: قعد وضرب. {وَالْبَادِ}: الطارىءِ عليه من سكان البادية وغيرها. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}: الإِلحاد في اللغة؛ الميل عن القصد، أَي: ومن يرد فيه مرَادًا مائلا عن القصد والاستقامة، بسبب ظلمه. التفسير 25 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ..... } الآية. نزلت هذه الآية - على ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما - في أَبي سفيان بن حرب وأَصحابه حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين عام الحديبية عن المسجد الحرام، فَكره - عليه الصلاة والسلام - أَن يحاربهم وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أَن يعود في العام القابل. وكان نزول الآية وعيدًا لهؤُلاءِ المشركين من قريش ومن والاهم، حيث بالغوا في الظلم والطغيان بسبب كفرهم وما صاحبه من الصد عن الإسلام وعن المسجد الحرام ذاته أَو عن الحرم كله ومنه مكة، وقد صُد عنه النبي وأَصحابه وكانوا بالحديبية وعُبِّر عن الحرم بالمسجد الحرام لأَنه المهم المقصود.

والتعبير في النص الكريم بقوله: {وَيَصُدُّونَ} مع أَنها بمعنى وصَدُّوا لاستحضار الصورة الماضية تهويلا وتقبيحا لأَمر الصد الذي واجهوا به النبي وأَصحابه مع علمهم بأَنهم حضروا مسالمين قصدا إِلى النُّسُك، ومن حقهم أَن يدخلوه. كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}: أَي جعلنا دخوله حقا لجميع الناس لقضاءِ النُّسُك فيه، يستوى في ذلك المقيم فيه أَو في حرمه, مع الحاضر إليه من أَهل البادية وغيرهم مِمَّن يفدون عليه. فأَهل مكة ليسُوا أَحق بتقديسه وتعظيمه من النازحين إِليه. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}: أَي من يرد فيه مرادًا ما بِإلحاد، أَي: ميل عن الاستقامة إِلى الإِثم بسبب ظلمه الذي حَمَله على الإِقدام عليه عامدا غير متأَول. من يفعل ذلك {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: أَي ننزل به في الآخرة أَلوانا من أَشد العذاب وأَقساه، لأَن الله عظم فيه الذنب - صغيره وكبيره -، وضاعف عليه العقاب, مما جعل أُولى النُّهى يبالغون في المحافظة على حرمته، ويبتعدون عن كل ما يمس قدسيته, وكانوا يعدون شتم الخادم فيه إِلحادًا بظلم، واليمين اللغو كذلك، كقولهم: لا والله، وبلى والله، مع أَنها غير مؤْثمة في غير الحرم، أَخرج ابن جرير عن مجاهد قال: (كان لعبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - فسطاطان، أَحدهما في الحل، والآخر في الحرم, فإِذا أَراد أَن يصلى صَلَّى في الذي في الحرم، وإِذا أَراد أَن يعاتب أَهله عاتبهم في الذي في الحل, فقيل له. فقال: نُحدَّث أَن من الإِلحاد فيه: لا والله، وبلى والله) ويروى عن عبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضى الله عنهما - إن من الإِلحاد في الحرم أَن نقول: كلاَّ والله، وبلى والله. وكان مجاهد يرى (أَن المعاصي تُضَاعف بمكة كما تضاعف الحسنات) فتكون المعصية معصيتين: إِحداهما: بنفس المخالفة، والثانية: بإِسقاط حرمة البلد الحرام - وقال الخفاجى: الوعيد على الإِرادة المقارنة للفعل، لا على مجرد الإرادة، وبه قال ابن مسعود وعكرمة. اهـ من تفسير روح المعانى.

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} المفردات: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}: أَي جعلنا مكانه مباءَة ومرجعا يعود إليه إبراهيم للعبادة والعمارة، ويقال: بوأْته الدار, وبوأْت له الدار بمعنى: أَسكنته إياها. {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}: أَي لا تشرك بى في العبادة شيئًا, بل اجعلها لى وحدى. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: أَي واجعل ساحته نقيَّة طاهرة من الأَصنام والأَوثان؛ ليكون خالصًا للطائفين والمصلين لرب العالمين. التفسير 26 - {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ... } الآية. أَي: واذكر - أَيها النبي - وقت جَعلنا مكان البيت مباءَة لإِبراهيم يرجع إِليه للعمارة والعبادة، وأَذنَّا له ببنائه بمعاونة ولده إِسماعيل. وقال الزجاج: المعنى: بَيَّنَّا له مكان البيت ليبنيه، ويكون مباءَة له ولعقبه، يرجعون إِليه ويحجونه. ويقال: إِنه كان مبنيا قبل أَن يؤْمرا إِبراهيم ببنائه، ولكنه كان قد دَرَسَ وفنى من عوادى الزمن، فكشف الله لإِبراهيم عن أَساسه بما أَرسله يومئذ من ريح عاتية, أَزالت عنه ما كان يطمس معالمه، ويخفى حدوده، ويَسْتُر رسومه. وتوجيه الأَمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - أَن يذكر الوقت الذي وقعت فيه تلك الحوادث ولم يُوَجَّه إِليه ليذكر الحوادث نفسها مع أَنها هي المقصودة لِذاتها - للمبالغة في إِيجاب

ذكرها؛ لأَن الوقت مشتمل عليها، فإِذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها، كأَنها مشاهدة عيانا، والسياق يشير ظاهره إِلى أَن قواعد البيت كانت مبنية قبل إِبراهيم - عليه السلام - وأَنه تعالى هداه إِليها. روى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (¬1) أَنه قال: هي القواعد التي كان عليها البَيْت قبل ذلك. اهـ وبعد هذا بنته قريش في الجاهلية، وحضر بناءَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شابًا، ثم بناه عبد الله بن الزبير، ثم الحجاج بن يوسف الثقفى وهو البناءُ الموجود اليوم - كما قاله الآلوسى. {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أَي: قائلين له: لا تشرك بى في العبادة شيئًا بل اجعلها خالصة لى وحدى. والخطاب - لإِبراهيم عليه السلام - ونهيه عن الشرك نهى لأَبنائه، وأَتباعه وكل من تناسل منهم وإِشارة إِلى خطيئة كل من أَشرك بالله من قُطَّان البيت وسكانه. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَي: وطهره من الشرك والأَرجاس والأَصنام، ليكون خالصًا للموحدين الطائفين حوله، والمصلين فيه أَو حوله، أَو متجهين إِليه إِذا صلوا بعيدا عنه. والتعبير عن الصلاة بالقيام والركوع والسجود؛ لأَنها من أَعظم أَركانها، وقد دلت الآية على أَن الطواف لا يشرع إلا حول البيت، وأَن الاتجاه في الصلاة لا يكون إِلا إليه، ما لم يمنع من ذلك مانع، وقد فصَّلَتْ كتب الفقه ذلك. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} المفردات: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَي: ناد فيهم وادعهم إلى الحج. {يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: مشاة. ومفرد {رِجَالًا}: راجل - أَي ماش على رجليه -، والفعل: رَجِلَ، كفرح. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 127

{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: أَي ركبانا على كل بعير مهزول من طول السفر وبعد المشقة، وفعله من بابى: قَعَد وقَرُب. {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: الفج الطريق الواسع بين جبلين. ويرادَ به هنا: مطلق طريق، والعميق: هو البعيد. وفعله ككرم وسَمِع أَي: من كل طريق بعيد. التفسير 27 - {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا .... } الآية. لما فرغ إِبراهيم - عليه السلام - من بناءِ البيت أُمِر بأَن ينادى في الناس داعيًا إِياهم أَن يحجوا هذا، البيت أَي: يقصدوه للنسك، فلبى أَمر ربه، قيل: إِنه صعد أَبا قُبيس من جبال مكة، فقال: يأَيها الناس حجوا بيت ربكم، فأَسمعه الله تعالى من في أَصلاب الرجال وأَرحام النساءِ فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه تعالى أَن يحج، قائلا: لبيك. والذى نراه: أَن المقصود من الأَمر الكريم أَن يبلغ إبراهيم - عليه السلام - أَن الله تعالى قد شرع لعباده حج بيته، وأَوجبه على القادرين منهم مشاة وركبانا، وقوله جل شأْنه {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}: جواب لأَمره - عليه السلام - بالأَذان، ووعد منه - سبحانه - بأَن يستجيب الناس إِلى ندائه وتبليغه، فيأْتوه رجالا أَي: مشاة، جمع راجل بمعنى ماش، وركبانا على كل بعير مهزول، أَضناه السفر، وأَتعبه بعد الشُّقة، فلحقه الهزال أَو جعله يزيد فيه {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}: الجملة صفة لضامر محمولة على المعنى، فكأَنه قال: وركبانا على ضوامر يأْتين من كل طريق بعيد، وفي هذا إِشارة إِلى أن من رغب في أَداءِ فريضة الحج لا يقف في طريقه ضعف الراحلة ولا بعد الشُّقة ولا زيادة المشقة ولا ضيق العيش ما دام ذلك في دائرة احتماله، وإِنما قال يأْتوك، وإِن كانوا يأْتون الكعبة - لأَن المنادِى إِبراهيم - عليه السلام - فمن أَتى الكعبة حاجا فكأَنما أَتى إِبراهيم لأَنه أَجاب نداءَه. ولما قال سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ... } الآية. عقَّبه ببيان فوائد الاستجابة. فقال تعالى:

{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} المفردات: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}: ليحضروا منافع لهم, وفعله: شهد, كسمع. {مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}: المراد من بهيمة الأَنعام، الإِبل والبقر والغنم، والبهيمة في الأَصل: كل ذات أَربع قوائم ولو في الماءِ، أَو كل حى لا يميز, والجمع بهائم, والأَنعام مفرده نعم بالتحريك. وقد تسكن عينه. {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} البائس: من نزل به الضر وفِعْلهُ: بئس, كعلم, والفقير: من قَلَّ ماله, وفِعْلهُ كتَعبِ. {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}: ثم ليزيلوا بعد التحلل من الإِحرام أَوساخهم , وفعله: تفث، كفرح، فهو تفِث إِذا ترك الاستحمام فعلاه الوسخ. {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: أَي وليؤَدوا ما أَوجبوه على أَنفسهم, وفعله من بابى: ضرب وقعد. {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: أَي القديم؛ لأَنه أَول بيت وضع للناس في الأَرض. التفسير 28 - {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .... } الآية. والمعنى: أَن حجاج بيت الله الحرام يأْتونك يا إِبراهيم من مختلف البقاع تلبية لندائك ليحضروا منافع لهم كثيرة العدد والخطر: دينية ودنيوية, أَما الدينية ففيما ينالونه

من مثوبة ومغفرة لأَدائهم المناسك على وجهها المشروع، وتعظيمهم الحرمات وتقديرها حق قدرها. وأَما الدنيوية ففيما يصيبونه من ربح في التجارة، وبما يحصلون عليه من لحوم الهدايا وما يذبحه الحجاج جزاءَ مخالفتهم لما وجب عليهم من المناسك، إِلى غير ذلك من التعارف والتآلف، وإِحكام الصِّلاتِ بين الأَفراد والجماعات والأُمم الإِسلامية، وحل مشكلاتهم السياسية والمالية والاجتماعية {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ}: عند الذبح والنحر للهدايا والضحايا ودماءِ الحج، مثل قولهم: باسم الله والله أَكبر اللهم هذا منك وإِليك. وبذلك أَوجب الله ذكر اسمه عند الذبح ليحل أَكل المذبوح كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬1). وكان الكفار يذبحون على أَسماءِ آلهتهم. فبين جل ثناؤُه أَن الواجب أَن يكون الذبح على اسم الله. {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}: هي أَيام النحر, وهي ثلاثة أَيام: يوم العيد ويومان بعده. وبذلك قال جماعة من العلماءِ منهم الثورى، وسعيد بن جبير، وقيل أَربعة: أَيام: يوم العيد وثلاثة بعده. وبذلك قال الحسن وعطاءُ والشافعى وقيل غير ذلك (¬2) ويُنبىءُ عن أَنها أَيام النحر قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}: فإِنه يشير إِلى أَن المراد بالذكر هنا: ما يقع من ذكر الله عند الذبح في تلك الأَيام، وفي التعبير عن الذبائح بأَنها من رزق الله، إيذان بأَنها من نعمه تعالى عليهم، فلا يليق بهم أَن يبخلوا بها، فهى منه وإِليه. {فَكُلُوا مِنْهَا}: الأَمر فيها لإِباحة الأَكل منها لصاحب الهدى والأُضحية ولأَهله عند قوم، وللاستحباب والندب عند آخرين، مواساة للفقراءِ ومساواة لهم ويتصدق بالأَكثر وذهب أَكثر العلماءِ إلى أَنها تقسم أثلاثا فيتصدقون بالثلث ويهدى الثلث ويأْكل هو وأَهله الثلث، وممن ذهب إلى أَن الأَكل مباح وليس مندوبا أَبو حنيفة وسفيان الثورى، فقد قال: كان المشركون لا يأْكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاءَ أَكل ومن شاءَ لم يأْكل. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 118 (¬2) انظر كتب الفقه.

وروى عن مجاهد وعطاءٍ مثل ذلك بناءً على أَن الأَكل كان منهيا عنه شَرعًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن أَكل لحوم الأَضاحى فكلوا منْها وادَّخروا". والأَمر بعد المنع يفيد الإِباحة لا الندب. {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}: الأَمر للوجوب - كما نقله الأَلوسى عن بعض الشافعية، أَي وَأَطْعِمُوا منها البائس الذي نزل به الضر، فأَصابته الشدة، وبدت عليه الحاجة، وعن مجاهد وعكرمة: تفسيره بالذى يمد يده إِلى الناس يَسأل، والفقير بمعنى المحتاج صفة للبائس مؤَكدة لمعناه (¬1). وتخصيص البائس الفقير بالإِطعام لا ينافى جواز إِطعام الغَنىّ على سبيل الهدية كما تقدم بيانه. 29 - {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: أَي: ثم ليزيلوا بعد التحلل من الإِحرام أَوساخهم، وذلك بالاستحمام وتقليم الأَظافر، وترجيل الشعر، وقص الشارب، وغير ذلك من أُمور تستلزمها النظافة {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}: بتأْدية ما أُمروا به من مناسك حجهم، والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه وأَدَّاهُ: وفَّى نذْرَهُ. والمعنى. وليوفوا بما ينْذرونه من أَعمال البر في حجهم, والوفاءِ بالنذر واجب مطلقا، وليس مختصا بالحج، ما دام النذر في غير معصية, ولكن الوفاءَ به في الحج أَحق وآكد. {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: هو طواف الإِفاضة، وهو الركن الأَهم بعد الوقوف بعرفة. وقيل: هو طواف الوداع. ووصف البيت بالعتيق للإِشارة إلى أَنه قديم لكونه أَول بيت وضع للناس كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} (¬2) أَو للإِشارة إِلى أَن الله أَعتقه من أَن يتسلط عليه جبّار إِلى انقضاءِ الزمان، وكم من جبار سار إِليه ليهدمه فقصمه الله ورده عنه مخذولا. ¬

_ (¬1) وقد يستعمل البائس فيمن نزلت به نازلة، وإِن لم يكن فقيرا؛ وعلى هذا تكون (الفقير) صفة مقيدة للموصوف ببيان صفة الفقر فيه. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 96

وفي الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما سمّى البيت بالعتيق لأَنه لم يظهر عليه جبار) {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} المفردات: {حُرُمَاتِ اللَّهِ}: هي كل ما لا يحل انتهاكه والتهاون في تعظيمه. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}: الرجس كل شيءٍ يستقذر ويراد به الأَوثان كما هنا وهي من حجر أَو خشب أَو غيرها. {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ}: أَي تسقط به إِلى أَسفل. وفعله من باب: ضرب، يقال: هَوَى يهْوِى هَويَّا، وهُوِيَّا. {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}: أَي بعيد، فعله. مثل بَعُد وزنًا ومعنى. التفسير 30 - {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ .... } الآية. أَي: ذلك التشريع الذي سبق بيانه يجب اتباعه والالتزام به لكل حاج، أَو امتثلوا ذلك التشريع الذي تقدم بيانه. (¬1) ¬

_ (¬1) كلمة (ذلك) أو (هذا) تذكر للفصل بين كلامين؛ أو بين جهتى كلام واحد، وقد جرى المفسرون على أن يقدروها ضمن جملة مقيدة ترتبط بالمقام على نحو ما بيناه.

{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}: استئناف لتقرير حكم ما قبله ببيان أَن الحرمات المقصودة بالتعظيم هنا هي أَعمال الحج المشار إليها في الآيات السابقة وأَماكنها كعرفة والكعبة ومنى ونحوها؛ قاله ابن زيد وغيره. وعن ابن عباس: هي جميع المناهى في الحج، وتعظيمها أَلَّا يحوم حولها؛ أَي: لا يقربها. وقيل: حرمات الله هي كل ما لا يحل انتهاكه، ولا يجوز الاستهانة به، وجميع التكاليف الشرعية تتصف بهذه الصفة فتشمل مناسك الحج وغيرها وعلى هذا يكون المراد من تعظيمها هو العلم بوجوب مراعاتها، والعمل بمقتضى هذا العلم، فلا خير في علم بغير عمل بمقتضاه، وبهذا التأْويل تكون هذه الآية عامة في الحج وغيره، وهو الظاهر. والمعنى الإِجمالى للآية: ذلك التشريع يجب تعظيمه، ومن يعظم تكاليف الله وشرائعه بعلمه بقداستها، وعمله بمقتضى هذا العلم، فهذا التعظيم خير له عند ربه، حيث يثيبه عليه ثوابًا عظيما في أُخراه ولا يحرمه من فضله في دنياه. {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: أَي وأُحل لكم ذبح الأَنعام، والأَكل منها في الحج وغيره، إِلا ما تلى عليكم تحريمه من قبل، والأَنعام حلال بأَنواعها، وتشمل الإِبل والبقر والغنم إِلا ما حرمه الله لعارض، كالموت، وذكر اسم الأَوثان عند ذبحها، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... } (¬1) الآية، وقد نزلت آية المائدة قبل آية الحج، وإِنما عبر عنها بصيغة الحاضر والمستقبل {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} بدلا من صيغة الماضى - إِلا ما تلى عليكم - للإِيذان بأَن تلاوة هذه الآيات تتردد على أَسماعكم منذ نزولها إِلى الآن وبعد الآن. ولما حث الله على تعظيم حرماته، أَتبعه الأَمر باجتناب الأَوثان وقول الزور فقال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}: أَي فابتعدوا عن الرجس الذي هو الأَوثان، وكانت العرب تتخذها من الأَحجار أَو الأَخشاب أَو الذهب أَو الفضة أَو نحوها، ويعبدونها إشراكا وكفرا، وطلب اجتناب ذواتها للمبالغة في البعد عنها لأَنها نجس وقذر لا ينبغي القرب منه ¬

_ (¬1) من الآي

فضلا عن عبادتها التي لا يليق وقوعها من إِنسان عاقل. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}: تعميم بعد تخصيص؛ فإِن عبادة الأَوثان هي رأْس الزور لما فيها من ادعائهم أَنها مستحقة للعبادة. أَي: واجتنبوا في كل ما تنطقون به قول الزور في عبادة أَو غيرها، حيث كانوا يقولون: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (¬1) والزور: هو الكذب لأَن فيه انحرافا وميلا عن الحق. وقد قرن النهي عن قول الزور بالنهي عن الشرك لما له من أَسوأ الأَثر في إِثارة العداوات، وغرس الأَحقاد وتفتيت الجماعات بل قد يتمادى الكاذب فيكذب على ربه وخالقه في غير استحياءٍ ورهبة، ومن قول الزور: الشهادة بغير الواقع، فهى زور ينكر حقًّا ويثبت باطلا. وفي الصحيحين عن أَبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أَلا أُنبئكم بأَكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: أَلا وقول الزور. أَلا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت). 31 - {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ... } الآية. أَي: فاجتنبوا في إِسلامكم ما نهيتم عنه من عبادة الأَوثان، وقول الزور في حال كونكم مائلين عن كل دين زائغ وغير مشركين به - سبحانه - شيئًا من الأَشياءِ، فكل ما سواه - سبحانه - فهو مخلوق له، فلا يصح أن يعبد معه. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} جملة مبتدأَة لإِظهار قبح الإِشراك وسوءِ عاقبته. والمعنى: ومن يشرك بالله فهو بمنزلة من سقط من السماء، وعرّض نفسه لأَبشع صورة من صور الهلاك حيث يتمزق قطعا، ويتناثر أَشلاءً {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}: وتتناول أَجزاءَه، فلا تبقى له أَثرا {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}: أَو تشبه حاله حالَ من عصفت به الريح في مكان بعيد، فكان فيه من الهالكين، وفي كلا التشبيهين تيئيس للكافر من النجاة؛ حيث لا يستطيع أَن يدفع عن نفسه الهلاك الذي ينزله الله به في الآخرة، حيث يصلى فيها {نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}. ¬

_ (¬1) سورة يونس، من الآية:

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)} المفردات: {شَعَائِرَ}: الشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، والبدن من شعائر الحج أَي: علاماته المميزة. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}: إِلى وقت ذبحها أَو إِلى وقت إِيجابها وتسميتها هَدْيًا. {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: أَي مكان وجوب ذبحها أَو زمانه إلى جوار البيت العتيق حيث تذبح بمنى أَو بأَى مكان بالحرم. التفسير 32 - {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}: أَي: الأَمر الذي يجب الالتزام به ذلك المذكور من أَعمال الحج في الآيات السابقة، أَو اتبعوا ذلك {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} استئناف لتقرير ما قبله، أَي: ومن يعظم أَوامره وهي كل شيءٍ لله تعالى فيه أَمر أَشعر به وأَعلم. والمقصود بشعائر الله هنا: الهدايا التي تساق إلى فقراء الحرم فإنها من معالم الحج وشعائره، كما ينبىءُ عنه قوله سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ولدلالة الآية التالية على ذلك، وتعظيمها اعتقاد أَن التقرب بها من أجلِّ القربات وأَفضلها، ويراعى في اختيارها أَن تجمع بين السلامة من العيوب، والسِّمن كما روى عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} أَي: فإِن تعظيمها أَثر من آثار تقوى القلوب التي امتلأَت بتقوى الله وخشيته. وفي تقييد التقوى بالقلوب - كما قال الآلوسى في تفسيره: إشارة إِلى أَن التقوى قسمان: تقوى القلوب, والمراد بها

التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق. أَمَّا تقوى الأَعضاءِ, فالمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرًا ما تخضع أَعضاؤُه، وقلبه لاه. 33 - {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: أَي: لكم في الهدايا منافع دنيوية في أَلبانها، وأَصوافها، وأَوبارها، وأَشعارها, ونسلها وركوبها إلى وقت إِيجابها وبعثها هَدْيًا، وحينئذ ليس لكم شىءٌ من منافعها، قاله ابن عباس. وقال عطاءٌ: منافع الهدايا بعد إِيجابها وتسميتها هديا أَن تُرْكب ويشرب لبنها عند الحاجة إِلى أَجل مسمى وهو وقت النحر. وقال مجاهد: فإِذا سُمَّيَتْ بدنةً أَو هدْيًا ذهب ذلك كله. وقال آخرون: بل له أَن ينتفع بها وإِن كانت هَديا إِذا احتاج إِلى ذلك, كما ثبت في الصحيحين. (عن أَنس أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأَى رجلًا يسوق بدنة قال: اركبها. قال إِنها بدنة، قال: اركبها ويحك) ويؤْخذ من ذلك: أَن للمُهدين أَن ينتفعوا بهداياهم ما داموا في حاجة إِلى الانتفاع بها، وذلك بركوبها، وشرب لبنها - بعد ريِّ فصيلها - إِلى وقت ذبحها. {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}: {مَحِلُّهَا}: أَي وجوبها، فهى مصدر ميمى مأْخوذ من حَلَّ الدين إذا وجب أَداؤُه، والمراد أَن وجوب نحرها ينتهى في الحرم إلى جوار البيت العتيق، إِكراما لزواره، وتعظيما لمكانه، وقد ورد في الحديث: "كل فجاج مكة منحر، وكل فجاج منى منحر" قال القفال: وهذا في الهدايا التي تبلغ منى، وأَما الْهَدْىُ الْمُتَطَوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة، فمنحره موضعه. وقيل: الشعائر: المناسك كلها. وتعظيمها: إتمامها. والمعنى لكم فيها منافع من الأَجر والثواب في قضاءِ المناسك إِلى انقضاءِ أَيام الحج، ثم تَحلُّلُ الناس من إِحرامهم إِلى البيت العتيق أَي: منتهٍ عنده بأَن يطوفوا طواف الإفاضة يوم النحر.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} المفردات: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} الأُمة: هي الجماعة على مذهب واحد. {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} المنسك: بفتح السين وكسرها. موضع الذبح أَو الذبح وإِراقة الدم، والنسيكة: الذبيحة، وجمعها نُسُك بضمتين والفعل من باب نصر. {فَلَهُ أَسْلِمُوا}: أَي استسلِمُوا وانقادوا. {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}: وهم الذين خضعوا لله وخشعت قلوبهم، يقال: أَخبت الرجل إِخباتا فهو مخبت أَي: هو خاضع خاشع. {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: خافت وخشيت. {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}: هم الذين يحبسون الجزع إِذا نزلت بهم نازلة، وفعله من باب: ضرب. التفسير 34 - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .. } الآية. أَي: ولكل أَهل دين من الأَديان السماوية السابقة، أَو ولكل جماعة مؤْمنة، جعلنا لهم مكانا للذبح وإِراقة الدماءِ، تيسيرًا لهم، وتمكينا لمن يريد التقرب إِليه تعالى بإِطعام عباده في مناسكهم، وفسر مجاهد المنسك: بالذبح على أَنه مصدر ميمى، يريد أَنه تعالى شرع لكل أَهل دين أَن يذبحوا تقربا إِلى الله تعالى، لا لبعضهم دون بعض، واختاره الزمخشرى.

وقال الفراءُ: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خَيْرٍ وَبِرٍّ، وفسره هنا: بالعيد، وقال ابن عرفة في قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أَي: مذهبا من طاعة الله تعالى، يقال: نَسَك نُسْكَ قومه، إذا سلك مذهبهم. {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}: أَي ليذكروا اسم الله وحده دون غيره عند ذبحها تعظيمًا له وشكرًا على ما أَنعم عليهم من بهائم الأَنعام: الإِبل، والبقر, والغنم. وفي ذلك إِشارة إِلى أَن القرابين لا تكون إِلا منها {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}: أَي: فإِلهكم أَيها المخاطبون إِله واحد لأَن شريعتكم وشرائع الأَنبياءِ السابقين وإِن تنوعت ونسخ بعضها بعضًا، كلّها قائمة على التوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُوا}: أَي فإِذا كان إِلهكم واحدًا منزها عن الشريك، فاستسلموا له وانقادوا لأَمره. وأَخلصوا له القول والعمل، واجعلوهما لوجهه ولا تشوبوهما بشرك {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}: أَي وبشر أَيها النبي أُولئك المخلصين المتواضعين - بشرهم - بالجنة والثواب العظيم، قال عمرو بن أَوس: (المخبتون الذين لا يظْلمون، وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا) أَي، لم ينتقموا: من الانتصار بمعنى الانتقام أَي: عفوا عن ظالميهم. 35 - {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ... } الآية. تُعَدِّد الآية أَوصاف المخبتين المبشرين بالجنة فتذكر أَن من أَجل صفاتهم أَنهم إِذا ذكر الله اضطربت قلوبهم خشية منه ورهبة، وذلك لقوة إِيمانهم وعمق يقينهم. {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}: من كوارث الزمن بتحمل المتاعب وحبس الجزع بنفس راضية، وإِيمان بقضاءِ الله وقدره. {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ}: في أَوقاتها وعلى أَكمل صورها حسبما شرعها الله. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: أَي ومن بعض ما آتيناهم من طيب الرزق ينفقون في أَوجه البر والخير التي تعود على دينهم ومجتمعهم بالنفع والصلاح.

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} المفردات: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ}: البدن جمع بَدَنة بالتحريك وأَصل الجمع: (بُدُن): بضمتين ثم خفف بتسكين وسطه وهي: الإِبل وكذا البقر كما قيل: وستأْتى مناقشته. {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: جمع شعيرة، أي علامة، فالبدن من علامات دين الله في الحج {عَلَيْهَا صَوَافَّ}: أَي قائمات قد صففن أَيديهن وأَرجلهن استعدادًا لنحرها. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}: أَي سقطت على الأَرض بعد ذبحها. يقال: وجب الحائط يجب وجبة إِذا سقط. {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}: القانع الذي لا يسأَل الناس ويقنع بما عنده، وفعله من باب فرح يفرح، ومصدره القناعة، والمعتر: هو المتعرض للسؤَال، من اعتَّره إِذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروى عن ابن عباس. {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ}: أَي ذللناها ومكناكم منها. التفسير 36 - {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .... } الآية. هذه الآية امتنان من الله جل ثناؤُه على عباده حيث خلق لهم البدن، وجعل ذبحها من أَعلام الدين ومظاهره، ويسر لهم إِهداءَها إلى البيت الحرام تقربا إِليه سبحانه، وهي

حين تهدى إِلى بيته تكون من أَفضل ما يهدى إليه. والمراد منها هنا: الإِبل والبقر وَفْق ما قاله جمهور العلماءِ من أَن البدنة تُجزىءُ عن سبعة والبقرة تُجزىءُ عن سبعة كما جاءَ في حديث مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: أَمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن نشترك في الأَضاحى. البدنة عن سبعة. والبقرة عن سبعة لذلك جعلا في الشريعة جنسًا واحدًا أُريد به نوعان لتساويهما في الإجزاء عن عَدَد متَّحد فضلا عن تساويهما تقريبًا في البدانة وضخامة الجسم. وقيل: إِن البدن خاص بالإبل بدليل الحديث الصحيح في يوم الجمعة: (من راح في الساعة الأُولى فكأَنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأَنما قرب بقرة ... ) الحديث. فتفريقه - عليه السلام - بين البدنة والبقرد يدل على أَن البقرة لا يقال عليها بدنة، وإِن كانت تكفى مثلها عن سبعة وأَيضًا قوله تعالى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك فإِن الوصف خاص بالإبل أَما البقر فتضجع وتذبح كالغنم اهـ بتصرف من تفسير القرطبى. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}: أي لكم في البدن المهداة إلى الحرم نفع في الدنيا بركوبها وشرب لبنها والانتفاع بصوفها ووبرها متى كنتم في حاجة إِلى ذلك، ولكم فيها أَجر عظيم في الآخرة لتقربكم بها إِلى رضا ربكم, والجملة مستأْنفة. مقررة لما قبلها. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}: أَي فابدأُوا بالتسمية عند نحرها قائلين: بسم الله والله أَكبر اللهم هذا منك وإليك. وقد أَخرج ذلك جماعة عن ابن عباس. ويكون النحر لها قائمات قد صففن أَيديهن وأَرجلهن, وقرىءَ: صوافن, جمع صافنة أَي قائمات على ثلاث وتُعْقَل إحدى يديها. وعَقْل إحدى يديها سنة. فقد أَخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أَنه رأَى رجلا قد أَناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة، سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}: أَي فإِذا سقطت على الأَرض بعد نحرها قائمة، وذلك كناية عن سكون حركتها وموتها، وهذا يؤيد أَن البُدْن المهداة تكون من الإِبل دون البقر، لأَنه لم تجر العادة بينهم أَن تذبح البقرة قائمة. وإِنما تذبح مضطجعة، وقلَّما شوهد بينهم نحر البدنة وهي مضطجعة، وكون البقرة

عن سبعة في الأُضحية، لا يقتضي إِطلاق اسم البدنة عليها، ولا كفايتها عنها في الهدى {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}: الأَمر بالأَكل للإِباحة مخالفة للمشركين؛ لأَنهم كانوا لا يأْكلون من هديهم ويقولون بحرمته، والأَمر الثاني للندب, أَي: فيباح للمُهْدِى أَن يأْكل من هديه ولو لم يأْكل منه جاز، وأَوجب بعض الفقهاءِ أَكله منه، ويندب له أَن يُطعم منه القانع والمعتر، ولو صرفه جميعه لنفسه جاز ولم يضمن شيئًا, ولكن الأَولى أَن يقسم أَثلاثا ثلثا لصاحبه، وثلثا للقانع، وثلثا للمعتر. وروى ذلك عن ابن مسعود والآية تشير إليه، وقال بعضهم: لا تحديد فيما يؤكل أَو يطعم لإِطلاق الآية. وهو الظاهر. ويراد بالقانع: من رضى بما عنده ولم يتعرض للسؤال، وفعله قَنِعَ من باب فرحَ يقنَع قناعة. ويراد بالمعتر: الذي يطيف بد ويُلمُّ راغبا في عطائك ساكتا أَو سائلا، من اعترَّه إِذا تعرض له للسؤال كما تقدم بيانه في المفردات، وتخصيص الإِطعام في الآية بالقانع والمعتر، لا ينفى جواز إِطعام الموسرين قياسًا على جواز أَكل المُهْدين وإِن كانوا أَغنياء. وما ذكر من إِباحة الأَكل، وندب الِإطعام إِنما هو في هدى التطوع أَما ذبائح الكفارات فعلى صاحبها التصدق بجميعها، فما أَكله منها أَو أَهداه لغنى ضمنه، وفي هذا الموضوع خلافات مذهبية فارجع إِليها في موسوعات التفسير أَو كتب الفقه. {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ}: أَي مثل هذا التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: "صوافَّ" سخرناها لكم فلا تستعصى عليكم مع قوتها وعظم أَجرامها حتى أَنكم تأْخذونها وتحبسونها صواف ثم تطعنونها في لبَّاتها، ولولا تسخير الله لم تخضع، ولم تكن بأْعجز من بعض الوحوش التي هي أَقل منها حجما وأَضعف قوة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أَي لكي تشكروا آلاءَ الله المتتابعة عليكم، بالتقرب إليه بما يجب عليكم من امتثال لأمره وإِخلاص في عبادته. 37 - {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ... } الآية. قال ابن عباس: "كان أَهل الجاهلية يُضَرِّجُونَ البيت بدماء البُدْن فأَراد المسلمون أَن يفعلوا ذلك فنزلت الآية" {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا .. }: أَي أَنه تعالى ليس له حاجة إِلى لحومها ودمائها، حتى تضرجوا بها بيته، ولكن يناله التقوى منكم ف

أعمالكم، ومنها إطعام المساكين من لحومها، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإِخلاص في الأَعمال والقربات، كما جاءَ في حديث مسلم "إِن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إِلى أَموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأَعمالكم". {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ}: أَي مثل هذا التسخير العجيب سخرها لكم, وجعلها منقادة خاضعة. فلا تستعصى عليكم مع ضخامتها. وكرر - سبحانه - الامتنان على عباده بتذليلها لهم وتمكينهم منها تذكيرا لهم بتلك النعمة العظيمة التي تفضل بها عليهم. {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}: أَي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه أَحد من هدايتكم إِلى طريقة تسخيرها، وإِرشادكم إِلى الانتفاع والتقرب بها فتفردوه بالعبادة؛ شكرا له على هدايتكم لذلك. وقيل: لتكبروا الله عند الذبح، وقد أُمروا بالتسمية في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} وكان ابن عمر يجمع بينهما إِذا نحر هديه فيقول: باسم الله والله أكبر وهذا من فقهه - رضى الله عنه -. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}: أَي وبشر - أيها النبي - المحسنين في أَعمالهم، بالإِخلاص فيها، والقيام بها كما شرعه الله تعالى من غير مَنٍّ ولا أَذى, وعن ابن عباس: هم الموحدون.

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} المفردات: {خَوَّانٍ كَفُورٍ}: الخَوَّانُ؛ الكثير الخيانة, والكَفُور: الشديد الكفر. {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}: بسبب كونهم مظلومين. {صَوَامِعُ}: جمع صومعة، وهي متعبَّد خاص برهبان النصارى. {وَبِيَعٌ}: جمع بِيْعَة بوزن حرفة، وهي متعبَّد النصارى عامة. {وَصَلَوَاتٌ}: جمع صلاة وهي كنيسة اليهود، وأُطلق عليها صلاة لأَنهم يصلون فيها، وذلك من إِطلاق اسم الحالِّ على المحل، أَو المظروف على الظرف. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}: أَي له تعالى مرجعها تدبيرًا وحُكْمًا. التفسير 38 - {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}: هذه من الآيات التي نزلت بعد الهجرة إِلى المدينة، قد تقدمتها آيات تتعلق بالحج

وأَحكامه ومناسكه ومنافعه، وكل ذلك يؤَدَّى بمكة، وَحَرمِهاَ، وأَنَّى للمهاجرين المضطهدين أَن يصلوا إِليها حاجِّين أَو معتمرين، تلبية لنداءِ جَدِّهم إِبراهيم الذي حكاه الله من قبل بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الآيات (37 - 39) أَنى لهم أَن يحجوا ويعتمروا وقريش لهم بالمرصاد؟ تصدهم عن حماه، وتحرمهم من أَداءِ فريضة الله، وتمنع معهم مَن انْضَمَّ إِليهم وأَسلم من أَنصار المدينة, وهم بعدُ لم يؤْذن لهم بحرب ولا قتال. فلهذا كله أَنزل الله تلك الآية لبعث الأَمل في نفوس المؤْمنين وطمأَنة قلوبهم ببيان أَنه - تعالى - ناصرهم على أَعدائهم, وممكنهم من الوصول إِلى بيته, تحقيقًا لقوله من قبل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1). والمعنى الإِجمالى للآية: إِن الله يَدْفَعُ عن الذين آمنوا به وبرسوله غائلة أَعدائهم المشركين إِن أَرادوهم بسوءٍ أَوصدوهم عن المسجد الحرام - يدفع عنهم شرورهم دفعًا بليغًا - لأَنه تعالى لا يحب كل خوان لأَمانة الله، كفور بنعمة الله، وهؤُلاءِ المشركون خانوا الله ورسوله وأَولياءَه، وخانوا أَماناتهم، وكفروا بربهم، وعَصَوْا رسوله وكفروا به وآذوه ومن آمن معه من المؤمنين، وأَخرجوهم من ديارهم وبالغوا في كفرهم وخيانتهم، فلهذا استحقوا أَن ينتقم الله منهم، ويدفع أَذاهم عن عباده المؤمنين الذين يحبهم ويرضى عنهم. 39 - {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}: وَعَدَ الله في الآية السابقة بالدفاع عن الْمُؤْمنين ومساندتهم تمهيدًا لهذه الآية التي أَذن لهم فيها بقتال المعتدين عليهم المخرجين لهم من ديارهم، وأَكد فيها وعده السابق. ¬

_ (¬1) سورة الحج آية: 25

روى الواحدى وغيره: أَن المشركين كانوا يؤْذون أَصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم بمكة، وكانوا يأْتونه ما بين مضروب ومشجوج، يتظلمون له, فيقول لهم: اصبروا فإِنى لم أُومر بالقتال، حتى هاجر فَأُنْزِلِت هذه الآية. وهي أول آية أُنزلت في القتال بعد ما نُهيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه في نَيِّف وسبعين آية، على ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس - رضى الله عنهما -. ومن نص الآية نعلم أَنه تعالى إِنما أَذن لهم بالقتال بسبب أَنهم ظلموا من المشركين، حيث آذوهم وأَخرجوهم من ديارهم وذويهم وأَموالهم، فهو قتال يراد به الانتقام ممن آذوهم، وإِثبات أَنهم أصبحوا قوة يحسب حسابها عندما يريدون العدوان عليهم، وكل ذلك تقره الأَعراف الدولية، فمن لم يَتَذَأبْ أَكلته الذئاب، وتعتبر هذه الآية قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعى، وإن نزلت بسبب خاص. ومعنى الآية: أَذن الله للمؤْمنين الذين يقاتلهم غيرهم، بأَن يعتدوا عليهم أَو على دورهم أَو وطنهم أَو أَموالهم أَو يؤَلبوا عليهم سواهم. أَذن الله لهم في قتالهم، بسبب ظلمهم إِياهم، وإِن الله على دفع هؤُلاءِ الظالمين عن المؤْمنين ونصرهم عليهم لعظيم القدرة, فليثقوا بوعده وليطمئنوا إِلى تأْييده، وليأْخذوا بالأَسباب. 40 - {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}: هذا وصف مؤَيد للإِذن بقتال المهاجرين للمشركين حقق الله به وقوع الظلم منهم عليهم، وأَن من حقهم أَن يدفعوا الظلم عن أَنفسهم. وقد أُجْرِيَ هذا الوصف مجْرَى المدح لهم، على أَنه خبر لمبتدأ محذوف، وكأَنه قيل: هم الذين أُخرجُوا من ديارهم بغير ذنب يستحقون به هذا الإِخراج إِلا أَنهم يخالفون من أَخرجوهم في شركهم، فيقولون: ربنا الله لا نعبد سواه، فهل يعتبر قول الحق وعقيدة الصدق ذنبا يستحقون التهجير والإِخراج من الوطن الغالى بسببه؟ إِنه لظلم مبين، وعدوان أَثيم.

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}: في هذا الجزءِ من الآية يحث الله المؤْمنين على القتال لأَعدائهم بعد أَن أَذن لهم فيه, فقد بين لهم أَنه تعالى أَجرى العادة في الأُمم السابقة أَنه لا يُدْفَع الشر إِلا بمثله والبادئ أظلم، وذلك لكي ينتظمَ أَمر الناس ويسودَ الأَمن بينهم, وتقوم الشرائع وتصان المعابد. فكأَنه قيل: قد أَذنَّا للمؤْمنين بقتال من ظلموهم وأَخرجوهم من ديارهم بغير حق، فليقاتلوهم ليدفعوا شرهم، ويصونوا مساجدهم، فلولا القتال وتسليط المؤْمنين على المشركين في كل عصر وزمان، لهدِّمت معابدهم، واسْتبيحت حرماتهم. والصوامع: جمع صومعة. وكانت قبل الإِسلام مختصة برهبان النصارى وعُبَّادِ الصابئة, والمراد بها: هنا مُتَعَبَّدُ الرهبان، والبيعُ: جمع بيْعَةٍ بوزن كِسْرَة، وهي مُصَلَّى النصارى جميعًا ولا تختص برهبانهم كالصومعة, والصلوات: جمع صلاة، وهي كنيسة اليهود, وأُطلق عليها ذلك على سبيل المجاز المرسل, علاقته الحالِّيةُ والمحلية. أَو المظروفية والظرفية. وقيل: صلوات: معرَّبُ "صُلُوثا" بالثاءِ المثلثة والقصر، وهي كلمة عبرانية معناها: المصلَّى، وروى عن أَبي رجاءِ والجُحْدُريّ وأبى العالية ومجاهد أَنهم قرأُوا بذلك. والمساجد: جمع مسجد، وأَكثر ما يطلق على مصلى المسلمين, ويقول ابن عطية: الأَسماءُ المذكورة تشترك الأُمم في مسمياتها إِلا البيعة، فإِنها مختصة بالنصارى في كل لغة، ومعظم المفسرين على ما مرَّ بيانه، من أَن الصوامع للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين، أما قوله تعالى: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} فهو في موضع الصفة لمساجد، وقال بعض المفسرين: إِنه صفة للمواضع الأَربعة المذكورة، فإِن كلا منها يُذْكَر فيه اسم الله في عصره الذي كانت شريعته فيه قائمة لم تنسخ، واستظهر هذا الرأْى أَبو حيان.

{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}: في هذا الجزءِ من الآية وعد الله تعالى من يقاتل في سبيله بالنصر والتأْييد، أَما من يقاتل عدوانا وظلما فهو بمعزل عن تأْييد الله، ولئن فاز في بعض جولاته على أَهل الحق فالعاقبة للمتقين الثابتين المترابطين. ومع أَنه - تعالى - أَذن في هذه الآية للمسلمين بقتال أَعدائهم دفاعا عن أنفسهم أَلزمهم في حربهم بآداب وردت في كتاب الله وعلى لسان رسوله، ففي كتاب الله يقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وللعدوان صور، منها: قتل من لا شأْن له في القتال، كالنساءِ والصبيان والرهبان، والشيوخ المسنين والمرضى، فالمسلمون ممنوعون من كل ذلك، جاءَ في السنن أَنه - صلى الله عليه وسلم - "مر على امرأَة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس، فقال: ما كانت هذه لتقاتل" وقال لبعض أَصحابه: أَدْركْ خالدًا فقل له: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا" والعسيف: الأَجير، ومن وصاياه - صلى الله عليه وسلم - " لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلا صغيرا ولا امرأَة" وفي صحيح مسلم: عن بريدة أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اغْزُوا في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغْلُوا ولا تَغْدِروا ولا تُمَثِّلُوا ولا تقتلوا الوليد ولا أَصحاب الصوامع" أَما الحرب عند غيرنا فلا تعرف للرحمة سبيلا. 41 - {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}: ما جاءَ في هذه الآية إِما وصف للمهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق وأُذن لهم في القتال دفاعًا وردًّا للعدوان. وهو الظاهر (¬1) - وإما لصدر الأُمة المحمدية الشاملة للمهاجرين والأَنصار وتابعيهم كما روى عن ابن عباس، وإِما للأُمة المحمدية في مختلف عصورها - كما قاله الحسن وأَبو العالية - وعلى أَي حال فالآية مرتبطة بما قبلها. ¬

_ (¬1) وعلى هذا تكون الآية دليلا على صحة أمر الخلفاء الراشدين، فالممكنون في الأرض من المهاجرين هم الخلفاء الراشدون دون غيرهم، ولو لم يمكن المهاجرون وكانت الخلافة في غيرهم لزم الخلف فيما يشبه الوعد منه تعالى بأنه يمكنهم في الأرض، وقد وقع الشرط وهو: التمكين وثبت الجواب وهو: إقامة الصلاة وما عطف عليها, وهذا يقتضي أحقية الخلافة في المهاجرين.

والمعنى: ولينصرن الله من ينصره، وهم أُولئك الذين إِن مكناهم في الأَرض وجعلنا لهم سلطانا عليها أَقاموا الصلاة في مواقيتها، وأَعطوا زكاة أَموالهم لمستحقيها, وأَمَروا بما عرف حسنه في شرع الله وأَعراف الناس، ونهوا عن المنكر في دين الله ومنهاج الحق ولله تعالى دون غيره عاقبة الأُمور ومآلها، وفقا لتدبيره وحكمته - جل وعلا -. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} المفردات: {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ}: أَي أَهلها وهم قوم شعيب. {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ}: فأَمهلتهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: فكيف كان إِنكارى عليهم (¬1) وعقابى لهم، والاستفهام بكيف للتعجيب مما عاقبهم به الله. {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}: فكثير من القرى أَهلكنا أَهلها، وإِيقاع الإِهلاك على القرى على سبيل المجاز. {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}: أَي ساقطة على سقوفها؛ من خوى النجم: إِذا سقط، أَو خالية مع بقاء عروشها وسلامة بنيانها بعد ما هلكوا، من خَوَت الدار، تخْوى، خَوَاءً، إذا خلت من أَهلها، وخَوَى البطنُ من الطعام يخوى، خَوًى، وخَواءً. {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ}: أَي لا يُستَقَى منها لهلاك أَهلها. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}: أَي مرفوع البنيان، أَو مبني بالشِّيد، وهو الجص. ¬

_ (¬1) مأخوذ من قولهم: نكرت عليه كذا، إذا فعلت فعلا يردعه، فهو بمعنى: الإنكار، كالنذير، بمعنى: الإنذار.

التفسير 42، 43 - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}: هاتان الآيتان وما بعدهما سيقت لتسلية الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عمّا يلقاه من إِعراض أَهل مكة وتكذيبهم إِياه، وحزنه وتأَلم قلبه لجفائهم وهم يعلمون أنه الصادق الأَمين، والتعبير عن تكذيبهم بصيغة المضارع الصالحة للحال والاستقبال حيث قيل: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} مع أَنهم كذبوه من قبل، للإِيذان بأَن تكذيبهم سيتجدد، فَلْيَتَسَلَّ عنه ولا ينزعج، فمثل ذلك قد حدث للمرسلين قبله من أَقوامهم. والمعنى: وإن يكذبْكَ قومُك - يا محمد - فلا تحزن، فإِنك لست بأَوحدى في ذلك فقد كَذَّبت قبلهم قومُ نوح وعاد وثمود وقوم إِبراهيم وقوم لوط - كذبوا رسلَهم -. وإِلحاق التاءِ بكذَّب في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} مع أَن القوم مذكر، لأَنه اسم جمع يصح تأْنيث الفعل المسند إِليه وتذكيره، أو لتأْويل القوم بالأُمة أَو الجماعة. 44 - {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: أَي، وكذب أَهل مدين رسولهم شعيبا، وكذب فرعون وقومه موسى، فأَمهلت كل فريق من هؤُلاءِ المكذبين لعلهم يرعَوُون ويثوبون إِلى رشدهم، ثم أَخذته وأَهلكته بعد انتهاءِ مدة إِملائه وإِمهاله، عقابا لهم وإنكارًا عليهم، فكيف كان إِنكارى عليهم؟ لقد حولت عمارهم خرابًا، وأَهلكتهم عن آخرهم {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). 45 - {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}: ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 40

{كَأَيِّنْ}: اسم يراد به التكثير مثل (كَمْ) الخبرية و {خَاوِيَةٌ} بمعنى: ساقطة أَو خالية، وهذه الآية مفرَّعةٌ على الآية التي قبلها مبينة لما جاءَ فيها من عقاب الله العنيف للمصرِّين على الكفر، وآثاره التي ترتبت عليه. ومعنى الآية: فكثير من القرى دمَّرناها وأَهلكناها وأَهلها ظالمون، فهي بسبب ذلك ساقطة حيطانها على سقوفها، وكم من بئر عامرة مليئة بالماءِ معطلة لا تجد من يستقى منها لهلاك أَهلها، وكم قصرٍ مرفوع البنيان، أَو مبنيٍّ بالشّيد، وهو الجص، أَهلكنا أَهله فخلا من ساكنيه. وإِذا كانت (خاوية) بمعنى خالية، يكون معنى الآية: فكثير من القرى أَهلكنا أَهلها وهم ظالمون، فهى خالية منهم بعد إِهلاكهم مع بقاءِ عروشها وسلامتها، وكم من بئر معطلة لا تجد من يستقى منها، وقصر مشيد لا يجد من يَعْمُره. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)} المفردات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}: وكثير من القرى. {أَمْلَيْتُ لَهَا}: أَمهلت أَهلها ولم أُعجل عقوبتهم على كفرهم.

46 - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}: حكت الآيات السابقة: أَنه تعالى انتقم ممن كذب المرسلين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فأَهلكهم وخرَّب ديارهم، وجاءَت هذه الآية لحث مشركى قريش على السير في أَرض المهلَكين لكي يعتبروا بما حدث لهم، فيتوبوا من شركهم وكفرهم. وهؤُلاءِ لا يخلو حالهم من أنه يكونوا قد مروا على القرى التي أُهْلك أَهلها حولهم كقرى قوم لوط وأَصحاب الأَيكة, ولكنهم لم يعتبروا بما حدث لهم، فالآية حينئذ تَنْعَى عليهم عدم اتعاظهم بالمرور عليها، وتطالبهم بالاتعاظ بها، والهمزة على هذا للاستفهام الإِنكارى المشوب بتوبيخهم على عدم اعتبارهم بما يرونه من آثار المهلكين قبلهم، أَو أَن يكونوا لم يمروا بها, فالآية تطالبهم بالمرور بها والاعتبار بما حدث لأَهلها وعلى هذا فالاستفهام: إِما للإِنكار والتوبيخ على عدم مرورهم واعتبارهم, أَو لتقريرهم بارتكاب هذه الخطيئة، وخلاصة معنى الآية على الوجه الأَخير كما يلى: أقَعَدَتْ قريش في عقر دارها وقد علموا بالقرى المهلكة حولهم، فلم يسيروا في الأَرض متجهين نحوها ليتعرفوا ما حدث لها ولأَهلها، فتكون لهم عندما يرون آثارها - تكون لهم - قلوب يعقلون بها أَن الكفر بالله وخيم العاقبة، وأَن الرسل صادقون فيما يبلغون أُممهم عن الله رب العالمين، أَو تكون لهم عندما يسمعون ممن حولها أَخبارها - تكون لهم - آذان يسمعون بها، فلا يغلقونها عند الاستماع إِليها، فإِنه لا يُعْتَدُّ بعمى الأَبصار، فإِن من عمى بها قد يدرك الحق بقلبه أَو بسمعه، فكأَنه ليس بأَعمى، ولكن العمى في الحقيقة هو عمى القلوب التي في الصدور، فإن عماها يحجب الحق عنها، فتبقى في ظلام الكفر وغيبوبة الضلال المبين، فسيروا - يا أَهل مكة - في الأَرض، لتنظروا ما حدث للمكذبين قبلكم، وأَزيلوا الغِشاوة عن قلوبكم وعن أَسماعكم، واعتبروا بما حدث لمن قبلكم. وهذه الآية قررت أَن القلوب التي في الصدور مركز للتعقل والإِدراك، وأَن بها يعرف الخير من الشر، وقد تكرر هذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، ففي سورة الأَعر

قال الله عز وجل {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} - 179 - . وفي سورة محمد قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} - 24 - إِلى غير ذلك من الآيات. ومن الأُمور المعروفة طبيًّا: أَن الأَجهزة العقلية كلها في الدماغ، ولا تعارض بين ذلك وبين ما جاءَ في القرآن، فإِن العقول لا غذاءَ لها إِلا من القلوب، ولا تعمل إِلا بمدد منها؛ فإِذا انقطع عنها هذا المدد شلَّتْ وفسدت، وتعرض صاحبها للموت، بل إِن القلوب هي مصدر الحياة للأَجساد، فلا غرابة في أَن يُسْندَ إِليها ما يسند إِلى رعيتها من مختلف الأَجهزة الجسمية، أَلا ترى أَنهم يقولون: فتح الملك المدينة، مع أَنه لم يفتحها سوى جنوده وقواده، وإِنما صَحَّ إسنادُ الفتح إِليه لأَنه السبب الأَول فيه، على أَن قلوبنا تحس تماما بضياءِ الحق فتستريح إِليه وتنشرح صدورنا به، ولا شك أَن هذا الانشراح والراحة القلبية يدلان على أَن في القلوب هدى وبصيرة، وأَن الأَمر ليس قاصرًا على مراكز العقول في الدماغ. 47 - {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر قريشا من نزول العذاب بهم، كما نزل بمن قبلهم، إِن استمروا على كفرهم، فكانوا لا يحذرون، وعمدوا إِلى التحدى فطالبوه بإِنزال العذاب الذي يحذرهم منه - طالبوه استهزاءً وتعجيزًا - فأَنزل الله هذه الآية ينكر عليهم استعجالهم فإِن الأَمر ليس لهم، والزمن الطويل عندهم قصير عند ربهم، والآية في ظاهرها خبر، ولكنها تتضمن الاستفهام الإِنكارى لاستعجالهم، فكأَنه قيل: ويستعجلونك - أَيها الرسول - بالعذاب الذي أَوعدتُهم به على لسانك. فأَنكروه وكفروا به، فكيف ينكرون مجيئه؟ ولن يخلف الله وعده، والأَمر في مجيئه ليس إِليهم حتى يسارع به تلبية لرغبتهم، فلا يستبطئوا نزوله، فإِن الأَمر فيهِ لله تعالى والله لا يعجل، فإِن مقدار أَلف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده، فهو قادر على الانتقام منهم في الوقت الذي شاءَه لعذابهم، فلا يفوته ذلك وإِن أَجَّله وأَملى لهم فيه، ولكون المعنى على ذلك، عقَّب الله هذه الآية بقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} وسيأْتى شر

ولقد حقق الله وعيده فسلط عليهم القحط والجوع حتى أَكلوا الكلاب والْعِلْهز (¬1) , كما أَنزل بهم في غزوة بدر هزيمة نكراءَ هزت كيانهم، فقتل فيها سبعون من صناديدهم, وأُسر سبعون، ومن المفسرين من حمل اليوم المذكور على يوم الآخرة، والعذاب على عذابها ولكن المقام لا يساعد على ما ذهبوا إِليه، والله الموفق. 48 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}: هذه الآية الكريمة مؤكدة لما جاءَ في الآية التي قبلها من أَنه تعالى لا يخلف وعيده لمن أَصر على كفره، وأَنه إِن أَمهلهم ليتوبوا فلن يهملهم إِن أَصروا، والمراد بالقرية فيها: أَهلها, ونسبة الظلم لها مع أَنه لأَهلها على سبيل المجاز. والمعنى: وكثير من أَهل القرى أَمهلتهم وهم ظالمون لأَنفسهم بالشرك والمعاصي, لعلهم يستجيبون لرسلهم, ويرجعون عن غيهم، فغرهم هذا الإِمهال ولم يفكروا في عاقبته, ثم أَخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإِملاءِ والإِمهال, وإِلى حكمى مرجعُهم ومصيرُهم لا إِلى غيرى، فأَفعل بهم ما يستحقونه من النكال على جرائمهم، فلا يفوتنى من أَمرهم شىءٌ, لا في الدنيا ولا في الآخرة، أَخرج الإِمام البخاري في كتاب التفسير (¬2)، بسنده عن أَبي موسى الأَشعرى أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليُمْلِى للظالم حتى إِذا أَخذه لم يُفْلِتْهُ، ثم قرأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. ¬

_ (¬1) بعد أن دعا الرسول عليهم بقوله: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" والعلهز: طعام من الوبر والدم كان يؤكل في المجاعة، ويطلق أيضا على القراد الضخم: قاموس. (¬2) ("باب: وكذلك أخذ ربك") والحديث أخرجه مسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه، واللفظ هنا للبخارى.

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)} المفردات: {نَذِيرٌ مُبِينٌ}: منذر واضح، من أَبَان بمعنى وضح واستبان، أو منذر مُوَضحٌ لكم ما أَنذرتكم به، من أَبان الأَمْرَ، أَي: أَوضحه. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: ورزق حسن في الجنة لوقوعه بعد المغفرة. {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}: أَي بذلوا جهدهم في إِبطال آياتنا محاولين تعويق المؤْمنين في تأْييدها. وتعجيزهم عن إبلاغها مداها، فالمعاجزة: مسابقة في التعجيز، يراد بها أَن يغلب أَحد المتسابقين الآخر، فيعجز عن المضى، وكذلك فعل المشركون فخسروا السباق وهُزمُوا. التفسير 49 - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}: تضمنت الآيات السابقة: أَن الله تعالى طلب من أَهل مكة أَن يسيروا في الأَرض حولهم, فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين قبلهم, حيث أُهلكوا عَنْ آخرهم, فخربت ديارهم وعطلت آبارهم، لعلهم يعتبرون بما أصابهم, ويرجعون عن غيهم. ولكنهم استعجلوه بالعذاب، فبين لهم أَنه - تعالى - لن يخلف وعده إِن أَصروا على كفرهم، وأَنهم إِن أُمهلوا ليتوبوا فلن يهملوا إِن أَصروا.

وجاءَت هذه الآية آمرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أَن يواصل إِنذارهم، وأَن لا يبالى بتكذيبهم واستعجالهم العذاب. ومعنى الآية: قل أَيها النبي لأَهل مكة: يأَيها الناس ما أَنا إِلا منذر لكم واضح الإِنذار، فيما أَخبرتكم به من أَنباءِ الأُمم التي أَهلكها الله بتكذيبها رسلها، لكي تحذروا أَن يصيبكم مثل ما أَصابهم، فكيف تستعجلوننى بالعذاب ولن يخلف الله وِعده؟ فالأَمر بيده، إن شاءَ عَجَّلَ وإِن شاءَ أَجَّلَ. 50 - {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: أَي: أَنذر - يا محمد - هؤلاءِ الكفرة المستعجلين للعذاب وبالِغْ في إِنذارهم، فالذين آمنوا بعد كفرهم، وعملوا الصالحات بعد إِيمانهم، لهم مغفرة لما كان منهم من الكفر والمعاصي، ولهم رزق حسن فائق في الجنة، فإِن الإِيمان يَجُبُّ ما قبله، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1). 51 - {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: والذين سعوا في آياتنا وبذلوا الجهد في إِبطالها، فسمَّوْها تارة سحرا، وتارة شعرًا، وتارة أُخرى أَساطير الأَولين، مسابقين المؤمنين، كلٌّ يريد تعجيز الآخر، فالمؤمنون يريدون إِبطال كيد الكافرين، والوصول بآيات الله إلى قلوب الناس أَجمعين، والمشركون يريدون تعويقهم وتعجيزهم عن تحقيق غايتهم، فهؤلاءِ الساعون المعوِّقون المعاجزون هم أَصحاب الجحيم، الملازمون للنار الشديدة التأَجج والإِحراق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). هذا، وبعض المفسرين حمل (الناس) في قوله تعالي: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، وفسر الآيات الثلاث على النحو الآتي: قل يا أَيها الناس - مؤمنكم وكافركم - إِنى لكم منذر واضح الإِنذار، بأَنكم ستأْتيكم الساعة ثم تبعثون وتحاسبون، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في دنياهم، لهم مغفرة ورزق كريم ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، صدر الآية: 38 (¬2) سورة يوسف، من الآية:

في أُخراهم، والذين كفروا وسعوا في إبطال آياتنا وتعجيز دعاتنا، أُولئك أَصحاب النار الملازمون لها. هذه خلاصة ما قيل في هذا المقام، ولكن فيه خروجا عن السياق، في حين أَن المؤمنين لا يُنْذَرُونَ، وإنما ينذر أَهل الكفر - فما قلناه أَولا هو اللائق بالسياق. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} المفردات: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الرسول: من بعثه الله بشرع جديد أَنزله عليه، وأَيده بمعجزة تحقق رسالته. والنبى: صاحب معجزة تؤيد نبوته، وقد أَمره الله أَن يدعوَ الناس إِلى شريعة من قبله، ولم ينزل الله عليه كتابا بشرع جديد، فالرسول: صاحب شرع، والنبى: حافظ شرع - وسيأْتى لذلك مزيد بيان. {تَمَنَّى}: لها عدة معان، منها: أَراد، وقرأَ، وكلاهما تصح إِرادته هنا في تفسير الآية كما سيأْتى بيانه.

{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ}: يزيل من النفوس وساوسه التي يوسوس بها. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}: يحفظها من التأْثر بوساوس الشيطان. {فِتْنَةً}: اختبارًا وامتحانا. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: قلق أَو شكٌّ ونفاق. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} المراد بهم: المشركون المجاهرون. {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: لفى خلاف بعيد عن الحق. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}: فتطمئن. التفسير 52 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: بَيَّن الله في الآيات السابقة أَن أَهل مكة كذبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَنه تعالى توعدهم بأَن يصيبهم من العقاب ما أَصاب المكذبين للرسل قبلهم، ودعاهم إِلى أَن ينظروا ما أَصاب ديارهم حولهم من الخراب والدمار، فاستعجلوا الرسول بالعذاب الموعود، بدلا من الاتعاظ والاعتبار بهم، فبيَّن الله أَن أَمر تعذيبهم بيده، وأَنه لا يخلف وعده، وأَنهم إِن أُمهلوا فلن يُهْمَلوا، فازدادوا ضراوة في العدوان على كتاب الله، فسعوا في آياته معاجزين معوِّقين المؤْمنين عن الوصول بها إلى قلوب الناس، فزعموا أَنها شعر وسحر وأَساطير الأَولين، واشتدوا في إيذاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإِيذاءِ أَصحابه تعويقا وتعجيزا لدعوة الحق، فأَنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه، فقد بَيَّن فيها أَن كل الأَنبياءِ والمرسلين قبله أَصابهم من تعويق دعوتهم ومحاولة تعجيزهم في رسالتهم مثل ما أَصابه، ثم انتصر حقهم على باطل خصومهم وزالت فتنة هؤُلاءِ الشياطين الذين حاولوا إِبطال دعوتهم، وأَحكم الله آياته في نفوس أَهل الحق، فازدادوا إِيمانًا فوق إيمانهم، وإليك فيما يلى تفصيل ما أَجملناه: يقول الله تعالى في هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} وهذا النص يقتضي أَن النبي غير الرسول، وأَن الله أَرسلهما لهداية البشر، وأَن لكل م

منهاجا في تبليغه رسالته للناس، وأَنهما بسبب ذلك يختلفان في تعريفهما، والمشهور أَن الرسول: من أُوحي إِليه بشرع وأُنزل عليه كتاب يبلغه للناس، والنبى: من لم ينزل عليه كتاب، وإِنما أُمر بتبليغ شريعة من قبله, فالرسول صاحب شرع جديد، والنبى حافظ لشرع قديم، وكلاهما أَيده الله بمعجزة تؤَيد أَنه مرسل من عند الله، ومن العلماءِ من قال: إِن النبي يعم الرسول صاحب الشرع الجديد، والنبي حافظ الشرع القديم، فكلاهما نبي, ولذلك خوطب الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - بلفظ النبوة في القرآن في نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وهذا خير ما يقال في الفرق بينهما. وقد جاءَ في الآية لفظ (التَّمني) وله في اللغة عدة معان، منها: القراءَة، ومنها الإِرادة والرغبة, ويدل على استعمال التمني بمعنى القراءَة قول حسان في عثمان بن عفان بعد قتله: تَمَنَّى كتابَ الله أَوَّلَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ داودَ الزَّبُورَ على رِسْلٍ (¬1) وكلا المعنيين تصح إِرادته في تفسير الآية الكريمة، فإِذا فسرنا التمنى بمعنى القراءَة كان معنى صدر الآية كما يلى: وما أَرسلنا قبلك - يا محمد - رسولا ولا نبيًّا إِلا وحاله أَنه إِذا قرأَ شيئًا من الآيات التي أَمرناه بتبليغها، أَلقى الشيطان فيما يقرؤُه الشُّبه والتخيلات على أَوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاءَ به، تعجيزًا لمسيرة دعوته، وفي هذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬2)؛ ويقول أَيضًا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (¬3)؛ وهذا كقولهم عند سماع قراءَة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "حُرِّمَت عَلَيْكُمُ الْمَيْتَهُ" - ما بالهُ يُحِلُّ ما يذبحه لنفسه، ويحرم ما يذبحه الله؟ فقد كانوا يحلون الميتة زاعمين أَنها ذبيحة الله لهم، وحينما قرأَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قالوا: إِن عيسى عُبِدَ من ¬

_ (¬1) أي: علي مهل. (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 112 (¬3) سورة الأنعام، من الآية:

دون الله, والملائكة كذلك، وهذه مغالطة مكشوفة, فإِن الآية لهم ولأَصنامهم، ولذلك قال سبحانه: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل: "ومن تعبدون" لأَن "ما" لما لا يعقل، أما "مَنْ" فهى لمن يعقل، وكيف يدخل عيسى في المعبودات المعذبة وقد قال الله فيه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (¬1) وحكى عنه أنه قال لقومه وهو رضيع: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا, وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ... } (¬2). وقال عن الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (¬3). فالواقع أَنهم يزيفون الأَباطيل ويزعمونها حججا لهم وهي أَوْهَى من بيت العنكبوت. وإِذا فسرنا التمني بالرغبة والإِرادة، فيكون معنى الآية ما يلى: وما أَرسلنا قبلك - يا محمد - من رسول ولا نبى إِلا إِذا تمنى وأَراد هداية قومه إِلى الحق، أَلقى الشيطان فيما تمناه الشَّبَهَ في نفوس قومه ليصدهم عن سبيله، وقد بيَّن الله مآل سعْي الشيطان في آيات الله بقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَي: فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشُّبَه في نفوس الناس، بتوفيق الرسول أَو النبي لرده, أَو بإِنزال ما يرده, ثم يظهر الله حكمة آياته لمن أَشكل عليهم الأَمر بتلبيس الشياطين, أَو يمنعها ويحميها من أَباطيل الشياطين (¬4)، بما ينزله من الآيات الماحقة لأَباطيلهم كما جاءَ بقوله سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: أَي واسع العلم، فلا يخفى عليه ما يصدر من الشيطان وأَوليائه, بليغ الحكمة في رد شبهاتهم ونصر رسله وأَنبيائه. وخلاصة معنى الآية: أَن الصراع بين الحق والباطل أَمر قديم, عرفه الأَنبياءُ والمرسلون قبلك يا محمد، وأَن الأَمر ينتهى بنصر الحق على الباطل بتدبير الله وحكمته، فلا تجزع ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 75 (¬2) سورة مريم: من الآيتين: 30, 31 (¬3) سورة الأنبياء: من الآية 26, من الآية 27 (¬4) ومنه قولهم: أحكم أمره، أي: جعله مستحكما منيعا لا يتطرق إليه الف

يا محمد مما يأْتى به شياطين قومك من السعى بالباطل في آيات الله معاجزين بتسويل الشيطان الرجيم، أُولئك أَصحاب الجحيم، وأَباطيلهم إِلى زوال. 53 - {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: هذه الآية مرتبطة بفحوى الآية التي قبلها، وكأَنه قيل: وما أَرسلنا قبلك يا محمد من نبى ولا رسول إِلا عاداه الشيطان وحاربه في أُمنيته ورسالته لقومه، فجعل يلقى الشُّبَهَ فيما يقرؤُه ويريده لقومه من الهدى فينسخه الله ويرده، ليجعل الله ما يلقيه الشيطان فتنة وامتحانا للذين أَظهروا الإِيمان برسولهم أَو نبيهم وفي قلوبهم مرض من شك ونفاق, وللقاسية قلوبهم من الكفار المجاهرين بكفرهم، فيَحْذَرَهُم الأَنبياءُ وَيَجِدُّوا في كفاحهم، وإِن الظالمين لفى شقاق بعيد، وعداءٍ للحق شديد، فلا تجزع لما يحدث من قومك يا محمد، فشأْنهم معك كشأْن سائر الأُمم مع الأَنبياءِ والمرسلين قبلك، والعاقبة للصابرين المجاهدين. 54 - {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: {وَلِيَعْلَمَ} معطوفة على قوله: {لِيَجْعَلَ} في الآية السابقة، داخلة معها في حيز التعليل. والمعنى: أَن الشيطان كان يلقى الشُّبَهَ فيما يقرؤُه الأَنبياءُ والمرسلون قبلك على أُممهم، وما يريدونه من الهدى لهم، فينسخها الله ويبطلها، ليجعل ما يلقيه الشيطان امتحانا للمنافقين والكافرين القاسية قلوبهم، فيظهر أَمرهم لأَنبيائهم فيحذروهم ويجاهدوهم، وليعلم الذين أُوتوا العلم في كل النبوات والرسالات، بما أُوتوا من الهدى ونور القلوب، وبما أَنزله الله من رَدِّ شُبَهِ الشياطين ونسخها - أَي إِبطالها - فيثبتوا على إِيمانهم، ويزدادوا إِيمانا فوق إِيمانهم، وإِن الله لهادى الذين آمنوا في كل الرسالات إِلى طريق مستقيم من

(قصة الغرانيق وهذه الآيات)

النظر الصحيح الموصل إِلى الحق المبين، وكذلك أَمر المؤْمنين من قومك، فلهم من هداية الله إِلى صراطه المستقيم أَوفر نصيب، ومن الثبات على الحق شأْن عجيب. وفي معنى تلك الآيات يقول الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). (قصة الغرانيق وهذه الآيات) يذكر المفسرون أَثناءَ تفسيرهم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .... } الآيات - يذكرون - قصة تسمى قصة الغرانيق, وقد أَتعبوا أَنفسهم في نقل رواياتها وتأْويلها أَو تفنيدها, أَثناءَ تفسيرهم تلك الآيات. ولكنا رأَينا أَن نفسرها على النحو الذي مر بيانه، بمعزل عن تلك القصة المفتراة, مراعين في تفسيرها نصوصها ومناسبة ما قبلها وما بعدها، وربطها بالجو الذي سيقت فيه, فإِن القرآن مترابط المبانى، ومتناسب المعانى, وما أَكثر الضعف في أَسباب النزول, وما أَفظع الوضع في بعضها، ومنه قصة الغرانيق التي قيل: إِنها سبب لنزول هذه الآيات. وقد رأَينا أَن نذكر خلاصتها بمعزل عن تلك الآيات وشرحها، وأَن نفندها ونبين زيفها وفسادها, وإِليك البيان فيما يلى: زعموا أَنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأُ سورة النجم بمحضر من قريش, فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أَلقى الشيطان عندها كلمات فقال: (وإِنَّهُنَّ الغرانيق العلا، وإِن شفاعتهن لترتجى) وكان ذلك من سجْع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الجملتان موقع الرضا والاستحسان من المشركين، وتناقلتها أَلسنتهم، وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا راجع إِلى دين قومه، فلما وصل الرسول إِلى قوله تعالى في آخر سورة النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} سجد وسجد كل من حضر من مسلم أَو مشرك، وفشت هذه الدسيسة في الناس حتى بلغت مهاجرى الحبشة فعادوا، وأَظهرها الشيطان، ¬

_ (¬1) صدر سورة العنك

فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فأَنزل الله تعالى لتسليته: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ... } الآيات. ويُؤَولون إِلقاءَ الشيطان في أُمنيته، بأَنه حَاكَى صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونغمته في أَثناء سكوته بين الآيات حين تلاوتها، فدسَّ جملتى الغرانيق السابقتين، وقالوا: إِن الشيطان كان يظهر للناس في العهد النبوى في صورة أَحدهم، وكان يكلمهم، ومن ذلك أَنه نادى بعد هزيمة المسلمين في غزوة (أُحُد): أَلا إن محمدا قد قتل، وقال يوم بدر: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}. ويفسر آخرون الشيطان بواحد من كفار قريش، حَاكَى صوت النبي، وحشدها بين قراءَته كأَنه يقرؤُها، وقال غيرهم: إِن الشيطان أَجراها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - أَثناءَ قراءَته. وقد عجبنا كيف أَتعب المفسرون أَنفسهم في نقل رواياتها المتناقضة المفتراة وأَطالوا في تأْويلها أَو تفنيدها، وهي ظاهرة البطلان. وأَول ما نلاحظه على فرية الغرانيق، أَنهم زعموها مدسوسة من الشيطان في سورة النجم، في حين أَن تسلية الرسول عما فعله الشيطان فيها جاءَت في سورة الحج، مع أَنه يفصل بينهما ثلاثون سورة، فلو كان لها ظل من الواقع لكانت التسلية عما فعله الشيطان في نفس السورة التي دُسَّتْ فيها أُكذوبة الغرانيق، لا في سورة سواها تبعد عنها هذا البعد السحيق، في حين أَن سورة النجم مكية، وسورة الحج مدنية على ما قاله الضحاك، فكيف يعقل أَن يسكت القرآن على هذه الفرية تذيع في مكة وتنتشر حتى تبلغ المهاجرين في الحبشة، فيحضروا بسببها كما زعم المفترون، ولا يَرُدَّها إِلا بعد الهجرة إِلى المدينة؟. وقد أَنكر المحققون هذه الفرية، فقال البيهقى: هذه القصة لم تثبت من جهة النقل وقال القاضى عياض في الشفاءِ: يكفيك في تَوْهِينِ حديث الغرانيق أَنه لم يُخَرِّجهُ أَحد من أَهل الصِّحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم، وإِنما أُولِعَ به وبمثله المفسرون والمؤَرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وس

وفي البحر لأَبي حيان: أَن هذه القصة سئل عنها الإِمام محمد بن إِسحاق جامع السيرة النبوية فقال: إِنها من وضْع الزنادقة، وصنف في ذلك كتابا. أَما القول بأَن الشيطان أَجراها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو أَفحش ما يقوله زنديق، وأَوهن من بيت العنكبوت، فلا يصح أَن يجبره الشيطان عليها، لأَنه ليس له سلطان على عباد الله الصالحين، فكيف يكون له سلطان على رسوله، ولا يصح أَن يكون أَجراها على لسانه سهوا وغفلة، لأَنه لا تجوز على الرسول الغفلة والسهو في تبليغ الوحى، ولو جاز عليه مثل ذلك لبطل الاعتماد على قوله، وكل ذلك مستحيل عقلا، كما أَنه مستحيل شرعًا، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. وبعد أَن عرفت أَن قصة الغرانيق مفتراة، اخترعها الزنادقة لمحاربة الإِسلام، فعليك أَن تتمسك بتفسيرنا السابق للآيات الثلاث، والله تعالى ولى التوفيق. {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}

المفردات: {فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}: في شك من القرآن، أَو من الصراط المستقيم. {بَغْتَةً}: فجأَة. {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}: عذاب يوم لا مثيل له، فلا راحة فيه ولا رحمة. {مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ}: المراد به؛ الجنة. التفسير 55 - {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}: بينت الآيات السابقة أَن أَهل مكة سَعْوا في آيات الله معاجزين. وأَن الله تعالى سلَّى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، عن عدائهم للقرآن بأَنه ليس أَوْحَدِيًّا في عداءِ الكفار لما جاءَ به, فما أَرسل الله قبله رسولا ولا نبيًّا، إِلا إِذا تمنى إِيمان قومه، سعى شياطينهم في إِفساد أُمنيته, بإلقاءِ الشُّبه فيما جاءَهَم به، وأَنه تعالى كان يبطل ما يلقيه أُولئك الشياطين من الشبه، بما ينزله محكما في رد شبهاتهم، وأَن وقوف الشياطين في سبيل الحق ابتلاءٌ من الله لأُمم الأَنبياءِ, فبه يظهر المنافقون وصرحاءُ الكافرين على حقيقتهم لأَنبيائهم ورسلهم فيحذرونهم ويكافحونهم، وبه يعرف المؤْمنون المطمئنون للحق - بينت الآيات السابقة ذلك - وجاءَت هذه الآية لتسجل على شياطين الكافرين من أَهل مكة عنادهم في كفرهم، وأَنهم لا يزالون في غمرة من الشك بسبب القرآن, لا يخرجهم منها إلا مجىءُ الساعة فجأَة. أَو عذاب يوم لا مَثِيلَ له في شدته فَيَفِيقون من شكِّهم. والمعنى: ولا يزال شياطين قريش في شك من القرآن أَو من الرسول، يجعلهم يقفون في سبيله ويُحَرِّضون أَتباعهم على الكفر به، حتى تأْتيهم ساعة الفناءِ فجأة، أَو يأْتيهم عذاب يوم عقيم لا يستعقب خيرا, أَو لا مثيل له في شدته، فهو في ذلك يشبه المرأَة العقيم التي لا تلد ولا تترك عقبا خلفها، أَو كالريح العقيم: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (¬1) ولا تترك خلفها زرعا ولا ضرعا. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 42

والمراد باليوم العقيم: يوم بدر، فقد كان كارثة حلَّتْ بصناديد قريش وشياطينهم، في أَول لقاءٍ لهم مع من أَخرجوهم من ديارهم، فقد قتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، ونَاحَتْ نساءُ قريش على قتلاهم شهرا. وفسره بعض العلماءِ بيوم القيامة، حيث يُجْزَى الكافرون بما كانوا يقترفون، وفسره آخرون بيوم موت كل واحد منهم، ولعل أَنسب الآراءِ بالآية التالية هو يوم القيامة، ففيه يتفرد الله بالملك مَظْهرا، كما هو متفرد به حقيقة. 56 - {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: الملك يوم تأْتيهم الساعة أَو عذابها، لله وحده بلا شريك فيه حقيقة أَو صورة، فليس لأَحد فيه تصرف في أَمر من الأُمور، لا حقيقة ولا مجازًا، ولا صورة ولا واقعا، فكل شيءٍ فيه إِلى الله، حتى الشفاعة لا تكون لأَحد: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (¬1) فالله تعالى هو الذي يحكم فيه بين عباده، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في دنياهم، مقرهم في جنات النعيم. 57 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}: والذين كفروا في دنياهم وكذبوا بآيات الله الكونية أَو التنزيلية، فأُولئك لهم عذاب دائم الإِهانة والإذلال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ثم خص الله بعض الفريق الأَول بمزية، وهم المجاهدون في سبيل الله فقال: 58 - {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: أَي: والذين هجروا أَوطانهم في سبيل الله تعالى، ثم قتلوا أَثناءَ جهادهم، أَو ماتوا حتف أُنوفهم (¬2) في هجرتهم بنحو مرض أَو سكتة قلبية، ليرزقنهم الله الذي هجروا أَوطانهم ¬

_ (¬1) سورة طه، من الآية: 109 (¬2) الذي مات حتف أنفه هو الذي مات بغير أن يقتل في المعركة، كموته علي فراشه أو نحوه، والحتف: الموت، ويضيفه العرب للأنف إذا كان بنحو مرض، لاعتقادهم أن روحه تخرج في مثل هذه الحالة من أنفه، أما الذي يموت جريحا، فيقولون فيه: مات حتف جراحته, لظنهم أن روحه تخرج من جرا

في سبيله - ليرزقنهم - في الجنة رزقًا فائق الحسن على ما يعطيه سواهم من المؤمنين غير المهاجرين في سبيله، وإِن الله الذي اتجهوا بهجرتهم إِليه لهو خير الرازقين، حيث يعطيهم ما يفوق الخيال، ولا يخطر لهم على بال، ويمنحهم بغير حساب، فهو الذي لا تفنى خزائنه، ولا تنصب موارد نعمه، ولا غاية لفضله وكرمه. وهذه الآية نزلت في عثمان بن مظعون وأَبي سلمة بن عبد الأَسد، ماتا بالمدينة مهاجِرَيْن، ولم يُقتلا في سبيل الله، فقال بعض المؤمنين: من قتل في سبيل الله أَفضل ممن مات حتف أَنفه، فنزلت هذه الآية مسوِّية بينهما، لأَن كليهما عاهد الله على الموت في سبيله بهجرته لنصرة دينه. وقد استدل بالآية فُضَالَةُ بن عُبَيْد - وكان أَميرًا بجزيرة رودس - استدل بها على المساواة بينهما في الأَجر، فقد أَخرج ابن أَبي حاتم بسنده، عن أَبي قبيل وربيعة ابن سيف المَعَافِرِيِّ قالا: (كنا بِرُودسَ ومعنا فضالة بن عبيد الأَنْصارى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بجنازتين إِحداهما قتيل والأُخرى متوفَّى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أَرى الناس مالُوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا قتيل في سبيل الله تعالى، فقال: والله ما أُبالى من أَي حضرتيهما بُعِثْتُ، اسمعوا كتاب الله {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا .. } الآية، وكان هذا القتيل قد أُصيب بقذيفة منجنيق كما جاءَ في رواية أُخرى له. والذى نراه أَن الآية وإِن سوت بينهما في عموم الرزق الحسن والأَجر الجزيل، لكن ذلك لا يمنع من التفاضل بينهما، ويؤَيد هذا التفاضل أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: "مَنْ أُهْرِيقَ دمه وعُقِرَ جَوَادُهُ" ومنه يعلم أَن من كَان من المهاجرين ولم يجاهد، أو كان من المجاهدين ولكنه لم يكن بهذه الصفة فهو دون من اتصف بها، والله تعالى أَعلم، ثم بيَّن الله الرزق الحسن الذي أَعده لهم فقال: 59 - {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}: أَي: أَنه تعالى وعد هؤُلاءِ المهاجرين بصنفيهم وعدًا مؤَكدًا لا خلف فيه، أَنه يدخلهم في الجنة منزلا فخما ومقامًا كريما يدخلونه وهم يرضونه ويسعدون به، حيث ي

فيه ما تشتهيه الأَنفس وتلذ الأَعين على أَعلى مستوى، وإن اللهَ سبحانه لعليم بأَحوال من قضى نحبه, وسال دمه في سبيله, ومن مات معاهدًا ربه على الاستشهاد في نصر دينه، ولكنه في هجرته وجهاده مات حتف أَنفه، دون أَن يحقق أُمنيته في الاستشهاد في سبيل ربه، وكما أَنه تعالى عليم بأَحوالهما، فهو حليم بإِمهال من قاتلهما حتى يأْخذه أَخْذَ عزيز مقتدر، ويذيقه في الآخرة عذاب السعير، أَو يتوب فيتوب الله عليه. {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} المفردات: {بُغِيَ عَلَيْهِ}: اعتدى عليه. {عَفُوٌّ}: كثير العفو والمسامحة. {غَفُورٌ}: واسع المغفرة. {يُولِجُ}: يدخل. التفسير 60 - {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ .... } الآية. بين الله تعالى في الآيتين السابقتين أَن من هاجر في سبيل الله ثم قتل أَو مات فإِن الله سيحسن جزاءَه بإِدخاله مدخلا يرضاه في الجنة، وأَن يرزقه فيها رزقا حسنا، وجاءَت هذه الآية لتقرير هذا الوعد، ولإِباحة رَدِّ الاعتداء على المعتدى.

والمعنى: الأَمر ذلك الذي تقدم بيانه من حسن جزاءِ المهاجرين الذين قتلوا في سبيل الله أَو ماتوا، ثم استأْنف الله فبين حق المسلمين في الأَخذ بثأْر الذين قتلوا في سبيل الله فقال ما معناه: ومَن انتَقَم من المعتدين عليه بمثل ما فعلوا به، ثم بُغِى عليه بالاعتداءِ مرة ثانية، لينصرنه الله على من بغى عليه. وسبب نزول هذه الآية كما قال مقاتل: أَن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إِن أَصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أَن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر، فأَبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فوقع في أَنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع، فأَنزل الله هذه الآية. وقد عرفنا منها أَن من حق الإِنسان أَن يقابل المعتدى بمثل عدوانه؛ فالدفاع عن النفس أَمر مقرر في شريعة الله تعالى، كما أَنه أَمر معترف به في جميع الشرائع الوضعية، وسمى الدفاع عقابا على سبيل المشاكلة والمزاوجة، مثل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬1). ومثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2) وقد أَمرنا الله تعالى أَن يكون عقابنا للمعتدى مماثلا لعدوانه، فلا يحل لأَحد أَن يتجاوز المماثلة في رد العدوان، فإِذا شَتَم إِنسانٌ آخر فلا يكون رد المشتوم قتل الشاتم، فإِن عاد الخصم إِلى العدوان، فبالغ في بغيه وعدوانه فإِن الله سينصر المظلوم على من بغى عليه لا محالة إِذا انتقم منه لنفسه، وعلَّل الله نصرته بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}: لمن أَخذ بحقه، ولم يأْخذ بقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أَي: أَنه تعالى مع حبه للعفو والغفران واتصافه بهما، ينصر المظلوم الذي ينتقم من ظالمه، إِن فعل خلاف الأَولى، وهو الانتقام بدل العفو، لأَنه أَخذ بحقه وليس معتديا أَولا وآخرا، وإِن كان العفو أَقرب إِلى التقوى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 194 (¬2) سورة آل عمران، الآية:

قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). ومن رحمته تعالى أنه يمهل العاصى والظالم لعله يثوب إِلى رشده ويتوب إِلى الله ويصلح ما أَفسده فإِنه سبحانه - كما وصف نفسه - كثير العفو واسع الغُفْران. 61 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَي: ذلك النصر الذي وعده الله لمن بُغِى عليه واقع بسبب أَن الله يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل فيزيد أَحدهما بنقص الآخر، طبقا للنظام الذي وضعه الله لدوران الأَرض حول الشمس مائلة على محورها بزاوية معينة مما ينشأُ عنه تعاقب الفصول, ومع كونه سبحانه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل فهو عظيم السمع لأَنه يسمع كل صوت وإِن كان خفيا، عظيم البصر لأَنه يبصر كل مشهد وإِن كان نائيا. فإِذا وقع ظلم على واحد من عباده فإِنه ينصر المظلوم ويردع الظالم ويحق الحق ويبطل الباطل و {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (¬2). 62 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَي: ذلك الاتصاف بما ذكر من كمال القدرة والعلم، ثابت لله تعالى بسبب أَنه - سبحانه - هو الإِله الحق الذي لا شك فيه، وهو وحده الجدير بالعبادة والتقديس. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}: وأَن ما يعبدون من آلهة أُخرى هو الباطل لأَنهم {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬3). {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}: وأَن الله سبحانه هو العلي على جميع الموجودات، الكبير عن أَن يكون له شريك أَو مثيل لأَنه الخالق المهيمن المدبَّرُ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الشورى، الآية: 40 (¬2) سورة آل عمران، من الآية: 5 (¬3) سورة الفرقان، من الآية: 3 (¬4) سورة الأعراف، من الآية:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)} المفردات: {مُخْضَرَّةً}: مكسوة بالنبات الأَخضر. {لَطِيفٌ}: بر بعباده محسن إِليهم رفيق بهم يشملهم برحمته وفضله. {خَبِيرٌ}: عليم مطلع على ما يحتاجون إِليه وما يصلحون له وما يصلح لهم. {الْغَنِيُّ}: المستغنى بقدرته عن غيره فلا يحتاج إِلى أَحد ويحتاج إِليه جميع الخلائق {الْحَمِيدُ}: المستحق للحمد والثناء على فضله العظيم. التفسير 63 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}: بعد أَن بين الله لعباده قدرته على إِيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وأَنه الحق وما يعبدون من دونه هو الباطل، جاءَت هذه الآية شاهدة على تمام قدرته تعالى وبليغ رحمته بعباده. والمعنى: أَلم تر أَيها الإِنسان أَن الله أَنزل من السحاب ماءً بقدر وحساب دقيق، أَنزله فوق أَديم الأَرض فتتحول من أَرض يابسة جرداءَ، إِلى أَرض مكسوة بالنبات الأَخضر الذي تتوقف حياتك عليه، فبه ترزق، وعليه يَعيش الحيوان الذي تنتفع به. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}: إن الله رحيم بعباده عالم بما يحتاجون إِليه وبما يقيم حياتهم ويكفل معيشتهم في أَمن وسلام.

64 - {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: أَي: لله - سبحانه - ما في السموات وما في الأَرض ومَنْ فيهما خلقا وملكا وتصرفا، لا يخرج شىءٌ عن سلطانه ولا يعجزه شىءٌ من الأَشياءِ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (¬1). {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}: وإِن الله لهو المستغنى عن مخلوقاته جميعا لا يحتاج إِلى أَحد منهم، وهم جميعا يحتاجون إِليه. وهو وحده المستحق للحمد والثناءِ من خلقه، لأَنه هو الذي خلقهم ورزقهم وشملهم بلطفه ورحمته. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)} المفردات: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ}: يَسَّر لكم الانتفاع بما في الأَرض من حيوان أَو نبات أَو معادن. {الْفُلْكَ}: السفن. {رَءُوفٌ}: مشفق. {لَكَفُورٌ}: لجاحد للنعمة منكر لها. التفسير 65 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ}: من نعمه العديدة حيث يَسَّر لكم الانتفاع بما فيها من حيوان ونبات ومعادن. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 44

{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}: وسخر لكم السفن بعد أَن علمكم كيف تصنعونها وكيف تستخدمونها في حملكم وحمل السلع التجارية من بلد إِلى بلد، ومن إِقليم إِلى إِقليم، طبقا لسنته في الأَجسام الطافية حيث أَجراها بالرياح الجارية، أَو بالمحركات الدائرة التي أَلهمكم صنعها. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: ومن رحمته سبحانه بخلقه أَنه خلق الأَجرام والكواكب، ودفع كلا منها في مداره المرسوم وربطها برباط الجاذبيَّة طبقا لسنته الكونية. وهذه الجاذبية من شأْنها أَن تجعل الأَرض تجذب إِليها بعض كواكب السماءِ القريبة منها لتسقط عليها ولكنه - سبحانه - جعل في مقابل الجاذبية ما يسميه علماءُ الفلك بقوة الطرْدِ المركزية, وهي مساوية لقوة الجاذبية, فيقع الجرم الفلكى بين قوتين متعادلتين مما يتيح له البقاءَ متوازيا في فلكه المرسوم، ولكن حينما يأْذن الله بنهاية الخلق تضعف إِحدى القوتين عن نظيرتها فيصطدم بعض الكواكب ببعضها الآخر، وذلك ما يشير إِليه قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} (¬1). {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: إِن الله تعالى رحيم بعباده, مشفق عليهم, إِذ هيَّأَ لهم العيش المناسب فوق سطح الأَرض وتحت كواكب السماءِ، وهم آمنون مطمئنون. 66 - {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}: أَي: أَنه - تعالى - هو الذي وهب عباده الحياة، وهو الذي يسلبهم إِياها عند الموت، ثم يبعثهم بعد الحساب والجزاءِ، فمن حقه عليهم أَن يعبدوه ولا يكفروه، ولكنهم أَشركوا به وكفروه، ولذا ختم الله الآية بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ}: أَي؛ شديد الجحود للنعم العديدة التي يراها في نفسه وفيما يحيط به في البر والبحر والأَرض والسماءِ، إِلا من عصم الله من عباده الصالحين. ¬

_ (¬1) سورة الانفطار، الآيتان: 1، 2

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} المفردات: {مَنْسَكًا} أَي: شريعة. {فَلَا يُنَازِعُنَّكَ} أَي: فلا يخاصمُنَّك ولا يجادلنك في أَمر الإِسلام وتكليفهم به. {جَادَلُوكَ}: ناقشوك وخاصموك. التفسير 67 - {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ}: لكل قوم جعلنا شريعة يلتزمون بها ويؤَدونها في الوقت الذي أَراده الله لها. وشريعة الإِسلام هي شريعة هذه الأُمة التي بعث بها محمد, في مشارق الأَرض ومغاربها إِلى يوم القيامة, فهى ناسخة لما قبلها فلا ينازعَنَّك أَهلُ الكتاب في شأْنها, فهم مكلفون بها. {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}: وادع أَهل الكتاب وغيرهم إِلى عبادة ربك على الشريعة التي جئتهم بها، فإِنك من دين ربك على طريق مستقيم، ولا عليك إِن استجابوا لك أَو أَعرضوا عنك. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 272

68 - {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}: إِذا بلغت رسالتك - أَيها النبي - فلا يضيرنك جدال المجادلين ولا نزاع المخاصمين، فإِن جادلوك فقل لهم: الأَمر بينى وبينكم مفوض إِلى العليم الحكيم؛ فإِنه يعلم سركم وجهركم، ويعرف ما تبدون وما تكتمون. وقد توعدهم الله على جدالهم بقوله: 69 - {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}: أَي: أَمركم جميعا إِلى الله يقضى بينكم بحكمه وحكمته يوم يقوم الناس لرب العالمين {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). وفي هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والخطاب فيها عام للمؤْمنين والكافرين، وليس محكيا بالقول كالذى قبله. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)} ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8

المفردات: {يَسِيرٌ}: سهل. {سُلْطَانًا}: دليلا له سلطان. {يَسْطُونَ}: يبطشون. التفسير 70 - {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}: أَلم تعرف أَن الله يعلم جميع ما في السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقرَّ فيهما، وما يُجْهَرُ فيهما أَو يُسَرُّ من القول أَو العمل؟ وما تكنه القلوب وما تضمره النفوس وكل هذا مسجل عنده في كتاب قديم كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1). والمراد به: علم الله - تعالى - فهو يحكم بين الناس عن علم ويقين روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عَمْرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قدر مقادِير الْخلائق قَبل خَلْق السَّموَاتِ والأَرْض ... " الحديث. وقد دَوَّنَ سبحانه هذه الأَحداث في اللوح المحفوظ طبقا لعلمه، وأَنزلها بحسب مشيئته في الوقت الذي قدَّره سبحانه. وإِن هذه المعرفة يسيرة على خالق الكائنات ومالكها والمدبر لها بما يملكه من قوة وسلطان وتدبير وإِحكام. 71 - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ}: أَي: أَن هؤُلاءِ المشركين يتجهون بالعبادة والتقديس إِلى غير الله الذي خلق السماءَ والأَرض، وعلم كل شيءٍ فيهما، يفعلون ذلك دون اعتماد على برهان عقلى أَو كتاب سماوى. ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 75

{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}: وما لهؤُلاءِ الذين ظلموا أَنفسهم من معين يؤَيدهم في هذا الانحراف ويعاونهم فيما لجُّوا فيهِ من ضلال وكفر، أَو ينقذهم مما ينتظرهم من عقاب. 72 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ}: وإِذا تلا عليهم قارىءٌ آياتِ الله البينات الواضحات ضاقوا بها ذَرْعًا وظهر الضيق والضجر على وجوههم؛ لأَنهم بطبيعتهم المنحرفة، وتفكيرهم السقيم، يؤْثرون الضلال على الهدى {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}: يهمون أَن يبطشوا بمن يقرأُ عليهم آيات الله البينات ضيقا به وغيظا منه. {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: قل لهم: أَأَعظكم وأُخبركم بما هو أَسوأُ من ضيقكم بالدعوة إِلى الله وتفكيركم في البطش بالداعين إِليه، أَسوأُ من ذلكم نار جهنم التي أَعدها الله وتوعد بها من انصرفوا عن الهدى إِلى الضلال وعن الإِيمان إِلى الكفران، وساءَ المرجع والمصير الذي اخترتموه لأَنفسكم بما فطرتم عليه من جهلٍ وعناد. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} المفردات: {ضُرِبَ مَثَلٌ}: بُيِّنَتْ لكم حالٌ مستغربة. {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: تعبدونهم غير الله. {اجْتَمَعُوا لَهُ}: احتشدوا وتعاونوا. {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}: الطالب؛ الآلهة، والمطلوب؛ الذباب، وقيل العكس، وقيل الطالب العابد والمطلوب المعبود.

التفسير 73 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}: يا أَيها الناس إِن الله - سبحانه - يبصركم بحقائق الأُمور عن طريق ضرب الأَمثلة الحسية الواقعية فَأَصْغُوا إِليها واستمعوا لها. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}: إِن الذين تعبدونهم من دون الله عاجزون عن خلق الذباب، وهو حشرة ضعيفة مهينة، فكيف تعبدونهم دون من خلق الأَرض والسماوات ومن فيهن وتكفل برزقهم وتدبير أُمورهم؟ وهذه الآلهة المدعاة لا تستطيع خلق الذباب ولا عضوا واحدا من أَعضاءِ الذباب, ولو تساندوا جميعا وتعاونوا وحشدوا كل طاقاتهم. ووصل أَمرها من الضعف إِلى ما صوره الله بقوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}: أَي؛ وهذا الذباب إِن يأْخذ من هذه الأَوثان شيئا من نحو الطعام الذي يوضع أَمامها قربانا لا تستطيع استرداده منه, وقد ختم الله الآية بما يفيد سوءَ حال الأَصنام وعابديها فقال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}: أَي؛ ضعف الإله والذباب، أَو الذباب والآلِهَة، فكيف استساغت عقولهم أَن يعبدوا تلك الأَوثان، ويقدسوها، ويسندوا إِليها النصر والرزق والمطر والصحة والمرض، وهي بهذا الضعف الذي صوره الله بما يقتضي الرثاءَ لعابديها؟ {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}

المفردات: {قَدَرُوا اللَّهَ}: تبينوا عظمته وقدرته وسلطانه. {قَوِيٌّ}: قاهر لا يغلب. {عَزِيزٌ}: منيع لا يضام. {يَصْطَفِي}: يختار. {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ما يستقبلونه. {وَمَا خَلْفَهُمْ}: وما يستدبرونه. التفسير 74 - {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أَي: ما عرفوا عظمة الله وجلاله وقدرته وسلطانه حَقَّ المعرفة، فانصرفوا عن عبادته وتقديسه إِلى عبادة الآلهة الضعيفة المهينة العاجزة. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}: إِن الله سبحانه قوى عظيم القوة والسلطان، وكل ما سواه ضعيف عاجز، والله سبحانه عزيز لا يُنال وغالب على أَمره، وسواه مهين ضعيف ذليل مغلوب. 75 - {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}: أَي: أَن الله سبحانه يحيط علمه بكل شَىْءٍ، فلهذا يعلم مَنْ هو أَهلٌ للرسالة من الملائكة ومن البشر، فينزل شرائعه عن طريق الروح الأَمين، على مَنْ يختاره مِنَ البشر لتبليغ شرائعه إِلى الناس. وفي ذلك يقول سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬1) ويقول أَيضا: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬2) يقال: إِن الوليد بن المغيرة استكثر الرسالة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} (¬3) فنزل قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}: ردًّا عليه وتحقيقا للحق {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}: إِن الله سبحانه عظيم السمع يسمع كل صوت وإِن كان خفيًّا، شامل البصر يرى كل مشهد وإِن كان دقيقًا أَو قَصِيًّا؛ فهو سبحانه محيط بكل شيءٍ علما. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 124 (¬2) سورة الدخان، الآية: 32 (¬3) سورة ص، من الآية: 8

76 - {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: أَي: أَنه - تعالى - يعلم ما يستقبلونه من أَحداث ويعلم ما يخلفونه من آثار، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬1). وإِليه وحده المرجع والمآب؛ فالكل منه وإِليه وجميع الكائنات مردها إِلى الله، وهو بها جميعا بصير عليم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} المفردات: {اجْتَبَاكُمْ}: اختاركم واصطفاكم. {حَرَجٍ}: ضيق أَو شدة. {مِلَّةَ}: شريعة. {مَوْلَاكُمْ}: ربكم ومالك أَمركم ومدبر شئونكم. {النَّصِيرُ}: المعين. ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 12

التفسير 77 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}: بعد أَن فرغت الآيات الكريمة من مجادلة المشركين وتسفيه آرائهم، اتجهت إِلى مخاطبة المؤمنين بندائهم بما امتازوا به من تكريم، وتنبيههم إِلى أَن العمل الصالح هو ثمرة الإِيمان ونتيجته، وفي مقدمة الأَعمال الصالحة الصلاة لأَنها علامة الإِيمان وعماد الدين وقد عبر عنها بالركوع والسجود لأَنهما سمة الخشوع والخضوع اللذين هما قِوام الصلاة، فالمقصود بالأَمر بهما: الأَمرُ بإِقامة الصلاة بكل ما تشتمل عليه منهما ومن غيرهما ثم أَمرهم باستكمال موجبات الإِيمان فقال: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أَي؛ اعبدوا خالقكم ومالككم ومربيكم باتباع أَوامره واجتناب نواهيه والاتجاه إِليه وحده بالعبادة والتقديس، فهو الرب المنعم المتفضل، وافعلوا ما قدرتم عليه من الخير، لتنالوا الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وبما أَن الإِسلام له أَعداءٌ يتربصون به، فلذا أَمرهم الله بالجهاد في سبيله فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}: والجهاد في الإِسلام؛ يشمل مقاومة أَعدائه الواقفين في سبيل نشره المعادين ليه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). كما يشمل مقاومة نزغات النفس وشهواتها وأَهوائها، روى البيهقى والخطيب عن جابر: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قفل من إِحدى الغزوات فقال لأَصحابه: "قَدِمتُم خير مقدم، وقدِمْتُم من الجهاد الأَصغر إلى الجهاد الأَكبر". وفسر الجهاد: الأَكبر بأَنه مجاهدة العبد هواه؛ وأَفضل الجهاد: مقاومة الظلم، قال - صلى الله عليه وسلم -: (أَفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) أَخرجه ابن ماجه، والخطيب، وأَحمد والطبرانى، والبيهقى. ¬

_ (¬1) سورة التحريم، الآية: 9

{هُوَ اجْتَبَاكُمْ}: هو اصطفاكم لحمل خاتم الأَديان ونشر رسالته، فأَرسل إِليكم أَفضل الأَنبياءِ، وأَنزل إِليكم أَكرم الكتب السماوية؛ وأَتم عليكم نعمته بالتأْييد والنصر. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}: ولم يكلفكم ما يشق عليكم ويسبب لكم الضيق والحرج, فإِنه سبحانه لا يكلف نفسا إِلا وسعها، وهو تبارك وتعالى ييسر الأُمور: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). ومن لطفه وتيسيره: أَنه أَباح لنا قصر الصلاة والإِفطار في السفر الطويل, وأَباح لنا التيمم عند فقد الماءِ أَو تعذر استعماله, والقعود في الصلاة عند تعذر القيام فيها. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}: فالزموا الإِسلام الذي هو ملة أَبيكم إِبراهيم، فهو الذي بنى لكم البيت ودعاكم إِلى حجه والصلاة إِليه. بتكليف من الله - سبحانه وتعالى - ودعا الله أَن يمكنه وذريته من إِقامة الصلاة بقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (¬2). {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا}: هو الله - سبحانه - الذي سماكم بهذا الاسم وارتضى لكم الإِسلام دينا من قديم, وأَمركم به في هذا القرآن الكريم حيث قال فيه: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (¬3) {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}: ولما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، وقد أَبلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله إِلى أُمته بما يحويه من أَوامر ونواه، وبما فيه من قصص الرسل والأَنبياءِ السابقين فلهذا يشهد الرسول بأَنه بلغ رسالة الإِسلام إِلى أُمته, ويشهد المسلمون منهم على الأُمم السابقة بما قصه عليهم القرآن من تبليغ رسلهم شرائع الله إِلى أُممهم. {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}: أَي؛ وإِذا كان الله تعالى منحكم هذا الشرف العظيم, حيث جعلكم شهداءَ على الناس, فتقربوا إِليه - سبحانه - بأَنواع الطاعات، وأَخصها إِقامة الصلاة وإِيتاءُ الزكاة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 185 (¬2) سورة إبراهيم، من الآية: 40 (¬3) سورة الحج, من الآية:

تصحيح

{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: والتجئوا إلى الله , وتحصنوا به لحمايتكم من الأعداء ومن نزغات الأهواء، فإنه ربكم وخالقكم والمدبر لأموركم، والمهيمن عليكم الحافظ لكم {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) فما أَعظم وأكرم الرب المنعم المتفضل الحفيظ. وما أَعظم النصير المعين الذي يحفظ من يلوذ به ومن يحتمى بحماه وينصره على مَنْ عاداه. {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬2). تصحيح ورد في الصفحة (رقم 1157) من الحزب الثالث والثلاثين، أن جيش مصر هزم التتار في معركة (مرج دابق) والصواب أنه هزمهم في معركة (عين جالوت) فنرجو من القارىء أن يصحح نسخته، ونعتذر له عن هذا السهو وشكرا. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 101 (¬2) سورة يوسف، من الآية: 64

سورة المؤمنون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة مقاصدها: بدأَت هذه السورة ببشارة المؤمنين بالفلاح والخلود في الفردوس، إِذا خشعوا في صلاتهم وحافظوا عليها، وأَعرضوا عن اللغو وأَدوا الزكاة، وحفظوا فروجهم من الفاحشة، وراعوا الأَمانة والعهد. وعقبت هذه البشرى ببيان منشأ الإِنسان ومآله، وأَنه سبحانه خلق من فوقنا سبع سموات طباقا، وأَنه لا يغفل عن خلقه طرفة عين، ولهذا أَنزل من السحاب ماءً أجراه في مجارى فوق سطح الأَرض، وأَسكن بعضه في جوفها، ليستخرجه الناس وقت الحاجة إليه، وأنه أنشأَ لنا بهذا الماء الزروع والثمار لنأْكل ونتعيش منها، وخلق لنا الأَنعام وجعلها عبرة لنا، فمن بطونها نشرب اللبن، ومن لحومها نأكل، وبمنافعها الكثيرة ننتفع، وعلى الإِبل منها نحمل ثقال الأَحمال، كما نحمل على السفن. وبينت قصص الأَنبياءِ مع أممهم، وقد جاءَ فيها أن هذه الأمم لم تشكر نعم ربها بتوحيده وعبادتها، بل أَشركت معه غيره من مخلوقاته، فبعث إليها رسله ليهدوهم سواء السبيل، فكذبوهم فعاقبهم الله بعذاب الاستئصال، ونجَّى منه عباده المؤمنين. وذكرت من أنباء المهلكين: قوم نوح أغرقهم الله بالطوفان، وقوم صالح أهلكهم الله بالصيحة، وفرعون وجنوده، كفروا بموسى وهرون فأَغرقهم في اليم. وعقبت قصة فرعون معهما ببيان أن الله تعالى جعل ابن مريم وأمه آية، لأَنه ولد منها دون أَب، وأنه تعالى آواهما إِلى ربوة ذات قرار ومعين، وسيأْتى بيان ذلك في الشرح، وأنه شرع للرسل وأممهم أَن يأْكلوا من الطيبات، ويتركوا ما حرمه الله عليهم، وأَن جميع الأُمم أمة وديانة واحدة هي توحيد الله، وأصول الشرائع والأحكام - وإِن اختلفت في الفروع -

وأَنه يجب على الناس جميعا أَن يتقوه دون سواه، ولكن الناس تقطعوا دينهم وابتدعوا في دين الله ما ليس منه، وقد توعدهم الله بالعقاب على هذا التفرق في الدين الحق. ثم مدحت المؤمنين الذين يخشون ربهم ولا يشركون به، ويسبقون إلى الخيرات، وذكرت أنه تعالى لا يكلف نفسا إِلا وسعها، وإن هؤلاء المترفين الكافرين سيؤخذون بالعذاب فيجأَرون مستغيثين ولا مغيث لهم ولا ناصر, لأن آياته تعالى كانت تتلى عليهم فكانوا يستكبرون ولا يؤمنون. وبينت أَنه لو اتبع الحق أهواءَ الناس لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، وأنه تعالى بعث محمدا بالقرآن إلى قريش، ومع أنه شرف لهم أعرضوا عنه، في حين أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسألهم على تبليغ الرساله أجرًا، أن يريد إلا الإصلاح، وبينت أَنه تعالى عاقبهم عقابا غير شديد في الدنيا على كفرهم، ولكنهم لم يستكينوا لربهم وما يتضرعرن، وأنه إذا فتح عليهم بابا ذا عذاب شديد فسيُبلسون ويتحيرون. وقد ذكرتهم بنعم السمع والبصر والفؤاد، وأنهم سوف يحشرون إليه بعد الموت، وبدلًا من الإيمان كفروا بالبعث وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ثم ذكرت أَن الله أَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن يُجرى معهم حوارا: لمن الأَرض ومن فيها؟ مَنْ رب السموات السبع ورب العرش العظم؟ مَنْ بيده ملكوت السموات والأرض وهو يُجِيرُ ولا يُجَار عليه؟ وبينت أَنهم سيقولون في كل ذلك: لله، ولكنهم لا يتذكرون ولا يتعظون، بل يُصِّرُون على الإشراك، وذكرت أن الموت إِذا جاءَهم فسيندمون على تقصيرهم، فيطلبون الرجوع إِلى الحياة الدنيا ليعملوا صالحا، وأنه لا سبيل إِلى إجابة ملتمسهم، ثم بينت أحوال الناس يوم القيامة، فمن ثقلت موازينه بالعمل الصالح فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه بسبب العمل السيء والكفر، فهم {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} وبينت أَنهم يعترفون ويقولون:

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} وأَنه تعالى يجيبهم بقوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} ثم خُتمت السورة ببيان أنه تعالى لم يخلق عباده عبثا، وأَنهم سيرجعون إِليه للحساب والجزاء، وبينت أَن مَن يدعو مع الله إلها آخر فحسابه عنيف عند ربه، وأَنه تعالى هو الذي يُطْلَب منه الغفران والرحمة لمن هم أَهل لهما {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)}.

بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} المفردوات: {أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}: الفلاح، الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، والإفلاح الدخول في الفلاح، كالإِبشار الدخول في البشارة. (خَاشِعُونَ): خاضعون متذللون. (الَّلغْوِ): ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال (وَرَآة ذَلِكَ): سوى ذلك. (الْعَادُونَ): المبالغون في العدوان (رَاعُونَ): حافظون، وأصل الرعي: حفظ الحيوان بتغذيته ودفع العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقًا. (الْفِرْدَوْسَ): المراد به هنا، أَعلى درجات الجنان في الآخرة. التفسير 1، 2 - {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}: جاءَ في خواتيم سورة الحج قبلها تكليف المؤمنين بالصلاة وعبادة ربهم لكي يفلحوا ويفوزوا بفضله ورحمته، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا

وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فكان من المناسب أن تبدأَ هذه السورة بما يؤكد فلاح المؤمنين المصلحين العابدين، الخاشعين المتقين، ولفظ (قدْ) يفيد تحقيق المتوقع وتثبيته، وكان المؤمنون يتوقعون البشارة بفلاحهم، لإِيمانهم وتوحيد ربهم فأخبروا بتحقق ما توقعوه وثباته, إذا قرنوا إِيمانهم بالعمل الصالح، والمؤمنون في اللغة: المصدقون مطلقًا، وفي الشرع: المصدقون بما علم ضرورة أَنه من دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من وحدانية الله تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبجزاء المحسنين والمسيئين فيه، وأن يخلو تصديقهم هذا عن الرياءِ والنفاق والشك. والخشوع في الصلاة: سكون الجوارح والتذلل وحضور القلب، وجمع الهمة لها والإعراض عما سواها، وأن لا يجاوز البَصَرُ المُصَلَّى، فلا يلتفت المصلى يمْنةً ولا يسرة، ولا يعبث بلحيته ولا بثيابه ونحو ذلك. وقال أبو الدراء يصف الخشوع: هو إخلاص المقال، وإِعظام المقام، واليقين التام, وجمع الاهتمام. والخشوع محله القلب، وله السلطان على الجوارح، فإِذا خشع القلب خشعت الجوارح لخشوعه، قال القرطبى: كان الرجل من العلماء إِذا أَقام الصلاة وقام إليها، يهاب الرحمن أَن يحدَّ بصرَه إِلى شىء، وأَن يحدث نفسه بشىء من الدنيا - وأَخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسنده إِلى أَبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلًا يعبث بلحيته في صلاته فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" كما أخرج بسنده عن أم رومان والدة عائشة - رضى الله عنها - قالت: (رآنى أَبو بكر - رضى الله عنه - أتمَيَّل في صلاتي، فزجرنى زجرة كدت أَنصرف عن صلاتى) ثم قال: واختلف الناس في الخشوع: أَهو من فرائض الصلاة أم من فضائلها، ورجح بعضهم الأول، وأضيفت الصلاة إِلى المصلين في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ولم تضف إِلى الله الذي يصلون له؛ لأَنهم المنتفعون بثوابها، فهي عُدَّتهم وذخيرتهم، وأَما المولى - سبحانه - فهو غنى عنهم وعن عبادتهم.

ولْيَعْلم المؤمن أن العمل الصالح ثمرة الإيمان الصادق، فمن لا عمل له فإيمانه واهن ضعيف بل هو ميت لا أثر للحياة فيه، فهو كالشجرة الجافة، لا ورق لها ولا ثمر، ولهذا مثل الله تعالى كلمة الإيمان الصادق بقوله: " {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬1). وقد جاءَ في فضل هذه الآيات التي صدرت بها سورة (المؤمنون) وثواب من يعمل بها - جاء في ذلك حديث أَخرجه الإمام أَحمد بسنده عن عمر بن الخطاب قال: "كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحى، يُسْمَعُ عند وجهه دويٌّ كدوى النحل، فمكثنا ساعة فسرِّى عنه، فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأَكرمنا ولا تهنا، وأَعطنا ولا تحرمنا، وآثِرنا ولا توثر علينا، وارض عنا وأرضِنا" ثم قال: "لقد أُنزِلَتْ على عشر آيات من أَقامهن دخل الجنة "ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} " حتى ختم العشر، وسئلت عائشة - رضى الله عنها -: كيف كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأَت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} حتى انتهت إلى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يُحَافِظونَ قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم -" أخرجه النسائى في تفسيره (¬2) وقد وعد الله المؤمنين في هذه الآيات ميراث الفردوس والخلود فيه إذا اتصفوا بصفات سِتٍّ (أَولاها) الخشوع في الصلاة، وقد سبق الحديث عنه، وفيما يلى: الحديث عن باقى الصفات: 3، 4 - {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}: تضمنت هاتان الآيتان صفتين أُخريين للمؤمنين المفلحين بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، الصفة الأولى منهما: إعراضهم عن اللغو وبعدهم عنه، وفسره ابن عباس بالباطل، وقال الآلوسى: وقد يُسَمى كل كلام قبيح: لغوًا، وعمَّم بعضهم اللغو فجعله يشمل كل ما لا يعتد به من الأَقوال والأَفعال، وشاع في كل كلام يقوله صاحبه لا عن روية وفكر، فهو ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآيتان: 24، 25 (¬2) انظره والحديث الذي قبله في تفسير ابن كثير لأول (المؤمن

يجرى مجزى اللَّغاء، وهو صوت العصافير ونحوها من الطير، والصفة الثانية منهما أداؤهم الزكاة، والمراد من الزكاة هنا: زكاة أَموالهم، ولا ينافى هذا كون السورة مكية، والزكاة إِنما فرضت بالمدينة، لأن التي فرضت بالمدينة هي ذات النُّصُب والمقادير الخاصة، وهذه غير التي فرضها الله بمكة، فقد كانت غير مشروطة بمقدار، ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1) ومن العلماء من فسر الزكاة هنا بزكاة النفس مراعاة لمكية الآية، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}. والمعنى: والذين هم لأجل زكاة نفوسهم يفعلون ما يفعلون من الطاعات. 5،6 - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}: تضمنت هاتان الآيتان الكريمتان صفة رابعة للمؤمنين الذين يفوزون بجنة الفردوس، وهي حفظهم لفروجهم من الزنى، والفَرْج يشمل سوءَة الرجل والمرأة، فالمراد به عضو التناسل من كل منهما، ولفظ (عَلَى) في قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} بمعنى: (مِن) كما قاله الفراء وغيره، أي: حافظون لفروجهم إِلا من أزواجهم أَو ما ملكت أيمانهم، والأزواج جمع زوج، وهو يطلق على كل من الرجل والمراد المتزوجين، فكلاهما زَاوَجَ الآخر أي ثاناه، بأن جعله مع نفسه اثنين، والمراد مما ملكت أيمانهم السُّرِّيات (¬2) وهُنَّ (الإماءُ) المأخوذات في غنائم الحرب، دون المختطفات من آهلهن، فلا يحل بيعهن ولا شراؤهن، ولا الاستمتاع بهن عن طريق ملك اليمين، فهن حرائر مغتصبات فلا سبيل إلى تملكهن، ومن اشتراهن وهو يعلم بحالهن فشراؤه غير صحيح، والاستمتاع بهن زِنى. وقد أَفادت الآية الكريمة أنه لا لوم ولا إثم على المؤمنين في غشيان زوجاتهم وإمائِهم، ولا على المؤمنات في مباشرة أَزواجهن لهن، أما عبيدهن فلا حَقَّ لهم في الاستمتاع بهن بالإِجماع (¬3)، لأَنه مملوك لها وليس مالكًا فهى قوَّامة عليه، بخلاف استمتاع السيد بأمته فإِنه مالك لها وقَوَّام عليها. ¬

_ (¬1) الآية: 141 (¬2) جمع سرية - بضم السين - منسوبة إلى السر بكسرها على غير قياس، كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهرى، وإلى الأرض السهلة: سهلى - بضم الأول في كليهما - انظر المادة في القاموس. (¬3) وإن كان ظاهر الآية يخا

روى معمر عن قتادة قال: تسرَّرَت امرأَة غلامها (¬1)، فذُكِرَ ذلك لعُمَر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أَراه يحل لي بملك يمينى، كما يحل للرجل المرأَة بملك اليمين، فاستشار عمر في رَجْمِهَا أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: تَأَوَّلَتْ كتاب الله على غير تأويله فلا رجم عليها، فقال عمر: لا جرم. والله لا أُحِلّكِ لحُرٍّ بعده أَبدًا، عاقبها بذلك ودرأَ الحد عنها، وأَمر العبد أَن لا يقربها. وعن أَبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرتُ عمر بن عبد العزيز، حين جاءته امرأَة بغلام لها وضيء، فقالت: إِنى استسْرَرتُه فمنعنى بنو عمى من ذلك، وإِنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فانْهَ عنى بنى عمى، فقال عمر: أَتزوجت قبله؟ قالت: نعم، فقال: أَما والله لولَا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يَخرج به إِلى غير بلدها. (¬2) 7 - {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}: أَي: فمن طلب سوى الزوجات والإماء لقضاء شهوته، فَأولئِكَ هم الجاوزون الحد في الإِثم والعدوان. وبهذه الآية حرم إتيان الذكور والبهائم، كما حرم نكاح المتعة، وهو نكاح المرأَة إِلى أَجل بمقابل، وكان مباحًا في الجاهلية، فلما نزلت هذه الآية حرمته، وهذا يقتضي أَن تحريمها كان قبل الهجرة لأنَّ السورة مكية، لكن ورد تحريمها بعد الهجرة ثلات مرات، (إحداها) يوم خيبر (¬3). (وثانيتها) يوم فتح مكة وهو يوم أَوطاس لاتصالهما، وكان قد أحلها يومئذ ثلاثة أيام ثم حرمها (¬4). (وثالثتها) كانت في حجة الوداع وكان التحريم فيها أَبديًّا أَخرجه أَبو داود (¬5). ¬

_ (¬1) أي جعلته يجامعها ويستمتع بها، من السر بمعنى: الجماع. (¬2) انظر القرطبى فيها وفي التي قبلها ج 12 ص 107 طبع دار الكتب. (¬3) وقد اتفقت عليه روايتا البخاري ومسلم. (¬4) رواه الإمام مسلم. (¬5) انظره في شرح النووى لمسلم.

ويرجع تحليلها في بعض الغزوات، إِلى الترخيص لهم بما أَلفوه قبل الإِسلام في سفرهم وحروبهم، تأْليفًا لهم وتدرجًا مهم في التشريع، فلما تشبعت نفوسهم بدينهم، حرمه الله إلى الأَبد. وقد علق الإِمام النووى على الحديث الأَول من أَحاديث المتعة عند مسلم - علَّق عليه - بكلام نفيس، ثم قال: قال القاضى (¬1): واتفق العلماءُ على أَن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أَجل لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاءِ الأجل من غير طلاق، ووقع الإِجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إِلَّا الروافض، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يقول بإباحتها، وروى عنه: أَنه رجع عنه. قال (¬2): وأَجمعوا على أَنه متى وقع نكاح المتعة الآن، حكم ببطلانه، سواءٌ كان قبل الدخول أَو بعده إِلى آخر ما قال. فارجع إِن شئت إِلى باب نكاح المتعة في كتاب أَحكام النكاح تعليق الإِمام النووى على الإِمام مسلم، وقد أَسهب الآلوسى في الكتابة على هذه الآية، فمن شاءَ المزيد فليرجع إِليه. ومما ذكره فيها: أَن الأَئمة اختلفوا في استمناء - الرجل بيده، وأَن جمهور الأَئمة على تحريمه، لدخوله تحت عموم قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)} وذكر أَن الإِمام أَحمد يجيزه، لأَن المنى فضلة في البدن فجاز إِخراجها عند الحاجة، كالفصد والحجامة. وعزز بعض العلماء رأْى الجمهور بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ناكح اليد ملعون"، كما عززه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}، وهذا الاستمناءُ يقرب صاحبه من الزنى، فلهذا يكون منهيًّا عنه ومحرمًا. 8 - {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}: هذه هي الصفة الخامسة للمؤمنين الموعودين بالفوز وميراث الفردس، وهي رعايتهم لأَماناتهم وعهدهم، والمراد بأَماناتهم: ما ائتُمِنُوا عليه من جهة الله هي التكاليف الشرعية التي كلف الله عباده بها، كالصلاة والصوم والزكاة وترك الخمر والميسر، أو من جهة الناس وهي ودائعهم من الأَموال والأَسرار. ¬

_ (¬1) يعنى القاضى عياضا. (¬2) أي: قال القاضى عياض.

والمراد بعهدهم: ما عاهدوا الله عليه بالأيمان والنذور، وما عاهدوا الناس عليه بالعقود والوعود، وجمعت الأمانة في الآية دون العهد، لكثرة الأمانات من جهة الله ومن جهة الناس، وقد أَثنى الله عليهم , بأنهم مراعون للأمانات والعهود بأنواعها، حافظون لها قائمون بحقوقها. 9 - {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}: هذه هي الصفة السادسة للمؤمنين المفلحين، والمراد من الصلوات: الصلوات المفروضة، كما أَخرجه ابن المنذر وغيره عن عكرمة، والمراد من المحافظة عليها: أَداؤها في أوقاتها بأركانها وشروطها، والتعبير بقوله {يُحَافِظُونَ} بدل (محافظون) لما في الصلاة من التجدد والتكرار الذي توافقه صيغة الفعل المضارع. وقد ذكرت الصلاة في أوصاف المؤمنين مرتين ولا تكرار فيها، فإن ذكرها أولًا للحث على الخشوع فيها لأهميته، وذكرها أَخيرًا للمحافظة عليها في جميع مطالبها. وكلاهما يدل على فضل الصلاة وعظيم منزلتها عند الله تعالى، ولهذا فرضها الله في السماء ليلة الإسراء والمعراج، وفرض سواها وَحْيًا على محمد - صلى الله عليه وسلم - في الأرض. 10 - {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}: أَي: أولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الجديدة هم الجديرون بأن يسموا وُرَّاثًا دون من عداهم ممن يرثون نفائس الأَموال والحلى وغيرها من متاع الدنيا، فإنه عرض زائل، وما عند الله خيرٌ وأبقى، ثم شرح ميراثهم فقال: 11 - {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: والفردوس في اللغة - كما قاد صاحب القاموس -: هو البستان يَجْمَعُ كل ما يكون في البساتين وقد يؤنث. وهو في الآخرة أَعلى درجات الجنان، ففي الحديث: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" أخرجه البخاري ومسلم.

وعبر عن استحقاقهم الفردوس بالميراث لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: "ما منكم من أَحد إِلَّا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أَهل الجنة منزله، فذلك قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة، وابن جرير عن أَبي معاوية بإِسناده إليه. وقيل: الإِرث مستعار للاستحاق، لأَنه أَقوى أسباب الملك. المعنى الإجمالى للآيات السابقة: 1 - قد فاز المؤمنون بما أَمَّلوه في مولاهم، فقد قضى بنيلهم ما طلبون, ونجاتهم مما يرهبون ويخافون، جزاءَ إيمانهم واتصافهم بالصفات الكريمة التالية: 2 - الذين هم في صلاتهم متذللون خاضعون، جوارحهم ساكنة، وقلوبهم حاضرة، وعقولهم مجتمعة غير مشتتة، يخلصون المقال، ويعظمون المقام، فهم ماثلون أمام مالك الملكوت، ورب العزة والجبروت. 3 - والذين هم في سلوكهم مع الناس، بعيدون عن ساقط الكلام وباطله, وردى الفعل وعابثه، فإذا نطقوا فبخير , وإِذا فعلوا فبرويَّة وفكر. 4 - والذين هم لزكاة أموالهم مؤدون، ومن أَجل طهارة نفوسهم يفعلون من الطاعات ما يفعلون. 5، 6 - والذين هم لسوءاتهم ومواضع العفة منهم حافظون إِلاّ من زوجاتهم أَو جواريهم فإنهم غير ملومين على مباشرتهن، فهن حلال لهم. 7 - فمن طلب غير الزوجات والسرارى لقضاء شهوته سفاحًا، فأولئِكَ هُمُ المعتدون ولحدود الله مجاوزرن، ولعقابه في الدنيا والآخرة مستحقون. 8 - والذين هم لما ائتمنوا عليه من التكاليف الشرعية وودائع الناس وأسرارهم حافظون لها، مؤدون حقوقها، قائمون بواجباتها. 9 - والذين هم على صلواتهم يحافظون، ففي أوقاتها يؤدون , وبأركانها وشروطها يلتزمون.

10، 11 - أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة، هم الجديرون بأن يوصفوا بالوارثين، فإِنهم يرثون في الآخرة جنة الفردوس أَعلى الجنان، ومن فوقها عرش الرحمن هم فيها خالدون، لَا يَخْرُجون ولا يُخْرَجون، أَما الوارثون في الدنيا للأموال والنفائس، والرباع والقصور، فهم وما ورثوه زائلون وعنه مسئولون. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} المفردات: (مِن سُلَالَةٍ من طِين) السلالة: ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه، أَي: مِنْ مسُتَخْرج ومستخلص من الطين. (جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً): صيرناه نطفة، أَي: منيًّا، وهي مأْخوذة من النطف: وهو التقاطر، وقال الراغب: النطفة: الماءُ الصافى، ويعبر به عن ماءِ الرجل. اهـ. وكان عليه أَن يقول: عن ماء الرجل والمرأَة، لأَن الجنين يتخلق من ماءيهما. (مَكِينٍ): متمكن ثابت (عَلَقَةً): هي ما يعلق بغيره، وسيأْتى بيان المراد منها في الشرح. (مُضْغَةً) أي: قطعة لحم بقدر ما يمضغ. التفسير 12 - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}: بين الله في الآيات السابقة صفات السعداء التي استحقوا بها الجنة، وجاءت هذه الآية والآيات التالية لها لبيان ما خلقوا منه هم وغيرهم، وما ينتهون إِليه، حثًّا لهم على استدامة

ما هم فيه من الصفات الكريمة، وتذكيرًا لغيرهم بمبدئهم ومنتهاهم، ليعملوا لآخرتهم، ويتقوا سوء المصير. والمراد من الإِنسان في الآية: الجنس، فكل أَفراد هذا الجنس - خلقهم الله من خلاصة مستخرجة من الطين، كما جاءَ في النص الكريم، وذلك باعتبار أَصلهم الأَول آدم - عليه السلام - فهم مخلوقون من الطين تبعًا لخلقه منه، أَو باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها خلاصة مستلة ومأخوذة من أَغذية ناشئة ونابتة من الطين. 13 - {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}: ثم حولنا الإنسان وصيرناه نطفة ومنيًّا في قرار مكين بعد استلاله من طين، ولفظ (ثمَّ) هنا إِما: للترتيب في الخلق والتراخِي في الزمن، أَو للترتيب والبعد في المنزلة والرتبة، فإِن تحويله من خلاصة من طين، إِلى منى مشتمل على حيوانات منوية لا حصر لها في ماءِ الرجل وعلى بويضة وحيدة في ماءِ المرأة، فيه انتقال من مرتبة أَدنى إلى مرتبة أعلى ومنزلة أَبعد وأَسمى، وهذا المعنى هو المناسب لما ختمت به الآيات، وهو قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين} ومثل ذلك يقال في الآية التالية. والمراد من القرار المكين: الرحم، فهو مقر متمكن في موضعه، وحرز حريز للنطفة وما يطرأ عليها من التطورات، فلا يخاف عليها فيه من حركة الأم وتنقلاتها وعملها حتى تضع حملها بسلام. 14 - {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين}: تقدم الكلام مستوفى على مثل ما جاء في هذه الآية في صدر سورة الحج: حيث بيَّنا هناك كيف تتحول النطفة إِلى علقة ثم إِلى مضغة، وأَطوار تكوين الجنين في أَشهر الحمل وأَوزانه، وأَن الحياة موجودة فيه منذ تكوين الخلية الأولى بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوى , وأَن المقصود من نفخ الروح فيه في نهاية طور المضغة هو إِعطاءُ الجنين دفعة قوية من الحياة تمكنه من الحركة في بطن أمِّه بعد أَن تم تصويرة المبدئي، ولهذا لا نرى داعيًا

لإِعادة الكلام هنا تفصيلًا فيها، فمن شاء فليرجع إلى ما قلناه في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ... } (¬1). والمعنى: ثم صيرنا النطفة البيضاء خلايا عالقة بجدار الرحم أجرينا عليها التحويل من حال إِلى حال فصيرناها بهذا التحويل والتصوير مضغة - أَي: قطعة لحم صغيرة قدر ما يمضغ، فيها معالم الانسان الأولية , فصيرنا بعض هذه المضغة عظاما متطورة ممتدة في ثناياها أَثناءَ تخليقها وتصويرها، فكسونا تلك العظام لحمًا وأَحطناها به، ليتم للجنين تلك الصورة البديعة، ثم حولناه بعد تمام التكوين والتصوير وأَنشأناه مخلوقًا آخر مباينًا لخلقه الأَول، فقد أَصبح إنسانًا سويًّا جميلًا وسيمًا، بعد أن كان منيًّا ثم علقة ثم مضغة. {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}: أَي: فتعالى الله أحسن الخالقين خلقًا، وتقدس أعظم المقدرين المبدعين تقديرًا وإبداعًا حيث أنشأ هذا الجمال الإنسانى من تراب ثم من نطفة ثم من علقة فمضغة، وعُدِل عن أسلوب التكلم في نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا} فأسند الفعل هنا إِلى لفظ الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وللإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبه، إِنما هو من أَحكام الأُلوهية وأثارها، وللإيذان بأن حق من سمع ما فصِّل من آثار قدرته تعالى أَو تَدَبَّره أَن يقول: "تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" إجلالًا وإعظامًا لشئونه تعالى. وَالْخَلْق معناه في اللغة: التقدير، وهو لهذا يصح أَن يطلق على غيره تعالى، كما في قوله سبحانه: "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ" أَي: تقدر من الطين تمثالا وتصوره كهيئة الطير، ولهذا عبر هنا بصيغة أفعل التفضيل (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). 15، 16 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}: ثم إنكم يا بنى الإِنسان بعد ذلك الخلق العجيب لمنتهون إلى الموت لا محالة ثم إنكم يوم القيامة تقومون من قبوركم وتبعثون منها إلى ساحة الحساب على أَعمالكم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}: ومن كان مصيره إلى الحساب والجزاء ولابد، فعليه أنا يَتَّقيَ سوء الحساب. ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية الخا

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20} المفردات: {سَبْعَ طَرَائِقَ}: سبع سماوات طباقًا بعضها فوق بعض، وهي جمع طريقة، والعرب تسمى كل شيء فوق شيء طريقة - انظر القرطبى. {مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بتقدير لائق يجلب المصالح ويدفع المضار. {جَنَّاتٍ}: بساتين. {تَنْبُتُ بِالدُّهْن}: تنبت ملتبسة بالدهن ومصاحبة له في تكوينها. {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}: وما يصبغ بِه الخبز للآكلين أي: يغمس فيه. التفسير 17 - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِين}: بين الله في الآيات السابقة خلق الإنسان ومصيره الذي ينتهى إليه، وبين في هذه الآية وما بعدها خلق ما هو بحاجة إليه في حياته الأولى، استكمالًا لنعمته عليه. وفي تقديم بيان خلق الإنسان على خلق هذه الكونيات العظيمة، إيذان بعظم خلقه مع صغر حجمه، ففيه انطوى العالم الأكبر، كما قال الشاعر: أَتَزْعُمُ أنَّكَ جِرْم صَغِير ... وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالمُ الأْكْبَرُ وفي تلك الآيات دلالة على إمكان بعثهم الموعود به قبلها في قوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} فإن من قدر على خلق السموات، وإخراج الشجر والنبات من التراب،

فهو على بعثهم قدير، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} والطرائق: جمع طريقة , وتطبق على الطبقة فوق الأخرى، يقال: طارقت الشيء: جعلت بعضه فوق بعض، كما تطلق على الطريق المعروف، وعلى الأسلوب والهيئة. وأُطلقت الطرائق على السموات السبع إِما لكون بعضها فوق بعض , أَو لأَنها طرق الملائكة في هبوطهم وعروجهم، أو لأن لكل سماء طريقة وأسلوبا في خلقها ونظامها وهيئتها. ومعنى الآية: ولقد أنشأْنا فوقكم يا بنى الإنسان سبع سماوات طباقا, يسلكها الملائكة في أَعمالهم التي كلفهم الله بها، ولكل سماءٍ هيئة ونظام يتفق مع ما خلقت لأَجله , وما كنا عن جميع مخلوقاتنا ساهين مهملين، فكل شيءٍ خلقناه فيها بقدر، دبرناه بحكمة، وهو مشمول برعايتنا وحفظنا، ومحوط بعلمنا {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1) لا تحجب سماءٌ عن علمه سماءً أخرى، ولا أَرض أرضًا غيرها، ولا جبل إلا هو يعلم سهوله ووديانه وهضابه وكثبانه، ولا ريف إلا وهو يعلم نباته وأَشجاره، وإنسانه وحيوانه {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬2) ولا بحر إلا وهو يعلم مياهه وركبانه، وأَسماكه وحيتانه، فهو {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬3). 18 - {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}: كل ما علاك يطلق عليه في اللغة: سماءٌ، والمراد بالسماء هنا إمَّا السحاب، فمنه ينزل المطر, وإما السماءُ المعروفة، والمقصود من إنزال المطر منها إِنزاله بسببها، فإن المطر أصله أَبخرة صاعدة من البحار، بسبب تسلط حرارة الشمس عليها، والشمس من السماء. ¬

_ (¬1) سورة الحديد، من الآية: 4 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 59 (¬3) سورة البقرة، من الآية: 255

ومعنى الآية: وأَنزلنا من السحاب ماءً بمقدار ما يكفى مخلوقاتنا في مصالحهم وحاجاتهم، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلا فلا يفى بالإنسان والحيوان والزروع والثمار، فأسكناه في الأرض وأَقررناه فيها، حيث أجريناه في الأنهار، وجعلنا الأرض تتشرب بعضه، ليستقر في جوفها، ويخزن تحت طبقاتها، لينتفع به الناس عند الحاجة إليه بحفر الآبار فيها ونبع العيون منها، وإنا على ذهاب بالماء الذي أنزلناه لقادرون، بأن نجعل الأرض تبتلعه فيغور فيها إِلى أماكن بعيدة لا تقدرون على استنباطه منها، كما قال سبحانه في آخر سورة الملك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}. ويصح أن يكون المعنى: وإنا على عدم انتفاعكم بالماء لقادرون، بأن نحبس المطر عنكم أو نحول عذبه الفرات إلى ملح أجاج، أو نجفف أنهاركم وآباركم، ولكنا بلطفنا ورحمتنا نمدكم بالماء العذب من آن لآخر، ونحفظه لكم لتنتفعوا به عند حاجتكم. 19 - {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}: فأوجدنا لكم بسبب هذا الماء الذي أَسكناه في الأرض - أوجدنا لكم - بساتين ذات بهجة من نخيل وأَعناب، لكم في تلك البساتين فواكه كثيرة غير النخيل والأعناب، تتفكهون بها وتتنعمون بحلاوتها وجمالها ولذيذ مذاقها، ومن هذه البساتين تأْكلون وتتغذن بزروعها وثمارها التي تجمع بين التفكه والتغذى. ويصح أن يكون المراد من الأكل من تلك الجنات التعيش والارتزاق منها , ببيع ما زاد على طعامهم وفاكهتهم، ومنه قولهم: فلان يأكل من حرفته، أي: يتعيش منها. وأجاز بعض العلماء عود الضمير في قوله: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} على النخيل والأعناب، فثمراتها جامعة بين الفاكهة والغذاء. 20 - {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}: الطُّور في اللغة: اسم لكل جبل، وطور سيناء: هو الجبل الذي كلم الله موسى - عليه السلام - عنده، هو واقع في إقليم سيناء التابع ل

وجمهور العرب والقراء على فتح السين مع مد الهمزة، وقرىء بكسرها مع المد أيضًا - وهو لغة بنى كنانة، وفيه لغات وقراءات أخرى: كَطُورِ سينين، ونكتفى بما ذكرنا، والمراد بالشجرة التي تنبت منه الدهن: شجرة الزيتون، وتخصيصها بالذكر من بين سائر الأشجار التي تنبت هناك لما فيها من المنافع الجليلة، ولشهرة طور سيناء بإنباتها أكثر من اشتهاره بإنبات سواها عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سواه لتعظيمها، وقيل: لأنه هو المنشأُ الأصلى لها بعد الطوفان، والله أعلم بذلك القول. والمراد من نباتها بالدهن، نباتها ملتبسة به، حيث خلقها الله صالحة لإخراج ثمرها مشتملا على نسبة عالية من الزيت، والمراد من كونه صبغا للآكلين، أنه يغمس فيه الخبز ويصبغ به عند تناوله، كما كانوا يفعلون عندما نزل القرآن عليهم. ومعنى الآية: وأنشأنا لكم شجرة طيبة بما أنزلناه من السماء من ماء، وهذه الشجرة تخرج من أرض مباركة قريبة منكم يجلب لكم ثمارها، هي سفح طور سيناء الذي كلم الله تعالى موسى عنده، وتلك الشجرة تنبت وفيها خاصيةُ إخراج ثمرٍ يجمع بين نعمتين: (إحداهما) نعمة الدهن، وهو الزيت الذي تستعملونه في سراجكم وسائر أموركم التي تحتاج إليه. (وثانيتهما) أنه أدْمٌ تصبغون به الخبز عندما يتناوله الآكلون منكم. {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)}. المفردات: {الْأَنْعَامِ}: تطلق على الإبل والبقر والغنم, أو كما قال صاحب المختار: هي المال الراعية، وأكثر ما يطلق: على الإبل. اهـ، وسيأتى في التفسير مزيد بيان عنها.

{الْفُلْكِ}: الفلك السّفُن، وقد يطلق على الواحدة، وقد يُذَكر حينئذ، كما قال تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وقد يؤنث كما في قوله تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} قال صاحب المختار: كأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المَرْكب فتذكر، وإِلى السفينة فتؤنث. اهـ وهي تحتمل الإفراد والجمع، ومن إطلاقها على الجمع قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (¬1). ومن إطلاقها على المفرد قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُون} (¬2). التفسير 21 - {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)} بين الله في الآيات السابقة نعمة وآياته في خلق الإنسان، وإنزال الماء من السحاب، وإنبات الحدائق والبساتين وأنواع النبات بما أنزله لهم من الماء، وخزنه لهم منه في جوف الأرض، وجاءت هذه الآية لتبين آياته ونعمه في الأنعام. والأنعام المذكورة هنا, إما أَن يراد بها أصنافها وهي الإبل والبقر والغنم، وإما أن يراد بها الإبل خاصة لقوله تعالى في الآية التالية: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} وإرادة العموم هنا أولى, لأن العبرة والمنافع فيها ليست قاصرة على الإبل. والمعنى: وإِن لكم - أَيها الناس - لعظة عظيمة في أصناف الأنعام، نسقيكم مما في بطون إناثها من بين فرْثٍ ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، ولكم فيها منافع كثيرة في أوبارها وأصوافها وأَشعارها وفي عظامها حيث تطحن وتكون ضمن طعام الداجنة، وفي غِرَائها الذي يلصق به، ومن لحومها تأكلون، ومنها تتعيشون وترتزقون، حيث تتجرون في أنواعها وأَجزائها وفضلاتها، وقد تقدم الكلام وافيًا على مثل تلك الآية في سورة النحل (¬3). فارجع إليها إن شئت. ¬

_ (¬1) سورة يونس، من الآية: 22 (¬2) سورة الشعراء, الآية: 119. (¬3) الآية رقم 66 منها.

22 - {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}: الضمير في {عَلَيْهَا} يرجع إِلى الأنعام، ونسبة الحمل فيها إلى جميعها - مع أن التي تحمل هي الإبل - بنسبة ما لبعضها إلى كلها مجازًا (¬1). وقرْن الإبل بالفلك في الحمل عليها لأَنها سفن البر كما أَن الفلك سفن البحر، وفي ذلك ما فيه من المبالغة في تحملها، وفي هذا المعنى يقول الشاعر ذو الرمة وصف ناقته: سفينة بَرٍّ تحْت خدِّي زمَامُها {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}) المفردات: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}: يريد أن يتعالى عليكم ويَفْضُلَكُمْ بادعاءِ الرسالة. {بِهِ جِنَّةٌ}: به جنون, أو جنّ يخيلون له فيقول ما يقول. {فَتَرَبَّصُوا}: فانتظروا. التفسير 23 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. ¬

_ (¬1) ويصح أن يكون في الكلام استخدام، وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، كما يقول علماء البلاغة، وعليه يكون الضمير عائدا إلى الأنعام بمعنى الإبل خاصة، بعد إرادة العموم منها فيما يتقدم.

شروع في بيان ما جناه الناس على أَنفسهم من ترك التبصر والاعتبار والادِّكار بنِعَم الله عليهم, أو بعقاب الله لهم على كفرهم برسله الذين يذكرونهم ويوجهونهم إلى معرفة ربهم بآياته ونعمه. وقدم الله قصة نوح مع قومه، لأَنه الأَب الثاني للبشرية بعد آدم، ولأنه مكث فيهم أَلف سنة إلَّا خمسين - عامًا يدعوهم، فلما لم يؤمنوا قطع الله دابرهم بالطوفان، فلهذا كانت قصته جديرة بتقديمها، وإيرادها عقب قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} للصلة القوية بين نوح والسفن فهو أَول من صنعها من البشر. والمعنى: ولقد بعثا نوحًا رسولًا منا إلى قومه، ومعه آيات ومعجزات تؤَيد رسالته فقال مستميلًا لهم إلى الحق: يا قومي اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به أحدًا. فإنه ليس لكم إله سواه، أَتشاهدون ذلك في آياته ولا تتقون عقابه وأَنتم به كافرون. 24 - {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)}: يطلق لفظ الملإِ على السادة لأَنهم يملئون العين، كما يطلق على الجماعة مطلقًا (¬1)، والمراد هنا المعنى الأَول، ووصْفُهم بالذين كفروا من قومه ليس لتمييزهم عن فريق آخر منهم بل لذمِّهم بالكفر مع أَنهم من قومه، إِذ لم يؤمن أحد من أَشرافهم، حسبما يُفْصح عنه قولهم له: "مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا". والمعنى: فقال سادتهم الكافرون لِعوامِّهم تنفيرًا لهم من اتباعه: ما هذا الذي يدَّعى الرسالة عن الله إِلا بشر مماثل لكم في البشرية والأوصاف المختلفة، يريد بدعواه الرسالة أَن يسودكم ويتقدم عليكم، ولو شاء الله أن يرسل إِلينا رسولا لأرسله وأنزله من الملائكة ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إِليه من عبادة إله واحد - ما سمعنا بهذا - في آبائنا الذين مضوا قبلنا حتى نصدقه. ¬

_ (¬1) انظر القاموس.

وهم بهذا الذي قالوه، يرفضون رسالة البشر، ويرضون بربوببة الحجر، فلا عجب أن يمضوا في التنقير منه قائلين: 25 - {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)}: أِى: ما نوح إِلاَّ رجلٌ به جنون , أو يغشاه جن يلبسون الأمر عليه، ويخيلون له فيقول ما يقول، فانتظروا به واصبروا لعله يفيق مما أصابه فلا يعود لما يقوله، وهم بهذا ينقضون ما وصفوه به أَولًا من أنه رجل يريد الرياسة والفضل عليهم بدعواه الرسالة فيهم، وهذا يقتضي اعترافهم ضمنًا بأنه رجل عاقل وسياسي ماهر، فاتهامهم له بالجنون بعد ذلك يعتبر تخبطًا منهم في المقال عنه، وإِيغالًا في التنفير منه بدون وجه حق. 26 - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)}: قال نوح لربه بعد أَن يئس من إِيمانهم ,حينما أخبره بقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} قال نوح بعد يأسه: رب انصرنى على قومى وأهلكهم بسبب تكذيبهم لي، انتقامًا منهم على تماديهم في الضلال، وإصرارهم على الكفر بعد تلك الدهور الطوال. {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}

المفردات: {الْفُلْكَ}: السفينه. {بِأَعْيُنِنَا}: المراد من أعينه تعالى؛ مزيد حفظه ورعايته فإنه منزه عن مشابهة الحوادث. {وَفَارَ التَّنُّورُ}: التنور الكانون يخبز فيه، ويطلق عليه الْفُرْنُ أَيضًا، والمراد من فورانه: نبع الماء منه، ويطلق التنور أيضًا على كل مَفْجَرِ ماءِ (¬1). {فَاسْلُكْ فِيهَا}: فأدخل فيها. {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: أي من كل صنف فردين متزاوجين ليكونا بذلك التزاوج اثنين. {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ}: صَعِدت. {مُنْزَلًا مُبَارَكًا}: مكانًا كثير الخير. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} (¬2): وإن كنا لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم. التفسير 27 - {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ... } الآية. أي: أجبنا دعاء نوح على قومه، فأوحينا إليه على لسان جبريل، قائلين له: اصنع السفينة التي سوف نُنجِّيك مع المؤمنين بركوبها، اصنعها تحت رعايتنا وحفظنا وإِرشادنا لك بالوحى عن طريقة صنعها حتى تسلم من الخطإ ومن عدوان قومك عليك وأنت تصنعها. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ}: فإذا جاء موعد أمرنا بشأنهم، وحان وقت عقابهم على كفرهم، بعد تمام صنع السفينة، وفار الماءُ من الفرن، أمارة لك على مجىء أمرنا وعقابنا لقومك، فأدخل في السفينة من كل نوع يتوالد زوجين اثنيين ذكرا وأنثى، وأدخل فيها نساءك وأولادك فهم أهلك، إلّا من سبق عليه قولنا وقضاؤنا أزلًا بإهلاكه منهم، وهم ابنك وزوجتك الكافران، ولا تسألنى نجاة أحد من أولئك الكافرين، ولا تشفع في هؤلاء الظالمين، فإنهم مُغرقون بالطوفان جميعًا جزاء كفرهم وظلمهم. ويصح أن يكون المراد من أهله: المؤمنون من أمته، واستثناء ما سبق عليه القول منهم يُعَبَّرُ عنه فنِّيًّا بالاستثاء المنقطع, لأَن من سبق عليه القول بالإهلاك ليس من المؤمنيين. ¬

_ (¬1) انظر المادة في القاموس. (¬2) (إن) هنا مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، واللام بعدها الفرق بينهما وبين النافية.

والأول هو الظاهر، وأما حمله من آمن معه في السفينة من غير أهله فإنه وإن لم يذكر في هذه الآية، فقد صُرِّح به في سورة هود في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)} (¬1) والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فما ترك ذكره في آية يعرف أَنه مراد فيها من آية أخرى ذكر فيها. وتأخير الأمر بحمل أهله في السفينة عن الأَمر بحمل الأزواج وإدخالهم السفينة، لأن إدخال هذه الأَزواج يحتاج إلى معاونة أَهله قبل أَن يصعدوا إلى السفينة، ولأن موضوع إدخال الأهل يتصل به استثناءُ من استثنى منهم وغيره، فتقديم الأَمر بإدخالهم على إدخال الأزواج يخل بتجاوب النظم الكريم. 28 - {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)}: فإذا ركبت السفينة وعلوتها أنت ومن معك من المؤمنين ونجوتهم بذلك من ظلم قومكم الظالمين، ومن عقابهم بالطوفان على ظلمهم وكفرهم - إذا حدث ذلك - فقل: الحمد لله الذي نجانا بفضله - من ظلم الظالمين وعاقبته. وتوجيه الأمر إلى نوح بالحمد على النجاة من الظالمين، دون إشراك من نجا معه من المؤمنين في ذلك، لأَنه إمامهم, فأَمره بحمد الله أمر لهم بمثله، ولأنه هو الذي دعا ربه أن ينصرة على قومه بسبب تكذيبهم إياه، فاستجاب له ربه فأنجاه ومن معه من المؤمنين، وأغرق مكذبيه بالطوفان، فلهذا طلب منه ربه أن يحمده على إِجابة دعائه في قومه المكذبين، وتكريمه والمؤمنين بالنجاة من ظلمهم. 29 - {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}: أي: وقل يارب أَنزلنى من السفينة مكانا ومنزلًا كثير الخيرات ولمن معى من المؤمنين بعد انتهاء الطوفان، وخراب الدنيا، لكي نستطيع العيش فيه نحن وذرياتنا، أنت يا رب خير من ينزل الضيفان، ويكرم المحتاجين واللاجئين. ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية رقم: 40.

30 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)}: إن في ما فعله الله بنوح وقومه لعلامات واضحات على نجاة المتقين، وسوءِ مصير الظالمين، ولو بعد حين، يهتدي بها أصحاب البصائر المستنيرة ويعتبر بها أولو العقول الوضيئة، وإن الحال والشأن في قصتهم، هو أننا كنا مبتلين قوم نوح ببلاءٍ عظيم وعقاب شنيع. {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} المفردات: {قَرْنًا آخَرِينَ}: أَي ذوِي قرن آخرين، وهم عاد، وقيل: هم ثمود، والأول أَصح. {الْمَلَأُ}: الأشراف. {وَأَتْرَفْنَاهُم}: أي نعمناهم ووسعنا عليهم. التفسير 31 - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}: بعد أن حكى الله قصة قوم نوح وعاقبتهم لما كفروا بربهم وعصوا رسوله، جاءت هذه الآية وما بعدها لحكاية قصة قوم آخرين جاءوا بعدهم، ففعلوا فعلهم، فأهلكوا جميعًا عقابا لهم.

وهؤلاء القوم هم عاد قوم هود، فإنهم هم الذين خلفوا قوم نوح وجاءُوا بعدهم , كما عرف من الترتيب القرآني لقصص الأمم وأنبيائهم، فقد جاءت قصتهم بعد قوم نوح في سورة الأعراف وهودٍ وغيرهما، ولهذا قال لهم رسولهم هود: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} واختار هذا الرأى ابن عباس، وإليه ذهب أكثر المفسرين. وقيل: هم ثمود قوم صالح، لأنهم هم الذين جاءَ ذكرهم في القران بأنهم أهلكوا بالصيحة، وهؤلاء الذين جاءُوا هنا بعد نوح أُهلكوا بالصيحة، كما سيجىءُ بآخر قصتهم في قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)} (¬1). وقد يكونون أُمة أخرى غيرهما، ولهذا لم يصرح باسمها ولا باسم رسولها. والمعنى: ثم أَنشأْنا من بعد إهلاك قوم نوح بالطوفان لكفرهم - أنشأنا - قوما آخرين في زمان غير زمانهم. 32 - {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ (¬2) اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)}: فأرسلنا في أهل هذا القرن رسولًا من بينهم، قائلين لهم على لسانه: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به أحدا في العبادة، فإنه ليس لكم من إِله سواه حتى تشركوه معه في العبادة، أتعبدون معه غيره، فلا تتقون عقابه، ولا تخشون عذابه. 33 - {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (¬3) وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}: وقال أَشراف قومه الذين بالغوا في كفرهم وتكذيبهم بلقاه الآخرة ونعمناهم ووسعنا عليهم في الحياة الدنيا - قالوا لمن دونهم من قومهم مُنَفِّرين من اتباعه -: ما هذا الذي يدعى الرسالة فيكم إِلَّا بشر مماثل لكم، فهو يأْكل مما تأْكلون منه، ويشرب مما تشربون فليست له ميزة فيكم، حتى يدعى أنه رسول الله إليكم، ثم بالغوا في التنفير من اتباعه فقالوا: ¬

_ (¬1) واختار هذا الرأى أبو سليمان الدمشقى والطبرى. (¬2) (أن) هنا بمعنى أي، لوقوعها بعد الإرسال الذي يتضمن معنى القول. (¬3) من قومه بيان الملأ، والذين كفروا صفة الملأ، جىيء بها فما لهم , وتنبيها على غلوهم في ال

34 - {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (¬1): ونقسم لئن أطعتم بشرًا مماثلًا لكم في بشريتكم، واتبعتموه فما يدعوكم إليه، إنكم حينئذ لخاسرون باتباعه، ثم استأنفوا مقرِّرين ما زعموه فقالوا مستنكرين مستبعدين: 35 - {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ (¬2) مُخْرَجُونَ}: أيعدكم هذا الذي يدعى الرسالة وهو من البشر - أيعدكم - أَنكم إذا هلكتم، وتحولت أجسادكم إلى تراب وعظام نخرة، أنكم مخرجون من قبوركم أحياءً كما كنتم في دنياكم. {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)} المفردات: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: هيهات؛ اسم فعل ماض بمعنى بَعُدَ، واقع موقعه، والتكرار للتأكيد، ولا تقع غالبًا إلا مكررة، وفاعلها ضمير، أَي: بَعُدَ التصديق، أو الوقوع. {لِمَا تُوعَدُونَ}: اللام لبيان ما استبعدوه وهو البعث الذي وعدهم به رسولهم. {إِنْ هِيَ}: أَي ما هي، فـ (إنْ) هنا للنفى. {نَمُوتُ وَنَحْيَا}: أي يموت بعضنا، ويولد بعض آخر. {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: اختلق على الله كذبًا بادعائه النبوة. ¬

_ (¬1) جملة "إنكم إذا لخاسرون" جواب القسم، استغنى به عن جواب الشرط، يقول ابن مالك: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم والمتأخر هنا هو الشرط. (¬2) تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره، هو قوله "مخرجون".

التفسير 36 - {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}: هذه الآية وما بعدها تكملة لحكاية ما تحدث به كبراءُ الكافرين من القوم الآخرين (¬1) مع عامتهم، من إنكارهم البعث؛ لِصدِّهم عن تصديق رسولهم فيما وعدهم به، مستبعدين أَن تكون لهم حياة بعد أن يموتوا, وتتحلل أَجسادهم، فيصبح المتقدم منهم موتًا ترابًا اختلط بتراب الأرض، وامتزج بثراها، وصار جزءًا من أَجزائِها، لا يتميز عنها،، ويصبح المتأخر منهم في الموت عظامًا نَخِرَةً مجردة من اللحوم والأعصاب ,كما يشير إِلى ذلك قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)} (¬2). وقوله سبحانه: {لِمَا تُوعَدُونَ} بيان للمستبعد, كأَنه قيل: لأى شيء هذا الاستبعاد الذي يستبعدونه؟ فقيل: إنه لما يوعَدون من وقوع البعث. والمقصود من الآية أَن هؤلاء القوم يستبعدون البعث بعد الموت استبعادًا مؤكدًا لا يترددون فيه، ولهذا أَتبعوه بما حكاه الله بقوله: 37 - {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}: أي: لا حياة لنا إِلا حياتنا الدنيا التي نحياها، وليس بعدها حياة أخرى بالبعث بعد الموت، كما يعدنا من يدعى أَنه رسولنا - فنحن في حياتنا هذه (نَمُوتُ ونَحْيَا) فيموت بعضنا، ويولد بعض آخر، وينقرض قرن فيأْتى قرنٌ .. إلى آخر الزمان، فالحياة التي عَنَوْها بعد الموت هي حياة جيل جديد بعد موت الذي قبله، ولذا عقبوه بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}: أَي وما نحن بمبعوثين من قبورنا أحياء بعد الموت، فكيف نصدقه في دعواه؟ ثم أَوغلوا في تكذيبه والتشنيع عليه، فقالوا: 38 - {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ}: أي: ما هو إلا رجل اختلق على الله كذبًا فيما جاءكم به عنه سبحانه، من الرسالة والإخبار بالمعاد والبعث بعد الموت {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ}: أَي لا يقع قوله منا موقع القبول والتصديق بما يدَّعيه ويعِدُ به. ¬

_ (¬1) الذين سبق بيان الخلاف فيهم. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 35.

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} المفردات: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ}: الصيحة؛ العقوبة الهائلة، أَو الصوت المفزع الذي أَهلكهم الله به. {بِالْحَقِّ}: بالعدل. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}: أَي هَلْكَى هامدين يشبهون غثاءَ السَّيْل، وهو الرميم الذي يحمله من كل يابس بَالٍ مخالطًا لزَبَدِه. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: أي هلاكًا لهم، وفعله: كقَرُبَ، وَفَرِح. التفسير 39 - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}: أي: قال رسول أَهل هذا القرن الآخرين - عند يأْسه من إيمانهم بعد أَن أَفرغ الجَهد في تبليغهم رسالة ربه، وسلك معهم إلى ذلك كل مسلك، قال متضرعًا إلى الله متوجهًا إِليه: يا ربي انصرنى على قومى، فأنزل سخطك بهم، وانتقامك منهم بسبب تكذيبهم إياى، وإصرارهم عليه في عتو وكبرياء، فاستجاب الله دعاءَه , كما حكاه الله بقوله سبحانه: 40 - {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}: أَي: قال الله تعالى لرسولهم: بعد زمان قليل تالله ليصيرن نادمين حين ننزل بهم العذاب الذي يأْخذهم ويستأْصلهم عن آخرهم. 41 - {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: أي: صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة مقترنة بالعدل الإِلهى، تنفيذًا لوعده الصادق الذي وعده الله رسرلهم - عليه السلام - مَطْويًّا في قوله سبحانه: {لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}.

وقد عرفت مما تقدم أن أصحاب القرن الآخرين إمَّا عاد قوم هود، فهؤلاء أهلكوا بصيحة الريح العقيم، وإما ثمود قوم صالح فهؤلاء أهلكوا بصيحة جبريل أَو الصاعقة وإمَّا قوم آخرون لهؤلاء أهْلِكُوا بصيحة أخرى يعلمها الله تعالى. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً}: أي هلكى هامدين لا نفع فيهم ولا غناء، يشبهون غثاء السيل، وهو ما يحمله مما بَلِىَ واسودَّ من ورق الشجر وغيره مخالطًا زبده. {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: لفظ: {بُعْدًا} قد يراد به الدعاء، أي: فهلاكًا لهم، بمعنى: أَهلِكْهم يا الله إهلاكا، وقد يراد به: الإخبار، بمعنى: فبعُد بُعْدًا من رحمة الله القريبة من المحسنين - بعدوا بهلاكهم - من كل خير، أو من النجاة. واللام في قوله: {الظَّالِمِينَ} لبيان من قيل له: بُعْدًا، والتعبير بقوله: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بدلًا من أَن يقال: فبعْدًا لهم إيذان بأن إِبعادهم علته وسببه ظلمهم لأنفسهم؛ بتكذيب رسولهم وعدم الاستجابة لدعوته. {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)} المفردات: {قُرُونًا آخَرِينَ}: أَي أمَمًا خلفت الأمم السابقة. {رُسُلَنَا تَتْرَى}: أي متواترين وترا بعد وتر، والوتْرُ: الفرد. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}: أي أخبارًا يتحدث بها الناس تلهيًا وتعجبًا، وهو جمع أُحدوثة.

التفسير 42 - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)}: أي: أوجدنا بعد هلاك أمة القرن السابق أمَمًا وخلائق أخرى، ويراد بها عند أكثر المفسرين: أقوام صالح ولوط وشعيب وغيرهم. 43 - {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}: أي: ما تسبق أمة من الأُمم الكافرة التي أهلكها الله - ما تسبق - الوقت المقدر لهلاكها أزلًا، وما تتأخر عنه، فهلاكها مرهون بوقته لا يسبقه ولا يتأَخر عنه، وذلك مثل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} (¬1). وضمير الجمع في قوله سبحانه: {يَسْتَأْخِرُونَ} عائد على (أمة) باعتبار المعنى، إذ المراد بها: الأَفراد المجتمعون. 44 - {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ... } الآية. أي: ثم أرسلنا رسلنا متتابعين، يتبع بعضهم بعضًا إلى الأمم التي جاءَت بعد هلاك من سبقوهم، فقد أَرسلنا إلى كل أمة رسولا منهم خاصًا بهم. {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} استئناف مبين لما قابلت به كل أمة منهم رسولها من تكذيبهم إياه حين لقائه، مع أنه واحد منهم، عرفوه بالصدق، وصدقه الله بالمعجزة التي أظهرها الله على يديه. {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا}: أي جعلنا الأمم في الهلاك يتبع بعضهم بعضًا، بمباشرتهم الأسباب الداعية إليه من الكفر والتكذيب، واقتراف المعاصي. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}: بعد أَن أهلكوا حيث لم يبق بعدهم إلا أخبار وأَحاديث، يتحدث بها الناس، تَلَهِّيًا بها، وتعجبًا مما نزل بهم من تدمير وإبادة، وهذه الجملة إِنما تقال في الشر، ولا تقال في الخير، كما يقال: صار فلان حديثًا، أَي: عبرة، كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 34 (¬2) سورة سبأ، الآية: 19

{فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: فهلاكًا لهم لإعراضهم عن الإِيمان برسلهم، وظلمهم أَنفسهم بكفرهم. {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)} المفردات: {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: وبرهان واضح له سلطان على القلوب. {قَوْمًا عَالِينَ}: متجبرين متكبرين، يقال: عَلَا، يعلو، عُلُوّا: تَجَبَّر وَتَكَبَّر. {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ}: يطلق على الواحد مثل: {بَشَرًا سَوِيًّا} وعلى الجمع مثل {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا}. {لَنَا عَابِدُونَ}: منقادون خاضعون، وكل من دان لملك فهو عند العرب عابد له أَي: خاضع ذليل. {فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أَي: المغرقين، من أَهلكته فهو مهلك. {الْكِتَابَ}: التوراة. التفسير 45 - {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)}: يخبر الله تعالى أنه بعث رسوله موسى وأَخاهُ هرون - عليهماالسلام - بآياته وهي تسع: اليد، والعصا، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان , والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، نقل ذلك ابن كثير، وقال: وهذا القول ظاهر جَلِيٌّ، حسن قوى. اهـ

وقيل: هي العصا، واليد، والسنون، والطمس (¬1)، والطوفان، والجراد، والقُمَّلُ والضفادع، والدم، أما فاق البحر الذي عدَّه بعضهم منها، فلا مساغ لعدِّه؛ لأنه عليه السلام لم يبعث به إِلى فرعون وقومه، وإنما كان بعثه بالآيات التي كذبوها، واستكبروا عنها، وهم لم يستطيعوا تكذيبه، حيث أهلكوا فيه. وعن الحسن: المراد من الآيات التكاليف الدينية التي أُمروا بها، ومن السلطان: كل معجز أَتَيَا به. اهـ، ويمكن أَن يراد بالسلطان: تسلط موسى في المحاورة، ووضوح الدلالة على الصانع - جل وعلا - والقوة والإِقدام. 46 - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}: أَي: أَرسلناهما إلى فرعون وأَشراف قومه لغايتين: إحداهما: دعوتهم إِلى الإِيمان، والثانية: إطلاق سراح بني إسرائيل من الأَسر، فلم يكن إِطلاقهم من الأسر هو المقصود وحده من إرسالهما بدليل ما صُرِّح به في سورة النازعات، في قوله سبحانه: " {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}. وخُصَّ الملأُ - أَي الأَشراف - بالذكر، لأَن إِطلاق سراح بنى إِسرائيل: وكف الأَذى عنهم , مما أُرْسِلا لأَجله، وذلك منوط بآراء الأَشراف من قوم فرعون، وبموافقتهم، فضلا عن أَنهم قدوة لغيرهم يقتدون بهم في الامتثال والاستجابة لما دعوا إليه. ويجوز أن يراد بالملإِ: قومه جميعا، فقد ورد استعماله لغة بمعنى: الجماعة مطلقا. {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} أَي: فتمردوا مستكبرين، وأَعرضوا عما دعوا إِليه، وكان فرعون وشيعته قوما متكبرين قاهرين لغيرهم بالظلم والطغيان، والمراد: أّن تلك عادتهم، وما فُطروا عليه. 47 - {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}. الهمزة لإنكار, أَي: أَن فرعون وقومه أَنكروا على موسى وهرون دعوتهما إلى الإِيمان لكونهما بشرين، شأْنهم في ذلك شأْن الأُمم السابقة التي أنكرت بعثة الرسل من البشر, ¬

_ (¬1) وهو إذهاب الشيء عن صورته، وقد صير الله أموالهم ودراهمهم حج

وقد دعاهم إلى هذا الإنكار، قياس حال الأنبياء - عليهم السلام - على أَحوالهم، بناء على جهلهم بتفاضل شئون الحقيقة البشرية، وتباين طبقات أفرادها بحيث يكون بعضهم في أَعلى علِّيِّين، وبعضهم في أسفل سافلين، ومن العجيب أنهم لم يرضوا بالنبوة للبشر، وقد رضى أَكثرهم بالأُلوهية للحجر، فقاتلهم الله، ما أجهلهم! {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (¬1) أي: خاضعون منقادون، يعملون في خدمتنا، ويطيعون أَوامرنا كالعبيد، أَرادوا بذلك الحطَّ من قدرهما، والاستهانة بهما، وقصور رتبتهما عن الأهلية للرسالة من وجه آخر غير البشرية، بناء على زعمهم الفاسد في قياس الرياسة الدينية على الرياسات الدنيوية المؤسسة على حظوظ الحياة الفانية من المال والجاه، وجهلهم بأَن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العَلِيَّة، والملكات السنية، جبِلَّةً، لا اكتسابا. 48 - {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}: أي: فاستمروا على تكذيبهما، وأَصروا عليه، فأهلكهم الله بإغراقهم جميعا في بحر القلزم (البحر الأحمر) أهلكهم جزاءَ تكذيبهم. 49 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون}. يخبر سبحانه إِخبارا مؤكدا بأَنه آتى موسى - عليه السلام - التوراة فيها آحكامه وأوامره ونواهيه، وقد كان ذلك بعد إهلاك فرعون وقومه، وإنجاء بنى إسرائيل. والمعنى: ولقد آتينا موسى التوراة، لعل من أرسل إليهم من قوم فرعون وبنى إِسرائيل - لعلهم - يهدون بها إلى الحق المبين، وخص موسى بالذكر هنا دون هرون؛ لأَن التوراة أنزلت على موسى في الطور، أما هرون فهو وزيره ومُعينه في دعوته، أو روعى الاقتصار على موسى لأنه الأصل في الأنباء، وذلك لا يمنع من إِرادة هرون معه، فقد ذكر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} (¬2). ¬

_ (¬1) هذة الجملة حال من فاعل نؤمن في قولهم (أنؤمن) مؤكدة لإنكارهم الإيمان بهما. (¬2) سورة الأنبياء، من الآية رقم: 48

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} المفردات: {آيَةً}: دلالة بينة على كمال قدرته تعالى. {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أَي: أنزلناهما إلى مكان مرتفع منبسط، يقال: آويته إلي منزلي: أَنزلته فيه، وأَويت إلى منزلى: نزلت فيه، والربوة - بضم الراء، والفتح -: لغة بنى تميم، والجمع: رُبًى. {ذَاتِ قَرَارٍ} أَي: يستقر فيها المقيم. {وَمَعِينٍ} أي: ماء جارٍ ظاهر للعيون، من عَانَهُ، إذا أَدركه بعينه، وأَصله: مَعْيُون، فدخله الإعلال، أَو من مَعَنَ الماءُ: إذا جرى. فوزنه. فَعِيلٌ. التفسير 50 - {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ..... } الآية. أي: جعلنا عيسى بن مريم وأمه دلالة قاطعة على كمال قدرتنا البالغة، حيث حملت به من غير أَن يمسَّها بشر. والتعبير عن عيسى - عليه السلام - بأنه ابن مريم، وعنها بأنها أمه، للإيذان من أَول الأمر بحيثية كونهما آية، فإن نسبته - عليه السلام - إِليها، مع أن النسب إِلى الآباء، تؤذن بأنه لا أَبَ له، وذلك هو آية القدرة العظيمة في إيجاد عيسى - عليه السلام - وتقديمه عليها في الذكر؛ لأصالته فيما ذكر من كونهما آية. {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أَي: وأنزلناهما في ربوة، وهي المكان المرتفع المنبسط، قيل: هي إيلياءُ من أرض بيت المقدس، وقيل: هي الرملة من فلسطين، وقيل: دمشق، وقيل: مصر.

{ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}: أي يستقر المقيم فيها لطيب هوائها، ونقاء تربتها، وقيل: لأَنها ذات زروع وثمار، تُيسِّر الاستقرار لساكنها، وترغبهم فيه. ولما كان الماء أَصل الحياة وسبيل بقائها، شاءَ الله أَن يكرمهما بالإيواء إلى ربوة ذات ماءٍ ظاهر جار تراه العيون وتتبينه واضحًا، حتى يكون جامعا لفنون المنافع: من الشرب منه، وسقْى ما يُسقى من الحيوان والنبات من غير مشقة , مع ما في ذلك من الاستمتاع بمنظره المونق، والاستقرار في الربوة التي هو فيها. {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} المفردات: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}: وهي ما لذَّ وطاب من الطعام، وما حَلَّ منه، يقال: طاب الشيءُ، يَطيب طيبا وطيبة، فهو طيِّب. التفسير 51 - {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ... } الآية. المراد بندائهم وخطابهم جميعا: الإِعلام بأَن كل رسول نودى بذلك في زمنه، وَوُصِّيَ به، ليعلم السامعون أَن أمرا أعْلِمَ به جميع الرسل، وطُلب منهم، وهو الأَكل من الطيبات لِيعلموا أَن أَمرا كذلك - حقيق أَن يتلقوه بالقبول والامتثال. والمراد بالطيبات، إمَّا ما تستلذه النفس وتطيب به من مباحات المأْكل، حسبما ينبىءُ عنه سياق النظم الكريم، وحينئذ يكون الأَمر للإباحة، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات، وإما أن يراد بها ما حلَّ منها، فيكون الأَمر للوجوب.

وفي الآية إشارة إِلى أَن الله تعالى سوى بين النبيين وأَتباعهم في تناول الطيبات بمعنييها، ثم عقب ذللك بقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} مبالغة في وجوب امتثال ما أُمِرُوا به من أَكل الحلال الذي دُعيَ إِليه الرسل والأَنبياءُ، وحُذِّروا من تركه، وكذلك جميع أممهم تبعا لهم. {وَاعْمَلُوا صَالِحًا}: موافقا لما شرع لكم. وقيل: حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إِيوائهما إِلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رُزقا من كل طيب، فكأَنه قيل: وآويناهما، وقلنا لهما: هذا - أَي: أَعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا، فكُلَا مما رزقناكما، واعملا صالحًا اقتداءً بالرسل، وعلى هذا فالمراد من الجمع في قوله: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} ما فوق الواحد. {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}: لا تخفى عليَّ خافية مما تعملون من الأَعمال الظاهرة والأعمال الباطنة فأجازيكم عليه. {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)} المفردات: {أُمَّةً وَاحِدَةً}: الأُمة هنا هي: الدين. {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا}: أَي فقطعوا أَمر دينهم بينهم قطعًا، فاتخذوا أَديانًا مختلفة، زُبُر: جمع زبور، مثل رُسُل: جمع رسول، وجمع زُبْرة أَيضًا - بضم فسكون - والأَول بمعنى كتاب، من زبر بمعنى كتب، أَما الزَّبْرة فبمعنى القطعة. {كُلُّ حِزْبٍ}: الحِزْبُ: جند للرجل وأَصحابه الذين على رأيه، والطائفة وجماعة الناس.

{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ}: الغمرة الانهماك في الباطل، والجمع: غَمَرات، مثل: سجدة وسجَدات: {حَتَّى حِينٍ}: إلى الوقت المعين لعذابهم. التفسير 52 - {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}: الإشارة في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ} إلى ما تقدم في السورة من العقائد والأحكام، ومنها الأكل من الطيبات وعمل الصالحات، والأمة بمعنى المِلَّة، أَي: وإن هذه العقائد وأصول الأحكام ملتكم أَيها الرسل ملة واحدة، لا تتغير ولا تتبدل، بتبدل الأزمنة والأعصار، أما الفروع فإنها تختلف، لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬1). {وَأَنَا رَبُّكُمْ}: بدون شريك لى في الربوبية. {فَاتَّقُونِ} أي: فخافوا عذاب على مخالفة أَمرى، وإخلالكم بواجب طاعتي، مع علمكم باختصاص الربوبية بي للرسل وللأمم جميعًا. والفاءُ في قوله تعالى: {فَاتَّقُونِ} لترتيب وجوب تقوى الله على ما قبله من الاتحاد في الدين، واختصاص الربوبية به تعالى؛ فإن كِلَا الأمرين موجب لاتقائه حتمًا. 53 - {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: حكاية لما وقع من أمم الرسل، أَي: أنهم قطعوا أمر دينهم فجعلوه زُبُرًا، أي: قطعًا متعددة، وفرقوه فرقا مختلفة، كل جماعة تنتحل نحلة مخالفة للحق، بعد ما أُمروا بالاجتماع والاتحاد على ملة واحدة تجمع العقائد وأصول الأحكام. وزُبُرًا - على هذا - جمع زُبْرة، وهي: القطعة، ويؤيد هذا قراءَة (زُبَرًا) بفتح الباء جمع زُبْرة، كغُرفة، وهي القطعة، فتلخص من هذا أَن زُبرَة تجمع على زبر بضم الباء وفتحها. ويجوز أن يكون المعنى: أن أَتباع الأنبياء فرقوا دينهم بعد أنبيائهم، فآمنوا ببعض ما أُنزل عليهم، وكفروا بما سواه، اتباعا لأهوائهم، أَو أَنهم وضعوا كتبًا وألفوها ونسبوا تلك الضلالات إِلى الله - كما قاله ابن زيد - وعلى هذا يكون زُبُرًا جمع زبور بمعنى كتاب. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 48

وقيل: أنهم فرقوا بين الكتب المنزلة، فأخذ كل منهم كتابًا آمنَ به، وكفر بما سواه. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: والمعنى كل فريق من هؤلاه المتحزبين الذين قطعوا دينهم فرحون بما عندهم من الدين الذي اختاروه وركنوا إليه؛ لاعتقادهم أنهم على الحق. وبعد أن عرض القران الكريم على أسماع قريش أن جميع الديانات السماوية مجمعة على عقيدة واحدة هي التوحيد، وأن الله تعالى هو رب الجميع وأن أصول الشرائع واحدة - بعد هذا - أَمر سبحانه رسوله أن يتجاوز إلى أمدٍ عن غفلتهم وإهمالهم لهذه الحقائق، فقال تعالى: 54 - {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}: والمعنى: فاترك - أيها النبي - هؤلاء على حالهم من الغفلة والضلال الذي لا ضلال بعده، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فقد بلَّغت الرسالة التي أمرت بتبليغها حق الأداء {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬1). والفاءُ في قوله سبحانه: {فَذَرْهُمْ} لترتيب الأمر بالترك عل ما قبله من كونهم فرحين بما لديهم من الدين الذي اختاروه، أي: اتركهم {حَتَّى حِينٍ} وهو حين قتلهم في يوم بدر، على ما روى عن مقاتل، أَو حين موتهم عل الكفر، وعذابهم في الآخرة، فالآية وعيد بعقابهم في الدارين، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإرشاد له بترك الاستعجال بعذابهم، والجزع من تأخيره، وذلك نظير قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} (¬2). ويجوز أن تكون بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما تم له من فتح مكة، وهم في غفلتهم عن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، من الآية: 18 (¬2) سورة الحجر، الآية: 3

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} المفردات: {أَيَحْسَبُونَ}: أَيظنون، وفعله من باب فرِحَ عند جميع العرب إلَّا بني كنانة فإنهم يكسرون عين المضارع مع الماضى أَيضًا على غير قياس، والمصدر: حِسْبَانًا، بكسر الحاء. {نُمِدُّهُمْ}: نزيدهم ونعطيهم، وفعله: أَمَدَّ، ويكون في الخير غالبًا. {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}: أَي بل لا يعلمون، والفعل من بَابَيْ (قَعَدَ ,وَكَرُمَ). التفسير 55 - {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ}: أي: أَيظن هؤلاء العصاة المغرورون آننا إِذْ تركناهم يتمتعون وينعمون بما أَعطيناهم إياه، وأمددناهم به من مال وبنين، أَيظنون أَننا بهذا الإِمداد: 56 - {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ}: أي: ليس الأمر كما زعموا أنه مسارعة لهم في الخيرات، ومعاجلة في الثواب لإِكرامهم وخيرهم , وإِنما هو إِملاءٌ واستدراج إِلى المعاصي لزيادة ذنوبهم بسبب إِصرارهم عليها، كما يقول سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬1). والهمزة في {أَيَحْسَبُونَ} لإنكار ما ظنوه وحسبوه، واستقباح له، وقوله تعالى: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} تجهيل لهم وتخطئة، أَي: بل هم لا يعلمون شيئًا أَصلًا، ولا فِطنَةَ بهم حتى يتأَملوا ويعرفوا أن ما حسبوه خيرًا لهم، إِنما هو شر يؤدى بهم حتمًا إلى أَسوإ العواقب. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 178

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} المفردات: {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}: أي من هيبته وحذر عقابه خائفون. {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}: أَي يعطون ما أَعطوا من الزكاة والصدقات. {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}: خائفة، وفعله من باب: (فَرِحَ). التفسير 57 - {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}: استئناف مسوق لبيان من هم المؤمنون المسارعون في الخيرات وما وعدوا به من جزيل الثواب، أَتى بذلك عقب ذكر الكفار وتوعدهم بما يُقنطهم من رحمته، ويبطل حسبانهم الكاذب، وأَملهم الخادع، ذكرهم سبحانه بأَخص صفاتهم وآكملها, فبيَّن أَنهم من أجل خوفهم من ربهم خائفون من التقصير فيما كلفهم به، مع صدق إيمانهم وصالح عملهم، كما قال الحسن البصرى: (إن المؤمن جمع إِحسانًا وإِشفاقًا، وإِن المنافق جمع إِساءَة وأَمنًا). 58 - {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}: أَي: من أَجلِّ أَوصافهم الإِيمانُ بآيات ربهم المنزلة على رسله، فهم يؤمنون بها جميعًا، لا يفرقون بينها، وليسوا كأَهل الكتاب الذين تقطعوا أَمرهم بينهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، وكذلك يؤمنون بآياته الكونية التي نصبها سبحانه للدلالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه.

59 - {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}: أَي: لا يشركون بربهم غيره، شركًا جليًّا، ولا شركًا خفيًّا، بل يعبدونه وحده موقنين بأنه لَا إِله إِلَّا هُوَ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. والتعبير بكلمة (بِرَبِّهمْ) هنا وفيما سبق للدلالة على أَن اعترافهم بربوبية الله لهم جعلهم يشفقون ويؤمنون به تعالى، ويفردونه بالعبادة، فلا يشركون معه أحدًا، مع ما فيها من إِشارة إِلى ما لربوبيته تعالى لعباده من دخل كبير في وجوب توحيده وعبادته. 60 - {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}: أَي: يعطون العطاءَ: زكاة أَو صدقة، وهم خائفون أَلَّا يقبل منهم، أَو لا يقع على الوجه اللائق، لتقصير في الوفاء بحق الإِعطاء قد يكون بدر منهم. وقرئ بالقصر، بمعنى أَنهم يفعلون ما فعلوا من العبادات، وقلوبهم خائفة من الله جل شأْنه ألَّا تكون على وجهها الكامل لشائبة من التهاون قد يُبعدها عن أن تقبل منهم. وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى هذا المعنى، فقد أخرج أحمد والترمذى وابن ماجه والحاكم وصححه ,وابن المنذر وابن جرير وجماعة: عن عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يسرق ويزنى ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله تعالى؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلى، وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أَلَّا يَتَقَبَّل منه". والتعبير بالمضارع في {يُؤْتُونَ} للدلالة على الاستمرار في العطاء، وبالماضى في: {مَا آتَوْا} للدلالة على تحققه. {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أَي: وجلت قلوبهم خوفًا من أَن تُرَدَّ عليهم أَعمالهم لعدم الإحسان فيها لأنهم إِلى ربهم عائدون ومبعوثون يوم القيامة، فتنكشف لهم الحقائق، وتظهر حاجة العبد إلى عمل تام مقبول ينجيه يوم لا ينفع المرءَ إلاَّ ما قدمت يداه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآيتان:

61 - {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}: أَي: أُولئك الموصوفون بما سبق تفصيله من الأوصاف الجليلة يبادرون بنيل الخيرات الدنيوية والآخروية، الموعودة على الأعمال الصالحة، كما في قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} (¬1). وهم لأجلها سابقون إِذ الطاعات. عن ابن عباس قال: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}) سبقتْ لهم من الله السعادة، فسارعوا في الخيرات اهـ. وقيل: يسارعون في الخيرات ولم يَقُلْ: يُسَارَعُ لهم في الخيرات، إِشارة إِلى أَن ثقتهم بوعد الله بنيلهم الخيرات بمحاسن أَعمالهم، جعلتهم يسارعون إِليها، وإِيثار كلمة (في) في قوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} على كلمة (إلَى) للإيذان بأنهم ملازمون لها، مقبلون في فنونها، لا أَنهم خارجون عنها متوجهون إليها على سبيل المسارعة. ويجوز أَن يكون المعنى: يسارعون إِلى الطاعات ويبادرون إِليها، وهم لأجلها فاعلون السبق إليها، أَو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب، أَو إلى الجنات، أَو أَنهم يسبقون إلى أَول أَوقاتها طلبًا لفضل أَدائها. ويجوز أَن يكون المعنى: وهم أَهل للسبق إِليها بما منحهم الله من التوفيق، كقولك لمن تطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها، وهو من أَبلغ الكلام وأَدقِّه. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 148

{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)} المفردات: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}: الوسع - مثلثة الواو-: الطاقة والقدرة، أَي: لا يحمِّلها الله ما يشق عليها. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ}: المراد به صحائف أعمالهم، أَو اللوح المحفوظ. {إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ}: المترف؛ هو الجبار الذي أطعته النعمة، وفعله، أُتْرفَ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}: يضجون ويرفعون أصواتهم دعاءً واستغاثة، يقال: جَأَرَ، يَجْأَر، جَأْرا، وجُؤارا، أَي: صاح أو تضرع. التفسير 62 - {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: استئناف قصد به التحريض على ما وصف به السابقون الصالحون من فعل الطاعات المؤدى إلى نيل الخيرات، ببيان سهولته وأَنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة، بمعنى أَن الله سبحانه اقتضت حكمته ألَّا يكلف نفسا من النفوس بأَمر من الأمور الشاقة التي تُعْييه وتجهده، وإِنما يكون التكليف بما يتسنَّى أداؤه لكل مكلف في سهولة ويسر وفق طاقته، فإن لم يبلغ المكلفون بعملهم مراتب السابقين فلا حرج عليهم بعد أَن يبذلوا طاقتهم، ويستفرغوا وسعهم. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ}: تتمة لما قبله ببيان أنهم محاسبون على كل ما يصدر منهم ثوابا أَو عقابا، حيث إِن هذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة وقعت

منهم إلا أَحصاها، والمراد بالكتاب: صحائف أعمالهم التي ترفعها الملائكة، وَيُكَلَّفُ أَصحابها بقراءَتها عند الحساب والجزاء. وقيل: المراد بالكتاب صحائف يقرأونها، فيها ما ثبت في اللوح المحفوظ، وهو يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا وجزاءً ويبينه للناظر واضحا كما يبينه النطق به. {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: ذكرت هذه الجملة لبيان أَن عدله سبحانه يكون على أتم وجه وأَكمله في الجزاء، وذلك إثر بيان رحمته، ولطفه في التكليف، وأَن كتب أَعمالهم تعرض عليه سبحانه وفق واقعهم. والمعنى: أنهم يوم القيامة لا يقرأون في كتبهم إلا ما هو صدق وعدل، فلا زيادة فيها ولا نقصان، ولا يُظلم منهم أَحد بزيادة عقاب, أو نقص ثواب. 63 - {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: في هذه الآية انتقال من بيان حال المؤمنين إِلى بيان حال الكفار. والمعنى: بل قلوبهم في غفلة غامرة أَعْمتهم عن الذي بُيِّن في القرآن منْ أَن لديه تعالى كتابا ينطق بأعمالهم السيئة على رءُوس الأشهاد، فيجزون بها، ويعاقبون عليها، أَو أَعْمتهُم عما عليه المؤمنون الموصوفون بما سبق من الصفات الكريمة. وقيل: الإِشارة إِلى القرآن وإِلى ما بُيِّن فيه مطلقا، روى ذلك عن مجاهد. {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ}: أَي ولهم أَعمال سيئة كثيرة سوى غفلة قلوبهم عن أَن عند الله كتابا ينطق بالحق. {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: وعليها مقيمون، وبها مستمسكون، لا ينفكون عنها بغيا وطغيانا. 64 - {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}: أَي: لا يزالون يعملون أعمالهم الفاسدة إلى حين أَخْذ مترفيهم بالعذاب، فيضجون ويرفعون أصواتهم فزعين، قال ابن عباس وغيره،: كان ذلك في يوم بدر؛ فقد قتل منهم في ذلك اليوم عدد كثير من صناديد قريش ورؤسائهم الذين أَفاء الله عليهم بكثرة المال والبنين. وقال الضحاك: يراد بالعذاب: الجوع الذي نزل بهم حين دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها علبهم سنين كسِنِي يوسف" فابتلاهم الله بالقحط والجوع حتى أَكلوا الميتة والجيَفَ, وهلكت الأموال والأو

والحق أنه العذاب الأُخروى؛ إذ هو الذي يفاجئون عِنده بالجؤار، فيجابون بالرد والإقناط من النصر والنجدة، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} (¬1) فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر. وأَما عذاب الجوع، فإن أَبا سفيان وإن تضرع فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يرد عليه بالإقناط، حيث روى: "أنه - عليه الصلاة والسلام - قد دعا بكشفه، فكشف عنهم ذلك" اهـ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}: أي يصرخون ويضجون مستغيثين بربهم من مفاجأة العذاب لهم، وتخصيص مترفيهم بالأخذ بالعذاب مع عموم عذاب الآخرة لهم ولغيرهم، للإشارة إلى أَن ما كانوا فيه من المنعة بحماية الأتباع والحشم لهم في الدنيا، لم ينفعهم يوم القيامة حيث لقوا ما لقوا من الأهوال والشدائد، فلَأن يلقاها سواهم من تابعيهم وحشمهم أحق وأَولى. 65 - {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}: أي: يقال لهم ذلك لتبكيتهم وإقناطهم من أن يستجاب لصراخهم وضجيجهم من جهته تعالى، وتخصيص اليوم بالذكر لتهويله، والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار. {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ}: تعليل للنهى عن الجؤار ببيان أنه لا ينفع ولا يفيد، فلا نصر لهم ولا معونة منه تعالى تنجيهم مما حلَّ بهم من هول وعذاب. وقال الحسن: لا تنصرون بقبول التوبة. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 76

{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)} المفردات: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ}: يقال نكص على عقبه نكوصًا، من باب (قَعَدَ) أَي: رجع، والعقِبُ: مؤخر القدم، وهي مؤنثة، وقال ابن فارس: النكوص عن الشيء: الإِعراض عنه. {سَامِرًا} أَي: سُمَّارًا؛ لأَن (سَامِرًا) اسم جمع كالحاج، أَو مصدر فيقع على القليل والكثير بلفظ واحد, والمراد منه هنا: الجماعة من الكفار يسمرون بالليل حول الكعبة؛ لسَبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذم القرآن، وأصل السمر: سواد الليل، ثم أُطلق على الحديث فيه، كما قال الراغب. {تَهْجُرُونَ} أَي: تنطقون بالهجر وهو الفحش، أَو تهذون بما لا يفيد كما يهذى المريض يقال: هجر يِهجُر هَجْرًا وهُجْرًا - بفتح الهاء وضمها مع سكون الجيم - فهو هاجر. التفسير 66 - {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ}: أي: قد كانت آيات القرآن تقرأ عليكم في الدنيا، فم تُقبلوا على سماعها للانتفاع بهداها الذي يدعوكم إلى طريق الخير والنجاة، بل أَعرضتم عما دعيتم إليه، شأْنكم شأْن من يترك الطريق الواضح أَمامه، ويرجع القهقرى ناكصًا ناحية عقبه، والنكوص أقبح المشي؛ لأَن الناكص لا يرى ما وراءَه.

67 - {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}: الضمير في قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} يعود على البيت الحرام الذي كانوا يسمرُون حوله (¬1)، أَي: مستكبرين على المسلمين في البيت الحرام، حيث منعتموهم من أَداءِ شعائرهم حوله , وكنتم مع ذلك تجتمعون للسمر والتآمر ضدهم , والطعن في القرآن الكريم، وذم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أَن الله جعل البيت حرمًا آمنًا لجميع خلقه, يُذكر فيه اسمه , ويُعَظَّم كتابه , ويُوقر رسوله , ولا يؤذَى فيه المؤمنون من عباده. وقيل: الضمير عائد على (آيَاتي) في قوله تعالى {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} لأنها في معنى كتابي الذي هو القران الكريم , واستكبارهم به: تكذيبهم بآياته , بتضمين {مُسْتَكْبِرِينَ} معنى مكذبين , فعُدِّيَ تعدِيَتَهُ. وحاصل المعنى: أَنهم كانوا يجتمعون بالليل حول البيت، ويتحدثون في غالب سمرهم عن القرآن بتسميته سحرًا أو شعرًا أَو أَساطير الأولين، مع تصافهم بأَنهم مع هذا يهجرون , أي: ينطقون بالفحش من كل قول , أو يهذون بالسفه البذيء , والجهل الممقوت في سب القرآن أو النبي أو الحق مطلقًا. {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} المفردات: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أَي: القرآن. {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَي: غير عارفين للنبي حقه بعدم تدبرهم القول الذي جاءَ به، مِن أَنكرته إِنكارًا، ضد: عرفته. {بِهِ جِنَّةٌ} الجنة: الجنون، كما تطلق على الجن , وسيأْتي بيان ذلك. ¬

_ (¬1) والباء بمعنى: (في).

التفسير 68 - {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)}: أَي: أفعلوا ما فعلوا من الإِعراض والاستكبار والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه معجز وأَنه دليل علي صدق الرسالة، فيؤمنوا به؟ والهمزة لإِنكار الواقع واستقباحه. {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}: إِضراب وانْتقال من التوبيخ بما سبق إِلى توبيخ آخر، أَي: بل أَجاءَهم من الكتاب ما لم يأْت أَسلافهم حتى استبعدوه , وخاضوا فيه بما خاضوا من الكفر والعناد والإمعان في الضلال؟ فالهمزة هنا لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع , بمعنى أن مجيءَ الرسل بالكتب من جهته تعالى لينذروا بها الناس سنَّةٌ قديمة له سبحانه لا مساغ لجحودها , ومجىءَ القرآن وفق هذة السنة , فلأى سبب ينكرونه ويتركون تدبره؟ إنه لا سبب لذلك إلا التمادى في الظلم والعدوان. وقيل: المعنى: أغفلوا فلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وقصصه أن ينزل بهم مثل ما نزل ممن قبلهم من المكذبين؟ أم جاءَهم من أسباب الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين الذين خافوا الله وآمنوا بكتبه ورسله , فأطاعوه حق طاعته , والهمزة على هذا للإنكار أو للتقرير تهكمًا. 69 - {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}: إضراب انتقالي لتوبيخ الكافرين من قريش بوجه آخر , أي: بل ألم يعرفوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - متصفًا بالأمانة والصدق , وحسن الأخلاق , ورجاجة العقل , وصحة النسب , وبكل الكمالات اللائقة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ بل لقد جاءهم من عرفوه بكل ذلك , فقد كانت كلمتهم قبل مبعثه متفقة على تسميته بالصادق الأَمين، وغير ذلك من كرام السجايا , ولذلك قال أَبو سفيان بن حرب لملك الروم (هرقل) حين سأَله وأصحابه عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه وأمانته , - قال أَبو سفيان ما جربنا عليه كذبا , وكانوا حينئذ كفارًا لم يسلموا , ومع هذا ما أمكنهم إلاَّ الصدق , فاعترفوا بذلك , وقال جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - للنجاشى ملك الحبشة: أيها الملك , إن الله بعث إلينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه وأَما

فإِذا كان محمد كذلك فكيف ينكرون نبوته، ويجحدون صفاته بعد أَن اعترفوا بها؟ إن ما وقع منهم كان حسدًا وبغيًا، قال سفيان الثورى: بل قد عرفوه ولكنهم حسدوه. 70 - {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: انتقال إِلى توبيخ آخر، أَي: بل أَيحتجون في ترك الإِيمان به بأَنه مجنون؟ وهذا باطل ينكره الوقع الذي يعرفونه حق المعرفة، حيث إِنه - عليه الصلاة والسلام - أَرجح الناس عقلًا، وأَضوؤهم ذهنًا، وأَصحهم رأْيًا، وأَوفرهم رزانة. {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}: أَي: بل جاءَهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق البيِّن، وهو القرآن والتوحيد والدين القيم الذي لا محيد عنه، فلا صحة لما يقولون. {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: المراد بالحق الذي كرهه أَكثرهم، إِما كل حق، ويدخل فيه دين الإِسلام، وإِما دين الإِسلام خاصة، فقد كرهه أَكثرهم حسدًا وبغيًا، وكان فيهم من لا يكرهه، ولكنه يتابع قومه في الإِعراض عنه والكفر به أَنفةً واستكبارًا، وحذرًا من تعيير قومه، أَو من وقوع أَذى به أَو نحو ذلك من عدم فطنته وقلة تفكره، لا كراهةً للحق من حيث هو حق. وإيثار الإِظهار في مقام الإِضمار حيث لم يُقَلْ: (وأكثرهم له) لوضوح الإِظهار في ذمهم والتشنيع عليهم، ولدفع ما قد يتوهم من عود الضمير على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخاصة.

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)} المفردات: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُم}: المراد بالحق , الله سبحانه وتعالى، وقد يراد به الحق المطابق للواقع، أَو النبي، والمراد بأَهوائِهم: ما يهواه الناس ويشتهونه. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}: الذكر هنا بمعنى الشرف، أَي: أَتيناهم بالكتاب الذي فيه عزهم وشرفهم. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا}: أَي أَجرًا عن التبليغ. {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}: مائلون منحرفون عن طريق الجنة، وهو الصراط المستقيم، وفِعله من باب (قَعدَ) يقال: نكب عن الطريق، نكوبًا، ونكْبًا: إذا عدل عنه ومال إلى غيره (¬1). التفسير 71 - {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ... } الآية. أَي: ولو اتبع الحق سبحانه أَهواءَهم الزائفة، فوافقها بتشريع ما يشتهون، لكانت الطامة الكبرى؛ حيث تفسد السموات والأَرض ومن فيهن، وتخرج عن الصلاح والانتظام بالكلية , لأن رغبات الناس قاصرة، وشهواتهم تختلف وتتضاد بما ينجم عنه أَشد الفساد، وأَقوى التنابذ والخلاف، ولكن الكون تام الصلاحية؛ لأنه جاءَ وفق مراد الحق تبارك وتعالى دون شريك؛ إذ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬2). ¬

_ (¬1) ويأتي (نكب) أيضا من باب: (فرح) فيقال: نكب، ينكب، نكبا. (¬2) سورة الأنبياء, الآية: 32

وخُصَّ العقلاءُ بالذكر في قوله تعالى: {وَمَنْ فِيهِنَّ} لأن غيرهم تبع لهم في الصلاح والفساد. {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}: انتقال من التشنيع عليهم بما سبق إلى التشنيع عليهم لإعراضهم عما جبلت عليه النفس من الإقبال والرغبة فيما فيه خيرها ونفعها , أي: بل أتيناهم بالقرآن الذي فيه عزهم وشرفهم , حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (¬1) فكان يجب عليهم لهذا أن يسرعوا إليه , ويقبلوا ما فيه أكمل قبول , ولكنهم عكسوا الآية {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} أي: فَهُمْ بما فعلوا من نكوص وإعراض معرضون عما فيه شرفهم وفخرهم , وبيان ثوابهم وعقابهم , مسرعون إلى نقيضه مما لا يطلب منهم الإقبال عليه والاهتمام به. وفي وضع الظاهر موضع المضمر حيث لم يُقَل: {فَهُمْ عَنْهُ} إشارة إلى مزيد من التشنيع عليهم والتقبيح لهم. وقيل: المراد بذكرهم: ما تمنوه بقولهم: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} (¬2) والحق أنه قد جاءَهم ذكر خير من ذكر الأولين , أي: كتاب خير من كتبهم , فأَعرضوا عنه جهلًا وعنادًا. 72 - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}: انتقال لتوبيخ آخر يوبخ به سبحانه الكافرين على عدم إيمانهم بما جاءَهم به الرسول من الحق دون أَن يسأَلهم عليه أجرًا, والمعنى: بل أتسألهم يا محمد أجرًا على الرسالة , فبسبب ذلك لا يؤمنون بك , ولأجله يعرضون عن رسالتك؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}: الجملة تعليل لنفى السؤال الذي استفيد من الإنكار, أي: لم تسألهم ذلك , ولا يتأتى منك؛ فإن ما رزقك الله إياه في الدنيا , وما أعده لإثباتك في الآخرة خير من رزقهم؛ لدوام رزق الخالق واستمراره وعدم تحَمُّل المنة في رزقهم. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره - عليه الصلاة والسلام - إيذان بأعظم التشريف وأكمل التعظيم له - صلى الله عليه وسلم - والخَرْجُ أقل من الخَرَاجِ , فهو بمعنى: ¬

_ (¬1) سورة الزخرف , الآية: 44 (¬2) سورة الصافات , الآيتان: 168

العطاء القليل , أما الخراج فهو العطاء الكثير , لأن كثرة المبنى تدل على كثرة المعنى؛ ولذا عُبِّر بالأول في جانب الخلق , وبالثانى في جانب الخالق ,وقيل: إنهما سواءٌ في المعنى. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: تأكيد لخيرية عطاءه ورزقه , فإن مَنْ كان خير الرازقين يكون رزقه خيرًا وأوفى من رزق غيره , بمعنى أنه لا يقدر أحد أن يرزق مثل رزقه , ولن يستطيع أن يُنعم قدر إنعامه. 73 - {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أي: إلى دين الإسلام الذي تشهد الفِطَرُ السليمة باستقامته وتنزهه عن أَي شائبة تلحقه, أَو اعوجاج يعيب منهجه , والصراط: الطريق , وسمى الدين طيقًا لأنه يؤدى إلى الجنة, فهو طريق إليها. 74 - {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}: هم كفار قريش المحدَّث عنهم فيما سبق , وقيل: المراد ما يعمهم ويعم غيرهم من الكفار المنكرين للبعث , وتدخل قريش في ذلك دخولًا أوليًّا , وقد وصفوا بعدم الإيمان بالآخرة , تشنيعًا عليهم بما يفعلونه من إقبال على الدنيا , واستمساك بها , زاعمين: أنه لا حياة لهم بعد هذة الحياة , ولو كانوا يؤمنون بها لخافوا سوء المصير فيها بكفرهم بالحق الذي جاءهم على لسان رسوله. المعنى: وإن الذين لا يصدقون بالآخرة وأهوالها لمعرضون عن الصراط السوى , ومنحرفون عنه , ولو آمنوا بها لفكروا قبل أن يكفروا بما جئتهم به , ولهداهم التفكير إلى الصراط السوى الذي يوصلهم إلى رحمة الله.

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)} المفردات: {مِنْ ضُرٍّ}: من شدة وسوء حال. {لَلَجُّوا}: لتمادوا. {فِي طُغْيَانِهِمْ}: في إفراطهم في الكفر بالحق. {يَعْمَهُونَ}: يتحيرون ويترددون بين أَساليب رد الحق، وهو مضارع (عَمِه) بوزن فرح ومنع، ومصدره: العَمَهُ والعُمُوه. {فَمَا اسْتَكَانُوا}. فما خضعوا. {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}: وما يتذللون إلى الله ويدعونه مخلصين أَن يرحمهم. {مُبْلِسُونَ}: متحيرون يائسون من كل خير. التفسير 75 - {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}: أَي: ولو رحمنا أَهل مكة، وأَزلنا ما لحقهم من ضر وشدة، بسبب القحط الذي حل بهم عقابًا لهم، لتمادوا في الكفر بالحق يترددون بين أَساليب رده، ولم يرتدعوا عن طغيانهم بعد ما رفع الله الضر عنهم. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا عليهم، فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف - كما رواه ابن عباس، وقد حقق الله دعاءَه، فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة في سَريَّة إلى بنى بكر بن كلاب، فجاءَ بثُمامة بن أثال الحنفى إِلى المدينة، فامتنع عن الإسلام ثلاثة أَيام، ثم أَسلم وخرج معتمرًا، فلما قدم بطن مكة لبَّى، وهو أول من دخلها ملبيًا من المسلمين، ومن هنا قال أَحد بنى حنيفة: ومنَّا الذي لَبَّى بمكة مُعْلِنًا ... برغم أَبي سفيان في الأَشهر الحرم

فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا وصَبَوْتَ يا ثمامة، قال: أسلَمت واتبعت خير دين، دين محمد - صلى الله عليه وسلم - والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة - وكانت ريفًا لأهل مكة - حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا لمكة شيئًا حتى أضرَّ بهم الجوع، وأكلت قريش العِلْهز (¬1)، فكتبت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناءَ بالجوع، إنك تأْمر بصلة الرحم، وأنت قد قطعت أرحامنا، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثُمامة - رضى الله عنه -: "خَلِّ بين بنى قومى وبين مِيرَتهم" ففعل. وفي رواية أَن أبا سفيان جاءَه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أَلست تزعم ... إِلخ وكان هذا قبل الفتح بقليل (¬2). وقد نزلت الآية الكريمة لتبين أن كشف الضر عنهم بسعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابته إلى ثُمامة لن يؤثر في قلوبهم المريضة، بل سيظلون في طغيانهم يترددون. 76 - {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}: هذه الآية تسجل على قريش عنادهم في كفرهم، وأن الآيات والنذر لا تنفعهم، فإذا كانوا لم ينزعوا إِلى الإِيمان بامتحانهم بآية العذاب والضُّر، فكيف يؤمنون برحمتهم وكشف الضر عنهم؟. والمعنى: ولقد أخذنا قريشًا بعذاب الجوع والقحط، فما خضعوا به إلى الحق، وما يتذللون لربهم ويدعونه بإِيمان وصدق لكي يكشف الضر عنهم، فقلوبهم مع أوثانهم وليست مع خالقهم، ومن كان أمرهم ذلك، فلن يخضعوا برحمته تعالى وكشف ضره عنهم، ولو كانوا يعقلون لعرفوا أَن الأمر كما قاله العليم الخبير: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) العلهز: طعام يؤكل في المجاعة من الدم والوبر، ويطلق أيضا على القراد الضخم. (¬2) انظر الآلوسى. (¬3) سورة الأنبياء , الآية: 35

77 - {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}: لفظ: {حَتَّى} يدل على أن الكلام بعدها غاية لما قبلها، والمراد بالعذاب الشديد الذي يفتح عليهم بابه: إِمَّا ما يكون بفتح مكة، وإِمَّا ما يحدث يوم القيامة. والمعنى: أَنهم مستمرون في عنادهم وكفرهم لا تفيدهم الآيات والنذر، حتى إذا فتحنا عليهم بابًا موصلًا إلى عذاب شديد لا طاقة لهم به، كما حدث لهم يوم فتح مكة، أَو كما سوف يحدث لهم يوم القيامة، إذا هم فيه مُتَحيِّرون آيسون من كل خير. أما عذابهم يوم فتح مكة، فهو عذاب اليأس والقنوط من الانتصار على محمد والقضاء على دينه، واستسلامهم له أَذلة صاغرين، وأَما عذابهم يوم القيامة فيكون لمن مات منهم على كفره قبل الفتح، أَو كتم كفره ونافق بالإيمان بعد الفتح. وفي المعنى الثاني يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)} (¬1) ويقول: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} (¬2). {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} المفردات: {وَالْأَفْئِدَةَ}: القلوب , مفردها فؤاد. {ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}: خلقكم وبثكم فيها (¬3). {تُحْشَرُونَ}: تجمعون. {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: ولأَمر الله وتدبيره يرجع تعاقب ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 12 (¬2) سورة الزخرف، الآية: 75 (¬3) قال صاحب القاموس: ذرأ كجعل: خلق، وذرأ الشيء: كثره، ومنه: الذرية - مثلثة - لنسل الثقلين.

الليل والنهار، من قولهم: فلان يختلف إلى فلان أَي: يتردد عليه، أَو المراد باختلافهما تفاوتهما زيادة ونقصانًا , وظلامًا وضياءً. التفسير 78 - {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}: بعد أَن بين الله إِصرار أَهل مكة على الكفر بعد ما تعاقبت عليهم الضراء والسراءُ، وأنذرهم بسوءِ العاقبة حينما يفتح عليهم بابًا ذا عذاب شديد - بعد أن بين الله ذلك - جاءَت هذه الآية وما بعدها، لتذكرهم بآيات الله ونعمه فيهم، لعلهم يثوبون إِلى رشدهم، ويتجنبون بالإِيمان سوءَ مصيرهم. والمعنى: والله هو الذي خلق لكم حينما أَنشأكم - خلق لكم - حاسة السمع لتدركوا بها المسموعات من خير أو شر، ضر أَو نفع، كما تدركون بها مختلف العلوم والمعارف في أُمور دنياكم وأُخراكم، وخلق لكم الأَبصار, لتسلكوا السبل في كون الله، وتنظروا بها الصديق والعدو والحسن والقبيح، وتدركوا آيات الجمال والكمال في كون الله , وتتعرفوا ما يصلح من الأَرزاق وما لا يصلح، وتميزوا بها شتى الأَلوان والأَحجام وغير ذلك من سائر المدركات عن طريقها، مما لا يحيط به العادّون، ولا يستقصيه الحاسبون، وخلق لكم العقول , لتحكموا بها على ما يصل إليكم عن طريق الأَسماع والأَبصار وسائر الحواس, وتوازنوا بها بين المدركات وتسوسوا بها نفوسكم ناحية الخير، وتبعدوها عن موارد الهلكة، وتبسطوا بها سلطانكم على الأَرض التي جعلكم الله خلفاءَ عليها وعلى ما فيها وما فوقها: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. والله تعالى يخرج الناس من بطون أمهاتهم بحواسهم خالية من الإِدراك , ولكنها صالحة له، حتى إذا ما تواردت عليها المدركات انتبهت إِليها وتدرجت في النمو شيئا فشيئا حتى تصل كل نفس إلى مستواها من الإِدراك الذي شاءه الله لها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1)، لما كان السمع يسبق الأبصار في الإدراك، والأفئدة تتأَخر فيه عنهما، فلذلك جاءت مرتبة هكذا في آيات القرآن العظيم (¬2). ولقد ختم الله الآية هنا بقوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} والخطاب هنا للكافرين. والقلة إِما بمعنى العدم، أَي: لا تشكرون الله أَصلًا، أَو بمعناها الحقيقى، فهم إن شكروا الله فشكْرهم له قليل بالنسبة لشكرهم لآلهتهم، فهم في معظم أَحوالهم ينسبون إليها النصر والمطر والرزق والشفاء من الأَمراض، ولا يذكرون الله إِلا قليلا، والمقصود من الشكر هنا: صرف تلك الحواس لما خلقت له، وأهم ما خلقت له: العبادة الخالصة لله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}. وقيل: إِن الخطاب في الآية من أَولها لآخرها موجه إِلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، والحكم بقلة شكرهم، لأَن الذين يشكرونه تعالى هم المؤمنون , وهم في الناس قليلون، وما قلناه أَولًا أَظهر وأَوفق بالسياق. 79 - {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)}: والله هو الذي خلقكم من نفس واحدة خلق منها زوجها، وكثركم ونشركم في الأرض بتناسلها وذرياتهما لتعمروها وتكونوا في عمارتها خلفاءَ عنه تعالى، ولستم بمخلدين فيها، بل تموتون حين تحين آجالكم، وإِليه لا إلى غيره تحشرون وتجمعون بعد أَن يبعثكم أَحياءَ من قبوركم، ليحاسبكم ويجزيكم على أَعمالكم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. 80 - {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)}: والله هو الذي يهب الحياة لكل كائن حى، بعد أَن لم يكن شيئًا مذكورًا، ويسلبها منه حين يميته، وتراه في سلطانه على خلائقه {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 78 (¬2) علق المختصون من الأطباء بالمجلس الأعلي للشئون الإسلامية على آية (النحل) في كتاب (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) بقولهم: أثبت الطب الحديث أن حاسة السمع تبدأ مبكرة جدًا في حياة الطفل في الأسابيع القليلة الأولى، وأما البصر فيبدأ في الشهر الثالث، ولا يتم تركيز الأبصار إلا بعد الشهر السادس: أما الإدراك بالفؤاد فلا يكون إلا بعد ذلك: انتهى بتصرف ي

وهذا شاهد على أنه تعالى كما بدأَ الخلق يعيده، مصداقًا لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (¬1). وكما أَنه يختص بالإِحياء والإِماتة، فأنه تعالى يرجع إليه وحده التدبير في اختلاف الليل والنهار. والمراد باختلافهما: أن يجىء كلاهما خلف الآخر، أو أَن يتفاوتا طولًا وقصرًا، نورًا وظلامًا، وفي ضوء النهار تتحرك الكائنات الحية إلى معايشها وأرزاقها، وفي الظلام تسكن وتستريح من سعيها ومتاعبها: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} وختم الله الآية بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَي: أَترون هذه الآيات فلا تعقلون دلالتها على الخالق سبحانه ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وتصديق رسله والاهتداء بهديه، والعمل ليوم البعث والنشور؟: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار} (¬2). {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)} المفردات: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أباطيلهم التي سطروها للتلهى بها، جمع: أسطورة، كأُحدوثة وأحاديث، وأعجوبة وأعاجيب، وقيل: جمع أسطار جمع سَطْر، فهى جمع جمع، واختيار الزمخشرى الأَول، لأَن جمع المفرد أَولى من جمع الجمع وأَقيس، ولأن وزن أفعولة يأتى لما فيه التلهى، فيكون القرآن - في نظرهم الفاسد - مكتوبات لا طائل تحتها، وإِلى هذا الرأى ذهب المبرد وجماعةٌ من أهل اللغة. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 104 (¬2) سورة آل عمران، من الآية: 13

81، 82 - {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}: بين الله في الآيات السابقة أَنه تعالى هو الذي أَنشأ للكافرين الحواس والأفئدة، وهو الذي خلقهم وأنهم إليه راجعون للحساب والجزاء , وأَن الإحياءَ والإماتة من شأْنه جل وعلا، كما له اختلاف الليل والنهار, وطلب إليهم عقب هذه الآيات أن يتدبروا ويتعقلوا بقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وجاءَت هاتان الآيتان وما بعدهما لتفيد أَنهم لم يعقلوا ولم يتدبروا بل كفروا بالبعث مع وجود هذه البراهين. والمعنى: لم يعقل هؤلاء المشركون تلك الآيات على إِمكان البعث وقدرة الله عليه، بل قالوا منكرين له مثل ما قاله الكفرة السابقون لرسلهم. قالوا: أئذا متنا وتحولت أجسادنا إلى تراب وعظام بالية نبعث إِلى الحياة مرة أُخرى، ثم أَعادوا الاستبعاد والاستنكار مرة أخرى فقالوا: أَئنا لمبعوثون بعد هذا الفناء، ثم أَكدوا استبعادهم بما حكاه الله عنهم بقوله: 83 - {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: لقد وعدنا منك يا محمد بالبعث بعد الموت، ووعد آباؤنا من رسلهم بمثله قبلك , وما هذا البعث الموعود إلا أسطورة من أَكاذيب الأولين نقلتها إِلينا عنهم يا محمد، ونحن نستبعد حصوله ونستنكره بعد أَن يتحول الموتى إِلى عظام نخرة، وقد كانت عقيدتهم في الحياة تتمثل في قولهم: إِن هي إلا أَرحام تدفع وقبور تبلع وما يهلكنا إِلا الدهر، والواقع أَنهم في عقائدهم مضطربون، فبينما هم يقولون ذلك يحكى الله عنهم إيمانهم بعظيم قدرة الله بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬1). فإذا كانت عقيدتهم كذلك في قدرة الله، فكيف يستبعدون البعث وهو مشاهد لهم كل يوم في إِحياءِ النبات بعد يبسه، وفي اليقظه بعد النوم. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية: 61

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)} المفردات: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أصله تتذكرون فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، والتذكر: الاعتبار. {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}: صيغة الملكوت للمبالغة في الملك، فالمراد به الملك العظيم الشامل. {وَهُوَ يُجِيرُ}: وهو يمنع ويحفظ من يشاءُ ممن يشاءُ. {وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ}: ولا يستطيع أَحد أَن يمنع سواه عن بطش الله. {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}: فكيف تصرفون عن الهدى. التفسير 84 - {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: قل - أَيها الرسول - لهؤلاء المنكرين للبعث: من هو خالق الأرض ومالكها والمتصرف فيها وفيمن عليها؟ إِن كان لديكم شيء من العلم والعقل، فأجيبونى عن هذا السؤال. وأسلوب الآية ينم عن فرط الاستهانة بعقول هؤلاء المشركين، حيث شكك الله في وجودها لديهم، بسبب أَنهم لم يحسنوا استخدامها، فجعلها في حكم المشكوك في وجودها بقوله {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

85 - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أي: أنهم مع فرط جهالتهم، وفقدان القدرة على القياس لديهم، فإنهم سيجيبونك أيها الرسول بأن الأرض ومن فيها لله، لأنهم لا يجحدون ذلك، قل لهم حين يجيبونك بذلك: أتقولون هذا، فلا تعتبرون بأن من فطرها وفطر من عليها ابتداء فهو قادر على إعادتها ثانيا؟ فإن الإعادة أسهل من الابتداء في قياس العقول. 86، 87 - {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}: قل - أيها الرسول - لهؤلاء الجاهلين: من هو مالك السموات السبع بجزئياتها وبمن عليها من كائنات لا يعلمها غيره، ومن هو مالك العرش العظيم؟ سيقولون في إجابتهم: هي لله، قل لهم: أَتقولون ذلك فلا تتقون الله وأنتم تشركون وتنكرون البعث والنشور، وهما أهون عليه من خلق السموات السبع وخلق العرش العظيم (¬1)؟ 88 - {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: اليد هنا كناية عن القدرة والمعنى: قل لهم أيضا مبالغا في التقرير والإنكار: مَن بقدرته ملك كل شيء وتدبيره، وهو يمنع من يلوذ به ويحميه من المكاره، ولا يستطيع أحد أن يجير ويحمى من أراده بسوءٍ؟ إن كنتم تعلمون الجواب عن هذا السؤال فأجيبونى، ثم تولى الله الجواب عنهم، لأنهم مقرون به ولا معدل لهم عنه فقال سبحانه: 89 - {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}: سيقول هؤلاء المشركون: الملك والملكوت لله، والإجارة والحماية للمستجير لا تكون إلا لله دون سواه، وإذا كان هذا ما سيقولونه جوابا عن سؤالك، فكييف يُصْرفُون عن الرشد والهدى كالذين سُحِروا ففقدوا عقولهم؟ ¬

_ (¬1) العرش في اللغة: سرير الملك، ويكنى به عن العز والسلطان، وعلى الأول فهو كائن عظيم يحيط بالكون.

ويلاحظ أَن السؤال الثاني: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ... } والثالث: من بيده ملكوت كل شيء جوابهما {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} بلام الجر , وكان الظاهر أَن يكون الجواب {سيقولون الله} بغير لام مراعاة للسؤال (¬1). فما وجه العدول عنه؟ والجواب: أن كلا الأَمرين جائز لغة , فلو قيل: من صاحب هذه الدار فلك أَن تجيب بقولك: (خالد) مثلا , مراعاة للفظ السؤال المجرد عن اللام , ولك أن تقول: (لخالد) باللام مراعاة للمعنى , ومنه قول الشاعر: إذا قيل من رب المزالف (¬2) والقُرى ... وربُّ الجياد الجُرد (¬3) قيل لخالد 90 - {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: في هذه الآية إضراب إبطالي لإنكارهم البعث والتوحيد. والمعنى: بل جئنا قريشا بالحق في وحدانية المعبود والبعث من القبور , وإنهم لكاذبون في شركهم وإنكارهم لهما {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬4). {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} المفردات: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: لغلب بعضهم بعضا. ¬

_ (¬1) فإن السؤال مجرد من اللام فيهما حيث لم يقل فيه: لمن السموات السبع , ولا (لمن ملكوت كل شيء). (¬2) جمع مزلفة , وهي القرية تكون بين البر والريف. (¬3) الجراد: جمع أجراد , وهو الجراد الذي يسبق غيره. (¬4) سورة الشعراء , الآية: 227

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}: تنزيها له تعالى عما يلحقونه به من الولد والشريك. {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: المراد بهما: ما غاب عن خلقه وما أبصروه. {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: فتنزه عن إشراكهم. التفسير 91 - {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}. والمعنى: ما اتخذ الله لنفسه من ولد، لتنزهه عن الاحتياج إليه ليعينه أَو يرثه من بعده كما هو الشأْن في الولد، فهو القادر الذي يقول للشىء: كن، فيكون، وهو الباقى الذي لا يفنى ولا يبيد {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1). وكما أنه تعالى لم يتخذ ولدا فإنه لم يكن معه من إله حين أَبدع ملكوته، ولا يصح عقلا أن يكون له فيه شريك كما زعم الزاعمون، فلو اشترك معه في الخلق غيره، لاستقل كل إله بما خلقه، إِن فرض استقلاله بخلقه، ولغالب بعضهم بعضا حتى يغلب قويهم ضعيفهم ويستقل بالكون وحده، إن فرض اشتراكهم في الكون تعاونيا، أَو كان لكل منهم ناحية خلقها، وبما أَننا نرى الكون وحدة متكاملة محكمة الصنع، فلا بد أَن يكون مبدعه إِلها عظيمًا واحدًا في ذاته وصفاته وأفعاله، فإِن التعدد في الإله يؤدى إلى التنافس والتغالب وينتهى إلى الفساد، كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬2) ولهذا ختم الله الآية بقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} أَي: تنزيها كاملا لله عما يزعمونه له من الولد والشريك. 92 - {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أَي: أَنه تعالى كما تنزه عن الولد وعن الشريك في خلق هذا الكون وتدبيره، فهو عالم بكل ما خفى وغاب عن العيون والعقول، وعالم بكل ما هو مشاهد ومرئى لأولى الأَبصار {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬3) وإذا كان ¬

_ (¬1) سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 22 (¬3) سورة الأنعام، الآية

أمر الإله عظيمًا هكذا فتعالى الله وتنزه عما يشركون معه من آلهة لا حول لها ولا قوة، ولا تمك لنفسها نفعًا ولا ضرا، ولا تعلم عن نفسها أو غيرها حاضرًا ولا غائبا. {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} المفردات: {إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}: إن كان لا بد من أَن ترينى ما يوعدونه من العذاب، والأصل إِن تُرينى، فزيدت ما وأدغمت في (إن) فصارت: إمَّا، وأكد الفعل (تُرِيَنىِّ) بنون التوكيد بعد إِمَّا، فاصبح الفعل مؤكدًا بلفظ (ما) المدغمة في (إن) وبنون التوكيد، وبهذا يعلم أَن (ما) في لفظ (إمَّا) ليست للنفى بل للتوكيد. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أَي: ادفع أثر السيئة بالخصلة التي هي أحسن، وسيأتى شرح ذلك. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}: نحن أَعلم بالذى يصفونك به، أَو بوصفهم إياك بما ليس فيك (¬1). {أَعُوذُ بِكَ}: ألوذ وأَعتصم بك. {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: جمع همزة، والهمز: النخس والدفع بيد أَو غيرها، ومنه المهاز في رِجْل مَنْ يركب الدابة، ينخسها به لتسرع، والمراد بهمزات الشياطين وساوسهم , فإنها تدفع إِلى المعاصي. ¬

_ (¬1) وبهذا التفسير علم أن لفظ (ما) في قوله تعالى (بما يصفون) إما موصولة أو مصدرية.

التفسير 93, 94 - {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: ظاهر الآيتين يدل على أن الله تعالى كان قد أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعذاب يصيب قومه إن أصروا على كفرهم , ولم يخبره بوقت نزوله , فلهذا طلب نجاته منه إن حصل لهم في حياته , وهكذا فهم الحسن , فقد روى أنه قال: أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن له في أمته نِقْمَةً , ولم يطلعه على وقتها , أهو في حياته أم بعدها , فأمره بهذا الدعاء: والمعنى: وقل - أيها النبي -: يا رب إن كان لابد أن ترينى ما أوعدت قومى به من العذاب المستأْصل إن بقوا على كفرهم , يا رب فلا تجعلنى بين هؤلاء الظالمين حين ينزل عقابك. ونداءُ النبي لله بوصف الربوبية , للإيذان بأنه تعالى هو المالك النظر في مصالح العباد, الموعود , وكونه بحيث يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن ينزل به , وهو متضمن تأكيد وقوع العذاب الموعود الذي أنكروه وسخروا منه واستعجلوه , وهذا الوعد مشروط ببقائهم على كفرهم. وقيل: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك هضمًا لنفسه وإظهارًا لكمال العبودية؟ أو لأن شؤم الكفرة قد يحيق بغيرهم, كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} والتعبير بقوله: {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} بدلًا من أن يقول: فلا تجعلنى فيهم , للإيذان بأن ظلمهم هو السبب في وعيدهم بالعذاب , وتكرار لفظ (رب) لمزيد الضراعة والاستنجاد بمن بيدة الأمر كله. 95 - {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}: أي: وإنا على تمكينك من رؤية عذابهم الموعود لقادرون , كما قدرنا على مثله فيمن سبقهم من المعاندين لرسلهم. وهذة الآية تشير إلى أن التعجيل بالعذاب ليس من الحكمة التي تقترن بها أفعال الله تعالى فلقد علم سبحانه أزلًا أن معظمهم سوف يؤمن , فلهذا تأنى بهم ولم يتعجل بعقوبتهم.

والظهر أن الآية واللتين قبلها نزلتا قبل أن يخير الله تعالى نبيه بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} (¬1). 96 - {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}: أي: قابل السيئة التي تأتيك من قومك وامنع أثرها عن نفسك بالخصلة التي هي أحسن من مقابلة السيئة بمثلها , والدفع بالتي هي أحسن على ثلاث درجات , أدناها أن تصفح عن سيئته , وما فوقها أن تحسن إليه إحسانًا ما , وأعلاها أن تجزل الإحسان إليه. وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك توكيدٌ لما هو ملتزم به من هذا الخلق الكريم مع المؤمنين فقد كان يقابل السيئة بالحسنة , وكان يقول: الله أغفر لقومى فإنهم لا يعلمون. والخطاب في الآية وإن كان موجهًا إلى الرسول حسبما يؤذن به السياق , فإن الحكم فيه يعم كل مسلم , فينبغى أَن لا يقابل السيئه بمثلها , حتى لا يتمادى المسىء في إساءته , فيعظم البلاءُ وتحدث الفتن , فإن معظم النار من أعظم السرور , وفي عموم معناها أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال: (يقول الرجل لأَخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبًا فأنا أسأَل الله أن يغفر لك , وإن كنت صادقًا فأنا أسأل الله أن يغفر لى) والدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين أو خدش المروءة. وفي ختام الآية يقول سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: نحن أكثر علما منك بما يصفونك به في السر والعلانية , من الأوصاف التي يُكَذِّبُهَا ما أنت عليه من الكمال الخلقى والصدق في تبليغهم أحكام ربهم , وفي هذه الجملة وعيد لهؤلاء المتقولين على الرسول بالعقوبة , وتسلية له - صلى الله عليه وسلم - وإرشاد له إلى تفويض الأمر له عز وجل , والآية من قبيل الموادعة والمهادنة , حتى يشتد جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - , فيقاتلهم حتى يهتدوا إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال , الآية: 33

97، 98 - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ *وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}: بعد أن أمر الله نبيه بدفع السيئة بالحسنة، أَمره أن يعوذ به من وساوس الشياطين، ليكون ذلك معينًا له على دفع السيئة بالحسنة، ونحن في كلا الأَمرين مكلفون بالعمل بما أمر الله به رسوله فيهما. والاستعاذة بالله والاعتصام به من الشياطين أَمر ينبغي الحرص عليه عند الشروع في كل عمل صالح للفرد أَو للمجتمع، فإن الشياطين من الجن والأنس أَعداءٌ للخير، فهم لذلك يحرصرن على الصد عنه بوساوسهم وإِغراءَاتهم المضللة للنفس البشرية، فهم يزينون لها الباطل، وينفرونها من الحق بأَساليب مزوقة وملفقة قد تخفى على التقى الورع، ولا عاصم من خداعهم إلاَّ الله رب العالمين، فلهذا أَمرنا سبحانه بالاستعاذة به من وساوسهم. والمعنى: وقل - أيها المسلم - عند الشروع في أَمر نافع لك أَو لمجتمعك: يا رب أَعوذ بك وأَعتصم بربوبيتك من وساوس الشياطين الصارفة عن البر والخير، وأعوذ بك وأَعتصم بحمايتك من حضورهم حولى في أَي حال من أَحوالى الدنيوية أَو الأخروية، لأَسلم من شرورها ومغرياتهم الكاذبة: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬1). ومِنْ أَجدر الأَحوال بالاستعاذة بالله من الشياطين حالُ الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل، وعند النوم، لأَنهم ينشطون فيها أكثر من سواها. وفي الاستعاذة عند النوم: أخرج الإأمام أحمد بسنده عن جَدِّ عَمْرو بن شعيب قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم - من الفزع -: بسم الله أَعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأَن يحضرون" ورواه كذلك أَبو داود والنسائى والترمذى وحسنه. وفي الأَمر بالتعوذ من حضور الشياطين بعد الأَمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 64

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}. المفردات: {فِيمَا تَرَكْتُ}: في دنياى التي تركتها أو في مالى أَو في إِيمانى. {كَلَّا}: كلمة تستعمل للردع والزجر. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ} أَي: أمامهم، ومثله قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أَي: أَمامهم، وقد يستعمل بمعنى الخلف، فهو كما قال صاحب المختار: من الأَضداد، ويبنى على الضم إذا لم تضفه، كقولك: جئتك من وراءُ، كقولك: من قبلُ ومن بعد (¬1)، {بَرْزَخٌ}: حاجز. التفسير 99، 100 - {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: {حَتَّى} هنا ابتدائية، وما بعدها غاية لما قبلها، ولهذا يقول النحاة عنها: إنها لابتداء الغاية، وقد مضى أن المشركين أَنكروا البعث وتوحيد الله حتى قالوا فيهما: أَساطير الأَولين، ثم احتج الله عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، وأنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وأمر نبيه أن يستعيذ به من عذابهم الموعود على كفرهم، وطلب إِليه أَن يدفع سيئتهم بالحسنة، وجاءَت هذه الآية لتبين أَن من أَصَرَّ منهم على الكفر حتى يحضره الموت، طلب الرجوع إلى الحياة ليصلح ما أفسده. ¬

_ (¬1) انظر المختار.

والمعنى: أن المشركين لا يزدادون بالوعظ التذكير إلاَّ إصرارًا على الكفر حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلاله حين يرى الملائكة تقبض روحه بعنف وشدة وأدرك حينئذ سوءَ عاقبته, فيقول فيما بينه وبين الله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} ثانية إلى الحياة الدنيا لكي أعمل صالحًا في دنياى التي تركتها وليس لى فيها عمل صالح ينفعنى في أُخراي , فيقال له: كلًا لا سبيل إلى الرجوع إليها بعد أن حانت منيتك , ثم يقول الله مؤكدًا تمنيه الرجوع إلى الدنيا , واستحالة رجوعه بقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: إن قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ} كلمة هو قائلها لا محالة حين يعاين الموت وسوءَ المنقلب , لاستيلاء الحسرة والندم عليه , وأمامهم حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا حيث يبقون في قبورهم إلى يوم القيامة , حين يبعثونمنها للحساب والجزاء , والمقصود من حضور الموت حضور أماراته , ومنها حضور الملائكة لقبض روحه بشدة كما قال تعالى في وصف هذة الحالة: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (¬1). وكلامهم مع الله تعالى بصيغة الجمع في قولهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ} للتعظيم , وهو أسلوب المسترحمين كما قال الشاعر: فقلت ارحمونى يا إله محمد ... فإن لم أكن أَهلًا فأَنت له أهل ولفظ (لعل) يستعمل للتعليل وللرجاء , وكلاهما تصح إرادته في قول الكافر المحتضر {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} أي: لكي أعمل صالحًا , أو رجاء أن أعمل صالحًا , والمراد من البرزخ هنا: الحاجز , وهو إرادة الله أن لا عودة للحياة إلاَّ يوم القيامة , ثم بين الله أحوال القيامة فقال: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال , من الآية: 50

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} المفردات: {الصُّورِ}: يطلق على البوق فيكون مفردًا، ويطلق على الصُّور - بفتح الواو- فيكون جمعًا لصورة، مثل بُسْر وبُسْرَة، وسيأْتى مزيد بيان لذلك في التفسير. {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}: أي فلا تنفعهم الأنساب وهي القرابات. {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}: ولا يسأل بعضهم بعضًا عن حاله. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}: أَي فمن رجحت موزوناته من الأَعمال الصالحة {تَلْفَحُ}: تحرق. {كَالِحُونَ}: شفاهُهُم متقلصة عن أسنانهم. التفسير 101 - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}: المراد من النفخ في الصور هنا النفخة الثانية التي يبعث عندها الخلائق للحساب والجزاء، والصور: إما البوق، والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام، وإما الأجساد جمع صورة كبُسْر جمع بسرة، والنفخ فيها كناية عن إِطلاق الأَرواح لتلحق بأجسادها، ويؤيد المعنى الثاني قراءَة ابن عباس وغيره {فِى الصوَرْ} بواو مفتوحة، وهي بلا شك جمع صُورَة، والتوفيق

بين القراءتين بهذا المعنى أَولى من حمله على البوق، قال الآلوسى: ولا تنافى بين النفخ في الصور بمعنى القَرْنِ الذي جاءَ به الخبر ودلت عليه آيات أُخَر, وبين النفخ في الصُّوَر جمع صورة، فقد جاءَ أن هذا النفخ عند ذاك: اهـ. ومعنى الآية: فإِذا نفخ في صُوَر الخلائق، بأن ألحقت كل روح بجسدها عند قيام الساعة، فبعث الخلائق وحشروا من قبورهم إلى ساحة القضاء الإِلهى، ليقضى لهم أَو عليهم تبعًا لعقائدهم وأَعمالهم، فلا تنفعهم قراباتهم حينئذ كما كانت تنفعهم في دنياهم، ففي ذلك اليوم: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1). وحكى عن الجُبَّائي: أن المراد من الآية أنه لا يفتخر يومئذ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا، وإنما يفتخر هناك بالأَعمال والنجاة من الأهوال (¬2)، وكما أنهم لا تنفعهم أنسابهم ولا يفتخرون بها، فكذلك هم لا يتساءَلون عن أَحوالهم، فلا ترى أَحدًا منهم يهتم بغيره فيسأَله عن حاله، لأَن حال كل منهم واضح لغيره، ولأَن الخطب جسيم يشغل كل امرئ عن سواه، وقد صور الله هول ذلك اليوم أَوضح تصوير بقوله في صدر سورة الحج: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}. فإِن قيل: إنه جاءَ في القرآن أن الكفار يتساءَلون يوم القيامة، كما جاءَ عنهم في سورة الصافات في قوله سبحانه وتعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ. مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬3) والجواب: أَنهم لا يتساءَلون في بعض المواطن، ويتساءَلون في بعض آخر ولعله عند جهنم، وقد يقال: إِن المنفى هنا هو سؤال التعارف ونحوه، مما عليه دفع مضرة أَو جلب منفعة، أَما المثبت فهو تساؤلهم ¬

_ (¬1) سورة عبس، الآيات: 24 - 27 (¬2) نقله الآلوسى عنه، وأصله لابن عباس: انظر القرطبى. (¬3) الآيات: 22 - 27

مع خصمائهم الذين دفعوهم إِلى الكفر، وقد بينه الله تعالى بقوله: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} الآيات (¬1). ثم بين الله دستوره في القضاء بين عباده يوم القيامة فقال: 102 - {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (¬2) فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أَي: فمن رجحت أعماله القلبية والظاهرة، وكان لها وزن وقدر عند الله تعالى، بأن كانت عقيدته صالحة، وأَعماله مستقيمة، فأُولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب. 103 - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}: ومن لم يكن لعقائده وأَعماله وزن من الكفار، فهؤلاء هم الذين خسروا أنفسهم وضيعوها بكفرهم، فهم بسبب ذلك خالدون في جهنم لا يبرحونها أَبدًا، وفي مثل معنى الآية يقول سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} (¬3). 104 - {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)}: تحرق النار وجوههم، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأَسنان، من أَثر احتراق الوجوه، وتخصيص الوجوه بالذكر مع أَن العذاب بالنار عام لأَجسادهم , لأنها أَشرف الأَعضاء، فبيان سوء حالها أدل على بيان سوء سواها، وأَزجر عن المعاصي المؤدية إِلى النار. 105 - {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}: يقال لهم حينما يعذبون بالنار - يقال لهم - على سبيل التوبيخ والتحسير: أَلم تكن آياتى يتلوها عليكم رسولى في دنياكم، فكنتم بها تكذبون فور تبليغها إِليكم، من غير تدبر في عاقبة تكذيبم؟. ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآيات من: 28 - 30 (¬2) موازين: جمع موزون، والمراد بها أعمال العبد. (¬3) سورة الكهف، الآية: 105

{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} المفردات: {شِقْوَتُنَا}: الشقوة والشقاوة، ضد السعادة، والمراد أَسبابها من الأهواء وسوء الاختيار. {اخْسَئُوا فِيهَا}: أي انزجروا واسكتوا عن هذا المطلب سكوت ذلة وهوان وقنوط. {سِخْرِيًّا}: السِّخْريّ والسُّخرية؛ الاستهزاءُ. التفسير 106 - {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}: في الآية السابقة يوبخ الله أَهل النار على تكذيبهم بآياته، ويلومهم على تسببهم بذلك فيما هم فيه تحسيرًا لهم، وفي هذه الآية يحكي الله جوابهم الذي سوف يجيبون به ربهم، وعُبِّر عنه بصيغة الماضى لتحقق وقوعه. والمعنى: قال الكفار مجيبين الله تعالى: يا ربنا غلبت علينا أَهواؤنا ونزعاتنا وسوءُ اختيارنا، وسوءُ الظن برسلنا فكذبنا بآياتك في دنيانا، فشقينا بذلك في أُخرانا، وكنا بما فعلناه قومًا ضالين عن سبيل السعادة التي حصل عليها المؤمنون، ثم تمنوا العودة إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا فقالوا:

107 - {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}: ربنا أَخرجنا من النار وارجعنا إلى الدنيا، فإن عدنا إلى تكذيب آياتك والكفر برسلك وارتكاب المعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم. 108 - {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}: قال الله إِقناطًا لهم وإِذلالًا: انزجروا في النار مطرودين من رحمتنا طرد الكلاب، ولا تكلمون بعد في شأن خروجكم منها، فأنتم فيها خالدون. وقد جاء في الأثر أنهم بعد أَن يقول الله لهم ذلك لا ينبسون بكلمة، وما هو إلّا الزفير والشهيق في نار جهنم، ثم عقب الله زجرهم عن الكلام ببيان سببه بقوله: 109 - {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِين}: هذه الآية مستأنفة لتعليل نهيهم عن التماسهم الرجعة إلى الدنيا. والمعنى: اسكتوا عن دعائى ملتمسين الرجعة إلى الدنيا، لأنه كان جماعة من عبادى المؤمنين يقولون: ربنا آمنا بما أنزلته على رسلك، فاغفر لنا سيئاتنا، وارحمنا بغفرانك وحسن ثوابك , فأنت أَرحم الراحمين وخيرهم أجمعين، فلم يرضكم ذلك منهم. 110 - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}: أي: أنكم لم تكتفوا بكفركم، فاتخذتم هؤلاء المؤمنين المستغفرين المسترحمين هدفًا لسخريتكم، تشفيًا منهم واستهزاء بهم، وواظبتم على ذلك حتى أنسوكم تذكرى والخوف من عقابى , فاشتغلتم بإهانتهم عن النظر في عاقبتها وسوء جزائها عندى، وكنتم منهم تضحكون مبالغة في السخرية بهم. 111 - {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}: في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى أَجر المؤمنين الصابرين، وانتقامهم بإيذاء الكافرين لهم.

والمعنى: إني جزيت المؤمنين اليوم في الآخرة، بسبب صبرهم على إيذاء الكافرين وسخريتهم - جزيتُهم - بأَنهم هم الفائزون بنعيم الجنة دون المستهزئين، الذين أذللتهم في نار الجحيم، ولنعم عقبى الصابرين. وقد بين الله في سورة المطففين، أن المؤمنين يثأرون لأنفسهم في الجنة، فقال سبحانه: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬1): أي: هل جوزى الكفار على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا، بِضحِك المؤمنين استهزاءً بهم وهم على الأرائك في الجنة ينظرونهم يتقلبون في نار جهنم. {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} المفردات: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}: ما لبثتم في الأَرض إلا زمنًا قليلًا. {عَبَثًا} العبث: ما لا فائدة فيه أصلًا، أَوْ له فائدة لا يعتد بها. التفسير 112 - {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}: هذه الآية تحكى أَنَّ الله تعالى يسأل أَهلَ النار عما لبثوه في الدنيا، بعد أَن طلبوا منه العودة إِليها ليصلحوا ما أَفسدوه، وأَنه زجرهم عن هذا الطلب ونهاهم عن الكلام فيه، فقد فات أَوان العمل وحان وقت الجزاء، والسؤال موجه من الله إلى أَهل النار، إما مباشرة، وإمَّا على لسان ملك كلفه الله به. ¬

_ (¬1) الآيات: 34 - 36

والمقصود منه: توبيخهم على طول أَملهم في الدنيا، واغترارهم بنعيمها وهم فيها، مع أَنها إِلى زوال، واللبث فيها قليل، وتحسيرُهم وتنديمُهمْ على كفرهم بالآخرة، مع أنها - دار الخلود. والمعنى: قال الله للكافرين: كم عدد السنين التي لبثتموها في الأرض، واغتررتم بنعيمها وتوهمتم البقاءَ فيها وعدم العودة إلينا لحسابكم وجزائكم على ما كان منكم؟ ولما كانت مواعيد الرسل لهم بالآخرة وبقائها قد تحققت لهم معاينة بعد البعث، فقد عرفوا أَن لبثهم في الدنيا كان قليلًا بالنسبة إليه في الآخرة، فلهذا أَجابوا ربهم قائلين: 113 - {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)}: أي: لبثنا زمنًا قليلًا نَتَخَيَّلُه يومًا واحدًا أو بعض يوم، فاسأل القادرين على العدِّ من الملائكة الحاسبين لأعمال العباد وأَعمارهم، فهم أعلم منا بذلك، وأَقدر منا على الإِجابة، فلقد دهتنا الدواهى التي نراها في الآخرة، فأنستنا الزمن الذي مكثناه في نعيم الدنيا، وأَصبحثا لا نراه أَكثر من يوم أو بعض يوم، بالنسبة لما نحن مقبلون عليه من خلود في شقاءٍ وعذاب، ولقد صدقهم الله فيما أجابوا به عن قلة مكثهم في الدنيا فيما حكاه بقوله: 114 - {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1): قال الله ردًّا على أَهل النار: ما لبثتم في الدنيا ونعيمها إِلَّا زمنًا قليلًا كما قلتم اليوم، لو أَنكم في دنياكم كنتم من أَهل العلم والتَّدبُّر، لأدركتم فيها ما أدركتموه اليوم، من أَن زمن الدنيا قصير ونهايته قريبة، وزمن الآخرة طويل بغير نهاية، ولعملتم بمقتضى هذا العلم، ولم يصدر منكم ما أَوجب خلودكم في النار. أَخرج ابن أَبي حاتم بسنده إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال: "إن الله إذا أَدخل أَهل الجنة الجنة وأَهل النار النار قال: يا أهل الجنة، كم لبثتم في الأَرض عدد سنين قالوا: لبثنا يومًا أَو بعض يوم، قال: لَنعْمَ ما أَنجزتم في يوم أَو بعض يوم، ¬

_ (¬1) في مثل معنى هذه الآية في استقلالهم لمدة لبثهم في الدنيا، قوله تعالى في آخر سورة النازعات: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (4

رحمتى ورضوانى وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول: يا أَهل النار، كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يومًا أَو بعض يوم، فيقول: بئس ما أَنجزتم في يوم أو بعض يوم، نارى وسخطى، امكثوا فيها خالدين مخلدين". {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} المفردات: {فَتَعَالَى اللَّهُ}: تَرَفَّع الله بذاته وتنزه. {الْمَلِكُ الْحَقُّ}: المالك الثابت الملك دون سواه. (الْعَرْشِ) العرش في اللغة: سرير الملك، ويكنى به عن العز والسلطان، وعلى الأول فهو كائن عظيم يحيط بالكون، وتصدر من جهته أَوامر الله تعالى إِلى ملائكته، دون أَن يكون الله فيه لاستحالة أَن يكون لله مكان، انظر تفسيرنا لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف. {الْكَرِيمِ}: الشريف. التفسير 115 - {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)}: هذه الآية من تمام ردّ الله على أهل النار، والمعنى: أَجهلتم فظننتم أنما خلقناكم عبثا دون حكمة في خلقكم، فلم تفكروا في خالقكم، ولا في حكمة خلقكم، ولا فيما يكون بعد موتكم، فلهذا أَشركتم بنا وكذبتم برسلنا، واعتقدتم أَنكم لا تبعثون بعد الموت لترجعوا إلى حسابنا وجزائنا، كلا ليس الأمر كما زعمتم، فإن خلقكم عبثا لا يليق بربوبيتنا.

116 - {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}: أي: فتنزه الله بذاته عن خُلُوِّ أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة، فهو الملك الحق الثابت له الملك عن جدارة واستحقاق، الواحد الذي لا معبود بحق إلا هو مالك العرش العظيم في مكانته وشرفه، ومن كان كذلك فلا يصح عقلا أَن يخلقكم عبثا، ولا أَنكم إِليه لا ترجعون للحساب والجزاء كما زعمتم. والمراد من وصف العرش بالكريم أَنه عظيم الشرف، وكل ما شرف وعظم في بابه يوصف بالكريم، ومنه قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} (¬1) وقوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (¬2). 117 - {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)}: بين لله تعالى في الآية السابقة أَنه سبحانه هو الملك الحق دون سواه فكل الملوك عبيده المسخَّرون منه لخدمة شعوبهم، ولا مُلْكَ لهم في الحقيقة فيما مكَّنهم الله منه، كما بين أَنه لا معبود بحق سواه، وأَنه رب العرش العظيم، ومن هذا شأْنه فلا يصح أَن يعبد سواه وجاءَت هذه الآية لتؤكد ما أَفادته التي قبلها ضِمْنا من فساد عبادة سواه، ولتبين سوءَ عاقبة من يعبد غيره تعالى. والمعنى: من يعبد مخلوقا من مخلوقات الله يزعمه إِلَها آخر, لا يمكن أَن يكون له أَي دليل على ربوبيته وصحة عبادته - من يعبده مع الله أَو يفرده بالعبادة - فما حسابه وعقابه الشديد إِلا عند الله ربه وخالقه ومالكه، إِنه لا يفوز ولا ينجو من عقابه الكافرون العابدون لسواه, أَو المشركون له مع الله. نقل الإِمام ابن كثير عن قتادة قال: ذُكِرَ لنا أَن نبى الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: ما تعبد؟ قال: أَعبد الله وكذا وكذا - حتى عَدَّ أَصناما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآيتان: 25, 26 (¬2) سورة الإسراء، من الآية: 23

فأَيُّهم إذا أصابك ضُرُّ فدعوته كشفه عنك، قال: اللهُ عز وجل، قال: فأَيّهم إِذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟ قال: الله عز وجل، قال: فما يحملك على أَن تعبد هؤلاء معه؟ قال: أَردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعلمون ولا يعلمون) قال الرجل بعد ما أسلم: (لقيت رجُلا خَصَمَني) (¬1) أَي: غلبنى في الخصومة والمقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم - (تعلمون ولا يعلمون) أَن هذه المعبودات لا عقل لها ولا علم وأَنتم أيها العابدون أَفضل منها بالعقل والعلم، فكيف تعبدون مَنْ دونكم. 118 - {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}: الأَمر هنا موجه إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإِلى أمته تبعًا له، فهو إمامهم، وطَلَبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الغفران من ربه لنفسه، إِنما هو من باب هضم النفس، واتهامها بالتقصير في الطاعة مع الله، وليس المقصود أن يسغفر له ذنبًا حدث منه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب. والمعنى: وقل - أيها النبي أَنت وأُمتك -: يارب اغفر لنا تقصيرنا. في طاعتك، واشملنا برحمتك الدنيوية والأُخروية، وأَنت خير الراحمين، لأن رحمتك وسعت كل شىءٍ. وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أَبا بكر الصديق - رضى الله عنه - أن يقول نحوه في صلاته، فقد أَخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أَبي بكر - رضي الله عنه - أَنه قال: يا رسول الله علمنى دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسى ظلمًا كثيرًا، وإِنه لا يغفر الذنوب إلَّا أَنت، فاغفر لى مغفرة من عندك، وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم". ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير آخر سورة (المؤمنون).

سورة النور

سورة النور هذه السورة مدنية، وحكى أبو حيان الإِجماع على ذلك، وآياتها أَربع وستون، وجاءَت تالية لسورة (المؤمنون) لتشرح ما ينبغى أَن يكونوا عليه من الآَداب الإسلامية الفاضلة، ولأنه لما ذكر في سورة (المؤمنون) أَن حفظ الفروج من مميزاتهم وصفاتهم الأساسية، وأَنها من أسباب فلاحهم في الدارين، ناسب أن تكون السورة التي تليها متضمنة أَحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزانى، وما يتصل بذلك من أَحكام القذف للأَعراض البريئة، ووجوب غضِّ البصر الذي هو داعية الزانى، ووجوب الاستئذان صيانة لكرامة البيوت وأعراض أَهلها، والأمر بالنكاح حفظا للفروج، والنهي عن إِكراه الفتيات على الزنى، إلى غير ذلك من الآداب، وبما أَن سورة النور تضمنتْها، فكانت لذلك جديرة بأَن تكون تالية لها. ما جاء في فضلها: رُوِى عن مجاهد أَنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءَكم سورة النور" وعن حارثة بن مَضْرِب قال: (كتب إِلينا عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - أَن تعلموا سورة النساءِ والأحزاب والنور). مقاصدها: تضمنت هذه السورة وجوب جلد الزانية والزانى وأن لا تأْخذنا بهما رأْفة؛ حماية لأعراض المسلمين، وأن رمى المحصنات بالزنى يقتضي الجلد ثمانين جلدة، وأَن لا تقبل لمن يرميهن شهادة أبدا وأَن يظلوا متصفين بالفسق، ما لم يأْتوا على دعواهم بأَربعة شهداءَ عدول على واقعة الزنى التي ادعوها، كما تضمنت أَن الذي يرمى زوجته بالزنى، ولا يجد شهودًا أَربعة، يتخلص باللعان من حد قذفها، فإذا لاعن عُوقبت (¬1) زوجتُهُ على زناها، ويَدْرَأ عنها العقاب أن تلاعن بعد لعانه. ¬

_ (¬1) سيأتى الكلام على عقابها في موضعه.

وتحدثت عن قصة الإِفك التي زعمها المنافقون في حق أُم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - وبينت أَنها بريئة مما زعمه الآَفكون في حقها، وأَنهم عند الله هم الكاذبون، وأَن الذين يحبون أَن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أَليم في الدنيا والآخرة، وأَن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، وجاء فيها: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} ونهت عن دخول الإِنسان بيتًا غير بيته حتى يستأْذن ويسلم على أَهله، فإِن لم يجد فيه أَحدًا يستأْذنه فلا يدخله، وأَن عليه أَن يرجع إِن لم يؤذن له بالدخول. وأَمرت المؤمنين والمؤمنات أَن يغضوا أَبصارهم ويحفظوا فروجهم، وحثت المؤمنات على إِخفاء زينتهن إِلَّا ما ظهر منها، وأَجازت إظهارها للأَزواج ولَأصَناف تُؤمَنُ مَغبتُهم كالآباء والإِخوة وآباء الأَزواج، والأَطفال غير المميزَين، ونهت عن ضربهن الأَرض بأَرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن كالخلخال، وحثت على إِنكاح الأَيامى والصالحين من العبيد والإِماء، حماية لأَخلاقهم، وأَمرت من لا يستطيع نفقات الزواج بالاستعفاف حتى يغنيه الله من فضله، وحثت على مكاتبة الأَرقاء، ومساعدتهم بالمال ليتحرروا من الرق , كما نهت عن إِكراه الفتيات على البغاء، وبينت أَنه تعالى نور السموات والأَرض، فهو الذي خلقها وخلق النور فيهما، ومثلت نور آياته وبراهين هدايته في قلوب المؤمنين بمشكاة وُضعَ فيها مصباح، أَي: سراج منير، وهذا السراج في قنديل من الزجاج الصافى الأَزهر، كأَنه كوكب مضىء متلألىءٌ، ثم قال الله سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} من عباده، فيوفقه إِلى إِصابة الحق: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} تقريبًا لأَفهامهم: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. وبينت أَن لِله تعالى بيوتًا ومعابد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} وأَنه سيجزيهم أَحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله، وأَن أَعمال البر من الكفار لا تنجيهم من النار بسبب كفرهم، فهي {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ

{سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور}. وتحدثت عن تسبيح كل من في السموات والأَرض لله، وأَنه تعالى يعلم صلاتهم وتسبيحهم، وعن قدرته سبحانه وتعالى على أَن ينشىءَ السحاب ويزجيه ثم يجعله ركامًا بعضه فوق بعض، وأَن المطر يخرج من خلاله، وأَن السحاب على هيئة جبال، قاعدتها إلى أَسفل وقمتها إِلى أَعلى، وأَنه تعالى ينزل منه بَرَدًا - أَي ثلْجًا - كما يُنْزِل منه المطرَ وأَن ضوء برق السحاب يكاد يخطف الأبصار بسرعته، وأَنه تعالى خلق كل دابة تدب على الأَرض - خلقها - من ماءٍ خاص بتلك الدابة، وجعل هذه الدواب أَنواعًا تبعًا لاختلاف مائها وأَصلها: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} وأَنه تعالى يخلق ما يشاءُ وهو على كل شىء قدير، ثم ذكرت أَحوال المنافقين ورياءَهم، وميلهم إِلى تحكيم رؤساء اليهود في خلافهم مع بعض اليهود، بغير حق ليجاملوهم بالقضاءِ لصالح ضد مواطنيهم، لتركهم تحكيم رسولهم , وإذا كان لهم الحق جاءُوا إِلى الرسول مذعنين، فهم ليسوا طلاب حق، بل هم ظالمون. ووصَفتْ سورة أُخرى من ريائهم، وهي أَنهم كانوا يُقسِمُون أَن الرسول لو دعاهم إِلى الجهاد معه لخرجوا، فكذبهم الله وقال: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وأَمرهم أَن يطيعوا الله ورسوله بإِخلاص حتى يهتدوا، وبين لهم أَنه ما على الرسول إلَّا البلاغ، وقد فعل. ثم تحدثت عن وعد كريم من الله للمؤمنين الصالحين، وهو أَنه سيستخلفهم في الأَرض، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدلهم من بعد خوفهم أَمنًا، ما داموا قائمين بطاعته. ثم ذكرت الأَوقات التي يتحتم فيها الاستئذان من العبيد والإِماءِ والمميزين الذين لم يبلغوا الحلمَ من الأَحرار، وأَول هذه الأَوقات: ما قبل الفجر، وثانيها: نصف النهار حيث القيلولة والراحة بعد صلاة الظهر، وثالثها: بعد صلاة العشاء، أمَّا ما عداها من الأَوقات فيباح لهم عدم الاستئذان فيها للحاجة إليهم في قضاءِ المصالح، وعدم وجود عورات يخشى منها في غير هذه الأَو

فإِذا بلغ الأَطفال الأَحرار الحُلم فقد أَصبحوا رجالًا، فعليهم الاستئذان في كل الأَوقات كما استأذن الذين ذكروا قبلهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}. ثم ذكرت أَن القواعد من النساء المتقدمات في السن اللاتى لا يطمعن في نكاح، يباح لهنَّ وضع الملابس الظاهرة كالملحفة (¬1)، غير قاصدات إظهار الزينة التي تحتها، وبينت أَن الاستعفاف بعدم التخلى عن الثياب الظاهرة خير لهن، وبينت أَنه ليس على الأَعمى والأَعرج والمريض حرج في ترك الجهاد وما يطلب من الأصحاء، كما ذكرت البيوت التي يباح الأَكل فيها دون استئذان، وهي بيوت الأَقارب والأَصدقاء، وذلك بعد إلقاء السلام عليهم وتحيتهم، فكأَن السلام على هؤلاء الأَحباب بمنزلة الاستئذان منهم، ثم نَهَتْ عن ترك المسلم مجلس رسول الله المعقود لأَمر جامع، كالجهاد والتدبير للحرب والجمعة والعيدين، إلاَّ أَن يستأْذنوه لبعض شأْنهم فيأْذن لهم، وحذَّرت المتسللين المخالفين عن أَمره أَن تصيبهبم فتنة أَو عذاب أَليم، إلى غير ذلك من المقاصد التي سنفصلها في شرح الآيات بمشيئة الله تعالى. ¬

_ (¬1) أي: ترك لبسها.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} المفردات: {سُورَةٌ}: من معانيها في اللغة؛: المنزلة الشريفة (¬1). وقد أُطلقت على سور القرآن، لعظيم شرفها. {وَفَرَضْنَاهَا}: أَي أَوجبنا العمل بأَحكامها، وأَصل الفرض: القطع، أَي جعلناها مقطوعًا بها، لا سبيل إلى الفكاك من الالتزام بها، ومنه فرائض الميراث والنفقة. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: لكي تعتبروا. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}: وصفان من الزنى، وهو وطءُ الرجل امرأَة في فرجها من غير عقد أَو ملك يجيز له وطأَها. {فَاجْلِدُوا}: الجلد، إِصابة الجِلْد بما يؤلمه، وسيأْتى بيانه في التفسير. {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}: لا تمنعكم عن إِقامة حد الجلد عليهما شفقة في شرع الله وحكمه. {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جماعة تحف بهم ليعتبروا , ووصفهم بطائفة لا يقصد منه أَن يطوفوا ويحلقوا بالمجلود عند جلده، ¬

_ (¬1) وفي هذا المعنى يقول النابغة الذبيانى في قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي: أعطاك منزلة شريفة رفيعة بين الملوك.

بل مجرد اجتماعهم حينئذ كاف، والوصف بالطائفة لبيان الشأْن فيهم. {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أَي: شأْن الزانى أَنه لا يرضى بالإِثم معه إلاَّ خبيثة مثله من الزوانى والمشركات، دون العفائف المحصنات، وكذا الأَمر في الزانية لا يرضى بالإِثم معها إِلَّا خبيث مثلها من الزناة والمشركين، دون الأتقياء الصالحين، وسيأْتى للآية معنى آخر في موضعها. التفسير 1 - {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: أَي: سورة عظيمة أَنزلناها إليكم أَيها المسلمون، وفرضنا ما فيها من الأَحكام عليكم لتنفذوها وتعملوا بها، وأَنزلنا فيها آيات واضحات الدلالة على ما فيها من الأَحكام والآداب، فليس فيها مشكلات أَو مشتبهات تحتاج إِلى التأويل، لعلكم تتذكرون وتتعظون بما جاء فيها من الأَحكام الشرعية والأَخلاق الاجتماعية، لتكونوا جديرين بكونكم خير أمة أُخرجت للناس، وعبر بقوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} مع كونه غير محتاج إِليه في أَصل المعنى لشمول إِنزال السورة لكل آياتها - عبر به - لإِبراز كمال العناية بشأْن إِنزال تلك الآيات الدالة على المُثُل العليا من الأَحكام والآداب، فلهذا تكرر لفظ {أَنْزَلْنَا}. وللإمام الرازى رأْى لطيف في حكمة هذا التكرار، فقد قال: أن الله تعالى ذكر في أَول السورة أَنواعًا من الأَحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد، فقوله تعالى: {وَفَرَضْنَاهَا} إِشارة إِلى الأَحكام المبينة أولًا، وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} إِشارة إلي ما بين من آيات التوحيد، ولهذا ختم الآية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإِن الأَحكام لم تكن معلومة حتى يتذكروها: اهـ. يقصد أَن التذكر هنا بمعنى: الاعتبار بآيات التوحيد، لا تذكُّر آيات الأَحكام لأَنها لم تكن معلومة حين نزول هذه الآية حتى يتذكروها. 2 - {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}: كان الزنى معروفًا في الجاهلية بما عرف به في الإِسلام، فهو في لغة العرب وطءُ الرجل امرأَة لا يحل له وطؤها، والذي استحدث في الإِسلام هو بيان فحشه، وفرض الحد

من يمارسه من الرجال والنساءِ وقد ذكرت أَحكامه في سورتى النساءِ والنور، وفي السُّنَّة النبوية الصحيحة، ولشيوع الزنى في الجاهلية في الحرائر والإماء، تدرج الإِسلام في عقوبة الزناة، فبدأَ بالحبس، وَثَنَّى بالإِيذاء بغير تحديد، ثم يجلد غير المحصن مائة جلدة، ورجم المحصن. فأَما الحبس فكان للنساءِ خاصة متزوجات أَو أَبكارًا، وذلك بعد ثبوت الزنى عليهن بشهادة أَربعة شهود، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1) وكان حبس المرأَة في البيوت قبل أَن تستحدث السجون، فلما استحدثت كُنَّ يُحْبَسْنَ فيها, روى ابن أَبي حاتم بسنده عن ابن جبير أَنه قال: (كانت المرأَة أَول الإِسلام إذا شهد عليها أَربعة من المسلمين عدول بالزنى حبست في السجن، فإِن كان لها زوج أَخذ المهر منها، ولكن ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها): اهـ. وأَما الإِيذاء فكان للزناة من الرجال جميعا، وأَشار إِلى محصنيهم وغير محصنيهم بالتثنية، فيكون الإيذاء لهم دون النساء، ويشهد لذلك قوله في الآية: "واللذان يأْتيانها منكم" أَي منكم أَيها الرجال وبه قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل إِن الإِيذاءَ كان للزناة من الرجال والنساء محصنين أَو غير محصنين، قال قتادة: كانت المرأَة تحبس ويؤذيان جميعًا، وهذا لأن الرجل يحتاج إِلى السعى والاكتساب ليصرف على أَهله ولا يوجد نص يدل على أَن الحكم بإِيذائهما كان معاصرًا للحكم بحبس المرأَة، أو أَنه تأَخر عنه فكان مرحلة ثانية لعقاب الزناة - وهو الظاهر -، ولم يُحدّد الإِيذاء في الآية، إِذ يقول سبحانه: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ولهذا قال بعض العلماء: إِنه كان بالتوبيخ والتعيير (¬2) , ومنهم مَنْ قال: هو النيل باللسان والإِيذاءُ بنحو اليد والنعل. والمرحلة الثالثة: هي الحد، وهو نوعان (أَحدهما) أَن يجلد كل من الزانى والزانية ¬

_ (¬1) ويدل على تخصيص الحبس بالنساء قوله "من نسائكم" وممن قال بتخصيصه بهن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. (¬2) فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفهما أمر الله عز

مائة جلدة، وهو ما جاءَ في سورة النور، وهو خاص بمن لم يسبق له زواج منهما. (وثانيهما) أَن يرجما إِن سبق لهما الزواج، ويطلق على النوع الأَول من الزناة (غير محصن) وعلى الثاني (محصن) وسنبين أدلة الرجم حين الكلام عليه إن شاءَ الله تعالى. والجلد في اللغة: ضرب الجِلْدِ، وفيه إِشارة إلى أَن من يقوم بعقاب الزانى لا يبالغ فيتجاوز الجلد إِلى الإِضرار باللحم، ويقول الآلوسى ما خلاصته: إِن الزانية والزانى يجلدان بسوط لا عقدة فيه ولا فرع له كما دلت عليه الأَخبار، والجلد بالسوط كان في عهد عمر رضى الله عنه، وبإِجماع الصحابة، وأَما قبله فكان تارة باليد، وتارة بالنعل، وتارة بالجريدة الرطبة وتارة بالعصا .. هكذا قال الآلوسى، وسُمِّي نحو الضرب باليد أَو النعل جلدًا، لما فيه من إصابة الجِلْد بما يؤلمه. ومن العلماءِ من قال بنزع ثياب المجلود سوى إزاره، وإليه ذهب الحنفية والمالكية، ومنهم من قال: يبقى عليه قميص أو اثنان كالشافعى وأَحمد، ومنهم من قال: تبقى عليه ثيابه إِلا الفرو والمحشو (¬1)، وعن ابن مسعود: لا يحل في هذه الأمَّة تجريد من الثياب ولا مَدّ: هكذا نقل الآلوسى عن أُولئك الأَئمة (¬2). ثم قال: وينبغي أَن لا يكون الضرب مبرحًا، لأَن الإِهلاك غير مطلوب، ولهذا قالوا: إذا كان من وجب عليه الحد ضعيفًا فخيف عليه الهلاك يجلد جلدًا ضعيفًا يحتمله، كما قالوا: يُفَرَّق الضرب على أَعضاءَ الْمَحُدُودِ، لأَن جمعه في عضو قد يفسده , وربما يفضى إِلى الهلاك، وينبغى أَن يُتَّقى الوجه والمذاكير والرأْس والبطن والصدر: انتهى ملخصًا مما نقله الآلوسى عن الأَئمة. وقد أَوجب الله تعالى أن يجدد كل من الزانية والزانى مائة جلدة، وهذا الحكم خاص بالبالغ العاقل الحر غير المُحْصَن، وهو الذي لم يتزوج منهما، أما العبيد والإِماءُ البالغون الذين لم يسبق لهم زواج فحد الزانى أَو الزانية منهما خمسون جلدة فقط، لقوله تعالى في الإِماءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬3) والعبيد مثلهن، إِذ لا فرق بينهم وبينهن في الفاحشة، فليكن العقاب لهم كذلك. ¬

_ (¬1) لأن المقصود إيصال الألم إلى الجلد وإن لم يكن بطريق مباشر. (¬2) ونقل القرطبى عن الجمهور وجوب أن لا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. (¬3) سورة النساء، مِن الآية: 25

المحصن حده الرجم

وذكر الزانية مع الزانى ليكون أَصرح في توقيع الجلد عليها من أَن يقال: (والزانى فاجلدوه) وقدمت على الزانى لأَن الزانى في النساءِ كان فاشيًا حين نزول الآية، وكان لإِماءِ العرب وبغاياهم رايات، وكُنَّ مجاهرات بذلك، ولأن الزنى في النساءِ أَكبر مَعَرَّةً منه في الرجال، ولما يترتب عليه من الحمل، ولأَن الباعث غالبًا منهن، وظاهر الآية يقتضي عموم الجلد للزناة ولو كانوا محصنين - ولكن السنة الصحيحة والإجماع خَصَّاه بغير المحصن، كما سنبينه إِن شاءَ الله تعالى. والخطاب في قوله تعالى: " {فَاجْلِدُوا} " موجه إِلى المسلمين، ولكن الإمام أَو نائبه ينوب عنهم، لأن اجتماعهم على إقامة الحد متعذر. المحصن حده الرجم المراد بالمحصن هنا: البالغ العاقل الحر الذي سبق له الوطءُ في نكاح صحيح، فإِن زنى فحده الرجم حتى يموت، وهذا الحكم أَجمع عليه الصحابة, وعلماءُ الأمة وأئمتها، ولم ينكره سوى الخوارج، وهم بإنكارهم هذا يخالفون إجماع الصحابة، وجميع علماء أَئمة المسلمين، والله تعالى يقول في وجوب العمل بالإِجماع: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). ويستند إجماع الصحابة والأَئمة بعدهم إلى ما صح من أَمره - صلى الله عليه وسلم - برجم المحصن، فقد تضافرت الطرق على أَنه - صلى الله عليه وسلم - جاءَه ماعز معترفًا بزناه، فأَعرض عنه مرارًا، ثم عَرَّض له بالرجوع عن إقراره، فلما أَصر وكان متزوجًا أَمر برجمه، أَخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: "لمَّا أَتى ماعز بن مالك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لعلك قَبّلْت أَو غمزت أَو نظرْت. قال: لا - وصرح بحقيقة زناه - قال: فعند ذلك أَمر برجمه, وقد شرح البخاري قصته في رواية له بسنده عن أَبي هريرة قال: "أَتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من الناس وهو في المسجد، فناداه: إني يا رسول الله زنيت - يريد نفسه - ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية:

فأَعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتنحى لشِقِّ وجهه (¬1) الذي أَعرض قِبَلَه (¬2)، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأَعرض عنه، فجاءَ لِشِقِّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أَعرض عنه، فلما شهد على نفسه أَربع شهادات، دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَبك جُنُونٌ؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أَحْصَنْتَ (¬3)؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: "اذهبوا فارجموه ... " الحديث، وقد رويت قصة ماعز هذا في جميع كتب السنة وفيها تفصيلات عديدة، وجاءَ في بعضها أَنه - صلى الله عليه وسلم - قال في شأنه: "لقدْ تابَ توْبةً لوْ قُسِّمَتْ بَين أُمة لوَسعَتْهُمْ "، كما يستندُ إِجماع الصحابة على رجم المحصن إِلى قصة الغامدية، فقد جاءَ في صحيح مسلم، أَثناءَ حديث طويل عن عبد الله ابن بريدة عن أَبيه قال: "فجاءت الغامدية (¬4) فقلت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرنى، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لمَ ترُدُّنى؟ لعلك أَن ترُدنى كما رَدَدْت ماعزًا، فوالله إني لحُبْلَى، قال: "إما لا (¬5)، فاذهبى فأَرضعيه حتى تفطميه , فلما فطمته أتَته بالصبى في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبى الله قد فطَمْته وقد أكل الطعام، فدفع الصبى إلى رجل من المسلمين، ثم أَمر بها فحفر لها إلى صدرها وأَمر الناس برجمها" وقد جاءَ في الحديث أَن خالد بن الوليد كان ممن رجمها وأَنه سبها، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقالة خالد فيها فقال: "فوالذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْس (¬6) لغُفر له، ثم أَمر بها فصُلِّى عليها وَدُفنتْ" وقد روَى هذه القصة جميع كتب السنة أَيضًا. وقد حدث مثل ذلك في امرأَة من جهينة جاءَت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي حُبْلَى واعترفت بزناها، فتركها حتى وضعت، فأَمر برجمها ثم صلى عليها، فقال له عمر: ¬

_ (¬1) أي: ذهب ماعز إلى الجهة التي اتجه الرسول إليها بعد أن أعرض عنه ليواجهه مرة أخرى باعترافه بالزنا. (¬2) أي: الذي أعرض جهته وناحيته. (¬3) أي: هل تزوجت. (¬4) نسبة إلى غامد وهي فصيلة من قبيلة الأزد، انظره في ج 4 ص 277 رقم 21 في أحاديث حد الزنى في شرح مسلم للإمام النووى. (¬5) أي: إن كنت لا تريدين الرجوع عن إقرارك، وقد صرحت بحقيقة أمرك. (¬6) المكس: ما يفرضه أعوان الظلمة على الناس في البيع والشراء، والحديث يدل على خطورة جريمة المكس عند الله تع

(تصلى عليها يا نبي الله وقد زنت؟) فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أَهل المدينة لوسعتهم، وهل وُجدت توبةٌ أَفضل من أَن جاءَت بنفسها لله تعالى": اهـ من حديث أَخرجه مسلم بسنده في كتاب الحدود (باب حد الزنى) ج 4 شرح النووى ص 28 رقم 22. كما استند الإِجماع إِلى ما قضى به - صلى الله عليه وسلم - في قصة العسيف وزوجة الأعرابي، فقد روى مسلم بسنده عن أَبي هريرة وزيد بن خالد الجهنى أَنهما قالا: إن رجلًا من الأَعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أَنْشدُك الله إلَّا قضيت لى بكتاب الله، فقال الخصم الآَخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لى، فقال - رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل" قال: إن ابنى كان عسيفًا على هذا (¬1) فزنى بامرأته، وإنى أخْبرْتُ أَن على ابنى الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة (¬2) فسألت أَهل العلم فأَخبرونى أَن ما على ابنى جَلْدُ مائة وتغريب عام، وأَن على امرأَة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذى نفسى بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رَدٌّ (¬3)، وعلى ابنك جدد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أُنيسُ إلى امرأَة هذا فإِن اعترفت فارجمها" قال: فغدا عليها فأعترفت، فأَمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت (¬4). والمراد من قضاء الرسول بينهما بكتاب الله أَنه يقضى بينهما بحكمه تعالى المكتوب عنده على الزناة المحصنين وعلَّمه رسولَه، وليس المراد منه القرآن. وكما استند الإِجماع إلى أَفعال الرسول استند أَيضًا إلى أَقواله التي روتها كتب الصحاح. ¬

_ (¬1) أي: أجيرا عنده. (¬2) أي: جارية. (¬3) أي: يردان عليك ويعودان إليك. (¬4) شرح النووى ج 4 ص 281 رقم 23.

اعتراض الخوارج على عمر بن عبد العزيز في الرجم وإفحامه إياهم

اعتراض الخوارج على عمر بن عبد العزيز في الرجم وإفحامه إياهم كان عمر بن عبد العزيز يقول بالرجم وينفذه كسائر أمراء المؤمنين، فعاب عليه الخوارج ذلك، قائلين: إِنه ليس في كتاب الله , فألزمهم بأعْدَادِ الركعات ومقادير الزكوات ونحو ذلك مما فصلته السنة ولا يوجد في كتاب الله، فقالوا: ذلك من فعله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فقال لهم: وهذا أَيضًا كذلك. وقد تنبأ بذلك عمر بن الخطاب، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: قال عمر: "لقد خشيت أَن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله عز وجل، فيضلوا بترك فريضة أَنزلها الله عز وجل، أَلا وإِن الرجم حق على من زنى وقد أَحْصَنَ - أَي: تزوج - إذا قامت البينة أو كان الحَمْل أَو الاعتراف) (¬1). لماذا لم يذكر الرجم في القرآن قد يقول قائل: قد ذكر الله من أَحكام الزناة الحبس والإيذاء والجلد في القرآن، فلماذا لم يذكر فيه الرجم، ولعله أَولى منها بالذكر لشدته؟ فالجواب: أَنه تعالى قد أنزل في سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ولم يعين في الآية السبيل الذي سوف يجعله لهن عوضًا عن الحبس في البيوت، أَيكون نصًّا قرآنيًّا، أَم يكون حكمًا ينزل به جبريل على رسول الله ليبين به الرسول السبيل الذي ينسخ الحبس في البيوت حتى الموت، ثم أَنزل الله السبيل الناسخ لحبس الزانية في البيوت، فجعله في القرآن مائة جلدة لكل من الزانية والزانى، وجعله في السُّنة الرجم للمحصن مِنْ كُل منهما. ¬

_ (¬1) وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال: (خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال: لا تخدعن عنه، فإنه حد من حدود الله، ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف: وشهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجم بعده؛ ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا) ابن كثير. والامتحاش: الاحت

الحكمة في تشديد الحد على الزناة

وقد اعتبر بعض الفقهاء ما جاءَ في السنة مخصصًا لعموم الجلد وقاصرًا له على غير المحصن، واعتبره بعض آخر منهم عقوبة للمحصن زائدة على جلده، فيجلد مائة ثم يرجم، والرأْى الأول أَرجح، لأَن النبي لم يجمعهما على محصن في عهده، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أَن الله تعالى أَعطى نبيه حق بيان القرآن بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وهذا البيان ملزم للمسلمين أَن يعملوا به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فالنبي حين بيَّن أَن حكم الزانى المحصن من الإناث والذكور الرجم يكون قد بين السبيل الثاني الذي جعله الله بدلًا من حبس الزناة. وإِيذائهم الواردين في سورة النساء، تنفيذًا لوعد الله إذ يقول: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} كما بين عمليًّا أَن السبيل الأَول الوارد بآية الجلد خاص بمن لم يتزوج، وكلاهما حق منحه الله لنبيه، ومعظم ما جاءَ في القرآن قواعد عامة، فلم يتعرض القرآن لتفصيل الأَحكام إِلَّا قليلا، والحكمة في ذلك أَن يتيسر حفظه ويتضح إِعجازه، ولهذا أُحيل تفصيل معظم الأَحكام ولو كانت خطيرة على الرسول بوحى من الله تعالى، كتفصيل أَحكام الصلاة والزكاة، فإِنهما لم يرد عنهما في القرآن سوى الأَمر بهما دون تفصيل لأَركانهما وشروطهما وأوقاتهما، وَغَيْرهما كثير على هذا النمط. ولعل الحكمة في إسناد بيان حكم الرجم إلى الرسول أَن يَعْلَم المؤمنون أَن السنة يجب الأَخذ بها حتى في أَخطر الأَحكام. والله الموفق. الحكمة في تشديد الحد على الزناة قد يقول قائل: لماذا شدد الإِسلام في حد الزناة، فجعله في غير المحصن من الذكور والإِناث إِلى مائة جلدة، وفي المحصن منهما إلى الرجم؟ والجواب: أن العقاب ينبغي أَن يكون بقدر حجم الجريمة، ولما كان الزنى تترتب عليه آثار سيئة في المجتمع الإِسلامى، حيث تفضح به الأعراض، وتختلط به الأَنساب،

شروط إقامة الحد وما ينبغي للقاضى

ويُخْتَانُ به الأزواج والأهلون المخدوعون في شرف ذويهم، وتقتل بعده الأجنة أو الأطفال الناجمون عنه، تخلصًا من عارهم، وتنتشر به الفتن والمفاسد والتحلل الخلقي - لمّا كانت تترتب عليه تلك الآثار - جعل الله الحد فيه شديدا دَرْءًا لمفاسده، ووقاية للمجتمع من شروره وويلاته، فإِذا علمه من تميل نفسه الخسيسة إلى الزنى، تجنبه خوفًا من عقوبته في الدنيا والآخرة. ولا شك أن تنفيذ الحد على الزناة، بالصورة التي أرادتها الشريعة، يحدث أَثرًا طيبًا في المجتمع الإِسلامى، حيث يكف الفجرة عن الزنى خوفًا من عقوبته، فتسلم الأَعراض وتصان الحرمات وتصحح الأنساب، وينتهى وأْد الأجنة، وتمتنع الفتن، بل يتلاشى تنفيذ هذا الحد، لعدم وقوع الزنى، أَو يندر تنفيذه لندرة وقوع الزنى أو تعذر إِثباته. شروط إقامة الحد وما ينبغي للقاضى لا يقام حد الزانى على من اقترفه، إلَّا إِذا ثبت الزنى عليه باعترافه - ذكرا كان أَو أنثى - وإصراره على هذا الاعتراف - أَو بأَن يشهد عليه أربعة شهود عدول رأَوا الواقعة وحكوها على طبيعتها تمامًا، أَوْ بِحَمْلِ البكر أَو الثيب التي لا زوج لها، فأَما اعتراف الزانى بزناه فإنه إِذا كان قد حدث في العصر النبوى، طلبًا للبراءَة من إِثمه قبل لقاء الله تعالى، فإِنه يندر حدوثه في هذا العصر الذي كثرت فيه المآثم، بل ربما ينعدم، لأن الشرع لا يلزمه بالاعتراف سترًا لإِثمه وفتحًا لمجال التوبة له فيما بينه وبين ربه - كما سنبينه. وأَما اجتماع الشهود الأربع في وقت واحد، ورؤيتهم واقعة الزني بتفاصيلها، فما لم يكن عن طريق الصدفة، فإِنه يتعذر حصوله عن طريق الاستدعاء، وبما أَن الصدفة في ذلك أمر بعيد الاحتمال , وحضور الشهود بطريق الاستدعاء يتم بعد حصول الجريمة، فلهذا يكون إِثباته عن طريق شهود الرؤية أَمرًا متعذرًا.

لا يشترط في الرجم أن يكون بالحجارة

وأَما إثباته بحمل البكر أَو الثيب التي لا زوج لها، فهو نادر، بل ربما كان بعيد الاحتمال في عصر ابتكرت فيه وسائل منع الحمل. وقد بلغت سماحة الإسلام في تجنيب الزانى حد الزنى، وتركه لربه لعله يتوب فيما بينه وبينه، أَنه ينبغي للقاضى أَن لا يتعقب اعترافه، فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ رجل فقال: إني أصبت حدا فأقمْ فيَّ كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو قال - حدك". وإذا أصر الزاني على اعترافه بأَنه زنى، رغبة في إقامة الحد، ينبغي للقاضى أَن يصرفه عن اعترافه هذا بالتعريض له بتركه؛ فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: (لما أتى ماعز النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لعلك قبلت أو غمزت أَو نظرت" قال لا يا رسول الله) أي: أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أَن يقول له: لعلك اعتبرت واحدًا من هذه الثلاثة زنى، فقلت إِنك زنيت، وليس في مثل ذلك حد فانصَرِفْ، ولكنه أصر على أَنه زنى حقيقة، ولقد مضى أَن النبي كان يعرض بوجهه عنه لينصَرِفَ, فيعود فيواجه النبي باعترافه أَربِع مرات، فأمر برجمه. ويروى البخاري في هذا حديثا في صحيحه بسنده عن جابر (أن رجلا من أسلم جاءً النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنى فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَبك جنون؟ " قال: لا، قال: آحْصنت (¬1)؟ قال: نعم، فرُجِمَ بالمصلى ... ) الحديث، فمن هذا التفصيل نعلم أن إقامة الحد على الزانى محوطة بحصانة وضمانات تجعلها شبه متعذرة لحرص الشارع على الستر على الأعراض، وترك الباب مفتوحا للمذنب ليتوب إلى ربه فيما بينه وبينه. لا يشترط في الرجم أن يكون بالحجارة أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي سعيد (أَن رجلا من أسلم يقال له ماعز ابن مالك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أَصبت فاحشة فأَقمه عليّ، فردّه ¬

_ (¬1) أي: هل تز

النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، قال: ثم سأل قومه، فقالوا: ما نعلم به بأسا، إلا أَنه أصاب شيئًا يرى أَنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد، قال: فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نرجمه، قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغَرْقَد - قال - فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم والمدر والخزف، قال: فاشتد واشتَددْنا خَلْفَه حتى أتى عُرْض الحرة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة ... " الحديث (¬1). فأنت ترى أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجموا الزانى المحصن في عهده - صلى الله عليه وسلم - بالعظم وبالمدر؟ وهو قطع الطين اليابس - كما في القاموس، جمع مدرة بفتحات - ورجموه بالخزف - وهو قطع الفخار المكسور - كما رموه بجلاميد الحجارة حتى مات، فهذا يدل على أن المقصود برجمه قتله بشيءٍ جامد يفضي إِلى موته، فهل لنا أن نرجمه في عصرنا هذا بالرصاص، قياسا على ما فعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهده، حيث لم يقتصروا في قتلهم ماعزا على جلاميد الحجارة، بل استعملوا العظم وسواه من كل جامد يفضى إلى القتل، والرصاص كذلك؟ وإِذا كان الرجم بالحجارة والعظم والخزف ونحوها أمرًا اقتضته الضرورة في عهده - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يخترع الرصاص، فهو اليوم ليس ضروريا بعد اختراعه، وقد يسىء إِلينا استعماله في العصر الذي نعيش فيه، حيث يحمل أَعداء الإسلام على التشهير بنا بسببه، هذه مسألة جديرة بالنظر ومحتاجة إِلى رأى المجتهدين للبت فيها والله الموفق. فإن قيل: إن الرمى بالحجارة يعطى المرجوم فرصة للهرب، لأنه يرمى واقفا من غير توثيق كما فعل بماعز،، والهرب من الحد مرغوب فيه، أَما الرمى بالرصاص فإِنه يستلزم توثيقه وربطه ليصيبه، فالجواب أَن ماعزا لم يكن بحاجة إلى توثيقه وإمساكه فهو الذي أصر على إِقامة الحد عليه (¬2)، على أن تركه بلا إِمساك ليس بواجب، فقد جاءَ في حديث الغامدية الذي مرت روايته عن مسلم، أن النبي لما أَمر برجمها بعد فطمها صبيها، حفروا لها حفرة إلى صدرها فرجمت، مع أنها جاءته معترفة طالبة إقامة الحد عليها، وأَمهلها النبي حتى ¬

_ (¬1) انظره في ج 4 شرح النووي على مسلم ص 273 حديث رقم: 18 من باب حد الزنى. (¬2) بل لقد جاء عند مسلم في إحدى رواياته، أن ماعزا لما أقر أربع مرات حفر له ثم أمر به ف

ومعنى الآية على هذا: الزانى لا يليق به أَن يتزوج إلا زانية أو مشركة لقبحه مثلهما، والزانية لا يليق أَن يتزوج بها إلاّ زان أَو مشرك كذلك، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، فالآية تُزهِّد في نكاح البغايا والزناة، وليس الغرض منها إباحة زواجهن أَو زواج المشركات للزناة من المؤمنين، كما أنها تحث المؤمنين والمؤمنات على التصوّن من نكاح هذا النمط من الفساق، وأَن يكون الطيبات منهم للطيبين، والطيبون للطيبات: وعلى هذا التأْويل يفسر قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} بمعنى: حُرِّم نكاح البغايا والزناة على المؤمنين (¬1)، لما فيه من التسبب في سوء القالة، والتعرض للإقدم على مثل فعلهم، فإن مجالسة الفساق والخطائين تحمل على مثل فعلهم , فكيف بمزاوجة الزوانى والزناة، وبخاصة إذا كان بقصد التكسب بالفاحشة، وفي الآية آراءٌ مختلفة، وما ذكرنا أفضلُها، ولو تزوج المؤمن بزانية فمع حرمة الزواج بها للأسباب المذكورة يصح العقد عليها فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل زنى بامرأَة وأَراد أَن يتزوجها فقال: "الحرام لا يحرم الحلال" أخرجه الطبرانى وغيره عن عائشة وبه أَخذ أَبو بكر وابن عباس وابن عمر وجابر وغيرهم. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} المفردات: {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}: يقذفون العفيفات بتهمة الزنى. {الْفَاسِقُونَ}: الخارجون عن طاعة الله. ¬

_ (¬1) فاسم الإشارة على هذا راجع إلى نكاح البغايا، وعلى الوجه السابق راجع إلى المعتبر عنه بالنكاح. انظر ما قاله النسفى وغيره في مرجع الإشارة.

3 - {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: بيَّن الله في الآية السابقة أَن مرتكب جريمة الزنى إذا كان حُرًّا يجلد مائة جلدة، سواءٌ أَكان من الرجال أَم من النساءِ، وأنه لا يحل للمسلمين أَن يتساهلوا في تنفيذ هذا الحد رأْفة بالزناة، وأَن يشَهَّر بهم عند تنفيذه بأَن يشهد إِقامة الحد عليهم طائفة من المؤمنين. وجاءَ بهذه الآية عقبها، لبيان حقارة الزانى والزانية، وأَن كليهما لا يرضى بالاستجابة إِلى فاحشته إلا مثله أَو أَخس منه، والنكاح في هذه الآية بمعنى الجماع كما صح عن ابن عباس (¬1). والمعنى على هذا: الزانى لخِسَّتِهِ وقبحه , لا يطأُ سفاحًا إلا زانية تماثله في فحشه وخبثه، أَو امرأَة مشركة لا ترى فيه ما يشينها، فكلتاهما تطاوعه لفقد الوازع الدينى والخلقى لديهما، أما العفيفة المؤمنة فلا سبيل له إلى الفسق بها, لحصانتها بعفتها ودينها المتين، والزانية لخستها وفحشها لا يطؤها سفاحًا إلا زانٍ يماثلها في فحشها أو مشرك يحاكيها في خبثها, وحرم ذلك على المؤمنين، لأنه لا يليق بإيمانهم التلوث بمثله، ولو كان لدى الزناة إِيمان لبعدوا عنه, قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" وأَجاز بعض الأَئمة تفسير النكاح هنا بالتزوج، على ما هو معروف في نصوص القرآن الكريم، ويؤيده ما أَخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزول الآية عن مقاتل أنه قال: (لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بِجَهْدٍ إلَّا قليلًا منهم، والمدينة غالية السعر، شديدة الجَهْد (¬2)، وفي السوق زوانٍ ُمتَعَالِنَاتٌ من أَهل الكتاب، وإماءٌ لبعض الأنصار، قد رفعت كلُّ امرأَة منهن على بابها علامةً لتُعرفَ آنها زانية، وكنّ مِنْ أَخصب أَهل المدينة وأكثرهم خيرًا، فرغب أُناس من مهاجرى المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهْد، فأشار بعضهم على بعض: لو تزوجنا بعض هؤلاء الزوانى، فنصيب من فضول ما يكتسبن، فإِذا وجدنا عنهن غِنًى تركناهن، فأَنزل الله تعالى هذه الآية. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود في ناسخه، والبيهقى في سننه، والضياء في المختارة، وجماعة من طريق ابن جبر عن ابن عباس أن النكاح هنا بمعنى الوطء. (¬2) الجهد هنا: بمعنى الطاقة، أي: أن المدينة شديدة الطاقة عليهم لغلاء أسعارها، والجهد فيما تقدم: بمعنى الشدة، يكنى بها عن الفقر بسبب الهجرة.

ناطقًا غير مكره، عالمًا بالحرمة ولو حكمًا، بأن نشأَ في دار الإسلام، ويشترط في الاتهام المقذوف به، أَن يكون بوطءٍ يلزمه فيه الحد، وهو الزنى أَو اللواط أَو بنفى ولد عن أَبيه، فلا يكفى أَن يقول للمقذوف: يا فاسق أَو يا فاجر فإن في ذلك التعزير لا الحد إذا ثبت بإقرار أَو بشهادة رجلين، ويشترط في المقذوف: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمى بها. قال القرطبى في المسأَلة الرابعة: وإِنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف وإِن لم يكونا من معانى الإِحصان، لأَجل أَن الحد إنما وضع للزجر عن الإذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ - كذا قال. فإذا قذف المسلم رجلًا أَو امرأَة من أهل الكتاب فلا حد على المسلم القاذف ولكنه يعزر ما لم تكن المقذوفة كتابية متزوجة بمسلم، فقد قيل بجلد من يقذفها، كما نقله القرطبى في المسألة السادسة، ومن رمى صبية بالزنى قبل البلوغ، وكان يمكن وطؤها، فإن ذلك يعتبر قذفًا يستوجب الحد عند الإمام مالك. وقال الإمام أحمد في الجارية بنت تسع: يجلد قاذفها، وكذا الصبى إذا بلغ عشرًا، وقال الإمام مالك: إِذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا يُحَدُّ عليه، وقال أَبو حنيفة والشافعى وأَبو ثور: ليس بقذفٍ يُحَدُّ عليه، لأنها لو فعلته هي فلا يعتبر زنى في حقها، لأنها لم تبلغ حتى تدخل دائرة التكليف، ولهذا لا يقام عليها الحد، ولكن يعزر من سبها، ويقول ابن العربى تعقيبًا على هذا الخلاف: المسألة محتملة مشكلة، لكن مالكًا راعى حماية عرض المقذوف (¬1) وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أَولى، لأن القاذف كشف ستره، فلزمه الحد (¬2). وقد بينت الآية أَن الحد إنما يقام على القاذف إِذا لم يأْت بأَربعة شهداءَ على واقعة الزنى، فإن جاءَ بهم فلا يقام عليه حد، ومثله ما إِذا اعترف المقذوف بالزنى أَو اللواط، فإنه يسقط الحد عن القاذف، ولابد في شهادتهم أن تكون رواية مفصلة لواقعة عاينوها بحقائقها، فإن امتنع أَحدهم عن الشهادة، وشهد غيره، جلد هؤلاء الثلاثة كما يجلد القاذف تمامًا، ¬

_ (¬1) وكذلك فصل الإمام أحمد. (¬2) انظر القرطبى في المسألة الحادية عشرة

التفسير 4 - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: هذه الآية مبينة حكم من نسب الزنى إِلى غيره، بعد بيان حكم من فعله، والآية كما في صحيح البخاري نزلت في عويمر بن أمية بعد ما قذف زوجته خولة بنت عاصم بشريك ابن سمحاء، وقيل: نزلت بسبب قصة الإفك. والرمى في أَصل اللغة: يستعمل في قذف الشيء باليد ونحوها، تقول: رمى الحجر أَو السَّهم، أي: قذفه، ثم استعمل مجازًا في السب والشتم، والمراد منه هنا السب بالزنى بقرينة اشتراط شهود أَربعة، وذلك خاص بالزنى، والمراد بالمحصنات هنا النساءُ العفيفات، وقد قرئت بفتح الصاد وبكسرها، فقراءَة الفتح على معنى اللاتى أحصنهن أَهلهن، وقراءَة الكسر على معنى اللاتي نشأْن في حصانة وعفة، يقال: أحصنت المرأة أَي: عفت، وأحصنها أهلها أَي: ربَّوها على العفة، فالفعل لازم ومتعد، واقتصار الآية على النساء العفيفات لا يمنع من إيجاب حد القذف على من يقذف الرجال الأعفاءَ باللواط فيما بينهم أَو بالزنى وهذا أمر داخل في الآية بالمعنى، وحكم مجمع عليه، فإنه لا وجه لتخصيص النساء بهذا الحكم دون الرجال، فالإِسلام حريص على كرامة الإنسان بنوعيه، والحكمة في التصريح بالنساء في الآية أَن رميهن بالفاحشة أَكثر وأشنع (¬1)، وأَن النفوس تسرع إلى تصديق القذف فيهن أَكثر، فلهذا خصمهن بالذكر في الآية مبالغة في حماية أعراضهن، ومثل ذلك أَن الله تعالى نص على حرمة لحم الخنزير، وقد دخل في حكمه الشحم والغضاريف، لأَنه لا وجه لتخصيص لحمه بالحرمة دون شحمه وغضاريفه. ويقول ابن كثير: إِذا كان المقذوف رجلًا فكذلك يجلد قاذفه، وليس في هذا نزاع بين العلماء. ويثبت الإحصان، أَي: العفة في المقذوت، بإقرار القاذف بها، أو بشهادة رجلين أَو رجل وامرأتين، ويشترط فيمن قذفه لكي يقام عليه حد القذف أن يكون بالغًا عاقلًا ¬

_ (¬1) ولخصوص الواقعة.

بأَنه زَنَى أَو فُعِلَ به اللواط , حماية للمسلمين من سوءِ القالة، وكفا لأَلسنة الناس عن الخوض في الباطل. 5 - {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: اختلف العلماءُ في هذا الاستثناء، فقال بعضهم: إنه يعود إِلى الجملة الأخيرة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} دون ما قبلها، فإذا تاب القاذف وأَصلح ارتفع عنه وصف الفسق ويبقى مردود الشهادة طول حياته بعد جلده، فردُّ الشهادة عند هؤلاء العلماء من الحد فلا يسقط بالتوبة، وممن قال بذلك: القاضى شريح وسعيد بن جبير ومكحول وأَبو حنيفة، ومنهم من قال: يرجع إِلى الجملتين الثانية والثالثة: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وهذا يقتضي أَن من تاب وأَصلح تقبل شهادته ويزول فسقه، فالحد عندهم قاصر على الجلد، وممن قال بذلك: سعيد بن المسيب سيد التابعين، والأَئمة مالك والشافعى وأحمد وجماعة من السلف. وقال الشعبى والضحاك: لا تقبل شهادته وإِن تاب إلاَّ أَن يعترف على نفسه بأَنه كان مُفْتَريًا، فحينئذ تقبل شهادته (¬1). ولما بين الله حكم قذف الأَجنبيات عقبه بحكم قذف الزوجات فقال سبحانه: ¬

_ (¬1) راجع ابن كثير في الآية.

وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب بثلاثة شهدوا بالزني على المغيرة بن شعبة، وتوقف الرابع عن الشهادة عليه (¬1) فإِن تمت الشهادة. ولم تثبت عدالة الشهود، فلا حد على الشهود ولا على المشهود عند بعضهم، وعلى الشهود الحد عند آخرين. (¬2) وحدُّ القذف كما بينته الآية ثمانون جلدة، على نحو ما تقدم بيانه في جلد الزانية والزانى في كيفية الجلد, فإن كان القاذف عبدًا والقذف للحر، جلد العبد أَربعين، لأَنه في الحدود على النصف من الحر، وهذا هو رأْى الجمهور، وروى ابن مسعود وعمر ابن عبد العزيز وغيرهما: أَنه يجلد ثمانين جلدة، واحتج الجمهور بقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا يقتصر عقاب القاذفين على إِقامة الحد عليهم، بل ترد شهادتهم دائمًا في أَي أمر شهدوا عليه، ويحكم بأنهم فاسقون عند الله وعند الناس، وإِنما شدد الله العقاب على القاذفين لغيرهم بالزنى، وأَوجب عليهم أَن يأْتوا بأَربعة شهود عدول إن أَرادوا الإِفلات من عقابهم حماية لأَعراض العباد، وستْرًا على الخَطَّائين لعلهم يتوبون. وترد شهادة القاذف عند الشافعية إِذا ثبت عليه القذف - وإِن لم يقم عليه الحد بعد وأَما عند الحنفية فلا ترد شهادته إِلاَّ بعد تمام جلده، أَو بعد البدء فيه ولو بسوط واحد - كما قال بعض آخر منهم، أو بعد إقامة أَكثره عند فريق ثالث منهم، أَمَّا قبل ذلك فتقبل شهادته. والمعنى الإِجمالي للآية: والذين يقذفون النساء العفائف من المسلمات الحرائر، ثم لم يأْتوا بأَربعة من الرجال العدول، يشهدون تفصيلًا على واقعة الزنى وقد رأَوها بأَعينهم، فعاقبوا هؤلاء القاذفين ثلاث عقوبات، أَولاها: أن تجلدوهم ثمانين جلدة، وثانيتها: أَن تَردُّوا شهادتهم ما دامو أَحياء، وثالثتها: أَن تصفوهم بالفسق والخروج عن طاعة الله، وذلك حماية لأَعراض المسلمات والمسلمين من أَلسنة الكاذبين، وستْرًا للخاطئين منهم لعلهم يتوبون ويرجون إِلى ربهم فيما بينهم وبينه، ومثل ذلك في العقوبة من يقذف مسلمًا حرًّا عفيفًا ¬

_ (¬1) انظر المسألة التاسعة عشرة من القرطبى. (¬2) قال بنفي الحد عنهم: الحسن البصرى والشعبى وأحمد، وقال مالك بوجوب الحد على الشهود والقاذف في هذه الحالة. انظر المسألة الخامسة عشرة من القرطبي

التفسير 6، 7 - {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)}: كان المسلمون قبل نزول هذه الآية وما بعدها، يفهمون من عموم الآيات السابقة، أَن مَنْ يرى المحصنة - أَي: العفيفة - بالزني وإِن كانت زوجته، ولم يستطع الإتيان بأَربعة شهود، يعاقب بالجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة أَبدًا، ويكون من الفاسقين، لأَن ظاهر أَمرها على الإحصان، أَي: العفة، فنزلت هذه الآية لتخصيص عمومها بغير الأَزواج، إِذْ بينت أَن للأَزواج مخرجًا من الحد عند فقد الشهود الأَربعة. روى الإِمام البخاري في سبب نزول آيات اللعان بسنده عن سهل بن سعد أَخى بنى ساعدة أَن رجلًا من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله أَرأيت رجلًا وجد مع امرأَته رجلًا أَيقتله أَم كيف يفعل؟ فأَنزل الله في شأنه مما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد قضى الله فيك وفي امرأَتك" قال: فتلاعنا في المسجد وأَنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أَمسكتها (¬1)، فطلقها ثلاثًا قبل أَن يأْمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ذاك تفريق بين كل متلاعنين، قال ابن جُرَيْج: قال ابن شهاب: فكانت السُّنَّة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملًا، وكان ابنها يُدْعى لأمِّه، قال: ثم جرت السنة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله له، قال ابن جُرَيْج عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدى في هذا الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن جاءَت به أَحمر قصيرًا كأَنه وَحَرَة (¬2) فلا أراها إِلاَّ قد صدقت وكذب عليها، وإِن جاءَت به أَسود العينين ذا أَلْيَتَييْن فلا أراه إلاَّ قد صدق" فجاءَت به على المكروه من ذلك. ¬

_ (¬1) يعنى أنه إن لم يطلقها يعتبره الناس كاذبا عليها، فلهذا طلقها. (¬2) الوحرة بفتح الحاء المهملة: القصير من الإبل

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)} المفردات: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}: أَي يقذفوق زوجاتهم بالزنى. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}: ولم يكن لهم شهود على الزنى سوى أَنفسهم. {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ (¬1) شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}: أَي فشهادة أَي واحد منهم على زنى زوجته أَربع شهادات بالله. {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}: جواب القسم المفهوم من الشهادة، فهى بمعناه كما قال الراغب. {الْخَامِسَةُ}: أَي والشهادة الخامسة للشهادات الأَربع، أَي: الجاعلة لها خمسًا بانضمامها إليهن. {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}: اللعنة واللعن، الطرد من الرحمة والإبعاد من الخير. {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}: ويدفعَ عنها عقاب الزنى، وسيأتى بيانه في شرح الآيات. {وَالْخَامِسَةَ (¬2) أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا}: الغضب؛ أَشد من اللعن، ولذا خص بلعان المرأة تغليظًا عليها، بعد أَن لاعنها زوجها وشهد عليها. ¬

_ (¬1) قرىء لفظ: أربع هنا بالرفع على أنها خبر لشهادة، وقرئ بالنصب على أنه مفعول مطلق للشهادة، وعلى هذه القراءة تكون كلمة (شهادة) خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب شهادة أحدهم أربع شهادات. (¬2) الخامسة هنا منصوبة عطفا على أربع الثانية.

وطريقة التقاضى في هذه المُلِمَّة: أَن يتهم الزوج زوجته بالزنى، فيقول له القاضى بعد أَن تبرئ المرأَة نفسها: البينة أَو حَدٌّ في ظهرك، فقول الزوج: لا بينة عندى وقد رأَيتهما بعينى مثلًا، فيدعوه القاضى إلى اللعان، وهو كما فهم من الآية أَن يقول: أشهد بالله إننى لمن الصادقين فيما رميت به زوجتى فلانة من الزانى ويرفع نسبها بما يميزها إن كانت غائبة ويشير إِليها إن كانت حاضرة، وينفى الولد إِن كانت حاملًا به أَو ولدته فيقول: وإن هذا الحمل أَو الولد من الزنى وليس منى، ويكرر هذه الشهادة أَربع مرات، وكل ذلك بتلقين القاضي كما هو شأْن اليمين (¬1) في سائر الخصومات، ثم يقول في المرة الخامسة بعد أَن يعظه القاضى ويلقنه: وعليَّ لعانة الله إن كنت من الكاذبين، وتشترط الموالاة بين الكلمات الخمس، ويترتب على لعانه عدة أَحكام: منها سقوط الحد عنه، ووجوب الحد عليها ولو كانت ذمية تحت مسلم، أو تحت ذمي احتكم إِلينا، وزوال الفراش - أَي النكاح - إِلى الأبد، وانتفاءُ الولد إِن نفاه في لعانه، لخبر الصحيحين أَن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فرق بينهما وأَلحق الولد بالمرأة" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المتلاعنان لا يجتمعان أَبدًا" أَخرجه الدارقطنى والبيهقى وغيرهما من حديث ابن عمر، كما يترتب عليه سقوط حد القذف بالنسبة للزانى إِن سماه الزوج في قذفه لزوجته، وتشطير الصداق قبل الدخول كالطلاق قبله، واستباحة نكاح أختها وأَربع سواها وإن لم تنقض عدتها، كما في الطلاق البائن، وعدم نَفَقَتِها وإن كانت حاملًا بمن نفاه - وهذه الأحكام منقولة عن الشافعية ومن يرى رأيهم، وللموضوع صور وتفصيلات ومذاهب للفقهاء، تطلب من مطولات كتب الفقه والتفسير. وقد شرع الله للمرأَة حق الدفاع عن نفسها لتَدْرأَ عنها الحد وسوءَ القالة، فربما كان الزوج كاذبًا يبغى تشويه سمعتها لخلاف بينهما، حيث قال سبحانه منصفًا لها: 8، 9 - {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: ¬

_ (¬1) فشهادات اللعان أيمان مؤكدة عند الشافعية والمالكية والحنابلة، أما عند الحنفية فهى شهادات مؤكدة بالأيمان، ولذا يشترطون فيها العدالة كسائر الشهادات

والزوج المذكور في هذا الحديث هو عويمر العجلانى، ففي رواية أخرى للبخارى عن ابن شهاب أَن سهل بن سعد الساعدى - الذي روى الحديث السابق - أخبره أن عويمر العَجْلَانى جاءَ إلى عاصم بن عدى الأَنصارى فقال له: يا عاصم أَرأَيت رجلًا وجد على امرأَته رجلًا أَيقتله فتقتلونه، أَم كيف يفعل؟ سَلْ لى يا عاصم عن ذلك، فسأَل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكره رسول الله المَسَائِلَ وعابها حتى كَبُرَ على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عاصم لعويمر: لمْ تأْتنى بخير، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسأَلة التي سأَلتُهُ عنها، فأَقبل عويمر حتى جاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأَيت رجلًا وجد مع امرأَته رجلًا أَيقتله فتقتلونه أَم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهب فائت بها" قال سهل: فتلاعنا وأَنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبْتُ عليها يا رسول الله إِن أَمسكتُها، فطلَّقَها ثلاثًا قبل أَن يأْمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: فكانت سُنَّة المتلاعنين. وقد حدثت هذه النازلة مع امرأَة هلال بن أمية - روى أَبو داود وغيره عن ابن عباس ما يفيد أَن هلالًا قذفها ولم يكن له شهود على زناها. فكان ذلك سببًا في نزول آيات اللعان، وجمعا بين الروايات نقول: لعلهما حدثا متقاربين فنزلت الآيات بشأْنهما، وليس مهما أَن يعرف السابق منهما. ويستوى في حكم اللعان الزوجات المدخول بهن وغيرهن، وكذلك المعتدات عن طلاق رجعي، وقد عرفوا اللِّعان شرعًا: بأَنه كلمات معلومة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لَطَّخت فراشهُ وألحقت به العار، أَو إلى نفى الولد عن نفسه، وسُمِّي لعانًا لاشتماله على كلمة اللعن ولأن كُلاًّ من الزوجين يبعد به عن الآخر بعدًا أَبديًّا فلا يتناكحان أَبدًا. وقد شرع اللعان لتخليص الزوج من حد القذف إذا قذف زوجته بالزنى ولم يجد له شهودًا أَربعة عدولًا على قذفها، وهى مصرة على تبرئة نفسها مما اتهمها

المعنى الإجمالي للآية وأحكامها

وضعت حملها وفطمت صبيها، لهذا نرى أَن المسأَلة جديرة بالنظر من رجال الفقه المعاصرين والله - تعالى - يهدى إلى سواه السبيل. حاشية: الرقيق والأَمة اللذان سبق لهما الزواج، لا يرجمان إذا زنيا، بل يجلد كلاهما خمسين جلدة , لأنهما على النصف من الحُرِّ في الحدَّ، والرجمُ لا يقبل التجزئة، فعدل به إلى الجلد فيهما. المعنى الإجمالي للآية وأحكامها أما وقد فرغنا من البحوث الهامة في الآية، فإلى القارىء فيما يلى معناها الإجمالى: الزانية التي وطئها باختيارها رجل لا يحل له وطؤها ولم يسبق له الزواج، والزانى الذي وطىءَ امرأة باختياره يحرم عليه وطؤها ولم يسبق له الزواج، يجلد كل منهما مائة جلدة إذا كان حرًّا بالغًا عاقلا، أَما من فيه رق فإنه يجلد خمسين جلدة، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} والعبيد كالإماء في ذلك، ولا يقام هذا الحد إلا على من ثبت زناه بإقراره، أو بشهادة أربعة شهود عدول رأوه بأَعينهم، أَو بحَمْل المرأَة وهي غير متزوجة، ولفظاعة الزنى وقبح آثاره أَوجب الله أَن لا تأْخذنا بالزانيين رأَفة قى تنفيذ دينه وشريعته، فلا يحل جلدهما أَقل مما أوجبه فيهما، ولا ضربها من غير إيلام، ولا العفو عنهما بشفاعة أو رأَفة وشفقة بعد ثبوت الزنى عليهما، رَدْعًا لهما ولغيرهما, وحماية لأَعراض المسلمين وأنسابهم من مثل جرمهما. وقد أَثار الله ما فينا من إيمان بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إلهابًا لِحَميَّتنا الدينية في تنفيذ حكمه عليهما، أي: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا تأْخذكم بالزانيين رأفة في تنفيذ دينه وشرعه فيهما وقد أمر الله أَن يحضر عذابهما حين إقامة الحد عليهما طائفة - أي جماعة - من المؤمنين، زيادة في التنكيل والتشهير، وللعبرة والاتعاظ والأمر بحضورهم للندب وليس للوجوب على ما قاله الفقهاء، والمراد بهم: جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وأَقلهم ثلاثة، وقيل: أربعة بعدد شهود الزنى. أَما الزاني المحصن أَي الذي سبق له الدخول في نكاح صحيح فحده الرجم حتى يموت، كما سبق بيانه في البحوث التي سبقت هذا المعنى الإجمالي للآية، فارجع إِليها لتكون على علم

ففي هاتين الآيتين يبين الله سبحانه، أن للزوجة أَن تدفع عن نفسها العذاب المترتب على لعان الزوج وشهاداته ضدها، فتكذبه فيما قذفها به. وطريقة تكذيبها إياه كما يفهم من نص هاتين الآيتين: أن تقول أَربع مرات بتلقين القاضى وأمْرِه: أَشهد بالله إِن فلانًا لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، وتميزه بالاسم والنسب إن كان غائبًا، وتشير إِليه إن كان حاضرًا، وتقول في الخامسة بأَمر القاضى وتلقينه: وعليَّ غضب الله إن كان من الصادقين، فإذا قالت ذلك فلا حَدَّ عليها، ولكنها لا تعود إلى زوجها أَبدًا كما تَبْقَى الآثار الأُخرى التي ترتبت على لعانه - كما قال الشافعية (¬1). والغضب أَعظم من اللعنة , لأَنه يتضمنها وزيادة، ولذلك خصت به المرأَة، لأَن جريمة الزنى منها أَقبح من جريمة القذف منه، ولهذا تفاوت الحدان. وقبل أَن يلاعن الزوج يذكره القاضى بأَن عذاب الآخرة أَشد من عذاب الدنيا إِذا لاعن كاذَبًا فإِنى أصر على اتهامه وملاعنته لزوجته، قال له القاضى قبل الخامسة: اتق الله، فإِن عذاب الدنيا أَهون من عذاب الآخرة، وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب فإِن أَبي شهد الشهادة الخامسة، وكذلك يفعل مع المرأَة، ويقرأ عليهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ... } الآية (¬2). 10 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}: في هذه الآية انتقال إلى أسلوب الخطاب للرامين والمرميات، بعد الحديث عن أحكامهما بأُسلوب الغيبة، وذلك منه تعالى لتوفية مقام الامتنان عليهم، وجواب لولا مقدر، ولم يذكر ¬

_ (¬1) جاء في القرطبي في المسألة السادسة والعشرين في تفسير هذه الآية: قال مالك وأصحابه: وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدًا لا قبل زوج ولا بعده - ثم قال القرطبى قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما - ثم قال: وقال الشافعى: إذا أكمل الزوج الشهادة وإلالتعان فقد زال فراش امرأته - التعنت أو لم تلتعن - قال الشافعى: وأما التعان المرأة فهو لدرء الحد عنها لا غير، وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى، ثم ذكر في المسألة التاسعة والعشرين أنهما لا يتوارثان بعد تمام لعان الزوج عند الشافعية، أما عند الحنفية ومن يرى رأيهم فيتوارثان قبل أن يفرق القاضى بينهما وإن تلاعنا. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 77

تهويلًا لأَمره، فإنه يشير إِلى أَن مثله تضيق العبارة عن بيانه، فكأنه قيل: لولا تفضل الله ورحمته عليكم، وأَنه تعالى من شأْنه قبول توبة التائبين، ولولا الحكمة في أَقواله وأَفعاله وأَحكامه - لولا ذلك كله - لكان ما يقصر عنه البيان، ومن ذلك أَنه لو لم يشرع اللعان للقاذف والمقذوف من الزوجين، لوجب على الزوج حد القذف مع أَن الظاهر صدقه، لأنه أَعرف بحال زوجته، وأَنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الافتضاح ولوجب عليها حد الزنى بلعانه لو لم يُشْرع لها اللعان كما يقوله الشافعية ومن يرى رأيهم، فجعل لعان كل منهما سببًا لدرء العذاب عنه - مع الجزم بأَن أحدهما كاذب، ولأَن في قذف الزوج لزوجته الزانية وشهادته عليها في فجتمع التقاضى شفاءٌ لما في نفسه من جرح عميق بسبب جريمة زوجته وخيانتها، ولأن لعان الزوجة ضده فيه ستر في الدنيا، ولولاه لكان لأَهلها وأَولادها سمعة شنيعة بين الناس، فهو يشبه ردَّ الشرف الذي سلبه لعانه منها، وأَمر كليهما مفوض لخالقه، فهو أَعلم بالصادق والكاذب منهما ومُجَازٍ له على صدقه. أو كذبه، ولقد شرع الله ما هو أَستر للزوجين وذريتهما وأهليهما، وهو أَن يطلق الزوج زوجته إِذا عرف زناها، دون أَن يعلم الناس بما حصل منها، ففي ذلك درءٌ للشناعة والفضيحة التي تحدث من تلاعنهما في المسجد على المنبر أَمام الناس، كما يقول به الفقهاءُ - تغليظًا عليهما - والله تعالى أَعلم.

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)}. المفردات: {جَاءُوا بِالْإِفْكِ}: الإفك أَشد الكذب، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك - وقد يستعمل في الكذب مطلقًا. {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}: جماعة من بينكم، وتطلق العُصْبة لغة على الجماعة من عشرة إِلى أربعين - كما قال صاحب المختار - وقد تطلق على أقل منهم. {تَوَلَّى كِبْرَهُ}: أَي تولى معظمه وقام به، قرئ بكسر الكاف وضمها، ومعناهما واحد. {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}: لولا مِثلُ هَلَّا للتحضيض على فعل أَمر وترك ضده، وسيأْتى شرحه. {شُهَدَاءَ}: الشهداءُ جمع شهيد , أَي: شاهد. التفسير 11 - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... }. الآية. المراد بالإِفك هنا: ما افتراه المنافقون على أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنها - وقد نزلت في شأْنه عشر آيات هذه أولاها، وقد برأَ الله فيها عرضها وعرض أَهلها، وصان كرامة - صلى الله عليه وسلم - وقد قام بمعظم الإِفك رأْس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول - عليه

لعنة الله -، فهو الذي اختلقه ونشره، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقى الأَمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن مبرئا لها على أَكمل وجه، وروته الأحاديث الصحيحة مبرئة ساحتها، ونشأت هذه الفرية النكراءُ عن أمر برىءٍ حدث في غزوة بنى المصطلق (¬1)، فاستغله المنافقون أَعداء الإسلام أَسوأَ استغلال. وخلاصة القصة مستنبطة من صحاح الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلما خرج في غزوة أقرع بين نسائه، وحينما خرج في غزوة بنى المصطلق سنة ستٍّ أَقرع بينهن فخرج سهم عائشة - رضى الله عنها - فخرجت معه، وكان ذلك بعد ما فُرِض الحجاب، ولهذا كانت تُحْملُ في هودج وتنزل فيه، ولما انتهت الغزوة وعاد الرسول، نزلوا قريبًا من المدينة، وأَثناءَ الليل، أَمر الرسول بالرحيل فنزلت لتقضى حاجتها بعيدًا عن مكان نزول الجيش، ثم عادت إِلى رَحْلِها وفوجئت بأَن عقدها قد انقطع - وكان من جَزْع ظَفَار (¬2) فعادت لتبحث عنه فتأخرت بعض الوقت، وجاءَ الذين يحملون هودجها فرفعوه على بعيرها ظانين أَنها فيه، لأَن النساء كُنَّ خفاف الجسم لقلة الغذاءِ في صدر الإسلام، كما أَنها كانت حديثة السن، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، ولما عادت بعقدها وجدت الجيش قد رحل فبقيت حيث كانت تنزل ونامت، لعلهم يتفقدونها فلا يجدونها فيرجعون إِليها لترحيلها، وكان صفوان بن المعطل السلمى وراء الجيش، ليجمع ما نسيه المجاهدون، فرأَى سواد إِنسان نائم فلما رآها عرفها لأَنه كان يراها قبل الحجاب، فاسترجع (¬3) فغطت وجههما عنه، وقالت: والله ما سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأَناخ راحلته، وداس على يدى الناقة حتى رَكِبَتْهَا، وانطلق يقود الراحلة حتى أَدرك الجيش، فكان ذلك مثارًا لإفْك عنهما افتراه وتولى إِذاعته عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين. ¬

_ (¬1) ويقال لها أيضا غزوة المريسيع: قاله القرطبى. (¬2) ظفار كقطام: بلد باليمن قرب صنعاء، ينسب إليه الجزع بفتح الجيم وكسرها، وهو خرز فيه سواد وبياض تشبه الأعين. (¬3) أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد أَدرك المرض السيدة عائشة، فلزمت الفراش شهرا، وهي لا تدرى بما يتردد بين الناس من أَصداء ما افتراه عبد الله بن أبي بن سلول، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسأَل عن حالها سؤالا مجملا بقوله: (كيف تيكم؟) وينصرف دون أَن ترى منه اللطف الذي كانت تعتاده في مرضها، وحين خرجت من مرضها إِلى طور النقاهة منه. عادتها أُم مسطح بنت خالة أَبي بكر، ثم قالت: تَعِسَ مِسْطح، فقالت لها السيدة عائشة: بئس ما قُلتِ، أَتسبين رجلا شهد بدرًا؟ قالت: أَو لم تسمعى ما قال: فقالت عائشة: وما قال؟ فأَخبرتها بما أَذاعه أهل الإِفك عنها، فازدادت مرضا، فلما دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأْذنته في أَن تذهب إلى بيت أَبيها - وكانت تريد أَن تعرف القصة من والديها - فأَذن لها الرسول، فلما ذهبت إليه سألت أَمها عما حدثتها به أُم مسطح، فقالت: يا بنَيَّةُ هوّنى عليك، فوالله لَقلَّما كانت امرأَة قطُّ وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلاَّ أَكثرن عليها، قالت عائشة: سبحان الله؛ أَوَقَدْ تحدث الناس بهذا، فبكت ليلتها وفارقها النوم حتى أَصبحت وهي لا يَرْقأَ لها دمْعٌ، وقد استدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد وعليا - رضى الله عنهما - ليستشيرهما، وبريرة جاريتها ليسمع شهادتها بشأنها، وخرج من حديثهم معه بما أَراح نفسه وطمأَنه على أَهله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين من يَعْذِرنى (¬1) من رجل قد بلغنى أَذاه في أَهل بيتى؟ فوالله ما علمت على أَهلى إِلا خيرًا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إِلا خيرًا، وما كان يدخل على أَهلى إِلا معى فقام سعد بن معاذ الأَنصارى سيد الأَوس فقال: أَنا أَعذك منه يا رسول الله، إِن كان من الأَوس ضربنا عنقه، وإِن كان من الخزرج أَمَرْتنا ففعلنا أَمرك، فثار نقاش بين الخزرج والأَوس، بسبب تدخل سعد بن معاذ في أَمرهم، وحسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت السيدة عائشة قد عادت إلى بيتها بأَمر أَبيها، فظلت يومها هذا تبكى وكان معها أَبواها، وكانا يظنان أَن البكاءَ سيغلق كبدها - كما روت عنهما - ثم دخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس معهم، ولم يسبق له أَن جلس عندها منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأْنها بشيءٍ، فسأَلها عما يذيعه المفترون عليها، ثم أَجابت ¬

_ (¬1) أي.: من يقوم بعذرى إذا أردت مكافأته على سوء فريته.

بعد أَن بَحَثَتْ عن آية من القرآن تجيبه بها، وكانت يومئذ لا تحفظ منه كثيرًا - أَجابت بقولها: والله ما أَجد لى ولكم مثلا إِلا كما قال أَبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}، ثم اضطجعت على فراشها، وهي تعلم أَنها بريئة وأَن الله سيظهر براءَتها ولكنها - كما قالت - ما كانت تظن أَن يُنْزِل في شأْنها وحيًا يتلى وأَن يصل أَمر تبرئتها عند الله إلى مثل ذلك، وكل ما كانت تأْمله أَن يُرِىَ اللهُ رسوله في منامه رؤيا يبرئها الله فيها، وبينما كانوا جميعا في مجلسهم هذا إِذ أَوحى الله إلى نبيه، فأَخذه ما كان يأْخذه من الشدة عند نزول الوحى حتى كان ينزل العرق منه مثل الجُمان - أَي - اللؤلؤ - في اليوم الشاتى من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سرِّى عن رسول الله وهو يضحك، قال لعائشة: أَبشرى يا عائشة، أَما اللهُ فقد برأَك، فقالت لى أَمى: قومى إِليه، فقلت: والله لا أَقوم إِليه ولا أَحمد إِلا الله - عز وجل - هو الذي أَنزل براءَتي، وأَنزل سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ..... } عشر آيات في براءَتها. وهذا الافتراءُ الذي حدث في حق عائشة - رضوان الله عليها - حدث مثله للسيدة مريم، وكان من أَقرب الناس إِليها وهم أَهلها، وكما برأَ الله مريم على لسان عيسى، برأَ السيدة عائشة بوحى يقرؤه الناس نزل به الروح الأَمين على خاتم المرسلين، والحمد لله رب العالمين. والعُصبة: الجماعة من الناس من العشرة إلى الأَربعين، وقد تطلق على ما دون ذلك كما تقدم في المفردات، وقد ذكرت السيدة عائشة منهم: عبد الله بن أَبي بن سلول، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن إِثاثة, وحسان بن ثابت، وكان عبد الله بن أُبيٍّ رأْس الحية ومثير الفتنة ومخترعها - عليه لعنة الله - وقد اعتذر حسان عما نسب إِليه في شأْنها بقصيدة جاءَ فيها: حَصَانٌ رَزَان ما تُزَنُّ بريبة ... وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافل (¬1) حليلة خبر الناس دينًا ومنصبًا ... نبيَّ الهدى ذى المكرمات الفواضل عقيلةُ حيٍّ من لؤى بن غالب ... كرامِ المساعى مَجْدُهم غيرُ زائل مهذبة قد طَيَّب الله خَيْمَها ... وطهرها من كل سوءٍ وباطل ¬

_ (¬1) الحصان: العفيفة، والرزان: الوقورة، ومعنى ما تزن بريبة: أنها لا يصح أن تظن بها ريبة أو توصف بها، ومعنى الشطر الثاني: أنها تصبح نحيلة الجسم من غيبة من يأكلون لحوم المحصنات الغاف

والمعنى الإجمالى: إن الذين اختلقوا البهتان في حق عائشة أم المؤمنين وأذاعوه هم جماعة وشرذمة ينتسبون إِليكم بأُخوَّة الإِسلام فكيف رضوا بإذاعته؟ لا تظنوا هذا الافتراءَ شرًّا لكم بل هو خير عظيم لكم، لنيلكم الثواب الجزيل بالصبر عليه، وظهور كرامتكم وكرامة زوجكم المصون على ربكم، بإِنزال ما فيه تعظيم شأْنكم، وتشديد الوعيد لمن تكلم بما أَحْزَنكم، كما قال سبحانه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: أَي: لكل امرىءِ من الذين جاءُوا بالإِفك جزاءَ ما اكتسب من الإِثم بقدر ما خاض فيه سواءٌ أَكان ذلك اختلاقًا ورضًا أَم تَرْديدًا وإِذاعة، والذى تحمل معظمه فقام بأَكبر حظ من إِعلانه، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وكان أَول من اختلقه وأَذاعه عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، فكان يجمع الناس ويذكر لهم ما يذكر من الإِفك، لإِمعانه في عداوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كافأَه الله في الدنيا بتكذيبه وإِعلان نفاقه وإِقامة حد القذف عليه كما أَخرجه الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر، وأَخرجه الطبرانى أَيضًا عن ابن عباس، كما أَقام حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، أَخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أَبي هريرة. ولما بلغ صفوانَ اشتراكُ حسان في الإِفك عنه وعن أُم المؤمنين، جاءَ فضربه بالسيف ضربة على رأْسه وقال: تَلَقَّ ذبابَ السيف عنى فإِننى ... غلامٌ إِذا هوجيت ليس بشاعر ولكننى أَحمى حماى وأَتَّقى ... من الباهت الرأْى البرىءِ الظواهر وقد حال دون قتل صفوان لحسان ثابت بن قيس بن شماس، فقيد وثب على صفوان ومنعه من الإِجهاز عليه، وكان صفوان بن المعطل المذكور، صاحب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة، وروى عنه أَنه قال: والله ما كشفت كَنَفَ أَنثى قط، يريد: ما كشفها بزنى، وقُتِل شهيدًا - رضى الله عنه - في غزوة

أَرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية (¬1) 12 - {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}: والمعنى: هلَّا حين سمعتم أيها المؤْمنون والمؤْمنات هذا الإفك ممن أَذاعوه، ظننتم بأَهل ملتكم: عائشة وصفوان خيرًا وطهرا، وقلتم بلا تردد: هذا افتراءٌ واضح مكشوف لا نرضاه لمن هم كأَنفسنا، ولا نوافق على نسبته إليهم، وقلتم أيضًا في شأْن المفترين الخائضين على سبيل التوبيخ: 13 - {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}: أَي: هلَّا جاءَ أصحاب الإِفك بأَربعة شهداءَ عدول يشهدون على ما زعموه في شأْن عائشة، فحيث لم يأْتوا بالشهداءِ، فهم عند الله وفي حكمه كاذبون، فكيف تصدقونهم وهم مخالفون لشريعة الله ومنافقون. ويجوز أن تكون الآية ابتداءَ كلام من الله تقريرًا لكون ذلك إفكًا، وليس حكاية لما ينبغي أَن يقوله السامعون. ¬

_ (¬1) انظره في المسألة الثالثة في تفسير القرطبى لهذه الآية.

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)} المفردات: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: تفضله بالمصابرة والعفو عن التائبين. {لَمَسَّكُمْ}: لأَصابكم. {فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}: بسبب ما خضتم فيه. {تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}: أَي تطلبون بأَلسنتكم مِمَّن يحكى هذا الإِفك أَن يلقيه إليكم ويعرفكم ما قيل فيه، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}: وتظنونه أَمرًا خفيفًا لا عقوبة عليه. {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}: كبير الإثم. {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}: ما يصح وما يليق بنا ونحن مؤمنون أَن نتكلم بهذا. {سُبْحَانَكَ}: هذا تنزيه مشوب بالتعجب، وسيأتى بيانه. {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}: افتراءٌ عظيم يُحيِّر سامعه. {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}: ينصحكم لئلا ترجعوا إِلى مثله مدة الحياة. التفسير 14 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}:

أَي: ولولا تفضل الله عليكم أَيها الخائضون، ورحمته بكم، لأَصابكم عذاب عظيم فيما خضتم فيه من الإِفك في شأْن عائشة، أَما رحمته في الدنيا فقد تمثلت في إمهالكم حتى تثوبوا إِلى رشدكم، وتتوبوا إِلى ربكم من ذنبكم، وتعرفوا حرمة بيت نبيكم، وأما رحمته في الآخرة فبالعفو عمن تاب منكم، وغفران ما اقترفته أَلسنتهم، وكل ذلك من فضل الله عليكم. ولا ينال هذا الفضل والرحمة من الخائضين سوى التائبين من المؤمنين كمسطح بن إِثاثة وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، أَما من بَقِىَ مغمورًا في نفاقه كعبد الله بن أبي ابن سلول وأَضرابه، فلا نصيب لهم منهما، ولا قيمة لتوبتهم الظاهرية إن تابوا. 15 - {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}: أَي: ولولا فضل الله ورحمته لمسكم عذاب عظيم حين تتلقون هذا الإفك من ناقليه، بعد طلبم بأَلسنتكم سماعه وتروون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وإنما جاءَكم عن طريق السماع عن الآفكين، وتحسبون ترويج الكذب على عرض ابنة الصديق وزوج الرسول أَمرًا خفيفًا سهل العاقبة، والحال أَنه عند الله أمر عظيم في إثمه وسوء عاقبته، فالقدح في الأَعراض شين عظيم، وإثم كبير، فكيف به في عرض أم المؤمنين، وزوج خاتم المرسلين. جاءَ في الصحيحين أَنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدرى ما تبلغ، يَهْوِى بها في النار أَبعد ما بين السماء والأرض" وفي رواية: "لَا يُلْقى لها بالًا". ويصح أَن يكون المعنى: إِذ يتلقاه بعضكم بأَلسنة بعض آخر منكم، وتروون بأَفواهكم عنهم ما ليس لكم بصحته علم، وكلا المعنيين جيد، وفسره مجاهد وابن جرير - كما نقله ابن كثير - بأَن يرويه بعضهم عن بعض، يقول هذا: سمعت كذا من فلان، ويقول آخر: قال فلان كذا، ويقول ثالث: ذكر بعضهم كذا - انتهى بتصرف، والمعانى متقاربة وإن كان ما قلناه أَولًا وثانيًا أَقرب إِلى النص الكريم مما نقله ابن كثير عن ابن جبير ومجاهد.

16 - {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}: بعد أَن أدب الله الخائضين قبل هذه الآية بأن يظنوا خيرًا بمن تجمعهم بهم أُخوة الإِيمان حين يسمعون عنهم قالة السوءِ، جاءَت هذه الآية بلون آخر من التأْديب. والمعنى: هلَّا حين سمعتم ما لا يليق في شأْن الخِيرَة قلتم - مع الظن بهم خيرًا -: لا ينبغي لنا ولا يصح أن نتكلم بهذا عن الأَطهار البررة، بدلًا من ترديدكم له بالرواية عن مخترعيه، هلَّا قلتم متعجبين ومستكبرين لما يقولون: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وكذب محُيِّرٌ خطيرٌ لا يصح أن يقال في عرض كرام المؤمنين. وقد كان على هذا الخلق العالى الذي دعا إليه القرآن - كان عليه - أَصحاب القلوب الصافية، والعقول الوضيئة، والحس المرهف، فعن سعيد بن جبير أَن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أَمر عائشة - رضى الله عنها - قال: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} وعن سعيد بن المسيب أَنه قال: كان رجلان من أَصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعا شيئًا من ذلك قالا ما ذكر، وهما أُسامة بن زيد بن حارثة، وأبو أَيوب الأَنصارى - رضى الله عنهما -، وأَخرج ابن مردويه عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: إن امرأَة أبي أَيوب الأَنصارى قالت له: يا أَبا أَيوب أَلا تسمع ما تَحَدَّثَ به الناس؟ فقال: ما يكون لنا أَن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومثل ذلك قال غيرهم وحق لهم أنْ يقولوا ذلك، فإِنه لا يجوز عقلًا أَن يختار الله لرسوله امرأَة فاجرة، فإن ذلك ينفر عن اتباعه، ويخل بحكمة البعثة - هكذا قال الإمام الرازى عليه رحمة الله. 17 - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: يذكركم الله ويحذركم من أَن تعودوا طول حياتكم لمثل هذا الإِفك في عائشة، أَو سائر أَزواجه - صلى الله علي وسلم - لسوءِ عاقبته، وعظيم عقوبته، إن كنتم مؤمنين بالله فامتثلوا تحذيره واعملوا بنصيحته، لتأْمنوا عذابه وسوءَ حسابه، ويفهم من الآية الكريمة أن مَنْ سبَّ عائشة بعد هذا التحذير لا يكون من المؤمنين، وهذا ما ذهب إليه الإِمام مالك، فقد نقل القرطبى عنه أَنه يقول بكفره ووجوب قتله، ويعلل ابن العربى ذلك بأَنَّ الله برأَها فكل من سبها بما بَرَّاها لله منه فهو مكذب لله، ومن كذَّبَ اللهَ فهو كافر يُقْتَلُ لِرِدتَه، تلك هي خلاصة ما ذكره القرطبى في ذلك.

18 - {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: وينزل الله لكم آياته مبَيَّنةً واضحة الدلالة على الأحكام الشرعية، والأخلاق الكريمة والآداب الجديرة بخير أمة أخرجت للناس، والله مُحيطٌ علمه بأحوال مخلوقاته وما ينبغي لهم من شرائع، حكيم في جميع أفعاله وأحكامه، فالتزموا ما بينه لكم من شرائعه وآدابه. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} المفردات: {أَنْ تَشِيعَ (¬1) الْفَاحِشَةُ}: أن تنتشر المقالة المفرطة في القبح. {رَءُوفٌ} الرأْفة: شدة الرحمة. التفسير 19 - {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: في هذه الآية تأْديب من الله تعالى لمن يحبون القدح في أَعراض الأعفاءِ من المؤمنين والمؤمنات. ومعنى الآية: إن الذين يريدون ويختارون أن تنشر تهمة الزنى في عرض المحصنين والمحصنات (¬2) من الذين آمنوا ويقومون بنشرها لهم عذاب أليم على إذاعتها في الدنيا والآخرة، لشدة قبح هذه الفرية في حق من افتريت عليه، أما عذابهم في الدنيا فبحد القذف، وأَما عذابهم في الآخرة فبنار جهنم - إن لم يقم الحد عليهم في الدنيا، أو أُقيم عليهم وكانوا ¬

_ (¬1) يقال: شاع الشيء شيوعًا وشيعًا وشيوعة، أي: ظهر وانتشر. (¬2) المراد بالإحصان هنا: العفة عن الزنى، فقذف صاحبه هو الذي يوجب الحد سواء كان المقذوف رجلًا أو امرأة.

منافقين أو كافرين - فإن الحدود لا تكون جوابر ولا تحمى من النار إلا عصاة المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء}. وهذه الآية قاعدة عامة يراد بها صيانة الأَعراض عمومًا، وإن نزلت بشأْن قصة عائشة وصفوان التي افتراها رأْس المنافقين ابن سلول. وقد جاءَ في حُرْمة ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تؤذوا عباد الله ولا تُعَيِّروهم ولا تطلبوا عوراتهم، فإِنه من طلب عورة أَخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه" أَخرجه الإِمام احمد بسنده عن ثوبان، وجاءَ في حديث لأَبى الدرداء أَنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيما رجلٍ شد عضد امرىءٍ من الناس في خصومة لا علم له بها، فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأَيُّما رجلٍ قال بشَفَاعَته دونَ حَدٍّ من حدود الله أن يُقَام، فقد عاند الله حقًّا وأَقدم على سُخْطِه، وعليه لعنة الله إِلى يوم القيامة، وأَيُّما رجل أشاع على مسلم كلمة وهو منها برئ يَرَى أَن يَشِينَه في الدنيا كان حقًّا على الله تعالى أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقًا لذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية وقد عرفت من تفسيرنا للآية أَن المراد من حُبِّ إشاعة الفاحشة، أَن يكون هذا الحب مقرونًا بإِذاعتها فعلا، حتى يكون بذلك قاذفًا فيستوجب حد القذف الذي جعله الله عذابه في الدنيا، أَما إِن أَحب إذاعتها ولم يشترك في نشرها فلا حد عليه، ولكن الله يعاقبه في الدنيا بمقتضى وعيده، كأَن يصيبه بنوعٍ من البلاءِ، أَو يبتليه بما تمناه لغيره - انتقامًا منه لفساد قلبه ورغبته في الفتنة، وكما يحرم التشنيع على المؤمنين والمؤمنات، يحرم قذف غيرهم وإِشاعة الفاحشة عنهم فإن لهم ما لنا وعليهم ما علينا (¬1). 20 - {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: أَي: ولولا تفضل الله ورحمته عليكم أَيها الآفكون وأَنه تعالى دائم الرأْفة والرحمة لعباده، لمسكم فيما أَذعتموه من الإِفك على زوج رسول الله المحصنة البريئة - لمسكم في ذلك عذاب عظيم لا يقادر قدره، ولكنه تعالى أمهلكم بموجب رأْفته ورحمته ليميز الخبيث من الطيب، ثم أنزل براءتها مما نسب إِليها، فتاب من استيقظ ضميره، وعرف حق الله ورسوله، فتاب الله عليه، وأقام الحد على من ثبت عليه التشهير بذلك فَطَهر منهم من كان من المؤمنين، وبَقِىَ في رجسه وسوءِ عاقبته من كان من المنافقين. ¬

_ (¬1) ولكن لا حد على قاذفه من المسلمين كما قاله الجمهور بل يعزر، انظر تفسير الآية الرابعة من هذه السورة في القرطبى - ص 174 - المسألة السادسة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} المفردات: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: أَي وساوسه، وهي في الأصل جمع خُطْوه - بضم الخاءِ - وهي ما بين القدمين للماشى، واستعملت هنا في وساوس الشيطان على سبيل المجاز, والخَطْوة - بالفتح - اسم للمرة من الخَطْو, وجمعها خطَوات - فتح الخاء والطاء، تقول: خطا، يخطو، خَطْوة وَخَطوات. {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}: الفحشاءُ؛ ما أفرط قبحه كالفاحشة، والمنكر: ما ينكره الشرع، والشيطان يأْمر بهما، أَي: يحث عليهما. (مَا زَكَا): ما طهر. {وَلَا يَأْتَلِ}: أَي ولا يحلف، من الألِيَّة، وهي: اليمين، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}: أي يحلفون. {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ}: أَصحاب الزيادة في الدين والسعة في المال.

التفسير 21 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... }: يأيها الذين تجملوا بحلية الإيمان، لا تسلكوا مسالك الشيطان فيما يسعى إليه من الشرِّ فيما بينكم، ولا تعملوا بوساوسه, فإنه لا يسعى إلى خير، ولا يوسوس إلا بفتنة، ومن يتبع خطوات الشيطان، فيسلك سبيله ويعمل بوسوسته، ارتكب الفحشاء والمنكر، فإن الشيطان لا يأمر إِلا بهما، ولا يحض إلا عليهما، ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته في وسوسته، فكيف اتبعتموه في نشر الإفك، وما هو إِلا كاذب أثيم؟ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: ولولا تفضل الله عليكم ورحمته بكم، إِذْ أمهلكم حتى تثوبوا في رشدكم وتتوبوا من ذنبكم بعد ما أنزله إليكم من الآيات البينات الناطقة بطهر ابنة الصديق الكريم زَوْجِ النبي الأمين، وأم المؤمنين - لولا هذا الفضل والرحمة - ما طهر أَحد منكم أَبدًا من ذنب هذا الإفك المبين، ولكن الله يزكى ويطهر من يشاءُ ممن حسنت توبته، وصفت سريرته، والله عظيم السمع لما يقال من الذنوب والتوبة منها، محيط العلم بالمذنبين والتائبين - مخلصين أو غير مخلصين - فيجازى كلا على حسب حاله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). وهذه الآية وإن نزلت بسبب خاص، فهى قاعدة عامة تقتضى وجوب الابتعاد عن المنكرات، فإنها ترضى الشيطان وتغضب الرحمن الذي يعلم السر وأخفى، وتقتضى العقاب لمن لم يتدارك ذنبه ويستغفر ربه. ¬

_ (¬1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8

22 - {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: قال الألوسى في سبب نزول الآية: صح عن عائشة وغيرها "أن أبا بكر - رضى الله عنه - حلف - لما رأى براءَة ابنته - ألا ينفق على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا، وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا، وكان ابن خالته - وقيل: ابن أخته - فنزلت الآية. وقال القرطبى: رُوِىَ في الصحيح: (أن الله تبارك وتعالى لما أَنزل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات العشر، قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره -: والله لا أُنفق علِيه شيئًا أَبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقال أبوبكر: والله إنِّى لأُحبُّ أن يغفر الله لى، فأرجع إلى مِسطح النفقةَ التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدًا). ويروى عن ابن عباس والضحاك: أن جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر - رضى الله عنه - قطعوا منافعهم عمن قال في الإفك، وقالوا: والله ما نَصِل مَن تكلم فيه، فنزلت الآية. ومعنى الآية: ولا يحلف أصحاب الفضل في الدين والسعة في المال، كراهة أن يعطوا أصحاب القرابة والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيل الله الذين اشتركوا في نشر الإفك، وليعفوا وليصفحوا عما فرط منهم، أَلا تحبون أيها الحالفون الكرام أَن يغفر الله لكم بسبب عفوكم وإحسانكم إِلى من أساء إليكم (¬1)، والله واسع المغفرة والرحمة، مع كمال قدرته على المؤاخذة، وكثرة ذنوب العباد الداعية إِليها. وإذا كان سبب النزول حلف أَبي بكر بالنسبة لمسطح فالجمع في قوله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوالْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} وقوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} لقصد تعميم الحكم في كل من يعفو عمن أساءَ إليه ويعطيه بعد أن حلف على حرمانه، أما إن كان سبب النزول عامًا كما سبق عن ¬

_ (¬1) ويصح أن يكون قوله تعالى: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" لتمثيل وإقامة الحجة، أي: كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم: ذكره القر

ابن عباس فالجمع ظاهر، والآية تدل على فضل الصديق سواءٌ نزلت فيه وحده أو مع غيره، كما تدل على أَن القذف وإِن كان من الكبائر، فإنه لا يحبط العمل، لأن الله وصف مسطحا بعد أن قال في عائشة ما قال - وصفه بأَنه من المهاجرين - أَي: من الذين حصلوا على شرف الهجرة وعظيم ثوابها، إِذ لا يحْبِط العملَ إِلا الكفرُ، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. كما يستنبط منها أَن من حلف على عدم فعل شيءٍ، ثم رأى أَن فعله أَولى فليفعل الذي هو خير، ولكن عليه أَن يكفر عن يمينه؛ لقوله تعالى في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ .. } الآية (89). {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)} المفردات: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ}: العفيفات الغافلات عما يقال في شأن أَعراضهن زورًا ولا علم لهن به. {دِينَهُمُ الْحَقَّ}: من معانى الدين في اللغة الجزاء: أي: جزاءهم الثابت الموافق لذنبهم. {هُوَ الْحَقُّ}: هو الثابت الذي لا يعتريه شك: {الْمُبِينُ}: البيِّن الظاهر بآياته - من أَبان: بمعنى ظهر واتضح - أَو المظهر للناس تمام قدرته على ثوابهم وعقابهم في هذا اليوم، من أَبان الشيء، أَي: أَظهره وأَوضحه.

التفسير 23 - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: تضمنت هذه الآية وعيد القاذفين للمحصنات الغافلات المؤمنات باللعن في الدنيا والآخرة، وبالعذاب العظيم. واختلف في المراد: بهذا الوعيد، فقيل: هم القاذفون لعائشة رضى الله عنها -، مراعاة للسياق وبهذا أخذ ابن عباس وابن جبير، والجمع في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} باعتبار أَن رميها رميٌّ لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراكهن في الطهر والنقاء والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونظيره جمع المرسلين في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}. مع أنهم كذبوا هودًا وحده. وقال المحققون: هم الذين يقذفون أمهات المؤمنين، فلا يختص بهذا الحكم من رمى عائشة وحدها، بل يعمه ومن رمى غيرها من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - حفاظًا على كرامة البيت النبوى الشريف. وبهذا الرأى قال ابن عباس في رواية أُخرى، فقد أخرج ابن جرير والطبرانى بسندهما عنه أَنه قرأَ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية قال: هذه عائشة وأمهات المؤمنين، وهذا هو الراجح وبه نقول: ولم يَجْعَلْ ابن عباس لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى غيرهن من المحصنات التوبة، وقرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} إِلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية. والذى يظهر - والله أَعلم - أَن الله تعالى يقبل توبة من تاب منهم لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولأنه قد تاب مسطح وحمنة وحسان واعتذروا وقبل الرسول اعتذارهم ولم يعاملهم معاملة المرتدين، بل أَقام عليهم حد القذف، تطبيقًا لحكم الله في القاذفين، ودعا القرآن الصّديق أن يعيد النفقة لمسطح وأَطلق عليه لقب المهاجر، وهو تشريف لا يناله إلا مؤمن قبل الله توبته. فإن قيل: إِن وعيد القاذفين بأَنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يؤذن بكفر القاذفين، فإن مثل هذا الوعيد لا يكون إلا للكافرين: فالجواب عليه من وج

(أَحدها) أن هذا الوعيد محمول على من يقذفهن بعد نزول آيات البراءة لأزواجه - صلى الله عليه وسلم - لأنه حينئذ يكون مكذّبًا لله، ومن كذب الله فهو كافر ملعون وله عذاب عظيم. (ثانيها) أَنه مقصود به من ظل مستبيحا للطعن كابن أُبيٍّ وشركائه من المنافقين الذين تظاهروا بالتوبة، وقد روى عن ابن عباس تخصيص وعيد الآية بابن أُبي رأس النفاق ومبْتدع الإفك. (ثالثها) أَن هذا الوعيد مشروط بعدم التوبة، ولم يذكر هذا الشرط، لأنه معلوم بالضرورة أَن من تاب، تاب الله عليه، وهو الراجح لما تقدم بيانه. وقيل: إِن الآية نزلت في مشركى مكة، فقد كانت المرأَة المسلمة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها، وقالوا عنها: خرجَتْ لتفجر - حكاه صاحب البحر عن أَبي حمزة اليمانى وأُيِّد بقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإن شهادة الأعضاء تكون على الكفار لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ ... } (¬1) الآيات الثلاثة. وإذا كان القاذفون من المسلمين، فالمقصود من لعنهم في الدنيا - كما قال القرطبى -: إبعادهم وضربهم الحد، واستيحاش المؤمنين منهم، وهجرهم وإنزالهم عن رتبة العدالة، والإِمساك عن حسن الثناء عليهم. وأَما على قول من قال: إن الآية نزلت في مشركى مكة، فالمراد من لعنهم: طردهم عن رحمة الله ولهم في الآخرة عذاب عظيم، ما لم يُسْلِموا فإن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. والمعنى الإجمالى للآية على الوجه الراجح، إِن الذين يرمون بالفاحشة أَزواج النبي المؤمنات العفيفات عما يفترى عليهن، الغافلات عما ينشره الآفكون حولهن منْ قَالة السوء، ولا علم لهن بما يفترون - إِن هؤُلاءِ القاذفين - يلعنون في الدنيا حيث يقاطعهم المجتمع ويبعدهم عن حظيرته، ويقيم القاضى عليهم حد القذف، وترد شهادتهم ويوصمون بوصمة الفسق، ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآيات: 19 - 21

كما يطردون في الآخرة من رحمة الله، ولهم فيها عذاب عظيم لا يقادر قدره، إلا من تاب وعمل صالحًا فإنه يرد إليه اعتباره فتقبل شهادته بعد إقامة الحد عليه، ويغفر الله له عثرات لسانه، أما على أن الآية نزلت في مشركى مكة فمعناها واضح. 24 - {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: المقصود من شهادة هذه الجوارح عليهم: أن الله تعالى ينْطِقُ كل جارحة بما صدر عنها، لكبح إنكارهم وقطع أَعذارهم، وهذه الآية مرتبطة بالآية التي قبلها. والمعنى: والذين يرمون المحصنات لهم عذاب عظيم، في يوم تشهد عيهم ألسنتهم بما افترته من الأكاذيب، ورددته من الفحش، وتشهد عليهم أيديهم بما جنته من التشهير بالإشارات وتشهد عليهم أَرجلهم بما سعت إِليه من نقل المفتريات، فينطقها الله الذي أنطق كل شيء، وتغْلَق دونهم منافذ الإنكار، ومقتريات الأعذار في يوم تشخص فيه الأبصار: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬1). والآية وإِن نزلت بخصوص واقعة القذف، فالحكم فيها عام يتناول جميع ما يكتسب بهذه الجوارح من المعاصي. 25 - {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬2): أي: يومئِذ تشهد عليهم جوارحهم، يوفيهم الله جزاءهم الحق المناسب لما كسبوه من السيئات، ويعلمون مما يشاهدونه من عدالة الله وقدرته وعظمته التي تتجلى في أحوال القيامة وأَهوالها - يعلمون أن الله هو الإله الحق الذي لا ريب فيه، الظاهر الذي لا خفاء في أُلوهيته وعدالته وقدرته، أو المظهر لأهل الحق حقوقهم، ولأهل الباطل أَباطيلهم، المجازى لكليهما بما كسبه في دنياه. ¬

_ (¬1) سورة غافر الآية: 52 (¬2) اسم فاعل من أبان، ويكون لازمًا بمعنى ظهر، ومتعديا بمعنى أظهر، كما يتضح من تفسيرنا للآية.

{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} المفردات: {الْخَبِيثَاتُ}: ضد الطيبات، {الْخَبِيثُونَ}: ضد الطيبين. والْخبْثُ: الرداءة. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: وثواب سَخِىُّ، وهو الجنة. كما قاله أكثر المفسرين. التفسير 26 - {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ. . .} الآية. هذا كلام مستأنف مبنى على سنة الله الجارية بين الخلق، من أَن شبيه الشيء منجذب إِليه، وفي هذا المعنى يقول القائل: إن الطيور على أشباهها تقع. . . والآية مرتبطة بما قاله الآفكون في شأن عائشة - رضى الله عنها -. والمعنى: ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنها طيبة فإِنه أطيب من كل طيب من البشر؛ فلا يليق به سوى الطيبات , ولوكانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرًا، ولا حسب سنة الله في خلقه، فإِنه جعل الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، والخبيثات للخبيثين والخبيثين للخبيثات. وقال ابن عباس في تفسيرها ما معناه: الخبيثات من الأَقاويل للخبيثين من الرجال، فلا توجه إلى غيرهم، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الأقاويل. فهم جديرون بها، والطيبات من الأحاديث للطيبيين من الرجال، فهى حق لهم , والطيبون من الرجال للطيبات

من الأحاديث فلا يعدل بها عنهم - واختاره ابن جرير، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أَولى بالطيبين منهم , فما نسبه أَهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءِة والنزاهة منهم، ولهذا قال: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (¬1) ولهذا ختم الله الآية بما هونتيجة لهذه المقدمة فقال: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: أي أَن أهل هذا البيت الكريم بعَدَاءُ عما يقوله أَهل الإفك والعدوان لهم، بسبب ما قيل فيهم من الإفك مغفرة عظيمة لما لا يخلوعنه البشر من الهفوات أَولما يعد بالنسبة إليهم هفوات، وإن كان بالنسبة لغيرهم مكرمات، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولهم بسبب ذلك رزق عظيم في جنة الرحمن الرحيم. وبعد، فإن نزول هذه الآيات العظيمة في تبرئة أُم المؤمنين عائشة، فيه مزيد اعتناءٍ بشرف الرسول وكرامته على الله، وجبر لقب صاحبه أبي بكر الصديق - رضى الله عنه - وكذا قلب زوجته أُم رومان، فقد اعتراها من حديث الإفك هَمٌّ جسيم، كما أن فيه تكريما لعائشة - رضى الله عنها - لمزيد انقطاعها إلى الله - عز وجل - ولجوئها إليه في محنتها. ¬

_ (¬1) انظر ابن كثير.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)} المفردات: {تَسْتَأْنِسُوا}: تطلبوا أُنس أَهل البيت باستئذانِكم إياهم في دخوله، حتى لا تحدث لهم وحشة ورعب بدخولكم عليهم دون استئذان. {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}: هوأطهر لكم - من الزكاة , بمعنى: الطهارة - أوأنفع لدينكم ودنياكم - من الزكاة بمعنى النمو - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}: ليس عليكم حرج. {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}: أَي فيها حق استمتاع بها لكم، وسيأْتى شرحه. {تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}: ما تظهرون وما تخفون. التفسير 27 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: لا يزال الحديث ممتدًا في تأديب الله لعباده نحوحرمانهم، فقد أَنزل هذه الآية وما بعدها ليعلمهم أَن للبيوت حرمات لا يحل انتهاكها بدخولها دون استئذان، وسبب نزولها: ما رواه

الطبرانى وغيره عن عدى بن ثابت: أَن امرأَة من الأَنصار قالت: يا رسول الله، إني أَكون في بيتى على حال لا أُحب أن يرانى عليها أَحد، لا والد ولا ولد، فيأْتى الأب فيدخل علىّ وإِنه لا يزال يدخل علىّ رجل من أَهلى وأَنا على تلك الحال، فكيف أَصنع؟ فنزلت الآية، فقال أَبو بكر: يا رسول الله، أَفرأيت الخاناتِ والمساكنَ في طرق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ... } (¬1) الآية. وقال مقاتل بن حَيَّان: كان الرجل في الجاهلية إذا لقى صاحبه لا يسلم عليه، ويقول: حيّيت صباحا، وحييت مساءً، وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أَحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأْذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت، فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغير الله ذلك كله في سَتْرٍ وعفة، وجعله نقيا نَزهًا من الدنس والقذر والدرن، فأنزل الله هذه الآية (¬2): اهـ. فأَنت ترى أَنه تعالى نهىَ فيها عباده عن دخول بيوت غيرهم حتى يستأْنسوا ويسلموا على أَهلها، والمراد من الاستئناس هنا: الاستئذان، وبه قرأَ عبد الله بن عباس وسعيد ابن جبير، وقد فسره به الجمهور، وأَصل الاستئناس: طلب الأنس الذي هوضد الوحشة ولما كان المستأْذن يريد باستئذانه أَن يأْنس به أَهل البيت ولا يستوحشوا منه فيأْذنوا له، عبر عن استئذانه بالاستئناس على سبيل المجاز. وفسره بعضهم بالاستعلام، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَي: فإن علمتم، والواقع أَن التفسيرين متقاربان، فإن الاستئذان مع ما فيه من طلب الإِذن فيه طلب العلم بوجود أَهل البيت وبرضاهم عن دخوله. وقد تضمنت الآية أَن يقرن المستأْذن السلام باستئذانه، وظاهر النص تقديم الاستئذان على السلام، ولكن الأَولى العكس حسبما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والواولمطلق الجمع، فلا تقتضى الترتيب، وصورتهما: أَن يقول المستأذن: السلام عليكم، ¬

_ (¬1) انظره في تفسير القرطبي لهذه الآية. (¬2) انظر ابن كثير ج 6 ص 42 ط الشعب.

أأدخل؟ فقد أخرج أَبو داود عن رِبْعِى قال: (حدثنا رجل من بنى عامر استأذَنَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت فقال: ألِج؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه: "أخرج فعلمه الاستئذان فقل له: قل: السلام عليكم أأَدخل؟ " فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم، أَأدخل؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل). ومن العلماء من قال بتقديم الاستئذان، فإذا أُذن له فدخل سلم، وهذا الرأى، يوافق ظاهر الآية ويخالف ما رواه أَبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم قبل هذا، وهوأحق بالاتباع. ويسن الاستئذان إلى ثلاث مرات إن لم يؤذن له بعد الأولى والثاني، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف، فقد جاءَ في الصحيح أن أَبا موسى الأشعرى حين استأْذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ - يعنى أبا موسى - ائذنوا له، فطلبوه , فوجدوه قد ذهب، فلما جاءَ بعد ذلك قال: ما رَجَعَكَ؟ قال: إِنى استأْذنت ثلاثًا فلم يؤذن لى، وإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف ... " الحديث. وقد كانت البيوت من غير أبواب ولم يتخذ لها الستور، فكانت السنة أن يقف المستأذن بجانب المدخل يمينًا أويسارًا ولا يستقبله، روى أَبو داود عن عبد الله بن بسْر قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا أَتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاءِ وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أَو الأَيسر فيقول: "السلام عليكم" وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور) (¬1). فإن قيل: ما الحكم بعد أَن استحدث الناس الأبواب، وسكنوا في الطوابق، واستحدثوا أَجراسًا على أبوابهم؟ فالجواب: أَن الاستئذان يكون في هذه الحالة إما بدق الباب أوبقرع الأجراس، فقد صح عن أَبي موسى الأشعرى (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في حائط بالمدينة على قفِّ بئر، فمد رجليه في البئر فدق البابَ أَبو بكر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائذن له وبشره بالجنة") والحائط: البستان، وقفُّ البئر: الدكة المرتفعة التي تجعل حولها. ¬

_ (¬1) القرطبى ج 12 ص 216 - المسألة السا

وينبغى أن يكون الدق خفيفًا غير مزعج، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كانت أبواب النبي - صلى الله عليه وسلم - تقْرَع بالأظافر) رواه الخطيب في جامعه (¬1). وكما يشرع الاستئذان للرجال يشرع للنساءِ، فقد يكون أَهل البيت على حال لا يحسن أَن يطلع هؤلاءِ النساءُ عليها، فالخطاب في الآية للذكور على وجه التغليب لا التخصيص، فإِن النساء شقائق الرجال في الأحكام إِلا ما خص كلا منهم كأحكام الحيض والنفاس للنساء، ومضاعفة الميراث للرجال، ويؤيد العموم ما أخرجه الطبرانى عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يشهد أنى رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأْذن ويسلم، فإِذا نظر في قعر البيت فقد دخل" (¬2) أَي: فإذا نظر في داخل البيت قبل أَن يؤذن له، فكأنما دخل قبل الاستئذان، وذلك لا يحل له، فأنت ترى أن الحديث جاءَ بصيغة العموم التي تعم الرجال والنساء. فإذا استأذنت فقيل لك: من الطارق مثلا؟ فيكره أن تجيبه بقولك: أنا، فقد روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: (استأْذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: "أنا, أنا" كأنه كره ذلك) وربما ترجع كراهة النبي لذلك، إلى أَن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب، فإن لفظ (أَنا) لا تحصل به المعرفة، وربما أوهم غرورَ المجيب بنفسه، فكأنه يرى أَنه الشخص الذي لا يجهله أَحد، فيكفى أن يقول عن نفسه: (أَنا) ليعرف. وثبت أَن عمر بن الخطاب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مشربة له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أَيدخل عمر؟، وفي صحيح مسلم، أَن أَبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: (السلام عليكم، هذا أَبوموسى، السلام عليكم هذا الأشعرى. . .) الحديث. وهذه الأحكام إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك فلا تستأْذن فيه على أهلك، ولكن تسلم عليها إذا دخلت فإن كان معها أُمك أَوأُختك فاستأذن؟ فقد تكونان - على حالة ¬

_ (¬1) انظر المسألة التاسعة من القرطبى. (¬2) الآلوسى ج 18 ص 122 طبعة منير.

لا تحب أَن تراهما فيها، روى عطاءُ بن يسار أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أَستاذن على أمى؟ قال: "نعم" قال: إني أخدمها، قال: "استأْذن عليها" فعاوَدَها ثلاثًا، فقال: "أتحب أن تراها عريانة؟ " قال: لا. قال: "فاستأْذن عليها" ذكره الطبرى (¬1). والمعنى الإجمالى للآية: يا أَيها الذين آمنوا ذكورًا وإناثا - لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم، حتى تستأْذنوا منْ له حق الإذن من أهلها في الدخول عليهم وتسلموا عليهم تحية لهم، ذلكم الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بغتة، لما فيه من الاطلاع على عورات إخوانكم وإزعاجهم، وخير لكم من تحية الجاهلية إذ كانوا يقولون: حييتم صباحا وحييتم مساء، وقد أُرشِدتم إِلى ذلك لعلكم تتذكرون وتتعظون فتعملوا بما شرع لكم. 28 - {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}: أثبتت الآية السابقة حكم البيوت المسكونة، فنهت عن دخولها من غير إذن أهلها، وجاءت هذه الآية لتبَيِّنَ حكم دخول البيوت الخالية التي يملكها سواكم. والمعنى: فإن لم تجدوا في البيوت التي يملكها سواكم أحدًا من أهلها فلا تدخلوها، سواءٌ أكان الباب مغلقًا أم مفتوحًا، لأن الله أغلقه بالتحريم (¬2)، حتى يأتى من أهلها من له حق الإذن، فتستأْذنوه فيأْذن لكم، ولا عبرة بإذن خادم ولا صبى كما يقول به بعض الأئمة، لأن مثلهما لا إِذن له (¬3)، وإن قيل لكم من جهة أهل البيت: ارجعوا ولوبعد الإذن لكم بالدخول (¬4)، فارجعوا ولا تدخلوا ولا تلحوا سواءٌ أكان الآمر بالرجوع يملك الإذن بالدخول أَم لا (¬5) ومثله في حكم وجوب الرجوع الإمساك عن الإجابة، أوالاعتذار بعدم ¬

_ (¬1) انظره في القرطبى - المسألة السادسة عشرة: فقد نقله عن الطبرى. (¬2) انظر القرطبى في المسألة الثانية في تفسير هذه الآية. (¬3) ذكره الآلوسى، وذكر القرطبى أن الإذن يصح من الصغير والكبير من أهل البيت، انظره في المسألة الثالثة الآية السابقة , ونحن نرجح ما نقله الآلوسى، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وسوء النية فلا يصلح للإذن فيه سوى الرجال من أهل البيت. (¬4) انظره في ابن كثير. (¬5) انظره في الآل

وجود من يلقاه أويجالسه من الرجال أَونحوذلك، والرجوع عن الدخول في هذه الأحوال وأمثالها واجب، سواءٌ أكان في البيت أَهله أَم لا، كما أدعى إلى الطهر والنزاهة ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}: أَي أطهر لكم لما فيه من السلامة من القيل والقال والتصرف في ملك غيركم إن دخلتموه دون رضاه، والدناءة والخسة إن بقيتم بالباب تَلِجُّون وتلحون، وإنما يتوقف الدخول على الإِذن ما لم يكن هناك داع شرعى كِإزالة منكر توقفت إزالته على الدخول بغير إذن، وإطفاء حريق فيجوز رعاية لشريعة الله (¬1)، ثم ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}: لِوعْدِ من امتثل أمره ووعيد من عصاه، أي: أَنه تعالى يعلم ما تفعلون وما تتركون مما كلفكم به، ويعلم ما انطوت عليه قلوبكم من الأَغراض الشريفة أَو الخسيسة حين استئذانكم، فيحاسبكم ويجزيكم على أَعمالكم ونِياتِكم، إِن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر. 29 - {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}: يبيح الله في هذه الآية دخول بيوتٍ غير مسكونة بغير استئذان، إذا كانت لها صفة العموم، وتعتبر هذه الآية مخصصة لعموم ما قبلها. والمراد من هذه البيوت: ما لم يجعل لسكنى طائفة خاصة، بل جعل ليتمتع بها من كان بحاجة إليه كالحانات والحمامات العامة، ومنازل المسافرين العامة، وحوانيت التجار ونحوها، والمراد بالمتاع: المنفعة. فَعَنْ محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة، قال مجاهد: لا يسكنها أحد، بل هي موقوفة ليأوى إليها كل ابن سبيل وفيها متاع لهم، أي: استمتاع بمنفعتها، وقال ابن زيد والشعبى: هي حوانيت القيساريات، قال الشعبى: لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس: هَلموا، وقال جابر بن زيد: ليس يعنى بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، أَما منزل ينزله قوم من ليل أونهار، أوخَرِبَة يدخلها لقضاء الحاجة، فهذا متاع وكل منافع الدنيا ضاع، واستحسنه أبوجعفر ¬

_ (¬1) انظره في الآلوسى في شرحه لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُ

النحاس، وقال: المتاع في كلام العرب: المنفعة , ومنه: أمتع الله بك , ومنه: {فَمَتِّعُوهُنَّ} (¬1). ويدل على صحة هذه الآراء ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أَنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ... } الآية. قال أبو بكر - رضي الله عنه - يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك، فأنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية (¬2). فالمراد بتلك البيوت غير المسكونة: ما فيها انتفاع عام، ويدخل فيها دور العلم المباحة، أَما إذا كانت لها قيود أَوبأجر، فلابد من الاستئذان عليها والتزام شروطها، وكذلك الفنادق التي يسكنها المسافرون بأَجر فلا يدخلها أَحد بغير استئذان والتزام بحدودها، ومثلها الحمامات الخاصة ونحوها. وخلاصة معنى الآية: ليس عليكم - أَيها المؤمنون - حرج ولا إثم، في أَن تدخلوا بغير استئذان بيوتًا غير مسكونة فيها متاع - أَي منفعة - لكم بدخولكم فيها، كالدور الموقوفة على أبناء السبيل، ومنازل المسافرين العامة المقامة على الطريق ليستريح فيها المسافرون، ودور العلم العامة التي لم يجعل لها شروط تمنع أحدًا من حضورها، والبيت المعد لنزول أي ضيف، وحوانيت التجار، والمراحيض العامة والْخَربات لقضاء الحاجة - ليس عليكم جناح - أن تدخلوا هذه وأَمثالها دون استئذان، لأن لكم حق التمتع - أي الانتفاع - بها، والله يعلم ما تظهرون وما تخفون من أعمال ونيات، فيحاسب كل من دخل هذه البيوت المأذون بدخولها بلا استئذان - يحاسبه ويجازيه - على عمله ونيته، فإذا كان دخوله إياها لراحة نفسه أوقضاءِ مصلحة شرعية له أولغيره فله ثوابه وإن كان للفساد والإفساد، فعليه عقابه. ¬

_ (¬1) انظر القرطبى في المسألة الثانية في تفسير الآية. (¬2) انظر الحديث في تفسير الآلوسى للآية.

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)} المفردات: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}: يخْفضوها كَفًّا لها عن النظر إِلى منْ يحرم النظر إِليهن، وكل شيءٍ غضضته فقد كففته، وفعله من باب رد يردُّ. {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}: يمنعوها عن الزنى واللواط. {أَزْكَى لَهُمْ}: أطهر لهم. {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: ولا يظهر من الزينة إلا ما ظهر منها عادة كالخاتم، وللكلام بقية في التفسير. {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: الخُمُرُ؛ جمع خمار وهو ما تلقيه المرأَة على رأسها من الثياب لسترها، وهو من الخمر، بمعنى الستر، والجيوب، جمع الجيب، وهوفتحة في أعلى القميص يبدومنها بعض الجسم، وأَصله: من الجيب أوالجوب، بمعنى القطع، وفي الصحاح تقول:

جبت القميص أَجيبه وأَجوبه إذا قَوَّرت جيبه، وضربهن بالخمر على الجيوب إلقاؤهن إياها على الصدور لسترها مع الأعناق. {بُعُولَتِهِنَّ}: أزواجهن. {نِسَائِهِنَّ}: أي النساءِ الحرائر المؤمنات المختصات بهن كصاحبة وخادمة. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}: من الإماء دون العبيد. {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}: أَي الذين يتبعون البيوت ليصيبوا من فضل الطعام، ممن ليس لهم حاجة إلى النساء من الشيوخ الطاعنين في السن. {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}: أَو الأطفال الذين لم يميزوا بين عورات النساء وغيرها، ولا يدرون ما هي العورة، وللكلام بقية في التفسير. {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}: ولا يضرب المؤمنات الأرض بأَرجلهن لإعلام الرجال ما يخفين من زينتهن حين يسمعون صوت الخلاخيل بسبب ضربهن الأرض. التفسير 30 - {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا (¬1) مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}: شرع الله في الآيات السابقة وجوب الاستئذان على البيوت توفيرًا لحرمات أهلها، وسترًا لعوراتهم عمن يدخلونها فجأة، وجاء بهذه الآية والتى بعدها تتميما لما قبلها من الآداب التي تحمى الأعراض، وتحفظ في المؤمنين والمؤمنات مكارم الأخلاق، فقد أَمر الله فيهما بغض البصر عن المحرمات، وعدم إِبداء الزينة لغير من يحل إبداؤها له، إلى غير ذلك من الآداب والأحكام التي سنبينها. والبصر: هوالباب الموصل إلى القلب، وأشد الحواس تنبيها له، وعن طريقه غالبًا يكثر السقوط والانغماس في أَوحال الفتنة، فهوبريد الزنى ورائد الفجور، قال الشاعر: كل الحوادث مَبداهَا من النظر ... ومعظَم النار من مستصغر الشرر كم نظرةٍ فعلت في قلب صاحبها ... فِعلَ السهام بلا قوس ولا وَتَر ¬

_ (¬1) يغضوا: مجزوم في جواب الأمر: وهولفظ (قل) لتضمنه معنى الشرط، كأنه قيل: إن تقل لهم غضوا يغضوا.

فلهذا عُنِىَ الشرع بإيجاب غض البصر وكفِّه عن المحرمات، والتحذير من الفتنة عن طريقه، كما جاء في هاتين الآيتين، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بدٌّ إِنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إِلا المجالس فأَعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غضُّ البصر وكفُّ الأَذى وردُّ السلام , وأَمرٌ بالمعروف ونهىٌ عن المنكر" أَخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدرى، واللفظ للبخارى (¬1). والأمر فيها موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لإِيذانه بمتابعته لهم في هذا الشأن وهيمنته عليهم فيه حتى يكفوا عما اعتادوه في الجاهلية من نظر الرجال إلى النساءِ والنساءِ إِلى الرجال. هذا، وقد قيل: إن سبب نزول الآية: ما أَخرجه ابن مردويه بسنده عن على بن أبي طالب قال: مر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأَة، ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أَنه لم ينظر أَحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشى إلى جنب حائط وهوينظر إِليها، إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أَغسل الدمَ حتى آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأخبرَه أَمرى، فأَتاه فقص عليه قصته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} انظر الآلوسى. وغض البصر: خفضه كَفًّا له عن النظر، ولفظ (مِنْ) في قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إِما لابتداءِ الغاية - كما قال ابن عطية - وإما أن تكون للتبعيض، فلمراد: غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل (¬2) كالنظر إلى الزوجة والمحرم، ويجب أن يتجرد نظره إِلى المحرم عن الشهوة , بل لقد كره الشعبى أَن يديم الرجل النظر إِلى ابنته أَوأمه أوأخته , ¬

_ (¬1) كتاب المظالم، باب: أفنية الدور والجلوس على الصعدات. (¬2) فجعل الغض عن بعض المبصرات غضا لبعض البصر، على سبيل الكناية، وهي كناية حسنة كما في الكشف.

وزمانه خير من زماننا (¬1)، فإذا نظر إليها بشهوة فإثمه شديد وعقابه عنيف، نسأل الله العصمة لعباده المؤمنين. ونقل كثير عن السلف أَنهم كانوا ينهون أَن يحد الرجل النظر إِلى الأمرد، وشدد كثير من أَئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أَهل العلم، لما فيه من الافتتان. أما نظرة الفجاءَة إِلى الأجنبية فلا إِثم فيها، فقد أخرج أَبو داود وغيره عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأُولى وليست لك الآخرة". والمراد بحفظ الفروج أَمران، أَحدهما: حمايتها من الزنى واللواط، وثانيهما: سترها عمن لا يحل له النظر إليها من الأجانب والأقارب، إِلا في حالات جراحتها أَوعلاجها أَو الكشف عن مرضها، فأنه يجوز كشفها للطبيب الأمين (¬2) عند الضرورة. أَما الزوجة والأمة فلا يدخلان في الأمر بحفظ فرج الرجل عنهما، روى بَهْز بن حكيم ابن معاوية القشيرى عن أَبيه عن جده قال: (قلت يا رسول الله: عوراتنا؛ ما نأْتى منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك" ثم سأله عن الرجل يكون خاليًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الله أحق أَن يستحيا منه من الناس") نقله القرطبى ثم قال في المسألة الخامسة ما خلاصته: أَن العلماءَ حرموا دخول الحمام على الرجال بغير مئزر، أَخْذًا من نص الآية، فإن دخلوها بمئزر جاز، وقد دخل ابن عباس الحمام بإزاره وهومُحْرِمٌ بالجحفة، أَما دخول النساءِ فأجازه بعض العلماءِ لضرورة العلاج ونحوه، مع الاستتار بنحومئزر، أما لغير ذلك فلا، فقد أَخرج ابن منيع بسنده عن سهل بن معاذ عن أَبيه عن أم الدرداء أَنه سمعها تقول: (لقينى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرجت من الحمام، فقال: "من أين يا أُم الدرداء؟ " فقالت: من الحمام، فقال: "والذى نفسى بيده ما من امرأَة تضع ثيابها في غير بيت أَحد من أمهاتها، إلا وهي هاتكة كل ¬

_ (¬1) انظر القرطبى. (¬2) ويشترط حضور من يمنع حضوره الخلوة إذا كان المريض امرأة، كالزوج والأب.

ستر بينها وبين الرحمن عز وجل" وأخرج البزار عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احذروا بيتًا يقال له الحمام" قالوا يا رسول الله يَنْفِى الوسخ، قال: "فاستتروا" وهذا أصح حديث في الباب، فإن دخله مستترا فعليه أَن يحقق عشرة شروط، منها: أن يكون بنية التداوى أوالنظافة، وأَن يستتر بإِزار صَفِيق، وأن يغير ما يراه من منكر برفق - إِلى آخر ما ذكره القرطبى فارجع إليه إِن شئت. والمعنى الإِجمالى للآية: قل - أيها الرسول - للمؤمنين: يخفضوا من أبصارهم كفا لها عن رؤْية ما لا تحل رؤيته من النساءِ والرجال، ويحفظوا فروجهم بمنعها عن الزنى، وسترها عن غير زوجاتهم وإمائهم، ذلك الغض للبصر وحفظ الفرج أطهر لهم في الدين، وأَبعد عن دنس الإِثم، إن الله عليم بما يصنعون من امتثال أمره أَوعصيانه، فيجازى كلا على ما كسب، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. 31 - {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... .... } الآية. أَمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أَن يبلغ النساء المؤمنات، أَنهن مكلفات بغَضِّ أَبصارهن وحفظ فروجهن، مع أَنهن داخلات في حكم الآية السابقة للتأْكيد، فإن قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} يعم حكمه الذكور والإِناث حسب كل خطاب في القرآن، فإِن النساء شقائق الرجال في الأَحكام إلا ما خص كلا منهم بدليل أَوقرينة. وقد فهم من الآيتين أَنه كما يحرم نظر الرجال إلى النساءِ غير المحارم، يحرم نظرهن إليهم كذلك، أخرج أَبو داود والترمذى بسندهما عن أم سلمة (أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة؛ قالت: فبينما نحن عنده أَقبل ابن أَم مكتوم فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبا منه" فقلت: يا رسول الله، أَليس هوأعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَ عمياوان أنتما؟ أَلستما تبصرانه؟ " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬1) ومنه عرف ¬

_ (¬1) انظره في ابن كثير

أن نظر المرأة ولولرجل أعمى حرام، وكما يحرم على الرجل أن ينظر من المرأَة الأجنبية سوى وجهها وكفيها (¬1)، يحرم على المرأة أن ترى منه سوى وجهه وكفيه، وكما يجب على الولى منع الفتى المراهق من نظر المراة الأجنبية سوى وجهها وكفيها، يجب على ولى الفتاة المراهقة أن يمنعها من نظر ما عداهما من الرجل الأجنبى ولومراهقًا (¬2). وفهم من الآية أَيضًا أَنه يجب على المرأَة حفظ فرجها من الزنى والسحاق، وستره عن غير زوجها وسيدها إن كانت أَمة، ما لم تكن محرمة عليه لنحوزواج، فلا يحل لها أَن تبديه لسيدها، وكما يحرم عليها إظهاره للعين مباشرة يحرم إِظفاره بالثوب الشفاف أوالضيق، أَوبالحديث عنه، فكل ذلك حرام، لما يترتب عليه من إثارة الشهوة والفتنة. وفهم من الآية أَيضًا أنه يحرم على المرأَة أَن تبدى من زينتها إلا ما ظهر منها (¬3)، والمراد منه: الوجه والكفان، ودليل ذلك ما أخرجه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - (أَن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق، فأَعرض عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لها: "يا أَسماءُ إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أَن يرى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه) وبهذا النص أخذ محققوالشافعية (¬4) قال القرطبى: وهذا أقوى في جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس، فلا تبدى المرأَة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، ونقل عن ابن خوَيْزِ مَنْدَاد من علماءِ المالكية: أن المرأَة إِذا كانت جميلة وخيف من رؤية وجهها وكفيها الفتنة، فعليها سترهما، وإن كانت عجوزًا أومقبحة جاز أَن تكشف وجهها وكفيها. وقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هوالثياب، وقال سعيد بن جبير وعطاء والأوزاعى: الوجه والكفان والثياب (¬5). ¬

_ (¬1) وهورأى المحققين من الشافعية، وسياق تفصيل آراء المذاهب فيما يحل إظهاره من المرأة، والله الموفق. (¬2) المراهق: من قارب بلوغ الحلم من الذكور والإناث. (¬3) وذلك على الأجانب كما سيأتى بيانه. (¬4) وهو الذي نقل في الروضة عن الأكثرين، وصوبه في المهمات، ومن الشافعية من قال: يحرم النظر إلى الوجه والكفين أيضا، ذكره صاحب المنهاج، ولكن الرأى الأول أحق وأيسر كما أنه متفق مع ما جاء في حديث بعائشة المذكور. (¬5) فالزينة قسمان: خلقية ومكتسبة، فالوجه والكفان ما ظهر من زينتها الخلقية، والثياب ما ظهر من زينتها المكت

وروى عن ابن عباس وقتادة والمِسْور بن مخرمة: ظاهر الزينة: هوالكحل والسوار والخضاب إِلى نصف الذراع والقِرَطَة والفَتَخ (¬1) فمباح أَن تبديه المرأَة على الناس. هكذا نقل القرطبى عنهم، ولكنه على هذا التفصيل - لوصح - يوقع في الفتنة. ولهذا فنحن نرجح الرأْى القائل بقصره على الوجه والكفين، لحديث عائشة السابق (¬2). مضموما إِليهما ما ظهر من الثياب على أن يكون فضفاضا غير شفاف، فإِنه لابد من رؤيته عند إظهار الوجه والكفين بحكم الضرورة. وقال ابن عطية: ويظهر بحكم أَلفاظ الآية، أن المرأَة مأْمورة أَن لا تبدى، وأن تجتهد في الإخفاءِ لكل ما هوزينة، ووقع الاستثناءُ لما يظهر بحكم الضرورة في إصلاح شأْن ونحوه فعفوعنه (¬3). واعلم أن ما ظهر من الزينة على ماسبق بيانه مباح إظهاره للأجانب والمحارم. وأَن ما بطن منها لا يحل إبداؤه إلا لمن ذكرهم الله في هذه الآية، على ما سيأْتي بيانه، واعلم أَن السوار من الزينة الباطنة - كما قال مجاهد، لأنها في الذراع لا في الكفين. وهوبذلك يخالف ما نقل سابقا عن ابن عباس من كونها من ظاهر الزينة، ومن الزينة الباطنة: الخلخال والدملج والقلادة والقرْط (¬4). {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}: الخمر: جمع الخمار، وهو ما تغطى به المرأَة رأسها، والجيوب: جمع الجيب , وهوكما قال الآلوسى: فتح في أَعلى القميص يبدومنه بعض الجسد (¬5). والمراد من الآية - كما روى عن أَبي حاتم عن ابن جبير -: أمرهن بستر نحورهن وصدورهن بخمرهن، لئلا يرى منها شىءٌ. ¬

_ (¬1) القرطة - بوزن عتبة - جمع: قرط؛ وهوحلية الأذن؛ والفتحة بالسكون وبفتحتين: الحاتم؛ وجمعها: فتح بفتحتين. (¬2) ولظهورهما في الصلاة والحج. (¬3) انظر المسألة الثالثة في تفسير القرطبى للآية. (¬4) انظر الآلوسى. (¬5) وفي الصحاح: تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه.

وكان النساءُ يغطين رءُوسهن بالخُمر، ويَسْدلنها (¬1) كعادة الجاهلية من وراء الظهر فتبدونحورهن وبعض صدورهن. وصح أنه لما نزلت هذه الآية، سارع نساءُ المهاجرين إلى امتثال ما فيها، فشققن مروطهن (¬2) فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل الله - تعالى - من كتابه. {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}: بعد أن أجاز الله للمرأة في صدر الآية أن تبدى للأجانب من زينتها ما يظهر منها عادة، عقبه بإجازة أَكثر منه لأنواع عيَّنَهَا فيها. وأَول هذه الأنواع: (البعولة). جمع بعل، ويطلق على الزوج، وكذا على السيد، كما قاله ابن العربى، ومنه ما جاء في حديث جبريل عن أشراط الساعة في إحدى الروايات: "إِذا ولدت الأمة بعلها" يعنى سيدها؛ لأنها إذا استولدها سيدها، فولَدها يكون سببا في عتقها بعد موت أبيه، فكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق (¬3)، فكل من الزوج والسيد يرى زينة المرأة كلها، وله الحق في أَكثر من رؤْية زينتها وهوتمام الاستمتاع بها نظرا أَوفراشا في مكان الحلِّ منها , قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}. (¬4) أما النظر إلى الفرج فقد أجازه قوم بالقياس الأولوى على الجماع، فللرجل أَن ينظر إلى فرج زوجته وأَمته، ولهما أن ينظرا إلى فرجه، ومنعه بعضهم لحديث عائشة: "ما رأَيت منه ولا رأَى منى" وحمله أصحاب القول الأول على الأدب لا على التحريم، ومن الفقهاء من أَجازه مع الكراهة، وبه قال أَكثر الشافعية (¬5)، ومن الفقهاء من قال إنه خلاف الأولى , وهومذهب الحنفية كما حكاه الخفاجى. ¬

_ (¬1) أي يريخين شعورهن، وفعله: سدل، من بابي: ضرب ونصر. (¬2) جمع: مرط، وهوكساء من صوف أوحرير كان يؤتزر به. (¬3) والحديث يشير إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتى الأولاد من الإماء، فتعتق كل أم بولدها - انظر القرطبى. (¬4) سورة المؤمنون؛ الآيتان: 5، 6. (¬5) وقليل منهم يقول بالتح

ولما بدأ الله بذكر البعولة؛ ثنى بذوى المحارم، وهم آباءُ المرأة وإن علوا وآباءُ الأزواج كذلك، وأَبناءُ المرأة وإِن سفلوا، وأبناءُ للزوج كذلك، وإِخوان المرأَة وبنوإِخوانها، وبنوأخواتها والمراد بإخوانها: إخوتها الذكور أشقاء أَولأب أولأم، ومثل ذلك بنوإِخوانها وبنوأَخَوَاتها وإِن سفلوا، فهؤلاء جميعا يجوز للمرأة أَن تبدى من زينتها لهم أَكثر مما تبديه للأجانب لكثرة المخالطة الضرورية، وقلة توقع الفتنة، فلهم أَن ينظروا من المرأَة ما يظهر منها عند المهنة - أَي الخدمة - كما ذكره الآلوسى. وقال القرطبى في المسألة الحادية عشرة: سوى الله بينهم في إبداءِ الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها، وتختلف مراتب ما يبدى لهم، فيُبدى للأب ما لا يجوز إِبداؤه لِوَلَدِ الزوج. ونحن نرى؛ أن الاحتياط والتصون في هذا الزمان أمر ضرورى، لفساد المعايير والأخلاق، فلا تبدى المرأَة من جسدها لغير زوجها وسيدها إِلا ما يظهر عند خدمتها منزلها في ثياب مرسلة، وحشمة واتزان، وبخاصة مع أبناء زوجها، فينبغى أَن يكون تحفظها معهم أكثر (¬1). ولم يرد في الآية العم , ولا الخال - مع أَنهما من المحارم - والجمهور على أنهما كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يبدومن المرأَة عند المهنة على نحوما قلناه، ولم يُذْكَرَا في الآية اكتفاءً بذكر الآباء، فإِنهما عند الناس بمنزلتهم، ولا سيما الأعمام، وقيل: لم يذكرا لأَن الأَحوط أن تستتر المرأة عنهما، حذرا من أَن يصفاها لأولادهم، فيبعثهم ذلك على رؤيتها والاختلاط بها، وليس في الآية ذكر الرضاع؛ وهو مثل النسب فيما تقدم (¬2). أَما قوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فالمراد منه: المسلمات المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائرهن، أما الكوافر فلا يظهرن لهن إلا ما يظهرنه للرجال الأجانب، وقال عبادة ¬

_ (¬1) وعند الشافعية كما ذكره ولى الدين البصير في كتابه (النهاية) الذي شرح به متن أبي شجاع: أن لهم أن يروا ما عدا ما بين السرة والركبة قياسا على ما يراه السيد من أمته المزوجة، فقد روى أبو داود وغيره: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زوج أحدكم عبده جاريته، أوأجيره فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة") ونحن لا نوافقهم على هذا القياس غير المتكافىء، فإن الأمة لا تماثل الحرة، وغير السيد لا يماثل السيد، فالحق والأحوط ما قلناه وهونظر ما يبدوعند المهنة - أي: الخدمة - دون سواه. (¬2) انظر القرطبى والآلوسى.

ابن نُسَيٍّ: كتب عمر - رضي الله عنه - إلى أَبي عبيدة بن الجراح: أَنه بلغنى أَن نساءَ أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساءِ المؤمنين، فامنع من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يحل أَن ترى الذمية عِرْيَةَ (¬1) المسلمة، فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال: أَيُّمَا امرأَة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إِلا أن تبيض وجهها، فَسَودَ الله وجهها يوم تبيض الوجوه. ونقل الآلوسى عن ابن حجر الشافعى: أن الأصح تحريم نظر الذمية إِلى غير ما يبدومن المسلمة في المهنة - أَي. الخدمة - غير سيدتها ومحرمها، ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدوعند المهنة. وأَما قوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فالمراد منه: الإماءُ ولوكافرات , وأما العبيد فهم كالأَجانب لا يرون من زينة سيدتهن ألا ما ظهر منها، وهذا مذهب أَبي حنيفة، وأَحد قولين في مذهب الشافعى، قال ابن عباس: لا بأْس أَن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وقال سعيد ابن المسيب: لا تَغُرنكُمْ هذه الآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِنما عنى بها الإِماءُ ولم يعن بها العبيد، وعلل ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم، والشهوة متحققة فيهم - انظر الآلوسى. وأَما قوله تعالى: " {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} (¬2) مِنَ الرِّجَالِ" فالمراد بهم: الذين يتبعون البيوت ليصيبوا من طعام أهلها، وليست لهم حاجة إِلى النساءِ، لكونهم شيوخا طاعنين في السن، وقد فنيت شهواتهم، والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم، فهؤلاء ينظرون من المرأَة ما يبدومنها عند المهنة، أما المجبوب: وهو من قطع ذكره، والخصى وهو من قطعت خصيتاه , ففيهما خلاف، فبعضهم أباح له أَن ينظر من المرأَة ما يبدوعند المهنة كابن الزوج ومن في حكمه، ومنهم من جعله في حكم الأجانب، فلا يرى منها غير الوجه والكفين، وظاهر الثياب - وهذا هوالراجح - انظر الآلوسى. ¬

_ (¬1) أي: ما يتعرى منها وينكشف. (¬2) الإربة، والإرب، والمأربة، والأرب: الحاجة.

وفسره بعضهم: بالأبْلَه، وفسره آخرون: بالصبى الذي لم يدرك، قال القرطبى: وهذا الاختلاف كله متقارب، ويجتمع فيمن لا فهم له، ولا همة ينتبه بها إلى أَمر النساء. وأَما قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ (¬1) الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} فالمراد به: الأطفال الذين لم يعرفوا ما هي عورات النساء، وما شأنها بالنسبة إِلى الرجال، وفسره الآلوسى بقوله: أي: الأطفال الذين لم يعرفوا ما هي العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها. وهذا القول قريب مما قلناه، وعلى هذا وذاك يكون قوله: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} مأخوذًا من الظهور، بمعنى الاطلاع، وقد جعل كناية عما ذكر. وفسره ابن كثير بأَنهم لصغرهم لا يفهمون أَحوال النساء وعوراتهن، من كلامهن الرحيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساءِ، فأما إن كان مراهقا أَوقريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكَّن من الدخول، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ("إِياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله أَفرأَيت الحَمو (¬2)؟ قال: "الحَمو: الموت"). ومنهم من فسر {الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} بالذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع، وَإِن كان قادرا على التمييز بين العورات، من قولهم: ظهر على فلان إِذا قوى عليه، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} فيشمل الطفل المذكور على هذا الرأى المراهق، الذي لم يظهر منه تشوق للنساء، والأَصح عند بعض الشافعية: أَنه يلزم الاحتجاب منه كالمراهق الذي ظهر منه ذلك , وذكروا في الطفل غير المراهق أَنه إِن كان قادرا على حكاية العورات وتمييزها فله حكم المحرم في النظر، وإلا فهوكالعدم، فيباح في حضوره ما يباح في الخلوة (¬3). ¬

_ (¬1) الطفل: اسم مقترن بأل الحنسية، وقد يراد به الجمع كما هنا، فهوبمعنى الأطفال، ولهذا وصف بالجمع. (¬2) الحمو، والحم: أقارب الزوج، وإذا كان رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكر في أبي الزوج وهو من المحارم فكيف يسمح بدخول غيره البيت ورؤيته نساءه؟. (¬3) انظر الآلوسى في تفسير هذه الجزئية من ال

وأما قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} فمعناه أَنه لا يحل للنساء أَن يضربن الأَرض بأَرجلهن لتُسمع غيرها صوت خلخالها وتعلمه ما تخفيه من زينتها، فإسماع صوت الزينة كإبدائِها في الحرمة بل أَشد، لأَنه يغرى الرجال بهن , لما فيه من إيهام أن لهن ميلا إليهم، واستدعاء لهم، أخرج ابن جرير الطبرى بسنده عن حضرمي (أَن امرأَة اتخذت خَلخَالا من فضة، واتخذت جَزْعًا في ساقها، فمرت بقوم فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع فصوَّت، فأنزل الله {وَلَا يَضْرِبْنَ ... } الآية، والجزع: خرز فيه بياض وسواد تُشَبَّه به العيون، ويفهم من سبب النزول أَن الجزع كان منظوما في خيط حول الساق، وأَن الخلخال كان في أَعلاه فلما ضربت الأَرض برجلها وقع الخلخال عليه فصوَّت. قال الآلوسى في تعليقه على هذا الأثر: والنساءُ اليوم على جَعْل الجزع ونحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولوهونا صوَّت ... الخ. وكان النساءُ في عصرنا هذا يتخذن خلاخيل من ذهب أَوفضة لها جلاجل مرتبطة بها، تجلجل وتصوت عند مشيهن، ثم تلاشت هذه الحلية أَوكادت. وكما يحرم على المرأَة تنبيه الرجال إليها بضرب الأَرض برجلها، يحرم عليها تنبيههم بنحوالتطيب عند خروجها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل عين زانية، والمرأَة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعنى زانية (¬1) والحديث حسن صحيح. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: أَي وقل أَيها النبي للمؤمنين في ضمن ما كلفوا به في هذه الآية - قل لهم -: توبوا إلى الله تعالى مما عسى أَن تكونوا قد ارتكبتموه مما نهيتم عنه فيها، ولا تتخلوا عن المتاب من آن لآخر، فإنكم لا تخلون من التقصير في حقوق الله - تعالى - لعلكم بالتوبة تفلحون، وتفوزون بما تأملونه من السعادة في الدارين. ¬

_ (¬1) انظر ابن كثير، والحديث في تحفة الأحوذى - أبواب الاستئذان - باب: ما جاء في خروج المرأة متعطرة.

والمعنى الإجمالى للآية: وقل أَيها الزسول للمؤْمنات: اخفضن أَبصاركن وامنعنها من النظر إِلى الرجال إِلا ما يبدومنهم عادة، من غير إِمعان ولا اشتهاء، وقل لهن أَيضا: يحفظن فروجهن بمنعها عن الزنى، وسترها عن العيون بثياب لا تحكيها، ولا يظهرن زينتهن للرجال الأَجانب إِلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان والثياب الخارجية الفضفاضة، وعليهن أن يسترن أَعناقهن وما تظهره فتحات صدورهن من أجسادهن، بسترها بخُمُرِهِنَّ أَي: بأَغطية رءُوسهن، ولا يظهرن زينتهن الداخلية إِلا لأَزواجهن أوآباءِ أَزواجهن، أَوأَبنائِهن، أَوأَبناء أَزواجهن , أَوإخوتهن، أَوأبناءِ إِخوتهن، أَوأَبناء أَخواتهن، وهؤلاءِ غير متساوين في النظر، فالأَزواج ينظرون ما شاءُوا من أَجسادهن وما عليها، أَما غيرهم؛ فلاَ ينظرون منهن إلا ما يبدوعند المهنة. ويباح لهن إِبداءُ مثل ذلك للنساء المؤْمنات، أَما الكوافر فهن مثل الرجال الأجانب في نظر الوجه والكفين وظاهر الثياب دون سواها، وقيل: مثل المحارم في نظر ما يبدوعند المهنة , كما يباح للنساء المؤمنات إِبداءُ ما يظهر عند المهنة للرجال الذين يتبعون البيوت، ليصيبوا من طعام أهلها وبرِّهم، ولا يشتهون النساء، كالرجال الواغلين في الشيخوخة، الذين فقدوا الحاجة إِلى فراش النساء، وكالممسوح والأَبله، أَما التابعون من ذوى الإِربة والحاجة إِلى النساءِ، فلا ينظرون من المرأَة أَكثر من وجهها وكفيها، وظاهر ثيابها الفضفاض كسائر الأَجانب. ويباح للنساء المؤْمنات أَيضا إِبداءُ زينتهن للأَطفال الذين لا يفهمون عورات النساء ووظيفتها ولا يدركون الفوارق بين العورات، ولا يفهمون الغرض مما تبديه المرأَة من مظاهر أُنوثتها. ويحرم عليهن أن يضربن الأرض بأَرجلهن، ليسمع الناس جلجلة خلاخيلهن، ويعرفوا ما تخفينه من زينتهن فإِن ذلك يوهم رغبة المرأَة في الصلة بهم، ويطمعهم في غشيان بيتها. وتوبوا إلى الله أَيها المؤمنون جميعا , من مختلف الذنوب والمعاصي، لعلكم بالتوبة تظفرون برضوان رب العالمين.

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)} المفردات: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}: الأيامى جمع أَيِّم , وهو من لا زوج له ذكرًا كان أَوأُنثى , سبق له الزواج أَو لم يسبق , وإنكاحهم تزويجهم. {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}: المراد بهم من يصلحون للقيام بحقوق النكاح من عبيدكم وجواريكم. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: كثير الرزق والإنعام. {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا}: وَليجتهد في العفة من لا يجدون أَسباب النكاح. {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}: وَالمماليك الذين يريدون مكاتبتكم على العتق في مقابل عوض يؤدونه لكم، فكاتبوهم وتعاقدوا معهم.

{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ}: ولا تكرهوا إِماءَكم على الزنى. {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}: أَي إن أَرَدن تَعفُّفا. {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: أي فإن الله من بعد إِكراهكم لهن غفور لهن رحيم بهن، حيث يعفوعنهن لأَنهن مكرهات على البغاء. التفسير 32 - {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: لما نهى الله عما يفضى إلى السفاح المخل بالنسب، عقبه بالحث على النكاح منعا من الانحراف إِلى الإثم، وحفظا لطهارة النسب، والخطاب في الآية موجه إِلى الأَولياءِ والسادة، فالأَولياءُ مطالبون بتزويج الحرائر والأَحرار بعد استئذانهم أَو التماسهم، ولابد في إذن الثيب الحرة أَن يكون صريحا، أَما البكر فيكفى صمتها مع الرضا، ويباشر الحر البالغ عقده بنفسه، ويباشر الولى العقد عن موليته عند الأكثرين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إِلا بولى". والسادة مكلفون بتزويج عبيدهم وإمائِهم الصالحين إن طلبوا ذلك ووجد السادة فيهم خيرا، وأَمر السادة بإِنكاح أَرقائِهم الصالحين على التجويز والإباحة عند الأَكثرين كما ذكره القرطبى في المسأَلة الرابعة. والنكاح مباح عند الشافعية، فإنه قضاءُ لذة كالأَكل والشرب، ما لم توجبه الضرورة كخوف العنت، أَي: الزنى، ومستحب عند الحنفية والمالكية، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "فمن رغب عن سنتى فليس منى" ما لم توجبه الضرورة كما تقدم، وفي المسأَلة تفصيلات مفيدة عند الفقهاء فليرجع إليها من شاء. والمراد من صلاح العبيد والإِماءِ معناه اللغوى، وهو: صلاحهم للقيام بحقوق النكاح، وقيل: المراد صلاحهم الدينى، ليكونوا جديرين بعناية مواليهم وإشفاقهم عليهم.

ثم بين سبحانه أن الفقر في الخاطب أَو المخطوبة لا يمنع من المناكحة، فإن المال غاد ورائح، ولا حرج على فضل الله في أَن يغنى الفقير، ولهذا زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأَة برجل فقير لا يملك ولا خاتما من حديد، على أَن يعلمها ما يحفظ من القرآن. وجنح بعض المفسرين إِلى أَن الآية وعد من الله بالإِغناء، لكن ذلك مشروط بمشيئة الله تعالى كقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). ثم ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: للإِيذان بأَنه لا ينبغي عدم اليأس من فضل الله فإنه سبحانه ذوسعة في الغنى والقدرة فلا حرج على فضل الله - عليم بأَحوال عباده، يمنحهم من رِغدِه ما علمَ أَنه يصلح من أَمرهم. والمعنى الإِجمالى للآية: وزوِّجُوأَيها الأولياءُ من تتولون أَمرهم من الحرائر والأَحرار غير المتزوجين إن طلبوا ذلك، ولا تمنعوهم حقهم في سنة الله وفي إِعفافهم، وزوجوا الصالحين للنكاح من عبيدكم وإمائكم، والفقر ليس بمانع من زواج الأحرار، إِن يكونوا فقراء فالله قادر على أَن يغنيهم من فضله إن شاء، والله واسع الغنى والقدرة، عليم بأَحوال عباده فلا يخفى عليه محتاج، ولا تضيق موارد رزقه على الفقراء، فهوكافل الأَرزاق لجميع مخلوقاته. 33 - {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ .. } الآية. تتضمن هذه الآية ثلاثة آداب للمؤمنين، أَولها: فيمن لا يجد أهبة النكاح، وثانيها في حث السادة على مكاتبة أَرقائِهم ومساعدتهم إِن علموا فيهم خيرا، وثالثها في منعهم من إكراه إمائِهم على البغاء، وفيما يلى الكلام على الجزءِ الأَول من الآية. المراد من كونهم لا يجدون نكاحا: أَنهم لا يجدون أَسبابه من مهر ونفقة (¬2)، وقد ¬

_ (¬1) سورة التوبة , الآية: 28 (¬2) وهو إما من إطلاق النكاح على ما تنكح به المرأة من مهر ونفقة، كإطلاق اللباس على ما يلبس , واللحاف على ما يلتحف به , أو بتقدير مضاف.

طلبت الآية ممن لا يجدون أسباب النكاح مع توقانهم إِليه، أَن يجتهدوا في العفة والبعد عن الزنى، وذلك بالاستعانة بالصيام كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (¬1). أَو بالاستعانة بالصبر حتى يغنيهم الله من فضله فيتزوجوا، وذلك خير لهم من الإقدام على الزواج مع الفقر، انتظارا لفضل الله حسب وعد الله في الآية السابقة، فإِنه وعد مشروط بمشيئة الله تعالى، فإن شاءَ حققه وإِن لم يشأْ لم يحققه، حسبما تقتضيه حكمته تعالى، وقد أَمر الله بالسعي في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه} (¬2). {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}: هذا هو الجزءُ الثاني من الآية، وهو تأْديب وإِرشاد منه تعالى للسادة في حق أَرقائهم أن يكاتبوهم ذكورا كانوا أَو إِناثا على العتق في مقابل جُعْل يؤُدونه لسادتهم مُنجَّمًا، أَومرة واحدة في آخر مدة الكتابة أَو نحو ذلك. وصورة المكاتبة أَن يقول السيد لمملوكه: كاتبتك على أَن تؤَدى مائة دينار مثلا، فإِذا أَديتها عتقت، فيقبل العبد، وهذا القول يسمى مكاتبة وإِن لم يكتب في سجل لأنها بمعنى المعاقدة والعهد، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أَي: عقد على نفسه عهدا بذلك، وقيل: سمى بذلك لأَنه مما يكتب. والمكاتبة إسلامية الأصل، فلم تكن في الجاهلية كما نقله الخفاجى عن الدميرى وكذا قال ابن حجر، وأَول من كاتبه المسلمون؛ عَبْدٌ لعُمر يسمى أَبا أُمية (¬3)، وقيل: نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبَيح، طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى، ¬

_ (¬1) من حديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود. (¬2) سورة الملك من الآية: 15 (¬3) انظر الآلوسى.

فأَنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأَداها، وقتل بحنين في الحرب، ذكره القشيرى، وقال مكى: هو صبيح القبطى غلام حاطب بن أبي بلتعة (¬1). وسواءٌ أكان للآية سبب نزول أم لم يكن، فإِن الله تعالى أَمر فيها المؤْمنين أَن يكاتبوا أَرقاءَهم إن طلبوا منهم ذلك، وعلم سيد كل عبد منه خيرا، فإن طلبها الرقيق وأَباها سيده، فله ذلك؛ لأَن إِجابته ليست بواجبة بل مَنْدوبة عند أَكثر العلماء - كما حكَاه البيضاوى - وعَللَه؛ بأَن الكتابة معاوضة تتضمن الإِرفاق فلا تجب كغيرها من المعاوضات إِلا عن تراض (¬2)، وقال جماعة: بوجوبها عملا بظاهر النص، ومنهم عكرمة وعطاء وعمرو بن دينار، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبرى , واحتج داود أَيضا بأَن سيرين والد محمد بن سيرين، سأَل أَنس بن مالك المكاتبة وهو مولاه فأَبى أَنس، فرفع عمر عليه الدِّرة فكاتبه أَنس , قال داود: وما كان عمر ليرفع عليه الدرة فيما لا يباح له أَن يفعله. والمراد بعلم السادة الخير في أَرقائِهم: أَن يعرفوا فيهم الدين والقدرة على الاكتساب والوفاء بما تعاقدوا عليه مع سادتهم، وكان ابن عمر يكره أَن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة، ويقول: أَتأمرني أَن آكل أَوساخ الناس - يعني صدقاتهم - وبعث عمر بن الخطاب إِلى عامله عُمَيْر بن سعد أَن ينهى المسلمين أن يكاتبوا أَرقاءَهم على مسأَلة الناس، وكرهه الأَوزاعى، وأحمد، وإسحاق، ورخص فيه مالك، والشافعي، وأَحمد, وعلي - رضي الله عنه - وفي رواية أُخرى عن مالك: أَنه كره مكاتبة الأَمة التي لا حرفة لها لما تؤَدى إِليه من فسادها. وقد رد من قال بجواز مكاتبة من لا حرفة له على المانعين بحديث روته الصحاح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (دخلَتْ عليَّ بريرة فقالت: إِن أَهلى كاتبوني على تسع أَوَاقٍ في ¬

_ (¬1) انظر القرطبي. (¬2) وقال القرطبي -: إن تعليق الأمر بالكتابة على شرط أن يعلم السيد أن في العبد خيرا يصرفه عن الإِيجاب لأن الخير أمر باطني لا سبيل إلى علمه يقينا فللسيد أن يقول: لم أعلم فيك خيرا فيرجع إلى قوله. انظر المسألة الثالثة في القر

تسع سنين، كل سنة أَوقية، فأعينيني ... ) الحديث، ففيه دليل على مكاتبة الأَمة وهي لا حرفة لها، ولم يسأَل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لها حرفة أَم لا؟ ولو كان هذا واجبا لسأَل عنه، لأَنه بعث مبينا معلما (¬1). وظاهر الآية صحة المكاتبة على تنجيم المال - أَي: تقسيطه - وعلى دفعه كله حالًّا أَو مؤجلا، وبهذا أَخذ الحنفية، أَما الشافعية فقد أَوجبوا تنجيمه بنجمين فأَكثر, فلا تجوز عندهم بدون أَجل، أَما الكتابة على مال حال فلا تجوز عندهم، لأَن الرقيق لا مال له، فكيف يكاتب على ما يتعذر عليه دفعه، فيكون ذلك سببا لعودته إلى الرق. وقد طلب الله إلى الموالى أَن يبذلوا لأَرقائِهم الذين كاتبوهم شيئا من أَموالهم , وفي معناه حَطُّ شيءٍ من مال الكتابة , وهو للوجوب عند الأَكثرين، ويكفى فيه أَقل متمول، وعن علي - رضي الله عنه -: يحط الربع، وقيل: يحط الثلث، وقيل: هذا أَمر لكافة المسلمين بإعانة المكاتبين، وإِعطائهم سهمهم من الزكاة، ويَحلُّ للمولى وإِن كان غنيا، لأَنه لا يأخذُه صدقة - كالدائن والمشترى (¬2). {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: المراد من الفتيات هنا: الإِماءِ، وسبب نزول هذا النهي؛ ما أَخرجه مسلم وأَبو داود عن جابر - رضي الله عنه - أَن جارية لعبد الله بن أُبي بن سلول يقال لها: مُسَيْكَة، وأُخرى يقال لها: أُمَيْمَة كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت. وأخرج ابن أَبي حاتم عن السدى قال: كان لعبد الله بن أُبَيٍّ جاريةٌ تدعى مُعَاذة، فكان إذا نزل ضيف أَرسلها له ليواقعها إِرادة الثواب منه والكرامة له، فأَقبلت الجارية إِلى أَبي بكر - رضي الله عنه - فشكت ذلك إِليه، فذكره أَبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأَمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبَيٍّ من يعذرنى من محمد يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت، ¬

_ (¬1) انظر المسألة الخامسة في القرطبى. (¬2) انظر البيض

وروى: كانت له ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأُميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، يكرههن على البغاءِ، وضرب عليهن ضرائب، وروى عن علي وابن عباس أَنهم كانوا في الجاهلية يُكرهون إِماءَهم على الزنى، ويأخذون أُجورهن فنهوا عن ذلك في الإِسلام، إلى غير ذلك من الروايات والآية عامة الحكم وإن نزلت بسبب خاص. وليس قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} شرطا لتحريم الإِكراه في الحقيقة، فإِن الإكراه على الزنى حرام في كل حال، بل المراد منه تهويل جريمة سادتهن، حيث أَكرهوهن على الزنى مع رغبتهن في العفة - كما جاء في سبب النزول (¬1). والمعنى الإِجمالى للآية: وليجتهد في العفة وكبح النفس عن شهواتها، من لا يجدون أَسباب النكاح من صداق أَو نفقة أَو زوجة مناسبة لحالهم , أَو مسكن يؤويهم وذلك بالاشتغال بتقوى الله، وليصبروا حتى يغنيهم الله من فضله، وعليهم أَن يأْخذوا في أَسباب الغنى ليغنِيَهم الله تعالى فيتزوجوا عن غنى، والأَرقاءُ الذين يرغبون في أَن يكاتبهم سادتهم على العتق في مقابل جُعْلٍ يبذلونه لسادتهم، فعلى هؤلاءِ السادة أَن يكاتبوهم إِن عرفوا فيهم خيرا في الدين وقدرة على السداد، ووفاءً بالعقد، وأَن يعطوهم من مال الله الذي آتاهم, ولو بالنزول عن بعض العوض الذي كاتبوهم عليه، وليساعدهم المؤمنون ببعض زكاة أَموالهم أَو بالتصدق عليهم. ولا تكرهوا - أَيها المسلمون - جواريكم على الزنى إِن أَردن تعففًا - كما فعله بعضكم - يبتغون بذلك متاعا فاسدًا من متاع الحياة الدنيا، ومن يكرههن على الزنى، فإِن الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، لأَنهن مُكْرَهَاتٌ عليه، أَو غفور رحيم للتائبين من السادة الذين أكرهوهن. 34 - {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}: هذا كلام مستأْنف جىءَ به لبيان وضوح الآيات السابقة وجلالة قدرها, وصدر بلام القسم وقد، لإِبراز كمال العناية بشأْنه , أَي: وبالله لقد أَنزلنا إِليكم في هذه السورة ¬

_ (¬1) ومما قيل في الجواب عن قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}: أنه شرط لا مفهوم له؛ حيث أبطله الإجماع على تحريم الإكراه على البغاء مط

الكريمة آيات موضحات لما تحتاجون إلى إِيضاحه من الحدود وسائر الأَحكام والآداب، وأَنزلنا إليكم مثلا من قبيل أَمثال الذين مضوا قبلكم، كقصة عائشة التي تماثل قصة مريم , وقصة يوسف - عليهما السلام - حيث أُسند إِليهما ما أُسند إلى عائشة - رضئ الله عنها -، وأَنزلنا إِليكم فيها ما يتعظ به المتقون، ويبتعدون عن المحرمات والمكروهات، فهم المنتفعون بأَنوارها وعظاتها. وقيل: المراد بالآيات المبينات، والمثل، والموعظة: جميع ما في القرآن منها، والله الموفق للصواب وإِليه المرجع والمآب. * {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} المفردات: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: الله هادى أَهل السموات والأَرض، وللكلام بقية في الشرح. (كَمِشْكَاةٍ): المشكاة؛ موضع الفتيلة من القنديل، وهذا هو المعنى المشهور، ولهذا قال بعده: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: وهو الفتيلة التي تضىءُ، وسيأتي في الشرح مزيد بيان. {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}: كوكب مضىءٌ متلأْلىءٌ كالزُّهَرة (¬1) في صفائه ولمعانه ... ¬

_ (¬1) الزهرة - بضم الزاي المشددة وفتح الهاء -: نجم قوى النور عظيم التألق واللمعان.

{مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}: من شجرة كثيرة الخير. {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ}: أَي أَنها مكشوفة للشمس شرقًا وغربًا، فليست شرقية فحسْبُ، ولا غربية كذلك فتحرم من ضوء الشمس في أَيهما - وسيأْتي بسط الحديث فيها. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}: ويبين الله الأَشباه والنظائر لهم. التفسير 35 - {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..... } الآية. منذ بدأَت هذه السورة، ونحن نرى فيها نور الهدى والرشاد، فقد رأَينا فيها آيات بينات تحمى الأَعراض، وتصون الأَنساب، وتزجر المعتدين عليها بما فرضته من عقوبات , كما رأَينا آيات كريمة تحث على صيانة الأَلسنة عن قالة السوء في المؤمنين والمؤمنات، وعقوبة القاذفين لهم، وقرأنا فيها آيات الاستئذان على البيوت، وتحريم دخولها دون استئذان، ووجوب غض الأبصار عما يحرم النظر إليه من النساء والرجال، إلى غير ذلك من الأَحكام والآداب ومكارم الأَخلاق. وقد جاءَت هذه الآية لتقرر أَن هذه الأَحكام وأَمثالها: هي من نور الله وهدايته لعباده المؤمنين، فإِنها كمشكاة فيها مصباح عظيم الضياء، فهى تضىءُ قلوب المتقين، وتكشف الظلام عنها، كما يكشف الكوكب الدرى الظلام بنوره. كما جاءَت لتبين أَنه - تعالى - يهدى لنوره من يشاءُ، ويضرب الله الأمثال للناس تقريرا لأَحكامه وتنويرًا لهم، لعلهم يتذكرون. والنور في الأَصل: كيفية يدركها البصر، ويدرك بسببها الْمبْصَرَاتِ، مثل الكيفية التي تنبعث من الشمس والقمر على الأَجرام الكثيفة المقابلة لهما، أَو من المصباح على ما حوله، والنور بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى؛ لأَن النور مدرك بالأَبصار، والله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} وبالجملة فالله تعالى منزه عن الجسمية والكيفية ولوازمهما، ولعدم صحة إطلاق النور بمعناه اللغوي المذكور على الله تعالى، اختلف العلماءُ

في تفسيره في الآية، فمنهم من فسره بالهداية، مراعاة لسياق الآية مع ما قبلها، وقد ذهب إِلى ذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - فقد أَخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أَبي حاتم، والبيهقى في الأَسماءِ والصفات: عن ابن عباس أَنه قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَي: هادى أَهلهما. قال الآلوسى: وهذا وجه حسن: انتهى. ونرى أَن هذا الرأْى مناسب لما سبق وما لحق من الآيات، ويكون إِطلاق النور على الله - تعالى - في هذا الرأْى على سبيل المجاز. وقال آخرون: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} معناه: منَوِّرهُمَا، فإِطلاق النور على الله تعالى بهذا المعنى على سبيل التجوز أَيضًا، كما تقول: زيد عَدْلٌ، بمعنى: عادل، على سبيل المجاز، ويرشح هذا المعنى أَنه قرأَ بعض القراءِ: {اللَّهُ مُنَوِّر السمَآءِ وَالْأَرْضِ}. وقد نورهما الله - تعالى - بالكواكب والنجوم، حيث جعلها تلقى أَشعتها على الأَجرام المقابلة لها، كما نوّر الأَرض بالمصابيح التي هدى عباده إِلى اختراعها على اختلافها قوة وضعفًا، وكِبَرا وصِغَرا، وطولا وقِصَرا. ويتناول النور على الوجه الأَول وحيه - تعالى - إلى ملائكته وأَنبيائه، وهداية كل شيءٍ لما خلق له، كما قال - تعالى - حكاية لما قاله موسى لفرعون: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1) وفي هذا الجزء من الآية آراءٌ أُخرى، وحسب القارىء ما تقدم. {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}: المقصود من النور هنا: الهدى القلبي الناشيءُ عن النظر في آيات الله في الأَنفس والآفاق، وعن التأَثر بمواعظ القرآن العظيم، وسنة النبي الكريم، فإن الهدى الناجم عن ذلك يذهب بظلمات الحيرة والشك والوسوسة التي تغشى القلوب، ويحِلُّ محلها الإِيمان الذي لا تهزه العواصف، ولا تقصفه الرياح القواصف، ومَثَله في ذلك مثل النور الحقيقي الذي تنجاب ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 50

به الظلمات، وتَبينُ به المرئيات على حقائقها، والضمير في {نُورِهِ} عائد إِلى الله - تعالى - (¬1) فإن الهدى هداه {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}. والنور بهذا المعنى هو المشبه بالمشكاة، وهو الذي جنح إِليه ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ فقد أَخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن أَبي حاتم والبيهقى عن ابن عباس أَنه قال: {مَثَلُ نُورِهِ}: مَثَل هداه في قلب المؤمن" وبه قال أَنس، أَخرج ابن جرير عنه أَنه قال: (إلهي يقول: نُوري هُدَاي) ونقل الآلوسى أَن تفسيره بالهدى هو اختيار الأَكثرين، والمشكاة: هي موضع الفتيلة من القنديل، وقد نقله ابن كثير عن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وغيرهما، وقال: إِنه هو المشهور, ولهذا قال بعده: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو الذُّبَالَةُ (¬2) التي تضىءُ، وقيل: هي الكُوة في الحائط غير نافذة، وعزاه القرطبى إِلى الجمهور، وقال: إنها بهذا المعنى أَجمع للضوءِ، ونقل القرطبى عن مجاهد أَنها هي القنديل، وقد اشتهرت بهذا المعنى في عصرنا، وتفسير المتقدمين للمصباح بالزبالة، أَي: فتيلة القنديل، ملاحظ فيه أَن المصابيح في هذا الزمان كانت كذلك، ولهذا جاءَ في النص الكريم أَن هذا المصباح {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}. وقد بين الله - تعالى - أَن هذا المصباح في زجاجة، وهي القنديل، وقد وصف الله زجاج القنديل بالصفاءِ والزُّهْرَة الفائقة، حيث قال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ومن هذا القنديل الشفاف ينفذ ضوءُ المصباح إِلى ما حوله. والمراد بالكوكب الدرى: أَحد الكواكب التي يطلق عليها العرب الدرارىّ، مثل: المشترى، والزهرة، وهي منسوبة إلى الدُّرّة، لبياضها وزُهْرَتِها وحسنها. وتشبيه الزجاجة بالكوكب الدرى يحتمل معنيين: أَحدهما: أَنها بما فيها من المصباح تشبهه، وثانيهما: أَنها لصفائها وجودة جوهرها تشبهه، قال القرطبى: وهذا التأْويل أَبلغ في التعاون على النور. ¬

_ (¬1) أجاز بعض العلماء رجوع الضمير إلى المؤمن، وروى ذلك عن ابن عباس في إحدى الروايات عنه كما روى عن أبي بن كعب، وكان يقرأ: (مثل نور المؤمن) وهناك أقوال أخرى في مرجع الضمير، فقيل: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل: هو القرآن، وما ذكرناه من رجوعه إلى الله هو الموافق لظاهر النص القرآني. (¬2) أي: الفت

وقد بين الله أَن هذا المصباح {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ}: أي يوقد من زيتها، والمقصود بها: الجنس من شجرة الزيتون، وبركتها إِما كثرة منافعها، وإِما لأَنها تنبت في الأرض التي بورك فيها للعالمين، وعلى أَي حال فهي كثيرة المنافع، روى عن ابن عباس أنه قال: في الزيتونة منافع: يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود - يوقد بحطبه وتُفْلِه - وليس فيه شىءٌ إِلا وفيه منفعة، حتى الرماد يُغْسَل به الإِبريسم ... إِلخ. والإِبريسم: الحرير. وقد جاءَ في زيتها حديث أَخرجه عبد بن حميد في مسنده، والترمذى وابن ماجه، عن عمر - رضي الله عنه - أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ائتدموا بالزيت، وادهنوا به، فإِنه من شجرة مباركة". وقد وصف الله تعالى الزيتونة بقوله: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}: فأَما كونها غير شرقية وغير غربية، فالمقصود: أنها مكشوفة للشمس، لا يحجبها عنها جبل ولا شجر، من حين تطلع حتى تغرب، وذلك أَحسن لزيتها، فهي ليست خالصة للشرق حتى يقال فيها: شرقية، ولا خالصة للغرب حتى يقال فيها: غربية، بل هي شرقية غربية. وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقى ولا غربى، وشجر الشام هو أَفضل الشجر، وهو الأرض المباركة. وهذا رأى حسن. وقد وصف الله زيتها بقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} تأْكيدا لصفائه وجودة النور المنبعث عنه، وبهذا الوصف اكتملت الأَنوار للمشكاة، فكان أَمرها كما قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}: فقد اجتمع فيها ضوءُ المصباح إِلى ضوء الزجاجة إلى ضوء الزيت، فكانت كأَنْوَر ما يكون، فكذلك براهين الله - تعالى - واضحة تستضىء بها القلوب وتهتدى، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، بإرساله الرسل، وإِنزاله الكتب، الوعظ المتكرر، وآيات الله في الأَنفس والآفاق.

ولما كان الناس مختلفين في معرفة الهدى والرشاد، متباينين في إِدراك الحق والضلال، عقب ذلك بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}: أَي يوفق الله لإصابة الحق ومعرفته والاستجابة إِليه - يوفق - من يشاءُ من عباده، ممن حسنت نيته، وطابت طويته، وذلك بإلهامه الاقتناع به، وشرح صدره إِليه، بعد أَن وفقه إلى حسن النظر في آياته التي نور الله بها السموات والأرض، وفيما أَنزل على رسوله من نور القرآن كما قال - تعالى -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} حتى اطمأن بها فؤاده، واهتدى إلى الحق والرشاد. وفي ربط الهداية بمشيئة الله - تعالى - إيذان بأَن مناطها هو مشيئته، وليست الأَسباب وحدها، فهو أَعلم بمن يستحقها، قال الشاعر: إذا لم يَكُ التوفيق عونا لطالب ... طريقَ الهدى أعيت عليه مطالبه أَخرج الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أَصابه يومئذ من نوره اهتدى، ومن أخطأَه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله - عز وجل -". وقد ختم الله الآية بما يدل على أن إطلاق لفظ؛ (النور) على الآيات والبراهِين من قبيل ضرب الأمثال، فقال - سبحانه -: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: أي يبين الله الأشباه والنظائر من الحسيات، تمثيلا للمعانى عند إرادته - تعالى - هداية الناس وإِرشادهم إلى الحق - كالذى جاءَ في الآية من تشبيه ما تحدثه الآيات من نور الهدى في القلوب، بنور المشكاة؛ لما لها من الأثر العظيم في إرشاد الحق إِلى الحق. وختم الآية بقوله - سبحانه -: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَي: أنه - تعالى - يعلم الأشياء جميعها حقائقها ومجازاتها، وما ينبغي التعبير عنه بأسلوب المجاز، وما ينبغي التعبير عنه بأسلوب الحقيقة، كما يعلم من يستحق الهداية ممن يستحق الإِضلال. أَخرج الإمام أَحمد بسنده، عن أَبي سعيد الخدرى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "القلوب أَربعة: قلب أجْرَد, فيه مثل السراج يزْهر، وقلب أغْلَف، مربوط

غلافه، وقلب مَنْكوس، وقلب مصْفَح، فأما القلب الأجرد (¬1)، فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف، فقلب الكافر، وأَما القلب المنكوس، فقلب المنافق - عرف ثم أنكر - وأَما القلب المصْفَح (¬2)، فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البَقْلة يمدها الماءُ الطيب، ومَثَل النفاق فيه كمثل القَرْحَةَ يمدها القيح والدم، فأي المدَّتَيْنِ غلبت على الأُخرى غلبت عليه" قال ابن كثير: إسناده جيد. المعنى الإجمالى للآية: الله هادى أهل السموات إلى معرفته ومعرفة ما تستقيم به مصالحهم، وما يحققون به ما وُكل إليهم، مَثَل هدايته خلقه إِلى ذلك، كمثل نور مشكاة فيها مصباح مضىء. وهذا المصباح داخلَ زجاجة تشبه في صفائها. وقوة شعاعها الكوكب الدرى، وهو يوقد من زيت شجرة مباركة كثيرة المنافع، هي شجرة الزيتون، تلك الزيتونة تتمتع بضوء الشمس وحرارتها في مشرقها ومغربها فيجود بذلك زيتها، وقد بلغ من شدة صفاء هذا الزيت أَنه يكاد يضىءُ ولو لم تمسسه نار وقد أَصبح نور المشكاة بذلك مضاعفًا، فهو نور فوق نور، يهدى الله للانتفاع بهداه من يشاء ممن رق حِسُّه، وحسن استعداده، وطابت سريرته، دون من عداه ممن لم يكترث بهداه، ويضرب الله الأمثال الحِسِّية للناس حين يهديهم إلى الحق والخير، لعلهم يهتدون إِلى ما أَرشدهم إليه مما ينفعهم في أُخراهم ودنياهم، فتستنير قلوبهم وتصفو أرواحهم. ¬

_ (¬1) المراد من كونه أجرد: أنه على أصل الفطرة، فنور الإيمان يزهر فيه. (¬2) المصفح: الذي له وجهان، يلقى أهل الإيمان بوجه، وأهل الكفر بوجه، وصفح كل شيء: وجهه وناحيته.

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} المفردات: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}: المراد بها المساجد، والإذن برفعها: الأمر برفع شأنها وتعظيمها. {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}: الغُدوَةُ أَول النهار، والغُدُوُّ: الإقبال في الغُدْوة، والآصال: جمع الأصيل، وهو آخر النهار. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}: تضطرب فيه من شدة الهول. {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}: أحسن جزاء ما عملوه. التفسير 36 - {فِي بُيُوتٍ (¬1) أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}: لما بين الله تعالى في الآية السابقة أَن هدايته لعباده إِلى معرفته تشبه مصباحًا في زجاجة جاء بهذه الآية ليبين أَثر هدايته لهم، وهو تسبيحهم إياه في بيوت أَذن برفعها، ونقاءِ سيرتهم وسريرتهم، فهي استئناف مبين لأثر الهداية فيهم. ¬

_ (¬1) {فِي بُيُوتٍ} متعلق بـ (يسبح) ولفظ: {فِيهَا} تكرير لقوله: {فِي بُيُوتٍ} جىء به التأكيد والتذكير مما تقدمها، والإيذان بأن التقديم للاهتمام لا الحصر.

والمراد بالبيوت: المساجد مطلقًا، وقيل: هي المساجد الأربعة التي لم يَبْنِها إلا نبي (¬1)، وهي: الكعبة، ومسجد المدينة، ومسجد قباء، وبيت أَريحا (¬2)، حكاه القرطبى في آخر المسألة الأُولى عن ابن بريدة، وعقبه بقوله: الأظهر الأول؛ لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أَحب الله - عزوجل - فليحبنى، ومن أحبنى فليحب أصحابى، من أحب أَصحابى فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد؛ فإنها أَفْنِيَةُ الله، أَبنيته أذن الله في رفعها، وبارك الله فيها، ميمونةٌ ميمونٌ أَهلها، محفوظة محفوظ أهلها, هم في صلاتهم، والله - عز وجل - في حوائجهم، هم في مساجدهم، والله من ورائهم". والمراد من إذن الله برفعها: أَمره بتعظيمها، وذلك بتطهيرها من الأقذار والنجاسات، ومنع الجنب والحائض والنفساء من دخولها، ومنع البيع والشراء ورفع الصوت فيها، والامتناع عن أَكل ذى ريح كريه قبيل في دخولها، وفي المسألة كلام طويل يطلب من الموسوعات من كتب الفقه والتفسير. وحمل بعض المفسرين رفعها على رفع بنيانها، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} وبه قال مجاهد وعكرمة، وفي بناء المسجد يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" أخرجه البخاري في صحيحه بسنده عن عثمان بن عفان. وهل يجوز تَزيين المساجد ونقشها؟ قال القرطبى في المسألة الثالثة: اختلف، في ذلك، فكرهه قوم، وأَباحه آخرون، واستند من كرهه إِلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى تتباهى الناس في المساجد" أَخرجه أَبو داود بسنده عن أنس. وفي البخاري: وقال أنس: "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا". واستند من قال بإباحتها إِلى أن فيها تعظيم المساجد، والله أَمر بتعظيمها بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وروى عن عثمان بن عفان - رضى الله عنه - (أَنه بنى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالساج وحسنه). ¬

_ (¬1) وهذا هو رأي ابن زيد، أخرجه ابن أبي حاتم عنه - انظره في الآلوسى ولعله تصحيف لابن بريدة ليتفق مع ما ذكره القرطبى عنه كما سيجىء. (¬2) المراد به: بيت المقدس، بناه داود وسليمان - عليهما السلام

والساج: شجر ينبت ببلاد الهند، وخشبه أسود رزين لا تكاد تبليه الأرض. وقال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد ماء الذهب، وروى عن عمر بن عبد العزيز أَنه نقش مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالغ عمارته وتزيينه، وذلك في زمن ولايته المدينة قبل الخلافة، ولم ينكر عليه أَحد. ومن تعظيم المساجد: الدعاءُ عند الدخول والخروج، أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي أسيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا دخل أَحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لى أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أَسألك من فضلك". ومن تعظيمها: صلاة ركعتين لله تعالى قبل الجلوس، روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله - صل الله عليه وسلم - قال: "إِذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس". والمراد بالتسبيح فيها بالغدوِّ والآصال: الصلوات فيها بالغُدوَات، أي: أوائل النهار، وبالعشيات: أَواخره، وقيل: المراد به: تنزيه الله ومراقبته والاشتغال بطاعته. والغدوُّ في الأصل: مصدر، أُطلق مجازا على وقته، ولذا حسن اقترانه بالآصال، جمع: الأصيل، وهو: العشيُّ، وسيأْتى المعنى الإِجمالى لهذه الآية مع الآيتين بعدها، لشدة اتصالها بهما. 37 - {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ... } الآية. رجالٌ: فاعل لقوله: (يُسَبِّحُ) في الآية السابقة، وخص الرجال بالذكر؛ لأن النساء لا حَظَّ لهن في المساجد؛ إذْ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وصلاتهن في بيوتهن أَفضل، أخرج الإمام أَحمد، والبيهقى: عن أم سلمة أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير مساجد النساء قَعْر بيوتهن" فإن صلين في المساجد ابتعدن عن أسباب الفتنة، فقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة ابن مسعود قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -: "إذا شهدت إِحداكن المسجد فلا تمَس طيبًا" وفي الصحيحين عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت: "كانت نساءُ المؤمنين يشهدْن الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجعن متلفعات بمررطهن" وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: "لو أَدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أَحدث النساء لَمَنَعَهُن المساجد، كما منعت نساء بنى إسرائيل" انظر ابن كثير. وذِكْر البيع بعد التجارة مع شمولها له؛ لأنه أَقوى نوعيها في الإلهاء عن الصلاة لحرص التاجر عليه طلبًا لربح عاجل، أَو دفعًا لخسارة منتظرة، أَو سدادًا لدين، أو جلْبا لرزق ناجز، بخلاف الشراء فإن الأناة فيه أكثر؛ إذ الربح فيه متوقع وليس بناجز، وقيل: المراد بالتجارة: الشراءُ، فإنه أَصلها ومبدؤها، وقيل: الجلب سفرا، ومنه يقال: تَجَر في كذا، إذا جلبه، ويؤيده ما أَخرجه ابن أَبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر: "هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله". والمقصود من أَنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: أنهم يُلَبُّون نداء الصلاة جماعة ويتركون البيع والشراء، روى عن ابن مسعود أَنه رأى قومًا من أهل السوق حيث نودى بالصلاة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} رواه ابن جرير الطبرى. وروى عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - أنه كان في السوق فأُقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وقد جاء في مثل ذلك أخبار كثيرة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ابن كثير وغيره.

والمراد من تقلب القلوب والأبصار في يوم القيامة: اضطرابها من الهول، أَو تقلب أحوالها فتفقه ما لم تكن تفقه، فتؤمن بعد الكفر حيث لا ينفعها الإيمان، وفي هذا المعنى يقول المولى سبحانه: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}. 38 - {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: {لِيَجْزِيَهُمُ}: متعلق بفعل يتضمن طاعاتهم السابقة، أي: يفعلون كل ما تقدم من تسبيحهم لله في المساجد، وصلاتهم فيها كلما سمعوا النداءِ إِليها، وإيتائهم الزكاة لمستحقيها، وخوفهم من يوم الحساب، يفعلون كل ذلك. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا .... إلخ. المعنى الإجمالى للآيات الثلاث: 36، 37، 38 ما يلى: يسبح لله تعالى في مساجد أمر الله أن تعظم بالصيانة والنظافة، ويذكر فيها اسمه - يسبح له فيها - رجال استنارت قلوبهم بمشكاة الهدى، فأصبحوا لا تلهيهم ولا تشغلهم دنياهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة في أوقاتها جماعة كلما سمعوا النداء إليها، كما لا تشغلهم عن إِعطاء الزكاة لمستحقيها في مواقيتها، يخشون يومًا رهيبًا تضطرب فيه القلوب والأبصار كما قال الله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} وذلك من هول ما رأوا من الشدائد والتغيرات الكونية حيث {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. يسبح لله هؤلاء الرجال في المساجد خائفين من يوم الوعيد، لكي يجزيهم الله في الجنة أحسن جزاء لما عملوه في دنياهم، حسبما وعدهم الله تعالى كل لسان رسوله، ويزيدهم من الثواب فوق ما وعدهم مما لم يخطر لهم ببال، والله يثيب من يشاء من عباده المتقين رزقًا واسعًا، دون أن يحاسبه أحد على ما أعطى؛ فهو الرزاق ذو القوة المتين.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} المفردات: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}: السراب - كما عرّفه المتقدمون -: ما يُرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة، فيُظَنُّ أنه ماءٌ يسرب، أَي: يجرى. والقيعة: هي القاع وهو الأرض المستوية الخالية من النبات (¬1)، وسيأْتى لذلك مزيد بيان. {وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ}: وجد الظمآن قضاءَ الله عند السراب. {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ}: أي عميق، كثير الماء، منسوب إلى الُّلجِّ واللُّجةِ، وكلاهما معناه: الماءُ الكثير البعيد القاع. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}: يغطى البحر موج، مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاءُ. التفسير 39 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا. . . . . .} الآية. ¬

_ (¬1) انظر تفسير البيضاوي.

لما ضرب الله مثل المؤمنين فيما تقدم، عقبه بضرب مثل الكافرين هنا وفي الآية التالية وهذه الآية معطوفة على ما قبلها، من عطف المَثل على المَثَل، والقصة على القصة، كأنه قيل: مثل المؤمنين في حالهم ومآلهم كما وُصف، ومثل الذين كفروا أعمالهم كسراب ... إلخ. ويقول مقاتل: إِن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة، كان يترهب متلمسا الدين فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - كفر شيبة، ذكره القرطبى، وسواء أكان هذا هو السبب أَم غيره، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. والسراب - كما عرفه المتقدمون -: بخار رقيق يرتفع من قاع القيعان تحت تأثير الشمس، فإذا اتصل به ضوءُها أَشبَهَ عند من يراه من بعيد الماء السارب، أَي: الجارى، وقيل: هو ما ترقرق من الهواء في الهجير بفَيَافى الأرض المنبسطة، ويشبه في لمعانه الماء، وليس بماء. وفي خداع السراب يقول الشاعر في تشبيه العهود الخادعة: فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كَلَمْعِ سراب في الفَلاَ متألِّقٍ ويفسره العلماءُ المعاصرون: بأنه ظاهرة ضوئية، سببها انعكاس الشعاع المنبعث من الأجسام المضيئة، وارتداده من سطح أَرض فسيحة جرداء، عندما ترتفع درجة حرارتها إِثناء النهار، فيتجه الشعاع المنعكس على التدريج بحذاءِ سطح الأرض، متباعدا عنها قليلا قليلا، حتى يصل إِلى عين الراصد، وعندها تُرَى صور الأجسام المضيئة مقلوبةً، كما لو كانت مرآة كبيرة ممتدة (¬1). والقيعة: هي الأرض المستوية المنبسطة، وهي مفرد، كالقاع، وقيل: هي جمع قاع، كجِيرَة: جمع جار. ¬

_ (¬1) انظر تعليق الحبراء على كلمة: (سراب) بالتفسير المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر.

والمعنى الإجمالى للآية: والذين كفروا أعمالهم التي يحسبونها صالحة مرضية لله تعالى كصلة الأرحام، والعطف على الأيتام، وسقاية الحاج، وعمارة البيت الحرام، وقِرَى الأضياف، وغير ذلك من المبَرات - أعمالهم هذه - شبيهة في ضياعها في الآخرة بسراب لامع تحت ضوء الشمس في أرض فسيحة جرداء، يحسبه الظمآن حين يراه من بعيد يترقرق ويلمع - يحسبه - ماءً يروى ظمآه، ويطفىءُ لهيب عطشه، حتى إِذا جاءه حيث كان يبدو له، لم يجده شيئًا مطلقًا؛ لزوال الصورة التي خدعه بها السراب، فكذلك جنس الكافر، يحسب أنه قد عمل في دنياه عملا نافعًا، واعتقد اعتقادًا سديدًا، فإذا بعث يوم القيامة، ورأى أهوال القيامة، اشتدت حاجته إلى عمله لينفعه وينجيه، فلم يجد له أثرا، وخاب ظنه فيه، بل وجد حساب الله وافيًا في مواجهته، ونقاشه إياه مستوعيًا لعقائده الزائفة، وأعماله الفاسدة, وأنه تعالى لم يتقبل منه ما قدمه من أعمال البر؛ لأنها قامت على أساس الكفر، إلى جانب ما داخلها من الرياء والفخر والعُجب، فكان أمر الله معه في تلك المبَرات كما قال - سبحانه -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬1). وقد ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: للإيذان بأَنه لا يشغله حساب عن حساب، فلهذا كان سريع الحساب لجميع عباده. ويلاحظ أن تشبيه عمل الكافر بالسراب انتهى عند قوله تعالى: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أما قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فهو لبيان بقية أحواله بطريق التكملة، حتى لا يتصور أن نهاية أمره هو الخيبة والقنوط فقط - كما هو شأن الظمآن بعد أَن عرف حال السراب - بل يعتريهم من سوء الحال والمآل، ما يفوق خيبة الظمآن حين يئس من الماء (¬2). ومن المفسرين من جعل هذا السراب في الآخرة، قال جار الله الزمخشرى: شبه الله سبحانه ما يعمله غير المؤمن بسراب سوف يراه بالساهرة - يوم القيامة - وقد غلبه العطش، فيحسبه ماءً، فيأتيه فلا يجده، ويجد زبانية الله عنده، يأخذونه فيسقونه الحميم ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 23 (¬2) انظر كتاب (إرشاد العقل السليم).

والغسَّاق. قال الآلوسى - تعليقًا على هذا الرأْى -: وكأَنه مأْخوذ مما أَخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أَبي حاتم، من طريق السدى في غرائبه عن الصحابة، أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الكفار يبعثون يوم القيامة وِرْدا (¬1) عطاشا، فيقولون: أين الماءُ؟ فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماءً، فينطلقون إِليه، فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم، والله سريع الحساب" واستحسن ذلك الطيبى ... إلى آخر ما كتبه الآلوسى في هذا المقام. وقد نقل ابن كثير في هذا المعنى عن الصحيحين: "أَنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعملون في الدنيا؟ فيقولون: كنا نعبد عزيرا ابن الله، فيقال: كذبتم؛ ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي ربنا، عطشنا فاسقنا، فيقال: ألَا تَرَونَ؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها" (¬2). 40 - {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}: {كَظُلُمَاتٍ} معظوفة بأو على {كَسَرَابٍ} وحرف (أو) هنا: إما للتخيير، فإن أعمالهم لكونها لاغية لا ثواب عليها، تشبه السراب، ولكونها خالية عن نور الحق، وضوء الإيمان، تشبه الظلمات المتراكمة من عمق البحر، والأمواج المتتابعة فوقه، وظلمة السحاب فأنت مخير في تشبيهها بأيهما، قال الزجاج: إن شئت مَثِّلْ بالسراب، وإن شئت مَثِّلْ بالظلمات (¬3). ويصح أَن تكون (أو) للتنويع، فإن أَعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب في عدم جدواها، وإن كانت قبيحة في كالظلمات، وفيها غير ما ذكرنا من الوجوه (¬4)، وحَسْب القارىءِ ما تقدم. ¬

_ (¬1) الورد - بكسر الواو وسكون الراء -: القوم الذين يردون الماء كالواردة، ومنه: الموردة، وهي: مأتاة الماء: (قاموس). (¬2) البخاري: تفسير سورة النساء، ومسلم: كتاب الإيمان. (¬3) انظر القرطبى. (¬4) انظر البيضاوى.

ومعنى الآية موصولة بما قبلها ما يلى: والذين كفروا أَعمالهم كسراب بقيعة، أو كظلمات في بحر عميق بعيد القاع، يغطى هذا البحر موجٌ من فوقه موج، وهكذا تتتابع أمواجه، ويتراكم بعضها فوق بعض، من فوق هذا الموج المتتابع سحاب كثيف يحجب أَضواء النجوم، فهي ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، إذا أخرج من ابتلى بهذه الظلمات يده، وجعلها قريبة من عينيه لينظر إِليها، لم يقرب من رؤيتها، فضلا عن أَن يراها، مع أنها أقرب شيء إليه. وكذلك كل كافر يعيش في أعماق ظلمات كثيفة داكنة من عقيدته، وسيئات أعماله، لا يرى في أثنائها بصيصا (¬1) من نور الهدى، يهديه إلى سواء السبيل، بسبب تقليده، وخضوعه لسيطرة أئمة الكفر، وجنوحه عمن يدعوه إلى الهدى، قائلا له: إئتنا لتستنير بنورنا. ويختم الله الآية بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}: أي ومن لم يُقَدِّر الله له نورا قلبيًا يهديه إلى الحق بسبب إعراضه عنه، فليس له نور من سواه، فيبقى في ظلام دامس من الضلال، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ}. أَما من يقبل الهدى فإن الله تعالى يهديه بنور على نور، حتى يثبت الحق في بصيرته، ويستعصى على من يضله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} نسأل الله الرءُوف الرحيم أَن يملأ قلوبنا نورا، ويجعل النور عن أيماننا وشمائلنا، وأن يعظم لنا النور بفضله ورحمته. ¬

_ (¬1) البصيص: البريق.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} المفردات: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ}: الطير جمع طائر، كصَحْب: جمع صاحب، وجمع الجمع: طيور وأطيار، كفرخ وفروخ وأفراخ، وقد يقع لفظ الطير على الواحد، كقوله تعالى: {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}. ومعنى: {صَافَّاتٍ}: باسطات أجنحتهن. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}: أي كل من في السموات والأرض والطير قد علم دعاءه وتنزيهه لله تعالى. (المَصِيرُ): المرجع. التفسير 41 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ... } الآية. بيَّن الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة أنه هدى عباده ومخلوقاته بنور هداه إلى ما خلقوا لأجله، وأن من لم يجعل الله له نورا يهتدى به فما له من نور. وجاء بهذه الآية عقبها ليبين أن آثار هداه في السموات والأرض والطير واضحة لمن يراها ويتأملها.

والهمزة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير بالرؤية، والمراد بالرؤية هنا: العلم والمعرفة، والخطاب إما أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإِما أَن يكون لكل عاقل، فإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو يشير إلى أنه تعالى قد أفاض عليه من مراتب النور أعلاها وأجلاها، حتى عرف من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها. وإن كان لكل عاقل: فهو يشير إلى وضوح هدى الله في السموات والأرض ومن فيهن لكل من يتأمل فيها، فلولا هداه وقوانينه الكونية الدقيقة في كل ذرة من هذا الكون لاختل نظامه، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ولولا إِبداعه المحكم لهذا الكون، وما أَودعه فيه من أَسباب الهدى إلى ما خلق لأجله، لما رأَينا هذا الكمال الناطق بنزاهته تعالى عن الشريك والنظير، وسوء التدبير {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}. فالمراد من التسبيح في الآية: التنزيه عن كل ما لا يليق بالله تعالى من نقص أو خلل تنزيها معنويًا تفهمه العقول السليمة، فإن كل موجود في السموات والأرض، من أَجزائهما وما استقر فيهما، أَو كان سابحا وطائرا بينهما، يدل على صانع مبدع واجب الوجود، متصف بكل صفات الكمال، منزه عن كل ما لا يليق بشأْنه وعظمته، وإطلاق لفظ: (مَنْ) على العقلاء وغيرهم، على سبيل التغليب، كما هو معهود في عرف اللغة. وقد نبه الله - سبحانه - على قوة الدلالة وغاية وضوحها بالتعبير عنها بالتسبيح الذي يختص به العقلاء، وهو أَقوى مراتب التنزيه وأَظهرها، تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال. وتخصيص التسبيح - أَي: التنزيه - بالذكر مع دلالة ما في السمواتِ والأَرض على اتصافه - تعالى - بنعوت الكمال كلها، لأَن هذه الآية مسوقة لتقبيح حال الكفرة. في إِخلالهم بالتنزيه، بجعلهم الجمادات شريكة له - تعالى - في الأُلوهية، ونسبتهم الولد إليه - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ولهذا جعل الله أَعمالهم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}، أَو {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاه}.

وإِنما ذُكِر لفظ: {الطَّيْر} مع أَنه مندرج في جملة من في السموات والأَرض؛ لعدم استقرار الطير فوق الأَرض، ولاستقلالها بآية واضحة على تنزيه الله - تعالى - عن الشريك وكل صفات النقص، وعلى كمال قدرته ولطف تدبيره، حيث أَعطاها أَجنحة وذيولا تصفُّها وتطير بها، وحماها بذلك من وقوعها على الأَرض استجابة لجاذبيتها، ومكنها بذلك من الحركة في الجو والرحلة كما تشاء. وأَما قوله - تعالى -: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فهو جملة مستأْنفة، اشتملت على صورة بلاغية رفيعة؛ فقد شُبِّه فيها حال كل من في السموات والأَرض والطير في أَداءِ وظائفها التي خلقت لها، استجابة لتسخير الله - تعالى - شُبِّهت حالها بحال إنسان عرف خالقه وكيفية عبادته وتسبيحه، فصلى له وسبحه. وعلى هذا الوجه فالضمير في (عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) راجع إلى كل واحد مما ذكر، وإِليه ذهب الزجاج. وأجاز بعضهم أَن يكون ضمير (عَلِمَ) راجعًا إلى الله - تعالى - وضميرا (صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) عائديْن إِلى كل واحد مما في السموات والأَرض والطير، والمعنى على هذا: كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه لربه، والأَول أَولى؛ لما في الثاني من تشتيت الضمائر. وقال غير واحد: يجوز أَلا يكون في الكلام استعارة، والعلم على حقيقته، ويراد به: مطلق الإِدراك، والمراد من قوله: {كُلٌّ} جميع أَنواع الطير وأَفرادها، ويراد بالصلاة والتسبيح: ما أَلهمه الله إِياه من الدعاء والتسبيح المخصوصين به، قال الآلوسى: ولا بُعْدَ في هذا الإلهام؛ فقد أَلهم الله كل نوع من أَنواع الحيوانات علومًا دقيقة، لا يكاد يهتدى إِليها جهابذة العقلاء (¬1) .... إِلى آخر ما قال. ¬

_ (¬1) فهذه مملكة النحل تدير أمورها أنثى بحكمة عجيبة، وقد ألهمها الله - تعالى - بناء بيوت هندسية من الشمع متساوية الأضلاع، كما ألهمها تغذية الملكات المقبلة بغذاء خاص يختلف عن غذاء الذكور والخناثى، وهذه الكلاب تنبح قبل حدوث الزلازل منذرة بها، والقنفد يحس بريحى الشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل، وهذا وأمثاله يدل على أن لها إدراكا عاليا تدير به شئونها، فلا بد أن يكون لها تسبيح وصلاة. والله أعلم.

وقد ختم الله الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} لتقرير ما تقدم في الآية. والمعنى الإِجمالى للآية: أَلم تعلم - أَيها العاقل - علمًا يشبه الرؤية في اليقين، أَن الله تعالى ينزهه عن الشريك والنظير، وعن كل ما لا يليق بجنابه في ذاته وصفاته وأَفعاله - ينزهه - كل شيءٍ في السموات والأَرض، وبخاصة الطير وهي باسطة أَجنحتها وأَذيالها في السماءِ؛ لتستطيع أَن تتجه بها إِلى المشارق والمغارب، وهي محلقة في جو السماء ما يمسكهن إلا الله تعالى فإنها جميعًا بما أُنشئت وأُبدعت عليه من دقة الصنع، وأَدائها لوظائفها التي خلقت لها، في نظام رتيب بلا فتور ولا قصور، تنطق بلسان الحال، أن من أَبدعها منزه عن الشريك والنظير، وعن كل نقص في ذاته وفي صفاته وفي أَفعاله، وكل منها في مجموعه وفي أَجزائه قد استجاب لتسخير الله إِياه استجابة تشبه استجابة العقلاء لما كلفهم الله به من الصلاة والتسببح، والله عليم بأَدائها لوظائفها وفق تدبيره الحكيم لها، لا يغفل عنها طرفة عين، فهي لذلك لا يعتريها نقص ولا اختلال، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. وأَجاز بعض المفسرين حمل التسبيح والصلاة على حقيقته، كما تقدم بيانه، قال سفيان: للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، وعمم بعضهم التسبيح بمعناه الحقيقى في جميع الكائنات من جماد ونبات وحيوان، أَخذا من ظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬1) وليس هذا ببعيد على بديع السموات والأَرض، ولقد سجل بعض علماء الغرب بآلة شديدة الحساسية - سجل - أَنين الشجرة إِذا قطع منها غصن، أَو نقلت شجرة مجاورة لها، وهذا يدل على أَن في الكون أَسرارا عجيبة لم يصل العقل البشرى إِلى كشفها بعد. 42 - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}: أَي ولله ملك السموات والأَرض خلقًا وملكا وتصرفًا، فلا يصح أَن يعبد سواه، وإِليه وحده المرجع يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاءُ، ولا معقب لحكمه {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 44 (¬2) سورة النجم، الآية: 31

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} المفردات: {يُزْجِي سَحَابًا}: يسوقه ويدفعه، يقال: زَجَاه، وزَجَّاه، وأَزْجَاه، أَي: دفعه وساقه. {رُكَامًا}: الركام؛ السحاب المتراكم بعضه فوق بعض، ويطلق أَيضًا في غير هذه الآية على كل ما جمع بعضه فوق بعض، كركام الرمل، مأْخوذ من: رَكَمَ الأَشياء، أَي: جمع بعضها فوق بعض. {الْوَدْقَ}: يطلق على المطر وعلى البرق، وسيأْتى شرح ذلك. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا}: المراد من السماء هنا: السحاب أَو الجوّ أَو الفضاء، والجبال في السماء: هي السحب المتراكمة بعضها فوق بعض على هيئة الجبال. {مِنْ بَرَد}: البَرَد؛ حب ينزل من السحب، فيه بياض كبياض الثلج، وبرودة كبرودته. {سَنَا بَرْقِهِ}: السَّنا؛ الضوءُ أَما السَّناءُ - بالمد - فهو بمعنى العلوّ والرفعة. والبرق: التلأْلؤ واللمعان، يقال: برق السيف وغيره، أَي: لمع. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}: أَي، يصرفهما. وسيأْتى بيانه في التفسير.

التفسير 43 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ... } الآية. بيّن الله في الآية السابقة أَنه تعالى له ملك السموات والأرض، وعقبها بهذه الآية ليبين نوعًا من سلطانه وملكه وتصرفه فيهما، تأْكيدا لملكه لهما. والمقصود من الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} التنبيه إِلى آيات الله التالية للاستفهام المذكور، والحث على رؤيتها، أَو التقرير بها. والخطاب فيه: إِما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطابه خطاب لأُمته؛ لأَنه إمامها، وإِما لكل مَنْ هو أَهل للخطاب من المكلفين، والرؤية هنا إِما بصرية، لأَن تحريك السحب وما يتلوه من آثار أَمْرٌ مرئيٌّ لكل ذى عينين،، وإِما علمية لذوى البصيرة والتأَمل ولو على سبيل الإِجمال. والسحاب: واحده سحابة، ويتكون من بخار الماء الصاعد إِلى طبقات الجو العليا، وينشأْ هذا البخار من تسلط حرارة الشمس على المياه في نواحى الأَرض المختلفة، فإِن بقى هذا البخار بيننا ولم يرتفع إلى الطبقات العليا، فهو الضباب، فكلاهما ناشيءٌ من بخار الماءِ (¬1). والله - تعالى - يزجى السحاب المتفرق، أَي: يسوقه من مواطنه المختلفة شيئًا فشيئًا، ثم يؤلف بين جزئياته ويضمها، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض. ولِلْوَدْقِ في اللغة معنيان: أَحدهما المطر، وبه قال الجمهور في تفسيرهم إِياه في الآية, وشاهِدُه قول الشاعر: فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... ولا أَرْضَ أبْقَلَ إِبقالَها وقال امرؤ القيس: فَدَمْعهُمَا وَدْقٌ وَسحٌّ ودِيمَةٌ (¬2). ¬

_ (¬1) ومن ثم قال العلماء: الضباب: سحاب أنت فيه، والسحاب: ضباب لست فيه. (¬2) السح: السائل. والديمة: الدائم.

والمعنى الثاني: أَنه البرق، حكى القرطبى عن أَبي الأَشهب قوله في هذا المعنى: أثَرْنَ عَجَاجَةً وخرجْن منها ... خروج الوَدْقِ من خَلَلِ السحاب {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ (¬1) فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ}: السماءُ في اللغة: ما عَلَا وارتفع، ومنه يقال للسحاب: سماءٌ، وللفضاءِ والسقف: سماء، وللرفعة المعنوية: سماء، ومنه قول الشاعر في الفخر: إذا بلغ السماءُ لنا وليدٌ ... تَخِرُّ له أَعادينا سجودا ولفظ السماء يُذَكّر ويؤنث، والمراد به في الآية: إِما السحاب، وإِمَّا الفضاءُ فكلاهما يشتمل على جبال الركام التي ينزل منها البَرَد، كما هو صريح النص الشريف. وإِطلاق لفظ الجبال على الركام من باب التشبيه البليغ؛ فإن السحب الركامية تشبه الجبال في ضخامتها وارتفاعها. قال الإِمام الرازى في تفسير الآية: أَراد بقوله: {مِنْ جِبَالٍ} السحاب العظام؛ لأَنها إذا عظمت أَشبهت الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من مال: انتهى كلام الفخر الرازى. ويقول علماءُ الطبيعة الجوية في عصرنا: إِن السحب الركامية ترتفع أَميالا على شكل هرمي، قاعدتها إلى أَسفل وقمتها إِلى أَعلى، وهم بذلك يؤكدون ما نقلناه عن الإمام الرازى. وفي الآية إِعجاز علمى فوق إِعجازها البلاغى؛ فقد تحدثت عن تكاثف السحب، ووصولها في هذا التكاثف إلى درجة عالية تشبه في ضخامتها وشكلها الجبال، كما تحدثت عن إنزال البَرَد من تلك السحب الركامية المعبَّر عنها بالجبال، وعن البروق الخاطفة المتلأْلئة ¬

_ (¬1) لفظ (من) وقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية، وقوله: (من جبال) بدل اشتمال من قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} فإن السماء هنا بمعنى السحاب أو الجو، وكلاهما يشتمل على ركام السحب الشبيهة بالجبال، ولفظ: (من) في قوله: (من برد) للتبعيض أو البيان، في موضع المفعول به لقوله: (ينزل).

القوية الضوءِ إلى درجة تكاد تخطف الأبصار، وكل ذلك وغيره تنبىء عنه هذه الآية العظيمة، ويجرى على لسان أمِّيٍّ لا علم له ولا لغيره من أهل الأرض جميعًا في زمنه بمثل تلك العلوم الكونية، حيث كانت الجهالة والبدائية تنتشر بين الناس في المشارق والمغارب، الوثنيين منهم وأهل الكتاب، ولا شك أن هذا لا يمكن أن ينطق به إلا رسول آتاه الله العلم بوحى أيده به , وآذن بصدقه في نبوته ورسالته، فتبارك الله رب العالمين (¬1). والبَرَدُ الذي ينزل من تلك السحب الركامية: حبات في بياض الثلج وبرودته، ويقول الله في شأن هذا البَرَد: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ}: أي فيصيب الله بهذا البَرَد من يشاءُ من عباده فيتضرر به في نفسه، أو ماله، أَو زراعته، أو ماشيته، ويصرفه ويمنعه عمن يشاء، فيسلم من غائلته، حسبما جرت به حكمة الله وقدره. ويعقب الله ذلك بقوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}: أَي يقرب ضوءُ برق السحاب المتراكم المعبَّر عنه بالسماء، ثم بالجبال، يقوب ضوءُه أن يخطف الأبصار، من فرط الإضاءة والسرعة، وفي ذلك دليل عظيم على قدرة الله تعالى، حيث ولد النور من الظلمة الركامية، وخلق الشيء من ضده، بالإضافة إلى ما تضمنته الآية من عجائب إبداعه وقدرته، ويعقِّب الله ذلك بقوله: ¬

_ (¬1) وقد علق الخبراء على هذه الآية في التفسير المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية فقالوا ما يلى: تسبق هذه الآية الكريمة ركب العلم؛ فإنها تتناول مراحل تكوين السحب الركامية وخصائصها وما عرف عنها في العهد الأخير، من أن السحب الممطرة تبدأ على هيئة وحدات، يتألف عدد منها في مجموعات هي السحب الركامية، أي: السحب التي تنمو في الاتجاه الرأسى، وترتفع قممها إلى علو 15 أو20 كيلو مترا فتبدو كالجبال الشامخة. والمعروف علميا أن السحابة الركامية الممطرة تمر بمراحل ثلاث، هي: 1 - مرحلة الالتحام والنمو. 2 - ثم مرحلة الهطول. 3 - وأخيرا مرحلة الانتهاء. كما أن هذه السحب هي وحدها التي تجود بالبرد، وتشحن بالكهرباء، وقد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة (أربعين تفريغا في الدقيقة الواحدة) فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء، وهذا هو عين ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد - في المناطق الحارة - وينجم عن فقد البصر هذا أضرار بالغة تشكل خطرا حقيقيا على أعمال الطيران وسط العواصف الرعدية. وتعليقا على هذا نقول: إن ذهاب البصر في هذه الحالة وقتي، ولهذا قال - سبحانه -: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}.

440 - {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}: أَي يُصَرِّفهما بالمعاقبة بينهما، أَو بنقص أحدهما، وزيادة الآخر، أَو بتغيير أَحوالهما بالحر والبرد، والمظلمة والنور، أو بما يعم ذلك كله. ويختم الله الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}: والمراد بالأبصار هنا: البصائر والعقول، فهي التي تعتبر وتتعظ، أَي إن فيما تقدم من إزجاء السحاب، وإِنزال الوَدْقِ والبَرَدِ، وتقليب الليل والنهار، لَعِظَةً بليغة لذوى العقول المستنيرة، وذكرى لمن كان له قلب منيب، وإدراك وضاءٌ، حيث يدرك من هذا الإبداع في الخلق، والإحكام في التدبير، أَن ذلك كله من صنع إِله قدير، حكيم خبير. المعنى الإجمالى للآية: أَلم تشاهد - أيها الإنسان - من دلائل الألوهية والربوبية، أن الله تعالى يكوِّن سحابا في الجو ويسوقه من جهات مختلفة، ثم يؤلف بين وحداته فيضم بعضها إلى بعض، ثم يجعله متراكما طبقة فوق أخرى، فترى المطر أو البرق يخرج من بين هذا السحاب المتألف المتراكم، وينزل من السماء من سحابها المتراكم الشبيه بالجبال في عظمتها وارتفاعها - ينزل منها حبا يشبه الثلج في بَرْده ولونه، يسمى: البَرَد، فيصيب به من يشاء من عباده من ضرر في نفسه، أَو ماشيته، أو زراعته، أو ماله، ويصرفه عمن يشاء فينجو من أضراره، ويخرج منها برقًا مضيئًا سريع التتابع، يقرب هذا الضوءُ من أن يخطف أبصار الناظرين إِليه من فرط إِضاءته وسرعته. يُصَرِّف الله الليل والنهار بأن يجعلهما يتعاقبان، أَو يزيد في أحدهما وينقص من الآخر، أو يغير أحوالهما برودة وحرارة، أَو يجمع ذلك كله، إن فيما تقدم من عظائم القدرة، ودقة التدبير وإحكامه لعظةً لأصحاب البصائر النيرة؛ لِدِلاَلَتِهِ على وجود صانع حكيم قدير عليم، لا شريك له في ملكه، ولا معارض له في حكمه.

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)} المفردات: {كُلَّ دَابَّةٍ}: الدابة اسم لكل ما يدب ويتحرك من الحيوان، من: دَبَّ، يَدِبُّ دبًّا ودبيبًا - أي تحرك -، فهو دابٌّ، والتاءُ للمبالغة، ويقال: أكذب من دب ودرج، أي: أَكْذَب الأحياء والأموات، قاله صاحب المختار. {آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}: آيات موضحات للحقائق. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: إلى طريق لا اعوجاج فيه. التفسير 45 - {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ. . . . .} الآية. بيّن الله - تعالى - فيما تقدم أنه - سبحانه - نور السموات والأرض، فلا تخفى ربوبيته على من له عينان، وأن السموات والأرض والطير تسبح بحمده، وتشهد بتنزيهه عن جميع النقائص، وباستحقاقه جميع الكمالات، وأن السماء والمطر والبَرَد، والبرق الخاطف وضياءه الباهر من إبداعه، وتحت إرادته وحكمه، وأنه يقلب الليل والنهار بحكمة وتدبير رتيب، وجاء بهذه الآية ليشير بها إلى برهان من براهين ربوبيته، وهو خلقه كل دابة من ماء.

والمراد بالدابة هنا: ما يدب ويتحرك بنفسه على الأرض، أو في جوفها، أو في مائِها من الحيوانات والحشرات والأسماك، والله تعالى يقول: إنه خلقها كلها من ماءٍ، والمراد منه: النطفة، فالله - تعالى - جعل لكل ذكر من الحيوانات والحشرات والأَسماك نطفة تشتمل على خصائص نوعه، يودعها أَحشاء أنشاء فتحمل ثم تضع ذريتها لاستبقاءِ نوعها، ولا نعلم شيئًا من الكائنات الحية يخالف هذه القاعدة سوى آدم وعيسى، فآدم خلق من تراب، وعيسى خلق بالنفخ , ولا يمنع هذا عموم خلق الكل من الماء، فالنادر لا حكم له، فإن وجدت كائنات حية خلقت بغير النطفة سواهما، فالتعبير حينئذ بلفظ: (كل) مراعاة للغالب (¬1). وقد يراد من الماء: ما دخل في تكوين كل دابة من الماءِ، وخصّه بالذكر دون سائر عناصر تكوينها لأَهميته العظمى في بناءِ أَجسامها، ويفصل الله - تعالى - أنواع الدواب المخلوقة من الماء فيقول: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ}: أَي: فمن الدواب التي خلقت من ماءٍ من يمشى على بطنه كثعابين البَرِّ وزواحفه المختلفة، وثعابين الماءِ وسائر أَسماكه، وسميت حركة هذه وتلك مَشْيًا مع أَن الأُولى زَحْفٌ، والثانية سباحة، للمبالغة في إظهار قدرتها على الحركة كالدواب التي تمشى، ويزيدها حسنًا ما فيها من المشاكلة لِمَشْىِ ما بعدها، والمشاكلة نوع من أَنواع البلاغة. ومن هذه الدواب من يمشى على رجلين: كالإِنسان والطير، ومنها من يمشى على أَربع: كالأَنعام والوحوش وبعض حيوانات البحر. ¬

_ (¬1) يقول الخبراء - تعليقا على هذه الآية - في منتخب المجلس الأعلى للشئون الإسلامية: الماء في الآية هو ماء التناسل، أي: المشتمل على الحيوانات المنوية، والآية الكريمة لم تسبق ركب العلم في بيان نشوء الإنسان من نطفة؟ كما جاء في قوله - تعالى -: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لم تسبقه فيها فحسب، بل سبقته كذلك في بيان أن كل دابة تدب على الأرض خلقت كذلك بطريقة التناسل من الحيوانات المنوية، وإن اختلفت أشكال هذة الحيوانات المنوية وخصائصها في كل نوع من أنواع هذه الدواب. ومما تحتمله الآية من معان علمية: أن الماء قوام تكوين كل كائن حي، فمثلا يحتوى جسم الإنسان على نحو 70% (سبعين في المائة) من وزنه ماء، أي أن الشخص الذي يزن 70 كيلو جراما فجسمه يحوى 50 كجم ماء، ولم يكن تكوين الجسم واحتواؤه هذه الكمية الكبيرة من الماء معروفا مطلقا قبل نزول القرآن .... إلخ ما ذكره الخبراء.

وترتيب الأصناف حسبما جاء في الآية، على سبيل التدرج، ولأن قدرة الزواحف على الحركة مع فقدانها الأَرجل أَدَلُّ على قدرة الله، وتمكينه إياها من الحركة بغير الأسباب المعهودة في سعى الحيوان على رزقه، ولم يذكر من يمشى على أَكثر من أَربع - كالعناكب ونحوها - إِما لأن المراد بكل دابة: ما تقع عليه العين غالبًا، أَو أَن ما ذكر من باب التمثيل وأنه أشير إِلى ما يمشى على أَكثر من أربع بقوله تعالى: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أَي: مما ذكر وما لم يذكر. والتعبير بضمير العقلاء في قوله: {وَمِنْهُمْ} مع أن من يمشى على بطنه وعلى أَربع ليس منهم، لتغليب جانب العقلاءِ، وهم من يمشون على رجلين كالإنسان، واستعمال: (مَنْ) في غير العقلاءِ للمشاكلة، أو لأنها تستعمل في غير العقلاءَ بِقِلَّةٍ (¬1). ويختم الله الآية بقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أي يخلق الله ما يريد خلقه مما ذكر وما لم يذكر، بسيطا كان أَو مُرَكَّبًا، على ما يشاءُ من الصُّوَر والحركات والطبائع والقُوَى، إن الله على كل شيءٍ أَراد خلقه عظيم القدرة، إذ يقول للشىء: كن، فيكون. المعنى الإجمالى للآية: والله خلق كل حيوان يدب ويسعى فوق سطح الأرض أو في جوفها أَو في مائها - خلقه - من ماء، هو سائل النطفة الذي هو أَصل الكائنات الحية المتوالدة، أَو هو الماءُ الذي خلق منه معظم جسمه، فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه، كالزواحف والأسماك، ومنهم من يمشى على رجلين: كالإِنسان والطير, ومنهم من يمشى على أَربع: كالأنعام والوحوش وبعض الحيوانات البحرية، يخلق الله ما يشاءُ خَلْقَه من هذه الدواب وغيرها، على ما يشاءُ من صورها وحركاتها وقواها ومنافعها وأضرارها، والله على كل شيءٍ أراد خلقه قدير؛ إذ يقول له: كن، فيكون. ¬

_ (¬1) الحق أن استعمال: (من) في العقلاء أغلبى، وأن استعمال: (ما) في غير العقلاء كذلك، وقد يتقارضان، فتستعمل كلتاهما في غالب ما تستعمل فيه الأخرى - كما هنا في (من) وكما في قوله تعالى: (والسماء وما بناها) بالنسبة لما، فإنها هنا مراد منها المولى - سبحانه وتعالى - أي: ومن بناها.

46 - {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: هذه الآية جاءت مقدمة لما بعدها، ولهذا لم تُعطف على ما قبلها كما عطفت مثيلتها السابقة: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} الآية. والمعنى: لقد أنزلنا آيات قرآنية موضحات لكل عاقل ما ينبغي توضيحه من الأحكام الدينية، والأسرار التكوينية، والله يهدى من يشاءُ هدايته إلى طريق مستقيم يوصله إلى الحق والفوز في دار الثواب، وذلك بتوفيق من وعاها بسمعه وقلبه إلى التدبر في معانيها، والنظر الصحيح فيما ترشده إليه من دلائل الحق. {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} المفردات: {يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ}: يعرض جماعة منهم عن طاعة الله ورسوله. {مُعْرِضُونَ}: منصرفون. {مُذْعِنِينَ}: منقادين. {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: المراد بالمرض هنا، النفاق. {أَنْ يَحِيفَ}: أن يجور ويظلم.

التفسير 47 - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}: بيّن الله - سبحانه - في الآية السابقة أنه تعالى يهدى إلى آياته البينات من يشاء، وهم أَولو البصائر النيرة، فيهتدون بهديه إلى الصراط المستقيم، وبين في هذه الآية وما بعدها من لم يشأ الله هدايتهم من ذوى البصائر المظلمة، والأفكار الضالة من المنافقين. ويقول الطبرى وغيره في سبب نزول هذه الآية وما بعدها: إن رجلا من المنافقين اسمه: (بشر) كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض , فدعاه اليهودى إلى التحاكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان اليهودى محقًّا والمنافق مبطلا، فأبى المنافق وقال. إن محمدا يحيف علينا، فلنُحَكِّم (كعب بن الأشرف) فنزلت فيه (¬1). وقال الضحاك: نزلت في (المغيرة بن وائل) كان بينه وبين على - كرم الله وجهه - خصومة في أرض , فدعاه عليّ أن يتحاكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال , أما محمد فلست آتيه؛ فإنه يبغضنى وأنا أخاف أن يحيف علي، فنزلت (¬2). وهذه الآية وإن نزلت في قصة واحد من المنافقين (¬3) , لكنهم لما كانوا جميعًا على مذهب واحد من النفاق، حيث كانوا يظهرون الإيمان والطاعة، ويبطنون الكفر والمخالفة - لما كانوا جميعًا كذلك - حكى الله نفاقهم بصيغة الجمع بقوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} وختم الآية بقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. والمعنى الإجمالى للآية، ويقول المنافقون بألسنتهم: صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا , مظهرين بذلك ولاءَهم لله ولرسوله , ثم ينصرف فريق منهم من بعد قولهم هذا معرضين عما يقتضيه الإيمان من الالتزام بشريعة الله والتخلق بأخلاق المؤمنين، وما هؤلاء المنافقون بالمصدقين المخلصين، فقلوبهم مخالفة لألسنتهم، وما قالوه كان رياءً ونفاقًا لجرِّ المنافع ودفع المضار. ¬

_ (¬1) نقله القرطبي عن الطبري. (¬2) مختصر من الآلوسى. (¬3) على اختلاف الروايتين.

48 - {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}: وإذا دعا المنافقين خصومُهم إِلى شرع الله ورسوله، ليحكم به الرسول بينهم، فاجأ بعضهم بالإِعراض عن التحاكم إِلى رسول الله إذا كان الباطل في جانبهم والحق في جانب غيرهم، خشية أن يحكم عليهم بشريعة الله التي تنصف المظلوم ولو كان من الكافرين, وتدين الظالم ولو لبس ثياب المؤمنين. 49 - {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}: وإن يكن للمنافقين الحق جهة خصومهم يأْتوا إِلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - منقادين له، مسرعين إِليه؛ لعلمهم بأنه سيحكم لهم؛ لأنه يحكم بالحق حيثما كان. ثم بين الله ما يدور عليه إِعراض المنافقين عن التحاكم إلى رسول الله وهم مبطلون، فقال - سبحانه -: 50 - {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: تفيد هذه الآية أن امتناع المنافقين عن التحاكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما يكون الحق ضدهم، لا يخرج عن أن يكون ناشئًا عن مرض في قلوبهم، يميل بهم إلى الظلم وكراهة الحق، أَو ناشئًا - في زعمهم - عن وجود ما يريبهم ويشككهم في نبوته - صلى الله عليه وسلم - أَو عن خوف من أَن يجور الله عليهم ورسوله. وبما أَنه لا سبيل إِلى الريب في نبوته؛ لأنه النبي الحق المؤيد من عند الله بالآيات البينات، ولا مجال للخوف من جوره في الحكم؛ لأَنه عرف بالعدل التام بين الناس جميعًا فلا يبقى إِلا السبب الأَول، وهو مرض قلوبهم الشامل لكفرهم ونفاقهم، فهو الذي صرفهم عن التحاكم إليه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ختمت الآية بالحكم بظلمهم لنفوسهم وذلك بنفاقهم الذي أَصبح مرضًا في قلوبهم. وقد اتبعت الآية معهم أسلوب المحاورة لكشف حالهم، والاستفهام فيه للتوبيخ والذم وتشديد النكير عليهم.

والمعنى الإجمالي للآية: أَفي قلوب هؤلاه المنافقين مرض منعهم من التحاكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم ارتابوا في نبونه لوجود ما يريبهم فيها، أَم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله إِن تحاكموا إليه؟ والحق أَنه لا يوجد سبب من جهته - صلى الله عليه وسلم - يمنعهم من التحاكم إِليه؛ فهو النبي العادل دون ريب، بل السبب هو ظلمهم لأنفسهم بمرض قلوبهم ونفاقهم، وظلمهم لخصومهم بمحاولة الاستيلاء على حقوقهم. {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} المفردات: {الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون. {وَيَتَّقْهِ}: قرأَها حفص بإسكان القاف وكسر الهاء غير مشْبَعَة، حكى ابن الأَنبارى أَنها لغة لبعض العرب، إِذ يُسكِّنون ما قبل الحرف المعتل بعد حذفهم المعتل للجازم، ومنه قول الشاعر: ومن يتَّقْ فإن الله معه ... ورزق الله مؤْتَابٌ وغادى وقرأَها الباقون بكسر القاف، اكتفاء بحذف حرف العلة للجازم، وخفِّفَ كسرة الهاء بعضهم، وأشبعها بعض آخر، وهذا عند القراءة، أما عند الوقف فقد أجمع القراء على تسكين الهاء.

التفسير 51 - {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: تحكى هذه الآية الكريمة حال المؤمنين الصادقين إِذا دعوا إلى التحاكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إثر حكاية حال المنافقين، ليتبين الفرق بين الخبيث والطيب. ومعنى الآية: ما كان قول المؤمنين الصادقين إِذا دعاهم أحد إلى شرع الله ورسوله ليحكم به الرسول بينهم - ما كان قولهم حينئذ - إِلا أن يقولوا لداعيهم: سمعنا قولك، وأطعنا أَمرك بالنزول على حكم الله ورسوله، وأولئك المؤمنون الصادقون هم الفائزون برضوان الله وجزيل ثوابه، دون من عداهم من المنافقين الذين يتحاكمون إِلى غيره؛ فرارا من عدل الله ورسوله. قال قتادة - تعليقًا على هذه الآية -: ذُكِرَ لنا أن عبادة بن الصامت - وكان عَقبِيًّا (¬1)، بَدرِيًّا (¬2)، أَحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره الموت قال لابن أَخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومَنْشطِك ومَكْرَهِك (¬3)، وأَثرَة عليك (¬4) , وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأَلا تنازع الأمر أهله، إِلا أَن يأمروك بمعصية الله بَوَاحًا (¬5)، فما أمرت به من شيءٍ يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله. وقال قتادة أيضًا، وذكر لنا أَن أَبا الدرداء قال: لا إسلام إِلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة. ¬

_ (¬1) أي: كان ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقبة بمنى، وقد شهد العقبتين - الأولى والثانية -. (¬2) أي: كان من المقاتلين في غزوة بدر. (¬3) المنشط: ما تنشط إليه نفسك وتشرئب لعمله، والمكره: ضده. (¬4) الأثرة: حبك الشيء لنفسك، والإيثار: ضده، والمراد من السمع والطاعة في الأثرة عليه ألا يمانع في فضيل غيره عليه. (¬5) ظاهرا مكشوفا.

وقال أيضًا: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إِلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أَمر المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، انظر ابن كثير. 52 - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}: هذه الآية مستأنفة لتقرير ما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب سواهم في أن يكونوا منهم. والمعنى، ومن يطع الله فيما فرضه على عباده، ويطع رسوله فيما بينه من الفرائض والسنن، ويخشى الله على ما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما يستقبل من عمره، فأولئك هم الفائزون بالنعيم المقيم في جنة الرحمن الرحيم، دون عن عداهم من المنافقين والكافرين. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} المفردات: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: أَي طاقة أيمانهم (¬1)، والمراد: أنهم بلغوا أقصى المراتب في الإقسام بالله، و (جَهْدَ) مصدر في موضع الحال بتأْويله بجاهدين {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَي: طاعتكم طاعة معروفة باللسان، فلا تقسموا، فالجملة علة للنهى عن القسم الكاذب ¬

_ (¬1) وفي إضافة الجهد للإيمان مجاز بالاستعارة، لأن الجهد الحالف، وليس اليمين.

{فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ}: أَي ما على الرسول سوى تبليغ ما حمله الله من الرسالة وقد فعل. {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}: من الطاعة القلبية والظاهرية. التفسير 53 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ. . .} الآية. بَيَّن الله في الآيات السابقة أَن المنافقين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} عن قبول التحاكم إِلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفهم بقوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إِلى آخر ما جاء فيهم من ذم أحوالهم، وجاءت هذه الآية لتبين أنهم لما علموا بنزول هذه الآيات فيهم جاءوا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبرئوا أنفسهم من النفاق والكذب في أَيمانهم ويعلنوا طاعتهم، وأقسموا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لو أمرهم أَن يخرجوا من أموالهم وديارهم لفعلوا. (¬1) والمعنى: وأقسم المنافقون مبالغين في إِقسامهم جهد طاقتهم، ليبرئوا أنفسهم من النفاق وعدم الطاعة والانقياد لحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قائلين: والله لئن أمرتنا يا رسول الله بالخروج من ديارنا وأموالنا لنفذنا أمرك، وخرجنا منها طاعة لأمرك، فرد الله عليهم قائلا لرسوله: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي: قل لهم أيها الرسول: لا تقسموا على طاعة الله ورسوله، فطاعتكم طاعة معروفة للناس، فهي طاعة باللسان، وليست نابعة من قلوبكم , أن الله خبير بما يصدر عنكم من أعمال النفاق الضارة بالإسلام وبالمسلمين، فمجازيكم عليها أشد الجزاء. 54 - {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}: قل لهم أيها الرسول: أطيعوا الله ورسوله مخلصين غير منافقين , فإن تتولوا وتعرضوا عما كلفتم به من الطاعة فما على الرسول سوى تبليغ الرسالة التي حمله الله تعالى أمر تبليغها، ¬

_ (¬1) وفسر بعضهم الخروج في الآية بالخروج الجهاد، ولكنه غير مناسب لسياق الآيات قبلها.

وما عليكم إلا الطاعة الخالصة من النفاق، فهي التكليف الذي حملكم الله إياه لتنفذوه، وختم الله الآية بنصيحتهم بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أي وإن تطيعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يأْمركم به وينهاكم عنه ويحكم به تهتدوا إلى الحق وإِلى صراط مستقيم، وليس على الرسول إِلا تبليغ أمته تبليغا مبينًا للحق والباطل وقد فعل، وليس عليه أن يقهركم على الطاعة، فهي مسئولة منكم وتكليف واجب عليكم. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} المفردات: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}: ليجعلنهم خلفاءَ متصرفين في الأرض. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}: أَي وليجعلنه مكينا ثابتًا. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}: ومآلهم ومسكنهم جهنم.

التفسير 55 - {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. . . . .} الآية. قال أبو العالية في سبب نزول هذه الآية الكريمة: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين (¬1) بعد ما أوحى الله إِليه خائفًا هو وأَصحابه يدعون إلى الله سرًّا وجهرا، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح، فقال رجل: يا رسول الله أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلبثون إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليس عليه حديدة" ونزلت الآية، وأَظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنُوا. اهـ وقال الضحاك ما خلاصته: أَن هذه الآية تتضمن صحة خلافة أَبي بكر وعمر وعثمان وعلي فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقد استخلفهم الله على الأرض التي وَلاَّهم الله عليها، وإلى هذا الرأى ذهب ابن العربي، وحكى في أحكامه أن علماء المالكية يرون أن هذه الآية دليل على صحة خلافتهم، فهم الذين استخلفهم الله ورضى أَمانتهم، ولم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأَمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبُّوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم. وحكى القشيرى هذا القول عن ابن عباس، واحتجوا بما رواه سَفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) التقييد بعشر سنين راجع إلى مدة إيذائهم للنبي وأصحابه بعد الجهر بالدعوة، أما مدة الدعوة إلى الإسلام بمكة فقد كانت ثلاث عشرة سنة، وكانت الدعوة في السنوات الثلاث الأولى في الخفاء، فلما جهر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاب آلهتهم التي عبدها آباؤهم، أخذتهم حمية الجاهلية، فآذوه وأصحابه عشر سنين تباعا، وحملوهم على الهجرة.

"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا". وقالت طائفة من العلماء: هذا وعد لجميع المسلمين بأن تكون الأرض كلها تحت لواءِ الإسلام، وهم مستخلفون عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" من حديث رواه الإمام أحمد بسنده عن شداد بن أَوس. واختار ابن عطية هذا القول، وقال: الصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها كالذى جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب (¬1). ونحن نقول: سواءٌ أَكان المراد من الآية الخلفاء الأربعة، أَو جماعة الأمة الإسلامية فقد حقق الله وعده هذا وذاك , وقد ارتفع لواءُ الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، ولا توجد اليوم أمة في الأرض إلا والإسلام إما غالب فيها، أوْ له كيان بين أرجائها، أَو مكان ممتاز بين أَديانها، بفضل سلامة مبادئه، ووضوح آياته، وجهاد قادته وثقافة دعاته. وما زلنا ننتظر المزيد من فضل الله رب العالمين. وكما حقق الله بذلك وعده، حقق به وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه". أَخرجه الأمام مسلم في صحيحه، وكلاهما من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنه إِخبار عما سيكون فكان، مع أَنه فوق مستوى الظنون، ودون تحقيقه ما هو إلا المستحيل أَقرب، ولكن الله على كل شيءٍ قدير. وقد وعدهم الله أَن يستخلفهم {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: والمراد من الذين قبلهم: بنو إسرئيل، فقد استخلفهم على أرض الجبارين في بلاد الشام، وهي الأرض المقدسة التي دعاهم موسى - عليه السلام - إلى دخولها بقوله لهم: ¬

_ (¬1) ارجع إلى القرطبي.

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (¬1) فأجابوه بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}. ولما نصحهم بعض المخلصين منهم بالهجوم عليهم متوكلين على الله فإِنهم سيغلبونهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (¬2) فشكاهم إِلى الله تعالى فحرمها عليهم {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} (¬3). ولما فَنىَ هذا الجيل الفاسد، وانتهت عقوبة الحرمان، فتحها بذرياتهم نبي الله يوشعُ - عليه السلام - فهذه هي الأَرض التي استخلفهم الله عليها بعد أَن ظلوا عبيدا للمصريين بعد يوسف - عليه السلام - حتى أنقذهم الله تعالى من العبودية على يد موسى وهرون - عليهما السلام -. وقد أَشار الله تعالى إِلى ماضيهم المستضعف وإلى الأَرض التي استخلفوا عليها بقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (¬4). فالأَرض التي أُورثوا مشارقها ومغاربها، هي الأَرض المباركة وهي أرض فلسطين لقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (¬5). وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (¬6). ولما أَفسد بنو إِسرائيل فيها عدة مرات أخرجوا منها، وحرموا ميراثها, ثم اغتصبوها عدوانًا من المسلمين الذين خلصوا أَهلها من ظلمهم، وكانوا أحق بها منهم، والعاقبة للمؤمنين الصابرين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 21 (¬2) سورة المائدة، الآية: 24 (¬3) سورة المائدة، من الآية: 26 (¬4) سورة الأعراف، من الآية: 137 (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 71 (¬6) أول سورة الإسراء.

{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} أي: أَنه تعالى كما وعد المؤمنين الصالحين باستخلافهم في الأرض وعدهم أَيضًا بأن يمكن ويثبت لهم دينهم الإسلام الذي ارتضاه لهم، وأَن يمنحهم الأمن والطمأْنينة، بدلا من الخوف الذي كان يقض مضاجعهم من أَعدائهم (¬1). وعقب الله هذا الوعد ببيان مقتضيه فقال: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}: أَي أَنه تعالى إِنما يستخلفهم ويمكن لهم دينهم، لأنهم يعبدونه وحده لا يشركون به في العبادة سواه، وأتبع هذا بتحذيرهم من الكفر فقال سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}: والمراد من الكفر هنا إما الردة، وإما كفران نعمة الاستخلاف والتمكين، فإن أريد منه الردة فالمراد بالفسق بلوغ الغاية فيه، حيث ارتدوا بعد إِيمان، وإن أُريد منه كفران النعمة، فالمراد منه مطلق الخروج عن الطاعه مع بقاء الإيمان. والمعنى الإِجمالي للآية: وعد الله الذين آمنوا بالله ورسوله، وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه - مع قلتهم وكثرة أعدائهم - وعدهم -، أن يجعلهم خلفاءَ على أرضه في مشارقها ومغاربها، يَلُون أمرها وتدين لطاعتهم، وينشرون في أَرجائها دينه، ويبينون للناس آياته وبراهينه. وهذا الاستخلاف لهم قد سبقه مثله لبنى إسرائيل قبلهم في أرض فلسطين، بعد أن استقامت أمورهم، وعادوا إلى ربهم، وقبل أَن يفسدوا في الأرض. كما وعدهم أَن يثبت لهم دينهم الإسلام بين سائر الملل والنحل فيحميه من أَهلها، وأَن يعوضهم بدلا بن الخوف الذي يعيشون فيه أَمنًا من الأعداء، بما يمنحهم من القوة ¬

_ (¬1) وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحيرة"؟ قال: لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال: "فوالذى نفسى بيدى ليثبتن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز" قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز .. " من حديث أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام.

والكثرة والفتوحات، لأنهم يعبدونه تعالى لا يشركون به سواه، ومن ارتد بعد هذا الوعد أو تحقيقه أو كفر بنعمته التي أنعم بها عليه فأولئك هم الخارجون عن الإيمان، أو عن فضيلة الشكران (¬1). 56 - {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: وأدوا الصلاة بأركانها وشروطها في مواقيتها، وأعطوا زكاة أموالكم وأبدانكم إلى من يستحقها، وأطيعوا الرسول في كل ما أمركم به أوْ نهاكم عنه، لعلكم ترحمون في الدنيا بتحقيق مواعيد الله لكم، وتحقيق آمالكم، وفي الآخرة بالنجاة من النار، والثواب الجزيل في جنات النعيم. 57 - {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: في هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووعد له بالنصر، أي: لا تظن يا محمد أن هؤلاء الذين كذبوك وكفروا بما جئتهم به من الله - لا تظنهم - معجزين الله في الأرض عن الانتقام منهم ونصرك عليهم، فإن الله قادر على ذلك، وسوف يعذبهم على كفرهم، ومآلهم النار يأوون إليها خالدين ولبئس مصير الظالمين. ¬

_ (¬1) أطال ابن كثير في التعليق على هذه الآية الكريمة، فارجع إلى ما كتبه فيها إن شئت، فإنه كلام نفيس، تناول فيه التطورات التي مرت بالدولة الإسلامية نحو خلافتها في الأرض تحقيقا لوعد الله الكريم، وحسب القارىء ما كتبناه، ففيه الكفاية والله تعالى هو الموفق.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} المفردات: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ}: ليطلب الإذن منكم. {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: عبيدُكم وإماؤُكم، والتعبير عنهم بما ملكت الأيمان لأنهم يؤسرون في الحرب بالأيمان لا بالشمائل غالبًا فنسب الملك إليها لذلك. {الْحُلُمَ} بضم اللام: أَوان البلوغ. {تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ}: تخلعونها.

{ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ}: العورة؛ الخلل، يقال: أَعورُ المكان، أَي: مخْتلُّه (¬1)، ورجل أَعور أي: مختل العين، أي: هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم. {جُنَاحٌ} أَي: حرج. {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}: أي؛ هم يطوفون عليكم في غير هذه الأوقات لقضاء مصالحكم، فَلا داعى لاستئذانهم منكم. {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ}: العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل أَو عن التصرف لكبر السن، ومفرده: قاعد، بدون هاءٍ، ليدل حذفها على أَنه قعود الكبر وهو من الصفات الخاصة بالنساء كالطالق والحائض. {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}: أي؛ يتخلين عن الثياب الظاهرة. {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}: أي؛ غير مظهرات زينتهن {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ}: يطلبن العفة بالستر {خَيْرٌ لَهُنَّ}: من التجرد من الثياب الخارجية الظاهرة لأنه أبعد عن التهمة. التفسير 58 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}: هذه الآية وما بعدها اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أَول السورة كان بيانًا لاستئذان الأجانب بعضهم على بعض، وقد أَمر الله المؤمنين والمؤمنات (¬2) في هذه الآية، أَن يستأْذنهم خدمهم مِما ملكت أَيمانهُم من العبيد والإماءِ وأَطفالُهم الذين لم يبلغوا الحلم. وكانوا مميزين في ثلاثة أحوال: الأولى: من قبل صلاة الصبح، لأن الناس حينئذِ إِما نيام في فرشهم، وإِما قيام من مضاجعهم ليطرحوا ثياب النوم ويلبسوا ثياب اليقظة. والحالة الثانية: حين يخلعون ثيابهم وقت الظهيرة للنوم. والحالة الثالثة: بعد صلاة العشاء إلى الفجر، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم، والتساهل في كشف بعض أَجزاءِ الجسد، وقد يكون الرجل مع أَهله ¬

_ (¬1) انظر البيضاوى. (¬2) فالخطاب في الآية وإن كان للرجال، إلا أن الحكم فيها عام لهم وللنساء , لأنهن شقائق الرجال في الأحكام إلا ما علم خصوصه بأحدهما.

في أية حالة من هذه الحالات، فيؤمر الخدم والأطفال أَلا يهجموا على أهل البيت فيها، بل يستأْذنوا تأدبًا وتصونًا، وحفاظًا على عورات الناس أَن تكشف، ولقد أَطلق الله على هذه الأوقات عورات لذلك روى ابن أَبي حاتم بسنده (عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أَمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: إن الله ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجَالٌ (¬1) في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمه أَو ولده أو يتيمه في حجره أَي في كفالته وهو على أهله، فأمرهم أَن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال. فرأى الناس أَن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أُمروا به) قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إِلى ابن عباس. وحكى المهدوى عن ابن عباس أن الاستئذان كان واجبًا إِذ كانوا لا غَلَق لهم ولا أبواب. ولو عاد الحال لعاد الوجوب - ذكره القرطبى في المسألة الثانية وعقبه برأى آخر يفيد أن الآية محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساءِ، وذكر أنه قول أَكثر أَهل العلم. اهـ وبه نقول، فإن الآية الكريمة أَطلقت الأمر بالاستئذان، سواءٌ وجدت الأَبواب والستور أو لم توجد، فلا يحل اقتحام الأَبواب والستور دون استئذان في تلك الأَوقات، لوجود مقتضى المنع وهو احتمال انكشاف العورات فيها، روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث غلاما من الأنصار يقال له مُدْلِج إِلى عمر بن الخطاب ظهيرةً ليدعوه، فوجده نائمًا قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شىءٌ، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءَنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإِذن، ثم انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الآية قد أنزلت، فخر ساجدًا شكرًا لله. فأَنت ترى أَن الغلام دق الباب ونادى عمر ودخل قبل أَن يستيقظ عمر ويأْذن له، فانكشف منه للغلام ما لا يحب أَن ينكشف لأَحد، فلهذا نرى أَن الحكم ثابت مع وجود ¬

_ (¬1) الحجال: جمع حجلة، وهي بيت كالقبة يستر بالثياب وله أزرار كبار.

الأبواب والستور، كما أطلقتة الآية الكريمة، ويشير إلى ذلك ختم الآية بقوله سبحانه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وقال السدى في سبب نزول الآية: كان أناس من الصحابة - رضى الله عنهم - يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أَلا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا - والله أَعلم - أَن رجلا من الانصار وامرأَته أسماء بنت مَرْثَد، صنعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماءُ: يا رسول الله، ما أَقبح هذا، إنه ليَدْخُل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأُنْزِل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ... } الآية. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}: أَي ليس عليكم أَيها المؤمنون والمؤمنات حرج في أن يدخل عليكم عبيدكم وإماؤُكم وأَطفالكم الذين لم يبلغوا الحلم في غير هذه الأوقات؛ لأنكم تكونون حينئذ متسترين محتاطِين، مستعدين لدخولهم عليكم، لكي يقضوا حاجاتكم، ولذا علل نفى الجناح بقوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}: أَي: هم طوافون عليكم بحوائج البيت، بعضكم طائف على بعض. ولا يخفى ما في هذا التعبير القرآنى الجليل من جبر خواطر المماليك، بجعلهم بعضًا من سادتهم المخاطبين، وبذلك يقوى أمر العِلِّية، ثم ختم الله الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آيات الأحكام، والله عليم بمصالح عباده، حكيم في تشريعه. المعنى الإجمالي للآية: يا أيها المؤمنون والمؤمنات يجب عليكم أن تأمروا عبيدكم وإماءكم وأولادكم المميزين الذين لم يصلوا إلى سِنِّ البلوغ بالاحتلام، أن يستأذنوا في الدخول

ثلاث مرات (¬1): (إحداها) من قبل صلاة الفجر، لأنه وقت القيام من النوم، والاستعداد للصلاة بالطهر من الجنابة، أَو خلع ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة. (وثانيها) حين تخلعون ثيابكم وقت الظهيرة، وتلبسون ثياب نومكم للقيلولة. (وثالثها) من بعد صلاة العشاء، لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم، فهذه ثلاثة أَوقات يختلُّ فيها تستركم، وتبدو بعض عوراتكم، وقد يكون فيها الرجلَ مع أَهله، فعلِّموا عبيدكم وإماءكم ومن لم يبلغ الحلم من أَطفالكم أدب الاستئذان فيها صيانة لعوراتكم، وتأْديبًا لأتباعكم وأَطفالكم، ليس عليكم ولا عليهم حرج بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان، فهم طوافون عليكم لقضاء مصالحكم، وهم بعض منكم طائف على بعض، فكُلْفَةُ استئذانهم عليكم مرفوعة حينئذ، لأنكم في غير خلوة، ومحتاطون بالتستر في غير هذه الأوقات، ومستعدون للقائهم لقضاء حاجاتكم، مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آياته التشريعية، والله عليم بمصالحكم، حكيم فيما يشرعه لكم. 59 - {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}: لما بَين الله في الآية السابقة حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: وهو أنهم لا يُلزَمون بالاستئذان إِلا في الأوقات الثلاثة المبينة فيها، عقبها الله هذه الآية لبيان حكم الأطفال الذين بلغوا، سواءٌ أكانوا أَقارب أَم أجانب - كما قاله أبو حيان في البحر (¬2) وقد بين الله - تعالى - في الآية أَنهم يستأذنون كما استأذن الذين من قبلهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ... } الآية، وذلك بأن يستأْذنوا في جميع الأوقات قبل الدخول، ويرجعوا إن قيل لهم: ارجعوا. ¬

_ (¬1) يرى الجمهور أن قوله تعالى: "ثلاث مرات" بمعنى ثلاثة أوقات، وإطلاق اسم المرات على تلك الأوقات لمرور المستأذنين فيها، وعلى هذا يكون لفظ: (ثلاث) منصوبا علي الظرفية مجازا، واختار أبو حيان في (البحر) أن المعنى: ثلاث استئذانات، كما هو الظاهر، فإنك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات، لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الاستئذان ثلاث" وعليه يكون لفظ (ثلاث) مفعولا مطلقا للاستئذان مبينا لعدده. انتهى بتصرف يسير نقلا من الآلوسى. (¬2) وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير.

وأخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه قال: يستأذن الرجل على أمه، وأخرج البخاري في الأدب، وابن أَبي حاتم وغيرهما عن عطاء أَنه سأل ابن عباس - رضى الله عنهما - أأَستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجرى - أي: في كفالتى - وأَنا أنفق عليها، وإِنها معى في البيت، أَأَستاذن عليها؟ قال: نعم - ثم قال: فالإذن واجب على خلق الله أجمعين (¬1). وروى عنه أَنه قال: إِنى لآمر جارتي - يعنى زوجته - أن تستأذن عليّ، وحمل بعضهم الآية على أَطفال المؤمنين الأجانب إِذا بلغوا، وقال بعض الأجلَّة: المراد بهم: ما يعم البالغين من الأحرار والمماليك، فهؤلاء وأولئك هم الذين يستأذنون في جميع الأحوال (¬2). والمعنى الإجمالي للآية: وإِذا بلغ الأطفال الحلُم منكم أَيها المؤمنون فليستأذنوا في جميع الأحوال كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله - تعالى -: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وعليكم أَن ترجعوا إذا قيل لكم: ارجعوا، مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم آيات أحكامه، والله عليم بمصالحكم، حكيم فيما يشرعه لكم. 60 - {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: أَي: والنساءُ العجائز اللاتى قعدن عن الحيض والحمل، ولا يطمعن في الزواج لكبرهن فليس عليهن حرج في أَن يخلعن ثيابهن الظاهرة التي لا يفضى خَلْعها إلى كشف العورة، كالرداء والقناع الذي يكون فوق الخمار (¬3)، وعليهن ألا يظهرن زينة أمر الله بإخفائها في قوله - تعالى -: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} وأَن يستعففن بالستر أَفضل لهن؛ لأنه أَبعد عن التهمة، وأدعى إِلى الخير، والله سميع لمقالتهن للرجال، عليم بمقاصدهن فيحاسبهن عليها. ¬

_ (¬1) ولعل استئذان المحارم البالغين إنما يطلب في غير الأوقات، التي وردت في الآية التي قبلها إذا كان الباب مغلقا، فإن كان مفتوحا فإنه لا حاجة لاستئذانهم علي محارمهم، لأن فتح الباب فيه إذن ضمني. (¬2) انظر الألوسى. (¬3) الخمار - بكسر الحاء -: غطاء الرأس، ويقال له: النصيف.

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)} المفردات: {حَرَجٌ}: ضيق ومؤاخذة. {إِخْوَانِكُمْ}: أَي إخوتكم الذكور. {مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}: أي المكان الذي بأيديكم مفاتحه أمانة لإخوانكم، والمفاتح: جمع مِفتح، وهو المفتاح. {أَشْتَاتًا}: متفرقين، جمع شَتٍّ، أَي متفرق. {مُبَارَكَةً}: مرجوة الخير والثواب. {طَيِّبَةً}: تطيب بها نفس من يستمع إليها. التفسير 61 - {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ. . . .} الآية. تحدثت الآيات الثلاث السابقة عن أدب الاستئذان من المماليك وصغار الأطفال والبالغين على ذويهم، وجواز ترك العجائز لبس الثياب الخارجية كالأردية، مع ستر

ما يجب ستره من المرأة وعدم التزين، وأن لبس الثياب الخارجية خير لهن وأبعد عن التهمة من خَلْعِها. وجاءت هذه الآية الكريمة لتحدثنا عن أنواع أخرى من الآداب الإسلامية الرفيعة، فقد اشتملت على ثلاثة منها (أولها) يرتبط بأصحاب العاهات (وثانيها) يرتبط بالأصحاء (وثالثها) تحية الإسلام عند الدخول، فأما ما يرتبط بأصحاب العاهات ففي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}. وفي هذا الجزء من الآية نقل الآلوسى من كتاب (الزهراوين) عن ابن عباس أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء، حذرا من استقذارهم إياهم وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم، فنزلت. ونقل القرطبى عن ابن العربى أنه قال: المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به المشى، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك، ثم قال بعد ذلك مبينًا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم، فهذا معنى صحيح، وتفسير بيِّنٌ مفيد يعضده الضرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل. اهـ. قال القرطبى - تعقيبًا على كلام ابن العربى -: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمْرُ الشريعة يدل على أن الحرج مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضى نيتُهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضى العذر أَن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. اهـ. ونرى أن كلام ابن عطية شامل لما قاله ابن العربى، ولما روى عن ابن عباس، وهو خير ما يقال في تفسير هذا الجزء من الآية، وبه نقول. (والنوع الثاني من الأدب) يشتمل عليه قوله - سبحانه -: {لَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ

أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}: وقد بَيَّن الله - سبحانه - في هذا الجزء من الآية أنه لا حرج على المؤمنين جميعًا، ومنهم أصحاب العاهات المذكورة، أن يأكلوا من بيوتهم، والمقصود منها: البيوت التي فيها أولادهم وزوجاتهم فهي كبيوتهم، فلا حرج عليهم في أن يأكلوا من طعام مملوك لهم؛ لأن ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه، ولذا لم يذكر الله تعالى الأولاد في الآية, قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" ولأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة كبيت الزوج، فكأنه تعالى يقول: ولا على أنفسكم حرج في أن تأكلوا من مساكنكم التي فيها أهلوكم وأولادكم. كما بَيَّن - سبحانه - أنه لا حرج على المؤمنين في أن يأكلوا من بيوت آبائهم أو بيوت أمهاتم، أو بيوت إخوتهم الذكور، أو بيوت أخواتهم الإناث، أو أعمامهم أو عماتهم أو أخوالهم أو خالاتهم، سواءٌ أذنوا لهم في الأكل أو لم يأذنوا؛ لأن في القرابة التي بينهم إذنا عرفيا لهم بالأكل، ويقول ابن العربى: أباح الله الأكل من جهة النسب من غير استئذان، إِذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان الطعام مُحْرزًا لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محرز إلا بإذن. وقال بعض العلماء: لا يباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب إِلا بإذن منهم؛ لأنه لا يعلم رضاهم إلا به، أما القرابة فليست من أَسباب الرضا دائِما، فمن الأقارب من لديه سماحة، ومنهم أشحة، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله، فلا يحل الأكل من بيوتهم بغير إذنهم ومعرفة رضاهم، وهذا الكلام قريب مما قاله ابن العربى، فإن الطعام إذا كان مبذولا لآكليه، فتلك أَمارة على رضا أَصحابه. والمقصود الأول من الآية: هو غرس غريزة الكرم والبر بالأقارب في نفوس المؤمنين , ما داموا قادرين على ذلك، وإعداد النفوس المسلمة إلى هذا اللون من التعاون والتقارب والأخوة في الإسلام، عملا بقوله - تعالي -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وبقوله

- صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فإِن شحت نفوسهم عن الخير مع قدرتهم عليه، فهذا مخالف للخلق الذي اختاره الله لعباده المؤمنين. ولقد تأَدب المؤمنون بهذا الأَدب العالى في عهده - صلى الله عليه وسلم - ولم يقصروه على الأَقارب، فقد كانوا يؤثرون إِخوانهم على أَنفسهم ولو كان بهم خصاصة واحتياج. ثم قال الله - سبحانه -: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} يعنى أَنه يباح لمن كانت لديه مفاتيح فكان مستأْمن عليه أَن يأْكل منه، والمقصود من ملكه لمفاتيحه أَن يَكون أَمانة تحت يده، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته. وروى عن عكرمة أَنه قال: إِذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأْس أَن يَطْعَمَ الشيء اليسير (¬1). وروى عن ابن عباس أَنه قال: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازيًا، وخلف مالك بن زيد على أَهله (¬2)، فلما رجع وجده مجهودا، فسأَله عن حاله، فقال: تَحرجْت أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فأَنزل الله - تعالى - هذه الآية، وقد أَباح الله للصديق أَن يأْكل من صديقه بقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (¬3) والصديق: من يصدق في مودتك، وتصدق في مودته. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بستان أَبي طلحة المسمى (بَيْرَحَاء) ويشرب من ماءٍ فيها طيب بغير إِذنه، والماءُ مُتَمَلَّك لأَهله. وإذا جاز الشرب من ماءِ الصديق بغير إِذنه جاز الأَكل من ثماره وطعامه، إِذا علم أَن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أَو لما بينهما من المودة، مادام محافظا على المحارم، أَما الآن فقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل إلا بإذن. ويقول الله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}: وهذه الجملة مستأْنفة لبيان حكم جديد: هو إِباحة الاجتماع على الطعام المشترك، وأن يتفرقوا إن لم ¬

_ (¬1) أي: يأكل الشيء القليل. (¬2) أي: وكيلا له في قضاء مصالح أهله. (¬3) لفظ الصديق والعدو يطلق على الواحد والجمع.

يرغبوا في الاجتماع عليه، واختلف فيمن نزلت، فقيل: نزلت في بنى ليث بن عمرو، وكانوا يتحرجون أَن يأْكل الرجل وحده، فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل, فإِن لم يجد من يؤاكله أَكل - ضرورة - وحده، ونَفْيُ الجناح عن أَكلهم دون ضيف لبيان أَن لا إِثم فيه، ولا يُذَمُّ صاحبه شرعا، كما ذمَّت به الجاهلية، فإنهم غير مقصرين إِذا لم يحضر الضيف. وقيل: نزلت في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام، لاختلاف في الأَكل، وزيادة بعضهم على بعض، فأُذن لهم فيما تحرجوا منه. (والأدب الثالث في الآية) تضمنه قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي: فإذا دخلتم بيوتًا من هذه البيوت التي أُذن لكم في الأكل منها، فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم قرابة ودينا، تحية من عند الله تعالى، ثابتة بأمره، مشروعة من عنده، مباركة طيبة؛ لأن السلام دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من الله السلامة وزيادة الخير وطيب الرزق، ثم ختم الله الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم سائر آياته لكي تتعقلوها وتفهموها، وتحرصوا على العمل بها. المعنى الإجمالي للآية: ليس على الأعمى إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه البصير، ولا على الأعرج إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه الماشى، ولا على المريض إثم ولا ضيق بتركه ما يقدر عليه الصحيح، فلا يكلف أصحاب هذه الأعذار بما يكلف به سواهم ممن لا عذر لهم، فهؤلاء جميعًا لا يكلفون بالجهاد بالسيف ونحوه، والمرضى منهم لا يكلفون بالصيام ونحوه مما ليس في وسعهم، حتى يزول عذرهم، قال - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1) كما أَنه ليس على هؤلاء ضيق في أن يأكلوا مع الأصحاء، وأن يأْكل الأصحاءُ معهم، حذرا من استقذارهم إياهم، وتأذيهم بوجودهم أو بتصرفهم أثناء تناول ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من آخر آية فيها.

الطعام بسبب أَعذارهم (¬1)، ما لم يكن بالمرضى أمراض معدية، فعليهم أن يتركوا مخالطة الأصحاء في الطعام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يوردَنِّ مُمْرِض على مُصِحٍّ". وينبغى لمن يؤاكلهم أن ييسر لهم تناول الطعام دون حرج ولا مشقة ولا شح، وينبغى لهم أن يلتزموا الحكمة في تناولهم الطعام مع سواهم. وليس عليكم - أيها المؤمنون - ضيق ولا إثم في أن تأكلوا من المساكن التي فيها أولادكم وأهلوكم؛ فأولادكم منكم، ونساؤكم سكن لكم، ومودة ورحمة بينكم , فلا عليكم أن تأكلوا من طعام مملوك لهؤلاء وأولئكم. وليس عليكم ضيق ولا إِثم في أَن تأْكلوا من بيوت آبائكم، أو بيوت أُمهاتكم، أو بيوت إخوتكم، أو أخواتكم، أو أَعمامكم، أَو عماتكم، أَو أخوالكم، أو خالاتكم - ولو بدون إذن - إن كان الطعام مبذولا، فإن كان داخل حرز، فلا يحل لكم الأكل منه إِلا بإذن منهم، أو قيام أمارة على رضاهم. وليس عليكم إثم ولا ضيق في أن تأكلوا مما وليتم مفاتحه ورعايته وكنتم وكلاء فيه، كالضياع ومرابض الماشية، فلكم أَن تأكلوا من ثمر الضياع، وتشربوا من لبن الماشية على أَلا تتوسعوا في ذلك، وليس لكم حق الادخار منه. وليس عليكم إثم ولا ضيق في أن تأكلوا في بيت صديقكم من طعامه المبذول، أو المحرز ولو بغير إذن، إِذا علمتم أن نفسه تطيب به لتفاهته ويسر مؤنته، ما دمتم محافظين على المحارم، والآن وقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل من بيوتهم بغير إذن منهم. وقد أباح الله لكم الاجتماع على الأكل في سفر أو حضر، فليس عليكم إثم في أَن تجتمعوا على طعام اشتركتم في ثمنه، ولكم ألا تشتركوا وتأكلوا أشتاتًا متفرقين. وإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت التي أبيح لكم الأكل منها، فاستأذنوا على من فيها، وسلموا عليهم؛ فهم كأنفسكم لقرابتهم، ولأخوتهم لكم في الدين, وقد شرع الله هذا ¬

_ (¬1) روى أن العرب وأهل المدينة كانوا قبل البعث يتجنبون الأكل معهم، لأن الأعمى تجول يده في الصحفة، ولسوء جلسة الأعرج، وعدم خلو المريض من رائحة تؤذى.

السلام تحية من عنده، ثابتة بأمره، مباركة طيبة؛ لأنها دعوة طيبة من المؤمن لأخيه المؤمن، مباركة كثيرة الخير، لما فيها من المودة والألفة وربط القلوب بعضها ببعض. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)} المفردات: {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}: على أمر من شأنه أَن يجتمع له المسلمون، كالإعداد للحرب ونحوه، ووصف الأمر بأنه جامع على سبيل المجاز. التفسير 62 - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. . . .} الآية. هذه الآية مستأنفة لبيان نوع من أَرقى أنواع الأدب في الإسلام، وهو أَلا ينصرف المؤمن من مجلس الرسول المعقود لأمر جامع، إلا باستئذانه - صلى الله عليه وسلم - إِذا كانت لديه حاجة ملحة إلى الانصراف من هذا الأمر الجامع. وقد نزلت الآية في شوال سنة خمس من الهجرة، حين كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه يحفرون خندقًا حول المدينة لوقايتها من هجوم قريش، وقائدها أبو سفيان

وغطفان، وقائدها عيينة بن حصن، وبنى مرة، وقائدهم الحارث بن عوف المُرِّى، وبنى أَشجع وبنى سليم، وبنى أَسد، وعدد هؤلاء جميعًا عشرة آلاف مقاتل، وكان سلمان الفارسى هو الذي أَشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفره، ولم تكن العرب تعرفه من قبل. وقد حفر في شمال المدينة؛ لأن هذه الجهة كانت مظنة هجوم الأعدام، أَما باقى الجهات فمشغولة بالبيوت والنخيل فلا يتمكن العدو من الحركة فيها. وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفره، لأنهم كانوا في غير سعة من العيش وقد عمل معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يحمل التراب معهم، وكان المنافقون يتسللون لواذا (¬1) من العمل، أو يعتذرون بأعذار كاذبة، فنزلت هذه الآية تنعى عليهم تسللهم، وتشير إِلى أَن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم، لتسللهم عن الجماعة دون استئذان من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحكم ثابت لحكام المسلمين في الأمور الجماعية الخطيرة، فإذا كان إِمام المسلمين معهم أو مع أَهل شوراه أَو مع غيرهم لأمر يهم المسلمين، فلا يحل لأحد أَن يتسلل من الاجتماع دون إِذن منه. والمعنى الإجمالي للآية: إِنما المؤمنون الصادقون هم الذين اجتمع فيهم أَمران، أحدهما: أن يؤْمنوا بالله ورسوله، وثانيهما: أَنهم إذا كانوا معه على أَمر يقتضي اجتماعهم: لم يذهبوا من مكان الاجتماع حتى يطلبوا الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذهابهم، فمن خرج دون إِذن منه، فهو ناقص الإيمان، إن الذين يستأذنونك لبعض شأنهم صادقين، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حقًّا، دون المنافقين المتسللين دون استئذان، أَو المستأذنين منهم بعذر كاذب، كقولهم: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (¬2) فإذا استأذنك المؤمنون الذين تعلم صدقهم في إِيمانهم - إِذا استأْذنوك - لبعض شأنهم فائذن لمن شئت الإذن له منهم، فإنك أعلم بمن تكون المصلحة في بقائه معك منهم، ومن لا ضرر في التيسير له بالذهاب، واستغفر لهم الله في استئذانهم، فإنه وإن كان لمصلحة، لا يخلو ¬

_ (¬1) أي: يلوذ بعضهم ببعض ويلجأ إليه في التسلل. (¬2) سورة الأحزاب، من الآية: 13.

عن شائبة تقديم أَمر الدنيا على الآخرة، إِن الله عظيم الغفران لفرطات عباده، واسع الرحمة في قبول أَعذارهم. {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} المفردات: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ}: أَي لا تجعلوا نداءه. {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} التسلل: الخروج على سبيل التدرج والاستخفاء، واللواذ: التبعية واللجوءُ، وقد يطلق على الفرار، ومنه قول حسان بن ثابت: وقريش تجول منا لواذا ... لم تحافظ وخفَّ منها الحلوم {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}: أَي يعرضون عن أمره. {فِتْنَةٌ}: محنة في الدنيا. التفسير 63 - {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ... } الآية. هذه الآية الكريمة مستأْنفة لبيان عظيم شأنه - صلى الله عليه وسلم - وكريم قدره، مقررة لما قبلها من وجوب استئذانه قبل الانصراف من مكان الاجتماع: أَي لا تجعلوا نداءه - صلى الله عليه وسلم - كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفع الصوت به، وندائه من

وراء الحجرات، ولكن نادوه بلقبه العظيم، مثل: يا نبى الله، أَو يا رسول الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. أو: لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإن دعاءه مستجاب. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا}: لفظ (قد) مع الفعل المضارع يفيد التقليل غالبًا، وقد يفيد التحقيق بمعونة المقام - كما هنا - وهو مع الماضى يفيد التحقيق دائما. والمعنى: قد يعلم الله بالتحقيق من يخرجون منكم - أَيها المنافقون - من مكان يجتمع فيه رسول الله بالمؤمنين دون استئذان منه - صلى الله عليه وسلم - يخرجون - متدرجين متلاوذين بأن يستتر بعضكم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يؤذَن له، فينطلق معه كأنه تابعه، أو يهرب في خفية. {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي فليحذر الذين يخالفون معرضين عما أمر به الله من الاستئذان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين الخروج من مجلسه - فيلحذروا أن تصيبهم محنة في الدنيا، أو يصيبهم عذاب شديد الإيلام في الآخرة. 64 - {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: أَلَا: أَداة تنبيه إِلى الاهتمام بما يجىءُ بعدها، والمعنى: أَلا إِن لله وحده جميع ما في السموات والأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما، خلقًا وملكا وتدبيرا وعلما، فكيف تخفى عليه أَحوال المنافقين وإِن اجتهدوا في إِخفائها وسترها، إِنه يعلم ما أَنتم عليه - أَيها المكلفون جميعًا - من الأَحوال التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإِخلاص والنفاق، ويوم يرجع هؤلاء المنافقون إِليه - سبحانه - للحساب والجزاء في دار الجزءِ، فينبئهم بما عملوه، فيرتب عليه ما يستحقه من الجزاء، والله محيط علمه بكل شيءٍ، فلا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء.

سورة الفرقان

" سورة الفرقان" مكية وآياتها سبع وسبعون مقاصد السورة: بدأت هذه السورة بتنزيه الله الذي أنزل القرآن على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - وخَلَق السموات والأرض وكل شيء فيهما، ثم نَعتْ على المشركين أنهم أَشركوا به من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، كما نعت عليهم وصفهم للقرآن بأنه أساطير الأولين، مع أن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو الذي أنزله، كما نعَتْ عليهم إنكارهم لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وليس معه ملك يشاركه الإنذار، ولأنه فقير وليس له جنة يأْكل منها، مع أن ذلك ليس قادحًا في نبوته. كما نعت عليهم تكذيبهم بالساعة، وحكت أهوال النار التي سوف يصلونها، وقارنت بينها وبين الجنة التي وعد بها المتقون، ثم بينت أَن المرسلين قبله كانوا يأْكلون الطعام ويمشون في الأسواق، فلا وجه لاعتراضهم على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأكله الطعام ومشيه في الأسواق. ثم تحدثت عن أهوال يوم القيامة، وأن الحكم يومئذ لله وحده، وأَن الظالم حينئذ يعض على يديه لعدم اتباعه الرسول، وإيثاره أهل الضلال عليه. ثم ذكرت أن المشركين قالوا: لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة، وأجابت بأنه أنزل على فترات لكي يثبته الله في فؤاده - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أُميًّا لا يقرأ ولا يكتب. ثم تحدثت عن إرسال موسى وهارون إلى فرعون وقومه، فلما كذبوهما دمرهم الله تدميرًا، وتحدثت عن تكذيب قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم لأنبيائهم، وأَن الله أهلكهم بسبب تماديهم في تكذيب رسلهم.

ونعت على قريش أنهم أتوا على قرية قوم لوط، وعلموا بإهلاكهم، لتكذيبهم رسولهم ورفضهم نصائحه، حيث أهلكهم الله بحجارة من سجيل أنزلها عليهم من السماء, وذكرت أن قريشًا استمروا في تكذيبهم واستهزائهم برسولهم قائلين: {هَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} وبينت أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا، لأنهم لم يعتبروا بما حصل لمن قبلهم. وتحدثت عن الآيات الكونية الدالة على قدرة الله واستحقاقه العبادة وحده، فذكرت أَن ظل الأجسام في النهار لا يبقى علي حالة واحدة، فإنه تعالى يمده ثم يقبضه شيئا فشيئا، بإحلال ضوء الشمس محله، ولو شاء الله لجعله ساكنا لا ينقبض، بجعل الشمس ثابتة على وضع مائل دائمًا، وأنه جعل الليل كاللباس في ستره الأجسام وجعل النوم راحة للأبدان تشبه الموت، وجعل النهار نشاطًا لها يشبه البعث والنشور بعد الموت، وأرسل الرياح ناشرات للسحاب بين يدى رحمته سبحانه، حيث جعلها مبشرات بالمطر الذي هو من آثار رحمة الله، إذ به يحيا الإنسان والنبات والحيوان، وبينت السور أن الله صرف الحديث عن آياته في كتبه السماوية {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}. ثم بينت أنه تعالى أرسل البحرين، هذا عذب فرات، وهذا ملح أُجاج، وجعل بينهما حاجزا، بحيث يؤدي كلاهما وظيفته في مصالح الإنسان والحيوان والنبات. وذكرت أنه تعالى خلق من ماء الزوجين بشرًا، فجعل هذا البشر إما نسيبًا وقريبًا, وإما صهرًا، وكل ذلك دليل على قدرة الله ووحدانيته، ومع هذه الآيات يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرًا. ثم بينت أنه تعالى ما أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلا مبشرًا ونذيرًا، وليس عليه إلا البلاغ وقد فعل، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما يسألهم على التبليغ من أجر إلا أن يسلكوا سبيل العبادة لله وحده، وذلك شاهد على صدقه ونزاهته في دعوته. وحثت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يتوكل على الحى لا يموت، ويترك حساب الناس لربهم، فإنه خبير بذنوبهم، وأنه لا يضيق صدره بكفرهم وعنادهم.

وبينت أن قريشًا تنكر وصف الله بالرحمن {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}. ثم بينت أن عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض متواضعين، وأنهم يسالمون من يجهل عليهم ويشاركونه ولا يجارونه في سفهه، ووصفتهم بأنهم يتعوذون بالله من جهنم، وأنهم في إنفاقهم يتوسطون بين التبذير والتقتير وأنهم لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون نفسًا بغير حق ولا يزنون , وأَن من تاب منهم من ذنبه توبة نصوحًا فإن الله تعالى يقبل توبته وأنهم إذا ذُكروا بآيات ربهم تأثروا بها ولم يخروا عليها صمًّا وعميانا، وأنهم يطلبون من الله أن يجعل لهم من أفواجهم وذرياتهم قرة أَعين، ويجعلهم للمتقين إماما، وأنهم يجزون الغرف العالية في الجنة بصبرهم على طاعة الله، ويُحَيَّوْن فيها بالسلام والأمان {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأنه تعالى لا يعبأ بعباده لولا عبادتهم ودعاؤهم إياه فإن كذبوا رسله فسوف يكون عذابه ملازما لهم. وسيأتي بيان ما أَجملناه في تفسير آياتها تباعا، والله تعالى هو الموفق.

بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} المفردات: {تَبَارَكَ}: أي تعالى وتعاظم، ولا يستعمل مع غير الله تعالى غالبًا ولا يُتَصَرَّف فيه. {الْفُرْقَانَ}: المراد به القرآن، وهو في الأَصل مصدر فرق بين الشيئين، إِذا فصل بينهما، سمى به القرآن لفصله بين الحق والباطل. {نَذِيرًا}: أَي منذرا أو إِنذارا كالنكير بمعنى الإنكار. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}: أي فَهَيأهَ لما أَراده له من الخصائص والأفعال تهيئة دقيقة. {نُشُورًا}: بعثا. التفسير 1 - {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}: افتتح الله هذه السورة بكلمة {تَبَارَكَ} وهي مأْخُوذة في الأصل من البركة بمعنى كثرة الخير، وقد فسرها الحسن وغيره بقوله: تزايد خيره وعطاؤه وتكاثر، وفسرها آخرون بقولهم: تزايد وتعالى شأنه على كل شيءٍ في ذاته وصفاته وأَفعاله، فإن البركة تستلزم الزيادة والعلو، وفسرها الخليل بمعنى تمجد، وهو قريب من سابقه.

وترتيب وصفه تعالى بقوله (تبارك) على إنزاله القرآن، لما فيه من الخير الكثير لعباده في الدنيا والآخرة، ولأنه ناطق بعلو شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله، وتسمية القرآن بالفرقان، لأنه فرق بين الحق الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبين ما عليه الناس قبله من العقائد الزائفة، والشرائع الفاسدة، وشرع لهم من الأحكام ما يناسب مصلحة البشر في دنياهم وأخراهم، وقد جاء في وصف عظمة القرآن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن هذا القرآن مَأدبَة الله (¬1)، فتعلموا من مَأدَبَته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حيل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يَعوَجّ فيُقَوَّم ولا يَزيغ فيسْتَعْتب (¬2)، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد (¬3)، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أمَا إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف ولام وميم، ولا ألفَيَن أَحدَكم واضعًا إِحدى رجليه يَدَعُ أن يقرأَ سورة البقرة، فإن الشيطان يفِرُّ من البيت الذي تُقْرَأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت (¬4) لَجَوفٌ صَفِر (¬5) من كتاب الله" أخرجه الحاكم وصححه بسنده عن ابن مسعود، وكذا محمد بن نصر وابن الأنبارى والطبراني وغيرهم. والمراد بعبده: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن رسالته إِلى الناس كافة لا تخرجه عن العبودية لله الذي أرسله، وأن من يَدعى الولدية لله في رسول أرسله الله إِليه، فهو كافر، فإنه سبحانه {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. والمراد بالعالمين: الإنس والجن، منذ عصره - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تقوم الساعة، ومن أنكر إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن فقد كفر، فإنه معلوم من الدين بالضرورة، لشمول العالمين لهم، ولما تدل عليه سورة الجن من أنه تعالى أرسله إلى الجن، فآمن به بعضهم وكفر آخرون، قال تعالى حكاية عن الجن الذين استمعوه: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ ¬

_ (¬1) أي: مصدر لأدبه تعالى لعباده. (¬2) أي: ولا يميل عن الحق فيلام على ميله. (¬3) أي: لا يبلى على تردادِ قراءته. (¬4) أي: أشدها خلوا من الخير. (¬5) أي: خلا.

{أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (¬1) إلى غير ذلك مما جاءَ في سورة الجن وفي السنة الصحيحة. والمعنى الإِجمالى للآية: تعالى الله الذي أَنزل عل عبده ورسوله محمد القرآن، فارقًا بين الحق والباطل، ليكون به منذرا للعالمين من الإِنس والجن، ومخوفا لهم من العقاب إِن كفروا بآياته، وعبدوا غيره. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}: المراد بخلقه كل شيءٍ إِيجاده، وبتقديره تهيئته لما خلق له من الخصائص. ومعنى الآية: هو الله الذي له السلطان القاهر، والاستيلاءُ التام على السموات والأَرض وما فيهما خلقًا وملكًا وتصرفًا، إِيجادًا وإِعدامًا، وإِحياءً وإِماتة، وأَمرا ونهيًا، حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، وليس لغيره في ذلك شريك أَو معين، وأَوجد كل شيءٍ فيهما إِما من العدم أَو من مواد لائقة بخلقه، فقدره, وهيأَه وهداه لما أراده منه من الخصائص والأعمال، كتهيئته الإنسان وهدايته للإدراك والفهم والتدبير، واستنباط الصنائع المتنوعة، واختراع الفنون العجيبة، ومزاولة الأعمال المختلفة، وتسخير الحيوانات واستزراع المزروعات، والانتفاع بالجمادات وغير ذلك من عجائب الله في تقدير الإنسان. وكهيئته النحل لاتخاذ مأوى لها في الجبال والشجر والعرائش، والتعرف بحواس داخلية على أماكن الزهور والثمار، فتطير إليها، وتمتص رحيقها وتأكل من ثمراتها فيتحول غذاؤها إلى عسل شهى مختلف أَلوانُه فيه شفاء للناس، فتلقيه في بيوت هندسية مسدسة الأضلاع، صنعتها من شمع تفرزه لبنائها {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. 3 - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}: تحكى هذه الآية أباطيل المشركين في عقائدهم وتبين وجه بطلانها، بعد بيان عقيدة أهل الحق فيما قبلها. ¬

_ (¬1) سورة الجن، الآيات: من 13 - 15.

ومعنى الآية: واتخذ المشركون آلهة غير الله تعالى، عبدوهم وهم لا يستحقون العبادة، فهم لا يخلقون شيئا صغيرا كان أو كبيرًا، ولكنهم مخلوقون لله رب العالمين، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، والذى يضرهم وينفعهم هو الله القدير العليم، ولا يملكون لأحد موتًا حتى يميتوه، ولا حياة في الدنيا حتى يحيوه، ولا يملكون له نشورًا وبعثًا في الآخرة حتى يبعثوه وينشروه، وإنما الذي يملك ذلك كله هو الله تعالى , فكيف استساغوا عبادتها؛ وهي مجردة عن صفات الألوهية واستحقاق الربوبية. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} المفردات: {إِفْكٌ افْتَرَاهُ}: كذب اخترعه. {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أباطيلهم التي سطروها، وهي جمع أسطورة - كأحاديث جمع، أُحدوثة أو جمع أسطار، كأقاويل جمع أَقوال. {اكْتَتَبَهَا}: طلب كتابتها. {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ}: تلقى إليه ممن كتبها ليحفظها. {بُكْرَةً} أي: أول النهار قبل انتشار الناس. {وَأَصِيلًا}: آخر النهار بعد أن يأووا إلى مساكنهم، والبكرة: أول النهار، والأصيل: ضدها، يعنون أنها تملى عليه خفية، وقد كذبوا في ذلك كله - قاتلهم الله -. {السِّرَّ}: الأمر الخفى المكتوم عن الناس.

التفسير 4 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}: بين الله في الآية السابقة سوء رأى المشركين باتخاذهم آلهة لا تضر ولا تنفع، وجاءت هذه الآية لتبين سوء مقالهم فيما جاءهم به نبيهم من الهدى. والقائلون هم مشركو العرب، كما أَخرجه جماعة عن قتادة، وقد سمى منهم - في بعض الروايات - النضر بن الحرث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، وإسناد القول إلى جميع المشركين، لرضاهم بما قاله هؤلاء الغلاة المفترون. وقد ضموا إلى هذه الفرية فرية أُخرى، إذ قالوا إِن محمدا قد أَعانه على ما جاء به من القصص القرآني قوم آخرون، يعنون بهم اليهود، حيث زعموا أنهم أَخبروه بهذا القصص، فعبر عنه بعبارة من عنده، ومنهم من زعم أَن الذين أَعانوه هم: عداس، وعائش مولى حُوَيطِب بن عبد العزى، ويسار: مولى العلاء بن الحضرمى، وجبر مولى عامر، وكانوا كتابيين يقرءون التوراة، أَسلموا وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعهدهم بالبر والنصح والهدى، فافترت قريش هذه الفرية النكراء، وقد كذبهم الله فيما زعموا. ومعنى الآية: وقال المشركون الكافرون بالهدى: ما هذا القرآن الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؛ إلا كذب اختلقه محمد من عند نفسه ولم يأْته من عند ربه، وأعانه على افترائه على الله قوم آخرون يعرفون قصص الأنبياء مع أُممهم، حيث سردوا عليه تلك القصص، فصاغها بعبارة من عنده، وأسند الإعلام بها إلى ربه، وقد جاء هؤلاء الكافرون بما قالوه ظلمًا للحق وكذبًا شنيعًا على محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا القرآن لا يستطيع أن يأتى بمثله الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ولا يقدر على الإتيان بمثله سوى من أنزله على رسوله، بما اشتمل عليه من الإعجاز البيانى، والأحكام التشريعية، والأخلاق السنية، والحكم الربانية، والأخبار الغيبية، والآيات الكونية، وامتلاكه نواصى القلوب بأسلوبه، فأنى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يأتى بمثله، وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب،

وقد عرفوه بالصدق والأمانة، وعدم اشتغاله بالأدب المنثور، والشعر الموزرن، ولم يعرفوا عنه حب الرياسة والجاه، ولا عن أَهل الكتاب أَنهم يعينون غيرهم على هدم دينهم، ولا عن أولئك العبيد والموالى أنهم يحسنون فهم الكتب السماوية أو نقل ما فيها إن صح أنهم يحفظونها {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وقد لبث الرسول فيهم عمرا طويلًا من قبله يعمل بالتجارة، دون أَن يتجه إِلى تلك الدعوة التي فوجىء بتكليفه بها، وهو لا يسألهم عليها أَجرا، ولا يطلب بها جاهًا، ولا ثراءً فما بالهم لا يعقلون. 5 - {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: بعد ما جعلوا القرآن الحق إِفكا من محمد بإعانة البشر له، بينوا كيفية الإعانة التي زعموها؛ أَي وقال الكافرون: هذا القرآن أَباطيل الأولين طلب محمد كتابتها من أَهل الكتاب، فكتبوها له، فهي بعد تحريرها تملى عليه بكرة أول النهار، وأصيلًا آخر النهار، حتى لا يراه أحد وهي تملى عليه حيث يكون الناس في بيوتهم، لكي يحفظها ممن يمليها عليه. وقيل: المراد من قولهم: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: أَي دائمًا، وقد كذبوا في كل ذلك، ولهذا رد الله عليهم بقوله: 6 - {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: أي قل لهم أيها النبي ردا عليهم: أنزل هذا القرآن الله الذي يعلم الخفى من الأمور في السموات والأرض مثلما يعلم الظاهر منها، وقد أودعه من فنون الأسرار والمصالح الخفية ما لا علم لأحد به، في أسلوب بديع ونظم فريد أَعجزكم وأَعجز جميع الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثله، وأخبركم بمغيبات مستقبلة مكنونة، لا سبيل لأحد أَن يعلمها إِلا بوحى من ربه، إِن الله الذي أَنزل هذا القرآن، كان ولا يزال موصوفًا بعظيم الغفران والرحمة، ولهذا أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة على هذه الفرية النكراء، لعلكم تتوبون فيغفر لكم ويرحمكم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)} المفردات: {جَنَّةٌ}: أَي بستان. {رَجُلًا مَسْحُورًا}: أَي رجلا سُحِر فغلب السحر على عقله. {ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ}: ذكروا في حقك تلك الأقاويل الغريبة، التي لا تمت إِلى الحق بصلة. {فَضَلُّوا}: فبعدوا عن طريق الحق. التفسير 7 - {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ... } الآية. أَخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: أَن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأَبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحرث، وأبا البحترى والأسود ابن عبد المطلب، وزمعة بن الأَسود، والوليد بن المغيرة، وأَبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابنى الحجاج؛ اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وكلموه وخاصموه (¬1) حتى تعذروا منه، ¬

_ (¬1) أي: جادلوه.

فبعثوا إليه؛ أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم - عليه الصلاة والسلام - فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالًا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نُسوِّدُك، وإن كنت تريد الملك ملكناك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم , ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله تعالى بعثنى إليكم رسولًا، وأَنزل عليّ كتابًا، وأَمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أَصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله عز وجل بينى وبينكم، قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل شَيئًا مما عرضنا عليك فَسَلْ لنفسك، سل ربك أَن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك، ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بفاعل، ما أَنا بالذى يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله تعالى بعثنى بشيرا ونذيرا، فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ .... } الآيات (¬1). والمعنى: أَنهم بعد ما افتروا على القرآن ما افتروه قالوا: أي سبب لهذا الذي يزعم أَنه رسول جعله يأكل الطعام كما نأكل، ويمشى في الأسواق ساعيًا على رزقه كما نسعى، فلو كان رسولًا من عند ربه لخالفنا في أسلوب معاشنا، فَهَلاَّ مَيزه الله علينا فأنْزَلَ معه ملكًا يكون معه نذيرا لنا، ليجعلنا مطمئنين إلى إرساله إلينا. 8 - {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}: أي: فإن لم ينزل الله عليه ملكًا يظاهره في الرسالة، فهلا يلقى إليه ربه من السماء مالًا يكتنزه، ليستظهر به ويرتفع احتياجه إلى اكتساب قوته من السعى في الأسواق مثلنا، فإن لم يوجد هذا ولا ذاك فلا أقل من أن يكون له بستان يتعيش بريعه كمياسير الناس، ¬

_ (¬1) نقله الآلوسي.

ويمتاز به على عامتهم وقال هؤلاء الظالمون للمؤمنين: ما تتبعون إلا رجلا مسحورا مغلوبا على عقله وليس بنبى، فرد الله عليهم مستعظما لإفكهم، داعيًا للتعجب منه بقوله: 9 - {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}: أَي: انظر أيها الرسول كيف قالوا في حقك هذا الكلام المخالف للواقع، المنافي للصدق, حيث ضربوا لك الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات، فضلوا بها عن الحق والهدى، متحيرين فيما يصفونك به، فلا يستقرون في القدح في نبوتك على حال، ولا يستطيعون أن يجدوا طريقا للنيل منها بحال، فإن الحق يَقْهَرُ ولا يُقْهَرُ ويعلو ولا يُعلى. 10 - {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ (¬1) لَكَ قُصُورًا}: أَي: تعالى الله الذي إن شاء التوسعة عليك في الدنيا، جعل لك خيرًا من ذلك الذي اقترحوه بساتين تجرى من تحتها الأنهار لا بستانا واحدا، ويجعل لك قصورا عديدة تتمتع بها، ولكنه ادخر لك الخير كله بجميع صوره في الآخرة بعد قيام الساعة التي كذبوا بها وقد حكى الله تكذيبهم وتوعدهم عليه في الآيات التالية: ¬

_ (¬1) "يجعل" يجعل: مضارع مجزوم معطوف بالواو على محل "جعل" فإنه في محل جزم جواب الشرط وإن كان مبنيا على الفتح لكونه فعلا ماضيًا، وقرىء بالرفع، لأن الشرط إذا كان ماضيًا جاز في جوابه الجزم والرفع، كقول الشاعر: وإن أتاه خليل يوم مسغبة .. يقول لا غائب مالي ولا حرم - ويجوز أن يكون استئنافًا.

{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} المفردات: {السَّاعَةِ}: المراد بها زمن قيام الناس لرب العالمين، وسبب التسمية؛ أنه تعالى يفجأُ بها الناس في ساعة لا يعلمها إلا هو. {سَعِيرًا}: نارا شديدة الاستعار: أَي الاتقاد. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}: أَي سمعوا لغليانها صوتًا يشبه صوت المتغيظ والزافر والتغيظ: هو إظهار الغيظ. والغيظُ: أَشد الغضب، والزفير: إِخراج النَّفَس , وضده: الشهيق، واستعمال الزفير في صوت النار مجاز. {أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا}: أي ألقوا من النار في مكان ضيق لزيادة تعذيبهم. {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}: أَي نادوا في ذلك المكان هلاكًا لينقذهم من عذابه. {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا}: لاتنادوا في هذا اليوم هلاكًا واحدا ليخلصكم مما أنتم فيه. {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}: أَي ونادوا هلاكًا كثيرا، ليخلصكم كل منها من نوع من أنواع العذاب، فإن أَنواعه كثيرة، وسيأْتى بسط الكلام في معنى الآية عند تفسيرها. التفسير 11 - {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}: في هذه الآية انتقال إلى حكاية نوع آخر من أَباطيلهم يتعلق بأمر المعاد، بعد حكاية إشراكهم وطعنهم في النبوة.

والمعنى: ليس أمر قريش قاصرا على شركهم؛ وتكذيبك يا محمد فيما دعوتهم إليه من التوحيد وسائر أنواع الهدى، بل كذبوا بالساعة وهي: الموعد الذي ضربه الله لبعث الخلائق وحسابها, وقالوا {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬1) فاهتموا بدنياهم وأعرضوا عن أخراهم، فلا تعجب من تكذيبهم إياك فيما جئتهم به من الحق وقد أعددنا كل من كذب بالساعة والحساب والجزاء فيها - أَعددنا لهم - نارا شديدة الاتقاد، عظيمة الإِحراق {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}. {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬2). 12 - {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}: تحكى هذه الآية وصف السعير الذي توعدهم الله به في الآية السابقة، والتأنيث في "رأَتهم" لمراعاة المراد من السعير وهو النار، وقيل: لأَنه علم لها. وإسناد الرؤية والتغيظ والزفير إِليها على المجاز، وقيل: إِنه على الحقيقة، كما يؤذن به ظاهر اللفظ , لأَن الله قادر على أن يجعل لها بصرا وإدراكًا , بحيث ترى وتتغيظ وتزفر، على نحو ما قالوه في نحو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. ومعنى الآية: إِذا كان الكافرون بمكان بعيد مكشوف أمام النار, سمعوا لاتقادها صوتًا مزعجًا كالذى يحدث من المغتاظ، وسمعوا لها صوتًا يشبه الزفير الذي يحدث من الموتور الذي يتنفس الصُّعَدَاء (¬3) حين يظفر بخصمه. 13 - {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}: أي: وإذا أُلقى الكفار بالساعة في مكان ضيق من النار وهم مقرنون، بأَن جمعت أيديهم إِلى أَعناقهم بما يجمعها - إِذا أُلقوا فيها كذلك - دعوا في هذا المحبس الناريِّ هلاكًا يخلصهم من عذاب النار المحيطة بهم، كأن يقولوا: يا ثبوراه - على معنى. هلم إِلينا لتنقذنا مما نحن فيه، وجعل بعض الأجلة دعاء الثبور ونداءه، كناية عن تمنيهم الهلاك، ليسلموا مما هو أشد منه - كما قيل: أَشد من الموت ما يتمنى معه الموت. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية: 37 (¬2) سورة فاطر، من الآية: 8 (¬3) بوزن البرحاء: تنفس طويل.

14 - {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}: ما جاءَ في هذه الآية إما مقول لهم بلسان الملائكة، وإِما مقول بلسان الحال. والمعنى: يقال لهم: لا تنادوا الثبور اليوم نداءً واحدا، لكي ينقذكم من عذابكم ولكن ادعوه ونادوه نداءً كثيرا , فإن ما أنتم فيه لغاية شدته، واستمراره؛ يستوجب منكم تكرار الدعاء في كل آن، وعلى هذا الرأى يكون الثبور: أي الهلاك المطلوب واحدا ولكن الدعاءَ به كثير. وقيل معناه: وادعوا هلاكا كثيرا، لا هلاكًا واحدا، لتعدد العذاب بتعدد أنواعه أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها، فهم بحاجة في كل عذاب إلى هلاك وموت جديد يخلصهم منه, وأنى لهم الموت، وهيهات أن ينفعهم هذا الدعاء، فإنهم خالدون في النار أبدا، فالمقصود من الآية: إِقناطهم من النجاة، وأَن دعاءهم برفع العذاب لا ينتهي. {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} المفردات: {الْخُلْدِ}: المكث الطويل. {مَصِيرًا}. مُنتَهًى ومآلا. {وَعْدًا مَسْئُولًا}: أي موعودا يسأل الناس ربهم أن يتفضل بإنجازه - وللكلام بقية في تفسير الآية.

التفسير 15 - {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}: قل أَيها الرسول لمن كذبوك في رسالتك، وكفروا بالساعة التي يبعث فيها الناس لرب العالمين - قل لهم -: أذلك الذي نقدم من السعير وأهوالها وخلود الكافرين فيها، وتمنيهم الهلاك والموت ليستريحوا منها - أَذلك خير - أَم جنة النعيم الخالد التي وعدها الله المتقين الذين صانوا أَنفسهم وجعلوها في وقاية من عذابها الأليم الدائم، بإيمانهم وصلاحهم، كانت لهم هذه الجنة في علم الله تعالى وفي وعده على ألسنة رسله - كانت لهم - جزاء على إِيمانهم، ومنتهى يصيرون إليه بصلاحهم. 16 - {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}: هذه الآية مستأنفة لبيان منهج انتفاع المتقين بنعيم الجنة، وكأنها جواب سائل يقول: ما لهم إِذا صاروا إليها وسكنوها؟ والمعنى: لهؤلاء المتقين في هذه الجنة التي يصيرون إِليها، ما يشاءون من ألوان النعيم المناسبة لهم، على قدر أَعمالهم ودرجتها، حتى لا يتساوى المقصرون بالكاملين، فكل طبقة تقتصر مشيئتها على ما هو حق لها بمقتضى وعد الله الكريم، فلا تمتد رغباتهم إلى ما هو حق لغيرهم، يظلون في جنتهم خالدين لا يَخْرُجون منها ولا يُخرجُون، كان ذلك النعيم المقيم موعودا حقيقًا أن يُسْأل ويطلب , لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون. ويجوز أَن يكون الموعود مسئولًا حقيقة على معنى أن الناس يسألونه في دعائهم بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} وقال سعيد بن هلال: سمعت أَبا حازم - رضي الله عنه - يقول: إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون: عملنا لك بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا، فذلك قوله تعالى: {وَعْدًا مَسْئُولًا} وأخرج ابن أبي حاتم عن طريق أَبي سعيد هذا، عن محمد بن كعب القرظى أنه قال في الآية: إن الملائكة لتسأل ذلك في قولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ... }. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم -، لتشريفه والإشارة إلى أَنه هو الفائز بهذا الوعد لأمته، والآية تدل على وجوب تحقق وعده الكريم بمقتضى

وعده، لقوله سبحانه: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} ووعد الله لا يتخلف، وليس لأحد عنده تعالى حق ذاتى على عمله، فالله تعالى هو الذي خلقه وأقدره على العمل، وإِنما ذلك بمحض فضل الله ووعده الكريم. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} المفردات: {ضَلُّوا السَّبِيلَ}: بعدوا عن الطريق الموصل إلى الله تعالى. {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا}: ما كان يصح لنا. {أَوْلِيَاءَ}: آلهة يلون أَمرنا. {نَسُوا الذِّكْرَ}: غفلوا عن ذكرك لغفلتهم عن آياتك. {قَوْمًا بُورًا}: قومًا هالكين، وبورا مصدر وصف به القوم، ويستوى فيه الواحد والجمع، وقيل: هو جمع بائر، كعائذ وعوذ، والعائذ: الحديثة النتاج من الظباء والإِبل والخيل. {صَرْفًا}: دفعًا للعذاب، أَو: حيلة من قولهم: إِنه ليتصرف أي: يحتال.

التفسير 17 - {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}: هذه الآية وما بعدها. مسوقة لتذكير المشركين بمسئوليتهم يوم القيامة عن ضلالهم دون من عبدوهم، وأن معبوداتهم تتبرأُ من شركهم، والمراد مما يعبدون من دون الله: جميع معبوداتهم من الأصنام، والكواكب، والملائكة، وعزير، والمسيح، وغيرهم. واستعمال لفظ (ما) في العقلاء تغليبًا لجانب غيرهم لأنهم أكثر معبوداتهم، أَو لأنها قد تستعمل مع أهل العلم -، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أَي: ومن بناها وهو الله تعالى، وسؤاله تعالى للمعبودات ليس على حقيقته، فإنه أَعلم بما كان منهم، بل لتوبيخ عابديهم وإِفحامهم. والمعنى: واذكر أَيها الرسول للمشركين يوم يجمعهم الله ومن أَشركوهم في العبادة مع الله، فيقول سبحانه للمعبودين إفحامًا لعابديهم، وإلزامًا لهم بمسئوليتهم وحدهم عن ضلال أنفسهم: أَأَنتم أَيها المعبودون أَضللتم عبادى هؤلاء عن الحق بدعوتهم إلى عبادتكم معى؟ أَم هم انحرفوا عن السبيل إلى مرضاتي بمحض إرادتهم؟ حيث كذبوا رسلى، وأهملوا النظر في آياتى. وتوجيه السؤال إِلى الجمادات لا مانع منه عقلًا ولا شرعًا، فالله قادر على أَن يخلق فيها إدراكًا تعرف به السؤال، ويجعل لها صوتًا تجيب به على هذا السؤال، قال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي: رجِّعى التسبيح مع داود والطير، وقال: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}. 18 - {قَالُوا (¬1) سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (¬2): ¬

_ (¬1) عبر بقالوا مع أنهم سيقولون ذلك يوم القيامة، للإيذان بتحقيق جوابهم هذا يوم الدين، فكأنه وقع فعلا فعبر عنه بصيغة الماضى. (¬2) لفظ (من) في قوله (من أولياء) صلة لتأكيد النفى، وكثيرا ما يؤتى بها بعد النفى لتأكيد، وأولياء مفعول نتخذ.

أي: يقول هؤلاء المعبودون يوم يحشرهم وعابديهم جوابًا لسؤال المولى لهم: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} يقولون: متعجبين مستنكرين: تنزيها لك يا الله عن الشريك والنظير؛ ما كان يصح لنا ولا يستقيم أَن نتخذ أَولياءَ نعبدهم متجاوزين إِياك. فكيف يصح منا أن نحمل غيرنا على أن يَتخذ وليًا غيرك , فضلًا عن أن يتخذنا له أولياء. ويصح أَن يكون المعنى: ما كان يصح لنا أَن نتخذ من دونك اتباعًا، فإن الولى كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع، ومنه أولياء الشيطان، أي: أَتباعه. وبعد أَن برأوا أَنفسهم من تبعة إضلال عابديهم عن الهدى، استدركوا مبينين. مسئوليتهم وحدهم عن ضلال أنفسهم قائلين: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}: أي: ما أَضللناهم، ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها، فاستغرقوا في الشهوات وانغمسوا فيها، حتى غفلوا عن ذكرك، وشكرك، والإيمان بتفردك بالربوبية، وعبدوا غيرك، وكانوا في علم الله قومًا هالكين، بسبب سوء اختيارهم، وانشغالهم عن الحق بالباطل. 19 - {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}: في هذه الآية صرف الله الخطاب عن المعبودات، ووجهه للعابدين، فالآية حكاية لاحتجاج الله عليهم يوم القيامة، مبالغة في تقريعهم وتوبيخهم. أي: فقال الله تعالى للعابدين: قد كذبكم المعبودون فيما تقولونه من زعمكم أُلوهيتهم، وأنهم حملوكم على عبادتهم، فما تملكون صرفًا للعذاب عن أَنفسكم، ولا عونًا يخلصكم منه إِذا نزل بكم، ومن يظلم نفسه منكم أَيها المكلفون بعبادة غير الله، أَو بأي لون من أَلوان الكفر: نذقه في الآخرة بالنار والزمهرير عذابًا كبيرًا لا يقادر قدره.

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} المفردات: {فِتْنَةً}: امتحانا وابتلاءً. {أَتَصْبِرُونَ}: علة لجعلنا - أي: جعلنا بعضكم فتنةً لبعض لنعلم أيكم يصبر، ونظيره ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، ويجوز أَن يكون حثًّا على الصبر على الفتن. التفسير 20 - {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (¬1): هذا جواب آخر عن قولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} وقد سبق الجواب عنه بقوله سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} وبقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}. ومن فوائد هذا الجواب تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن ابن عباس أنه قال: لما عير المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاقة وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ... } الآية، حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فنزلت هذه الآية تسلية له. والمعنى: وما أَرسلنا قبلك يا محمد أحدا من المرسلين , إلا وحالهم أنهم مثلك يأكلون الطعام ليغذوا به أَجسامهم، ويمشون في الأَسواق للتجارة وكسب الرزق، وليس ذلك منافيًا ¬

_ (¬1) جملة {إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} وما عطف عليها في محل النصب على الحال، وهي مستثناة من أعم الأحوال، أي: وما أرسلنا قبلك رسلا من المرسلين في حال من الأحوال، إلا وإنهم ليأكلون .. إلخ: نقله الآلوسى عن ابن الأنبارى، واستحسنه أبو حيان، وتقدير الواو قيل لأن الفصيح عدم الاكتفاء بالضمير، ومنهم من قال إن ما في الآية هو الفصيح بعد إلا فيكتفى بالضمير بدون الواو، وفي إعرابها كلام كثير وما قلناه أفضله.

لرسالتهم، بل هو من الصفات الفاضلة، والأَخلاق العالية، والآيات الواضحة على أَنهم صادقون فى رسالتهم عن الله، لا يبغون بها جاهًا، ولا يطلبون عليها أَجرا، ولا يكونون بها عالة على أتباعهم. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (¬1) وقوله سبحانه: " {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (¬2). {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}: الخطاب هنا لجميع الخلائق وفيهم الأَنبياء، والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة وابتلاءَ أَيها الناس فابتلينا الفقراءَ بالأَغنياءِ لننظر أَيصبرون أَم يضجرون والأَغنياءَ بالفقراءِ لنرى أيحسنون أَم يبخلون؟ وابتلينا الأَنبياءَ بأُممهم ليصبروا على مشاق تبليغهم ومعاداة المُصِرِّين على كفرهم، وهكذا جميع الطوائف المتقابلة، نبتلي بعضهم ببعض؛ لننظر ماذا يعملون؟ فنجزيهم على عَمَلهم لا على عِلمنا بهم، ولو شئنا أَن نجعل الناس أُمة واحدة لفعلنا. ولكن الحكمة جرت فى ابتلائهم بتخالفهم وتنوعهم. أَخرج الإِمام مسلم بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله: إِنما بعثتك لأَبتليك وأبتلى بك" (¬3) وفي مسند أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو شئت لأَجرى الله معى جبال الذهب والفضة" وفى الصحيح أَنه - صلى الله عليه وسلم - خير بين أن يكون نبيًا ملكًا أَو عبدا رسولًا، فاختار أَن يكون عبدا رسولا" (¬4). {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}: أَى عالما بالصواب فيما يبتلي به عباده، فلا تضيقنَّ بما يقولون، ولا يستخفنك، ما يفعلون، وسوف يجازيهم بما يظهرون وما يضمرون. هذه الآية أَصل في تناول الأَسباب، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك من الأَسباب، وكان أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجرون ويحترفون، والإِسلام لا يقر الناس على البطالة واعتماد بعضهم عَلى بعض في العطاءِ. ¬

_ (¬1) سورة يوسف: الآية 109 (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 8 (¬3) مسلم: كتاب الجنة، باب الصفات التى يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار. (¬4) انظر ابن كثير.

وأما أَصحاب الصُّفَّة الذين كانوا يقيمون في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يسعون في الأرض مسترزقين، فقد كانوا ضيفًا على الإسلام عند ضيق الحال، فكان - صلى الله عليه وسلم -، إذا أَتته صدقة خصهم بها، وإِذا أتته هدية أَكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماءَ إِلى بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم البخاري وغيره - ثم لما افتتح الله على المسلمين البلاد, أَخذوا بالأسباب, فأصبحوا أمراء، وهناك ناس يميلون إِلى البطالة وترك الأسباب , استنادًا إِلى قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} وهذا من سوء التأْويل احتجاجًا لبطالتهم , فالمراد بالرزق هنا المطر (¬1) وقد تفضل الله سبحانه بضمانه للناس، لأنهم لا قدرة لهم عليه، وقد أجمع أهل التأويل على أن المراد منه ما ذكر بدليل قوله تعالى: {وَمَا يُنَزِّلُ لَكُم من السَّماَء رِزْقًا}، ولم يشاهد أَحد أَن الله تعالى ينزل على الناس من السماءِ أَطباق الخبز، ولا جفان اللحم، بل الأسباب أَصل في كل ذلك, وقد أَمر الله بالأَخذ بها في قوله جل وعلا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" أَي: بالحرث والحفر والغرس, وقال أَيضًا: "لأن يأْخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره , خير له من أَن يسأَل أَحدا أعطاه أَو منعه". أَما حديث "لو أنكم كنتم تَوَكَّلون على الله حق التوكل لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا" فلا يصح الاستدلال به على البطالة مع التوكل على الله , فإِن غدوها ورواحها سبب لحصولها على رزقها، فالتوكل على الله لا ينافى الأخذ بالأسباب. أخرج البخاري عن ابن عباس قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون نحن المتوكلون، فإِذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا} ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه - رضوان الله عليهم - أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد وكانوا المتوكلين على الله حقًا، والتوكل: اعتماد القلب على الرب مع الأخذ بالأسباب في تحصيل الأرزاق، فإن السماءَ لا تمطر ذهبًا ولا فضة. وفي ختام الحديث عن هذه الآية نقول: سأل رجل الإمام أَحمد بن حنبل، فقال: إني أريد أن أَحج على قدم التوكل، فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس، فقال له: أَنت إذن متكل على أَجربتهم، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) ويقول بعض العلماء إن تسميته رزقا على سبيل المجاز لأنه سببه أو يؤول إليه، فالمطر سبب الرزق من النبات والثمار واللحوم، أو يؤول إليها.

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} المفردات: {لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}: أي لا يتوقعون لقاء حسابنا ولا يبالون بالإِنذار به. {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ}: أَي أَضمروا الاستكبار في قلوبهم عنادا للحق وكفرا به. {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}: هي كلمة استعاذة، وكانت معروفة عند العرب في الجاهلية، فكان الرجل إذا لَقِيَ من يخافه قال: حجرا محجورا، أي: حَرَامًا مُحَرَّمًا ومحجورا، وصف لحجرًا للتأْكيد كقولهم: موتٌ مائت، وهُو من الحَجْر، بمعنى: المنع، وسيأْتي تفصيل ما قيل في ذلك. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}: أَي وعمدنا إلى ما عمله الكفار من أعمال البر. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}: أي تافها لا سبيل إلى الانتفاع به، فهو شبيه بالهباء الذي يُرى في الكوة مع ضوء الشمس مُفرَّقا هنا وهناك. {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}: أَي وأَحسن منزلًا، ومأْوى؛ للاسترواح، والاستقرار.

التفسير 21 - {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ... } الآية. هذه الآيات تحكى بعضا آخر من أَقاويل الكفار الكاذبة، وتبين ردها وبطلانها - تحكيها - عَقِب حكايته أَباطيلهم في أَمرِ التوحيد والنبوة والقرآن التي ذكرتها الآيات السابقة، وأَتبعتها ما ينقضها، ويظهر فسادها. ولما كان ما حكى عنهم قد بلغ الغاية في الشناعة والقبح؛ نبّه سبحانه على أَن ما قالوه لا يصدر إلاَّ عمن لا يتوقعون الرجوع إليه سبحانه بالبعث والحشر، فالمراد من عدم رجائِهم لقاءَ ربهم: أَنهم لا يتوقعونه أصلًا لإنكارهم البعث والجزاءَ بالكلية، لا أَنهم لا يتوقعون حسن اللقاء، ولا يخافون سوء العذاب، فإنهم ينكرون البعث والجزاءَ إنكارًا تامًّا. أي: وقال الذين ينكرون لقاءَنا يوم الجزاءِ: هلاَّ أنزل علينا من السماء الملائكة، فتخبرنا بصدق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أو تبلغنا أمر الله ونهيه بدل محمَّد - عليه الصلاة والسلام - أو نرى ربنا أَمامنا، ليخبرنا بما يريده منا، بغير وسيط بيننا وبينه أَو يخبرنا بصدق محمَّد في رسالته. وفيما نطقوا به إمعان بالغ في التكذيب، والعناد، يعرب عنه قوله سبحانه: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}: أَي: اعتقدوا في أَنفسهم أَنها كبيرة القدر، رفيعة الدرجة زَهْوًا وغرورًا، وقد دفعهم ذلك إلى أَن يسأَلوا الشطط؛ لأن الملائكة لا تُرى إلاَّ عند الموت، أَو عند نزول العذاب. والله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). وتعقيب حكايته باطلهم بالجملة القسمية؛ مشعر مع التأْكيد بأَن ما هم عليه من استكبار وعتوّ؛ غاية في القبح والغرابة، بحيث يحتاج إلى توكيده. والمعنى: والله لقد بالغوا في كبرياء أَنفسهم، وفي الظلم والطغيان مبالغة تجاوزوا فيها الحد تجاوزا كبيرًا بلغ أَقصى غاياته، حتى اجترأوا على التفوّه بمثل هذه العبارة الشنعاء ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 103.

حيث طلبوا إنزال الملائكة لتشهد بصدق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أَو لتبليغ أَمر الله ونهيه بدلًا منه، أَو أَن يروا الله عيانًا - ليخبرهم بما يريده منهم أَو ليشهد بنبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قالوا كل ذلك وطلبوه؛ مستكبرين أَن ينقادوا لبشر مثلهم أيده الله بما يوجب إيمانهم بما جاءَهم به من الحق المبين، ولو أنزل الله إليهم الملائكة لما آمنوا، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (¬1)}. 22 - {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}: استئناف مسوق لبيان ما يَلْقَونَه عند موتهم بسبب كفرهم: أي: اذكر حال هؤلاء المجرمين يوم يرون الملائكة عند الموت؛ لا بشرى لهُم بخير يومئذ منهم، بل تبشرهم بالنار وغضب الجبار فتقول للكافر عند خروج روحه: أَيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث اخرجى إلى سموم، وحميم، وظل من يحموم؛ كما يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوأَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (¬2). وهذا بخلاف حال المؤمنين وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصرل المسرّات كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (¬3). وقيل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ}: يعنى يوم القيامة قاله مجاهد والضحاك وغيرهما وما تقدم أَولى، وهذا لا يمنع من أَنهم لا يبشرون بخير يوم المعاد، فإن الملائكة في هذين اليومين: يوم الممات ويوم المعاد، تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 111 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 93 (¬3) سورة فصلت، الآية: 30

وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، وكان يمكن أَن يقال: لا بشرى يومئذ لهم، بالإِضمار، ولكن إظهارهم بعنوان المجرمين، لتعليل سلب البشرى عنهم بإِجرامهم. {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} أَي: وتقول الملائكة للمجرمين إقناطا لهم: جعل الله تبشيركم بالغفران، والرحمة، أو بالجنة، حراما محرما، وقال بعضهم: إن المجرمين يطلبون البشرى من الملائكة فيقولون لهم ذلك. وقيل: إن الضمير للكفار، أَي: ويقول أُولئك الكافرون للملائكة: {حِجْرًا مَحْجُورًا} وهي: كلمة تقولها العرب عند لقاء عدوٍّ موتور، أَو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، والمقصود من الآية على هذا: بيان أَن الملائكة الذين يطلبونهم لتبليغهم لن ينزلوا إلا لتعذيبهم، حتى إِذا رأَوهم عند الموت كرهوا لقاءَهم أَشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول أَمر فظيع، وحلول بأْس شديد: حجرا محجورا، ومنعا ممنوعًا، مما نراه من العذاب. وقوله: {مَحْجُورًا} صفة لِحجْرًا واردة للتأْكيد. 23 - {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}: أي: وعمدنا إلى ما عمله الكفار من خير كانوا يعملونه في الدنيا كصلة رحم وإغاثة ملهوف، وقِرَى ضيف، وعفو عن أَسير، وغير ذلك من محاسنهم. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}: حيث أَبطلنا ثوابها بسبب كفرهم، فلا ينتفع به في الآخرة وصار في عدم الجدوى منه شبيها بالهباء المنثور، وهو: ما يرى في شعاع الشمس يخرج من الكوة منثورا، بحيث لا يمكن الانتفاع به، وقيل: هو ما ذرته الرياح من يابس أَوراق الشجر، قاله قتادة وابن عباس، وقال ابن عرفة: الهبوة والهباءُ: التراب الدقيق. وكل هذه المعانى للهباء المنثور تشير إلى أَن الله تعالى أَحْبَطَ أَعمالهم الطيبة إحباطًا تامًّا، وجعلها لا وزن لها ولا تقدير، كالهباءِ المنثور، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (¬1). ولو صدرت عنهم فواضل الأَعمال وهم مؤمنون، لأُثيبوا عليها أَجزل الثواب. ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية: 39

24 - {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}: أَي: أَن أَهل الجنة وهم المؤمنون الصادقون؛ يكونون يوم الجزاء أَفضل من هؤلاء المكذبين مستقرًّا ومقيلًا، والمستقر: هو المكان الذي يستقرون فيه أَكثر الأَوقات للتجالس، والتحادث والمقيل: هو مكان الاسترواح، والتمتع ينعمون في هذين المكانين بما أُتيح لهم من خير ونعيم وسُمِّي المكان الثاني مقيلًا؛ لمَا أَن التمتع به يكون وقت القيولة غالبًا، وهو ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار، قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار وتفضيل أصحاب الجنة على أصحاب النار في المستقر والمقيل، إِما بالإِضافة إلى ما للكفرة المنعَّمين في الدنيا؛ على معنى: أَن نعيم المؤمنين في الآخرة خير من نعيم الكفرة في الدنيا، وإما بالإِضافة إلى حالهم في الآخر على سبيل التهكم والتقريع، ويجوز أَن يكون أَفعل التفضيل على غير بابه، فيكون المراد: أَن أَصحاب الجنة سعداءُ في كل حال، على عكس ما عليه أَهل النار من الكفار، فهم في أَسوأ حال. {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} المفردات: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}: البائع في قوله: {بِالْغَمَامِ} بمعنى عن، فهما يتعاقبان، كما تقول: رميت بالسهم، وعن السهم أَي: واذكر يوم تتفتح السماءُ عن الغمام، وهو سحاب أبيض رقيق مثل الضباب. {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}: من السماء إلى الأَرض بصحائف الثقلين. {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}: أَي أَن يوم القيامة صعب شديد على الكافرين.

وفعله من بابى قَرُب وفَرح. تقول: عسُر الأَمر - بضم السين - عُسْرا وعَسَارة فهو عسير وعسِر - بكسر السين - عَسَرًا فهو عسِرٌ. التفسير 25 - {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا}: يوجه الله النظر إلى هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأُمور العظيمة، أَي: واذكر أَيها النبي يوم تتشقق السماءُ المظلة للخلق؛ حيث تتفتح عن الغمام، وهو سحاب أَبيض رقيق مثل الضباب، وهو المذكور في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬1) والمراد بالسماء في الآية: ما يعم السموات كلها، قال مقاتل: إن المراد بالسماءِ ما يعم السموات كلها، وتنشق سماءً سماءً وروى ذلك عن ابن عباس. فإذا انشقت السماءُ وانْتَقَض تركيبها، وطويت، ونُزِّلت الملائكة تنزيلًا عجيبًا، بصحائف الأَعمال - نزلت من خلال ذلك الغمام إلى حيث يجتمعون في صعيد واحد حول الإنس والجن، وجميع الخلائق، فيحيطون بهم في مقام الحشر، ثم يجيءُ الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. 26 - {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}: أي: أن الملك الحقيقي الثابت دائما صورةً ومعنًى، ظاهرا وباطنا يكون للرحمن وحده، يومئذ تتشقق السماءُ بالغمام وتتنزل الملائكة؛ لأَنه سبحانه له السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي التام في الآخرة، وأَما الملْك في الدنيا للمالكين من الناس فليس ملكا حقًّا، فإن الله هو الملك الحق في الدنيا والآخرة، ولكنه تعالى ملَّكهم ظاهرا؛ ملك تصرف وإدارة، يبقى ببقائِهم، ويزول بزوالهم. ووصْفه تعالى بالرحمة للإيذان بأَن اتصافه تعالى بالرحمة الشاملة لعباده جميعا في دنياهم؛ لا ينبغي أن يُطيقهم فيها في أُخراهم، لعدم استحقاقهم لها بما اقترفوه من أَسوأ الأَعمال، ولذا عقبها بقوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}: أَي: وكان ذلك اليوم صعبا شديدا على الكافرين لطوله، ولِما ينالهم فيه من الأَهوال، ويلحقهم من الخزى والهوان، كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (¬2). وفي ذلك ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 210 (¬2) سورة المدثر، الآيتان: 9، 10

إشارة إلى أَنه يكون على المؤمنين سهلًا يسيرا، يقبلون عليه بنفوس مطمئنة، ووجوه مستبشرة، كما قال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). كما أَنه لتيسيره عليهم يخفف الله عنهم مشقة طوله، يدل على ذلك ما نقله الإِمام أَحمد عن أَبي سعيد الخدرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: ما أَطول هذا اليوم، فقال: "والذي نفسى بيده، لَيُخفف على المؤْمن حتى يكون أَخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا". {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}. المفردات: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}: عض اليدين والأنامل كناية عن شدة الغيظ؛ لأن عض اليدين يحدث غالبا عندها. (¬2) {اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}: أَي سببا وصلة تصلني به، أَو طريقا إلى الجنة. {يَا وَيْلَتَى}: كلمة جزع وتحسُّر، تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة والخطب الجسيمِ. {لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}: فلانا وفلانة بغير (ال) كناية عن الإِنسان، والفلان والفلانة بالأَلف واللام كناية عن الحيوانات كما قال الراغب. وخليلا: صديقًا، والجمع: أَخلاءُ. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 103 (¬2) ولفظ (يعض) من باب فرح يفرح.

{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (¬1): أَي أَن الشيطان مبالغ في ترك نصرة الإِنسان وإعانته. التفسير 27 - {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}: قيل: إن (ال) في الظالم للعهد، ويراد به هنا: عقبة بن أَبي معيط، ويراد بفلان المذكور في الآية التالية: أُبى بن خَلف. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: كان عقبة بن أَبي معيط قد هم بالدخول في الإِسلام فمنعه منه أبيّ بن خلف وكانا صديقين، وقد قتلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل عقبة يوم بدر صبرا، وطعن أَبيّ بن خَلف في المبارزة يوم أُحد فرجع إلى مكة ومات وقد ذكر ذلك القشيرى والثعلبى سببا في نزول الآيتين. والظاهر: أَن ال الظالم للجنس، فيعم كل ظالم، ويدخل فيه عقبة بن أَبي معيط دخولا أَوليا، وأَن فلانا: كناية عن كل خليل ظالم من شياطين الإِنس والجن، وعموم اللفظ لا ينافيه خصوص السبب (¬2). والمعنى: أَن كل ظالم فارق الصراط المستقيم، وأَعرض عما جاءَ به الرسول من الحق البيِّن الذي لا مرية فيه فإنه يندم يوم القيامة حيث لا ينفعه الندم، ويعض على يديه، ويطبق أَسنانه على أَنامله حزنًا وألمًا شأْن المَغِيظ المُحْنَقِ. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}: في الدنيا باتباع أَوامره، واجتناب نواهيه، وبذل كل جهد في نصرة الدين دفاعًا عنه، وحفاظًا على أَهله، حتى يكون ذلك العمل طريقًا إلى الجنة، وجملة {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي .. } إلخ في مَوضع الحال من الظالم، أو مستأْنفة بيانا لما قبلها. ¬

_ (¬1) وفعله من باب قتل، يقتل، يقال: خذله وخذل عنه: ترك نصرته، فهو خاذل خذلة كهمزة، وخذول للمبالغة. (¬2) وقال القرطبى: هو أمية بن خلف.

و (ال) في الرسول للجنس فيعم كل رسول، أَو المعهود: فيكون المراد به رسول هذه الأُمة محمدا - صلوات الله عليه وسلامه -. 28 - {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}: ينادى الظالم في موقفه اليائس الحزين: ويْلَتهُ - أي -: هلاكه، تعبيرا عن حزنه وحسرته، وهي كلمة تقال عند وقوع الداهية العظيمة، والخطب الجسيم، فكأَنه يقول: احضرى يا هلكتى فهذا أَوانك، ثم يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}: ليُبْرز بهذا التمنى ندمه، مع نوع من التعلل والاعتذار بإلصاق جنايته على نفسه بغيره، الذي عَبّر عنه بفلان مريدًا به الشيطان، أَو كل من أَضله في الدنيا، أي: ليتنى لم أَتَّخذ في الدنيا كائنا من كان صديقًا أَتَّبعه وأَثق به، وأَسلك سبيله، سبيل الكفر والطغيان التي قادتنى إلى مهاوى الهلاك والخسران. 29 - {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}: تعليل لتمنيه السابق، وتوضيح لتعلله، وتصديره بلام القسم، للمبالغة في بيان خطئه، وإظهار حسرته وندمه، لأَنه استمع إِليه في إضلاله عن الحق الذي جاءَه به رسوله. أَي: والله لقد أَضلنى من اتخذته في الدنيا خليلا؛ عن القرآن والإيمان به، بعد إذ جاءني به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}: أَي أَنه مبالغ خذلان الإِنسان، حيث يُواليه حتى يؤَدي به إلى الهلاك، بما يزيِّن له من سوءٍ وقبح، ثم يترك نصرته ومعاونته ودفع الضرر عنه وقت الحاجة إليه.، وقد كان هذا الإِنسان يظن فيه الظهير والنصير. وجملة {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} مقررة لمضمون ما قبلها، إِما من جهته تعالى، وتمام الكلام على هذا عند قوله: {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} وإما من تمام كلام الظالم، على أنه

سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإِضلال الذي هو أَخص أَوصاف الشيطانية، فيشمل كل مضل صد عن سبيل الله وكان مُطاعا في المعصية أَو أَراد به إبليس بخاصة، ووصفه بالخذلان يشعر بأَنه كان يَعِده في الدنيا، ويُمنِّيه بأَن ينصره في الآخرة، ويؤَازره، ثم تبرأَ منه، وتخلى عند نزول العذاب، وحلول البلاء، كما قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1). {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} المفردات: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}: أَي متروكا فلم يؤْمنوا به، من الهَجْرِ - بفتح الهاءِ - أَو: مهجورا فيه، من الهُجر - بضم الهاء - وهو: الهذيان، وفحْش القول، كقولهم: إِنه أَساطير الأَولين اكتتبها، أَو: بالسخرية واللغو حين يقرأُ حتى لا يسمع، والفعل من باب قتل. {عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}: أَي عدوا واحدا أَو متعددا. فهو يقع على الواحد والجمع مذكرا ومؤَنثا. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، من الآية: 22

التفسير 30 - {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}: هذا القول معطوف على قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه، وبيان ما يحيق بهم في الآخرة من أَهوال شداد، ويجوز أَن يكون استئنافًا يحكى شكوى النبي لربه من قرمه، أَي: وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: يبث شكواه من قومه لربه - عَزَّ وَجَلَّ - إثر ما شاهده منهم من الترك، والإِهمال، حيث اتخذوا هذا القرآن متروكا، ومن جملته الآيات الناطقة بتحذيرهم، مما يصْلَونه على صنيعهم من فنون العقاب، والنكال في الآخرة. أَو اتخذوه مهجورًا فيه؛ بمعنى: أَنهم قالوا عنه غير الحق، فوصفوه بأَنه سحر، أَو شعر أَو أَساطير الأَولين اكتتبها، أو مضوا في الهذيان واللغو فيه إذا قريء حتى لا يسمع، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (¬1). وقد تسبب هذا في أَنهم لم يؤمنوا به، ولم يرفعوا له رأْسا، ولم يتأَثروا بوعيده. وفي الآية تلويح بأَن من واجب المؤمن أَن يكون كثير الرعاية للقرآن الكريم والاهتمام بتعهده، والذود عنه، كما أَن من التحذير والوعيد ما لا يخفى، فإِن الأَنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - إذا شكوا إلى ربهم ظلم قومهم عاقبهم على ظلمهم. 31 - {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}: تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما وقع للأَنبياء والمرسلين قبله حتى يهون عليه ما يلقاه منهم من عداوة وإِجرام. أَي: وكما جعلنا لك أَعداءً من المشركين يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون كأَبى جهل وأَحزابه، جعلنا لكل نبي من الأَنبياء أَصحاب الشرائع الداعين إِليها أَعداءً من مرتكبي الآثام، ومقترفي الجرائم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 26.

{شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬1) فاصبر أَيها النبي على أَباطيلهم، كما صبر الأَنبياء قبلك على ضلال المجرمين من أَقوامهم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}: وعد كريم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بهدايته إِلى بلوغ كافة مطالبه التي تُيسِّر له النصر على أَعدائه، أَي: وحسبك أَن تلقى تأْييد ربك الذي هو مالك أَمرك، وأَن تظفر بهدايته إِياك إلى ما يصلح شأْنك، ويحقق نصرك على أَعدائك، لتبلغ غاية الكمال، وتصل إلى أَسمى الغايات التي من جملتها تبليغ ما أُنزل إليك، وإِجراءُ أَحكامه في ربوع الدنيا، وبين جنباتها إلى أَن يبلغ الكتاب أَجله. وقيل: المعنى وحسبك أَن يكون ربك هاديًا لمن آمن بك، واتبع الكتاب الذي أُنزل عليك، ونصيرًا لك على غير هؤلاءِ المؤمنين. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} المفردات: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}: أَي لنجعل له الثبات والاستقرار بسببه. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}: أي فرقناه آية بعد آية، يقال: رتله القارئ: تمهل في قراءَته ولم يَعْجل به. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}: أَي بيانًا، تقول: فَسَرْتُ الشيء - بفتح السين مُخَفَّفَةً - فَسْرًا من باب ضرب، بمعنى بينته وأَوضحته، كفَسَّرته - بشد السِّين -. ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية: 112

{أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا}: أَي ذوو سُوءٍ وظلم وفساد أَكثر من غيرهم، وأَصله: أَشَرُّ، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وفعله: من باب تَعِب، وفي لغة من باب قَرُب. التفسير 32 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ... } الآية. يخبر الله بذلك عن تعنت الكافرين، وتمسكهم بما لا يعنيهم، سواءٌ أَكان ذلك المعترض كفار قريش، كما قال ابن عباس، أَم طائفة من اليهود قالوا حين نزل القرآن مفرقًا: هَلاَّ أُنْزِل عليه جملة واحدة؛ كما أُنْزلت التوراة على موسى، والإِنجيل على عيسى، والزبور على داود؟ فأَجاب الله تعالى أُولئك القائلين بقوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}؛ فهو استئناف لردّ مقالتهم الباطلة، وبيان الحكمة في تنزيله التدريجى، أَي: مثل ذلك التنزيل المفرّق الذي قدحوا فيه؛ واقترحوا خلافه؛ نزلناه عليك، لا تنزيلًا كما أَرادوه، ليقرى بذلك التنزيل المفرق فؤادك، فتعيه ويتيسر لك حفظ لفظه، وفهم معانيه، وضبط أَحكامه، والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه، مما يحتاج إِلى توضيح وبيان، كالتشريعات والمصالح، أَو إِلى دحض مطاعن الكافرين وإِبطالها بعد حكايتها وعرضها، في حين أَنك رجل أُمي، وتفريقه هو المناسب لحالك. فكلما جَدَّ جديد نزل منه ما يناسبه، وبُيِّن فيه من الحُكم ما يوافقه، مطابقًا لمقتضى الحال. لكل هذا، أَنزل الله القرآن منجما على النبي الأُمى - صلى الله عليه وسلم - رعايةً له وعناية به، وإِشفاقًا عليه حتى لا يلحقه مشقة في حفظه وتدبره وتبليغه، وليستمر الإِيناس له برسول ربه جبريل - عليه السلام - {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}. أَي فرّقناه آية بعد آية، قاله النخعي والحسن وقتادة، وقيل: بيّناه بيانًا تامًّا، فيه تَرَسُّل وتَثَبُّت. كما قال ابن عباس: يعني بيناه شيئًا بعد شيءٍ، وقيل: قرأناه عليك بلسان جبريل - عليه السلام - شيئًا فشيئًا على تُؤَدة كما قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 106

33 - {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}: المراد بالمثَل: أَقوالهم التي يلتمسون بها معارضة القرآن والقدح في نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومن جملة هذه الأَقوال ما حكى عنهم من اقتراحات خارجة عن حد المعقول، جارية لغرابتها مجرى الأَمثال كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ (¬1) ... }. والمعنى: ولا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ}: أَي بالجواب الثابت الذي لا محيد عنه في مقابلة ما يصدر عنهم، محوًا لأَباطيلهم، وقضاءً على أَكاذيبهم التي أَرادوا بها الطعن في رسالتك وحسْما لمادة القيل والقال التي دارت على أَلسنتهم، قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة لأَنهم لا يسأَلون عن شئٍ إِلا أُجيبوا عنه. اهـ {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}: أَي جئناك بالحق، وبما هو أَحسن بيانا، وتفصيلا لما بعثناك به من الهدى، حتى لا يكون للباطل الذي جاءُوا به حقيقة ولا ظل، كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}. (¬2) 34 - {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ}: إِخبار من الله تعالى عن حال الكفار في معادهم يوم القيامة، وحشرهم إلى جهنم في أَسوإِ حال. والمعنى: أَن هؤلاء المكذبين تسحبهم الملائكة وتجرهم على وجوههم إلى جهنم، وقيل: الحشر على الوجوه مجاز عن الذلة والمهانة والخزى، وعقب ذلك بقوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} أُولئك الذين يزعمون أَنك كاذب فيما دعوتهم إِليه، واقترحوا في تحديك ما اقترحوا، أُولئك أَسوأ مكانا في الكذب وسوء الحال، وأَضل سبيلا، من كل ضال وهذا الأُسلوب على سبيل مجاراتهم فيما زعموا فإنه - صلى الله عليه وسلم - منزه عن كل شر وضلال. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآيات: من 90: 93 (¬2) سورة الإسراء، آية: 81

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا}. المفردات: {هَارُونَ وَزِيرًا}: أَي معاونا ومساعدا له في حمل أَعباء الدعوة. {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}: أَي أهلكناهم إِهلاكا مدمرا. {لِلنَّاسِ آيَةً}: علامة ظاهرة على قدرتنا يعتبر بها. {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ}: أَي أَعددنا وهيأْنا لهم. {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}: الرسُّ؛ بئر غير مبنيّة كانت لبقية من ثمود. {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ}: القرن؛ الجيل من الناس، قيل: ثمانون سنة، وقيل: غير ذلك.

{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ}: هي سدوم أَعظم قرى قوم لوط. {مَطَرَ السَّوْءِ}: فقد أُمطرت القرية بالحجارة من السماء فهلكت، والسَّوء - بالفتح - مصدر (ساءَه) وبالضم: اسم منه. التفسير 35 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}: شروع في بيان قصص بعض الأَنبياء مع أُممهم، وانتقام الله ممن كذبهم، تهديدًا لِمَنْ كذب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من مشركي قريش وكل من خالفه وأَعرض عن دعوته؛ وتحذيرًا لهم مما أَحله بالأُمم السابقة التي كذبت رُسُلها، وتأْكيدًا لما مرَّ من التسلية له - صلى الله عليه وسلم - والوعد بالهداية والنصر، في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} .. وقد بدأَ سبحانه بحكاية ما جرى لموسى - عليه السلام - فبَين أَنه ابْتَعَثَه مؤيدًا بالتوراة التي أَنزلها عليه، وجعل معه {أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}: أي بعثه معه يؤيده ويشد أَزره، وهو تابع له، كما يتبع الوزير سلطانه. وبدأَ الحديث معه باللام وقد؛ لإِفادة التأْكيد، أَي: ولقد أَنزلنا التوراة على موسى - عليه السلام - وأَيدناه بأَخيه هارون. 36 - {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}: المراد بالقوم هنا: قوم فرعون، أَي: فقلنا لهما: اذهبا إلى قوم فرعون؛ الذين كذبوا بدلائل التوحيد المودعة في الأَنفس والآفاق، أَو كذبوا بالآيات التي جاءَهم بها يوسف عليه السلام، أَما حَمْلُ التكذيب على أَنه بالآيات التسع؛ التي ذكرت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (¬1) فإِنه لا يناسب المقام؛ لأَنها لم تظهر إلاَّ بعد ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية 101

ذهابهما إليهم، وفي الكلام طَيٌّ لكلام يقتضيه المقام، تقديرُه: فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا إليهم، ودعَوَاهم إلى الإِيمان فكذبوهما. واستمروا على تكذيبهما به أَن أَيدهما الله بآياته {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}: عجيبًا هائلًا إِثر ذلك التكذيب المستمر - دمرناهم - بعذاب ماحق، لا يدع ولا يذر شيئًا إلاَّ أَتى عليه وجعله أَثرًا بعد عَيْن. 37 - {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ... } الآية. أَي: أَن قوم نوح كذبوا جميع الرسل بتكذيبهم رسولهم إِذ لا فرق بين رسول ورسول؛ لاتفاقهم جميعًا على التوحيد وأُصول الشرائع، إذ لم يرسل إليهم إلاَّ نوح - عليه السلام - وقدْ لبث فيهم أَلف سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم عذابه، فما آمن معه إلاَّ قليل، وقد عاقبهم الله عقوبة لم يسبق لها مثيل، حكاها الله بقوله: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أَي: أَغرقناهم بالطوفان؛ الذي تفجرت مياهه، وتلاحقت أَمواجه عالية شامخة كالجبال العظيمة، وجعلنا إِغراقهم أَو قصتهم علامة ناطقة ببالغ قدرتنا؛ لتكون عبرة لكل من شاهد آثارها، أو سمعها {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}: المراد بالظالمين الذين أَعدّ الله لهم العذاب هم أُولئك القوم الموصوفون بالتكذيب من قومه، أَو جميع الظالمين من الكافرين الذين لم يعتبروا بما نزل بهؤلاء من العذاب فيدخل فيهم قريش دخولًا أَوليًّا أَي: وأَعددنا للظالمين وهيأْنا لهم في الآخرة عذابًا بلغ أَقصى غاية في هوله وتأْثيره. 38 - {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}: أَي: ودمرنا عادًا قوم هود - عليه السلام - وثمود قوم صالح - عليه السلام - وأَصحاب الرَّس؛ وهم قوم شعيب - عليه السلام - ويقال لهم أَيضًا: أَصحاب الأَيكة، وكانوا يعبدون الأَصنام، فكذبوا شعيبًا وآذوه، فبينما هم حول الرّس خُسِف بهم وبديارهم فهلكوا جميعًا، وكانت بإِنطاكية الشام كما نقله القرطبي. وقال وهْب والكلبى وقتادة: أَصحابُ الرّس، وأَصحاب الأَيكة (¬1): قومان أُرسل إليهما ¬

_ (¬1) وهي غيضة تنبت الشجر.

شعيب - عليه السلام - وكان أَصحاب الرِّس قومًا من عبدة الأَصنام، وأَصحاب آبار ومواش، فدعاهم إِلى التوحيد، فتمادوا في طغيانهم، وفي إِيذائه، فبينما هم حول الرِّس - كما روى عن أَبي عبيدة - انهارت بهم وبديارهم، فهلكوا، وقيل: هم قوم قتلوا نبيهم ورسُّوه في بئرهم أَي: دسّوه فيها، وقيل غير ذلك. {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}: أَي ودمرنا كذلك أَهل قرون جاءُوا بين قوم نوح وعاد، وثمود، وأَصحاب الرِّس، وكان عددهم كثيرًا لا يعلم مقداره إِلاَّ العليم الخبير، أُرسل إِليهم رسُل فكذبوهم فأُهلكوا. والقرون: جمع قرن ومقداره سبعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، ويطلق مجازا على القوم المتعاصرين، وقال الزجاج: الذي عندي - والله أعلم - أن القرن أَهل كل مدة كان فيها نبيّ، أَو طبقة من أَهل العلم قلَّت السنون أَو كثُرت. 29 - {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}: أَي وكلَّ قوم من المكذبين ذكَّرنا وحذرنا، حيث بيَّنَّا لهم القصص العجيبة الزاجرة لما هم عليه من الكفر والمعاصي، ووضحنا لهم الأَدلة الصحيحة الهادية، ولكنهم كذبوا وأَعرضوا فاستحقوا الدمار، والهلاك، كما قال تعالى: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}: أَي وكل قوم منهم أَهلكناه هلاكًا ماحقًا؛ لتماديه فيما هو عليه من إِفك وطغيان. 40 - {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} الآية. استئناف مسوق لبيان مشاهدة المشركين من أَهل مكة لآثار الأُمم المُهْلكه وعدم اتعاظهم بها وصُدِّر بالقسم لتأْكيده وتقرير مضمونه، والمراد بالقرية الجنس الشامل لجميع قرى قوم لوط، يعني أَن قريشًا مروا بها كثيرًا في أَسفارهم بمتاجرهم إلى الشام، وكانت هذه القرى قد أَمطرها الله بالحجارة من السماءِ، فأُهلكت كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} (¬1). وكانت قراهم خمسًا، وروى عن ابن عباس أَن واحدة منها نجت لكون أَهلها لا يعملون العمل الخبيث. والله أَعلم بصحة هذا الخبر. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 173.

{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}: توبيخ لهم على ترك التذكر، والتأَمل عند رؤية ما يوجبهما، ويدعو إليهما. أَي: أَعموا عنها فلم يكونوا يرونها في مرورهم المتكرر عليها، ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب، ودلائل النكال؛ الذي حلَّ بأَهلها فأَهلكهم، ودمرها تدميرًا؟ فالمنكر عدم الرؤية الداعية إِلى التفكر والعبرة، مع وقوع النظر الموجب لذلك (بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا): إضراب انتقالى من التوبيخ على ما هو أَعظَم وأَقبح، وهو إِنكارهم البعث المستتبع للجزاء الأُخروى، إنكارًا مبالغًا فيه بحيث لا يتوقعونه أَصلًا، فمعنى "لا يرجون" على ذلك: لا يتوقعون. {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} المفردات: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}: أَي، ما يتخذونك إلاَّ موضع هزء وسخرية، يقال: هزأَ منه، وبه، كسمع - ومنع: هزءًا - بضم الهاء مع سكون الزاى أَو ضمها - سَخِر واستهزأَ. {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا}: أَي إِنه قرب أَن يصرفنا عن عبادة آلهتنا. {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا}: حبسنا أَنفسنا على عبادتها.

{مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}: أَي صيَّر ميله المذموم كأَنه إِلهه الذي يتبعه، والهوى: ميل النفس إلى الشيء، ثم استعمل في الميل المذموم، وهو مصدر هَوى، كفرِح. {وَكِيلًا}: أَي حفيطا، يقال: وكلْت الأَمر إليه وكْلًا؛ ووُكولًا: فوضته إِليه، وفعله من باب وعد يَعِد. التفسير 41 - {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}: روى أَن الآية نزلت في أَبي جهل ومن معه من زعماءِ مشركى قريش: أَي أن هؤلاء إذا رأَوك ما يتخذونك إلاَّ مهزوءًا بك (¬1) أَو موضع سخرية واستهزاء، بمعنى: أَنهم يقصرون فعلهم معه - عليه الصلاة والسلام - على ذلك، قائلين على سبيل التنقص، والازدراء: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}: أَي أَهذا الذي بعثه الله مرسلًا إلينا؟. والتعبير باسم الإشارة بعد الاستفهام، يريدون به الاستخفاف بدعواه أَنه رسول بعثه الله إليهم؛ والتعجب منه، والآية في معنى قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (¬2). 42 - {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ... } الآية. أَي: قال هؤلاء المشركون: إنه - صلى الله عليه وسلم - قارب أَن يَثنيهم عن عبادة أَصنامهم ويبعدهم عنها، لا عن عبادتها فقط؛ لولا أَنهم تجلَّدوا، وحبسوا أَنفسهم على عبادتها، وهذا اعتراف منهم بأَنه - عليه الصلاة والسلام - قد بلغ غاية الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد، وإقامة الحجج البينات التي تنير سبيل الهدى والرشاد، حتى شارفوا أَن يتركوا دينهم إِلى دين الإِسلام؛ لولا فرط إِصرارهم، وغاية عنادهم، ولهذا لجئوا إِلى سلاح الاستهزاء، حتى يحولوا دون تأَثر نفوسهم على رغم منهم بدعوته. ¬

_ (¬1) تنفرد (إذا) بوقوع جوابها المنفي بإن أو ما أو لا - تنفرد بوقوع جوابها هذا - غير مقترن بالفاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط، نقله أبو حيان وغيره. (¬2) سورة الأنبياء، من الآية: 36

{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}: جواب من جهته تعالى عن قولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} وردٌّ لما ينبىء عنه، ويشير إليه من نسْبته - عليه الصلاة والسلام - إِلى الضلال في ضمن إِضلاله إِياهم. أَي: وسوف يعلمون البتة؛ حين يرون العذاب يوم القيامه على كفرهم، وعنادهم، من هو الضال، ومن هو المهتدى، وأَنهم قد باعوا أُخراهم بدنياهم. وفي الآية تنبيه؛ على أَنه تعالى إِن أَمهلهم فإنه لا يهملهم. 43 - {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}: تعجيب لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من شناعة تمسك أُولئك المشركين بشركهم، وإِصرارهم عليه؛ بعد حكايته قبائحهم من الأَقوال والأَفعال، التي باءُوا بإِثمها، وبيان ما ينتظرهم من سوءِ المصير، وتنبيه على أَن ذلك من الغرابة؛ بحيث يجب أَن يرى ويتعجب منه (¬1). أَي: أَرأَيت منْ جعل هواه إِلها لنفسه، بأَن أَطاعه فيما يأْتى ويذر، وبنى عليه أَمر دينه، مُعرضًا عن البرهان الساطع، والحجة القاطعة، فهو لا يرى معبودًا إلاَّ هواه؟ والمعنى: انظر إِليه وتعجب منه. {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}: استبعاد لكونه - صلى الله عليه وسلم - حفيظًا على من اتبع هواه، يحفظه من متابعة هواه، ويرده عن عبادة ما يهواه، أَي: ليست ضلالته وهداه موكولتين إلى مشيئتك لترده إلى الإِيمان: وتحفضه من الفساد، وإِنما الذي وُكل إِليك هو الإِنذار، والتبليغ وقد فعلت. 44 - {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ... } الآية. انتقال من إِنكار الله عليهم أَنهم اتخذوا الهوى إلههم، إلى بيان أَنه لا سبيل إلى ظنه - صلى الله عليه رسلم - أَنهم يسمعون، أو يعقلون ما يقول. ¬

_ (¬1) وقدم المفعول الثاني وهو إلهه على الأول وهو هواه للاعتناء به من حيث إنه هو الذي يدور عليه أمر التعجيب.

والمعنى: بل أَتظن - أَيها الرسول - أَن أَكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات؟ أَو يعقلون ما تشير إِليه تلك الآيات من الزجر عن القبائح، والدعوة إلى المحاسن، فتهتم بشأْنهم، وتطمع في إيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ}: جملة مستأنفة لتأْكيد انصرافهم عن الحق، وبعدهم عن الاستماع والتعقل فهم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وزواجرها، وانصرافهم إلى الأَكل والشرب - هم في ذلك - كالبهائم التي هي مثل في الغفلة والضلالة {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}: أَي بل هم أَشد ضلالة من الأَنعام لما أَنها تطيع من يطعمها، وتعرف من يحسن إِليها ممن يقسو عليها وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وتهتدى لمأْكلها ومشربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم الذي خلقهم ورزقهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءَة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أَعظم المنافع، ولا يتَّقون العقاب الذي هو شر المضار، ولا يهتدون للحق الذي هو المورد العذب، فهم لذلك كله معطِّون لقواهم العقلية، مضيعون للفطرة الأَصلية التي فطر الله الناس عليها، بالغون بما صنعوا درجةً جعلت الأَنعام خيرًا منهم حيث لا تقصير منها في طلب ما يصلحها، وإِنما ذكر الأَكثر لأَنَّ منهم من لم يصده عن الإِسلام إلاَّ حب الرياسة، ومنهم من أَسلم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} المفردات: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}: أَي كيف جعله ممتدًا مبسوطا. {لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}: أَي لصيَّره ظلًّا ثابتًا دائمًا على حاله.

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ}: أَي أَزلنا ومحونا ما أَنشأْناه ممتدًا. {قَبْضًا يَسِيرًا}: سهلًا. التفسير 45 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}: شروع في بيان الأَدلة الناطقة بوجود تعالى، وقدرته التامة على خلق الأَشياء المختلفة والمتضادة إِثر بيان جهالة المعرضين عنها وقبح ضلالتهم، والخطاب لكل متأَمل في عجائب الكون، والهمزة للتقرير، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضميره - صلى الله عليه وسلم - لتشريفه، وللإِيذان بأَن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته. ويقول الزمخشرى في تفسير هذه الآية: ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته؟ ومعنى {مَدَّ الظِّلَّ}: جعله يمتد وينبسط، فينتفع به الناس، {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}: أَي لاصقًا بأَصل كل مُظِل من جبل وبناء وشجر غير منبسط، فلم ينتفع به أَحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركًا منه، وعدم ذلك سكونًا. اهـ. والمقصود: تنبيه الناس إلى عظيم قدرته، وبالغ حكمته فيما يشاهدونه من مَدِّ الظل وقبضه، وقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن ومجاهد وغيرهم: المراد بالظل: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، قالوا: ويدل على ذلك كون هذا الوقت لا يوجد أطيب منه، فإِن فيه يجد المريض والمسافر وكل ذي حاجة راحته واستقرار، وأَن الظلمة الخالصة تنفر منها الطباع، وشعاع الشمس يجعل الجو ساخنًا، والبصر كليلًا، ولهذا كان ظلّ الجنة ممدودًا، كما في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (¬1). وجملة {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}: اعتراضية للدلالة من أَول الأَمر على أَنه لا مدخل للأَسباب العادية فيه، أَي: ولو شاءَ - سبحانه - لجعله ظلًّا دائمًا لا يزول، بألاّ يدع للشمس ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية: 30

سبيلًا إليه {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} (¬1): أَي جعلناها علامة يستدل بها وبأَحوالها في مسيرها على أَحوال الظل من كونه يحدث في مكان، ويزول من آخر، ويتسع ويتقلص كذلك، فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءَهم عنه على حسب ذلك. وقبضُه إِياه: أَنه ينسخه بضِحِّ الشمس (¬2) انظر الزمخشرى. وقال قتادة والسُّدى: المعنى؛ جعلنا الشمس دليلًا عليه، تتلوه وتتبعه حتى تأْتى عليه كله. 46 - {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}: أَي: ثم أَخذنا ذلك الظل الممدود إلى حيث أَردنا، ومحوناه بمحض قدرتنا عند إِيقاع شعاع الشمس على موقعه، لا يشاركنا أَحد في إِزالته، كما لم يشاركنا أَحد في إِنشائه، فهو منَّا وإِلينا، وكان قبضه إِلينا يسيرًا علينا غير عسير؛ حيث قبضناه جزءًا جزءًا وفق موضع الأَرض من الشمس التي تأْتى عليه، وقال الضحاك: قبضًا سريعًا. ويحتمل أَن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة إِلينا، وذلك بقبض أسبابه وهي الأَجرام التي تُلقِى الظل، كما أن إِنشاءَه كان بإِنشاء أَسبابه، والتعبير بالماضى لتحققه، والإِتيان بثم في هذه الآية والتى سبقتها للتراخى الزمنى بين المعطوف والمعطوف عليه. ¬

_ (¬1) هذه الآية تظهر عناية الخالق وقدرته؛ فمد الظل يدل على دوران الأرض وعلى ميل محور دورانها، ولو أن الأرض سكنت بحيث إنها ظلت غير متحركة حول الشمس، وانعدم دورانها حول محورها لسكن الظل، ولظلت أشعة الشمس مسلطة على نصف الأرض، بينما يظل النصف الآخر ليلًا؛ مما يحدث اختلاف التوازن الحرارى، ويؤدى إلى انعدام الحياة على الأرض وكذلك لو أن الله خلق الأشياء كلها شفافة لما وجد الظل ولانعدمت فرص الحياة أمام الكائنات التي تحتاج إليه. اهـ .. من هامش المنتخب في تفسير القرآن الكريم، الطبعة السابعة المجلس الأعلى للشئون الإِسلامية.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} المفردات: {اللَّيْلَ لِبَاسًا}: اللباس؛ ما يلبس، وفعله: من باب فرح. {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا}: السُّبات؛ الثقيل لتكمل به الراحة، من السبت: بمعنى القطع، وقد يطلق السُّبات على الموت، وفعله: من باب نَصَر ينصُر. {النَّهَارَ نُشُورًا}: أَي حياة تزاولون فيها أَعمالكم، يقال: نَشَرت الأَرْضُ نشورًا بمعنى حَيَّتْ وأَنبتت، وفعله كقَعَد، وضرب. {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: أَي مبشرات، جمع بَشُور كرسول، وأَصله: بُشُر - بضم الشين - ثم خفف بالإِسكان. {مَاءً طَهُورًا}: صالحًا للتطهر به، كطاهر مع المبالغة في طهارته، ويقول الفقهاء: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهو الماءُ المطلق والذي لم يختلط بِنَحْو خَلٍّ وعِطْر، فإن خالطه مثل ذلك فليس بطهور وإنما هو طاهر. ولو كان معناهما واحدًا لقيل: ثوب طهور وخشب طهور وهو ممتنع. {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}: جمع أُنسى، ككُرسِى، أَو جمع إِنسان، فقلبت النون في الجمع ياءً وأُدغمت الياءُ في الياء. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ}: أَي صرفنا المطر بين الناس في البلدان والأَوقات المختلفة ليعلموا آيات قدرتنا، أو بينا آيات القرآن ببيان ما فيه من عقائد وحلال وحرام.

التفسير 47 - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}: بيان لبعض ما أَسبغه الله - عَزَّ وَجَلَّ - على خلقه من آثار قدرته العظيمة، ورحمته الواسعة التي أَفاضها عليهم. أَي: جعل الله لكم - أَيها المخاطبون - الليل ساترًا يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس الذي تلبسونه، وجعل لكم النوم العميق الذي يقع في الليل غالبًا - جعله - قطْعا لأعمالكم التي تُثْقلكم وتُضْنيكم لتستريح من متاعبها أَبدانُكم وأَرواحكم، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أَي: تنتشرون فيه لمعايشكم ومكاسبكم ولأَداءِ سائر أَعمال الحياة، كما قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1) فهو زمان بعث باليقظة من ذلك السُّبات كبعث الموتى بالنشور، وجُوّز أَن يراد بالسُّبات الموت؛ لما فيه من قطع الإِحساس بالحياة، وعُبِّر به عن النوم لما بينهما من المشابهة في انقطاع أحكام الحياة كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} كما عبر عن اليقظة بالنشور والبعث. 48 - {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}: وهذا أيضًا من آثار قدرته التامة وسلطانه العظيم، أَي: أَنه سبحانه يرسل الرياح مبشرات بمجىء السحاب المؤذن بإِنزال المطر، لأَنه ريح فسحاب فمطر، وَوَرد المطر بعنوان الرحمة لحاجة كل مخلوق إلى مائه، لأَن فيه رزقًا للعباد، وبه تحيا الكائنات الحية، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. والالتفات إلى نون العظمة في قوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}، لإِبراز كمال العناية بإنزال الماء بمعني: أَنزلنا بعظمتنا ورحمتنا ماءً طاهرًا في نفسه مطهرًا لغيره، فالمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأَرض طاهرة مطهرة، ووصفه بطهور إعظامٌ للمنَّة وأَنه أَهنأُ وأَنفع مما خالطه ما يزيل هذا الوصف، كالخل والسُّكر والمِسْك. ¬

_ (¬1) سورة القصص، آية: 73.

49 - {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}: أَي لنحيى بالمطر بلدة أَماتها الجدْب والمَحْلُ حتى أَصبحت أَرضها هامدة لا نبات فيها ولا زرع، وهو روحها يحييها الله به كما قال كعب: المطر روح الأَرض يحييها الله به. اهـ. وإحياؤها بإنبات النبات فيها، كما بشير إلى هذا قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬1). ووصف البلدة - وهي مؤنثة، بـ (ميتًا) وهو مذكر - على إرادة البلد أَو المكان {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا (¬2) أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}: أَي نسقى ذلك الماء الطهور الذي يجرى في الأَنهار وفي العيون والآبار، نسقيه أَنعامًا وأَناسيَّ كثيرًا ممن خلقنا. وقُدّم إِحياء الأَرض على سقى الأَنعام والأَناسى لأَن حياتها سبب لحياتهم، وتخصيص الأَنعام من بين الحيوان الشارب لأَن عامة منافع الأُناس ومعايشهم منوطة بها. وقال: {كَثِيرًا}: ولم يقل كثيرين؛ لأَن ما كان على وزن (فعيل) قد يراد به الكثرة نحو قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3). 50 - {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}: أَي ولقد بينا وكررنا هذا القول للناس في هذا القرآن، وفي سائر الكتب المنزلة، وهو إرسال الرياح وإنشاء السحاب، وإنزال المطر، وهو مفهوم من السياق، وذلك ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا كمال قدرته تعالى، وواسع رحمته، فيشكروه عَزَّ وَجَلّ، ويعلموا أَنَّ مَنْ أَنْعم بهذه المنن والآلاء لا يجوز الإِشراك به. وقيل: الضمير للمطر، وهذا القول مروى عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، وعكرمة، بمعنى: ولقد صرفنا الماءَ المنزل من السماءِ بين الناس المتقدمين والمتأَخرين في البلدان المختلفة والأَوقات المتغايرة، وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطَلٍّ ورذاذ وغيرها ¬

_ (¬1) سورة الحج، آية: 5 (¬2) و (من) في قوله: "مما خلقنا" إما بيانية - أَي: ونسقيه مخلوقا لنا أو: تبعيضية، أي: نسقيه بعض مخلوقاتنا. (¬3) سورة النساء، من الآية: 69.

ينزلُه بأَرض، ويمسكه عن أُخرى حسبما يريد ويشاء، وتلك من دلائل القدرة الباهرة التي تدعو إلى الإيمان بالله، ومجافاة الكفر به، ولكنهم لم يفقهوا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}: أَي: أَبي أَكثرهم ممن سلف وخلف إلَّا كفر النعمة وجحدها وعدم الاكتراث بها، بأَن يقولوا: مطرنا بِنَوْءِ كذا؛ معرضين عن ذكر صنع الله، ورحمته، اعتقادًا منهم أَن النجوم لها الفاعلية والتأْثير، وهذا - والعياذ بالله - كفر، كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه قال لأَصحابه يومًا على إِثْرِ سماء أَصابتهم من الليل: "أَتدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أَعلم، قال: "أَصبح من عبادى مؤمن وكافر، فأَما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأَما من قال: مطرنا بِنَوءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب". {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} المفردات: {نَذِيرًا}: أَي رسولًا ينذر أَهلها. {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}: في دعوتهم إياك إلى اتباع آلهتهم. {جِهَادًا كَبِيرًا}: أَي دائمًا مستمرًا لا يخالطه فتور. التفسير 51 - {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}: أَي رسولًا يدعوهم إلى عبادة الله - عَزَّ وَجَلَّ - لتخفَّ عليك أَعباءُ الرسالة، ولكنا لم نفعل، بل جعلناك نذيرا إِلى جميع أَهل الأَرض، وأَمرناك أَن تبلغهم هذا القرآن، كما

قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1) تكريما لك ورفعا لمنزلتك لتنال بجهدك المبذول أَو في الجزاء، وأَكرم المثوبة، فقابل هذه النعمة الجليلة بالشكر والصبر على جهاد المعاندين المتكبرين بكل ما أُوتيت من قوة، مع المبالغة في إِنكار ما يدعونك إليه كما قال تعالى: 52 - {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}: أَي فلا تطعهم فيما يدعونك إِليه من اتباع آلهتهم وهو دَفْعٌ له - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين على التشدد معهم والمبالغة في الإِنكار عليهم {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}: أَي وجاهدهم بعون الله وتوفيقه، أَو بالقرآن، كما قال ابن عباس، وذلك بتلاوة ما فيه من الحجج والبراهين، والقوارع والزواجر، والمواعظ اللافتة إلى عاقبة الأُمم التي كذبت رُسُلَها لإِظهار عجزهم، وتبصيرهم بسوءِ مصيرهم، وكأَنه نُهى بهذه الآية عن الملاينة، وقد كان المشركون يدعون الرسول إلى مهادنتهم وملاينتهم والكف عن تسفيه أَحلامهم وآلهتهم، فجاءت هذه الآية لقطع أَطماعهم، وحثه - صلى الله عليه وسلم - على مجاهدتهم وملاحقتهم بالإِنذار والوعيد دون فتور، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬2). وكان جهاده - صلى الله عليه وسلم - كبيرا؛ كما أمره الله - عز وجل - فلم تلن له معهم قناة، مع ما بذلوه معه من الأَماني الفسيحة إِن أَطاعهم، ولا مع قسوتهم الشديدة عليه وعلى أَصحابه حينما رفض عروضهم السخية. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 158 (¬2) سورة التوبة، من الآية: 73

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} المفردات: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}: أَجراهما وخَلاَّهما، من؛ مرجت الدابة، إذا خلَّيتها ترعى. {الْبَحْرَيْنِ}: الماءَين: العذب والمِلْح، من غير تخصيص ببحرين معينين. {مِلْحٌ أُجَاجٌ}: شديد الملوحة والحرافة، من أَجيج النار، كما قال الراغب. {بَرْزَخًا}: حاجزا يمنع أَن يغلب أَحدهما على الآخر كما في قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}. {وَحِجْرًا مَحْجُورًا}: أَي تنافرا مفرطا، كأَن كل واحد منهما ينفر من الآخر، ويتعوذ منه بتلك المقالة على عادة العربى الذي كان إِذا رأَى شيئًا يكرهه يقول: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} والمراد: لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة. {خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا}: المراد بالماء؛ نطفة الرجل ونطفة المرأَة. {وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}: أَي فقسم الماء قسمين ذوى نسب - أَي: ذكورا - وذوات صهر أَي: إِناثا، فبالذكور يكون النسب، وبالإِناث تكون المصاهرة. التفسير 53، 54 - {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}: هاتَان الآيتان من جملة الآيات التي بدأَت بقوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى

رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ" والتي تتحدث عن بعض آيات الله الكونية التي تتعاظم فيها آلاؤه، وتتراءى آثار نعمه على خلقه، ودلائل قدرته في تسخير هذه المخلوقات لتذليل السبل في حياة الإِنسان، وتيسير حاجاته مصداقا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1) وقوله جل شأْنه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (¬2). ومعنى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}: أَجرى الماءَين العذب والملح، مع استقلال كل واحد منهما بخصائصه وأَوصافه، هذا عذب فرات مستساغ الطعم وقامع للعطش، ومنبت للزرع، وهذا ملح أُجاج شديد الملوحة كريه الطعم تجرى فيه السفن ويأْكل منه الناس لحما طريا ويستخرجون حلية يلبسونها وجعل بين الماءين {بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أَي: وجعل الله تعالى بقدرته بين الملح والعذب حاجزا ومانعا لا سبيل إلى رفعه ودفعه، حتى لا يطغى أَحدهما على الآخر أَو يغلب عليه، فلا يعذب الملح بالعذب لقلة ما يتسرب منه إلى الماءِ الملح، ولا يملح الماء العذب بمجاورته للماء الملح في مصبه، لأَن الله تعالى بقدرته العظيمة، جعل البحار الملحة في أَغوار منخفضة عن سطح الأَرض وعن مجارى المياه العذبة، بحيث لا يمتد في مجارى الأَنهار إِلا جزء قليل مجاور لها في مستواها، وهو مصبها، فبانخفاض البحار وعلو مستوى الأَنهار، حفظ الله طبيعة كليهما، حتى ينتفع بالملح والعذب فيما خلقهما الله لأَجله. ويجوز أَن يراد من الحجر المحجور: اليابس الذي جعله الله بين الماءَين، حال به بينهما، لينتفع بكليهما في موضعه من الأرض. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا}: أَي: ومن جملة قدرته - تعالى - أَن خلق من نطفة الرجل والمرأَة إنسانا بعد أَن طوره في مراحله المختلفة، وأَداره في أَدوار التكوين فجعله قسمين: ذكرًا يُنْتَسَبُ إِليه فيقال: فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، وأَنثى يُصَاهَرُ أَهلها بزواجها فيتحقق بذلك الترابط، وتتم الصلات الطاهرة بين بني الإِنسان حتى يصيروا شعوبا وقبائل. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 29 (¬2) سورة الجاثية، من الآية: 13

وشأْن من يقدر على هذه الآيات، ويبدع هذه المخلوقات المتعددة الأَنواع والصفات أَن يكون عظيم القدرة لا يعجزه إِبداع شيء من حيوان أَو نبات أَو جماد، فهو الذي يقول للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ}. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} المفردات: {ظَهِيرًا}: مظاهرا ومعاونا للشيطان على عصيان الله، والكفر به، مثل قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، والمراد بالكافر؛ الجنس: أَي كل كافر. التفسير 55 - {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}: لما عددت الآيات السابقة آلاءَ الله ونعمه، وأَبرزت آثارها على الإِنسان في تيسير حياته، جاءَت هذه الآية تنعى على الكفار بعامة، وعلى مشركى مكة بخاصة خفة أَحلامهم وسفه عقولهم في إِعراضهم عن توحيد الله، وإِنكار أُلوهيته عظيم آياته، وروائع آثاره، وتندد باتخاذهم آلهة من دون الله يصنعونها بأَيديهم، ويشترونها من أَسواقهم كما تشترى البهائم والسلع، ويشاهدون حدوثها واختلاف أَحوالها، ثم يعظمونها بعد ذلك، ويقدمون لها القرابين من نعم الله وما أَفاءَه عليهم، وهي من الضعف والهوان بحيث لا تستطيع أَن تجلب لهم نفعًا، ولا أَن تدفع عنهم ضرا، بل هي من المهانة بحيث لا تستطيع أن تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها شرًّا، وكان الكافر بعبادته لهذه الآلهة الواهنة ظهيرا للشيطان ومعينا له على ربه، ولن يغلب الله غالبٌ.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)}. المفردات: {مُبَشِّرًا}: تبشر الذين اتبعوك بالخير في الدنيا والآخرة. {وَنَذِيرًا}: تنذر المكذبين المعارضين لدعوتك وتخوفهم بعذاب بالغ في الشدة. {سَبِيلًا}: طريقًا يسلكه إِلى توحيد الله وإِفراده بالعبادة. التفسير 56 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}: هذه الآية جاءَت بعد الآية السابقة عليها، ليتسلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تذهب نفسه حسرات على عناد قومه وإشراكهم. والمعنى: ما عدنا إليك بهذه الرسالة التي بعثناك بها إلى قومك ومَنْ وراءَهم لتحملهم عليها قسرا، وإِنما أَرسلناك مبشرًا بالسعادة والنعيم المقيم في الجنة لمن أَطاعوك، وصدقوك واتبعوا سبيلك، ونذيرًا بعذاب شديد متناهى الإِيلام لمن خالفوك وعارضوك، وكذَّبوا دعوتك، فلا يحزنك هؤلاء الذين يسارعون في الكفر بغير روية، ويستمرون عليه بعد ما قمت به من أَمر التبليغ على خير وجه، وأَوضح بيان. 57 - {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}: أَي: قل أَيها الرسوك واعظًا لهؤلاء المشركين، ودافعًا عن نفسك مظنة الانتفاع: ما أَسأَلكم على ما أَدعوكم إِليه من توحيده وعبادته أَجرًا، ولا أَطلب منكم في سبيل القيام بتبليغه جزاءً، إلا اهتداءَ من شاءَ أَن يتخذ إلى ربه سبيلا، فهذا أَعظم أَجر يناله الداعية إلى الحق وإِلى طريق مستقيم.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} المفردات: {تَوَكَّلْ}: اعتمد بقلبك على ربك في الأُمور. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}: نزه ربك عن صفات النقصان حامدا له على نعمائه، مثنيا على كمالاته. {خَبِيرًا}: عالمًا بدقائق الأُمور وخوافيها فضلا عن ظواهرها. {الْعَرْشِ}: عرش الله تعالى وهو لا يحدُّ، ويطلق لغة على سرير الملك، وعلى العز وقوام الأَمر. {اسْتَوَى}: الاستواء؛ الاستيلاء. التفسير 58 - {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}: أَمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الآية السابقة أَن يقول المشركين: إِنه لا يطلب بدعوته إِياهم أَجرا ولا يطمع منهم في نفع، وعقبها هذه الآية ليدعوه بها أَن يجعل اعتماده على الله وحده لا يبالى بأَحد غيره ولا يأْبه بعناد المشركين، ولا يطمع منهم في عون. والمعنى: اعتمد - يا رسول الله - على ربك بقلبك في اتقاء شرورهم: والاستغناء عن أُجورهم

فإِنه - سبحانه - جدير بالتوكل عليه، والاستغناء به، فهو الحي الباقي الذي لا يدركه فناء، ولا ينقطع منه رجاء. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}: أَي: نزهه عن صفات النقصان، مثنيًا عليه بصفات الكفال التي تليق بذاته طلبًا لرحمته، وطمعًا في استزادة نعمه بمزيد الاعتراف بها والشكر عليها، وكفى بالله، وبعلمه التام خبيرا بذنوب عباده مطَّلِعًا على ما خفى منها وما ظهر لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أَحصاها، ليجازى عليها جزاءً وفاقا. 59 - {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ... } الآية. تضمنت هذه الآية وصفه - تعالى - بصفته الفعلية، بعد وصفه بصفاته الذاتية، إبرازًا لكمال قدرته على استجابة من توكل عليه ولجأَ إليه، فإِن من يقدر على إِنشاء هذه الأَجرام العظام على هذا النمط الرائق، والنسق الفائق في تدبير متين، وترتيب رصين أَحق أَنْ يتوكل عليه، ويفوض الأَمر إليه. والمراد بالعرش في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: الملك والسلطان، وبالاستواء عليه: تدبيره لما خلقه دون شريك. والمعنى: ثم أَحكم سلطانه وتدبيره لما خلقه من السموات والأَرض وما بينهما، دون شريك ولا معين وبهذا أَول الخَلَفُ الآية الكريمة، لأَنه تعالى لا يحل بمكان ولأَنه موجود قبل أَن يخلق العرش، وعن الصادق والحسن وأَبي حنيفة ومالك - رضي الله عنهم -: أَن الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإِيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة (¬1). والمراد بالأَيام في قوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} غير الأَيام المعروفة لنا، فإِن الليل والنهار لم يكونا قبل خلق السموات والأَرض، فهي من أَيام الله، يعلم الله قدرها، ولا مجال للحديث عنها، فقد يكون اليوم أَكثر من خمسين ألف سنة مما يعدون. ¬

_ (¬1) تقدم الكلام مستوفى على معنى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سورة الأعراف.

ومهما يكن فإن قدرة الله لا يعجزها خلق السموات والأَرض في أَي زمان كان طويلا أَو قصيرا، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، وإِنما جاءَ هذا التحديد لحكم جليلة، وغايات جميلة، ولتكون الرَّوية والأَناة منهج القادرين، وأُسلوب العاملين، وسبحان من لا تحيط العقول بحكمته، ولا تدرك أَسرار صنعته. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} جملة مستأْنفة، تقديرها: هو الرحمن، سيقَت مساق المدح لتقرير رحمته التي وسعت كل شيء بعد ما ثبت له من الصفات السابقة تأْكيدا لوجوب التوكل عليه. {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الأَمر موجه إِلى كل مكلف أَي: فاسأل بالرحمن خبيرا - والمراد بالسؤال به تعالى: السؤال عن تفصيل رحمته وشئونه في خلقه، والخبير: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى الإِجمالى للآية: الذي خلق السموات والأرض بأَجزائهما وما استقر فيهما، وخلق الكواكب التي زيَّن بها سماواته، وخلق ما بين السماء والأَرض من الهواء والأَشعة الكونية وما يعلمه الناس وما لا يعلمونه فاسأل عن الرحمن الذي أَبدع هذا الكون العظيم، وشمل من فيه برحمته - اسأل عنه أَيها المكلف رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهو وحده الخبير الذي يعلم شئون ربه في خلقه، وهو وحده الذي يجيبك بحق، وصدق، فإِنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} فما يقوله عنه فهو حق، وما يخالفه فهو مردود على قائله. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}: المفردات: {نُفُورًا}: تباعدا عن الإِيمان، وإِصرارا على الكفر.

التفسير 60 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}: ذكرت الآية السابقة إِطلاق وصف الرحمن على الله تعالى، وجاءَت هذه الآية بعدها تنعى على المشركين جحودهم لهذا الاسم، وإصرارهم على الكفر به، ونفورهم من أَمرهم بالسجود له. والمعنى: وإذا قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اسجدوا للرحمن تبليغا عن ربه قالوا على سبيل التعجب، أَو السخرية والتجاهل أَو الإِنكار: وما الرحمن؟ قالوا ذلك لما أَنهم كانوا لا يطلقون هذا الاسم على الله تعالى. ومعنى قولهم وما الرحمن؟: وما هذا الاسم الذي تسمى به الله ولا نعرفه؟. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}: أَي لا نسجد للذى تأْمرنا بالسجود له وتسميه الرحمن فنحن لا نعرفه، ولا نُقِرُّ به، ولا نطيع لك فيه أَمرا، وزادهم الأَمر بالسجود نفورا عن الإِيمان وإِصرارا على الكفر. وكان سفيان الثورى يقول في هذه الآية: "إِلهى: زادني لك خضوعًا، ما زاد أَعداءَكَ نفورًا".

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} المفردات: {بُرُوجًا}: منازل للشمس والقمر، وهي المنازل الاثنا عشر (¬1)، مفردها برج، والبرج: كل مرتفع، سميت بذلك تشبيهًا لها بالقصور العالية. {سِرَاجًا}: المراد به الشمس لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وقريء سرُجًا بصيغة الجمع، فيكون المراد بالشمس: الجنس الشامل لكل ما ماثل شمسنا في المجرة التي تتبعها. {مُنِيرًا}: مضيئا ليلًا، ووصفه بمنيرا. دون مضىء يشعر بأَن نوره مستمد من الشمس {خِلْفَةً}: أَي يخلف كل منهما الآخر {يَذَّكَّرَ}: يتعظ، وأَصله: يتذكر، أدغمت تاءُ الافتعال في الذال بعد قلبها ذالا. {شُكُورًا}: شكرا كثيرا لله تعالى على نعمه. التفسير 61 - {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}: هذه الآية والتي بعدها تُؤَكِّدَان تنزيه الله، وتعظيمه، وَتُعَدِّدَانِ آيات قدرته وبدائع صنعه واستحقاقه السجود له. ¬

_ (¬1) وهي منازل الكواكب السبعة السيارة: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان. والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت.

والمعنى: تنزه الله وتعالى واستحق كل تعظيم وتمجيد، وكل إِذعان وطاعة لما أَحكم من صنعه إِذ جعل في السماء منازل اثنى عشر لنزول الشمس والكواكب، وجعلها على أَربعة أَقسام: ثلاثة ربيعية، وثلاثة صيفية، وثلاثة خريفية، وثلاثة شتوية، وبهذا يختلف الزمان حرارة وبرودة، ويختلف الليل والنهار طولا وقصرا ولا يخفى أَثر ذلك في إِنبات النبات، وإِنضاج الثمار والزروع وملاءَمة أَحوال الناس في أَعمالهم ومهنهم، كما جعل في السماء شمسًا تضيء الأَرض كما يضيء السراج المكان الذي يسرج فيه، وجعل فيها قمرًا ينسخ ظلام الليل، ويخفف من عتمته، فيهتدى بذلك السارى، وتقل به الوحشة؛ قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}. والضمير في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} يعود على البروج لقربها، ويجوز أن يكون عائدا على السماء؛ لأَنها الأَصل. 62 - {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}: أَي: وهو الله الذي توافرت نعمه، وتعاظم فضله، فجعل تعاقب الليل والنهار وفاءً بمتطلبات الحياة واحتياجات خلقه في إِنبات النبات، وإِنضاج الثمار والزروع وتقلبهم في أَعمالم وأَسفارهم وإِخلادهم إلى الراحة، وفي هذا غاية العبرة لمن أَراد أَن يعتبر بتأمُّله في محكم آياته، وجلائل تدبيره، فيعلم أَن لا بد لهذا الكون من إله قادر وصانع حكيم، كما أَن فيه أَوسع مجال لمن أَراد أَن يتعاظم حمده لربه، ويتزايد شكره لخالقه على توافر نعمه، وتزايد آلائه، وقال ابن كثير: جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادته، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، وقد جاءَ في الحديث الصحيح: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل".

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)}. المفردات: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}: أَي مشيًا لينا بسكينة ووقار وتواضع. {الْجَاهِلُونَ}: المراد بهم السفهاء. {قَالُوا سَلَامًا}: أَي قالوا للسفهاءِ تسليمًا منكم، ومتاركة لكم وبُعْدًا عنكم. {غَرَامًا}: هلاكا لازما، وشرًّا دائمًا، من قولهم: هو مُغْرم بكذا، أَي: يلازمه ملازمة الغرِيم. {مُسْتَقَرًّا}: مكان استقرار وسكن. {وَمُقَامًا}: دار إِقامة، من أَقام بالمكان، إِذا سكنه ولزمه. التفسير 63 - {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}: هذا كلام مستأْنف مسوق لبيان أَوصاف المؤمنين الصادقين بعد بيان أَحوال المشركين الجاحدين لوحدانية الله، النافرين من عبادته والسجود له، وبضدها تتميز الأَشياءُ. وعباد الرحمن: من العبودية التي هي إِظهار التذلل والخضوع، مع القيام بمقتضياتها من حسن الطاعة وجميل الانقياد والامتثال، والتعبير عن المؤمنين الصادقين بلفظ:

(عباد) وإِضافتهم إلى الرحمن فيه تقدير لإِيمانهم، وحسن أَعمالهم وتشريف لهم، وتبكيت للمشركين الذين أَنكروا اسم الرحمن، وأَعرضوا عن السجود له، وقوله تعالى: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}: معناه يسيرون في تقلبهم لتحصيل معايشهم، والسعى في حاجاتهم سيرا هيِّنا لينا لا بَغْى فيه ولا استعلاء، فكلمة: (هونا) مصدر وقع وصفا لموصوف محذوف، وقيل: المشى الهون يقابل السريع وهو مذموم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أَخرجه أَبو نعيم، وابن النجار عن ابن عباس: "سرعة المشى تذهب بهاءَ الرجل". {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ}: معناه إِذا تكلم معهم السفهاءُ بالسوءِ أَو بكلام يؤذيهم ويكرهون سماعه أَعرضوا عنهم تحلما وسماحة، وقالوا ردًّا عليهم: تسلُّما منكم ومتاركة لكم، فليس معنى: {سَلَامًا} السلام المعروف لأَن الآية في مشركى مكة فلا سلام عليهم، والذي يظهر من الأُسلوب أَن المفهوم من قولهم سلاما هو سداد الردِّ مع البعد عن التفحش ومجاراة السفهاء. وقيل معناه: إِذا سفه عليهم الجاهلون بالسوء، لم يقابلوهم بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إِلا خيرا، كما كان - صلى الله عليه وسلم - لا تزيده شدة الجهل عليه إِلا حلما، وقوله تعالى: 64 - {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}: معطوف على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا .... } الآية داخل معه في حيز الخبر لقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} وفيه بيان لحالتهم مع ربهم، بعد بيان سلوكهم مع السفهاء خفاف الأَحلام من مداراتهم وعدم مجاراتهم، وكان الحسن يقول: إذا قرأَ الآية الأُولى: هذا وصف نهارهم، وإِذا قرأَ هذه الآية قال: "هذا وصف ليلهم" ويبيتون من البيتوتة - وهي الدخول في الليل وإِدراكه بنوم أو بدون نوم. والمعنى: وعباد الرحمن الذين يحيون ليلهم بالصلاة قائمين ساجدين لربهم، وتقديم السجود على القيام مع تأَخره عنه في الأَداء إيماءٌ إِلى شرف السجود لما فيه من غاية الخضوع وفضل التذلل، وقد ورد: "أَقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وقد حرم منه إِبليس، وأَباه المشركون، ونفروا من أَدائه. هذا فضلا عن مراعاة رءُوس الآي.

65 - {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}: معناه: والذين يتجهون إلى الله في أَعقاب صلاتهم، وفي أَوقات تهجدهم وفي جميع أَحوالهم - يتجهون إِلى الله بالدعاء - قائلين: يا ربنا وإِلهنا الذي نلجأُ إِليه في سرائنا وضرائنا أَبعد عنَّا عذاب جهنم وقنا إِياه. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}: هذه الجملة مقولة على لسان الداعين فيما يظهر، لتعليل دعائهم السابق بأَن يقيهم الله عذاب جهنم، أَي: اصرف عنا عذابها؛ لأَنه هلاك لازم وشر دائم. 66 - {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}: تعليل ثان لدعائهم بأَن يقيهم الله عذاب جهنم، أَي: إن جهنم قَبُحتْ وبئست دار استقرار وإِقامة لمن هو فيها، يكتوى بلظاها، ويحترق بسعيرها، قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إِلا غريم جهنم. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}: المفردات: {يُسْرِفُوا}: يُفْرِطوا في الإِنفاق حتى يضروا باحتياجات معيشتهم، ومصدره: الإِسراف، وهو التبذير في النفقة، والاسم منه: السَّرفُ - بفتحتين - وهو ضد القَصْد. {يَقْتُرُوا}: يُضَيِّقُوا في النفقة على أَنفسهم وعيالهم تضييق الشحيح، وماضيه: قَتَر، من باب: ضرب ودخل، ويقال: قَتَّر وأَقْتَر. {قَوَامًا}: وسطًا وعدلًا.

التفسير 67 - {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ... } الآية. تناولت الآيات السابقة في وصف عباد الرحمن أَنهم مع السفهاء والجاهلين يُتَاركونهم ولا يجاهلونهم، ومع الله تعالى يتواضعون ويشتغلون بعبادته ويشفقون من عذاب جهنم ويتعوذون منها، ثم جاءَت هذه الآية تمدحهم بالاعتدال والقصد في شئون معاملاتهم وإِنفاقهم واختلف المفسرون في تحديد معنى الإِسراف والتقتير، فذهب جماعة إِلى أَن الإِسراف هو الإِفراط ومجاوزة الحد في الإِنفاق دُنْيا ودِينًا، فصفة عباد الرحمن: القصد والتوسط فإِذا أَنفقوا من أَموالهم على أَنفسهم وعيالهم، أَو تصدقوا منها على الفقراء والمساكين، أَو بذلوا في وجوه الخير، والمصالح العامة التي تعود بالنفع على المسلمين، التزموا الاعتدال والوسط، فلم يجاوزوا الحد، ولم يُفْرِطوا في الإِنفاق إِلى حد الإِسراف لكيلا يفتقروا ويضيعوا أَنفسهم وعيالهم، ولم يبالغوا في التقتير والتضييق، ولم يبلغوا درجة البخل والشح بين تبذير وبخل رتبة ... وكلا الحالين إِن عام قتل وذلك هو القوام، وهو ما يفهم من قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما رواه حذيفة: "ما أَحسن القصد في الغنى، وما أَحسن القصد في الفقر، وما أَحسن القصد في العبادة" وقد قيل: "إِن المنْبَتَّ لا أَرضا قطع، ولا ظهرا أَبقى". وذهب جماعة إِلى أَن الإِنفاق في طاعة الله ليس سرفًا مهما بلغ، ولهذا ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدنا أَبا بكر يتصدق بماله كله، وأَقره عليه، وقال ابن عباس - رضى الله عنهما -: "من أَنفق مائة أَلف دينار في حقٍّ فليس بسرف، ومن أَنفق درهمًا في غير حقه فهو سرف" ومن منع في حق عليه فقد قتَر، قال النحاس: ومن أَحسن ما قيل في معناه: "أَن من أَنفق في غير طاعة الله فهو الإِسراف، ومن أَمسك عن طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - فهو الإِقتار، ومن أَنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام" وسمع رجل رجلًا يقول: لا خير في الإِسراف فرد عليه بقوله: "ولا إِسراف في الخير".

والرأْي الفقهى في هذا أَن يترك المؤمن لذويه ما يقيهم العوز، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك إِن تذر ورثتك أَغنياء خير من أَن تذرهم عالة يتكففون الناس" وهو الظاهر من معنى الآية. (وقَوَامًا): - بالفتح - وسطًا وعدلًا، وسمى قوامًا، لاستقامة الطرفين وتعادلهما، وقرىء: قواما - بكسر القاف - فقيل: هما لغتان بمعنى واحد، وقيل: القِوام - بالكسر -: ما يقام به الشيء، ومعناه هنا ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} المفردات: {أَثَامًا}: عقابا شديدا لا يقادر قدره على إثمه، والكلام على حذف مضاف، أَي: يلق جزاءَ أَثامٍ. {يَخْلُدْ}: يقيم فيه أَبدا، وأَصل الخلود في اللغة: المكث الطويل. {مُهَانًا}: حقيرا ذليل النفس. {مَتَابًا}: رجوعا عظيم الشأْن مرضيا عنه.

التفسير 68 - {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... } الآية. هذه الآية تتمة لمدح عباد الرحمن، وقد امتدحهم الله في الآيات السابقة بما تحلوا به من أُصول الطاعات، والاجتهاد في تحصيل الفضائل وامتدحهم في هذه الآية بالبعد عن فعل الكبائر، ومجافاتها، والتنصيص على تركهم هذه الكبائر بخصوصها لتهويل أَمرها، وتفظيع جرمها، وللتعريض بمشركي مكة الذين دأَبوا على ارتكابها وأَمعنوا في اقترافها. والمعنى: أَن هؤلاء المؤمنين الذين شرفهم القرآن فأَضافهم إِلى الرحمن بالعبودية مخلصون في عبادته، فلا يشركون معه إِلها آخر على عادة المشركين الذين كانوا يشركون آلهتهم في العبادة مع الله، كما أَنهم لا يقدمون على قتل النفس الإِنسانية؛ التي حرم الله قتلها لأَي سبب من الأَسباب إِلاَّ بحق يقتضيه كحد أَو قصاص يقيمه السلطان عليها، وكذلك من فضائل صفاتهم أَنهم لا يقربون الزنى فإِنه يهتك الأَعراض، ويخلط الأَنساب، ويشيع الفاحشة الفساد، وقد صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سأَلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَي الذنب أَكبر؟ قال: "أَن تجعل لله ندًا وهو خلقك". قلت: ثم أَي؟ قال: "أَن تقتل ولدك خشية أَن يطعم معك". قلت: ثم أَي؟ قال: "أن تزانى حليلة جارك"، فأَنزل الله تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ ... } الآية. وقوله تعالى: - "وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ" أَي: ومن يفعل ذلك المذكور من الإِشراك، وقتل النفس، والزنى - كما هو دأب الكفرة - يلق في الآخرة عذابا شديدا لا يقادر قدره على إثمه، فالكلام على تقدير مضاف محذوف، أَي: يلق جزاء أَثامه. 69 - {يُضَاعَفْ (¬1) لَهُ الْعَذَابُ ... } الآية. أَي: أَنه تعالى يعذبه على ارتكاب أَي ذنب من هذه الذنوب عذابا مضاعفا إِذا كان معه الكفر، أَمَّا إِذا فعله غير الكافر فلا يضاعف عذابه، لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، ومعنى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}: يقيم في هذا العذاب مهينا ذليلًا، يجمع إلى ¬

_ (¬1) يضاعف: بدل من (يلق).

عذاب البدن عذاب الروح، وتلوم إِقامته في هذا العذاب أَبدا إِن ضم إِلى فعل هذه المعاصي الكفر كما يشعر به قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ... } الآية. 70 - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ... } الآية. أَي: أَن من رجع عن كفره وأَقلع عن إِشراكه وآمن إِيمانا صادقا لا غش فيه ولا نفاق - من تاب وآمن - من هؤلاءِ وأُولئك وأَتبغ إِيمانه بالعمل الصالح، وداوم كل فعل المأْمورات، وترك المنهيات، والاستزادة من عمل الخيرات، واستباق المحامد والفضائل، فأُولئك يتجلى الله عليهم بفيض رحمته، فيبدل سيئاتهم حسنات، بأَن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة، ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم، أَو يبدّل سبحانه ملكة السيئات ودواعيها في النفس بملكة الحسنات. {فَأُولَئِكَ (¬1) يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: أي: فأُولئك الموصوفون بالتوبة والإِيمان والعمل الصالح يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله عظيم المغفرة كريم العفو، واسع الرحمة بعباده يتفضل بإِثابة الطائعين وقبول توبة التائبين. 71 - {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}: ترتبط هذه الآية بالآية التي قبلها ارتباط العموم والخصوص، فالآية الأُولى في خصوص التوبة عن الكفر والكبائر والمعاصي المذكورة فيها، وهذ الآية في عموم التوبة الشاملة لتوبة عصاة المؤمنين. والمعنى: كل من تاب إلى الله، وأَخلص في الرجوع إِليه وأَقلع عن فعل المعاصي كلها وندم على ما فرط في جنب الله، وعلى تقصيره في تحصيل طاعة الله، ثم شمر عن ساعد الجد في إِخلاص العبادة والإِخلاص في الطاعة، فإِنه بذلك يكون قد رجع إلى الله تعالى رجوعًا عظيم الشأْن مرضيًا عند الله (¬2)، ماحيًا للعقاب محصلًا للثواب. ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ} إشارة إلى الموصول المتقدم في قوله: "إلا من تاب ... " إلخ باعتبار معناه، كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة: تاب وآمن وعمل باعتبار لفظه؛ لأن الموصولات المشتركة لفظها دائما مفرد، ومعناها يكون مفردا ومثنى وجمعا ومذكرا ومؤنثا بحسب ما تقع عليه. (¬2) وبتقييد المتاب بالمتاب المرضى عنه عند الله يندفع ما يظهر من اتحاد الشرط والجواب في قوله {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابا}.

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} المفردات: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ}: أَي؛ لا يؤدون الشهادة الكاذبة الباطلة، و (الزُّورَ): الباطل. التفسير 72 - {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}: أَي: ومن صفات عباد الرحمن التي امتدحوا بها أَنهم لا يؤدون شهادة الزور، ولا يساعدون أَهل الباطل على باطلهم، ليحصلوا على ما ليس لهم، أَو يضيعوه على من يستحقه وقيل: لا يشهدون مجالس الزور، ولا يقفون عليها، وإِذا اتفق لهم أَن مروا على مجالس الأَقوال الماجنة التي لا تليق بكرام الناس مروا مرورًا عابرًا مكرمين أَنفسهم عن سماعها، والوقوف عندها والخوض فيها - عن ابن عساكر عن إِبراهيم بن ميسرة قال: "بلغنى أَن ابن مسعود - رضى الله عنه - مرَّ بلهو معرضًا، ولم يقف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أَصبح ابن مسعود وأَمسى كريمًا" ثم تلا إِبراهيم: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} المفردات: {يَخِرُّوا}: من الخرور، وهو السقوط على غير نظام.

التفسير 73 - {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}: أَي: والذين إِذا ذكرهم أَحد بآيات ربهم المنطوية على المواعظ، الموجهة إِلى الاهتداءِ، لما فيه سعادة الدنيا والآخرة أَكبوا عليها سامعين لها بآذان واعية مجتلين لها بعيون راعية ولم يسقطوا عليها صُمًّا لا يسمعون، وعميانًا لا يبصرون. والتعبير عن إِقبالهم على آيات الله والانتفاع بها بقوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} تعريض بما يفعله الكفار إِزاء سماعهم إِياها، من الإِعراض عن الاستفادة بها، كأَنهم صم وعميان. وقيل: الضمير في (عليها) للمعاصى، المنوه عنها باللغو، على معنى: أَنهم إِذا وعظوا بآيات ربهم المتضمنة للنهى عن المعاصي، والتخويف من ممارستها، لم يستجيبوا لتلك المعاصي، وكانوا كالصم الذين لا يسمعون لها داعيا، والعمى الذين لا يبصرون لها مرتكبا. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} المفردات: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: من القرّ - بالضم - وهو: البرد، كناية عن السرور؛ لأنهم يقولون: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن ساخنة، وقيل: من القرار، لأن السرور تقر به العين وتسكن، والحزن يضطرب له النظر ويزيغ، ولفظ: (الأَعين) استعمل في القرآن كله في العين الباصرة، ولفظ: (عيون) استعمل في العين الجارية. (إمَامًا): قدوة يقتدون بنا في إِقامة مراسم الدين، ولفظ: (إِمام) يستعمل في المفرد والجمع، وهو في هذا المقام يراد به الجمع، وروى عن مجاهد أَن: (إمَامًا): جمع آم، بمعنى قاصد، كصيام جمع صائم، وكذلك ذكر القاموس.

التفسير 74 - {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ... } الآية. هذه الآية انتقال من أَوصاف عباد الرحمن في أَنفسهم إِلى أَمانيهم فيمن يحبونهم، ويرتبطون بهم. والمعنى: أَن من صفات عباد الرحمن أَلاَّ ينسوا وهم في شغلهم من عبادة الله، والانهماك في طاعته، لا ينسون أَهلهم، وأَولادهم، يتوجهون إِلى الله بالدعاءِ لهم، وطلب هدايتهم - وهذا شأْن الصالحين من الآباء، بل إِن من الآباءِ من يقدم ولده على نفسه، ويؤثره بالخير له، وخير الآخرة عند الصالحين أَفضل ما يرجى للأَهل، والأَولاد، لأَنه الأَبقى، وإِن المؤمن إِذا ساعده أَهله وولده في طاعة الله؛ اشتد سرور قلبه، وقرت عينه، لما يشاهده منهم من مشاركتهم في مناهج الدين، وتوقع لحوقهم به في نعيم الآخرة، طمعا في عِدَةِ الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وقد ذكروا أَنه كان في أَول الإِسلام يهتدى الأَب والابن كافر، ويهتدى الزوج والزوجة كافرة، فلا يطيب عيش ذلك المهتدى، فكانوا يدعون هذا الدعاء. ولهذا كان من الصفات التي امتدح الله بها عباده أَنهم يتجهون إِليه بالدعاءِ لصلاح أَزواجهم وذرياتهم، يقولون: ربنا ارزقنا وهب لنا من أَزواجنا وذرياتنا ما يسرنا وتقر به أَعيننا من توفيقهم للطاعات، واحتيازهم للفضائل التي هي غاية ما نرجوه لصلاح ديننا ودنيانا، أَما زهرة الدنيا وزينتها فلا تغلبنا على أُخرانا. ثم يعودون إلى أَنفسهم بالدعاءِ لها بقولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}: أَي اجعلنا بحيث يقتدى بنا المتقون، في إِقامة مراسم الدين بتعلم العلم، والتوفيق في العمل. وعن مجاهد: اجعلنا قاصدين للمتقين، مقتدين بهم، وهذا المعنى: مبنى على أَن (إِمَامًا): جمع آمٍّ، بمعنى: قاصد، والمعنى الأَول أَوفق، وفيه - على المعنى الأَول - أَن الرياسة في الدين؛ ينبغي أَن تطلب لمن يأَنس في نفسه حسن القيام بها، وتحقيق مقتضاها بعدل وأَمانة.

{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} المفردات: {أُولَئِكَ}: إِشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات السابقة، وهو مبتدأ خبره الجملة التي بعده وما عطف عليها، وجملة أُولئك يجزون ... إلخ خبر عن (عباد الرحمن). {الْغُرْفَةَ}: الدرجة العالية من المنازل، وكل بناءٍ مرتفع، وقيل: أَعلى منازل الجنة، و"ال" فيها للجنس، والمراد بالغرفة الجمع، فألْ فيه للاستغراق ليوافق قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}. {تَحِيَّةً}: دعاء بإِطالة الحياة. {وَسَلَامًا}: دعاء بالسلامة من كل ما ينغص عليهم طيب إِقامتهم. التفسير 75 - {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ... } الآية. أَي: أُولئك الموصوفون بما سبق من الصفات الجميلة يجزون الغرف العالية في الجنة ينعمون فيها بما لا عين رأَت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر - أُولئك يجزونها - بسبب صبرهم على مداومة الطاعات، واجتهادهم في أَعمال الصالحات، ومجاهدتهم في مقاومة الشهوات، وتتلقاهم الملائكة، أَو يتلق بعضيهم بعضا بالتحية المتضمنة دوام إِقامتهم، والسلام المتضمن معافاتهم؛ من كل ما يكدر صفو نعيمهم أَو ينغص نعيم إِقامتهم تكريمًا لهم وابتهاجا بحلولهم، وزيادة في أَنسهم، وإِدخال السرور عليهم.

76 - {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}: هذه الآية تأْكيد لما تقرر في الآية السابقة، وزيادة في طَمأَنتِهِمْ، ومعنى: "خَالِدِينَ فِيهَا" مقيمين في الجنة أَو في الغرفة إِقامة دائمة لا تنقطع فلا يموتون ولا يخرجون، وقوله تعالى في شأْن الجنة مقر المؤمنين: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} في مقابلة قوله تعالى في شأْن جهنم مقر المشركين: {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، ومعنى {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا}: طابت دار سكن واستقرار، ومقام راحة ونعيم؛ لمن اكتملت لهم الصفات الكريمة، التي اشتملت عليها الآيات السابقة، وهي كما يلي: 1 - معاملتهم الخلق بالتواضع ولين الجانب في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}. 2 - التسامح، والصفح؛ في معاملة السفهاء، والجاهلين، في قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}. 3 - التهجد ليلًا والاجتهاد في العبادة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}. 4 - الخوف من الله، والإنفاق من عذاب جهنم في قوله تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} الآية. 5 - الاعتدال، والقصد في الإنفاق، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ... } الآية. 6 - الإِيمان الجازم بوحدانية الله، واحترام حرمة النفس البشرية والعفة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ... } الآية. 7 - اتباع الحق، وتجنب شهادة الزور، ومجامع اللهو في قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ... } الآية.

8 - الاتعاظ بآيات الله تعالى وحسن تلقيها، والانتفاع بها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} الآية. 9 - التماس صلاح الأَهل والذرية بالدعاءِ لهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا ... } الآية. {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} المفردات: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي}: ما استفهامية، والعبنى: أَيُّ عبءٍ يعبأُ بكم ربي، وأَى اعتداد يعتد بكم؟ تقول: ما عبأْت به، أَي: ما اكترثت. {لِزَامًا}: لازمًا ثابتًا لا ينفك. التفسير 77 - {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ... } الآية. في هذه الآية أَمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأَن يبين للناس أَن الفائزين بتلك النعماءِ الجليلة التي يتنافس فيها إِنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أَصلًا. والمعنى: قل يا رسول الله لعامة الخلق - مشركين ومؤمنين - مشافهًا لهم: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أَي عَبْءِ، ولا يكترث بكم أَي اكتراث، وأَنتم العبيد الضعفاء، والمخلوقون الفقراءُ، لولاَ دعاؤكم وعبادتكم ربكم، فإِنكم ما خلقتم إلاَّ لعبادته مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.

وقوله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} معناه: فقد كذب الكافرون منكم، وإِذا كان التكذيب حالهم مع قيام الحجة عليهم فسوف يكون العذاب لازمًا ثابتًا لهم. واختار غير واحد أَن الآية كلها خطاب لكفار قريش، والمعنى على هذا قل لهؤُلاء المشركين: ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤه إِياكم إلى التوحيد تقويمًا لوجودكم، وتنظيمًا لسلوككم، وارتفاعًا بأَعمالكم عن العبث، حتى لا تكونوا هملًا كالبهائم تسيرون لغير غاية، وتعملون لغير هدف، وتنتهون إلى النار، فقد كذبتم مع قيام الحجة عليكم فكان العذاب لزامًا لكم ما بقيتم على كفركم. وهكذا: تنتهى سورة الفرقان، وقد تضمنت آياتها تصنيف الخلق إلى صنفين: صنف كذب وأغرق في الكفر، والعناد، ومعارضة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: القرآن أَساطير الأَوليين، وعاب أَن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشرا يأْكل الطعام ويمشى في الأَسواق، واقترح نزول الملائكة أَو رؤية الله تعالى وعارض نزول القرآن مُنجَّما، وعَمِىَ بصره وطمست بصيرته عن تدبر آيات الله في كونه؛ فاستحق عذاب جهنم خالدا فيها ساءت مستقرًا ومقاما. وختمت بصنف آخر استجاب للدعوة، وصدق الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَخلص في العبادة والتوحيد، وجد في الطاعة فروضها ونوافلها، وجانب المحرمات، وخالف الشهوات، وتحلَّى بكريم الصفات، فاستحق الجزاء الكريم، في نعيم الجنة خالدا فيها حسنت مستقرًّا ومقاما.

سورة الشعراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سورة الشعراء هذه السورة مكية، وآياتها سبع وعشرون ومائتان، وسميت بهذا الاسم لأَن الله ذكر فيها طرفًا من أَحوال الشعراء في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ... } إلخ. وهذه السورة لها اتصال وثيق بالسورة التي قبلها: (سورة الفرقان) فكلتاهما بدأَهما الله بالإِشادة بالقرآن العظيم، وفيهما أَيضًا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يبدر من قومه من أَلوان الإِيذاء والإِعراض، فضلا عن أَن في هذه السورة بسطًا وتفصيلًا لبعض ما مر في سورة الفرقان من أخبار الرسل - عليهم السلام - مع من أرسلوا إِليهم. محتويات هذه السورة 1 - أَنها نوهت بفضل القرآن ووصفته بالكتاب المبين، وأَشارت إِلى إِعراض قريش عن الإِيمان به، وتأَلمه - صلى الله عليه وسلم - لذلك: (لَعَلك بَاخِعٌ نَّفسَكَ أَلاَّ يكُونُوا مُؤْمِنِينَ). 2 - أَنها عُنِيَت بأَخبار وقصص بعض رسل الله - عليهم السلام - مع أَقوامهم، وبسطت بعضها كقصة سيدنا موسى مع فرعون وقومه، وقصة سيدنا إِبراهيم مع أَبيه وقومه، وما جرى بينه وبينهم من مجادلات ومحاورات أيد الله فيها خليله بالبراهين الساطعة فبهت الذي كفر، ثم جاء فيها ذكر لقصص بعض الأَنبياه: كنوح، وهود، وصالح، وغيرهم وأَن الله أَيدهم وكتب لهم الغلبة والفوز على أَقوامهم الذين تمادوا في غيهم وكيدهم، وكيف كانت الدائرة عليهم، حيث أَيد الله رسله - عليهم السلام - ونصرهم على أَعدائِهم ومكَّنَ لهم. 3 - أَنها أَشادت في آخرها بالقرآن الكريم.

قال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" وأَفحمت المشركين وأَبطلت زعمهم من أن القرآن من وحي الشياطين، وكانت نهاية السورة متلاقية مع بدئها بيانًا لمنزلة القرآن العالية ومكانته السامية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}. المفردات: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: القرآن الواضح الدلالة. {بَاخِعٌ نَفْسَكَ}: مهلكها. {آيَةً}: معجزة. {ذِكْرٍ}: موعظة تذكرهم. {مُحْدَثٍ}: مجدِّد لم يسبق نزوله. {زَوْجٍ كَرِيمٍ}: صنف طيب لذيذ.

التفسير 1 - (طسم): يقول سلف هذه الأُمة الإِسلامية في هذه الكلمة وفي أَمثالها: إِنها من المتشابه الذي استأْثر الله بعلمه، وقيل: إِنها للإِيقاظ والتنبيه إلى سماع القرآن؛ فإنها لفظ لا تأْلف الآذان ابتداءَ الكلام به فيلفتها إِلى الإِصغاء، وقال قوم: إِن المقصود: هو التحدي للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فهو يشير إلى أَن القرآن مكون من هذه الحروف التي تتركب منها كلماتهم ومع ذلك لم يستطيعوا أَن يأْتوا بسورة من مثله، وقد سبق الكلام مستوفًى على مثله في أول سورة البقرة، وآل عمران وغيرهما، فارجع إليه إن شئت. 2 - {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: {تِلْكَ}: إشارة إلى أَن آيات القرآن الكريم قد سمت منزلتها، وعلا قدرها، وعظم شأْنها، وجلت عن أَن يدانيها كلام البشر، فهي آيات الكتاب المنزل من عند الله الذي أبان فيه الحق وأَظهر الأَحكام وتحدث عن أَخبار الأُمم السابقة، وعن آيات الله الكونية بأُسلوب أَعجز الجن والإِنس: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1). 3 - {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}: كلمة (لَعَلَّ) تستعمل لغة في إِشفاق المتكلم، ولما استحال الذي حقه سبحانه، وجهوه إلى المخاطب، ولما كان غير واقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، قالوا: المراد الأَمْرُ به، لدلالة الإِنكار المستفاد من سوق الكلام عليه، فكأَنه قيل له: أَشفق على نفسك أَن تقتلها وتهلكها حسرة وكمدًا لاستمرار قومك على الكفر (¬2)، وتمسكهم بما ورثُوه عن آبائِهم من الضلال والزيغ والبعد عن الحق، فأَمر هدايتهم ليس لك وإنما مرده إلى الله ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 88 (¬2) وقال العسكري: هي في مثل ذلك موضوعة موضع النهي، والمعنى: لا تبخع نفسك، وقيل: وضعت موضع الاستفهام، والتقدير: هل أَنت باخع نفسك .. إلخ - انظر الآلوسى.

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1) {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (¬2). 4 - {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}: يبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة السر في أمره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يترفق بنفسه ويشفق عليها فلا يقتلها فيقول له: إن أردنا أن نأتي بآية ننزلها عليهم من لدنا تقهرهم وتلجئهم إلي الإيمان وتكرههم عليه فتذل له رقابهم وتخضع له نواصيهم وينقادون إليه دون إرادة منهم فلا يستطيعون فكاكا ولا هربا، وتَقْسِرُهُمْ على الطاعة فلا يلتفتون إلى معصية أبدا، لو أردنا ذلك لفعلنا، ولكن حكمتنا اقتضت أن نبين طريق الخير ونهدى إليه، ونوضح سبيل الشر ونحذر منه، ونختبر العباد بذلك لنعلم الذين صدقوا ونعلم الكاذبين ونحاسب كُلًا بما يتفق عمله إن خيرا فخير وإن شرًا فشر، فكل نفس بما كسبت رهينة، وحسبهم ما أنزله الله تعالى على رسوله من معجزة القرآن الكريم، فهي أقوى المعجزات في عصر العلم. 5 - {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}: هذا بيان لشدة عنادهم وتماديهم في باطلهم وإصرارهم على ما كانوا عليه من الكفر، والتكذيب، فقد لجوا في الطغيان وتجاوزوا الحد في الضلال، وعموا وصموا عمَّا يأتيهم من الآيات والمواعظ التي يجدد الرحمن إنزالها لهم من مكنون غيبه وقديم كلامه (¬3) حسبما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الواسعة، وذلك ليردهم إلى الحق ويهديهم سواء السبيل، ولكنهم لا يقابلون ذلك إلا بالتّولي والإعراض، وفي ذلك ما فيه من الحماقة ورداءة التفكير وسوء التقدير، فرحمة الله ينبغي أن تقابل بالشكر والطاعة لا بالعصيان والإعراض. ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 56 (¬2) سورة الغاشية، من الآية: 21، والآية: 22 (¬3) يقول الإمام البوصيرى - رضي الله عنه -: آيات حق من الرحمن محدثة ... قديمة قدم الموصوف بالقدم

6 - {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: أي: لم يقتصر أمر هؤلاء الذين لم يؤمنوا بك من قومك على الإعراض والانصراف عما يأتيهم من الذكر والموعظة، بل تجاوزوا ذلك إلى التكذيب الصريح فجعلوا القرآن الكريم تارة سحرًا، وأخرى أساطير الأولين، ومرة شعرا، وقد هددهم وأنذرهم عذابًا منكرًا ينزل بهم، وقارعة تحل بساحتهم ينتشر خبرها، ويذاع أمرها، فيجمع الله عليهم بين العذاب الأليم، وكشف أمرهم بين الناس حتى يتحدثوا بما نزل بهم من نكال وخزى جزاءً وفاقًا لاستهزائهم وسخريتهم، وقد رتب الله - سبحانه - نزول العذاب على استهزائهم في قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ ... } الآية، مما يؤذن ويدل على أن العذاب واقع لا محالة، فقد أصابتهم في بدر هزيمة منكرة قتل فيها وأسر صناديدهم، ويجوز أن يراد من الأنباء: أخبار انتشار الإِسلام وعلو شأن القرآن الذي كانوا به يستهزئون. ومن أغراض هذا الوعيد أن يترفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه فلا يشق عليها ويعرضها للهلاك أسفا وحزنًا على قوم قد أوغلوا في الكفر، وختم الله على قلوبهم فلا تنفذ إليها الهداية ولا يرجى منهم خير. 7 - {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}: ينكر الله - تعالى - عليهم ما هم فيه من إعراض وتكذيب واستهزاء بآيات الله الكونية بعد أن أعرضوا وسخروا من آيات الله التنزيلية، أي: أفعلوا ما فعلوا، وأصروا على الكفر والتكذيب ولم ينظروا إلى الأرض وما فيها من عجائب تدعوهم إلى الإقبال على الله إيمانا وتصديقا، وتمنعهم وتزجرهم عما اقترفوه من السخرية والإعراض عن آيات القرآن الكريم - أفلم ينظروا إليها - وهي تنبت ما يفيد الناس وينفعهم من نبات يختلف صورة ومنافع. فلو أن الأمر لطبيعة الأرض، لما أنبتت نباتا، فإنها لا عقل لها ولا تدبير ولا قدوة ولا إرادة وقوله: {كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} استئناف لبيان ما في الأرض من أمور تثير العجب وتدعو إلى الإيمان بالواحد الديان، أي: أنبتنا في الأرض من كل صنف جليل النفع عظيم الفائدة، يدرك ذلك كله من أنعم الله عليه بنعمة الفهم الدقيق والإدراك السليم، وأمده ببصيرة نافذة نيرة، ويغفل عنه الغافلون فلا يعقلون.

وفي الأرض أصناف وأنواع لم يعرف نفعها البشر، وتتجلى لهم منافعها على الأيام عندما يحتاجون إليها في أُمور معاشهم وصلاح حالهم، كما أن هناك أشياء يظنها الناس ضارة لا نفع فيها ولكن الحاجة قد تلح في طلبها، وتدفع إليها، ولا يغنى عنها سواها في إصلاح أمر أو علاج علة أو إبراء مريض "ومن السموم الناقعات دواء". 8 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي: إن فيما سبق من إنبات الأرض لكل الأصناف والأنواع التي تعين الإنسان وتقيم حياته، وتكون متاعا له ولأنعامه مع عجزه عن تدبير ذلك، إن في ذلك لدلالة واضحة وبرهانا ساطعا، على قدرة الله، وأنه - سبحانه - هو الجدير وحده بأن يؤمن به الناس كافة: "ففي كل شيء له آية: تدل على أنه الواحد" ولكن أكثر هؤلاء استمر على الكفر والتكذيب مع عظم الآية وسطوع البرهان، وانبلاج الحجة التي توجب أن يكونوا مؤمنين منقادين مذعنين. 9 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: أي: وإن الله الذي يرعاك ويكلؤك هو صاحب العز الغالب والسلطان القاهر، وصاحب الرحمة الشاملة والنعمة السابغة، ومن رحمته أنه قد أمهلهم فلم يأخذهم بسبب كفرهم وإعراضهم واستهزائهم بما جئت به مع قدرته الكاملة وعزه الذي لا يقهر ولا يغالب، وإنما أكرمهم الله برحمته، وفاء بوعده لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬1). والآيتان: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} كررهما سبحانه في هذه السورة ثماني مرات، أولاها هذه، والسبع الباقيات عقب قصص موسى، وإبراهيم، وقوم نوح، وعاد مع هود، وثمود مع صالح، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة مع شعيب. والحكمة في تكرارها: تنبيه كفار مكة وغيرهم إلى أن في كل قصة من هذه القصص عبرة وعظة توجب الإيمان، وتزجر عن التكذيب والعصيان. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال؛ من الآية: 33.

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)} التفسير 10 - {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: في هذه الآية وما يليها من الآيات يحكى الله قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وقومه، تسلية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليشفق على نفسه فلا يهلكها غمًّا وحزنًا لعدم إيمان قومه، فهو يأمره أن يذكر لقومه وقت نداء المولى - تبارك وتعالى - موسى - عليه السلام - ليبلغ فرعون وقومه رسالة ربه، وما ناله بعد ذلك من مكروه، وما حقق له ربه من انتصار لحقِّهِ على باطل أعدائه، وفي ذلك ما فيه من تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببيان أن تكذيب قريش له ليس بأول تكذيب لرسول، فلست يا محمَّد أنت وقومك بدعًا من الرسل والأمم قبلك. والمعنى: واذكر - يا محمَّد - لقومك أن الله أمر نبيه موسى أن يأتي القوم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، وظلما بني إسرائيل بالإذلال والاستعباد وقتل الأبناء، واستحياء النساء.

11 - {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ}: بين الله - سبحانه - القوم الظالمين الذين أمر نبيه موسى أن يأتيهم - بينهم - في هذه الآية أنهم فرعون وقومه؛ لأنهم تناهوا في الظلم وأوغلوا في الطغيان حتى صاروا علمًا عليه وعنوانًا له، وقد دعا الله إلى العجب من ظلمهم وعدم تقواهم فقال: {أَلَا يَتَّقُونَ} الله - عز وجل - فلا يصدر منهم معصية ولا استعلاء، وهذا يتحقق بهجرهم كل المعاصي والمظالم، وكأن سائلًا سأل: هذا ما نادى الله به موسى، فماذا قال موسى جوابًا لهذا النداء؟ فكان الجواب هو قوله تعالى حكاية عنه: 12، 13، 14 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)}: أي: قال موسى - عليه السلام - وهو في مقام الضراعة إلى بارئه رب العالمين: يا رب إني أخاف أن يكذبني هؤلاء حين آتيهم، ولا يؤمنوا برسالتى، ولا يصدقوا بنبوتي، إني يا رب يضيق صدرى ولا ينطلق لساني لما ينالنى من العى والحَصَر وحبس اللسان بسبب ما يلحقنى من الحزن. وهذا الذي صنعه موسى - عليه السلام - ليس تشبثًا بالعلل، ولا للاستعفاء من امتثال أمر ربه - عَزَّ وَجَلَّ - وتلقيه بالسمع والطاعة، بل هو موقف ضراعة وابتهال، وتمهيد عذر بين يدي رجاوته أن يعينه على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، ولهذا التمس من ربه أن يبعث جبريل أمين الوحى إلى هارون ويجعله نبيًا ووزيرا له من أهله يشركه في أمره ليشد أزره ويقوى عضده. ويجأر موسى إلى ربه فيبدى له أن هناك أمرًا آخر يخشاه ويخافه إذ يقول: إن هؤلاء القوم - فرعون وملأه - يرون أن لهم عليّ تبعة ذنب، وجريرة جرم، ذاك أنني قتلت واحدًا منهم، حين وكزته غير قاصد قتله لما استغاث بي أحد شيعتي، فهم يحملونني وزر ذنب لم أقصده، فأخاف إذا ذهبت إليهم وحدى ليس معى عضد ولا سند أن يفتكوا بي بسبب تحميلى دم القبطى، وأريد أن أؤدى الرسالة، فادفع عني يا رب أذاهم المرتقب وكيدهم المتوقع، باختيار أخي هارون نبيًّا لك ووزيرًا مساعدًا لي، وأعنا على تبليغ دعوتك.

وقد استجاب الد لموسى فحقق رغبته، وأناله طلبته بما حكاه القرآن بقوله: 15 - {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}: قال الله لموسى: كلا، لا تخف؛ لن يقتلوك ولن يصيبك مكروه، فالعناية معك والله يعصمك من الناس فلا يتردد في صدرك هذا الخاطر ولا يَجُلْ في نفسك هذا الظن، فاذهب أنت وأخوك بآياتي الباهرة ومعجزاتي الخارقة فإن فيها أمنا لك من خوفك وتثبيتا لقلبك وتأييدًا لدعوتك وأنا معكم جميعا بسمعى وعلمى أُحيطكما بالرعاية والتأييد والنصر، وأمدكما بالعون وأما فرعون فسأكون ضده بالتخذيل والتخويف فلا يصل إليكما ولا ينال منكما. 16 - {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: فاذهبا يا موسى أنت وأخوك هارون إلى فرعود ذلك الذي يدعى الألوهية ويقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬1) فقولا له قولًا لينا لك غلظة فيه ولا قسوة، لعله يتذكر ما قد أنساه سلطانه وجبروته عن أنه مربوب لله رب العالمين، ليقل كل منكما له: إنه رسول رب العالمين (¬2)، وفي ذلك رد لدعوى فرعون أنه إله، وإشعار له بأن للعالمين ربا واحدا هو الذي بعثهما إليه، وفي هذا الأسلوب حمل لطيف لفرعون على أن يمتثل أمر ربه رب العالمين. 17 - {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: أي: أطلق سراح بني إسرائيل وفك أسارهم ودعهم يذهبوا معنا حيث نذهب، وهو يقصد بذلك توجههم إلى فلسطين. ¬

_ (¬1) سورة النازعات، من الآية: 24 (¬2) ويجوز أنه أفرد مع أنهما رسولان؛ لأنه مصدر وصف به؛ ولهذا أفرد تارة وثنى أخرى؛ ومن استعماله مصدرا قول الشاعر: لقد كذب الواشون؛ ما فهمت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول أي: برسالة.

{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)} المفردات: {تَمُنُّهَا عَلَيَّ}: تعدها نعمة وفضلًا. {عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: اتخذتهم عبيدا. التفسير 18 - {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}: قال فرعون موجها كلامه إلى موسى بعد أن نفَّذ موسى وأخوه هارون أمر الله وأبلغا فرعون الرسالة، وطلبا إليه أن يرسل معهم بني إسرائيل - قال فرعون ردا عليه -: ألم نقم على رعايتك والعناية بك في منزلنا طفلا مولودا، ذلك بعد أن تم التقاطك على يد أهلنا وخدمنا، وبقيت يا موسى تقيم بيننا كواحد منا السنين من عمرك، وكان الأولى بك والأجدر - تقديرا لنعمتنا عليك - أن تكون معنا وأن تؤمن بنا، لا أن تكون داعيًا لنا وموجها، وكلام فرعون هذا يوحى بالتقريع والتوبيخ لموسى - عليه السلام -، ولذا عقبه بقوله: 19 - {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: وصنعت يا موسى تلك الفعلة التي أنكرناها عليك، حيث قتلت القبطي انتصارا لشيعتك، واستهانة بنا، وأنت بذلك كافر بنعمتنا عليك متنكر لما أسديناه لك جاحد

لما أسلفناه من تربية ورعاية، أو: وأنت من الذين كفروا بدينى، أو بألوهيتى بعد عودتك من الجهة التي فررت إليها، فعظم بذلك ذنبك عندنا. والواقع أن - عليه السلام - لم يكن على دينهم قبل فراره، ولكن سكوته عنهم من باب التقية، فكفره بدين فرعون قديم قبل الهجرة، والمستحدث إنما هو الإعلان عنه بعد العودة، والرأى الأول هو الظاهر، وهو ما قاله ابن زيد. 20 - {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}: قال موسى - عليه السلام - في مقام الرد على ما أثاره فرعون -: فعلت تلك الفعلة ووكزت القبطى تلك الوكزة التي قضت عليه، والحال أنى من الجاهلين بما تفضي إليه تلك الضربة إذ ما كنت أعتقد أنها تقضى على القبطي وتقتله، وكان هدفي هو الانتصار لمظلوم وتأديب باغ ومعتد، ولو كان الأمر كما تظن وأنى قاتل مفسد - كما تدعى - لاستجبت لمن استصرخ بي وكررت تلك الفعلة وانتصرت له، ولكنى بعدت ونأيت عنه وقلت له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}. 21 - {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: ومع أن فعلتى - التي عددتها عظيمة وأثيمة - لا تقتضي المؤاخذة ولا تستدعي التقريع والتوبيخ والرمى بالكفر والجحود، فإنكم تآمرتم على قتلي ودبرتم اغتيالى وإزهاق روحى، ففررت منكم بعد أن أخبرنى ناصح أمين بما انتويتم وما دبرتموه بليل، هربت منكم إلى ربي. خرج موسى وهرب فرارًا بنفسه وخوفا من حيف يلم به، أو ظلم ينتظره، أو قتل يُعَدُّ له، وأسلم نفسه لربه فملأ قلبه حكمة وعقله رشدًا، وجعله من خاصة خلقه فاصطفاه الله له كليما، ولعباده رسولًا، وكان - عليه السلام - من أولى العزم من الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه -. 22 - {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: تلك: إشارة إلى تربية موسى في منزل فرعون المستفادة من قوله لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا

وَلِيدًا} أي: أن تلك الرعاية التي ظفرتُ بها في كنفك هي نعمة ظاهرة لديك وواضحة عندك ولكنها في الحقيقة ليست نعمة، فالسبيل إليها تعبيدك بني إسرائيل، وقصدك إياهم بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي عندك ووجودى في تربيتك. وقيل: إنه مقدر بهمزة الإنكار، أي: أو تلك نعمة تمنها عليّ، وهي أن عبدت بني إسرائيل، وعلى كلا الوجهين فالمقصود: أن عناية الله - سبحانه - ألقت به إليه وأنه المتسبب في وصوله إلى منزله، وأنه - تبارك وتعالى - سخره للعناية به والقيام على شأنه ومنعه من قتله حتى قالت امرأته: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}. (¬1) فالمنة والفضل لله وحده. {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)} التفسير 23 - {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا (¬2) رَبُّ الْعَالَمِينَ}: بعد أن دعا موسى - عليه السلام - فرعون إلى الإيمان برب العالمين تحقيقًا لأمره تعالى بدعوته: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعد أن دعاه مرسى ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 9 (¬2) ما: استفهامية وغالبا ما تستعمل في غير أولى العلم، وهي هنا في الاستفهام عن رب العالمين، على تأويل: ما شأن رب العالمين، أو أنها بمعنى من، كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}: أي ومن بناها.

قال فرعون مستنكرا ما قاله موسى ومستهزئا به: ما هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيرى؟ وقد كان فرعون يدعى أنه ليس هناك إله غيره. {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬1) ولكن نبي الله موسى رد عليه بما حكاه الله بقوله: 24 - {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}: قال موسى لفرعون ردًّا على استفهامه: رب العالمين هو رب السموات وما فيهن من الكواكب الثوابت. والسيارات النيرات، ومن الأرض وما فيها من بحار وقفار وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بينهما من الهواء والطير وما سوى ذلك مما لا نشاهده ولا ندركه، كل ذلك مربوب لله خاضع لسطانه - سبحانه - {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (¬2). {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}: أي إن كانت لكم قلوب صالحة لليقين، وبصائر نيرة تهدى إلى الصراط المستقيم، أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره ووضوح دليله؛ لأن الله - سبحانه - له في كل شيء آية تدل علية وترشد إليه: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد فما يدعيه فرعون من الألوهية محض كذب وافتراء؛ فليس في قدرته أن يخلق شيئًا. 25 - {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ}: قال فرعون لمن حوله من وجوه القوم وأشرافهم وأعيانهم وعليتهم الذين حضروا وشهدوا هذا الحِجَاجَ: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} لي قول موسى الذي يدعو إلى العجب ويبعث على السخرية والاستهزاه، وذلك بادعائه أن هناك إلها غيرى وربا سواى؟. وإيراد فرعون كلامه على هذا النحو ليهوِّن من شأن موسى، وينال منه، وذلك منعا لقومه أن يميلوا إلى موسى وينعطفوا نحوه ويعاضدوه. ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 38 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 18

26 - {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}: قال موسى على سبيل التوضيح والتصريح لما اشتملت عليه إجابته السابقة، وليضع فرعون بكل جبروته وصلفه في موضعه الصحيح، وينزله من مرتبة الألوهية التي ادعاها لنفسه إلى مرتبته الحقيقية، مرتبة العبودية التي يتساوى فيها مع الناس جميعًا: الله ربكم يا فرعون ومن معك، ورب آبائكم الأقدمين، فلا سبيل لك إلى ادعاء الربوبية لأحد من خلق الله: فما أنتم إلا عباد له سبحانه كسائر عباده. 27 - {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}: اتسم هذا الأُسلوب بالسخرية والاستهزاء إمعانًا في صد القوم عن موسى - عليه السلام - فقد أضاف رسالة موسى إلى المخاطبين فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ}. وترفَّع أن يكون رسولًا إليه، كما ترفع وتكبر أن يذكر موسى - عليه السلام - باسمه فقال: (الذي) ثم كان منه أن رماه بالجنون، ليكون أبلغ في صد الناس وصرفهم عن اتباعه، فكأنه يقول لهم: كيف يليق بكم - وأنتم العقلاء - أن تصدقوا معتوها، وتتبعوا مجنونا؛ إن فرعون يريد من وراء هذا إثارة غضبهم على موسى واحتقارهم له. 28 - {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: لم يكترث موسى بما وجهه له فرعون من نقائص، بل جابهه بالحق إذ قال رب العالمين هو رب المشرق والمغرب وما بينهما، فهو رب السماء بما حوت من الثوابت والسيارات الذي دبرها تدبيرا محكما، وقدرها تقديرا متقنا في نظام مستمر دائم على وجه عجيب دقيق، وهذا لا يكون إلا من مدبر حكيم قدير عليم، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: أي إن كنتم تعقلون شيئًا، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلت وبينت لكم وأرشدتكم، فآمنتم بي رسولًا لله رب العالمين.

وفي الكلام تلميح إلى أنهم لا عقل لهم فكأن موسى قال لهم: أنتم أولى بما وصفتموني به من جنون، وما رميتموني به من عَتَه. {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} المفردات: {بِشَيْءٍ مُبِينٍ}: معجزة واضحة. {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}: أي ثعبان لا شك. {الْمَلَإ}: أشراف القوم وساداتهم. التفسير 29 - {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}: أحس فرعون صلابة موسى وقرأ في عينيه أنه لا يحيد عن دعوته ولا يتخلى عن رسالته، وأفحمه موسى وأعجزه، فلم يستطع جوابا، فلجأ إلى التهديد بالتعذيب، وهذه

آية العجز وأمارة الضعف عند مقابلة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فالمتسلط الجبار عندما يعوزه الدليل وتتأبى عليه الحجة يجنح إلى البطش والتنكيل حفاظًا على هيبته وإبقاءً على مكانته، فقال له: لئن جعلت لك إلهًا سواى، وتماديت في دعواك أنك رسول رب العالمين، لأجعلنك من المسجونين الذين تعرفهم، وتعرف ألوان العذاب التي أُنزِلها بهم. ولكن موسى - عليه السلام - لم ينقطع أمله في إيمان فرعون فتلطف به وقال ما حكاه الله بقوله: 30 - {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}: أي: أتجعلني من المسجونين الذين تعذبهم وتعاملنى معاملتهم ولو جئتك بشيء هائل عظيم موضح لصدق دعوتى، مؤيد لرسالتي؟ فتحداه فرعون بما حكاه الله بقوله: 31 - {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: قال فرعون: فَأْت بهذا الشيء إن كنت صادقا في دعواك أنك رسول رب العالمين، وما أظنك إلا كاذبًا فيما تدعيه. طابت نفس موسى واطمأن إلى نصر الله الذي أعلمه أن عصاه ستصير ثعبانا عظيما. 32 - {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}: فألقى موسى عصاه ورمى بها إلى الأرض، فإذا هي بقدرة الله ثعبان واضح الحيوانية الثعبانية، لا تمويه فيه ولا تخييل، فليس مما يفعله السحرة. 33 - {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}: أخرج موسى يده من جيبه فإذا هي بيضاءُ لها شعاع قوي يبهر الناظرين، فماذا قال فرعون وقد بهرته آية موسى؟ ماذا قال وقد فقد الأمل في الانتصار عليه بحجاجه ومناقشته؟.

34 - {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}: قال فرعون لزعماء قومه وكبرائهم حين وجودهم حوله مهونا من أمر موسى ومن الآيات البينات المصدقة له في دعواه الرسالة من رب العالمين - قال -: إن هذا المدعى لساحر بارع في علم السحر، فائق فيه، حاذق له، متقن لقواعده وأصوله، فما جاء به اليوم أمامكم ليس معجزة إلهية كما يدعى، وإنما هو أمر يأتي به الساحر العليم فليس هذا دليلًا على صحة ما يدعيه من رسالته، ومن وجود إله غيرى، ثم هيجهم وحرضهم على الخروج عليه ومخالفته والوقوف في وجهه والكفر به، فقال: 35 - {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}: أي: يريد موسى أن يستولي على قلوب الناس ويميلها معه بسحره هذا حتى يكثر أعوانه وأنصاره ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم، ويستعبدكم فتذهب عزتكم ويزول سلطانكم وتكونوا أتباعًا وخدما بعد أن كنتم سادة أعزة. {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (¬1): بَهَرَ سلطان المعجزة فرعون وحيره حتى نزل به عن ذروة ادعاء الربوبية بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (¬2) فاستأمر الملأ من قومه وأظهر حاجته إلى رأيهم بعد أن كان مستقلا بالرأى مستبدا بالتدبير، وذلك لأنه استشعر الخوف من استيلاء موسى على ملكه، قال لهم: أشيروا علي في أمره: ماذا أصنع به حتى أُجنبكم شر إخراجكم من دياركم، وتفريق جمعكم، والقضاء على عزكم وجاهكم؟ فإن من أصعب الأشياء على النفوس أن يذل المرءُ بعد العز، فكان أن أشار عليه أصحاب الرأى في قومه بما يحكيه قوله تعالى: 36، 37 - {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}: أي: أجّل أمر موسى وأخيه، وأخِّر البت في شأنهما فليس الأمر هينا سهلا، إنه في حاجة إلى أن تجمع من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك، كل ضالع في السحر عليم بضروبه ¬

_ (¬1) (تأمرون) إما من الأمر، فيكون قد طلب ممن زعمهم عبيده أن يأمروه، وإما من المؤامرة والمشاورة وسيأتي مزيد إيضاح لذلك. (¬2) سورة النازعات، من الآية: 24

وأنواعه، بصير بفنونه، كي يقابلوا موسى ويأتوا بنظير ما جاء به، أو بأشد منه تأثيرًا فتغلب أنت، وتكون لك النصرة والتأييد. وكان هذا من تسخير الله - تعالى - لهم أن نطقوا بما نطقوا، وأتوا بمشورتهم هذه ليجتمع السحرة مع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله ومعجزاته قاهرة لجميع السحرة أمام الناس في وضح النهار. 38 - {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}: جمع رجال فرعون وأعوانه السحرة من جميع مدائن مملكته لوقت معين هو الضحى، من يوم معلوم هو يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدده موسى - عليه السلام - {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (¬1) ولعله كان يوم عيد لهم يتزينون فيه، ويجتمعون له، وقد اقترحه موسى - عليه السلام - لإظهار كمال قوته، وكونه على ثقة من أمره، وعدم مبالاته بهم، ليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهود. تكامل عقد السحرة، واجتمع شملهم، فيما حدد من زمان ومكان. 39 - {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}: قيل للناس استبطاءٌ لهم، وحثا ودفعا على المبادرة والإسراع إلى الاجتماع الذي جمع له السخرة البارعون الممتازون - قيل لهم -: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} هذا الاستفهام مجاز عن الحث والدفع، فكأنه قيل لهم: أسرعوا بمشاهدة هذا اللقاء بين سحرتنا وموسى (¬2) وهذا الحث يشعر بأن فرعون مطمئن إلى نجاح سحرته الذين جلبهم وجمعهم من مدائنه. 40 - {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}: لعلنا بعد أن نشهد هذا التحدِّي الكبير نتبع السحرة إن غلبوا موسى، وكان قد قوى أملهم واشتد رجاؤهم أن لا يتحولوا عن دينهم خوفًا مما زعمه فرعون من قضاء موسى على سلطانهم بإخراجهم من ديارهم، فليس مرادهم بذلك أن يتبعوا دينهم حقيقة؛ فهم متبعوه، وإنما مرادهم أن لا يتبعوا موسى - عليه السلام - لكنهم ساقوا كلامهم مساق الكناية، حملا لهم على الاهتمام والجد في مغالبة موسى والانتصار عليه. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 59 (¬2) ويشبهه ما جاء في قول الشاعر تأبط شرًا: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخاعون بن مخراق فإنه يريد: أبعث لنا أحدهما سريعًا ولا تبطيء، ودينار: اسم رجل.

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)} التفسير 41، 42 - {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا (¬1) لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}: لما عرض موسى معجزتي العصا واليد أمام فرعون ارتاع فرعون ونسى ربوبيته، وقال لأتباعه على الفور مستغيثًا بهم، وهابطا عن كبريائه: {مَاذَا تَأْمُرُونَ} يعنى أيّ أمر تأمرونني فأُنفذه، حتى لا يضيع ملكي. (¬2) فأشاروا عليه أن يجمع السحرة من أطراف ملكه - هذا ما حكته الآيات السابقة - وجاءت هاتان الآيتان لتحدثنا عن حضور السحرة وما تلاه. ¬

_ (¬1) (إذا) هنا حرف اقترن به الجواب والجزاء وليس ظرفا، قيل: هو ظرف الزمان الماضي، وتنوينه عوض عن جملة، أي: إذا غلبتم. راجع الآلوسي. (¬2) ويصح أن يكون الأمر هنا من المؤامرة بمعنى المشاورة، فكأنه قال: ماذا تشيرون به علي، والوجه السابق أنسب بمقام الانبهار الذي جعله ينحط إلى أن يطلب الأمر ممن كان يأمره فيطيع.

ولعل رسله إلى السحرة وعدوهم بحصولهم على أجر جزيل من فرعون إن هم غلبوا موسى - عليه السلام - فأرادوا أن يستوثقوا من ذلك بما حكاه الله عنهم بقوله: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}. والمعنى الإجمالي لهاتين الآيتين: فلما جاء السحرة من أطراف المملكة، تلبية لدعوة فرعون لينصروه على موسى وأخيه بسحرهم - لما جاءوا لذلك - قالوا لفرعون سائلين مستيقنين: أحق مؤكد أنك جعلت لنا مكافأة وأجرا، إن كنا نحن الغالبين لموسى لظهور سحرتنا وغلبتهم لعصاه في يوم الزينة على رؤوس الاشهاد؟ فأجابهم قائلا: نعم لكم أجر جزيل على ذلك، وإنكم مع حصولكم كل الأجر لمن المقربين عندي، لأنكم نصرتموني على عدوى الذي أخشاه على ملكي. 43 - {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}: جاء في سورة الأعراف أن السحرة قالوا لموسى: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (¬1) ومن هذا النص نفهم أن موسى - عليه السلام - لم يقل لهم: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} إلا بعد أن خيره السحرة بين أن يبدأ بإلقاء عصاه، وبين أن يبدأوا بإلقاء سحرهم، وقد خلت سورة الشعراء من هذا التخيير، كما أن صورة الإذن بالإلقاء في سورة الأعراف {ألقوا} وفي سورة الشعراء. {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} وقد عرفنا من سورة الأعراف أن السحرة لما ألقوا ما معهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في يوم الزينة الذي احتشد له الناس ليشاهدوا المعركة بين الحق والباطل وآثارها، ولم يأت ذلك هنا، وبالجملة فقد اشتملت سورة الأعراف على مفارقات عديدة في قصة موسى مع فرعون، وكلما وجدت قصة موسى وفرعون في سورة، وجدت فيها مفارقات بالنسبة لسورة أخرى، ومثل ذلك يحدث في قصص غيره من المرسلين مع أممهم. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 115 والآية: 116.

وبالجملة فإن القصص القرآنى جاء في بعض السور مختصرا، وفي بعضها مبسوطا، وأن العبارات في الموقف الواحد قد تختلف في سورة عنها في سورة أخرى. ويرجع ذلك إلى أن لغة الرسل وأقوامهم لم تكن عربية، وأن ما جاء في القرآن عن قصصهم إنما هو ترجمة عربية لما جرى بين الأنبياء وأُممهم بلغتهم، وأن هذه الترجمة تعود إلى أصل المعنى الذي دار عليه الحوار، أما الحوار نفسه فقد يكون واسع الأطراف كثير الجدل، متعدد اللقاءات، متطاول السنين، فلا غرابة في أن تجد القرآن الكريم في سورة يقتصر في حكايته الحوار وما حوله على المبدأ الأساسي الذي دار عليه الحوار، وترتبط به العظة المقصودة من سَوْقِ القصة، وأن نراه في سورة أُخرى يحكى الحوار بصورة أُخرى فيها بعض البسط، ليجد القارئ في إعادة القصة جديدًا لم يره في سورة أُخرى، فيضيفه إلى معلوماته السابقة في القصة. وبالجملة فالقرآن الكريم يكمل بعضه بعضا، وهذا أُسلوب بديع تفرد به القرآن بين الكتب السماوية، لما فيه من إعادة التذكير والوعظ، مع التشويق إلى تتبع القصة في مظانها من القرآن، للاستزادة من المعرفة، حتى لا يمل من إعادة القصة إذا كانت بأسلوب واحد. وليعلم القاريء أن القصص القرآني ليس الغرض منه بيان تاريخ الأمم، بل العظة بما حدث لهم عندما أعرضوا عن رسله، ولذا احتاج الأمر إلى تكرار قصصه مع التلوين في حكايتها وسردها. ومعنى الآية: قال موسى للسحرة لما اجتمعوا في يوم الزينة: ألقوا ما أنتم ملقونه من أنواع سحركم فلست أبالى بكمه ولا بكيفه. 44 - {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}: أي: فألقى السحرة حبالهم وعصيهم، وسلطوا عليها سحرهم ورُقاهم، فانقلبت أفاعي مخيفة؛ وثعابين مزعجة وجاءوا بسحر عظيم سحروا به أعين الناس واسترهبوهم وما هو إلا حبال وعصى في الحقيقة، فلو لم تسحر عيون الناس لرأوها كذلك، وقال

السحرة حين رأوا ضخامة سحرهم وأثره في عيون ووجوه مشاهديهم - قالوا حينئذ -: نقسم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون لموسى، ولا سبيل لغلبته إيانا. قال ابن عطية - بعد أن ذكر أن ما قاله السحرة قَسَمٌ بفرعون - قال ابن عطية: والأحرى أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذ كانوا يعبدونه .. الخ. ومما يؤسف له أن هذه العدوى تسربت إلى المسلمين، فتركوا الحلف بالله إلى الحلف بآبائهم وأوليائهم وبغير ذلك مما لا يجرز الحلف به، فلا حلف إلا بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته. 45 - {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}: فألقى موسى عصاه الخشبية الوحيدة، عقب ثقتهم بسحرهم، وقسمهم بعزة فرعون إنهم لَهُمُ الغالبون، ففوجئوا بالأمر الخطير الذي لم يتوقعوه، وهو أنها انقلبت ثعبانا كبيرا سريع الحركة كأنها جان، وجعلت تبتلع حبالهم وعصيهم التي أفكوها، وزعموا أنها أفاعي وثعابين حقيقية، وما هي إلا حبال وعصى سحروا بها العيون، فتخيلتها كما يزعمون. 46، 47، 48 - {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}: أي: فَخَرَّ السحرة ساجدين لعظمة الله، كأنهم من فرط تأثرهم بالحق واستجابتهم له، لم يتمالكوا أنفسهم، فكأن حالهم كحال من أخذوا فطرحوا على وجوههم، أو أنه تعالى ألقاهم بما وفقهم إليه من التأثر ببرهان الحق، فقد عرفوا أن مثله لا يأتي بطريق السحر، وعلى هذا فالإلقاء مجاز عن التوفيق لسبب السجود وهو معرفة الحق. قال الآلوسي: وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقيقة ذلك، بعد أن أخذ موسى - عليه السلام - العصا فعادت كما كانت ولم يروا لحبالهم وعصيهم أثرا، وقالوا: لو كان سحرا لبقيت حبالنا وعصينا، ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية، وتفرفت أو عدمت لانقطاع تعلق الإرادة بوجودها. انتهي.

والمعنى الإجمالي: فخر السحرة على وجوههم ساجدين لرب العالمين، إذ عرفوا أن العصا آية لموسى من ديان يوم الدين، وليست من قبيل سحر الساحرين، قالوا حين سجودهم: آمنا برب العالمين رب موسى وهرون، وبذلك الإيمان سقطت ربوبية فرعون من نفوسهم، واهتزت بين المشاهدين لهم. {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} المفردات: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}: وذلك بقطعه اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو العكس {لاَ ضَيْرَ}: لا ضرر. {مُنْقَلِبُونَ} راجعون. {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}: لكوننا أول من آمن من أتباع فرعون. التفسير 49 - {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ (¬1) تَعْلَمُونَ ... } الآية. أي: قال الجبار فرعون للسحرة بعد هزيمتهم، وقد رآهم يستجيبون لموسى ويخرون لله سجدًا - قال لهم حينئذ -: صدقتم بدين موسى لأجله، دون أن يصدر لكم بذلك إذن ¬

_ (¬1) اللام في قوله: "فلسوف تعلمون" لام الابتداء دخلت على الخبر، وأصل الكلام من جهة المعنى: فلأنتم سوف تعلمون، وليست لام القسم: لأنها لا تدخل على المضارع المثبت إلا مع نون التوكيد، وقيل: إنها القسم، ولم يؤكد الفعل بالنون للفصل بينها وبينه بلفظ (سوف) وقيل غير ذلك: انظر الآلوسي.

مني، إن موسى لكبيركم الذي علمكم السحر، فتواطأتم معه على أن تُغلبوا أمامه، فهو مكر مكرتموه معا في المدينة لتخرجوا منها أهلها، فلسوف تعلمون ما يحل بكم من النكال والوبال. {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}: في هذه الجملة بيان للعقاب الذي توعدهم به فرعون إجمالا في قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: لأُقطعن اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو العكس، ولا أقتصر على ذلك، لأصلبنكم على جذوع النخل وأربطكم بالحبال عليها، كما قال تعالى في سورة (طه) حكايته عنه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} (¬1). 50 - {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}: قال السحرة بعد سماع وعيد فرعون الخطير غير مبالين بهِ: لا ضرر علينا في قطع أيدينا وأرجلنا وتصليبنا، فالموت في سبيل الله أسمى أمانينا، لأننا إلى ربنا الذي آمنا به راجعون حين تقتلنا، فنرى لديه من الكرامة والعز، لصبرنا على تعذيبك إيانا، واستشهادنا في سبيله، فلا يزعجنا وعيدك وتهديدك فما أحلى الموت في سبيل الحق. ويرحم الله خبيب بن عدي حين قال لآسريه الذين أرادوا قتله وصلبه؛ لثأر لهم عند المسلمين: ولست أُبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّع وإنما أصر فرعون على صلب السحرة بعد تقطيع أطرافهم، زيادة في التنكيل بهم. وأن يكونوا عبرة لغيرهم. 51 - {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}: هذا تعليل آخر لانتفاء الضرر على السحرة بقتل فرعون وصلبه إياهم، أي: لا ضرر علينا حين تنفذ وعيدك فينا، فإننا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا التي حدثت منا أيام الكفر، لكوننا أول المؤمنين من أتباع فرعون. وهكذا تهون الأرواح ويُسْتَلَذُّ العذاب في سبيل مرضاة الله رب العالمين. ¬

_ (¬1) من الآية: 71

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)} المفردات: {لَشِرْذِمَةٌ} الشرذمة: الجماعة القليلة من الناس، والجمع: شراذم. {لَغَائِظُونَ}: لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا. {حَاذِرُونَ}: متأهبون متيقظون. التفسير 52 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}: لما ظهر أمر موسى وانتصر على السحرة وأسرعوا إلى الإيمان به نكل بهم فرعون وأعد العدة للقضاء على موسى ومن معه قبل أن يستفحل أمرهم ويتفاقم خطرهم، ولكن موسى ظل يكافح طغيانه، ويمده الله من آن لآخر بآياته، كالطوفان والجراد والقُمَّل وغيرها، فلا يزداد فرعون إلا كفرا وإمعانا في البغي والأذى، فلهذا أمر الله نبيه موسى أن يخرج بعباده بني إسرائيل من مصر إنقاذًا لهم من الاستعباد والأذى، وأرشده إلى الخروج بهم ليلًا حتى يسلموا من بطش جنوده ومتابعتهم إياهم. والمعنى: وأمرنا موسى بوحي منا إليه أن يخرج بعبادى بني إسرائيل ليلًا لأنهم مُتَّبَعُون من فرعون وجنوده، فليسبقوهم إلى النجاة قبل أن يدركوهم، وليجعلوا الليل ساترا لهم حتى لا ينكشف أمرهم. 53 - {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}: أي: فأسرى موسى بالمؤمنين، أي: خرج بهم ليلًا امتثالًا لأمر ربه، ولما أصبحوا وليس في الديار أحد منهم، غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل فأرسل سريعًا في

مدائن مملكته وقراها من يحشر الجند ويجمعهم كالنقباء والحجاب ليتبعوهم، وبذلك يحول بين موسى وقومه وبين ما يقصدون من الهجرة والخروج من البلاد. 54 - {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}: لفظ (هؤلاء) إشارة تحقير لبني إسرائيل، أي: قال فرعون لمن حضر مجلسه: إن بني إسرائيل الذين فروا مع موسى لطائفة قليلة من الناس تشتمل على أسباطهم، وهم بالنسبة لأعداد قومنا وجنودنا قليلون، وليس هناك ما يمنعنا من اقتفاء أثرهم والانقضاض عليهم والحيلولة دون هجرتهم، وعقابهم على فرارهم. 55 - {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}: وإن موسى ومن معه - مع قلتهم وذلتهم - لصانعون بنا ما يغيظنا ويثير الحقد والغضب في نفوسنا، لأنهم خالفوا أمرنا وخرجوا دون إذننا، وحملوا معهم في مكر وحيلة ودهاء حُلينا وأموالنا وحُللنا. 56 - {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}: وإنا لجمع طبيعته أن يحذر ويحترس ويتيقظ لكل ما يتوقع من جانب العدو، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى تأديبه وإلزامه الطاعة لأمرنا، فلنا القوة، وفينا الكثرة. {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} المفردات: {وَكُنُوزٍ}: وأموال حفظوها. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}: ومساكن حسان يقيمون بها.

{كَذَلِكَ} (¬1): الإشارة إلى مصدر الفعل، أي: أخرجناهم إخراجًا مثل هذا الإخراج العجيب، أو إلى مقام كريم مثل ذلك المقام الكريم. {مُشْرِقِينَ}: داخلين في وقت شروق الشمس. {تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}: تقاربا بحيث يرى كل واحد منهما الآخر. {لَمُدْرَكُونَ}: لملحقون. {كَلَّا}: كلمة ردع لهم. التفسير 57 - {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: أي: فأخرجنا فرعون ومن معه من بساتين غناء ورياض فيحاء فيها عيون الماء الجارية. 58 - {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}: أي: وأخرجناهم أيضا من كنوز خزنوها وادخروها، ومن مساكن طيبة وأماكن شريفة كانوا يقيمون بها منعمين بجمالها وحسن رونقها وبهائها وجميل مرافقها - أخرجناهم من هذه النعم - لأنهم لم يشكروها بالإيمان واتباع الرسول بل كفروا وحاربوا الحق، وناصبوا الرسل ومن معهم من المؤمنين العداء، وحاولوا إهلاكهم والقضاء على دعوتهم فحرمهم الله من نعمه وسلبها منهم؛ لأن المعاصي تزيل النعم. 59 - {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}: {كَذَلِكَ}: أي أخرجناهم مثل هذا الإخراج العجيب الذي وصفناه {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} قال صاحب المنار عند تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬2). تعدد في القرآن التعبير عن استخلاف الله قوما في أرض قوم بالإيراث على سبيل المجاز. ¬

_ (¬1) (كذلك) قال الزمخشري: يحتمل ثلاثة: (أ) النصب على: أخرجناهم إخراجا مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه. (ب) الجر على أنه وصف لمقام - أي: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم. (جـ) الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 137

أي: وأعطينا القوم الذين كانوا يستضعفون في مصر - أعطيناهم - مشارق ومغارب الأرض التي باركنا فيها بالخصب والخير الكثير، وهي: فلسطين تحقيقا لوعدنا {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (¬1) روى عن الحسن البصري وقتادة أنهما قالا في تفسير مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها هي: أرض الشام، وعن زيد بن أسلم قال: هي قرى الشام، وعن عبد الله بن شوذب: فلسطين، ويؤيد هذه الروايات قوله تعالى في إبراهيم - عليه السلام -: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (¬2) وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (¬3) وربما يتراءى أن إرادة أرض مصر هي الظاهر المتبادر من قوله تعالى في سورة الشعراء: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4). وقوله في سورة الدخان: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (¬5) ولكن الأمر ليس كذلك، بل المراد أنهم أُورثوا بعض أملاك فرعون، فلقد كانت بلاد فلسطين والشام تابعة لمصر وفراعنة مصر، ولقد أعطى الله بني إسرائيل بدلا عن مصر التي أمرهم بتركها فلسطين التي في الشام. أ. هـ عن تفسير المنار ص 97، 98، 99، 100 الجزء التاسع، بتصرف. ويؤيده: أنه لم يثبت تاريخيا وأثريا أن بني إسرائيل ملكوا مصر واستولوا على أرضها، بل الثابت الذي يحدثنا به التاريخ أنهم بعد أن كانوا مستضعفين في مصر وخرجوا منها مع موسى لم يرجعوا إليها ولن يرجعوا - بإذن الله - ومكثوا يتيهون في الأرض أربعين سنة لمخالفتهم لله ورسوله وتقاعسهم عن قتال الجبارين كما يخبرنا بذلك القرآن الكريم ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيتان: 5، 6 (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 71 (¬3) سورة الإسراء، من الآية: 1 (¬4) سورة الشعراء، الآيات: 57 - 59. (¬5) سورة الدخان، الآيات: 25 - 28

60 - {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ}: تبع وأتبع بمعنى واحد. أي: فتبع فرعون وقومه بني إسرائيل قاصدين إهلاكهم حين أشرقت الشمس. 61 - {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ}: أي فلما تقابل الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: أي ملحقون فهالكون على أيدى هؤلاء الذين جَدُّوا في السير وراءنا يريدون إعادتنا للاستعباد أو إهلاكنا، وقد أكدوا مخاوفهم هذه بالجملة الإسمية المؤكدة بإنَّ واللام. 62 - {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}: أي: لن يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} بالنصرة على العدو والحفظ والعون. {سَيَهْدِينِ} قريبًا إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم؛ لأن الله دبر الأمر وسيحقق النصر فهو الذي أوحى إليَّ بالإسراء ووجهكم للخروج وسيقضى عليهم، وعبَّر بقوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} دون أن يقول: {إنَّ مَعنا رَبِّنا سَيَهْدِينِا} للإيذان بأن بني إسرائيل مكرمون بالهداية إلى النجاة من الغرق تبعًا لرسولهم موسى وكرامته على ربه، أما هم فليسوا جديرين بالحفظ من الغرق والنصر على العدو، فإنهم عقب نجاتهم طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كآلهة الشعوب حولهم، وعبدوا العجل الذي قدمه السامري لهم، وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} هم الذين أفسدوا في الأرض وعلوا علوًّا كبيرا، ولأجل هذا المقصد حكى الله عن نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي بكر وهما في الغار، والمشركون على بابه، والخطر محدق بهما والحزن يملأ قلب أبي بكر خوفًا على الرسول: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فإنه تعالى كان مع رسوله وصديقه لوفائه لربه ونبيه.

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} المفردات: {فَانْفَلَقَ}: فانشق. {فِرْقٍ}: في المختار الفرْقُ؛ الفَلْق من الشيء إذا انفلق، ومنه قوله تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} وفي القاموس (الفِرق): القسم من كل شيء. {الطَّوْدِ}: الجبل العظيم. {أَزْلَفْنَا}: قربنا. {ثَمَّ}: - بفتح الثاء - هناك، ويشار به إلى المكان البعيد. {الْآخَرِينَ}: المراد بهم فرعون؛ وجنوده. التفسير 63 - {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}: لما عظم البلاء علي بني إسرائيل ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها أمر الله - سبحانه وتعالى - موسى أن يضرب البحر بعصاه، وذلك أنه - عز وجل - أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله تثبيتًا لإيمان من آمن من قومه، وقضاءً على الشك عند من شك منهم، وإلا فضرب العصا ليس بفالق للبحر ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله - عز وجل - ولما انفلق عقب الضرب مباشرة صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينهما كالجبل العظيم، فلما خرج أصحاب موسى،

وتكامل آخر أصحاب فرعون داخله انصب عليهم الماء وغرق فرعون، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون، فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه، والمراد بالبحر: القلزم على الصحيح، والظاهر أن هذا الإيماء بضرب البحر بعصاه كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الأمر بالإسراء بقومه، وجاء إنجازا لتدبير الله وتحقيقًا لوعده بنصر المؤمنين وإغراق الطغاة. 64 - {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}: أي: وقربنا فرعون وجنوده من قوم موسى - عليه السلام - حتى دخلوا البحر على أثرهم ويجوز أن يراد: قربنا بعض قوم فرعون من بعض، وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد، وفي التعبير عنهم بالآخرين ترفع عن ذكر اسم فرعون الذي ظن نفسه شيئا، وليس بشىء أمام قدرة الله. 65 - {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}: أي: وأنجيناهم من الهلاك والوقوع في أيدي أعدائهم، ومن الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا إلى البر. وقوله: سبحانه {وَمَنْ مَعَهُ} إشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة هذه المعية ومصاحبة موسى - عليه السلام - لهم، وقيل: ليشمل من آمن به - عليه السلام - من القبط إذ لو قيل: وقومه لتبادر إلى الذهن بنو إسرائيل دون سواهم. 66 - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}: أي: ثم أغرقنا فرعون وجنوده المحقرين بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى - عليه السلام - ومن معه، وثم للتراخى الزمنى في أصل وضعها، ولكن الظاهر أنهم أُغرقوا فور خروج بني إسرائيل، فلهذا تحمل هنا على التراخي المعنوى لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية، فما أبعد الفرق بين الإنجاء والإغراق. 67 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}: أي: إن فيما ذكر من معجزة البحر وما كان قبله من معجزات العصا واليد وغيرهما

وسجود السحرة لرب العالمين - إن في ذلك كله - لآية عظيمة على قدرة الله ونصره لرسله، وخذلانه لأعدائهم، وتحذيرا من عاقبة الكفر بالله ورسوله. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي: وما كان أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى - عليه السلام - أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم إلا القليل، ومنهم آسية امرأة فرعون، فلهذا استحق جنودهم الإغراق مع فرعون. وقيل: ضمير {أَكْثَرُهُمْ} للموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا ومن بني إسرائيل، والمراد بالإيمان المنفى عنهم: التصديق اليقينى الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا، أي: وما كان أكثر الموجودين بعد تحقيق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدِّقًا، فإن الباقين بمصر من القبط لم يؤمن أحد منهم، وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولهذا عبدوا العجل وسألوا موسى بقرة يعبدونها وطلبوا رؤية الله جهرة ..... الخ. وقيل: المراد بالضمير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قوم نبينا - صلى الله عليه وسلم - أي: وما كان أكثر من دعاهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان - ما كان أكثرهم مؤمنين برسالته، بعد أن ساق لهم تلك القصص العجيبة التي لا سبيل له إلى العلم بها إلا عن طريق الوحى، وكان عليهم أن يعتبروا بها ويؤمنوا برسولهم الذي أخبرهم بها، وقد عرفوه بالصدق والأمانة، وأنه أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب، واختار هذا الرأى الآلوسى لأن أول السورة وآخرها في الحديث عنه وتسليته - صلى الله عليه وسلم - عما قالوه في القرآن العظيم، ونهيه صريحًا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات، كل ذلك يقتضي رجوع الضمير إلى قومه - عليه السلام - دون الرجوع إلى الأقرب لفظًا، ليكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى. 68 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: أي: وإن خالقك ومربيك وحده دون غيره هو الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من الكفرة: {الرَّحِيمُ} المبالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يعجل

بعقوبتهم مع عدم إيمانهم، أو العزيز في انتقامه ممن كفر، الرحيم لمن تاب وآمن، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم - لتشريفه - عليه السلام - وتقديم العزيز؛ لأنه أظهر في بيان القدرة، وهكذا شاءت إرادة الله ولا راد لمشيئته أن ينصر الحق وأهله وأن يذل الباطل وحزبه، وأن يخلص بني إسرائيل من براثن فرعون. {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} المفردات: {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}: النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة الذي يحصل به علم أو غلبة ظن كما قال الراغب. {عَاكِفِينَ}: مقبلين عليه مع المواظبة. {الْأَقْدَمُونَ}: السابقون الواغلون في القدم. التفسير 69 - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}: أمر الله تعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو على أُمته نبأ إبراهيم الذي يدينون له بالولاء والنبوة، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل، وعبادة الله وحده لا شريك له والتبرؤ

من الشرك وأهله، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من صغره إلى كبره فإنه منذ شب أنكر على قومه عبادة الأصنام، وقد حكى الله قصص الأنبياء في هذه السورة بطريقة الإخبار، أما قصة إبراهيم فقد تغير الأسلوب فيها من الإخبار إلى أمر الرسول بتلاوتها على قومه، لزعمهم أنهم على شريعة إبراهيم الذي ينتسبون إليه ويفتخرون به، مع أنهم بعيدون عن منهجه في العقيدة كل البعد، فهو إمام الموحدين، وهم أئمة الوثنيين. 70 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}: تضمنت هذه الآية أن إبراهيم - عليه السلام -، سأل قومه عما يعبدون، لا لجهله بمعبوداتهم، بل ليبنى على جوابهم أنها بمعزل عن استحقاق العبادة. والمعنى: واتل - يا محمد - على قومك من قريش خبر إبراهيم العظيم - خبره - حين قال لقومه سائلا عن معبوداتهم: أي شيء تعبدونه؟ 71 - {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}: قالوا بطريق المباهاة: نعبد أصناما فنقيم على عبادتها تعظيما لها وتمجيدًا، ولم يقتصروا في جوابهم على بيان أنهم يعبدون أصناما فحسب، بل أطنبوا في وصفها حيث بينوا تمسكهم بها، ودوام عكوفهم على عبادتها مع أنه لم يسألهم عن هذه التفصيلات، فعلوا ذلك قصدا إلى إظهار ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك. والمراد بالظلول: الدوام، كما في قولهم: لو ظل الظلم هلك الناس، وقيل: فعل الشيء نهارا، فقد كانوا يعبدونها بالنهار والكواكب بالليل، واختار بعضهم الأول لتبادره وكونه أكثر مناسبة للمقام، واختار الزمخشرى الثاني، لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضا؛ لأنه يدل على إعلانهم عبادتها، وجاء النظم الحكيم على هذا النسق فقال: {فَنَظَلُّ لَهَا} دون (فنظل عليها) لإفادة معنى زائد، كأنهم قالوا: فنظل لأجلها مقبلين على عبادتها. 72 - {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}: أي: قال إبراهيم معقبا على إيمانهم مبكتا لهم: هل تسمعكم هذه الآلهة المزعومة حين تدعونهم في قضاء حاجاتكم، أو حين تعبدونهم؟

وهذا الأسلوب أبلغ في التبكيت، والقصد منه: التنبيه على فساد عقلهم وسوء حالهم وأمرهم، وأن عبادتهم الأصنام وافتخارهم بذلك سفه وسوءُ رأى. 73 - {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}: أي: هل ينفعونكم بسبب عبادتكم لهم أو يضرونكم بترككم لعبادتهم؟ إذ لا بد للعبادة من مقصد من هذه المقاصد، حيث كانت على ما وصفتم - من المبالغة فيها والحفاوة بها والإقامة عليها، فهل لأصنامكم التي آثرتموها بالعبادة صفة النفع أو الضر؟. وتقرع كلمات إبراهيم آذانهم ملجمة لهم، وتظهر حجته على فساد مسلكهم، مفحمة إياهم حيث لا تجيب الأصنام دعاءً ولا تسمع نداءً ولا تأتى بخير ولا تدفع بلاءً، فيجيبون بما حكاه الله بقوله: 74 - {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}: أي: ليس لآلهتنا شيء من ذلك، وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم وقلدناهم فيما يفعلون. 75، 76 - {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ}: قال إبراهيم مبكتا لهم: أي: أتأملتم فعلمتم حق العلم أي شيء كنتم تقيمون على عبادته أنتم ومن سبقكم من آبائكم القدامى، فهل تقليد الآباء يصلح الاحتجاج به على صحة العبادة وألوهية المعبود؟. 77 - {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ (¬1) الْعَالَمِينَ}: في هذه الآية بيان لحال ما يعبدونه من دون الله، من الضرر العائد من جهتهم على عابديهم بعد بيان غفلة العابدين عن ذلك، فهو يريد بعداوتها له عداوتها لعابديها، فإنهم يتضررون بعبادتها، أي: فاعلموا أيها العابدون أنهم أعداءٌ لعابديهم الذين يحبونهم كحب الله تعالى، لتضررهم من جهتهم فوق ما يتضرر المرء من جهة عدوه، وصور إبراهيم - عليه ¬

_ (¬1) قال الزجاج في إعراب: "إلا رب العالمين" استثناء من الضمير العائد على (ما تعبدون) باعتباره شاملا لله عز وجل.

السلام - الأمر في نفسه تعريضا بهم، كما في قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1) ليكون أبلغ في النصح وأدعى للقبول، وأبعث على الاستماع لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلاَّ بما نصح به نفسه، ولوقال: فإنهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمل فيه، فربما قاده التأمل إلى التقبل. وكلمة (عدو) تستعمل في الواحد والجمع، ولذا أخبر بها عن ضمير الجمع. {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}: استثناءٌ منقطع من ضمير {فَإِنَّهُمْ} واختاره الزمخشرى، أي: لكن رب العالمين ليس عدوًّا لي فإنه - سبحانه - ولى من عبده في الدنيا والآخرة. والمعنى: فإن الذين تعبدونهم من دون الله عدو لي ولكم، فلا أعبدهم لكن أعبد خالق العالمين ومُرَبِّيهم. {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} المفردات: {أَطْمَعُ}: أرغب. {يَوْمَ الدِّينِ}: يوم الجزاء، مأخوذ من دانه: بمعنى جازاه. التفسير 78 - {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}: {الَّذِي خَلَقَنِي}: صفة لرب العالمين، ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى - زيادة في الإيضاح في مقام الإرشاد، وتصريحا بالنعم، ¬

_ (¬1) سورة يس، الآية: 22

وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى، وقصر الالتجاء في جلب المنافع، ودفع المضار العاجلة والآجلة على الله سبحانه. {فَهُوَ يَهْدِينِ}: عطف على الصلة، أي: فهو يهدينى وحده - جل شأنه - إلى كل ما يهمنى ويصلحنى من أمور الحياة الدنيا وشئون المعاد هداية متجددة مع الاستمرار من مبدأ الحياة كما ينبئ عنه الفاء وصيغة المضارع، فإنه تعالى يهدى كل ما خلقه لما خلق له هداية يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره، إما طبعا وإما اختيارا، مبدؤها بالنسبة للإنسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث، ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم. 79 - {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}: الموصول عطف على الموصول الأول، وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما في حيز الصلة من الجُمَل على صلة الموصول الأول، للإيذان بأن كل واحدة من هذه الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم، حقيق بأن يتصف بها - سبحانه - ويشكر عليها، ويعبد من أجلها. أي: فهو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن وأنزل الماء عذبا زلالا وأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد. وجىء بلفظ (هو) في صدر الصلة دون ذكره مع الخلق لشيوع إسناد الإطعام والسقى إلى غيره - عز وجل - فلهذا أعاد الحق في الإطعام والسقي إلى مصدره والمنعم به سبحانه، بخلاف الخلق فإنه لا يستعمل في غيره، فلهذا لم يحتج إلى ضمير، فالله سبحانه هو الذي ينبت لعباده طعامهم وغذاءَهم وينزل لهم من السماء ماء ليسقيهم، ولا دخل لهذه الآلهة في شيء من ذلك، فكيف أعبد سواه؟. 80 - {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}: عطف على {يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد؛ لأن الصحة والمرض ينجمان عن الأكل والشرب غالبا، ونسب المرض الذي هو نقمة إلى نفس العبد، والشفاء الذي هو نعمة إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - لمراعاة حسن الأدب، كما حكاه

القرآن الكريم عن الخضر - عليه السلام - بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (¬1) وقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} (¬2) ولا يرد إسناد الإماتة - وهي أشد من المرض إليه - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله تعالى: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} لإمكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاءٌ محتوم من الله - عَزَّ وَجَلَّ - على سائر البشر، وحكم عام فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة، فيسوغ الأدب نسبته إليه تعالى، وليس المرض كذلك فقد يتفق وقد لا يتفق. والمعنى: وإذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر عليه من الأسباب الموصلة إليه. 81 - {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}: المعنى: والذي يميتنى إذا جاء أجلى، والذي يحيينى مرة أخرى للحساب والجزاء، وقيل: إن الموت لأهل الكمال وسيلة إلى نيل ما أعده الله لهم من نعيم دائم تحتقر معه الحياة الدنيوية وفيه تخليص للعاصي من اكتساب السيئات، فلهذا يعتبر نعمة فلذا أسند إليه سبحانه. 82 - {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}: لم يكن لإبراهيم - عليه السلام - خطايا؛ لأنه أبو الأنبياء وخليل الرحمن، وإنما أضاف الخطيئة إلى نفسه بالنسبة إلى ربه أمام قومه، هضما لنفسه وتنبيها لأبيه وقومه أن يتأملوا في أمرهم ليعلموا أنهم من سوء الحال في درجة شديدة، وهم مع ذلك بعيدون عن الرجوع إلى الله بالتوبة من الشرك والمعاصي، وليعلم المسلم أن الأنبياء دائما يطلبون المثل الأعلى في عبادة الله وطاعته، وكلما ارتقوا إلى درجة أعلى استصغروا ما كانوا فيه وعدوه قليلًا واعتبروه من الخطايا مع أنهم لم تحدث منهم معصية على الإطلاق. ومغفرة الخطايا سابقة في علم الله، وإنما علق إبراهيم - عليه السلام - المغفرة بيوم الدين؛ لأن أثرها يظهر ويحدث يومئذ، ولأن في ذلك تهويلا وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر. ¬

_ (¬1) الكهف، من الآية: 79 (¬2) الكهف، من الآية: 82

{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} المفردات: {حُكْمًا}: حكمة وكمالا في العلم والعمل. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}: المراد بالصالحين، الأنبياء، والمراد من إلحاقه بهم: أن يجمع بينه وبينهم في الجنة. {لِسَانَ صِدْقٍ}: ذكرا حسنًا وثناء جميلا. {الْآخِرِينَ}: القرون التي تأتى بعدي. {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}: لا تهنى على رؤرس الأشهاد يوم القيامة، من الخزى بمعنى الهوان. {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: خالص من الشرك والشك. التفسير 83 - {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}: لما ذكر لهم من صفاته - عَزَّ وَجَلَّ - ما يدل على كمال لطفه تعالى به، حمله ذلك على مناجاته سبحانه ودعائه. ومعنى الحكم: الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالمًا بالخير لأجل العمل به، وقيل: يجوز أن يكون المراد بها كمال العلم المتعلق بذات الله وصفاته وسائر شئونه وأحكامه التي يتعبد بها، والمراد بإلحاقه بالصالحين: أن يوفقه لأعمال تجعله ينتظم

في سلك الكاملين الراسخين في الصلاح، المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، حتى يكون أهلا لخلافة الحق ورياسة الخلق. وقدم الدعاءَ الأول على الدعاءِ الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية، ولأن العلم صفة للروح، والعمل صفة البدن، ولقد دعا إبراهيم - عليه السلام - بدعائه هذا وهو نبي هضمًا لنفسه، وطلبا للمزيد من الكمالات، وكان من دعاء رسولنا - صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين". 84 - {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}: أي: اجعل لي ذكرًا صادقا في جميع الأمم إلى يوم القيامة. أي: خلّد ذكرى الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للأعمال الصالحة وهدايته إلى السنن المرضية التي يقتدى بها الآخرون ويذكرونه بالخير بسببها وهم صادقون - قال عكرمة: كل أُمّة تحبه وتتولاه، ولا بأس بأن يطلب تخليد ذكره ومدحه لأن الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى للعبد ورضاه عنه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (¬1) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬2) أي: حبًّا في قلوب عباده وثناءً حسنا. ويجوز أن يراد بالآخرين: أُمة يبعث فيها نبى، وأنه - عليه السلام - طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم بأن يبعث منهم نبي يجدد أصل دينه، ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد، معلنا أن ذلك ملة إبراهيم - عليه السلام - فكأنه طلب بعثة نبي في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة، وليس ذلك إلا بعثة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وقد طلب بعثته - عليه السلام - بما هو أصرح من ذلك وهو قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} (¬3) ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا دعوة إبراهيم عليه السلام". ويكون المعنى حينئذ: واجعل لي صاحب لسان صادق في الآخرين، أواجعل لي داعيًا إلى الحق - صادقًا في الآخرين، واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه، والأمور بمقاصدها. ¬

_ (¬1) سورة طه، من الآية: 29 (¬2) سورة مريم، الآية: 96 (¬3) سورة البقرة، من الآية: 129

85 - {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} (¬1): قال ابن كثير: بعد أن طلب أن ينعم الله عليه في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعده طلب أن ينعم عليه في الآخرة بأن يجعله من ورثة جنة النعيم، وذلك لأن المؤمنين يرثون منازل الكفار في الجنة، لأنهم قاموا بما وجب عليهم لله من عبادته وحسن طاعته وعدم الإشراك به دونهم، فأحرزوا نصيبهم في الجنة، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منكم أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} ويجوز أن يسمى الحصول على الجنة وراثة لحصولهم عليها دون غيرهم، ولأنهم يتصرفون فيها كما يتصرف الوارث في ميراثه. واستدل بدعائه - عليه السلام - بهذا مع ما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة، وكذلك كون العبد ذا منزلة عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - وإلا لاستغنى - عليه السلام - عن طلب الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى، وأنت تعلم أنه يحسن الإطالة في مقام الابتهال. والمعنى: واجعلنى من عبادك الذين منحتهم نعيم الجنة ثوابا على إيمانهم بك وعبادتهم لك. 86 - {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}: والمعنى: وفقه للإيمان؛ كما يلوح به تعليله بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}: أي المشركين أي: اجعل أبي أهلا للمغفرة، بتوفيقه للإسلام، قال ابن عباس في تفسيرها: امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك، وكان أبوه آزر قد وعده بالإيمان، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وكف عن الدعاء. ¬

_ (¬1) قال الراغب: الوراثة والإرث: انتقال قنية إليك من غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمى بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث ويقال: أورثني الميت كذا وأورثني الله كذا قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ} ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا، وقال صاحب القاموس: أورثه أبوه وورثه جعله من ورثته، والوارث: الباقي بعد فناء الخلق، وفي الدعاء: أمتعنى بسمعى وبصرى واجعله الوارث مني، أي: أبقه معي.

87 - {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}: أي: أجرني من الخزى والهوان يوم القيامة، حين يبعث الخلائق أولهم وآخرهم فلا تؤاخذنى على ما فرط مني من التقصير عن رتبة الكمال، ويجوز أن يكون ذلك تعليما لغيره. 88 - {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}: بدل من يوم يبعثون، جيء به تأكيدا للتهويل وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء، أي: لا تخزنى يوم لا ينفع مال يفتدى به المرءُ نفسه من عذاب الله ولو كان ملءَ الأرض ذهبا، ولا ينفعه بنون مهما كان عددهم، فكل امرئٍ بما كسب رهين. 89 - {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: أي: أنه لا ينفع أحدا يوم القيامة ماله ولا بنوه إلا من جاء ربه حينئذ بقلب بريء من مرض الكفر والنفاق وغيرهما من سائر أمراض القلب، وفيه تأكيد لكون استغفار إبراهيم لأبيه، كان المراد منه أن يغفر له بعد توبته من كفره، لامتناع طلب المغفرة له وهو كافر مصر على كفره، والقلب السليم كما قال سعيد بن المسيب: هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن لأن الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (¬1) وخص القلب بالذكر؛ لأنه إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت، وهذه أولى صفات يوم القيامة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فالناس فيه جردوا من مالهم وحولهم وطولهم، ونجاتهم هناك وعزهم بقلب خلى من الزيغ وفساد الاعتقاد، نقي من الشرك والران. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 10

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)} المفردات: {أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ}: قُرِّبت وأُدنيت. {بُرِّزَتِ}: أُظهرت. {الْجَحِيمُ}: جهنم. {لِلْغَاوِينَ}: للكافرين الذين ضلوا، والغواية - بفتح الغين -: الضلال. {فَكُبْكِبُوا فِيهَا}: فرمي بعضهم على بعض في الجحيم منكبين على وجوههم. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}: زيغ عن الحق واضح. {كَرَّةً}: عودة ورجعة إلى الدنيا. {صَدِيقٍ حَمِيمٍ}: حبيب قريب يهتم بهم، من الاحتمام، بمعنى: الاهتمام. التفسير 90 - {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}: أي: قُرِّبت الجنة من المتقين الذين اتقوا الكفر وسائر المعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم الذاهبون إليها، وأما المؤمنون العصاة

الذين غلبت معاصيهم على طاعاتهم، فإنها لا تقرب منهم إلا بعد عقابهم على معاصيهم، ما لم يعف الله عنهم. 91 - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}: أي: أُظهرت وكشف عنها للذين ضلوا عن طريق الحق والإيمان بحيث يرونها ويبصرون أهوالها ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، المحشورون فيها، ويوقنون بأنهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفا. والتعبير في جانب الجنة بالإزلاف الذي هو غاية التقريب للإيذان بقرب دخول المتقين إليها، أما في جانب النار فقد عبر بالإبراز للإيذان بأنها تبدو للغاوين ولو من بعيد، تعجيلا بمساءَتهم. 92، 93 - {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}: أي: يقال لهم على سبيل التوبيخ: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله وتزعمون أنهم شفعاؤكم في هذا الوقت؟. {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ}: بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب الشديد وعظيم الأهوال {أَوْ يَنْتَصِرُونَ}: بدفع ذلك عن أنفسهم. أي: ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغنى عنكم اليوم شيئا ولا تدفع عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون. 94 - {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}: أي: أُلقي بالأصنام في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى (فالكبكبة) تكرير لكب جعل التكرير في اللفظ دليلًا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم يكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها، وضمير الجمع في قوله: {كُبْكِبُوا} لما يعبدون من دون الله وهم الأصنام، وأكد بالضمير المنفصل أعنى (هم)، وكلا الضميرين للعقلاء، واستعملا في الأصنام تهكما، والغاوون هم الذين عبدوها، والتعبير عنهم بهذا العنوان دون (العابدون) تسجيل لوصف الغواية عليهم، وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون

في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالها وضعفها وهوانها وضعتها، فيقطع رجاؤهم في النجاة قبل دخول الجحيم، وقيل: ضمير {فَكُبْكِبُوا} للمشركين مطلقا، والغاوون هم القادة المتبعون. 95 - {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}: المراد من جنود إبليس: من يساعدونه على إغواء البشر من شياطين الجن والإنس أي: ألقى فيها الأصنام والغاوون الذين عبدوها، وجنود إبليس ألقى فيها هؤلاء أجمعون ليعذب كل منهم على جريرته، أما الأصنام، فإنها تشاركهم النار لا عقابا لها، بل لبيان أنهم لا قدرة لهم على نفعهم، كما لا قدرة لهم على إنقاذ أنفسهم. 96 - {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}: استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عما قبله، كأنه قيل: كبكب الآلهة والغاوون - عبدتها - والشياطين الداعون لها فما الذي حدث بعد ذلك؟ أي: قال الغاوون من العبدة يخاصمون آلهتهم، ويلومون أنفسهم على عبادتها، ويتحسرون كل تقديسها حيث يجعلها الله أهلا للخطاب يومئذ، وقال الزمخشرى: ويجوز أن يجرى ذلك التخاصم بين العصاة والشياطين. 97، 98 - {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: (إن) في قوله: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن: والمعنى: والله إن شأننا أننا كنا في دنيانا في ضلال عن الحق واضح، حين سويناكم أيها الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة، مع أنكم أدنى مخلوقاته وأذلها، يقولون ذلك تحسرا على ما فاتهم من أسباب النجاة، وبيانا لخطئهم في رأيهم مع وضوح الحق، وقد أكدوا ذلك بالقسم، واستعملوا فيه حرف التاء المفيدة للتعجب كما قاله بعض النحاة. 99 - {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}: بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم.

أي: وما أضلنا عن الحق إلا المجرمون من شياطين الجن والإنس الذين زينوا لنا عبادة الأصنام، فأنت تراهم في هذا الاعتراف ينفون عن الأصنام إضلالهم، ويحيلونه على المجرمين من الشياطين، وذلك بعد أن اتضح لهم الحال فإن الأصنام لا تباشر إضلال عابديها. 100، 101 - {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}: أي: فما لنا شفعاء يشفعون لنا كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين والمؤمنين، ولا صديق قريب مشفق يهتم لأمرنا كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلاَّ المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادى والتباغض والمراد: تأسُّفهم على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك، وقد تدرجوا في التأسف لمزيد انحطاط حالهم حيث نفوا أولًا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته، ونفوا ثانيًا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلِّصهم. قال صاحب الكشاف: جمع (الشافع) لكثرة الشفعاء، ووحد (الصديق) لقلته. أهـ ويجوز أن يراد بالصديق الجمع فإنه يطلق عليه لأنه على زنة المصدر أو لأنه نكرة في سياق النفي فتعم. 102 - {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: لو مستعملة في التمنى بدليل نصب قوله تعالى: {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في جوابها. والمعنى: فليت لنا رجعة إلى الدنيا فنكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لا ينفع فيه أحد - ليت لنا عودة إلى الدنيا مرة أخرى فنصحح خطأنا ونحطم أصنامنا ونعبد ربنا ونكون من المؤمنين به وحده، فإذا كان البعث قربت لنا الجنة وشفع لنا الملائكة والأنبياء وكان إلى جوارنا الأصدقاءُ والأخلاء. قال الزمخشرى: وما أحسن ما رتب إبراهيم - عليه السلام - كلامه مع المشركين حيث سألهم أولًا عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها

بأنها لا تضر ولا تبصر ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأبطله وأخرجه من أن يكون شبهةً، فضلا عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم، حتى تخلص منها إلى ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - فعظَّم شأنه وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين - ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنى الكرَّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا. 103 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: {إِنَّ فِي ذَلِكَ}: فيما ذكر من نبأ إبراهيم - عليه السلام - ومحاجته لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد (لآية) عظيمة ودلالة واضحة على خطأ عبادة الأصنام، وبخاصة أهل مكة الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم - عليه السلام - فعليهم أن يجتنبوا كل الاجتناب ما هم عليه من عبادتها خوف أن يحيق بهم هذا العذاب بحكم الاشتراك فيما يوجبه. ويجوز أن يكون المعنى: إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم - عليه السلام - على حقيقته من غير أن تسمعه يا محمد من أحد لآية عظيمة دالة على أن ما تتلوه عليهم - وهو صادق - نازل من عند الله تعالى موجب للإيمان. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي: وما كان أكثر هؤلاء الذين تتلو عليهم نبأ إبراهيم مؤمنين، بل هم مصرون على ما هم عليه من الكفر والضلال، وقيل: ضمير {أَكْثَرُهُمْ} لقوم إبراهيم، وليس بشيء. 104 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: أي: لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ولكن يمهلهم رحمة بهم ليؤمن منهم أو من ذرياتهم من شاء الله إيمانه.

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)}: قص الله - سبحانه وتعالى - فيما تقدم قصة موسى، وقصة إبراهيم - عليهما السلام - في هذه الآيات إخبار من الله - عز وجل - عن قصة عبده ورسوله نوح - عليه السلام - إلي أهل الأرض بعد أن عبدوا الأصنام، وتكذيبهم لرسالته وعقابهم بالطوفان على هذا التكذيب. والحكمة في ذكر هذه القصص: (1) تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت شفقته على قومه سببا في جهده وألمه بسبب كفرهم. (2) تخويف قومه بما وقع على الأمم السابقة من عذاب بسبب كفرهم وعصيانهم لأنبيائهم. التفسير 105 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}: قال صاحب المختار: القوم: الرجال دون النساء. وقال زهير: وما أدرى ولست إخال أدرى ... أقَوْمٌ آل حصن أم نساء وقال تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ} (¬1) ثم قال {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} وربما دخل فيه النساء على سبيل التَّبَع كما هنا؛ لأن قوم كل نبى رجال ونساء، والقوم يذكر ويؤنث لأن أسماء المجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل الرهط والنفر والقوم، قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} (¬2) وقال هنا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ا. هـ: من مختار الصحاح. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، من الآية: 11 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 65

وتكذيب قوم نوح المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأعصار، فمن كذب رسولًا فقد كذب الرسل، ويجوز أن يراد بالمرسلين: نوح - عليه السلام - بجعل اللام للجنس، كما يقال: فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبردة. 106 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}: {إِذْ قَالَ لَهُمْ}: ظرف للتكذيب، والمراد بأخوته لقومه أنه ابن أبيهم، فهو شريكهم في أُخوة النسب، وقيل: من قول العرب: يا أخا تميم يريدون واحدا منهم. {أَلَا تَتَّقُونَ}: أي ألا تخافون الله - عَزَّ وَجَلَّ - حيث تعبدون غيره. 107 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}: أي: إني رسول من الله إليكم، صادق فما أُبلغكم عن الله من شريعة، لا أزيد فيها ولا أنقص منها، وقيل: أمين فيما بينكم لأنهم عرفوا أمانته كما عرفت قريش أمانة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وكانت تلقبه بالصادق الأمين. 108 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}: أي: اجعلوا أنفسكم في وقاية من عذاب الله بطاعته، وأطيعوني فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله، وقدم الأمر بتقوى الله على الطاعة لأن التقوى سبب الطاعة. 109 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: وما أسألكم على ما أنا مُتصَدٍّ له من الدعاء والنصح أجرا من مال أو سواه، وما أجرى في دعوتي لكم إلى الحق {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو سبحانه الذي يؤجرني على ذلك تفضلا منه، لا غيره. 110 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}: أي: وإذا كنت لا أسألكم على دعوتكم أجرا، فذلك برهان على صدقي، فاتقوا الله وخافوه وامتثلوا أوامره، وأطيعوني فيما بلغتكم عنه.

{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)} المفردات: {الْأَرْذَلُونَ}: جمع الأرذل: وهو الدُّون الخسيس، وقد يطلق على الرديء من كل شيء. {لَوْ تَشْعُرُونَ}: لو تحسون. {نَذِيرٌ مُبِينٌ}: منذر مبين للحق. التفسير. 111 - {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}: قال قوم نوح يردون دعوته: لا نؤمن لأجلك ولا نصدق بك وقد اتبعك هؤلاء السفلة الأخساء من الناس، يقصدون أن الذين اتبعوه أدنى منهم جاهًا ونسبًا ومالًا، كأهل الحرف الدنيئة والصناعات الوضيعة ومن لا شأن له من الناس، فلا يكونون أهلا لاجتماعهم بهم في شأن سبقوهم إليه، ولا أسود يقتدون بهم. وهنا العذر الذي انتحلوه لكفرهم، برهان على جهلهم وقلة عقلهم، فإنه ليس بعار على الحق ضآلة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواءٌ اتبعه الأشراف أم الأراذل، على أن سبق الأسافل إليه برهان على أنهم هم الشرفاء العاقلون، والذين يأبونه هم الأراذل الجاهلون، فمن بَطَّأ به عمله لم يسرع به نسبُه. وواقع الحياة والتاريخ شاهد على أن الضعفاء يسبقون إلى الحق لفقدان ما يشغلهم عنه، وأن يتقاعس عنه الأغنياءُ وذوو الجاه لكبريائهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:

{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1) والحق أن الفقر ليس من الرذالة في شيء؛ قال الشاعر: قد يدرك المجدَ الفتى ورداؤه ... خَلَقٌ وجَيْبُ قميصه مرقوعُ وخسة الصناعة مع تقوى الله، لا تلحق بصاحبها نقصًا، قال أبو العتاهية: وليس على عبد تقيٍّ نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حال أو حجم (¬2) ومثلها ضَعَةُ النسب فقد قيل: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم ولمَّا سأل هرقل أبا سفيان بن حرب قائلا: أأشراف الناس اتبعوا محمدًا أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هؤلاء هم اتباع الرسل، ولما كان وصفهم لمن اتبعوا نوحًا بأنهم أرذلون، فيه تعريض بأنهم لم يتَّبعوه إخلاصًا له أو لدينه، بل ليرفعوا خسَّتهم، أو ليصيبوا بإيمانهم بعض المنافع، فلهذا رد عليهم نوح بما حكاه الله بقوله: 112 - {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي: ليس لي علم بما كانوا يعملون بإيمانهم، وهل عملوه إخلاصًا أو طمعًا في غرض دنيوى، وأي شيء يُلزمني بالبحث عن نية هؤلاء بإيمانهم، فليست وظيفتي إلاَّ اعتبار الظواهر، وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم، والشق عن قلوبهم، أما معرفة القلوب والحساب على ما انطوت عليه فهي لله تعالى، كما قال سبحانه: 113 - {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}: ما محاسبتهم على إيمانهم وأعمالهم، وجزاؤهم عليها إلا على ربي، فهو سبحانه المطلع على البواطن، العليم بما تخفى الصدور، المحاسب والمؤاخذ عليها، لو كنتم من أهل الشعور والإدراك لعلمتم ذلك، لكنكم لستم كذلك فقلتم ما قلتم. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: 23 (¬2) حاك: معناه نسج، ومصدره الحياكة، وحجم أي: امتص الدم من العضو بعد حجمه بالمحجم لدفع الألم عنه، والحجامة: حرفة الحجام.

114 - {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}: ولست بطارد المؤمنين عنِّي لضعفهم تطييبًا لنفوسكم، وطمعا في إيمانكم، وهو جواب عما أشعر به كلامهم من رغبتهم في طردهم، كشرط لإيمانهم به. وقيل: إنهم طلبوا منه طردهم فأجابهم بذلك، ويشير إلى هذا ما جاء في سورة هود على لسان نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُورَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (29 - 30). وقد فعل مثل ذلك رؤساء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} (¬1). فهذا وذاك يدلان على أن شريعة السماء تحرص على المؤمنين، ولو ضعف شأنهم بين قومهم. 115 - {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: في هذه الآية الكريمة تحديد لوظيفة الرسول، وهي كالتعليل لما قبلها، أي: وما أنا إلاَّ رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عن الكفر والمعاصي، سواءٌ أكانوا من الأعزاء أم من الأذلاء، فكيف يتسنى لي طرد الفقراء لإرضاء الأغنياء؟ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 52

{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)} المفردات: {مِنَ الْمَرْجُومِينَ}: من المقتولين رجما بالحجارة. {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا}: أي فاحكم بيني وبينهم حكمًا. {الْفُلْكِ}: بوزن القُفل، ويطلق على السفينة الواحدة، وعلى السفن المتعددة بلفظ واحد، ويعرف المقصود بالقرائن، قال تعالى في الجمع: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أما هنا فهو للواحد، ولذا وُصفَ بالمشحون، أي: المملوء، من شَحَن السفينة - كمنع -: ملأها، كأشحنها. {الْعَزِيزُ}: الغالب الذي يَقهر وَلا يُقهَر. التفسير 116 - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}: طال مقام نوح - عليه السلام - بين قومه، يدعوهم إلى الله - تعالى - ليلًا ونهارا وسرًّا وجهارًا، وكلما كرر الدعوة لم يزدادوا إلاَّ عنادًا وإصرارًا، ثم لجئوا إلى التهديد، وذلك ما حكاه الله في هذه الآية. ومعناها: قال قوم نوح: لئن لم ترجع يا نوح عن دعوتك إيانا إلى دينك لنرجمنك، يقصدون تهديده بالقتل رجمًا بالحجارة، ولما استحكم اليأس عند نوح من إيمانهم، بعد أن مكث فيهم ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا يدعوهم، دعا عليهم دعوة استجاب الله لها، وذلك ما حكاه الله بقوله:

118، 117 - {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: لم يقصد نوح - عليه السلام - إخبار ربه - تعالى - بتكذيب قومه له؛ لأنه يعلم أن ربه بهم عليم، ولكنه يقصد الاعتذار عن دعائه على قومه ببيان سببه. والمعنى: قال نوح بعد أن صبر على قومه دهورًا وهم يجادلون ولا يؤمنون - قال -: يا رب إن قوى استمروا على تكذيبي في دعوتي إياهم إلى الحق وأصروا على ذلك في دهورًا، فاحكم بيني وبينهم حكمًا يهلك به من جحد توحيدك وكذب رسولك، ونجني ومن آمن معى من العذاب الذي تنزله بهم، وهذه حكايته إجمالية لدعائه المفصل في سورة نوح. 119، 120 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}: أي: فَأَنجينا نوحًا ومن آمن معه في السفينة المملوءة بهم، وبما لا بد منه من الطعام والشراب والحيوان، وقد حمل فيها من كل زوجين اثنين، ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين على الكفر، أو الباقين خارج السفينة لكفرهم. 121 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: إن فيما ذكره القرآن من نبأ نوح وقومه لبرهانًا وحجة على قدرة الله وغضبه لمحارمه، وعلى صدق الرسول في نبوته، حيث حكى عن نوح ما لا سبيل له إلى علمه سوى الوحى، وما كان أكثر أمة نوح مؤمنين، فلذلك أهلكهم وأنجى المؤمنين، فلماذا لا يعتبر مشركو مكة بقصتهم، ويرجعوا عن غيهم، حذرًا من أن يبطش الرب الجبار بهم، كما بطش بهؤلاء المشركين قبلهم. 122 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: وإن ربك - أيها الرسول - لهو الغالب على ما يريده، القادر على استئصال أعداء دينه، فكل شيءٍ دونه مقهور مغلوب لقدرته، وهو الرحيم المنعم بدقائق النعم، الكثير الرحمة، فلذا أخر العقوبة عنهم أحقابًا ودهورًا، ولم يقطع الرزق عنهم مع قبح فعلهم.

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} المفردات: {رِيعٍ}: الريع - بالفتح والكسر -: مسيل الوادي، وكلُّ مرتفع من الأرض، والجبلُ. {تَعْبَثُونَ}: العبث؛ ما لا فائدة له {مَصَانِعَ}: مآخذ المياه ونحوها، وخشب يحبس الماءَ ويمسكه حينًا، أو المباني العظيمة من القصور والحصون، أو القُرى، قال الأصمعي: العرب تسمي القُرى مصانع، {تَخْلُدُونَ}: تبقون وتدومون، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد فهو خالد. {بَطَشْتُمْ}: البطش: الأخذ بشدة وعنف، وفعله: بطش يبطش كضرب ونصر، {جَبَّارِينَ}: عتاة قاهرين قساة القلوب. {أَنْعَامٍ}: جمع نَعَم -

- بفتح العين، وقد تسكن -: الإبل والبقر والغنم، ويكثر استعمالها في الإبل خاصة، {أَوَعَظْتَ}: الوعظ؛ التذكير بما يلين القلوب. {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} أي: سجيتهم وطبيعتهم. التفسير 123 - {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}: لما قصَّ الله - سبحانه - على سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - خبر نوح - عليه السلام - تسلية له عما يلقاه من قومه، قصَّ عليه أيضًا نبأ هود - عليه السلام - مع قوله، وزمانُهم بعد قوم نوح - عليه السلام - كما جاء في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (¬1). وقد كانوا أقوياء الأجساد شديدي البطش، في سعة من الأولاد والأموال والبساتين والأنهار والزروع والثمار والخيرات التي لا تحصى، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله - تعالى - وكان أمرهم مع هود - عليه السلام - ما قص الله في هذه الآية، ما بعدها. والمعنى: كذبت قبيلة عاد جميع المرسلين، فإن تكذيبهم لرسولهم هود - عليه السلام - يعتبر تكذيبًا لجميع الرسل، لاتحاد دعوتهم في أصولها وغاياتها، وتأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد (القبيلة) وهو في الأصل اسم لأبيهم الأقصى، فأطلق عليهم. 124 - 127 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: يرى القاريء في قصص نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوع لوط، وقوم شعيب - يرى القاريء - في هذه القصص الخمس أنها قد بدئت جميعًا بالأمر بالتقوى والطاعة، وقول الرسول لقومه: إنه لا يسألهم أجرًا على تبليغه الرسالة إليهم، وتصديرُها بذلك للتنبيه على أن الرسالات السماوية قائمة على الدعاء إلى تقوى الله ومعرفة الحق، وطاعة الرسل فيما أمروا به أو نهوا عنه جلبًا للثواب ودفعًا للعقاب، والتنبيه إلى أن الرسل لا يبتغون من وراء تبليغ رسالاتهم أجرا وجاهًا، وليعلم القاريء أن الرسل وإن اتفقوا على العقائد وأصول الشرائع، ¬

_ (¬1) من الآية 69.

فهذا لا يمنع من حدوث الاختلاف في بعض فروعها كمًّا أو كيْفًا تبعًا لاختلاف العصور وأهلها. 128 - {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}: أتشيدون بكل مكان عال من أرضكيم بناء شامخًا تتفاخرون به وتعبثون بإقامته دون أن تكونوا في حاجة إليه، أفلا فكرتم في أخراكم فآمنتم بربكم وعملتم لمرضاته؛ لأنكم إليه صائرون، وعلى عقائدكم محاسبون. 129 - {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: المصانع: جمع مصنعة - بفتح النون وضمها - وهي كالحوض يجتمع فيها ماءُ المطر، وهذا يؤذن بأنها فوق الأرض، ولعلهم كانوا يتخذون السدود لحبس مياه المطر، كما فعلت سبأ بإنشائها سد مأرب، وتطلق المصانع أيضًا على مآجل الماء تحت الأرض (¬1)، ولعله يشير إلى المعنى الأول للمصانع قول لبيد: بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بَعْدَنا والمصانع وفسرها بعض اللغويين بالقصور الشاهقة والحصون المنيعة، ومنه قول الشاعر: تركنا دورهم منهم قفارًا ... وهدمنا المصانع والبروجا والمعنى على الوجهين: وتتخذون سدودًا لحبس المياه أو حصونًا منيعة وقصورًا مشيدة مؤملين الخلود في الدنيا، كأنكم لا تعرفون الموت ولا تحسُّون بسكان القبور، والمقصود من ذمهم وتوبيخهم على الوجهين: اهتمامهم بدنياهم، دون العمل لأخراهم، فلو عملوا لهما جميعًا لما عيب عليهم ما صنعوه لدنياهم في غير صرف ولا مخيلة. 130 - {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}: وإذا عاقبتم سواكم: أسرفتم في البغي عليهم جبارين غاشمين، تقتلون وتخربون بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العواقب، وعن الحسن: تبادرون تعجيل العذاب لا تتثبَّتون متفكرين في العواقب، وقال ابن كثير: يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت. ¬

_ (¬1) وبه قال قتادة.

131 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}: فخافوا الله واتركوا هذه الأفعال، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه؛ فإنه أنفع لكم. 132 - 134 - {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}: أي: واحذروا غضب الله الذي بسط لكم يد إنعامه، بالذى تعلمونه من أنواع النعماء وأصناف الآلاء، أمدكم بالإبل والبقر والغنم، وأمدكم بالبنين لتكثروا بهم، وليعاونوكم في حفظ أنعامكم وتنميتها، وليحملوا عنكم بعض أعبائكم، وأمدكم ببساتين مثمرات، وعيون بالماء جاريات. قال الزمخشرى: بالغ في تنبيههم على نعم الله، حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وبذلك أيقظهم من سِنَة غفلتهم عنها، ونبههم إلى أنه تعالى كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم، فهو قادر على الثواب والعقاب، فعليهم أن يتقوه. انتهى بتصرف. 135 - {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: إني أخاف عليكم إن لم تقوموا بشكر هذه النعم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة، فإن كفران النعم موجب للعقاب بإزالتها أو تقليلها، كما أن شكرها سبب في زيادتها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬1). وهكذا دعاهم نبيهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبين لهم أنه كما قدر على أن يعطيهم هذه النعم متفضلا، فهو قادر على سلبها عادلا، وأنه بذلك تعرف قدرته على ثوابهم إن أحسنوا وعقابهم إن أساءوا، ولم ينفعهم وعظه وتذكيره كما حكاه بقوله: 136 - {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}: قالوا استخفافًا وعدم مبالاة بما يقول: سواءٌ لدينا أبالغت في وعظنا وتذكيرنا أم لم تكن من الواعظين، فإنا لن نرعوى عما نحن عليه. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7

ولم يقولوا: أوعظت أم لم تعظ - مع أنه أخْصَرُ - للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه؛ لأن المراد: سواءٌ علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن من أهله ومباشريه أصلًا. 137، 138 - {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}: أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا خلق الأولين وعادتهم، إذ كانوا يلفقون مثله ويسطرونه كما قال مشركو مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. أو ما هذا الذي نحن عليه إلا خلق الأولين - أي: دينهم وعادتهم - ونحن بهم مقتدون، كما قال مثله غيرهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1) فنحن تابعون لهم سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا، وما نحن بمعذبين فلا بعث ولا جزاء. 139 - {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي: فاستمروا على تكذيبهم وعنادهم، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية شديدة البرد، فكان سبب إهلاكهم من جنس جبروتهم، إن في ذلك الذي أنزله الله بعاد جزاء تكذيبهم لبرهانًا على قدرة الله، وما كان أكثر الذين تتلو عليهم، يا محمد - نبأ عاد مؤمنين برسالتك مع قيام الحجة عليهم. 140 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: وإن ربك - أيها الرسول - لهو القاهر للجبارين، الرحيم بالمؤمنين. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 23

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} المفردات: {ثَمُودُ}: اسم عربي عند الأكثرين، وعدم صرفه لأنه اسم قبيلة، وهو فعول من الثَّمْد وهو الماءُ القليل. {طَلْعُهَا هَضِيمٌ}: الطلع؛ أول ما يبدو من ثمرة النخل، كنَصْل السيف، في جوفه شماريخ القنو، والهَضِيم: اللطيف اللين، أو المنضم بعضه إلى بعض،

سأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضى الله عنهما - عن معنى (هضيم) فقال: هو المنضم بعضه إلى بعض، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس: دارٌ لبيضاء العوارض طَفْلَةٌ ... مهضومةُ الكَشَّحْين ريَّا المعْصَم وقيل: المراد من الطلع الهضيم: الطَّيَّب اللين النضيج من الرطب. (تَنْحِتُونَ): النحت؛ البَرْىُ،: أي يبرون الأَحجار، والنُّحاتَةُ: البُراية. (فَارِهيَن): ماهرين حاذقين وفعله: فَرُهَ ككرُم، فراهَة وفراهية، أما فَرِهَ برزن فرح، فمعناه: أشر وبطر. (الْمُسحَّرِينَ): السَّحْر - بسكون الحاء ويحرك -: الرئة، والسِّحر - بكسر السين -: كل ما لطف مأْخذه وقَّ، وفعله كمنع. (شِرْبٌ): الشرب - بالكسر -: الماء، والنصيب منه، والمورد، ووقت الشرب. (قَعَقَرَوهَا): فذبحوها، والعقر: الذبح والجرح، وعَقَر النخلة: قطع رأْسها. التفسير 141 - 145 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: هذا إخبار من الله عن ثمود قوم صالح - عليه السلام - بأَنهم كذبوا المرسلين بتكذيب نبيهم وأَخيهم صالح حين دعاهم إلى تقوى الله فإن المرسلين جميعًا جاءُوا برسالة موحدة، هي الدعوة إلى التوحيد والإيمان بيوم النشر، وتقوى الله، فمن كذب أحدهم فقد كذب سواه ضمنًا. ومساكن ثمود بالِحجْر، بين وادى القرى وبلاد الشام، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في طريقه إلى غزوة تبوك. والمعنى: كذبت قبيلة ثمود المرسلين بتكذيبهم نبيهم صالحا، مع أنه أخوهم، ومن بينهم فهم يعرفون صدقه - كذبوه - حين قال - لهم: ألا تتقون عقاب الله فتؤمنوا به إلهًا واحدًا لا رب سواه، إني لكم رسول من الله أمين على رسالته، وأمين في أَمره كله،

فاتقوا الله وأطيعوني في دعوتكم إلى الحق، وما أطلب منكم على ذلك أجرًا وثوابًا، فما أجري إلَّا على رب العالمين، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال: 146 - 149 - {أَتُتْرَكُونَ في مَا هَا هُنَا آمِنِينَ (146) في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ}: إِنكار ونفى لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه، أو تذكير بالنقمة إذا تخلى الله عنهم، فقضى على مما يتنعمون به من الجنات وما هم فيه من الأمن والدعة. والمعنى: أتظنون أن تتركوا في دياركم هذه آمنين في حدائق مثمرات، وعيون جاريات بالماء الفرات، وزروع يانعات، ونخل ثمرها لين نضيج، وتتخذون من الجبال بيوتًا حاذقين في نحتها منها، متفاخرين بها, أتتركون في ذلك آمنين من نقم الله، وأنتم مقيمون على الكفر والمعاصي؟! 150 - {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (108)}: أي: فأقبلوا على تقوى الله وطاعتي فيما آمركم به عن الله؛ فإن ذلك هو الذي يعود نفعه عليكم في دنياكم وأُخراكم، فيه تبقى النعم، وتبعد النقم، وتحسن العاقبة يوم يقوم الناس لرب العالمين. 151، 152 - {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ في الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}: ولا تطيعوا أمر زعمائكم الذين أسرفوا على أنفسهم بالترف وإتباع الشهوات والإغراق في الكفر والضلال، الذين يعيثون في الأرض فسادًا, ولا يصلحون في شئون البلاد والعباد. 153 - {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}: قال قوم صالح ردًّا على وعظه ونصائحه: ما أنت إلا من الذين سُحروا كثيرًا حتى غلب السحر على عقولهم - وبه قال مجاهد وقتادة. أو من المخلوقين الذين لهم سَحْر، أي: رئة، يَعْنُون أنَّه من بني آدم مثلهم ولا فضل له عليهم، وبه قال ابن عباس، واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر: فإِن تسأَلينا ممَّ نحن؟ فإِننا ... عصافير من هذا الأنام المُسَحَّر

154 - {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: ما أنت إلاَّ إنسان تماثلنا في البشرية، فكيف أوحى إليك دوننا، فَأْتِ بحجة على صدقك فيما تدعيه من الرسالة عن الله، إن كنت فيما تدعيه من جملة الصادقين فيما يقولون. 155 - {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}: قال صالح لقومه حينما أعطاه الله الناقة معجزة له: هذه ناقة الله أخرجها لكم آية، لها ماءُ يوم معلوم، ولكم ماءُ يوم معلوم، فإذا كان يوم مائِها فلا تشركوها فيه، وإذا كان يوم مائكم فلا تشرككم فيه. وقد كانت تشرب الماء كله في يومها أول النهار، وتسقيهم من لبنها آخر النهار، أَما في يومهم فكانت تترك الماء كله لأنفسم ومواشيهم. 156 - {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: ولا تلحقوا بها أذى، فيهلككم عذاب يوم عظيم، ووصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من وصف العذاب به. وبعد هذا التحذير مكثت الناقة حينًا ترد الماء وتأكل من أوراق الشجر والعشب في يومها، وتمنحهم من لبنها ما يكفيهم شربًا وريًّا، دون أن تَعْدُوَ عليهم، ومكثوا هم مقتصرين على شربهم في يومهم، فلما طال عليهم الأَمد، ضاقوا بمنعهم عن الماء في يومها، فتمالئوا على عقرها. 157 - {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}: فذبحوا الناقة مخالفين بذلك ما اتفقوا عليه مع صالح - عليه السلام - فأَصبحوا على ما فعلوا نادمين خوفًا من حلول العذاب بهم, لا توبة من ذنبهم، أو توبة منه عند معاينتهم لمبادئ العذاب، حيث لا ينفع المتاب. 158 - {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: فأهلكهم العذاب الذي كان نبيهم صالح قد توعدهم به إذا مسوها بسوءٍ، إن في قصتهم لدلالة على قدر الله على إهلاك الكافرين المعاندين لرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وما كان أكثر ثمود مؤمنين.

قتل البيضاوي: وفي ذلك إيماء إلى أنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أُخذوا بالعذاب: اهـ. 159 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: وإن ربك - أيها الرسول - لهو الغالب فلا يستطيع الفكاك من عقابه الجبارون، الرحيم فلا ييئس من رحمته التائبون. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)} المفردات: (عَادُونَ): جمع عادٍ, وهو المتعدي في ظلمه بتجاوز الحد فيه. (القالين): جمع قَالٍ, من قلاه, كَرَماهُ, أو من قَلِيَه, كَرَضِيَهُ, قِلًى وقَلاءً:

أَبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه، أو قلاه في الهجر، وقَلِيَهُ في البغض. (الْغَابِرِينَ): الباقين، من غبر بالمكان، غبورًا: أقام به، وقد يستعمل الغيور بمعنى المضي والذهاب، فهي في الشيءِ وضمه. (دَمَّرْنَا): الدمور والدمار والتدمير: الإهلاك. التفسير 160 - 164 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: لما قص الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - خبر موسى وإبراهيم ونوح وهود وصالح - عليهم السلام - تسلية له عما يلقاه من عنت قومه، قص عليه نبأ لوط مع قومه وتكذيبهم له وإيذاءِهم إِياه، ولقد كان قوم لوط من الشر بمكان خطير، كانوا يأْتون الرجال شهوة من دون النساء، ولا يستحون أَن يأْتوا في ناديهم هذا المنكر القبيح، وقد نصحهم لوط فأمرهم بتقوى الله وطاعته، وبين لهم قولًا وعملًا أنه لا يسألهم على تلك النصائح أجرًا، وإنما يبتغي الأَجر من رب العالمين، وقد سبق الكلام على مثل هذه الآيات في القصص السابقة. 165 - {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}: قال لوط لقومه على سبيل التوبيخ والإِنكار: أتاتون الفاحشة مع الذكران من بني آدم، فلا حياء عندكم يمنعكم عن قريب أو غريب، كأن النساء أعوزتكم؟! 166 - {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}: وتتركون ما خلق الله لاستمتاعكم من أزواجكم الحلائل، قال الزمخشري: (منْ أزْوَاجكُمْ): تبيين لما خلق الله، أو للتبعيض، ويراد بما خلق: العضو المباح منهن، فكأنهم كانوا يفعلون مثْل ذلك بنسائهم. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}: بل أنتم قوم معتدون مجاوزون الحد في جميع المعاصي، وهذا من أفحشها، أو متجاوزون حد الشهوة، فزدتم فيها على سائر الناس وعلى الحيوان.

167 - {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}: قالوا: لئن لم تنته يالوط عن توبيخنا وتقبيح أمرنا، أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الإيمان بها، وتترك ما أنكرته من أَمرنا، لتكونن من جملة من أخرجناهم من بين أظهرنا وطردناهم من بلدنا ونفيناهم، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال، من تعنيف واحتباس مال، وغير ذلك مما يفعله الظالمون إذا نفوا بعض من يغضبون عليهم، كما كان أهل مكة يفعلون بمن يريد الهجرة إلى المدينة. 168 - {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ}: قال لوط - عليه السلام - مخاطبًا قومه: إني لعملكم هذا من المبغضين غاية البغض, ولم يقل: إني لعملكم قال بالإفراد، للإيذان بأنه كان يوجد من كرام الناس من يبغض حالهم، ثم أعرض عنهم بعد أن بالغ في نهيهم ولجأ إلى الله تعالى قائلًا: 169 - {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}: دعا لوط ربه أن ينقذه وأهله مما يعمل هؤلاء الجاهلون -: أَي من عقوبة أعمالهم - وشؤمها. 170، 171 - {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}: فاستجاب الله دعائه ونجاه وأَهله الذين اتبعوا دعوته بإِخراجهم من بيوتهم ليلا قبل حلول العذاب بالمكذبين، إلاَّ عجوزًا هي امرأَة لوط كانت في الغابرين، أي: مقدرًا كونها في الباقين في العذاب، لأنها كانت كافرة بربها، منافقة لزوجها، والتعبير عنها بالعجوز, للإشارة إلى أنها بقيت في الكفر إلى أن صارت عجوزًا. 172 - {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ}: أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه. 173 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}: أي وأنزل الله على شرار قوم لوط مطرًا من الحجارة فأَهلكتهم، وفي ذلك يقول الله

في سورة هود: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} (¬1). {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} مَطَرُهُمْ، إذ نزل بأَشد أنواع الهلاك والدمار، ولا شك أنهم جديرون بذلك، فقد ابتدعوا عادة مستهجنة تهبط بالرجولة إلى الحضيض وتصيب ذويها بأمراض جسمية ونفسية وخلقية، من تخنث وميوعة، وتخالف ناموس الحياة الذي شرعه الله للتوالد والتكاثر. وعقاب اللياط في الشريعة الإسلامية القتل، والخلاف إنما هو في طريقته، ومن عجب أن بعض الأُمم التي تدعي الحضارة في البلاد الأورربية اعترفت بالشذوذ الجنسي (اللياط) رسميا, ولا يستحون من إتيانه سرا وعلانية. 174 - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أن في ذلك العقاب الذي نزل بقوم لوط لدليلا على تمام قدرة الله، وما كان أكثر هذه الأُمة مؤمنين، فلذلك لحق بهم ما لحق. 175 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: وإن ربك - أيها الرسول - لهو الغالب على كل شيءٍ المتصف بالرحمة، فيعاقب المجرمين المصرين، ويثيب التائبين المصلحين. {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)} ¬

_ (¬1) الآيتان: 82، 83

التفسير 176 - {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}: الأيكة: الغيضة التي تنبت ناعم الشجر، وهي غيضة بقرب مَدْيَن، يسكنها طائفة من المشركين، بعث الله لهم شعيبًا - عليه السلام - وكان أجنبيًّا منهم، ولذا قيل: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} ولم يقل: أخوهم. وقد أُهلكوا بعذاب يوم الظلة، وأهلك أهل مدين بالصيحة والرجفة. وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا: (أخوهم شعيب)؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة - وكانت شجرا ملتفًّا - (¬1). وقيل: شجرة معينة منها - فقطع نسب الأُخوة بينهم وبينه للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبًا. وهذا هو الصحيح، فقد وصفوا بتطفيف الكيل والميزان الذي وصف به أهل مدين، ونهوا عن ذلك، ممَّا يدل على أنهم جميعًا أُمة واحدة. وذلك كقوله تعالى في سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} الآية 85. 177 - {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ}: ألَاَّ تخافون عاقبة ما تفعلون من كفر. وتطفيف، وعلَّل أمرهم بالتقوى بقوله: 178 - {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}: إني مرسل لهدايتكم وإرشادكم، أمين على رسالة ربي إليكم. 179 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}: فاحذروا عقوبة الله وأطيعوني باتباع أوامر الله والبعد عما يغضبه. 180 - {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}: وما أطلب على تبليغ الرسالة لكم أجرًا، فما أجرى إلاَّ على رب العالمين. ¬

_ (¬1) من السدر والأراك ونحوهما.

* {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)}: المفردات: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ}: أي من الذين ينقصون الكيل والوزن. يقال: أَخسر الميزان إخسارًا: نقص الوزن، وخَسره خسْرًا من باب ضرب لغة فيه. {بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: أي الميزان السوى، والقُسطاس - بضم القاف وكسرها -: الميزان. قيل: هو عربي مأْخوذ من القِسط وهو العدل، وقيل: هو رومي معرب. {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}: أي ولا تنقصوها، أو: ولا تعيبوها. يقال: بخسه بخسًا من باب نفع: نقصه أو عابه. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: أي ولا تفسدوا فيها مبالغين في الإفساد، والعُثُوّ: الإِفساد أَو أَشده، ويقال: عثا يعثو- من باب قال يقول - وَعَثِيَ يعثَى - من باب تَعبَ يَتْعَبُ - أي: أَفسد، فهو عاثٍ. {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}: أي أوجدكم وأوجد الخليفة من الناس السابقين لهم.

التفسير 181، 182 - {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: نزلت هذه الآية وما بعدها حكاية لما وجهه نبي الله شعيب إلى قومه أصحاب الأيكة وهم أهل مدين على الصحيح - من الأمر بإيفاء المكيال والميزان والنهي عن التطفيف فيهما - كما مر بيانه كان قد شاع فيهم وانتشر بينهم سوءُ المعاملة في الأخذ والإعطاء، فكانوا إذا اكتالوا من الناس للشراءِ ونحوه يأَخذون مكيلهم وافيًا وافرًا، وإذا اكتالوا لهم للبيع ونحوه ينقصون مكيم، وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة: "أَوْفُوا الْكَيْلَ ... ": أي إذا دفعتم إلى الناس الكيل فأتموا الكيل لهم ولا تعطوه ناقصًا لأنكم ملزمون أن تعطوه كما تأخذون كاملًا وافيًا بلا تفرقة بين الأخذ والإعطاء إحقاقا لشريعة العدل التي شرعها الله في المعاملة بين عباده. والكيل للناس إما واف وهو مأمور به، وطفيف وهو منهى عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، وتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن. {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: أي يجب عليكم التزام العدل في الموزونات أَخذا وإعطاءً، وذلك بأن تزنوا بالميزان السوى حيث لا حيف فيه ولا ظلم. والأَمر بوفاءِ الوزن وإِتمامه يشير ضمنًا إلى النهي عن النقص فيه دون النهي عن الزيادة، ولم يذكر النهي هنا اكتفاء بذكره صريحًا في الآية السابقة، لاتحاد الغرض في المأْمور به هنا والمنهى عنه في الآية السابقة، وهو الأَمانة في الكيل والميزان، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن معنى "وَزِنُوا ... " الآية وعَدِّلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله تعالى لعباده، ويدخل فيها طلب العدل في الميزان المعروف دخولًا أوليا حتى يستقيم أَمرهم. 183 - {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: أي ولا تنقصوا الناس شيئًا من حقوقهم، أي حق كان، كبر أو صغر، هان أو عظم،

وهذا تعميم بعد تخصيص لبعض المراد بالذكر في الآيتين السابقتين لغاية انهماكهم فيه واقترافهم لمساوئه بيعا وشراءً ليكمل لهم بهذا التعميم في النهي البعد عن شريعة الله إلى شرعها لهم في كل شأن من شئونهم. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}: أي ولا تبالغوا في الإفساد فيها بقطع الطريق والقتل والسلب، وإهلاك الزرع، وكانوا يفعلون ذلك، فنهوا عنه بالتنصيص ردعا لهم، وتقبيحًا لصنيعهم السىء الذي ينفر منه كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 184 - {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}: يخوفهم شعيب - عليه السلام - بأس الله - تعالى - الذي أَوجدهم، أوجد الجبلة: أي الخليقة الأَولين، ويراد بها العدد الكثير من الأمم الماضية في الأزمان المتعاقبة كما يشير إلى ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} (¬1). والمعنى: اتقوا الله - سبحانه - فهو بعظيم قدرته وواسع سلطانه أوجدكم من عدم، وأوجد أُممًا تقدمت عليكم كثيرة العدد، ومع ما هم عليه من كثرة وعُتُوٍّ لم يعجزوه جل شأْنه بل أَخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي ذلك الدليل الساطع على تفرده بالأُلوهية والدَّافع القوي على عبادته وتقواه، وهو سبحانه عزيز ذو انتقام ممن استحب العمى على الهدى، واستمرأَ الضلال، واستهواه الإِعراض والتكذيب لدعوة الأنبياء والمرسلين. ¬

_ (¬1) من الآية 62 من سورة يس.

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}. المفردات: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}: الذين سحروا كثيرًا حتى غلب السحر عليهم، أو من البشر الذين لهم سحْرٌ، والسَّحْرُ: الخرطوم والرئة، وسحر بهذا المعنى على وزن فَلْسٍ وسببٍ، وَقُفْلٍ. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}: أي قطعا من السحاب، وقرئ: "كسْفا" - بسكون النسين - ومع فتح السين وسكونها فهي جمع كِسْفة، كقِطْعة، وقال الأخفش: من قرأ كِسْفا - بسكون السين - جعله واحدًا، ومن قرأ كِسَفا - بفتحها - جعله جمعا. {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}: الظلة سحابة بَدَت لهم أرادوا أن يستظلوا بها، فكانت عذابا لهم، وسيجىءُ شرح ذلك. التفسير 185، 186 - {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}: أجابوا بذلك شعيبًا - عليه السلام - مبالغين في تكذيبه، حيث جمعوا له بين غلبة

السحر على عقله حتى اضطرب، وهو مناف للرسالة، وبين البشرية التي يرونها منافية لها كذلك، للإيذان بأَن اجتماعهما ينافى الرسالة أشد المنافاة. {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: وإن شأْنك يجعلنا نظنك من الكاذبين فيما تدعيه، ومرادهم أنه - عليه السلام -، وحاشاه - من الراسخين في الكذب المعتادين له، فلا يصدقونه في دعوى الرسالة، أو فيها وفي دعوى نزول العذاب بهم الذي يشعر به الأمر بالتقوى في قوله - سبحانه - فيما سبق: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ .... } الآية. فإِنه يأْمرهم بأَن يقوا أَنفسهم من عذابه. وظاهر حالهم أنهم أرادوا من ظنهم كذبه في قولهم: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} الجزم بوقوعه منه؛ لأنه أصبح له عادة وطبيعة في زعمهم، ولهذا أكدوا الظن بلام التأكيد في قولهم: {لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}. واستعمال الظن بمعنى اليقين والعلم لُغويٌّ وقد جاء به القرآن في مواطن، كقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُواللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1). 187 - {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: حكى الله في الآية السابقة اتهامهم لشعيب - عليه السلام - بالكذب حسبما تخيلته نفوسهم المريضة، وجاءت هذه الآية تحكى ما بنوه على هذا الاتهام الكاذب. والمعنى: إن كنت صادقًا في أَنك نبى، فادع الله أن ينزل علينا قطعًا من السحاب وأَجزاء منه عقابًا لنا على تكذيبك. قال السدى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي: عذابًا واقعا عليهم من جهة السماء، وهذا شبيه بما قالته قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إِلى أَن قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} (¬2) , وقولهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} (¬3). ومن هذا يتضح أن جواب المكذبين لرسلهم متقارب في المعنى. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 249. (¬2) 90, 91 من سورة الإسراء. (¬3) الآية: 32 من سورة الأنفال.

188 - {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)}: تهديد لهم بتفويضه أمرهم إلى الله، أي قال لهم: ربي أعلم بكم، وبما تقترفون من الكفر والمعاصي، وبما تسرون وتعلنون من قول وعمل، وبما تستحقون من العذاب فسينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة، أما أنا فرسول، وليس لي أمر العذاب الذي طلبتم أن ينزل بكم. 189 - {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: أي فلما أقاموا على تكذيب نبيهم شعيب - عليه السلام - وأَصروا على هذا التكذيب مرة بعد مرة جعل الله عقابهم من جنس اقترحوه بإسقاط الكسف من السماء عليهم. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس أن الله - تعالى - بعث عليهم حرا شديدًا فأَخذ بأَنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم فخرجوا منها هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس - وهي الظلة - فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضهم بعضًا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم نارًا فأَكلتهم جميعا. وكان هذا اليوم من أَشد أَيام الدنيا عذابا لما وقع فيه من الهول المذهل، والداهية التامة التي لا يقادَرُ قدرها، وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفس الظلة إيذان بأَن لهم عذابًا آخر غير عذاب الظلة، ترك بيانه تهويلًا لشأْنه. 190 - {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}: أي إِن في هذه القصة وما سبقها من قصص الأنبياء السابقين لعظة وعبرة لمن له قلب واع، وفكر مستنير، وما كان أكثر قريش مؤمنين. وقصة شعيب - عليه السلام - مع قومه هي آخر القصص السبع التي أوحيت للرسول - صلى الله عليه وسلم - لصرفه عن الحرص البالغ على إسلام قريش، وقطع رجائه بشأْنه لإعراضهم عن الحق واستمساكهم بالباطل، وإلى ذلك يشير مضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول قد أتاهم من جهته - تعالى - بموجب رحمته الواسعة يدعوهم إلى ترك العناد

بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة، وفيها من الدواعي إلى الإيمان, والزواجر عن الكفر والطغيان ما يصرفهم عما هم عليه، ولكنهم أعرضوا عن التأَمل فيها واستمروا على تكذيبهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} كأنهم لم يسمعوا شيئًا منها يردعهم عن ذلك أصلًا ويحبب إليهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويزينه في قلوبهم، ومن كان أَمرهم علي ذلك فلا تبالغ في الحرص على إيمانهم. وقيل: المراد بالضمير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} قوم شعيب - عليه السلام - نُقل أَنه لم يؤمن به سوى تسعمائة نفر، ذكر ذلك القرطبي في تفسيره، والله أعلم بصحة ذلك. 191 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: فهو - سبحانه - العزيز في انتقامه من الكفار، الرحيم في ثوابه بعباده المؤمنين. {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)} المفردات: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}: هو جبريل - عليه السلام - فإِنه أمين وحيه - تعالى - إلى أنبيائه. (عَلَى قَلْبِكَ): لتحفظه. {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}: أي بلغة عربية واضحة المعنى ظاهرة المدلول. {لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}: والزُّبُرُ؛ جمع زَبُور، كرسول، وهو الكتاب، والمعنى: أن ذكره ثابت في جميع الكتب السماوية. التفسير 192 - 195 - {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}:

في هذه الآيات تنويه بالقرآن العظيم الذي تقدم ذكره أول السورة، ورَدَّ لما قاله المشركون فيه. أي: وإن هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه منزل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين جبريل - عليه السلام -. نزل به {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}: أي يتلوه الروح الأَمين على سمعك فيعيه قلبك حفطًا، وفهمًا، وثباتًا، لتكون به من جملة الرسل الذين ينذرون قومهم، فهو حجتك وآيتك، وقد نزل به بلسان عربى واضح، ليقطع أعذار قومك ويلزمهم الحجة، ويحملهم على المحجة (¬1). ولو نزل بلسان أعجمى لتجافوا عنه، ولقالوا: ما نصنع بما لم نفهمه، ولم ندرك كنهه، ولتعذر عليك الإنذار، حيث يكون بذلك نازلًا على سمعك لا على قلبك، فتسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها, ولا تعي مراميها. وفي حكاية القرآن الكريم لهذه القصص التي لا سبيل لنبى أُمى لم يقرأ ولم يكتب أن يعلمها، دليل واضح على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل له علمها إلا الوحى الذي نزل به الروح الأمين. وقد سجل الله هذا المعنى في قوله - تعالى -: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬2). 196 - {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}: أي: وإن القرآن الكريم لمذكورٌ في كتب الأنبياء السابقين، وقيل معناه: إنه لفى الكتب المتقدمة باعتبار العقائد والاحكام؛ فإن التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات، وكثيرًا من المواعظ والقصص والأحكام والأخلاق مسطور في الكتب السابقة. ¬

_ (¬1) أي: الطريق. (¬2) الآية 48 من سورة العنكبوت.

أو: وإنَّ محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم تخل من ذكره كتب الأولين كما قال - تعالى -: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (¬1) وفي قوله - تعالى -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬2). {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)} المفردات: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً}: الآيته العلامة الواضحة. {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} جمع أَعجم أَي: على رجل لا يفصح ولا يبين، وإن كان عربيًّا، وقرأ الحسن (على بعض الأَعجميين): جمع أعجميٍّ بياء النسب، والأَعجم والأَعجمي: غير الفصيح وإن كان عربيًّا، والعجمى ما كان من جنس العجم وإن كان فصيحًا، وأجاز الفراءُ أَن يقال: رجل عجميّ بمعنى أَعجميٍّ (¬3). {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}: أدخلنا القرآن في قلوب مشركى مكة ¬

_ (¬1) من الآية 157 من سورة الأعراف. (¬2) من الآية 6 من سورة الصف. (¬3) انظر القرطبي.

إدخالًا مثل ذلك في التكذيب عنادا ومكابرة، والفعل من باب نصر، والسَّلْكُ: إِدخال الشيءِ في الشيء. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}: أي مؤخرون وممهلون؟ يطلبون الرجعة هناك فلا يجابون. التفسير 197 - {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: الهمزة للإنكار والنفي، كأنه قيل: أَغفلوا ولم يكن لهم علامة على صدق القرآن أن يعرفه علماءُ بني إسرائيل بنعوته في كتبهم المذكورة فذلك آية واضحة على أنه تنزيل رب العالمين، وإلى علم علماء بني إسرائيل به يشير قوله - تعالى -: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (¬1) والمراد من علماء بني إسرائيل: العدول منهم، وهم من أَسلموا، قال مجاهد: يعني عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما ممن، ذكره القرطبي, وذلك أن جماعة منهم أسلموا، ونصوا على مواضع من التوراة والإِنجيل فيها ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يقتضي أن الآية مدنية، وعن قتادة أن الضمير في {أَنْ يَعْلَمَهُ} للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الثعالبي عن ابن عباس أَن أَحبار يثرب، بعث إليهم أهل مكة يسألونهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا زمانه، وذكروا المواضع التي ذكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، وهذا ما يقتضيه كون السورة كلها مكية. 199،198 - {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ, فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}: أَخبر الله عن شدة كفر قريش، وقوة شكيمتهم في المكابرة، وعنادهم للقرآن العظيم. فقال تعالى: "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ .... " الآية. أَي: نحن نزلنا القرآن على رجل عربى مبين, ففهموه وعرفوا فصاحته، وأَنه معجز، وانضم إلى هذا شهادة علماء بني إسرائيل على أن كتبهم ذكرت صفته وقصصه، وصح ¬

_ (¬1) القصص، الآية: 53

بذلك أن قصص الأنبياء في القرآن من عند الله، وليست بأَساطير كما زعموا، ومع هذا لم يؤمنوا به، وقالوا: إِنَّه سحر أَو شعر ومن افتراءٍ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. ولو نزلناه عربيا على أَعجمى لا يعرف العربية، ونطق به نصيحًا، ما آمنوا بأَن هذا القرآن من عند الله مع أن هذا الأَعجمى لا يتوهم أَحد أَنه يستطيع الإِتيان بمثله، ولا قراءته بفصاحته، لأنهم قوم معاندون يتمسكون بدين آبائهم، ويقتفون أَثرهم كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (¬1). وقد وصف الله عنادهم بقوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (¬2). 200 - 203 - {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}: المراد من المجرمين: مشركو مكة، وقد يراد من المجرمين: جنس المجرمين. فيدخل فيه مشركو مكة دخولًا أَوليا. والمعنى: مثل هذه الحال من الإصرار على التكذيب والكفر بالقرآن سلكنا القرآن وأدخلناه في قلوب المجرمين، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحود ومكابرة كما قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} (¬3)، قوله سبحانه وتعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: لا يزالون على الكفر حتى يبصروا العذاب الشديد الملجىء إلى الإِيمان به. أو المراد: أَدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته، وأنه خارج عن قدرة البشر من حيث النظم المعجز، والإِخبار عن الغيب, واتفاق علماء بني إسرائيل على أن كتبهم المنزلة قبله تضمنت البشارة بإِنزاله، ورسالة من أُنزل عليه بذكر أوصافه. ¬

_ (¬1) من الآية 23 سورة الزخرف. (¬2) سورة الحجر: 14 - 15 (¬3) الآية 7 سورة الأنعام.

أدخلنا القرآن مثل ذلك الإِدخال، لكنهم لم يؤمنوا به، فقوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} على هذا الرأَى استئناف مسوق لبيان حالهم من أنهم لا يتأَثرون بأَمثال تلك الأُمور الداعية إلى الإيمان به، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب المكرِه لهم على الإيمان فجأَة من غير توقع وانتظار وهم لا يشعرون بإِتيانه. وقريء: فتأَتيهم بالتاء، والمراد: فتأْتيهم الساعة، وأُضمرت لدلالة العذاب الواقع فيها عليهم، ولكثرة ما في القرآن من ذكرها. وقال رجل للحسن وقد قرأَ (فتأْتيهم): يا أَبا سعيد إِنما يأَتيهم العذاب فانتهره وقال: إِنما الساعة تأتيهم بغتة. اهـ من تفسير القرطبي وغيره. {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}: أَي فيتمنون حين يرون العذاب، التأْخيرَ والإمهالَ ليعملوا بطاعة الله تداركًا لما فاتهم تفريطًا وإِهمالًا فلا يجابون إلى ما أَملوه مما يملأَ نفوسهم حسرة وحزنًا، كما قال الله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}. (¬1) وهذه الآيات تصوير وتمثيل لحال مشركى مكة الذين ماتوا على الكفر قبل فتح مكة سنة ثمان من الهجرة. {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} ¬

_ (¬1) آية 44 من سورة إبراهيم.

المفردات: {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}: أَي إن أَخرناهم سنين وجعلناهم ينتفعون بالمتاع، ويطلق على كل ما ينتفع به من مأْكل ومشرب وأَثاث ونحوها. {مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}: من العذاب، والوعد: مع المفعول يستعمل في الخير وفي الشر، فإِذا أَسقطوا المفعول وهو الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا جاءُوا بالباء في الشر جاءوا بالهمز فقالوا: أوعده بالسجن. اهـ: مختار الصحاح بتصرف. {إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ}: أي مخوفون من العقاب. {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}: أي واضعين الشيء في غير موضعه حينما أنزلنا بهم العذاب. التفسير 204 - 207 - {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}: الآيات توبيخ للمشركين وإِنكار عليهم في قولهم للرسول تكذيبًا واستبعادًا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1)، وقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} (¬2). قال مقاتل: قال المشركون للنبي - صلى المه عليه وسلم -: يا محمَّد إِلى متى تعدنا بالعذاب فنزلت هذه الآيات. ومعناها: كيف يستعجلون عذابنا تكذيبًا به، واستبعادًا لوقوعه، وهو لا حق بهم لا محالة لكفرهم مهما طال عليهم الأَمد، أخبرني - أيها العاقل - عن هؤلاء المكذبين إن متعناهم سنين متطاولة بمختلف أنواع المتع الدنيوية التي أملوها، فطالت أَعمارهم، وصحت أبدانهم، وكثرت أموالهم وأولادهم، وتحققت كل رغباتم، ثم أَتاهم الذي كانوا يوعدونه من العذاب، فأي شيء أَغنى عنهم ما كانوا فيه من متاع الدنيا؟ إِنه لا يغنى عنهم شيئًا في دفع العذاب أو تخفيفه، وإنما هم في العذاب خالدون. وفي هذه الآية: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ¬

_ (¬1) من الآية 32 من سورة الأنفال. (¬2) من الآية 92 من سورة الإسراء.

روى عن ميمون بن مهران أنه لقى الحسن - رضي الله عنه - في الطواف, وكان يتمنى لقاءَه، فقال له: عظني, فلم يزد على تلاوة هذه الآيات، فقال ميمون: لقد وعظت فأَبلغت. 208، 209 - {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}: أي: وما أنزلنا الهلاك بقرية من القرى إلا بعد أن بعثنا إليها رسلًا منذرين أَنذروا أَهلها بالعقاب إن خالفوا أوامر الله ونواهيه, حتى لا تكون لهم على الله حجة {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}: ولسنا مجاوزين الحق في الجزاء، فنهلك غير الظالمين؛ لأنه ليس من شأْننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو ظلم بأَن نعاقب من لم يظلم أو بأَن نعذب أحدًا قبل إنذاره، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬1). {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} المفردات: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}: أي لم تتنزل الشياطين بالقرآن الكريم، والشياطين: جمع شيطان، من: شاط بمعنى احترق أو من: شَطَنَ بمعنى بَعُدَ. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}: أي أن التنزل بالقرآن لا يصح أن يكون من شأْنهم. {لَمَعْزُولُونَ}: أي لممنوعون عن السمع. التفسير 210 - 213 - {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}: ¬

_ (¬1) من الآية 15 من سورة الإسراء.

ردٌّ لما زعمه كفار قريش أَن لمحمد - عليه الصلاة والسلام - تابعًا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة، وأن القرآن مما ألقاه إليه التابع، أي: لم يحدث ما زعمتموه من نزول الشياطين بالقرآن، لما أَشار إليه قوله سبحانه: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}: أي ما يصح ولا يليق أن يحملوه وينزلوا به؛ لأَن من سجاياهم الإفساد، وإضلال العباد، والقرآن فيه الإصلاح وهداية العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو نور وهدى للعالمين، فبينه وبين الشياطين منافاة بينة، ولهذا حيل بينهم وبين السماء حال نزول القرآن على الرسول، فقد ملئت حرسا شديدا وشهبا، فكيف يستطيع أحد أن يخلص إلى استماع حرف منه؟ إنهم منعوا من ذلك؛ رحمة بعباده، وحفظًا لشرعه، وصيانة لقرآنه من تخليط الشياطين وإضلالهم، ويشير إلى هذا قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ففي هذه الآية تعليل لنفي تنزلهم بالقرآن، أَي: أَن الشياطين عن السمع لما يتكم به الملائكة في السماء لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا مُمَكَّنِيَن منه، كما قال تعالى مخبرًا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (¬1). أو: إنهم عن السمع لمعزولون لانتفاءِ المشاركة بينهم وبين الملائكة، حيث إن ذوات الملائكة نورانية، وصفاتهم خيِّرة، ونفوس الشياطين خبيثة ظلمانية، وصفاتهم شريرة، غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه، فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن المنطوى على الخير والهدى والرشاد؟ فلهذا صان الله كتابه، فأنزله بالروح الأَمين على قلب رسوله الأَمين، ليكون من المنذرين بلسان عربى مبين، وحرسه من الشياطين. {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}: خوطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم الناس أن الله تعالى لا يقبل الإشراك من أحد، فهو في الحقيقة خطاب لجميع المكلفين ببيان أن للإِشراك من القبح والسوءِ ما يجعله حقيقا بأن يُنْهى عنه من لا يمكن صدوره منه؛ فكيف بمن عداه؟ أو خوطب به والمراد أُمته، فهو في الحقيقة خطاب للأُمة في شخص إمامها ونبيها. ¬

_ (¬1) الآيتان 8، 9 من سورة الجن.

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} المفردات: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}: العشيرة؛ القبيلة، والجمع: عشيرات وعشائر، والمراد بها قريش، وقيل: عبد مناف. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ}: الجناح؛ اليد والعضد والإِبط والجانب وهو المراد هنا،: أَي أَلن جانبك، وجمع الجناح: أَجنحة وأَجنُح. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}: إلى الصلاة، أو حيثما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}: المراد بالساجدين؛ المصلون: أَي ويرى تصرفك وتغيرك من حال كالجلوس إِلى حال كالقيام بين المصلين إِذا أَممتهم. التفسير 214 - 216 - {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}: أُمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر عشيرته الأَقربين ويخوفهم من العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي، فإن الإهتمام بشأْنهم أهم، وليكونوا اللبنة الأولى للأُمة الإِسلامية، أو ليعلموا أنك لا تغنى عنهم من الله شيئًا وأن النجاة في اتباع شرعه دون قرابته. روى مسلم من حديث أبي هريرة: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمعوا، فَعمَّ، وخصّ، فقال: "يا بنى كعب ابن لؤى: أْنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب: أَنقذوا أنفسكم من النار.

يا بنى عبد شمس: أَنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد المطلب: أنقذوا أَنفسكم من النار. يا فاطمة: أَنقذى نفسك من النار، فإِنى لا أَملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رَحِما سأبُلُّها بِبَلالها" (¬1). ويؤخذ من الحديث أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأَسباب، وأَنه لا مانع من أَن يصل المؤمن الكافر وأن يقدم له النصيحة والإرشاد، وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2). ثم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتواضع ولين الجانب، وإِحسان المعاملة مع من اتَّبعه وصدَّق به وذلك في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَي: وأَلن جانبك للذين آمنوا بك إِيمانًا حقيقيا من عشيرتك الأَقربين ومن غيرهم، ومِنْ للبيان. 216 - {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}: أَي: فإِن أَعرضت عنك عشيرتك الأقربين ولم يتبعوك بعد إِنذارهم، فقل لهم: إنِّي برىء من عملكم الشامل لاتخاذكم مع الله إلهًا آخر، والمراد بهم: من تمسك بالشرك من عشيرته الأَقربين مع إنذارهم، والمراد من براءته - صلى الله لجه وسلم - من عملهم: أَنه ليس مسئولًا عنه، وإنما يسأَل عنه صاحبه، وذلك قبل أَن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بجهاد المشركين كافة. 217 - {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}: أي: وفوض أَمرك إليه - سبحانه وتعالى - فإِنه القادر بعزه وسلطانه على قهر أَعدائه، ونصر أوليائه. قال الجنيد رحمه الله: التوكل، أن تقبل بالكلية على ربك، وتعرض بالكلية عما دونه فإن حاجتك إليه عزٌّ وتَعَال في الدارين. ¬

_ (¬1) البلال: الندى، والمراد به هنا الخير، والمعنى: سأصلكم بالخير الملائم لها. (¬2) الآية 8 من سورة الممتحنة.

وتقديم وصف العزة المنبىء بقهر أعدائه - صلى الله عليه وصم - وإهلاكهم أوفق بمقام التسلى والصبر على المشاق اللاحقة به من هؤلاء المشركين. 218، 219 - {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}: المراد من الساجدين هنا: المصلون، أَي: الذي يراك حين تقوم للصلاة، وتتصرف فيما بين المصلين بقيامك وركوعك وسجودك وقعودك إذا أمَمْتَهُم. هكذا قال ابن عباس. وقيل: يراك حين تقوم للتهجد، ويرى تقلبك بين المتهجدين بذهابك ومجيئك فيما بينهم؛ لتصلح أحوالهم، ولتطلع عليهم من حيث لا يشعرون؛ لتعم كيف يعملون لآخرتهم (¬1). وقال مجاهد: يراك حيثما كنت. 220 - {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أي السميع لأقوال عباده، ولكل ما يتعلق به السمع، العلم بحركاتهم وسكناتهم، وبكل ما يتعلق به العلم، ويندرج فيه ما تنويه وتعمله، كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُومِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الآية (¬2). {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} المفردات: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ}: أَي هل أُخبركم، وفعله نبَّأَ. يقال: نبأَه الخبر، وبه. {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}: أي على كل من اتصف بكثرة الإِفك وهو الكذب، ¬

_ (¬1) روى أنه - عليه السلام - لما نسخ فرض قياما الليل طاف - عليه السلام - تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت الزنابير، لما سمع بها من دندنتهم بذكر الله وتلاوة القرآن. (¬2) سورة يونس، من الآية: 61

وبكثرة الإِثم وهو أن يعمل ما لا يحل، ويطلق عليه: الذنب، وفعله أفَكَ كَضرب وعلم، إفكا - بكسر الهمزة وفتحها، ؤَأفَكًا بالتحريك - وأُفُوكا كأَفَّك، أي: كذب، وأَثيم: فَعيل من أَثِم كعلم إثمًا ومأْثمًا فهو آثم وأَثيم وأَثَّام. التفسير 221 - 223 - {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: الآيات استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بيان امتناع نزولهم بالقرآن فيما سبق، وللرد على قول المشركين الذين قالوا: إن ما جاءَ به محمَّد ليس حقًّا، وإِنه شيء افتعله من تلقاءِ نفسه أو أتاه به رئيٌّ، أَي: تابع من الجن. تنزيهًا من الله سبحانه وتعالى لجناب رسوله عما قالوه كذبًا وافتراءً، وتنبيهًا على أَن الذي جاءَ به هو من عند الله نزل به ملك كريم ولم تأت به الشياطين، فإنهم لا رغبة لهم في مثله، ولا ينزلون إلاَّ على من يشابههم ويشاكلهم، كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}: أَي هل أُخبركم على مَنْ تتنزل الشياطين، تتنزل على كل من اتصف بالكذب الكثير والذنب العظيم من الكهنة والمتنبئة وما جرى مجراهم من الفسقة والفجرة أَمثال: سطيح، وطليحة، وميسلمة، فلا تنزل الشياطين إلاَّ على مثلهم فلا يتجاوزهم، ولا ينفك عنهم إلى غيرهم من الصالحين وبخاصة الأنبياء، وحيث تنزهت ساحته - صلى الله عليه وسلم - عن نزولهم اتضح أَن الذى نزل بالقرآن عليه ملائكة الله المقربون. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: أَي يلقى الأَفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويتلقون وحيهم إِليهم، وإِلقاء السمع مجاز عن شدة الاهتمام والمبالغة في الِإصغاء إلى ما يلقى إليهم ... إلخ. أو المراد: يلقى الأَفاكون ما سمعوه من الشياطين إلى أَتباعهم وأَوليائهم. وأَكثر الأَفاكون مفترون كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يخبروهم به، على معنى أَنهم قلَّما يصدقون فيما يحكونه عن الجنيّ، وإِنما هم في أَكثره كاذبون، فقد جاءَ في الحديث

أَن الكلمة يخطفها الجنى فيقرها في أُذن وليه، فيزيد فيها أَكثر من مائة كذبة، ولا كذلك محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبر عن مغيبات كثيرة وصدق في جميعها، والمراد من أَكثرهم في قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: جميعهم، أَو غالبهم، وهذا كاف في عدم الاطمئنان إلى أَقاويلهم. وقيل: المراد من قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ}: هم الشياطين، وكانوا قبل أَن يحجبوا بالرجم يتسمعون إلى الملإ الأعلى، فيخطفون بعض ما يتكلمون به ممَّا اطلع عليه الملائكة من الغيوب، ثم يوحون به إِلى أَوليائهم بن الإنس ويزيدون على ما يسمعون أَكثر من مائة كذبة فيصدقهم الناس في كل ما يقولون. روى البخاري من حديث الزهرى قال: أَخبرنا يحيى بن عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة - رضي الله عنها -: سأَل الناس النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكُهَّان؟ فقال: "إنهم ليسوا بشيءٍ" فقالوا: يا رسول الله إِنهم يحدثون بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيُقَرْقرُها (أَي: يرددها) كقرقرة الدَّجاجة، فيخلطون معها أَكثر من مائة كذبة. وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إِليهم؛ لأنهم يُسْمعُونهم ما لم يسمعوا من الملائكة لشرارتهم، أَو لقصور فهمهم، أَو لأَنهم لا يسمعون حقًّا وإِنما هو كذب واختلاق".

{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} المفردات: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}: أَي شعراء الكفار ومن ماثلهم من أهل الضلال. {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}: أي هم متحيرون، فلا يهتدون إلى العبادة، يقال: رجل هائم وهيوم بمعنى متحير. {انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}: أَي عالجوا أَسباب النصر بوسائل الحق حتى تحقق لهم. {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}: أَي أَيَّ تحوُّل، وتغير يصيبهم بين يدي الله. فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر الثواب، والفعل: قَلَبَه من باب: ضرب ونصر: حوَّله ظَهْرًا لبطن، والمنقَلَب: اسم زمان أَو مكان ما يحيق بهم. التفسير 224 - 227 - {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}: الآيات استئناف مسوق لِإبطال ما قاله المشركون في حق القرآن العظيم من أَنه من قبيل الشعر، وأَن الرسول - صلى إلله عليه وسلم - من الشعراءِ، ببيان حال الشعراءِ المنافية لحاله - عليه أَفضل الصلاة وأَزكى السلام - تنزيهًا عن الاتصاف بما وصفوه به حيث قال سبحانه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}: أَي أَن من يحق وصفهم بالشعر هم شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله ويقولون فيه كل كذب وباطل، والذين يشيعون بشعرهم الفحش والخنا

فيمزقون الأَعراض، وينشرون المثالب، ويقدحون في الأنساب، ويفرطون في الثناء والهجاء ابتغاءَ عرض زائل، ومنزلة حائلة، ومع كل واحد غواة قومه - وهم السفهاء - يجارونهم ويسلكون مسلكهم، وعن ابن أَبي طلحة: هم ضلال الجن والإنس، وشعر هؤلاء - كما يقول القرطبي في تفسيره -: ضلال وباطل لا يبيحه خلق ولا دين فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد وغيره كمنثور الكلام القبيح ونحوه. أَما شعر غيرهم من أَهل الرشاد والنُّهى المهتدين إلى طريق الحق المنافحين عن دين الله فلا بأْس به قولًا أَو سماعًا، فمثل شعرهم كان يقبل على سماعه الرسول والتابعون، ولا ينكر الشعر الحسن في مبناه ومعناه أَحد من أَهل العلم، وكثير منهم قاله وتمثل به، أَو سمعه فأَنصت إِليه وأَثنى عليه، حيث كان حكمة وعظة، ولم يكن هجرًا ولا أَذى لمسلم. روى عن أَبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صل الله علبه وسلم - على المنبر يقول: "أَصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد: أَلا كل شيءٍ ما خلا الله باطل، أَخرجه مسلم، وزاد: "وكاد أُمية بن أبي الصلت أن يُسْلم" (¬1) ذكر ذلك القرطبي. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: "إِنه لأَسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم. وما أَحسن قول الماوردى: الشعر كلام العربى، مستحب، ومباح، ومحظور، فالمستحب: ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة، وحث على مكارم الأَخلاق، والمباح: ما سلم من فحش وكذب، والمحظور: ما كان كذبًا وفحشًا، وجعل الرويانى منه ما فيه الهجو لمسلم سواءٌ كان بصدق أَو كذب. {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}: الاستفهام للتقرير، والخطاب لكل من تتأَنى منه الرؤية للِإيذان بأَن حالهم من الظهور والوضوح بحيث: لا يختص برؤيته راءٍ، أَي: أَلم تر أَن الشعراءَ يهيمون على وجوههم في كل واد من أَودية الغي والضلال، وفي كل مسلك من مسالك الزور والبهتان وفي كل شعْب من شعاب الوهم والخيال، لا يهتدون إلى الحق الذي ¬

_ (¬1) كان أمية كثير العجائب يذكر في شعره خلق السوات والأرض ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قريبًا من أهل الكتاب وهو شعراء الطائف. اهـ: من فحول الشعراء لابن سلام الجمحي.

يدعو من اتبعه إلى التثبت والتروى والصدق ويحول بينه وبين شهوة الشهرة التي تطمس على قلبه وبصيرته، فلا يكترث بما فعل، ولا يبالى بما قال، ولا يستبين طريق الحق التي تدعوه إلى الإِقلاع عما تعوده من كل خلق قبيح، وأُسلوب ذميم، وإفراط وتفريط {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} من الأَفاعيل التي ذكروها في شعرهم، ورددوها في قصيدهم غير مكترثين بما يستتبعه صنيعهم من لوم وتقريع كما كانوا يحثون في قولهم على الكرم والجود والمواساة وإِغاثة الملهوف مع أَنهم من كل ذلك بَراء، يقولون بأَلسنتهم ما ليس في قلوبهم. فكيف يتوهم أَن ينتظم الرسول في سلكهم وقد تنزهت ساحته عن أَن تحوم حوله شائبة الاتصاف بشيءٍ من الأُمور المذكورة، فقد كان معروفًا بمحاسن الصفات، وكريم الخلال، وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجميع الملكات الإنسية، ولم يكن أَتباعه كأَتباعهم سفهاءَ ضالين، وإِنما هم هداة مرشدون، لهم في رسول الله أسوة حسنة. روى ابن عباس أَن الآيات نزلت في شعراء المشركين: عبد الله بن الزِّبَعْرى، وهبيرة ابن أَبي وهب المخزومى، ومسافع بن عبد مناف، وأَبي غَزَّةَ الجمحى، وأُمية بن أَبي الصلت. قالوا: نحن نقول مثل قول محمَّد، وكانوا يهجونه، ويجتمع لهم الأعراب من قومهم يستمعون أَشعارهم وأَهاجيهم، وهم الغاوون. والظاهر من السياق أَنها نزلت عامة شاملة لجميع شعراءٍ الكفار، ويدخل فيهم هؤلاءٍ الشعراءُ دخولًا أوليًّا. ثم استثنى - سبحانه - بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية) شعراء المؤمنين الذين كانوا يدعون إلى التوحيد ويثنون على الله - تعالى - ويحثون على امتثال أَوامره واجتناب نواهيه، وقد ابتغوا فيما آتاهم الدار الآخرة، ولم يُغْفلوا نصيبهم من الدنيا، وذكروا الله كثرًا، ولو وقع منهم في بعض الأَوقات هجو، وقع منهم بطريق الانتصار إِلى الحق، وبما حده الله عَزَّ وَجَلَّ من غير ظلم أَو زيادة على ما قيل فيهم افتراءً وعدوانًا. وقيل: المراد بالذين استثناهم الله - سبحانه وتعالى - شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَيُقَبِّحُون بهجائهم هُجَاةَ قريش، واستدل لذلك

بما أَخرج عبد بن حميد وابن أَبي حاتم عن قتادة: أَن هذه الآية نزلت في رهط من الأَنصار هَاجَوْا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم: كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، كما استدل عليه بما أَخرجه جماعة عن أَبي سالم حسن بن البراء أَنه قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ ... } الآية، جاءَ عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب ابن مالك، وهم يبكون، فقالوا: يا رسول الله لقد أَنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنَّا شعراء فأَنزل الله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية. فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاها عليهم. وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعر، وأَجاز عليه، وكان يقول لحسان اين ثابت: "اهجهم - يعنى المشركين - وإِن روح القدس سيعينك، وفي رواية: "اهجهم وجبريل معك"، وعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أَن رسول الله - صلى الله علية وسلم - قال: "اهجهم فوالذى نفسى بيده لهو أَشد عليهم من النبل" ذكر ذلك أَبو السعود، والآلوسى في تفسيريهما. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}: تهديد شديد لكل من انتصر بظلم يشير إِليه الِإبهام والتهويل في قوله تعالى: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وقرأ ابن عباس: أَي منفلت ينفلتون؛ من الانفلات وهو النجاة. والمعنى على القراءتين لا يختلف في غايته، فهو على القراءَة الأولى: وسيعلم الذين ظلموا من الشعراء وغيرهم أي مصير يصيرون، وأَي مرجع يرجعون؛ لأَن مصيرهم إِلى النار وهو أَقبح مصير ومرجعهم إِلى العقاب وهو شر مرجع، ويومئذ لا تنفعهم معذرتهم عما فرطوا في جنب الله. كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (¬1). ¬

_ (¬1) الآية: 52 من سورة غافر.

وعلى القراءَة الثانية: أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى، وسيعلمون أَن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات ينفلتون إِليه من عذاب الله طمعًا في النجاة حيث توصد في وجوههم كل الطرق والمسالك، ويساقون إلى النار فهي مصيرهم وإِلى العذاب مرجعهم. وكون الآية عامة فكل ظالم هو الصحيح كما قال ابن أبي حاتم، وقيل: المراد بالظالمين أهل مكة فهو عام أُريد به خاص.

سورة النمل

سورة النمل مكية وآيتها ثلاث وتسعون مقاصدها: بينت هذه السورة أَن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين، وأَن الذين لا يؤمنون بالآخرة معذبون أَسوأَ العذاب وهم الأَخسرون يوم الدين. وتحدثت عن قصة موسى وأَهله عند رجوعه من مدين إِلى مصر بعد هجرته إِليها، فذكرت أَنه رأَى نارًا وأَنه ذهب إِليها ليأَتيهم بقبس منها يستدفئون به، فلما وصل إِلى مكان النار سمع نداءً يقول: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}. ثم تحدثت عما جرى بينه وبين فرعون وقومه على سبيل الإِجمال، حيث ذكرت أَنهم جحدوا بآياته وزعموها سحرًا، فساءَت عاقبتهم بسبب كفرهم. وتحدثت عن داود وسليمان بأَن الله آتاهما علمًا فضلهما به على كثير من عباده المؤمنين، وأَن سليمان خلف أَباه داود في النبوة والملك، وأَن الله - تعالى - علمه وأَباه منطق الطير وأَعطاهما طرفا من كل شيءٍ. وذكرت أَنه - تعالى - جمع لسلمان جنودًا من الجن والإنس والطير، فلما أَتوا على وادي النمل قالت نملة لجماعتها آمرة ومحذرة: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} فضحك سليمان لقولها هذا، ودعا ربه أَن يعينه على شكر نعمته التي أَنعمها عليه وعلى والديه، ويوفقه لصالح العمل الذي يرضيه وأَن يدخله برحمته في عباده الصالحين.

وذكرت أَنه تفقد الطير التي جعلها الله من جنوده، فلم يجد الهدهد، فعجب لتخلفه عن موقعه، وتوعده بالتأْديب الشديد، ما لم يأْته بسبب مقبول يقتضي تخلفه، فلم يطل غيابه، بل حضر إِليه وأَخبره بخبر عجيب، إِذ قال: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ... } الآيات. فلما فرغ من حديثه العجيب قال له سليمان: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وبعث معه رسالة إِلى ملكة سبأ، وأَمره بمراقبتها بعد وصول خطابه إِليها، ليعلم منه كيف تتصرف عندما يحدق بها الخطر، فحمل كتابه وأَلقاه إِليها، فجمعت أَشراف قومها قائلة: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} وطلبت منهم الِإفتاءَ وبذل المشورة في هذا الأَمر الخطير، إذ قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}، فردوا قائلين: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} فلما أَحست منهم الميل إِلى القتال دفاعًا عن البلاد قالت: {إنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً .... } ورأَت المصالحة بإرسال هدية إِلى سليمان - عليه السلام - لترى أثرها عنده، فلما وصل الرسول بهديتها ردها سليمان إليها، وأخبرها بأَن الله أَعطاه خيرًا مما أَعطاها، ولم يقبل منها سوى الاستسلام، حتى لا يأْتيهم بجنود لا قبل لهم بها، فيخرجوا من بلادهم أذلة صاغرين. ثم طلب من جلسائه أَن يحضروا لها عرشها قبل أن تأْتيه مسلمة، فكان أسرعهم مَنْ عنده علم من الكتاب، حيث جاء به قبل أَن يرتد إليه طرف فشكر الله - تعالى - على تلك النعمة، وطلب من أتباعه أن يُنَكِّروه لها لتغيير هيئته ليعرف مقدار فطنتها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، ثم قيل لها: ادخلي القصر، فلما دخلته رأَت صَحْنه كأَنه ماءٌ، فكشفت عن ساقيها، فقال: إِن ما تظنينه ماء هو صرح أَملس من

زجاج، وحينئذ قالت معترفة بخطئها في عبادة الشمس: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْماَنَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ثم حكت السورة قصة هود مع نبيهم صالح وكفرهم ... وتآمرهم على قتله وأَن الله عاقبهم على مكرهم بإِهلاكهم أَجمعين وأَنجى صالحا ومن معه من المؤمنين. وذكرت قصة قوم لوط، وقد جاء فيها لومه إياهم على إتيانهم الرجال شهوة من دون النساء: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}: أَي يتنزهون عن أَفعالنا ولا يرضونها لأَنفسهم، فأَنجاه الله وأَهله المؤمنين، وأهلك سواهم من الكافرين وفيهم امرأَته. ثم ناقشت المشركين وقارنت بين معبوداتهم الضعيفة وبين الله الواحد القهار، وبدأت المناقشة بقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} وبينت آثار قدرة الله ونعمه: فذكرت أَنه خلق السموات والأرض وأَنزل من السماء ماءً فأَنبت به حدائق ذات بهجة، وأَنه جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أَنهارًا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزًا دون أَن يكون مع الله إله في خلق هذه الكائنات والنعم العظيمة. ثم عقبت ذلك ببيان كثير من النعم الجليلة التي لم ينعم بها سوى الله، وساءَلتهم في كل ذلك منكرة عليهم شركهم: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}. ثم عابت عليهم شكهم في الآخرة وقولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} وزعمهم أَن أَمر الآخرة من أَساطير الَأولين، وردت عليهم بقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ودعت نبيه - صلى الله عليه وسلم - إِلى عدم الاهمام بإِعراضهم، فذكرت قول الله - تعالى -: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} وتوعدتهم بقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} وبقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}. ثم بينت أَن هذا القرآن يقص علي بني إِسرائيل أَكثر الذي هم فيه مختلفون، وأمرت النبي بالتوكل على الله بقوله - تعالى -: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} وبينت

أَن خصومه يشبهون الصم العمى، فما هو بمسمعهم ولا هاديهم: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}. وذكرت أَنه إذا قرب وقوع القول عليهم - وهو ما وعدوه من البعث والعذاب - أَخرج الله دابة من الأَرض تكلمهم، وتكون حجة عليهم؛ لأَن الناس صاروا بآيات الله لا يوقنون، وسيأَتي بسط الحديث في شأْنها في موضعها من السورة. ثم بينت أَنه يوم ينفخ في الصور يفزع أَهل السموات والأرض إلَّا من شاء الله كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ممن يثبتهم الله يومئذ، وأَن الجبال في هذا اليوم تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، وأَن أصحاب الحسنات يجازون يومئذ بخير منها، وأَصحاب السيئات من الكفار يكبون على وجوههم في النار. ثم ختمت السورة ببيأَن أَن الله - تعالى - أَمر نبيه أَن يعبد رب هذه البلدة التي حرمها وهي مكة، وله كل شيء، وأَمره أَن يكون من المسلمين وأَن يتلو القرآن، وأَن يقول لقومه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

بسم الله الرحمن الرحيم {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)}. المفردات: (تِلْكَ): إِشارة إِلى السورة. {آيَاتُ الْقُرْآنِ}: أي آيات من القرآن، فالإضافة على معنى مِنْ. (مُبِينٍ): موضح للأحكام والأخلاق والعظات، من: أبان غيره: أَي أَوضحه، أَو الواضح بإعجازه ومعانيه، من: أبأَن اللازم بمعنى اتضح. (يَعْمَهُونَ): يتحيرون ويترددون. التفسير 1 - {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ}: "طس" اسماَن لحرفين من حروف المعجم، هما الطاءُ والسين، وقد مضى الكلام بشأَن مثلهما في أَوائل سور: البقرة وآل عمران ويونس وهود وغيرها، فارجع إليها إِن شئت، ونزيد على ذلك أَن بعض المعنِيِّين بإعجاز القرآن الكريم أثبتوا بالآلات الحاسبة: (الكمبيوتر) أَن كل سورة بدئت بمثل هذه الفواتح، تغلب فيها الحروف التي بدئت بها على سائر الحروف التي تكونت منها كلمات السورة، وبما أَن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أُمِّيٌّ لا يقرأُ ولا يكتب فذلك شاهد على أَن القرآن ليس من تأْليفه - كما زعم أعداءُ الحق - بل هو من عند الله العزيز الحكيم.

والمراد بقوله: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} القرآن نفسه، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، وقد وصف به على سبيل العطف للإيذاَن بأَنه جامع بين صفتين: إِحداهما، أَنه معجزة مقروءَة على الدوام، وثاَنيتهما: أَنه كتاب مبين لما اشتمل عليه من الحِكم والأَحكام، وأَحوال القرون الأُولى والمعجزات الكونية، وأَحوال الآخرة، والعقائد النظيفة التي لا تناقض فيها ولا استحالة، وكما أَنه موضح لما ذكر فهو واضح لكل قارئ ولكل سامع، فلا يصعب فهمه على أَحد, أُميا كان أَو قارئا. وقد فاقت معجزة القرآن سائر المعجزات السابقة؛ لأَنها لا وجود لها الآن، فأَين عصا موسى، وناقة صالح، وإبراءُ الأَكمه والَأبرص، وإِحياءُ: الموتى من عيسى بإذن الله؟ لقد ذهبت كلها وأَصبحت خبرًا بعد عين، ولولا أَن القرآن أَيدها لكانت موضعًا لا شك والريبة. أَما معجزة القرآن فهي باقية ما بقى الزمان، واضحة الإعجاز والبيأَن، لأن شريعته التي جاءَ بها هي الشريعة العامة لبشرية، الخاتمة لجميع الشرائع، فلذلك جعله الله آية باقية مقروءَة مكتوبة، بينة مبينة محفوظة من التغرير والتبديل، بكفالة العزيز الحكيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. (¬1) ومعنى الآية: طس: تلك السورة آيات وعلامات من القرآن وكتاب مبين للعقائد الصحيحة، والأحكام السديدة، والأخلاق الرشيدة، والغيبيات على ما هي عليه، والكونيات وما ترشد إليه. 2، 3 - {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: أَي هذا القرآن عظيم الهداية والبشارة للمصدقين، الذين يضمون إِلى تصديقهم به إقامتهم الصلاة في مواقيتها، وإيتاءهم الزكاة لمن يستحقها، وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب مصدقون، لا يشكون ولا يمارون ولا يجادلون بل يعملون لها مخلصين، فإن إيمانهم بها يحملهم على صدق النية وإخلاص العمل، خوفًا من العقاب، ورغبة في جميل الثواب. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 9

والمراد من الزكاة هنا: مطلق الصدقة؛ فإِن الزكاة بمعناها المعروف فرضت بعد الهجرة في حين أَن هذه السورة مكية. 4 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}: في هذه الآية والتي بعدها بياَن لحال الكفرة ومآلهم بعد بيان أحوال المؤمنين وعاقبتهم. ومعلوم أَن الشيطان هو الذي يزين القبائح والمعاصي لأصحابها فيقبلون عليها كما قال - تعالى - في سورة النحل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية 63. وإسناد التزيين هنا إِلى الله تعالى مجاز عن تخليه عن معونتهم وتركهم لشياطينهم وغرائزهم الشريرة، التي تزين الكفر والمعاصي إِلى نفوسهم، بسبب إصرارهم على الكفر بالآخرة. والمعنى: إِن الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وجزاءٍ، وظنوا أَن الحياة هي الحياة الدنيا فأَنصرفوا إليها, ولم ينفعهم نصح أَنبيائهم، فهؤلاءِ تخلينا عن معونتهم على الهدى، وتركناهم لشهواتهم وشياطينهم، لتزين لهم ما هم فيه, فهم في غيهم يتحيرون ويترددون، والعمى صفة البصر، والعمه صفة البصيرة، فبصيرتهم في ظلام الضلال، لا تدرك ما ينفعها ولا ما يضرها. 5 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}: أي؛ أُولئك الذين كفروا بالآخرة وتركناهم في ضلالهم، قضينا عليهم بالعذاب السيء في الدنيا بالقتل والأَسر وغير ذلك من محن الحياة الدنيا، وهم في الآخرة هم الأشد خسرانًا منهم في الدنيا، حيث يخلدون في النار وبئس القرار، ولا توجد خسارة أَفدح من هذه الخسارة. ويصح أَن تكون كلها في عذاب الآخرة، على معنى أَن لهم العذاب السىء فيها، وهم أَشد الناس خسارة حينئذ، لحرماَنهم من الثواب، واستمرارهم في العقاب، بخلاف عصاة المؤمنين.

{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} المفردات: (مِنْ لَدُنْ): من عند. (حَكِيمٍ): عظيم الحكمة، والحكمة: إتقان الأُمور. (آنَسْتُ): أَبصرت. (بِشِهَابٍ قَبَسٍ): بشعلة نار مقبوسة ومأخوذة من النار التي أبصرها. (تَصْطَلُونَ): تستدفئون. (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا): جعلت البركة لمن في البقعة التي فيها النار، ولمن في الأماكن التي حولها. (الْعَزِيزُ): القوى الذي يَقْهرُ وَلَا يُقْهَر. التفسير 6 - {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}: بينت الآيات السابقة بعض شئون القرآن، وجاءَت هذه الآية تمهيدًا لما يليها من القصص التي اشتملت عليها، وهي مستأْنفة لهَذا الغرض، وليست معطوفة على ما قبلها، وَالذى يُلْقى القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الحكيم العلم هو الروح الأمين جبريل - عليه السلام - قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}. (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآيات: 193 - 195

وقد تضمنت الآية تحقيقًا لنزوله من عند الله وتأكيدًا لذلك وتفخيمًا لشأْنه، فالآية واضحة الإِشارة إِلى أَن هذا القرآن مشتمل على حكم عظيمة، وعلم غزير، لا يمكن أَن يصدرا عن البشر، وإِنما يصدراَن عن إله حكيم عليم، ولذلك صُدِّرَتْ بإِنَّ واللام في قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} وهما للتأْكيد، وجمع بين الحكمة والعلم؛ لأَن فيه ما هو من قبيل الحكمة كالعقائد الصحيحة والأحكام الشرعية الصالحة لكل زمان ومكان، وما هو من قبيل العلم المطلق مثل القصص والأَخبار الغيبية. والواقع أَن العلم يعم الحكمة وسواها، ولكنه جمع بينهما للإيذان باشتمال القرآن عليهما جميعا على أكمل وجه. ومعنى الآية: وإنك - أَيها الرسول - ليلقى إليك القرآن من عند حكيم عظيم الحكمة وإِصابة الحق، عليم واسع الإِحاطة بالأُمور ما وجد منها وما سوف يوجد، لأَنه فوق مستوى قدرة البشر: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). 7 - {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}: كان موسى عليه السلام - قد خرج من مصر حين علم أَن الملأ من قومها يأتمرون به ليقتلوه قصاصًا منه لقتله القبطي الذي اعتدى على رجل من بني إِسرائيل، فخرج إِلى سيناء وانتهى في رحلته إلى مدين، حيث عمل أَجيرًا عند شعيب في مقابل تزويجه إِحدى ابنتيه، فلما قضى المدة المتفق عليها، حنَّ للرجوع إِلى مصر ومعه أهله، فسار بأَهله فأَدركها المخاض عند الطور، فوضعت في ليلة شاتية باردة، وكان قد حاد عن الطريق لأمر شاءَه الله - تعالى - وقد أصبح بحاجة إِلى أمرين: أحدهما: أَن يوقد نارًا ليستدفئ بها أَهله، وثانيهما: أَن يهتدى إِلى الطريق الموصل إِلى مصر بعد أَن حاد عنه، وقد أدركته عناية الله وهو في حيرته هذه، حيث أظهر له نارًا على بعد قليل من الطور كما قال - تعالى - في سورة القصص: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 82 (¬2) سورة القصص من الآية: 29

وحينئذ قال لأهله: إني أبصرت نارًا سأتيكم منها بخبر عن الطريق الذي نصل منه إِلى مصر بسؤال من أوقدوا هذه النار، أَو آتيكم بشعلة مقتبسة ومأْخوذة من هذه النار التي أراها، لعلكم (¬1) بهذه الشعلة المقبوسة تستدفئون إذا جعلتها داخل حطب وأوقدته بها. وإِدخال السين على الفعل في قوله: "سآتيكم" لتأْكيد الوعد وتحقيقه - كما قال الزمخشرى - ولإِفادة مجيئه عن قرب حتى لا يستوحش أَهله لتركه إِياهم في هذا المكان. 8 - {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: في الكلام مضاف مقدر، أَي: فلما جاءَها بورك مَن في مكان النار ومَنْ حول مكانها، والمراد من مكان النار: البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (¬2) والمراد ممن في بقعة النار ومن حولها: كل من في هذا الوادى وحواليه من أَرض الشام التي باركها الله بمبعث الأَنبياء ودفنهم بها، ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى - عليه السلام - وقيل: من في بقعة النار: موسى - عليه السلام - ومن حولها: الملائكة، وقيل: العكس. وقد نبه الله على جلال المقام، وتنزهه - تعالى - عن الحلول وعن صفات البشر، بأَن ختم الآية بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. والنار التي رآها موسى - عليه السلام - لم تكن نارًا حقيقية، فقد كانت نورًا كما روى عن ابن عباس: (لم تكن نارًا، إنما كانت نورًا يتوهج)، وهذا النور من نور الله تعالى - كما روى عنه. ونقل القرطبي عن ابن عباس والحسن أَن المعنى: قدس من في النار وهو الله - سبحانه وتعالى - عنى به نفسه (¬3) تقدس وتعالى، ثم عقبه بقوله: قال ابن عباس ومحمد بن كعب: ¬

_ (¬1) تستعمل "لعل" للرجاء، وللتعليل، وهي هنا صالحة لكليهما. (¬2) سورة القصص، من الآية: 30 (¬3) أَنكر الإِمام هذه الرواية وقال إنها موضوعة، وقال أبو حيان: إذا ثبتت هذه الرواية عن ابن عباس وغيره، كان معناها بورك من قدرته وسلطانه في النار ومن حولها. وقد شرحها القرطبي على هذا النحو حذرًا من فكرة الحلول التي يأباها الإِسلام، وينزه عنها ابن عباس وأعلام الصحابة والتابعين، وقد نقلنا ما قاله القرطبي في ذلك، وستراه بعد قليل.

النار: نور الله - عَزَّ وَجَلَّ - نادى الله موسى، وهو في النور - قال القرطبي - وتأويل ذلك: أَن موسى - عليه السلام - رأَى نورًا عظيمًا فظنه نارًا، وهذا لأَن الله - تعالى - ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار، لا أَنه يتحيز في جهة، ومثله كمثل قوله - تعالى -: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (¬1) فإنه - سبحانه وتعالى - لا يتحيز فيهما، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به الفاعل، وعلى هذا يكون {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} بمعنى قُدِّسَ مَنْ فِي النار سلطانه وقدرته وكلامه: انتهى بتصرف يسير. ثم نقل القرطبى عن سعيد بن جبير كلامًا يشبه كلام ابن عباس وابن كعب، إِذ قال: كانت النار بعينها فأَسمعه الله كلامه من ناحيتها، وأظهر له ربوبيته من جهتها، قال القرطبي: وهو كما روى أنه مكتوب في التوراة: (جاءَ الله من سيناءَ وأَشرف من ساعير، واستعلى من جبال فاران) (¬2) فمجيئه من سيناء بَعْثُه موسى، وإِشرافه من ساعير بَعْثُه المسيح منها، واستعلاؤه من فاران بَعْثُهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وفاران (مكة) وسيأتى في القصص زيادة بيان في سماع الله كلامه موسى: انتهى بتصرف يسير. وإليكم تفسير الآية على أَن منْ في النار ومَنْ حولها هو موسى والملائكة فما يلي: فلما وصل موسى إِلى النار التي رآها وهو بجانب الطور، نودى نداءً إلهيًّا منبعثًا من الشجرة بأَنه بورك موسى الذي في بقعة النار، وبورك مَنْ حولها من الملائكة، وقيل لموسى: سبحان الله رب العالمين، تنزيهًا له - تعالى - عن أَنْ يشبهه شيءٌ من مخلوقاته، أَو يحيط به شيء من مصنوعاته فلا تكتنفه أرض ولا سماء، ولما وقف موسى مبهورًا متعجبًا من صدور الكلام عن النار، أَعلمه الله أَنه - سبحانه - هو المتكلم فقال: 9 - {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: الضمير في "إنَّهُ" للشأْن، والعزيز الحكيم وصفان للفظ الجلالة، ممهدان لما أُريد إِظهاره على يد موسى - عليه السلام - من المعجزة. ¬

_ (¬1) سورة الأَنعام، من الآية: 3 (¬2) جاء في كتاب (محمد نبى الإسلام في التوراة والإنجيل والقران) للمستشار محمَّد عزت الطهطاوى منقولا عن الإصحاح 23 عدد 2 من سفر التثنية على لسان موسى - عليه السلام - بلفظ: (جاء الرب من سيناء، وأشرف من ساعير، واستعلى من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سنة من نار، أحب الشعوب جميع الأطهار بيده) انظره وشرحه في ص 9 من هذا الكتاب، والمقصود من عبارة (بيده سنة من نار) شريعة الجهاد. التي جاء بها رسوله المبعوث من جبال فاران، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -.

والمعنى: يا موسى إِن الأمر والشأْن أَنا الله القوى القادر على ما لَا يقدر عليه غيرى من الأمور العظام التي من جملتها ما سوف أُوْيدك به من المعجزات، الحكيم الذي تصدر أَحكامه وأَفعاله بغاية الإحكام والسداد. {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} المفردات: {تَهْتَزُّ}: تتحرك باضطراب. {كَأَنَّهَا جَانٌّ}: الحية الخفيفة السريعة. {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}: انصرف راجعًا إِلى الخلف ولم يَعُدْ، من: عَقَّب المقاتل، إذا كَرَّ بعد الفرار. {جَيْبِكَ}: الجيب؛ فتحة القميص من أَعلاه إِلى الصدر، ليدخل منه الرأْس، واستعماله في الفتحة التي يوضع فيها كيس الدراهم ونحوه مُوَلَّدٌ. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}: أَي؛ آية معدودة من جملة تسع آيات. {مُبْصِرَةً}: بينة واضحة، من أَبصر، بمعنى وضح مجازًا، أَو مُعينَة على البصر، أَي: على التبَصُّر، من أَبصر غيره، أي: جعله يبصر بقلبه ويهتدى.

التفسير 10 - {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ... } الآية. هذه الآية من جملة ما كلم الله به موسى من الشجرة، وقد تضمنت أَنه - تعالى - أَمره أَن يلقى عصاه من يده، ليرية آية على أن الذي يكلمه هو الفاعل المختار القادر على كل شيءٍ، وقد شبهت العصا بعد تحولها بالجان، وهي ضرب من الحيَّات أَكثرها حركة وأَسرعها اضطرابًا، مع صغر في الحجم، وقد جاء تشبيها بثعبان مبين في قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (¬1) والثعبان أكبر حجمًا من الجان، فهي في حجم الثعبان جسمًا، وفي صورة الجان حركة واضطرابًا سريعًا، فلذا عبر عنها بالكلمتين في موضعين مختلفين من السور. والمعنى: ونادى الله موسى: ألق عصاك الخشبية من يدك، فأَلقاها فأَنقلبت حية، فلما رآها تتحرك بشدة واضطراب كأنها جان في سرعتها وخفتها، انصرف عنها مدبرًا خوفًا منها، ولم يرجع إِلى المكان الذي كان فيه حين ألقى عصاه فناداه ربه مطمئنًا بقوله: {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}: يا موسى لا تخف من هذه الحية التي آلت إليها العصا، ولا من غيرها فإِنه لا يخاف في حضرتي المرسلون؛ لأَننى أَحميهم وأحْفظهم من كل شيءٍ. وفي هذه الآية بشارة له بأنه سيكون من رسل الله - سبحانه وتعالى - وتعليم له بأنه لا ينبغي لمن يرسلهم الله إِلى خلقه لهدايتهم، أَن يخافوا أَو يخطر الخوف ببالهم عند الوحى إِليهم وإِن وُجِدَ ما يخاف منه، لاستغراقهم في تلقي أَوامر الله، وانجذاب أَرواحهم إِلى عالم الملكوت، والتقييد بكلمة {لَدَيَّ} لأن المرسلين يغلب الخوف عليهم في غير هذه الحالة، فهم في سائر أَحيانهم أَخوف الناس من الله - عَزَّ وَجَلَّ - فقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬2) ولا أعلم منهم باللهِ - تعالى -. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 107 (¬2) سورة فاطر، من الآية: 28

هذا في الدنيا، أَما في الآخرة وهم في حضرته - تعالى - فإنهم لا يخافونه خوف عقاب وإن خافوه خوف إجلال؛ لأنهم صفرة عباده وأَحرصهم على تقواه. وبعد أَن بين الله أَن المرسلين لا يخافون في حضرته - تعالى - عقب ببشارة عامة لكل من أَحسن بعد الإساءَة من عباد الله - تعالى - فقال - سبحانه -: 11 - {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}: ولفظ: "إلاّ" هنا بمعنى (لكن) وهو ما يسمى في عرف النحاة بالاستثناء المنقطع، والمعنى: لكن من ظلم نفسه بارتكاب عمل سىء، ثم بدل فأَتى بعمل حسن بعد عمله السىء تائبًا إِلى ربه، فلا يخاف، فإِنى عظيم الغفران واسع الرحمة. وهذه الرحمة بالتائبين مقررة في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬1)، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2) وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (¬3). 12 - {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}: بينت الآية السابقة أن الله - تعالى - أَرى موسى كيف يحول العصا الخشبية إِلى حية تسعى، وجاءَت هذه الآية لتبين معجزة أُخرى ودليلًا باهرًا على قدرة الله - تعالى - وأَنها مع سابقتها يؤيده الله بهما في رسالته إِلى فرعون وقومه في ضمن تسع آيات تشهد برسالته، وتقوم بها حجة الله عليهم إِن لم يستجيبوا له، إِذ يعاقبهم على كفرهم أَشد العقاب. والآيات التسع التي أَشارت إِليها الآية هي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 82 (¬2) سورة النساء، الآية: 110 (¬3) سورة طه، الآية: 112

والطمسة: جعل أبواب رزقهم حجارة، والجيب: فتحة القميص من جهة الصدر وهي مدخل الرأْس فيه، كما تقدم في بيان المفردات. ومعنى الآية: وأدخل يدك في فتحة قميصك من جهة الصدر، وأَخرجها تخرج بيضاءَ ساطعة تتلألأ كأنها قطعة من القمر من غير سوءٍ حل بها، وهاتان الآيتان في جملة تسع آيات واضحات أُؤيِّدك بهن وأَجعلهن براهين على صدقك في دعواك الرسالة عنا إِلى فرعون وقومه، فإِنهم كانوا قومًا فاسقين خارجين عن طاعتنا والإيمان بنا، مع أن يوسف قد دعاهم إِلى الحق من قبلك، ولهم عقول لو فكروا بها في آياتنا لهدتهم سواءَ السبيل. 13 - {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أَي: فلما جاءَهم موسى مؤَيَّدًا بآياتنا المعينة على التبصر والهدى، قالوا - معرضين عن التأمل والانتفاع بها -: هذا الذي جئتنا به سحر واضح. ولما كان الذي قالوه مخالفًا لما وقر في نفوسهم، عقب الله مقالتهم هذه بقوله: 14 - {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}: أَي وكذب قوم موسى بالآيات التي أَيده الله بها مع تمام وضوحها، وقد استيقنتها أنفسهم وآمنت بها قلوبهم، وكان إنكارها بألسنتهم ظلما منهم للحق ولأنفسهم، وتعاليًا عليه وعلى من جاءهم به من عند ربه، فانظر - أَيها المتأمل - كيف انتهت إِليه عاقبة المفسدين حيث أغراهم الله بالدخول في الطرق التي شقها لبني إِسرائيل في البحر، وأغرقهم جميعًا فيه بعد انتهاءِ عبور بني إِسرائيل، فبئس مصير المتجبرين.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)} المفردات: {عِلْمًا}: إِدراكًا لعلوم الدين وأُصول الحكم وغيرها. {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}: ورثه في النبوة والملك. {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}: منطق الطير، ما تعبر به عن حاجاتها وشئونها من أصوات أو حركات. {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مما يحتاج إليه الملك. التفسير 15 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}: شروع في بيان قصة داود وسليمان - عيهما السلام - بعد إجمال الحديث بشأْن موسى مع فرعون وقومه، لتقرير ما تقدم ذكره، من أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تلقى القرآن من لدن حكيم عليم. والمراد بالعلم الذي أَعطاهما الله إِياه: هو علم شريعة الله وسياسة الملك وما يختص به كل منهما من العلوم. وكان الظاهر أَن يقال: {وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالفاءِ دون الواو، كما تقول: أَعطيته فشكر، ولكن التعبير بالواو هنا أبلغ، لما فيه من الإِشعار بأَن ما قاله داود وسليمان بعض آثار إِيتائهما العلم، فأُضمرت تلك الآثار وعطف عليها الحمد، فكأَنه قيل: ولقد آتيناهما

علمًا فعملا به وعرفا حق النعمة فيه، وقالا: الحمد الله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (¬1). وفي الآية دليل على أن العلم من أجل النعم، حيث شكرا الله على إيتائهما إياه، ولم يذكرا معه سواه من سائر النعم التي أنعم الله بها عليهما من الملك وغيره، فإن العلم هو أَساس جميع النعم، وفيها حث للعالم على شكر الله، وأَن لا يتكبر بما أُوتيه من العلم وآثاره على الناس، فيقول ما قاله قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (¬2)، كما فيها حث له على أن يعلم أنه وإِن أُعطى من العلم ما يفضل به كثيرًا من الناس، فقد فضل الله به غيره عليه، فإن العلم لا غاية له. ومعنى الآية: ولقد أعطينا داود وابنه سليمان علمًا بشئون الدين والدنيا يناسب ما أَعطينا كليهما من النبوة والملك، وقال كل منهما: الحمد لله الذي فضلنا بهذا العلم على كثير من عباده المؤمنين الذين لم يعطوا منه مثل ما أعطينا. 16 - {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}: المراد من ميراث سليمان داود: أنه صار نبيًّا وملكًا بعده، فوراثته إِياه مجاز عن ذلك، ولم يرث عنه المال، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". رواه أبو بكر وعمر أمام جمع من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد، وهم الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وأَخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداءِ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِن العلماءَ ورثة الأَنبياءِ، وإِن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ولكن وَرَّثُوا العلم، فمن أَخذه أخذ بحظ وافر". والمراد من الناس: أَهل مملكته، ومن منطق الطير: لغته التي يتخاطب بها بصوت أَو بإشارة، وكان يعرف لغة الحيوانات والحشرات، ومن ذلك ما روته هذه السورة من قصة الهدهد والنملة. ¬

_ (¬1) هذه خلاصة ما قاله الزمخشرى في التعبير بالواو دون الفاء. (¬2) سورة القصص: من الآية: 78

وقد عرض بعض المفسرين لذكر قصص عن طيور مختلفة فهم لغتها وأَصواتها، ولا تعدو هذه القصص أن تكون مجرد حكايات لم ترد عن الصادق المصدوق، فلهذا لم نذكرها هنا، التزاما بما التزمنا به من الاقتصار في التفسير على المعنى اللغوى أَو المأْثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَو ما قاله السلف مما يتفق مع القواعد الشرعية والمعنى اللغوى، وحسبنا أن الله - تعالى - أطلق تعليم سليمان منطق الطير، وهذا يتناول فهمه للغته ومراداته منها على أوسع نطاق، هذا أَمر خص الله به نبيه سليمان، وليس من باب الفراسة ولا مجرد الذكاء، وإِنما هو بتعليم الله إياه ذلك، كما هو صريح الآية الكريمة ليكون ذلك من المعجزات التي أَيد الله بها رسالته. ومعنى الآية: وقام سليمان بعد أَبيه مقامه في النبوة بوحى من الله، وفي الملك برضا أُمته، وقال تَحَدُّثًا بنعمة الله، وإِعظاما لقدرها، ودعوة للناس أن يصدقوه في نبوته بذكر المعجزة التي أَيده الله بها - قال -: يا أَيها الناس علمنا الله - تعالى - لغة الطير التي يتخاطب بها، وأُوتينا من كل شيء يحتاج إِليه الملك وتؤيد به النبوة، كتسخير الشياطين والريح، وغير ذلك من أُمور الدنيا والآخرة، إِن إيتاءَ العلم والإعطاء من كل شئٍ لهو الإحسان الواضح من الله رب العالمين، المقتضى لجزيل الشكر ممن أُنْعِم به عليه. واعلم أن قولًا - تعالى -: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} إِما أَن يكون من كلام الله - تعالى - تعظيمًا للفضل الذي أَنعم به على داود وسليمان - عليهما السلام - وإِما أَن يكون حكايته لكلامهما على سبيل الشكر والاعتراف منهما بعظيم فضل الله عليهما، لا على سبيل الفخر والمباهاة، ومثل ذلك كمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} المفردات: {وَحُشِرَ}: الحشر؛ الجمع. {يُوزَعُونَ} أَي: يحبسون ويمنعون من المضى حتى يتلاحقوا ويجتمعوا، والإيزاع: الحث على الوزع، وهو الكف والمنع (¬1). {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ}: لا يهلكنكم، وأَصل الحطم: التكسير. {أَوْزِعْنِي}: ألهمنى، وأصله: من الإِيزاع، وهو الحث على الكف والمنع كما تقدم، فكأَنه قال: حُثِّنِى وَأَعِنِّى على كف نفسى عن التقصير في شكر نعمتك. التفسير 17 - {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}: بين الله في هذه الآية أَن سليمان - عليه السلام - كان له جنود من أَصناف ثلاثة: الجن، والإنس، والطير، وهذا شيءٌ خصه الله - سبحانه - به، استجابة لدعائه الذي حكاه الله بقوله في سورة (ص): {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ ¬

_ (¬1) ومنه قول عثمان - رضي الله عنه -: (ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن)، وقول الشاعر: وَمَنْ لَمْ يَزعْهُ لُبُّهُ وَحَيَاؤُه ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازِعُ

{أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (¬1). وقد أَضافت هذه الآيات من سورة (ص) الريح إِلى جنوده المسخرين له في هذه السورة، وبهذا اكتمل له عِزٌّ وجاه ليس لأَحد من العالمين، لِحِكَمٍ سنعرض لها - إِن شاء الله - عند الكلام على تفسيرها في سورة (ص). وقد بينت الآية هنا أَنه حشر له جنود من الأَصناف الثلاثة، ولم تبين الغرض الذي جمعت له، ولهذا اختلف العلماء في بيانه، فقال قائل: إنهم جمعوا ليقاتل بهم من لم يدخلوا في طاعته، وقال آخر: بل جمعوا ليذهب بهم إِلى مكة، ليشكر الله - تعالى - على ما وفقه له من بناءِ بيت المقدس، والأَول هو الظاهر من المقام، أَما الثاني فلا دليل عليه. وجمع هذه الأَصناف مع كفاية الِإنس أَو الجن، لإِظهار نعمة الله وأُبهة الملك وبث الرعب في قلوب الأَعداء. والظاهر أَن المراد من جمعها جمع طائفة من كل نوع، لا جمعها كلها؛ لأن الذين يخرجون للقتال عادة وسياسة هم بعض الجنود لا كلهم، ويترك الباقون لحفظ البلاد من الأعداءِ المتربصين. والظاهر أَن الحاشر لكل نوع من الثلاثة أفراد منهم معدون لمثل ذلك، ولا غرابة في أَن يكون للطير لغة تتخاطب بها، وإدراك يعي هذا الخطاب، فالآية صريحة في أن للطير منطقا علمه الله سليمان - عليه السلام -. بل لقد أثبت القرآن ذلك بما لا يدع مجالًا للشك في جميع الحيوانات، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬2) فقد أثبتت الآية أن كل الدواب على الأرض والطيور في جو السماء، أُمم لها خصائص تماثلنا، وإن اختلفت في كيفية هذه الخصائص ومستواها، والقرآن الكريم لم يقتصر على بيان ¬

_ (¬1) الآيات: 35 - 38 (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 38

كونها أُممًا أَمثالنا، بل بين أَن فيها قادة ينذرونها ويرشدونها، فقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (¬1) وقد ضرب الله مثلًا لهذا النذير ووظيفته بقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} (¬2). وقد سبق القرآن الكريم بذلك جميع الكشوف العلمية، وأيدته المشاهدة، فالنحل له ملكة تدبر أَمره، وتسوسه، وبلغ من دقة إِدراكه أَنه يصنع بيوتًا مسدسة الأَضلاع لتجميع عسله فيها؛ بمقاييس في غاية الدقة، واختيار المسدس دون غيره؛ لأَنه هو الشكل الوحيد الذي لا توجد فرج بين وحداته داخل الِإطار. وبالجملة فدراسة مملكة النحل وأُمته تحير الأفكار، ومثلها النمل وجميع الكائنات الحية. ومن أغرب ما نشاهده في موسم الشتاء بمصر، تلك الطيور التي تفد علينا من المناطق الشديدة البرودة، طلبًا للدفء والرزق في بلادنا، وفي مقدمة كل طائفة نذيرها ومرشدها وهي تطير على هدى إدراك داخلي أَقوى من (الرادار) في حين أَنها لم يسبق لها الحضور إِلى بلادنا. وكثير من الحيوانات يدرك مجىءَ الزلازل قبل حضورها، وتكون له حركات تشنجية منذرة بها، في حين أن الإنسان لا يستطيع أن يدركها بحسه قبل أن تفاجئه. وقد أَيدت الكشوف والدراسات العلمية ما صرح به القرآن العظيم منذ أَكثر من أربعة عشر قرنًا، فما أعظم القرآن، وصدق الله إذ يقول فيه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬3). ومن أغرب الكشوف العلمية، أن للنيات إِحساسًا وإدراكًا لما يحدث فيه أَو حوله، فقد صنعت آله تسجيل على أَعلى مستوى من الدقة، وسجلت أَنين الشجرة إِذا قطع منها غصن، أَو نقلت شجرة مجاورة لها إِلى جهة أُخرى. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 24 (¬2) سورة النمل، من الآية: 18 (¬3) سورة فصلت، من الآية: 41، والآية: 42

ولا نذهب بعيدا في هذا الشأْن، فإِن النبات المعروف في مصر باسم (عباد الشمس) تدور زهرته مع الشمس أَينما دارت، وهناك من النبات ما لو لمست ورقة منه أَو نفخت فيها انكمشت، حتى أَطلق البستانيون عليها اسم: المُسْتَحِيَة، كأَنها تستحى عند لمسها أَو نفخها فتجمع أَوراقها وتضم وبعضها إِلى بعض: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). ومعنى الآية: وجُمِع لسليمان جيشُه وعساكره من أَماكنها المختلفة، وكان جيشه مؤلفًا من الجن والإِنس والطير، تعظيمًا لمقامه وإرهابًا لعدوه، فهم يؤمرون بالكف عن السير حتى يجتمعوا، فتنتظم صفوفهم وألويتهم طبقًا للنظم العسكرية ثم يؤمرون بالسير. 18 - {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2): {حَتَّى}: ابتدائية، وفيها معنى الغاية لما يفهم من الكلام قبلها، كأَنه قيل: فلما اجتمعوا ونُظِّمُوا وأُمروا بالمسير، فساروا حتى أَتوا على وادى النمل ... إلخ. ووادى النمل: واد بأَرض الشام تكثر فية النمل - كما روى عن قتادة ومقاتل - وقيل: واد باليمن معروف عند العرب ومذكور في أَشعارهم. ولفظ (أتَى) في قوله تعالى: {أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} يتعدى بنفسه، فيقال: أتى وادىَ النملِ، أَو بإِلى، كقولك: أَتى إِلى وادى النمل - وإِنما عُبِّر (بعلى) في الآية الكريمة، إما لأن إتيانهم إليه كان من مكان عاد، أَو لأَن المراد من إِتيانهم عليه قطعه كله وبلوغ آخره، والإِتيان بهذا المعنى مجاز عن القرب، من: قطعه، ولَمَّا يقطعوه بَعْدُ، ولهذا حذرت النملة أُمتها قبل مجىء سليمان إِلى مكانها من الوادى ونهتهم بقولها: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}، فقولها هذا: نهى مؤكد بالنون لجماعتها من النمل عن التعرض لتحطيمها من سليمان وجنوده إِن لم تدخل مساكنها في وادى النمل قبل مجيئهم، وقد أدركت بإِلهام الله لها أنهم لو حطموها وهي في طريقهم فإنما يفعلون ذلك لا عن شعور بها، كأنها أدركت عصمة الأنبياء عن الظلم بإبادتها، وذلك منها أدب ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، من الآية: 14 (¬2) يرى القارئ الكريم أن الآية استعملت مع النمل ضمائر العقلاء، تنزيلا لها منزلتهم لفطنتها.

كريم في حق سلمان وجنوده، فلعل الناس يتعلمون حسن الظن بأَهل التقوى والأَدب معهم كما فعلت هذه النملة. ومعنى الآية: فسار سليمان وجنوده حتى إذا أتوا على وادٍ يكثر فيه النمل ويعرف به، قالت رائدته لفصيلتها: يا أَيها النمل ادخلوا مساكنكم في جحوركم، لا تتعرضُنَّ بالبقاء فوق ظهر الأَرض لأن يهلككم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بإهلاكهم إياكم. هذا وننقل فيما يلي (المسألة السادسة) من تعليق القرطبى على هذه الآية الكريمة، لأهميته فما ذهبنا إليه من أن للحيوانات إدراكات عالية. قال القرطبي: السادسة - لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول، وقد قال الشافعي: الحمائم أَعقل الطير، وقال ابن عطية: والنمل حيوان فَطِنٌ شمام جدًّا يدَّخر ويتخذ القُرى، ويشقُّ الحب قطعتين حتى لا تنبت، ويشق الكزبرة أَربع قطع، لأَنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقى سائره (¬1) عُدَّةً، وقال ابن العربي: وهذه خواص العلوم عندنا، وقد أَدركتها النمل بخلق الله لها، قال الأُستاذ أبو المظفر شاه نور الإسفراييني: ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات ووحدانية الإِله، ولكنا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا ... إِلخ. ولعل الأُستاذ الإسفرايينى ذهب إِلى ذلك استنباطًا من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬2). ونحو ذلك مما جاء في القرآن في هذا المعنى. 19 - {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}: نقل الآلوسى في تفسيره لهذه الآية عن ابن حجر أنه قال: التبسم: مبدأ الضحك من غير صوت، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفى، فإن كان فيه صوت يسمع من بعيد فهو القهقهة. ¬

_ (¬1) أي: باقيه. (¬2) سورة الإسراء، من الآية: 44

وعلى هذا يكون المعنى: فتبسم بادئًا في الضحك، ومن اللغويين من قال: التبسم: ابتداءُ الضحك، والضحك يشمل الابتداءَ والانتهاءَ، ومنهم من قال: هما سواء، وعلى الرأيين الأخيرين يكون لفظ (ضاحكًا) حالًا مؤكدة، والراجح الفرق بين التبسم، والضحك: والمَبْسِمُ: الثغر، وهو مقدم الأسنان (¬1) والتبسم: ضحك الأَنبياء في غالب أَمرهم، وفي الصحيح عن جابر بن سمرة - وقيل له -: أَكنت تجالس النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم كثيرًا، كان لا يقوم من مُصَلَّاهُ الذي يصلى فيه الصبح - أَو قال: الغداة - حتى تطلع الشمس، فإِذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون ويأْخذون في أَمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وقد وردت أَحاديث تفيد أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يضحك أحيانًا، والذي يؤْخذ من مجموع ألاحاديث أَن تبسمه كان أَكثر من ضحكه، وأَنه ربما ضحك حتى تبدو نواجذه، لكن من غير قهقهة، وفي كون التبسم غالب أحواله عند السرور يقول البوصيرى مادحًا: سَيِّدٌ ضَحِكُهُ التَّبَسُّمُ وَالْمَشْـ ... ـيُ الْهُوَيْنَا وَنَوْمُهُ الْإِغْفَاءُ ومعنى الآية: فتبسم سليمان - عليه السلام - من أَجل قولها، سرورًا بما أَلهمها الله إياه من حسن حاله وحال جنوده، وابتهاجًا بما خصه الله به من سماع قولها وإدراك مقصدها منه، وتعجبًا من حذرها وتحذيرها جماعتها وإِدراكها مصالحها، وقال: يا ربي أَلهمنى أَن أَشكر ما أَنعمت به عَليَّ وعلى والديَّ من جلائل النعي الدينية والدنيوية، واكفُفْنى عن التقصير في شكرها، ووفقنى إِلى أَن أَعمل صالحًا ترضاه من مثلى، وأَدخلنى برحمتك في جملة عبادك الصالحين الذين هم أهل لرضوانك والفوز بجناتك، يقول. ذلك هضمًا لنفسه ووالديه واعتبارهم مقصرين عن درجة الصالحين مع أَنه وأَباه داود - عليه السلام - من خيرة المرسلين، وأُمه زوجة نبي وأُم نبي، فكيف لا يكونون في قمة الصالحين، ولكنه تواضع الكاملين - عليه السلام -. ¬

_ (¬1) وفعله بسم يبسم كجلس يجلس، وأطلق التبسم على أول الضحك؛ لأنه يبدو فيه ما تقدم من الأَسنان.

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)} المفردات: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ}: تعرف موجوده من مفقوده. {الْهُدْهُدَ}: طائر معروف، ويكنى بأَبي الأخبار. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: بحجة واضحة تبين عذره. {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}: فلبث زمانًا غير مديد. {بِنَبَإٍ يَقِينٍ}: بخبر حقيقي. التفسير 20 - {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}: أصل التفقد: التعرف على المفقود، والمراد منه هنا: استعراضه الطير والنظر إليها ليعرف موجودها من مفقودها، والطير: اسم جمع يطلق على الواحد والمتعدد، والمراد هنا: جنس الطير وأنواعه، وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، ولذا استعرضها ونظر إليها، ليتعرف أحوالها. ونقل ابن كثير عن ابن إسحاق: أَن سليمان - عليه السلام - كان إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير، وكان - فيما يزعمون - يأْتيه من كل صنف من الطير طائر كل يوم، فنظر فرأى من أصناف الطير ما حضر، إلاَّ الهدهد، فقال: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أَخطأَه بصرى بين الطير، أم غاب فلم يحضر؟: اهـ

ونقل الآلوسى عن عبد الله بن سلام أن سليمان - عليه السلام - نزل بمفازة لا ماءَ فيها، وكان الهدهد يرى الماءَ في باطن الأَرض فيخبر سليمان بذلك، فيأْمر الجن فتكشف الأرض عن الماء، فاحتاجوا إلى الماء فتفقد الطير لذلك فلم ير الهدهد فسأَل عنه. ونقل القرطبي عن أبي مجلز أَن ابن عباس قال لعبد الده بن سلام: أريد أن أَسأَلك عن ثلاث مسائل، قال: أَتسأَلنى وأنت تقرأُ القرآن؟ قال: نعم - ثلاث مرات - فقال: لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير؟ قال: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه، وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير. وقد أخذ ابن عباس بما قال ابن سلام. قال مجاهد: قيل لابن عباس: كيف تفقد الهدهد من الطير؟ فقال: نزل منزلًا ولم يدر ما بُعدُ الماءِ، وكان الهدهد مهتديًا إليه، فأراد أَن يسأله. قال مجاهد: "فقلت: كيف يهتدى والصبى يضع له الحبالة فيصيده؟ فقال: إذا جاءَ القدر عمى البصر. قال ابن العربى: ولا يقدر على هذا الجواب إلاَّ عالمُ القرآن. ونحن نقول: إن صَحَّت هذه الفراسة عن الهدهد، فذاك شأْن آخر يختلف عن وقوعه حبيسًا في الفخ، فإن فراسته بحسب تكوين الله لا تمتد لإِدراك الغيب الذي كتبه الله عليه، فإنه مستقبل، أَما الماءُ فهو موجود تحت الأرض وإن كان خفيًّا، والموجود يدرك بالإِحساس الداخلي لبعض الحيوانات، كالكلاب تدرك الزلازل بأَسباب تحسها داخليًّا، ولكنها لا تدري أن الطعام الذي قدمه الصياد لها مسموم ليقتلها به، وبالجملة فمناهج التكوين الإِلهي لخليقته عجيبة، فسبحان الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى. ومعنى الآية: ونظر سليمان - عليه السلام - إلى جنوده من الطير، ليتعرف ما حضر منها وما غاب دون استئذان منه، فلم ير الهدهد في جملة الطير التي تظله وتعلوه، فقال: ما الذي جعلني لا آراه؟ أهو موجود بين أنواع الطير ولكنى لا أراه؟ ثم لاح له أَنه غائب فقال متسائلا: بل أكان من الغائبين، ولما تحقق له غيابه توعده. قائلا: 21 - {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: أي: لأُعذبنه على غيابه دون استئذان مني عذابًا شديدًا، بنحو نتف ريشه وتجويعه، أَو لأَذبحنه أو ليأْتينى بحجة قوية مبينة لعذره في تغيبه عن مكانه بين سائر أنواع الطير.

وإتيانه بسلطان مبين ليس من جملة المحلوف عليه، فقد حلف على عقابه بالتعذيب أو الذبح، أما قوله: أو ليأْتينى بسلطان مبين، فهو في قوة الاستثناء، فكأَنه قال: إلاَّ أَن يأْتينى بسلطان مبين فلا أُعذبه ولا أَذبحه؛ لأن سليمان لا يقسم على فعل الهدهد، قال الآلوسى: إن هذا الشق ليس مقسمًا عليه في الحقيقة، وإنما المقسم عليه الأَولان، وأُدخل هذا في سلكهما للتقابل، وهذا - كما في الكشف - نوع من التَّغْليب لطيف المسلك، ومآل كلامه - عليه السلام -: ليكونن أَحد الأُمور الثلاثة: على معنى: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أَحدهما، فأَوْفى الموضعين للترديد: انتهى كلام الآلوسى. 22 - {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}: {سَبَإٍ} قرأه الجمهور مصروفًا - أي: منونًا - على أنه اسم لِحيٍّ من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {مِنْ سَبَإٍ} - بفتح الهمزة غير مصروف - على أنه اسم للقبيلة، ثم أُطلق على الإقليم أو البقعة التي يعيشون فيها بأَرض اليمن. ومعنى الآية: فمكث الهدهد زمانًا غير بعيد خوفًا من سليمان - عليه السلام - ثم عاد وقال لسليمان - عليه السلام - مبينًا سبب تخلفه عن مكانه بين الطير: اطلعت على ما لم تطلع عليه أَنت ولا جنودك، وجئتك من سبأ بخبر حقيقى لا ريب فيه. واختار الهدهد هذا الأُسلوب في ابتداءِ كلامه، لترغيبه في الإصغاءِ إلى اعتذاره، واستمالة قلبه نحو قبوله، فإن النفس يشتد إقبالها على تلقى ما لم تعلم، وتميل إلى قبول عذر من أَتاها به بعد غياب دون إذن. وقال الإمام البيضاوى: وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه على أن في خلق الله - تعالى - من أَحاط علمًا بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر لديه علمه. ويقول البيضاوى في سبب غياب الهدهد: روى أنه - عليه السملام - لما أَتم بناء بيت المقدس تجهز للحج، فوافى الحرم، وأَقام به ما شاء، ثم توجه إلى اليمن، فخرج من

مكة صباحًا فوافى صنعاءَ ظهيرة، فأَعجبته نزاهة أرضها، فنزل بها فلم يجد الماء، وكان الهدهد رائده؛ لأَنه يحسن طلب الماء، فتفقده لذلك فلم يجده، إذ حَلَّق حين نزل سلمان، فرأَى هدهدًا واقعًا فانحط إليه، فتواصفا وطار معه لينظر ما وصَفَ له، ثم رجع بعد العصر، وحكى ما حكى اهـ. ونحن نقول: الله أعلم بحال تلك الرواية، أَلها أَصل أَم هي من الحكايات التي ليس لها دليل؟ {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} المفردات: {عَرْشٌ عَظِيمٌ}: العرش؛ سرير الملك. {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}: أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله. {يُخْرِجُ الْخَبْءَ}: الخبء؛ ما خفى في غيره، وإخراجه: إظهاره. التفسير 23 - {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}: بعد أن شوق الهدهد سليمانَ إلى معرفة السر الذي غاب عن مجلسه من أَجله بقوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} بعد أن شوقه إلى ذلك عقبه ببيان هذا السر الذي حكته هذه الآية.

والمرأة التي كانت تملك سبأَ اسمها (بلقيس بنت شراحيل) كما يقول المؤرخون والمفسرون، فقد كانت ملكة عليهم وحاكمة لهم في إقليم مأْرب، وقد كانت المسافة بين معسكر سليمان في صنعاء، وبين مأْرب مسيرة ثلاث ليال - كما ذكره القرطبي - فكيف خفى أَمرها على سليمان وجنوده من الإنس والجن؟ والجواب: أن الله أخفى أَمرها لمصلحة ستُعرف من قصتها، كما أخفى أمر يوسف على يعقوب ليجده في النهاية حاكم مصر وسيدها المطاع. والمراد من إيتائها من كل شيءٍ: أن الله - تعالى - أَعطاها من أسباب قوة الملك ما جعل لها سلطانًا قويًّا على قومها وبين جيرانها. وقد ذكر المفسرون في وصف طول عرشها وعرضه وارتفاعه وجواهره أمورًا عجيبة لم نجد لها أصلًا فتركنا ما قالوه اكتفاءً بوصفه في الآية بأنه عظيم، والله أعلم بعظمته كيف كانت. ومعنى الآية: إنِّي وجدت امرأة عظيمة العقل والجاه تملك قومها سبأَ وقد أَعطاها الله من كل شيء يحقق لها السيطرة على قومها، والعزة والجاه فيما حولها، ولها سرير عظيم تجلس عليه في أبهة الملك، حينما يلقاها عظماءُ قومها أو سواهم. وقدر أثار المفسرون لهذه الآية مسأَلة حكم المرأَة وقضائها في كتب التفسير الموسعة، وبخاصة التي تعنى بالأحكام الفقهية، وانتهوا إلى أنها لا تلي شيئًا من ذلك، مستندين إلى ما رواه البخاري من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بلغه أن أهل فارس قد ملَّكوا بنت كسرى قال: "لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة". 24، 25 - {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}: تحكى الآية السابقة بأُسلوب الاستئناف، وهاتان الآيتان بعدها بقية ما رواه الهدهد لسليمان - عليه السلام - عن مملكة سبأَ.

والمعنى: وجدت هذه الملكة وقومها يسجدون للشمس عابدين لها، متجاوزين عبادة الله معرضين عنه، وقد زين لهم الشيطان أَعمالهم المجافية للحق في العقائد والسلوك، فصرفهم عن السبيل الموصلة إليه، فهم لأَجل ذلك لا يهتدون إلى الصواب - صرفهم - لئلا يسجدوا لله الذي يظهر الخفى في السموات، فيجعل الكواكب إلى أخفاها النهار تبدو في الليل، والشمس التي أخفاها الليل تبدو بالنهار، والأَمطار المحبوسة في الفضاء تبدو بهطولها، وغير ذلك مما يكشفه الله من أسرارها، ويظهر ما اختبأَ في الأرض من الكنوز التي لا تحصى أنواعها، والنبات الذي لا تعد أجناسه وخصائصه وغير ذلك مما يكشفه لنا من خباياها، ويعلم ما يخفيه هؤلاء الذين يعبدون الشممس وما يظهرونه، وليس للشمس شيءُ من ذلك، فهي مسخرة لله تعالى، فكيف ينصرفون عن عبادته إلى عبادتها؟ 26 - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}: هذه الآية تحكى آخر ما ذكره الهدهد لسليمان بشأْن غيابه عنه دون إذن، وهي - كالتعليل لوصفه الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالقدرة على إخراجه الخبءَ في السموات والأرض، وعلمه بأَحوال من يعبدون الشمس من دونه. والمعنى: الله لا معبود بحق إلَّا هو، رب العرش العظيم الذي لا حد لعظمته، فكيف تركوا عبادته لعبادة الشمس التي هي من مقدوراته ومخلوقاته؟ والعظيم - بالجر - وصف للعرش، ويكفى في الدلالة على عظمته، أن الكرسى الذي وسع السموات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، كما ورد في السنة - فأين عظمة عرش ملكة سبأَ من عظمة عرش الرحمن - سبحانه وتعالى -؟ بعد، فإن الإنسان ليقف مبهورًا أمام قصة هذا الهدهد، كيف استطاع أن يتعرف على أحوال مملكة سبأَ وعقائدها بهذه الدقة، وأن يلومهم على تركهم عبادة الله إلى عبادة الشمس، مع أنها وعابديها تحت سلطانه وعلمه - جل وعلا -. وإن المرءَ ليعجب من وصول الطير في العلم باللهِ إلى هذه الدرجة، في حين أن بعض البشر لم يصلوا إلى مثلها، ولا نجد شيئًا نقوله أمام هذه العجائب خيرا من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 44.

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} المفردات: {سَنَنْظُرُ}: من النظر؛ بمعنى التأَمل، أي: سنتحرّى ونتحقق. {أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}: ادفعه إليهم وأوصله لهم. {تَوَلَّ عَنْهُم}: توَارَ وتَنَحَّ إلى مكان تغيب فيه عن أبصارهم. {فَانْظُرْ}: فانتظر أو تعرَّف. {مَاذَا يَرْجِعُونَ}: أي؛ بماذا يجيبون، ويرد بعضهم على بعض في شأْن الكتاب. التفسير 27 - {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ ... } الآية. كلام مستأْنف وقع جوابًا عن سؤال نشأ من حكايته كلام الهدهد. كأَنه قيل: فماذا فعل سليمان - عليه السلام - بعد اعتذار الهدهد؟ فقيل: قال: سننظر. والمعنى: قال سليمان - عليه السلام - ردًّا على الهدهد فيما اعتذر به عن غيابه عن مكانه بين الطير بغير إذنه - قال -: سنتحرى ونعرف أصدقت فما قلت؟ أم أَنك كنت من جملة أهل الكذب الممعنين فيه؟ والعدول عن التعبير بقوله: أصدقت أَم كذبت إلى قوله: {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} للإيذان بأَن كذبه بهذا الأُسلوب المنسق، ومع نبى الله سليمان يقتضي إيغاله في الكذب، وانتظامه في سلك المتعمقين فيه إن لم يكن له ما يصدقه. وفي هذا الأُسلوب دليل على أَن الإِمام يجب عليه أن يتحرى عند الاعتذار قبل أَن ينزل العقوبة بمن ظاهره الخطأ، فربَّما كان صادقًا في اعتذاره، وفي الصحيح: "لا أحد أحب إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب، وأرسل الرسل".

28 - {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا ... } الآية. الأمر بالذهاب للهدهد، واختصه به لأَنه صاحب العذر. وقوله: {بِكِتَابِي هَذَا} يدل على أن سليمان - عليه السلام - أعدّ الكتاب بعد أن أَخبره الهدهد بقصة أهل سبأ. والمعنى: توجه بكتابي هذا الحاضر بين يديّ إلى الملكة بلقيس ومن هم على دينها من قومها فأَلقه إليهم، وادفعه لهم، ثم تنَحَّ عنهم إلى مكان تختفى فيه عن أَبصارهم وتسمع كلامهم، ثم انظر وتعرف ما يجيبون، وما يرد بعضهم به على بعض، وما يجرى بينهم من مراجعة وحوار حول مضمون هذا الكتاب. وقد جرى الأُسلوب بضمير الجمع لأَن مضمون الكتاب دعوتهم جميعًا إلى الإِسلام وفي قوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} توجيه إلى الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه الرسل في معاملة الملوك، مع تنبيههم إلى اليقظة، وحدة الانتباه. {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} المفردات: {الْمَلَأُ}: أشراف القوم وأَصحاب الرأى فيهم. {كَرِيمٌ}: لكرم مضمونه، أَو لشرف مرسله. {تَعْلُوا عَلَيَّ}: تتكبروا وتتجبروا. {مُسْلِمِينَ}: مؤمنين، أو منقادين طائعين. التفسير 29 - {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}: روى أن سلمان - عليه السلام - كتب كتابًا، وختمه بخاتمه، ودفعه إلى الهدهد ليحمله إلى بلقيس، فطار به إليها، وألقاه من كوة في بيتها، فقرأته ولم تذكر

هذه التفاصيل، جريًا على عادة القرآن من الاقتصار على الضرورى للعبرة، وترك ما هو بدهى، وللإيذان بكمال مسارعة الهدهد إلى تحقيق ما أمر به. والمعنى الإجمالي: قالت الملكة لأشراف قومها، بعد أن أخذت الكتاب وقرأته، ورأت ما رأت من أمر الهدهد في دخوله وإلقائه الكتاب إليها وتنحيه، وغير ذلك مما يعرب عن عظمة مرسله، قالت: يا أيها الأشراف من قومي إنِّي ألقى إلي كتاب كريم في شرفه وشرف مرسله وعلو مكانه. وفسر ابن عباس وغيره الكريم هنا بالمختوم، وهو معنى لغوى، فكرمُ الكتاب ختمه. وفي شرح أدب الكاتب لابن المقفع يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم، إذا ختمه وقال ابن المقفع: "من كتب إلى أخيه كتابًا، ولم يختمه فقد استخف به". 30، 31 - {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}: أي: إن هذا الكتاب من سليمان نبي الله، وإن مفتتحه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ولم يسبق بها كتاب قبله، وإن مضمونه ألاَّ تعلوا على وائتونى خاضعين ولا تتكبروا وتتجبروا وتأْخذكم العزة بالإثم فتجنحُوا إلى العصيان والتمرد، أو ائتونى مسلمين، مؤمنين بدعوتى طائعين منقادين لرسالتى، ففي هذا أَمنكم، وأَمانكم، وسلامة دنياكم وسعادة آخرتكم. وجاءَ الكلام في هذه الآية مؤكدًا (بإِنَّ) كما جاء مؤكدًا قبل ذلك بها في قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} - اعتناء بشأْن الكتاب، واهتمامًا بسموّ مضمونه.

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} المفردات: {أَفْتُونِي}: أشيروا على بما عندكم من الرأي. {قَاطِعَةً}: قاضية وفاصلة. {تَشْهَدُونِ}: تحضرونني وتدلون بآرائكم. {أُولُو قُوَّةٍ}: وفرة في العدد. {وَأُولُو بَأْسٍ}: نجدة مفرطة، وبلاء في الحرب. {وَالْأَمْرُ إِلَيْك}: والرأى في بتِّ الأُمور إليك موكول. التفسير 32 - {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}: قالت بلقيس للملأ من قومها وأشرافهم وهم شهود في مجلسها: يا أيها الملأ أفتوني وأشيروا عليّ بما عندكم من الرأي في هذا الأمر الخطير الذي جاءَ برسالة سليمان، وقد اعتدت أن أسمع رأيكم، وأنتفع بمشورتكم في كل ما يحدث لي، ويجدّ في ملكى، ما كنت أقطع في أمر ولا أقضى فيه حتى تحضروا وتشيروا فيه برأيكم، وتكرر نداؤها للملإ من قومها مع وحدة الموضوع، اهتمامًا بالأَمر، وجذبًا لانتباههم وإثارة لأفكارهم. 33 - {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}: أي: قال الملأ من قومها، وقد فهموا أنها تهدف من كلامها إلى الاستيثاق من تأْييدهم والاطمئنان على مدى استعدادهم لنصرتها، والوقوف إلى نجانبها إذا رأَت عصيان الدعوة ومقاومتها. قالوا: نحن أصحاب قوة فائقة، في العَدَدِ والعُدَد، وأصحاب شدة وبلاءٍ في الحروب لا ترهبنا قوة، ولا ينهنهنا وعيد، وهذا دورنا وهذه مهمتنا، وأَما البت

في الأُمور فهو موكول إليك تقضين فيه بما تشائين سلمًا وحربًا، ولك علينا الطاعة في كل ما تريدين، وما تأْمرين، فانظرى أي شيء ترينه وتأْمرين به نكن في طاعتك. {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} المفردات: {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً}: أي دخلوها محاربين. {أَفْسَدُوهَا}: خربوها وقلبوا أوضاعها واتلفوا عمرانها. {أَذِلَّةً}: مُهَانينَ بالقتل، والأسر، والإجلاءِ عنها، جمع ذليل. {هَدِيَّةٍ}: عطية عظيمة، والهدية: اسم لما يهدى، كالعطية: اسم لما يعطى. التفسير 34 - {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا ... } الآية. قالت بلقيس - تعليقًا على ما قاله الملأَ من قومها وقد أَحست من لحن قولهم وفحواه الميل إلى الحرب، والعدول عن سَنَن الصواب، فأَرادت ردهم إلى الرشاد - قالت: إِن شأْن الملوك وسلوكهم إذا فتحوا قرية - أية قرية - وغلبوا أهلها - خربوها، وأتلفوا ما فيها من أَموال، ونكسوا أحوالها، وجعلوا أعزة أهلها وسادتها أذلة مُهَانين بالقتل، والأسر والإِجلاءِ وغير ذلك من صنوف الإهانة والإذلال. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يحتمل أن يكون من كلام بلقيس تدعيمًا لرأيها، وتأكيدًا لما وصفته من حال الملوك الفاتحين، وتقريرا بأَن ذلك من سياستهم المستمرة وسلوكهم الدائم. ويحتمل أن يكون من جهته - عز وجل - تصديقًا لقولها على ما أَخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

35 - {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ... } الآية. هذه الآية تتميم لكلامها مع الملأ من قومها الذي أرادت به أن تنبئهم بما استقر في ذهنها من أمر سليمان - عليه السلام - الذي سخر الله له الجن، والطير يرسلها إلى ما يشاءُ، وأَنه من القوة بحيث يغلبهم على أَمرهم إذا قاتلوه، فيفسد القرى، ويدل الأعزة وختمت رأْيها بقولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} عظيمة حافلة تليق بالملوك، تشبع نهمهم وتطفيء نار حقدهم، وتطمعهم في الصداقة، وتغريهم بالمودة، روى أنها قالت لقوْمهَا: إن كان ملكا دنيويًّا أرضاه المال، وعملنا له بحسب ذلك، وإن كان نبيًّا لم يرضه المال وينبغى أَن نتبعه على دينه. اهـ وجاء في ابن كثير عن ابن عباس وغير واحد أنها قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه. وقوله تعالى حكايته عنها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} معناه: فمنتظرة بعد وصول الهدية إليهم، واطلاعهم عليها - بأَي شيء يرجع إليّ المرسلون بالهدية فأعمل بما يقتضيه الأمر، نقل ابن كثير عن قتادة أنه قال: ما كان أَعقلها في إسلامها وشركها. {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} المفردات: {أَتُمِدُّونَنِ}: تساعدونني: {لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لا طاقة لهم بلقائها، وأصل القِبَل: المقابلة، ثم جعل في الطاقة. (صَاغرون): مهانون أذلة.

التفسير 36 - {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ (¬1) بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}: أي: فلما جاء الرسولُ سليمانَ - عليه السلام - بالهدية قال - موجهًا الكلام إليه وإلى من معه وإلى المُرْسِل إنكارًا عليهم، وتوبيخا لهم -: أتعطوننى مالًا وعندى منه ومن غيره كثير، فما أعطانى الله من الملك والمال والنبوة خير مما أَعطاكم، فلا أَطمع في مال ولا أفرح به، بل أنتم الذين تفرحون بالمال الذي يهدى إليكم وتحرصون عليه، وتطيب نفوسكم به لقصر همتكم على الدنيا، وحبكم الزيادة فيها، والمكاثرة والمفاخرة بها. 37 - {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}: من جملة كلام سليمان - عليه السلام - لرسول بلقيس، وأفرده بالذكر لاختصاصه بالرجوع. دون من كان معه من المرسلين. والمعنى: ارجع - أيها الرسول - إلى بلقيس، وقومها بالهدية، وبلغهم مقالتى بشأْنها، ووجوب استسلامهم إلينا، فإِن لم يأْتوا مسلمين فوالله لنأْتينهم، ولندفعن إليهم بجنود لا طاقة لهم بلقائها ولا قوة لهم على قتالها، وليكونن لنا الغلب عليهم، ولنخرجنهم من مملكتهم سبأ أَذلة مهزومين وهم صاغرون أسارى مستعبدون. ¬

_ (¬1) قرأ هكذا حفص بحذف ياء المتكلم تخفيفا.

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} المفردات: {عِفْرِيتٌ}: مارد خبيث، ويقال له: عِفْرية وعِفْر. {لَقَوِيٌّ}: لقادر لا يثقلنى حمله. {أَمِينٌ}: لا اختلس ولا أُغيّر فيه. {مِنْ مَقَامِكَ}: من مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء، أو من جلستك {لِيَبْلُوَنِي}: ليختبرنى. التفسير 38 - {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}: هذا القول يقتضي قولًا آخر يرشد إليه سياق القصة؛ أي: فرجع الرسول بالهدية لي بلقيس، وأَخبرها بما أقسم عليه سليمان فعرفت أنه نبى لا طاقة بها بقتاله، وتجهزت للمسير إليه، وعلم سليمان بخروجها إليه فقال: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أي: يحضره عندي على حاله التي هو عليها قبل أن تأْتينى هي وقومها منقادين طائعين؟

وإِنما طلب سليمان - عليه السلام - إحضار العرش قبل أن يأْتوه مسلمين ليريها القدرة التي مكن الله - تعالى - له فيها، والآيات التي أيده بها، فأراد أن يُغْرب عليها، ويريها بذلك بعض ما يخصه الله به من إجراء العجائب على يده. وقيل: أراد - عليه السلام - من إحضار العرش أن يختبر عقلها، ودقة إدراكها للأُمور فيعرضه عليها بعد أن يغير من معالمه، ويُبَدِّل في أَوضاعه، فيرى أتعرفه أم تنكره؟ وما قيل من أنه - عليه السلام - أَراد أن يتملكه قبل أن يعصم الإِسلام أنفسهم، وأَموالهم، لا يناسب مقام النبوة، ولا يتواءَم مع موقفه من الهدية، والتحدث بنعمة الله - تعالى - عليه. 39 - {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)}: أي: قال خبيث مارد من الجن مجيبًا سليمان - عليه السلام -: أنا أحضره لك قبل أن ينفض مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من أول النهار إلى الظهر، كما قيل، أو قبْل أن تنهض من جلستك هذه التي تجلسها، وإني على إحضاره لك لقوى متمكن لا يثقلنى حمله، أمين لا أَختلس منه ولا أغير فيه. 40 - {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الآية. أي: قال الذي عنده علم من الكتاب، بعد أن سمع مقالة العفريت، وكأنه رأى أن التوقيت الذي وقَّته بعيد بالنسبة لما يُحسُّه في نفس سلمان - عليه السلام - قال: أنا آتيك به قبل أَن يرجع إليك بصرك الذي تمدّه في الفضاءِ لتنظر شيئًا بعيدًا أمامك. والذي عنده علم من الكتاب قيل: هو آصف بن برخيا وزير سليمان، وقيل: الخضر - عليه السلام - وقيل: جبريل - عليه السلام - أو ملك أيده الله به. وقال الجبائى: الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان نفسه، وكان التعبير بهذا الأُسلوب للدلالة على شرف العلم، وأن هذه الكرامة كانت بسببه، ويكون الخطاب في قوله: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} للعفريت لأنه تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بين الحاضرين، وإنما لم يأْت سليمان بالعرش ابتداءً، بل استفهم، ثم قال ما قال وأَتى به ليريهم أنه يتأَتى له ما لا يتهيأُ لعفاريت الجن، فضلًا عن غيرهم، وقد استظهر هذا القول لوجوه:

أولًا: أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب، وهذا هو سليمان - عليه السلام -. ثانيًا: إحضار العرش في تلك اللحظة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأَحد من أمته دونه لاقتضى تفضيله على سليمان، وهذا غير جائز. ثالثا: لو افتقر سليمان في إحضاره إلى أحد من أُمته لاقتضى قصورَ حَاله في أَعين الناس. رابعًا: وأَخبرا أن قوله - عليه السلام -: "هذا من فضل ربي" يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله بدعائه - عليه السلام -. وسواءٌ أكان الذي عنده علم من الكتاب سليمان أَم غيره، فإحضار العرش على هذه الصورة مثل عال لقدرة الله - تعالى - أَظهره إمَّا معجزة لنبى، أَو كرامة لولي وهذا فضل الله يؤتيه من يشاءُ. وقوله تعالى {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي}: معناه؛ فلما رأى سليمان - عليه السلام - العرش حاضرًا أمامه، قارًّا في موضعه حيث أراد، قال: هذا النصر والتمكين مما تفضل به عليَّ ربي ليتعبدنى ويختبرنى أَأَشكر نعمته علي أم أكفرها، ومن شكر فإِنما يشكر لنفسه؛ لأن نفع ذلك يعود عليه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها؛ قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} والشكر قيد النعمة الوجودة، وصيد للنغمة المفقودة، ومن كفر فلم يشكر النعمة، وأَبطرته، فإن الله غنى عن شكره، كريم في تفضله على خلقه، يرزق البار والفاجر والشاكر والكافر، وحسابهم يوم تبلى السرائر.

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} المفردات: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}: غيروا هيئته، وبدِّلُوا أوضاعه. {وَصَدَّهَا}: منعها وردها. {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي}: نعرف من أمرها وحالها أتهتدى إليه؟ التفسير 41 - {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}: قال سليمان - عليه السلام - بعد أن رأى العرش مستقرا ثابتًا أَمامه - قال - لمن حوله من الجنود والأتباع: غيروا لبلقيس معالم عرشها، وبدلوا أوضاعه بحيث تختلف فيه الرؤية، ويختلط النظر لنعرف ونعلم من حالها، أتهتدى إلى أنه عرشها، ولم يضللها التنكير والتبديل؟ {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ}: أي أم تكون من ضعف الملاحظة، ودقة الإدراك بحيث لا تعرفه، فتكون من جملة الذين لا يهتدون إلى الجواب الصواب، وإدراك دقائق الأُمور، روى عن ابن عباس وغيره أن تنكيره كان بالزيادة والنقص فيه، وقيل: بغير ذلك. 42 - {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}: أي: فلما جاءت بلقيس سليمان - عليه السلام - ومثلت عنده، والعرش مستقربين يديه قد جرى فيه من التنكير والتغيير ما أمر به، قيل لها على سبيل الاختبار: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ أي: انتبهى ودققى النظر، أمثل هذا عرشك الذي تركته ببلادك، وتحفظت عليه بكل أساليب التحفظ؟

ولم يكن السؤال: أهذا عرشك بغير كاف التشبيه، زيادة في إبهام أَمره عليها، ولم يصرح بالقائل لها لأَنه لا يتعلق بذكره غرض، ولأَن السؤال سؤال تعمية وتلبيس لا يجمل معه ذكر السائل، وكان جوابها: {كَأَنَّهُ هُوَ} غاية في دقة الفكر، وكمال رجاحة العقل، حيث لم تقطع بأَنه هو، أو ليس هو، فضلًا عمَّا فيه من مواءَمة ما في السؤال من الإبهام والإعجام. وقوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}: يحتمل أن يكون من كلام بلقيس على ما اختاره جمع من المفسرين، كأَنها استشعرت من سؤالها اختيارهم لها فأَجابت بما يفيد أنها أُوتيت قبل هذه المعجزة أو هذه الحالة العلم بكمال قدرة الله تعالى، وصدق نبوة سليمان بما شاهدت من أمر الهدهد، وما سمعت من أخبار رسلها، وكانت مؤمنة بهذه الرسالة منذ ذلك الوقت، وقيل: إن الكلام من قوله: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} إلى قوله: {مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} مقول على لسان سليمان وقومه، كأنهم لمَّا سمعوا جوابها: {كَأَنَّهُ هُوَ} استحسنوه، وقالوا: أصابت، وعلمت قدرة الله، وصحة نبوة سليمان وقد أوتينا العلم بذلك من قبلها وكُنَّا به مسلمين، كما قالوا ما تضمنته الآية التالية، والأول هو الظاهر. 43 - {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}: أي: وصد بلقيس عن تعجيل إظهار إسلامها وتصديقها برسالة سليمان ما كانت تدين به من عبادة في الكفر، متأصلة في الوثنية، فلما حضرت إلى سليمان، وأمنت بطش قومها أَعلنت إسلامها، وأَظهرت ما كانت تضمره منذ ظهرت لها المعجزات.

{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} المفردات: {الصَّرْحَ}: القصر، وكل بناءٍ عال، ومنه: ابْن لي صرحًا، وقيل: صحن الدار. {لُجَّةً}: ماء كثيرا غامرًا. {مُمَرَّدٌ}: مُملَّسٌ. {قَوَارِيرَ}: زجاج، جمع قارورة. التفسير 441 - {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا}: كلام مستأْنف بعد الفراغ من امتحانها السابق. كأَنه قيل: فماذا كان بعد امتحانها؟ وطوى ذكر القائل على حد طيه في قوله: {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}. والمعنى: قيل لبلقيس بعد أن أدت الامتحان الذي أُريد لها، وظهرت رجاحة عقلها ودقة إدراكها للأمور - قيل لها -: ادخلى القصر. وقد قيل: إن سليمان - عليه السلام - كان قد أمر الجن قدومها فبنوا لها قصرًا على طريقها من زجاج أبيض أَملس، وأجرى من تحته الماء، وألقى في الماءِ ما يكون فيه عادة من حيتان وأصداف، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، ليزيدها استعظامًا لأَمره، وتحققًا من نبوته، وثباتًا على الدين، وما قيل من أنه ذكرت عنده بأنها شعْراءُ (¬1) فأَراد بذلك تعرف حالها، يجافى مقام النبوة وقداسة الأنبياء، وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} معناه: فلما رأَت القصر، وعاينت هيئته وأَحواله ظنته ماءً غمْرًا فكشفت عن ساقيها، فعل من يريد خوض ¬

_ (¬1) أي: في ساقيها شعر.

الماءِ حذرًا من أَن يبتل طرف ثوبها، ورأَى سليمان منها ذلك، وأَحس دهشتها وحذرها وقال لها: إنه صرح مملس من زجاج أَبيض صاف، فلا تحذرى ولا تخافى بللًا. قالت بلقيس وقد رأت هذه القدرة الفائقة، والنعمة السابغة على سليمان - قالت -: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}: بقيامى على عبادة الشمس، وتأخير إسلامى، وأسلمت لله رب العالمين مع سليمان متابعة له. وفي التعبير بقوله: {للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} حسب ما يقتضيه سياق الأُسلوب، التفاتٌ إلى الاسم الجليل، ووصفه بربوبيته العالمين لإظهار ما تم لها من كمال معرفتها الأُلوهية، واعتزازها بربوبيته، وتأْكيدًا لاستحقاقه التوحيد والعبادة. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} المفردات: {بِالسَّيِّئَةِ}: المراد بها: التكذيب، أو العقوبة التي تسيءُ. {الْحَسَنَةِ}: التصديق، أو التوبة. {اطَّيَّرْنَا}: تشاءَمنا، وأصله: تطيَّرنا، قلبت التاءُ طاءً وأُدغمت في الطاء، ثم اجتلبت همزة الوصل للتوصل بها للنطق بالساكن. {طَائِرُكُمْ}: سبب شؤمكم. {تُفْتَنُونَ}: تختبرون.

التفسير 45 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}: شروع في قصة صالح - عليه السلام - بعد الفراغ من قصة سليمان، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ} معطوف على قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} في صدر قصة سليمان، وكلتا القصتين وغيرهما برهان على صحة ما جاءَ في أول السورة من قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} لأن الحديث عن أحوال الأولين وأخبار الأنبياء السابقين ليس مما يعرفه سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد له به. ومعنى الآية: والله لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته ونبذ عبادة ما عداه. وبدأت بالقسم اعتناء بشأن ما اشتملت عليه من أَخبار، وما احتوته من أحوال. وقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} معناه: فتعجلوا العصيان وجنحوا إلى الخلاف والفرقة وفاجئوا بالانقسام إلى فريقين يختصمون: فريق مؤمن مصدق وفريق كافر عاص مما جاءَ تفصيله في آيات كثيرة في سور أُخرى، منها ما جاء في سورة الأعراف من قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} إلى آخر ما جاء من الآيات. والضمير في "يختصمون" للفريقين: المؤمن والكافر؛ لأنهما شريكان في الاختصام، والاختصام وقع بعد الدعوة، وظهور الآيات وإيمان فريق منهم. والفاءُ للترتيب والتعقيب، وهو في كل شيءٍ بحسبه حتى تتأتى المفاجأَة بالتفرق والاختصام. 46 - {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: قال صالح - عليه السلام - متلطفا مع قومه، مستميلا لقلوبهم: يا قوم لِم تباكرون وتستعجلون بالمعصية، التكذيب، أو طلب العقوبة المسيئة لكم قبل التصديق والطاعة،

أو قبل التوبة التي تعصمكم من العذاب والعقوبة؟ هلا تبادرون بالاستغفار رجاءَ أَن تنالكم رحمة الله بقبوله توبتكم، فإن سنته - تعالى - عدم قبول التوبة عند نزول العذاب: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} ثم قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} وكانوا لجهلهم، وفرط غوايتهم يقولون: إن وقع وعيده تُبْنا، وإلا فنحن على ما كنا عليه. 47 - {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}: قال الفريق الكافر ردًّا على دعوة صالح لهم: تشاءَمنَا بك وبالذين اتبعوك، وكانوا معك، فمذقمتَ بدعوتك أَصابنا القحط، وشاعت فينا الفرقة، واستشرى الخلاف، قال صالح لهم: سبب شؤْمكم ومصائبكم عند الله وبقَدَره، أو كفركم وعنادكم وسوء أعمالكم المكتوبة عنده. وأصل التطير: أنه كان من عادتهم إذا خرجوا مسافرين فمروا بطائر زجروه. فإن طار إلى اليمين تيمنوا ومضوا، وإن مرَّ بارِحا إلى اليسار تشاءَموا ورجعوا. وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}: تعقيب بالحكم عليهم بالعذاب الذي ابتلاهم الله به، بسبب كفرهم ومعاصيهم، أي: بل أنتم محكوم عليكم بالفتنة، أي: العذاب. {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)} المفردات: (رهط): أي؛ رجال، ولهذا وقع تمييزًا لتسعة فإنها يتميز بالجمع المجرور، وأصل

الرهط من الثلاثة إلى العشرة، أما النفر: فمن الثلاثة إلى التسعة (¬1). (تَقَاسَمُوا): فعل أمر بمعنى احلفوا، أو فعل ماض بمعنى: تحالفوا. (لنُتَيَّتنَّهُ): لنهلكنه ليلًا. {مَهْلِكَ أَهْلِهِ}: أي، هلاك أهله، أو موضع هلاكهم. التفسير 48 - {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}: استمرار في عرض القصة، والمعنى: وكان في مدينة ثمود وهي في الحجر - كان فيها - تسعة رجال من أشراف قومها - وسادتها، وقيل: كانوا رؤساءَ وراءَ كل واحد منهم جنوده وأتباعه، منهم قدار بن سالف عاقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح، وقادة الشر فيهم، يفسدون في الأرض، ويأمرون بالإفساد فيها، ويتتبعون عوْرات الناس ومعايبهم، يظلمون الناس، ولا يمنعون الظالم عن ظلمه، ولا يعملون صالحا، ولا يدعون إليه، ولا يعرفون طريقه - فعادتهم الدائمة المستمرة الإفساد البحت الذي لا يخالطه شىءٌ من الصلاح في عمل أو قول. 49 - {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}: استئناف مبين بعض ما فعلوا من الفساد، والمعنى: ومن جملة شرهم: أنهم قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أَمر صالح - عليه السلام -: احلفوا وأقسموا وأكدوا قسمكم لنبيتن صالحا وأهله، أي: لنهلكنه وأهله بياتا وليلا حتى نتخلصن متاعبه، أو قالوا - حالفين متقاسمين - هذا القول، ثم لنقولن لوليه الذي يتولى طلب دمه إذا سأَلنا - نقول له -: ما شهدنا هلاكه وأهله فضلا عن عدم مباشرتنا إهلاكهم، ونحلف وإنا لصادقون في حلفنا حيث لم نباشر إهلاكهم بأنفسنا ولم نشاهده، أو أَنهم باشروه وشاهدوه، ولكنهم حلفوا أنهم صادقون في تبرئة أنفسهم، غير مكترثين بحلفهم وهم في الحقيقة كاذبون، والشيء من معدنه لا يستغرب. ¬

_ (¬1) انظر تفسير أبي السعود.

{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} المفردات: {وَمَكَرُوا مَكْرًا}: دبروا أمرا في احتيال وخديعة خفاءً، وهو إهلاك صالح وقومه. {وَمَكَرْنَا مَكْرًا}: جازيناهم بمكرهم من حيث لا يتوقعون. {دَمَّرْنَاهُمْ}: أهلكناهم. {خَاوِيَةً}: خالية من السكان والأهل، أو متداعية مهدمة. التفسير 50 - {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: مكرهم: ما أَخفوه من تدبير الفتك بصالح وأَهله، ومكر الله: مجازاتهم وإهلاكهم، وسميت المجازاة مكرا للمشاكلة، كما في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وكما في قوله: {ومَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} وكان صالح - عليه السلام - قد توعدهم بالهلاك خلال ثلاث ليال أهلكهم الله فيها بالصيحة فأصبحوا جاثمين، ونجى الله صالحا ومن آمن معه. والمعنى: ومكر قوم صالح فدبروا في خفاءٍ إهلاكه وأهله ليلا، وعلم الله مكرهم فقدر إهلاكهم من حيث لا يشعرون أن الله عالم بتدبيرهم، ومجازيهم، ولا يحتسبون وقوع الهلاك بهم. 51 - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِين}: أي: فتعرَّف وتأَمل أَحوالهم، وكيف كانت عاقبة ظلمهم وفسادهم وإفسادهم، لقد

كانت عاقبة ذلك أنا أهلكناهم جميعًا تابعين ومتبوعين، لم يشذ عن إهلاكهم أحد، ولم ينج فيهم تابع ولا متبوع. والأمر في قوله تعالى: {فَانْظُرْ} لرسول الله، أو لكل من يتأتى منه النظر ليعتبر بالحال العجيب التي انتهت إليها عاقبة مكرهم وفسادهم وإفسادهم. 52 - {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: والمعنى: إذا أردت مزيدا من التصديق والاستيقان فتلك بيوتهم ومساكنهم أَمامك خالية من الأهل والسكان، متداعية متهالكة بسبب ظلمهم وإفسادهم، وسوء تدبيرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي حل بهم، وجرى عليهم من سخط وعذاب لعظة وعبرة لقوم أهلًا علم وفهم، أو يعلمون عاقبة الظلم والعصيان. روى عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله - تعالى - أن الظلم يخرب البيوت. وتلا هذه الآية، وفي التوراة: "ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك" وهذا مشاهد كثيرا في كل عصر، وحجة الله على الظالمين في كل جيل. 53 - {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: أي وأنجينا صالحا والذين صدقوه وكانوا يتقون المعاصي ويقيمون على الطاعات. - أنجيناهم - من العذاب الذي حل بالكافرين منهم. روى أن الذين آمنوا بصالح كانوا أربعة آلاف، خرج بهم إلى "حضر موت" وحين دخلها مات فسميت بهذا الاسم، وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها: (حاضورا) والله أعلم بصحة ذلك. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)} المفرادت: {الْفَاحِشَةَ}: الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح. {تُبْصِرُونَ}: تعلمون عاقبة فعلها، أو يبصر بعضكم بعضا علانية أَثناءَ الفاحشة.

التفسير 54 - {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}: انتقال من قصة قوم صالح إلى أخبار قوم لوط - عليه السلام - (ولوطا) منصوب بمضمر معطوف على (أَرسلنا) في صدر قصة صالح - عليه السلام - داخل معه في حيز القسم أَي: وأرسلنا لوطا، وقيل: إن (لوطا) منصوب بـ (اذكر) محذوفا. وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرف للإرسال، على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال. والمعنى: وأَرسلنا لوطا إلى قومه لائما موبخا حين قال لهم: أتأْتون هذه الفعلة النكراء المتناهية في القبح والشناعة، وأنتم تعلمون مبلغ قبحها وشناعة جرمها وارتكابها؟ أَو وأنتم تعلمون عاقبة العصاة. ونهاية أمرهم؟ وقيل: تبصرون من الإبصار، بمعنى النظر بالعيون، والمعنى: تفعلونها جهارا علانية وأنتم ينظر بعضكم إلى بعض، والمراد بالاستفهام في قوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} استبعاد فعلها، واستنكار ارتكابها. 55 - {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: تكرار للكلام عن فاحشتهم لمزيد الإنكار، وبيان حقيقتها بطريق التصريح بعد الإبهام، وتصدير الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأَن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد؛ لكمال شناعته وفظاعة مجانته، فلهذا احتاج إلى تأْكيد وقوعه، وإعادة همزة الاستفهام الإِنكارى معه. والتعبير بالرجال دون الذكور لمزيد التقبيح، والإشعار بقلب الحقيقة، وتنكيس الطبيعة، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح، وتقريع على تحكم الشهوة، وبهيمية الطبع، وقوله تعالى: {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} تنبيه إلى مجاوزة الجنس المخصص للشهوة، المخلوق للاستمتاع، انقيادًا للنزعات الفاسدة، وقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: معناه؛ بل أنتم قوم تفعلون فعل الجهلاءِ الذين لا يقدرون العاقبة، والسفهاء الممعنين في الفحش والمجانة، وفيه مزيد من التوبيخ بالإضراب الذي يدل على أنهم أهل جهل يعيشون فيه أيامهم ويتجدد معهم حياتهم.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)} المفردات: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}: المراد بهم لوط وأهله؛ كما يراد من بني آدم؛ آدم وبنوه. {مِنْ قَرْيَتِكُمْ}: هي سدوم وما حولها، ويطلق عليها القرى المؤتفكات. {أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}: أي جماعة يتنزهون من صنيعهم. {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}: أي قدر الله بقاءَها في العذاب مع الباقين فيه، والغاير: الباقي. يقال: غبر الشيء، يغبُرُ، غُبُورًا: بقى. التفسير لما أنذر لوط - عليه السلام - قومه نقمة ربهم وعذابه على أفعالهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين سخروا وَهَزِئوا به، وأجمعوا أمرهم على إيذائه، وإيذاء من معه بإخراجهم من وطنهم كما قال - تعالى - حكايته لما وقع من هؤلاء السفهاء: 56 - {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ... } الآية. أي: فما كان لهم جواب عن تحذيرهم مما هم فيه من القبائح إلاَّ قولهم: أخرجوا لوطًا ومن انتسبوا إليه ولاذوا به من المؤمنين - أخرجوهم (من قرْيتكُم) وهي سدوم وما حولها من القرى (¬1) وهي قرية من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها، ويرون آثار العذاب الذي نزل بها. ¬

_ (¬1) هاجر لوط وعمه إبراهيم - عليه السلام - من أرض بابل فنزل إبراهيم فلسطين، ونزل لوط الأردن. اهـ. البحر المحيط لأبي حيان، وذكر صاحب القاموس أن الصواب سذوم - بالذال المعجمة - وذكر شارحه أنه مضبوط بالوجهين وأن المشهور فيه إهمال الدال، وصوبه شيخه في شرح الدر.

ولم يَجِدْ هؤلاءِ المجرمون ما يتذرعون به لإخراج آل لوط من ديارهم إلاَّ قولهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فهو تعليل لجريمة إخراجهم على وجه يتضمن الاستهزاءَ بهم كما قال ابن عباس، أي: إنهم قوم يتنزهون ويتبرأون ممَّا نأْتيه، ويعدونه سفهًا وقذًرا لا ينبغي اقترافه، قال قتادة: عابوهم - والله - بغير عَيْبٍ، بأنهم يتطهرون، وقيل: يتطهرون بمعنى يتكلَّفون الطهر من أَفعالنا رياءً وتظاهرًا فحسب. ولتهوين أمر إخراجهم من القرية وما حولها أضافوها إليهم على طريق الخطاب للإشعار بأَن لهم السلطان فيها والتصرف في شأْنها، والتحكم في أَهلها من غير معارض يحول بينهم وبين ما يبتغون. والظاهر أن هذا الجواب صدر عن قوم لوط بعد المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط - عليه السلام - التي أمرهم فيها بالطاعة ونهاهم بها عن المعصية، لا أَنه لم يصدر عنه وعنهم كلام آخر غيره. 57 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}: أي: فأَنجينا لوطا وأهله، وهم ابنتاه ومن تبعه من المؤمنين، وقيل: لم يكن معه إلاَّ ابنتاه، كما قال تعالى: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). أما امرأته فكانت من الهالكين كما قال - تعالى -: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب لكفرها وموالاتها لمن ضل وغوى، كما قال - تعالى -: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} (¬2). 58 - {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}: أي: وأمطر الله - سبحانه - على هؤلاء الفاسقين مطر عذاب ونقمة فكان سيئًا لم يعهدوا له مثيلًا، فهو من حجارة قوية صلبة متتابعة النزول معْلَمة بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض، كما قال تعالى -: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} (¬3). ¬

_ (¬1) الآية 36 من سورة الذاريات. (¬2) الآيتان: 170، 171 من سورة الشعراء. (¬3) من الآيتين: 82، 83 من سورة هود.

{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} المفردات: {الَّذِينَ اصْطَفَى}: أي اختار لرسالته وهم الأنبياءُ - عليهم السلام -. {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}: أي بساتين ذات حُسْن، كل بستان عليه حائط، مِنْ: أَحدق بالشيء، إذا أحاط به، ثم توسع فيها فاستعملت في كل بستان وإن لم يكن محوطًا بحائط. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}: عن التوحيد إلى الشرك، أَو يساوون بالله غيره من آلهتهم، من: العِدْل بمعنى المثل والنظير. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}: جبالًا ثوابت. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}: أي مانعًا بين العذب والملح حتى لا يبغي أحدهما على الآخر. التفسير 59 - {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}: بعد ما قص - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - القصص الدالة على كمال قدرته، وعظيم شأْنه، وما خص به رسله من الآيات "الكبرى" والمعجزات الباهرة، أمره - صلى الله عليه وسلم - بحمده - تعالى - على ما أفاض عليه من نعم عظيمة لا مطمح، راءَها لطامح؛ حيث علمه ما لم يعلم من أخبار أنبيائه السابقين مع أُممهم واجتهادهم في الدين، وقد بين على أَلسنتهم صحة التوحيد

وبطلان الكفر والإشراك، كما أمره أن يسلم على المختارين من عباده، ويراد بهم كافة الأنبياء والمرسلين لدلالة المقام ولقوله - تعالى - في آية أخرى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (¬1) ومن جملتهم الذين قص القرآن أخبارهم، عرفانًا بفضلهم وأداءً لحق تقدمهم، وقيل: هذا أَمر له - صلى الله عليه وسلم - بحمده - تعالى - على هلاك من هلك من كفرة الأُمم، والسلام على الأنبياءِ وأتباعهم الذين اتقوا ربهم اقتداءً برسلهم فكانوا من الناجين .. ويرى ابن عباس أَن المراد من عباده المصطفين أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - اصطفاهم لنبيه - رضي الله عنهم - أخرجه عَبْدُ ابن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم. والسلام على غير الأنبياء مما لا خلاف في جوازه إن كان تابعًا للأنبياء، وقال الحنابلة وغيرهم بجوازه استقلالًا، وهذا ظاهر قول ابن عباس. وقال الزمخشرى: أُمِرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين الدالة على وحدانيته - تعالى - وكمال قدرته، وإن يستفتح بحمده والتسليم على أنبيائه والمصطفين من عباده، وفيه تعليم حسن لكل متكم في أَمر ذى بال أن يتبرك بهما وأَن يستظهر بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، وتوقيف على أدب جميل يحمل على التواضع والإخلاص، ولقد توارث العلماء والخطباءُ كابرًا عن كابر، هذه السنة الحميدة اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى باختصار. {آللَّهُ خَيْرٌ (¬2) أَمَّا يُشْرِكُونَ}: إنكار على المشركين وتوبيخ لهم أن يعبدوا غير الله. أي: أيهما خير؟ آلله الذي ذكرت شئونه العظيمة أم الذي يشركونه به من الأصنام؟ ومرجع ترديد السؤال بينهما في الخيرية إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته تعالى، وتسفيه آرائهم والتهكم بهم، وذلك لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله، ولا يؤثر عاقل شيئًا على شيءٍ إلاَّ لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة. ¬

_ (¬1) الآية 181 من سورة الصافات. (¬2) قال أبو حيان: "كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل (خير) حيث يعلم ويتحقق أنه لا شريك هناك وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ، ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر" انتهى: من تفسير الآلوسي.

ومن البين أنه ليس فيما أشركوه به - تعالى - شائبة خير حتى يوازن بينه وبين من لا خير إلاَّ خيره، ومع علمهم بذلك فقد دفعهم الجهل المفرط إلى إيثاره هوى وعبئًا وإمعانًا في الخطأ والضلال. 60 - {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ... } الآية. عدد الله - سبحانه - بهذه الآية والآيات الأربع التالية الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، وأشار بها إلى أدلة انفراده - سبحانه - بالخلق والرزق والتصرف والتدبير وبكل خواص الأُلوهية إبرازًا لكمال قدرته، حيث قال - سبحانه -: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إضراب انتقاليٌّ عن سؤالهم سؤال تقرير عمن هو خير، أهو الله القادر أم آلهتهم المزعومة، إلى إثبات الخيرية لله وحده، أي: بل من قدر على خلق السموات والأرض خير من جماد لا يقدر على شيءٍ، ولا خير فيه أصلًا يرجع إلى إرادته. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}: خطاب للكفرة لتشديد التبكيت لهم والإلزام، أي: أنزل - سبحانه - لأجلكم من السماء نوعًا من الماء وهو المطر، جعل فيه حياتكم وحياة أرضكم وزروعكم ودوابكم، كما جعل ممَّا ينبت به ما يكون متاعًا لأنفسكم، وراحة لقلوبكم، وزينة لأَبصاركم فأَنبت به - بعظيم قدرته وعجيب صنعه - بساتين ذات حسن ورونق جميل يبتهج بها الناظر إليها، ويسر بمختلف ألوانها وأشكالها وروائحها، وطعومها، مع أنها تسقى بماءٍ واحد، مما لا يقدر عليه إلاَّ من تفرد بالخلق والإبداع جل وعلا، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: ما أمكنكم، وما استطعتم - مهما بذلتم من جهد وأُوتيتم من فكر - إنبات شجرها، فضلا عن ثمرها، وسائر صفاتها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بالملك المتفرد به دون سواه، والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {فَأَنْبَتْنَا} لتأكيد اختصاص الفضل بذاته - تعالى - وعجز قوى البشر عن مثله. {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}: أي أإله آخر مع الله في خواص الأُلوهية التي لا يقدر غيره عليها حتى يتوهم جعله شريكًا له في العبادة، وهذا تبكيت لهم على اتخاذهم آلهة عاجزة مع الله صاحب القوى والقَدَر التي لا تتناهى.

{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}: انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى تبكيتهم بطريق الغيبة لبيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم؛ ليعرف أنهم قوم عادتهم الانحراف عن الحق، والعدول عن الاستقامة في كل أمر من الأُمور، حتى كان من شأْنهم ترك التوحيد وهو الحق الواضح، والعكوف على الباطل الظاهر وهو الإشراك بالله سبحانه. 61 - {أمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ... } الآية. انتقال من تبكيت المشركين بآية من آيات قدرته إلى تبكيتهم بآية أُخرى من آياتها العظيمة حيث بسط الأرض وسواها؛ ليتسنى للإنسان والحيوان الاستقرار عليها، وارتياد أماكنها، وجعل خلالها وفي أوساطها أنهارًا جارية ينتفع كل بها كل قاطنيها في شئون حياتهم، وأقام عليها جبالًا ثوابت تمنعها من أن تضطرب بأَهلها، فيختل توازنها ويكون سببًا في فناءٍ من عليها، كما أن لتلك الجبال فوائدها العديدة ومنافعها الكثيرة. وجعل - سبحانه - بقدرته مانعًا ببن الماء العذب والملح حتى لا يبغى أحدهما على الآخر. قال ابن عباس: جعل بينهما سلطانًا من قدرته، فلا هذا يغيِّر ذاك، ولا ذاك يغيِّر هذا (¬1). {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}: أي ليس هناك اله مع الله فهو المختص وحده بالإيجاد والإتقان لهذه البدائع التي أوجدها وهي من لوازم الأُلوهية التي لا يقدر عليها سواه. وإذ ثبت أن ذلك ليس في مقدور آلهتهم، فلماذا يشركونها به في العبادة؟ وهي عاجزة لا تملك لنفسها نفعًا ولا خيرا؟ إنَّ صنيعهم هذا عناد وحماقة؛ لأن أكثرهم يجهلون الحق مع وضوح آباته، ولو علموه لتبين لهم بما لا يدع مجالًا للشك بطلان ما هم عليه من الشرك، أو أن أكثرهم لا يعلمون شيئًا من الأشياء معتًّدا به فهم لذلك لا يعلمون ما يتحتم عليهم معرفته من العلم الحق الذي يوجب عليهم إخلاص عبوديتهم له - سبحانه - وحده. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبناه تفصيلًا على ذلك في قوله - تعالى - في سورة الفرقان: "وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا" 53.

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} المفرادت: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ}: المضطر، هو ذو الحاجة المجهود. {وَيَكْشِفُ السُّوءَ}: أي يرفع عنه الظلم والضر. {خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}: هم الذين يرثون سكناها والتصرف فيها. {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: أي يرشدكم بالنجوم ونحوها من العلامات. {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}: أي مبشرات قدام المطر بنزوله. {تَعَالَى اللَّهُ}: أي تنزه عن شركائهم. {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي حجتكم على أن له شريكًا. التفسير 62 - {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ... } الآية. يقرر الله المشركين بذلك على أنه هو المدعو منهم عند الشدائد المرجو عند النوازل، وأنه يجيب دعوة المضطر؛ لما عرفوه من أنه - سبحانه - يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء، ويوبخهم به على أنهم في حالة رخائهم وزوال الضرورة عنهم يعودون إلى شركهم. وكما يجيب - سبحانه وتعالى - دعاء المضطر إذا دعاه، فإنه وحده يدفع عنهم ما يعتريهم من مكاره وما يتنزل بهم من خطوب، ويجعلهم خلفاءَ الأرض لمن سبقهم يتوارثون سكناها

وينعمون بخيراتها، والتصرف فيها قومًا بعد قوم، وجيلًا بعد جيل، ولو أبقى الله الناس جميعًا ولم يجعل بعضهم خلفاءَ بعض فإن الأرض تضيق بالخلائق ويحصل لهم فيها من المشقة والعنت ما لا قبل لهم باحتماله. ثم وبخهم على شركهم بقوله - سبحانه -: {أإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فإذا لم يكن معه إله في تلك النعم فلماذا أعرضتم عنه - تعالى - بعد كل ذلك وعبدتم غيره وأنتم تعلمون أنه ليس هناك إله غير الله الخالق المنعم، قلما تتعظون لقلة تذكركم هذه النعم المذكورة في الرخاء، قلة تصل إلى العدم وتجرى مجراه في عدم الجدوى، فلو ذكرتموها في الرخاء لاهتديتم لأنها من الوضوح والظهور بحيث لا يتوقف تذكرها إلا على التوجه إليها ليعلم أنها من خصائص الأُلوهية التي لا يقدر على الاتصاف بها سواه. 63 - {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر}: أي: إن الله وحده هو الذي يرشدكم إلى الطريق في ظلمات البر والبحر إذا سافرتم ليلًا حيث جعل لكم النجوم وعلامات الأرض لتهتدوا بها ليلًا، وهداكم إلى علامات بالأَرض إذا اشتبه عليكم الطريق، كما قال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} (¬1). ويجوز أن يراد من ظلمات البر والبحر ما يحدث فيها من التباس السبيل على المسافرين ليلًا أو نهارًا، بأَن تجعل مفاوز الأرض التي لا أعلام لها، ولجج البحار كأنها ظلمات الليل؛ لأنها تشبهها في إيجاد الحيرة والتردد لعدم وجود ما يهتدى به في أرجائها. {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أي: أنه - سبحانه - هو الذي يبعث لكم الرياح أمام السحب الممطرة مبشرات بنزول المطر رحمة منه بعباده ليغيثهم به من الجفاف والجدب، وذلك بإروائهم، وإحياءِ الأرض بعد موتها بمائها لتنبت من كل زوج بهيج، كما قال - سبحانه -: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) الآية 16 من سورة النحل. (¬2) من الآية 5 من سورة الحج.

وليس مع الله إله يصنع ذلك، فقد تنزه عن الشريك والنظير بذاته المتفردة بكل خواص الأُلوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال والجلال، المقتضية لكون المخلوقات جميعها مقهورة تحت سلطانه، وفي ذلك ما فيه من التحقيق والتقرير وقوة الاستدلال على نفى أن يكون معه - سبحانه - الله آخر. 64 - {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ... } الآية. كان هؤلاء للشركون يقرون أنه - سبحانه - يبدأُ الخلق ويتكفل بالرزق، وينكرون مع ذلك البعث بعد الموت، فألزمهم - تعالت أسماؤه - الإقرار بالبعث الذي ينكرونه؛ لأنه من قدر على الفعل بدءًا كانت الإعادة عليه أَهون، أي: لا أحد سواه يقدر على أن يبدأ الخلق من عدم ثم يعيده بالبعث، وخوطب به المشركون مع إنكارهم للبعث؛ لأنه لما وضحت براهينه وتمكنوا من إدراكها جُعِلوا كأنهم معترفون بوقوعه فم يبق لهم عذر في الإنكار. {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: وهو - سبحانه - القادر وحده على أن يرزقكم من السماء والأرض بأسباب سماوية وأرضية رتبها وفق ما اقتضته حكمته ممَّا يدل على أنه ليس هناك - كما يزعمون - إله آخر موجود مع الله يقدر على فعل شيء يذكر. فإن تمسك أُولئك المشركون بعد هذا بدعواهم فقل لهم - أيها النبي موبخًا لهم ومنكرًا عليهم -: أقيموا لنا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على صحة ما تدَّعُون إن كنتم صادقين، ولن يتأَتى لهم الإتيان به مهما حاولوا، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) من الآية 117 من سورة المؤمنون.

{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} المفردات: {الْغَيْبَ}: كل ما غاب عنك، وجمعه: غيوب. {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي لا يعلمون الوقت الذي فيه يبعثون، يقال: شعر بالشيء من بابى: نَصَرَ وكَرُمَ، شعرا مثله، وشعورًا: علم به وفطن له. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ}: أي تتابع علمهم بها عن طريق الأدلة، وقيل: معناه اضمحل علمهم بالآخرة، من التدارك وهو التتابع في الفناء. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا}: أي في تردد من تحقق الآخرة نفسها. {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}: أي لا يدركون دلائلها مع وضوحها، كأَنهم فقدوا أبصارهم، ومفرده: عَمٍ. التفسير 65 - {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ (¬1) وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: بعد أن أثبت الله تفرده - سبحانه - بالأُلوهية، وبين الأدلة الواضحة التي تفيد اختصاصه بالقدرة الكاملة، والحكمة التامة في الخلق والتكوين، وإسداء النعم الجزيلة منة منه وتفضلًا على عباده عقبه بذكر ما لا ينفك عن أن يكون من شأنه وحده، وهو اختصاصه بعلم الغيب تكميلا لما قبله مما انفرد به، وتمهيدا لما بعده من أمر البعث. وقيل: إن هذه الآية نزلت لما سأل الكفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الساعة التي وعدوها وألحوا عليه - كما في البحر -. ¬

_ (¬1) لفظ: (إلا) في قوله: (إلا الله) بمعنى (لكن) أي: لكن الله يسلم الغيب دون من في السموات والأرض.

والمعنى: قل لهم - أيها النبي -: لا يعلم أحد ممن في السموات والأرض الغيب إلاّ الله فهو وحده الذي ثبت له علم الغيب على جهة اللزوم والاختصاص، وانتفى عمن سواه حتى الأنبياء. ويؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يخبر الناس بما يكون في غد، وفي بعض الروايات: يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفِريَة، والله تعالى يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ... } الآية. وعلم الغيب المنفى عن غيره - جل وعلا - هو ما كان للشخص لذات في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل كونه لأَحد من أهل السموات والأَرض، وما وقع لبعض الخواص من الإخبار ببعض الغيب فلا يقال: إنهم علموه بقدراتهم الذاتية، ومن قال ذلك كفر قطعا، وإنما يقال: أُظْهرُوا على الغيب وأُطْلِعُوا عليه، ويؤيده أن نسبة علم الغيب إلى غيره - تعالى - لم تجىء في القرآن الكريم، وإنما جاءَ الأظهار على الغيب لمن ارتضى - سبحانه - من رسول كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (¬1). أمَّا ظن الغيب بأمارات فهو ممكن لعباده فلا يكفَّر ولا يفَسَّق مدعيه، كما يحصل من علماء الفلك من الراصدين لحركات الرياح والشمس والقمر والكواكب، حين يخبرون بهبوب الرياح شديدة أو معتدلة، وبكسوف الشمس، وخسوف والقمر، وبنزول المطر وارتفاع درجة الحرارة أو اعتدالها أو نحو ذلك، فيقع الأمر كما قالوا، فليس ذلك من علم الغيب المنفي؛ لكونه بأَسباب وأمارات، فهو في واقعه ليس علمًا حقيقًّا بما سيحدث وإنما هو ظن وتخمين بأَمارات اقتضته، وقد تتخلف. أما العراف الذي يتحدث عن المستقبل ادعاءً بأَنه على علم بالغيب كقوله لمن يستخبره عن مستقبله: ستكسب مبلغ كذا، أو ستتزوج فلانة، أو تفْقِد كذا في سفرك، أو نحو ذلك فهو كافر - كما قال القرطبى -. ¬

_ (¬1) الآية: 21، 27 من سورة الجن.

والمؤمنون منهيون عن إتيان العرافين، فقد جاء في صحيح مسلم: "من أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}: أي ما يعلم كل من في المسوات والأرض أي وقت يبعثون فيه بعد موتهم؛ لأن وقت البعث والنشور من جملة الغيب الذي اختص الله - سبحانه - بعلمه، فلا يحق لهؤلاءِ المشركين أن يطالبوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من آن لآخر ببيان وقته بمثل قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) كما لا يحق لهم أن يستنكروه بمثل قولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (¬2). 66 - {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}: بين الله في الآية السابقة أن الغيب مما استأثر الله - تعالى - بعلمه، وفي جملته وقت البعث بعد الموت، فإنه من الغيوب التي اختص بعلمها العليم الخبير. وجاءَت هذه الآية لتبين أن المشركين وإن لم يؤمنوا بالبعث للحساب والجزاءِ، فقد تدارك علمهم بأن لهم آخرة ينتهون إليها، وتتابع وعيهم بأَنهم يبعثون على لسان الصادق المصدوق المؤيد بالمعجزات - صلى الله عليه وسلم - ودلت الأَمارات على إمكانه، فإنه من قدر على البدءِ فهو قادر على الإِعادة من باب أَولى، كما شهد العقل بمجيئه ولا بد، فإِنه لا يعقل أَن تزول الحياة الدنيا ولا تعقبها آخرة يجزى فيها المحسن على إِحسانه، والمسىءُ على إساءَته، فإن عدالة الله تأْبى ذلك. فهؤلاءِ المشركون تدارك علمهم وتتابع على هذا النحو، وكان عليهم أن يؤمنوا بها، ولكنهم لم يفعلوا، بل هم في شك من مجيئها، مترددون في أَمرها، بل هم من ناحيتها عُمْيٌ عن أدلتها، وكان عليهم أن يطمئنوا إلى مجيئها بقيام الأدلة عليها، وأن يعملوا لها. ومن المفسرين من فسر تدارك علمهم بالآخرة بفناء علمهم بها، كما يقال: تدارك بنو فلان: إذا تتابعوا في الهلاك، وعلى هذا يكون معنى الآية: بل فنى علمهم بشئون الآخرة، مع توافر أسبابه ودواعيه بقيام الأدلة الواضحة على مجيئها، قال صاحب القاموس: بل ادارك علمهم في الآخرة: جهلوا علمها ولا علم لهم بشيءٍ من أمرها. اهـ ¬

_ (¬1) من الآية 48 من سورة يونس. (¬2) سورة الإسراء، من الآية 98.

ولهذا ختم الله الآية بقوله: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} حيث قصروا تقصيرًا فاحًشا بتركهم النظر في أماراتها وتعاميهم عن أدلتها، مع أنها لا تخفى على ذوى البصائر وأولى الألباب. وحاصل معنى الآية: أن علمهم بشئون الآخرة ومنها البعث انقطع وانتهى في الدنيا، حتى لم يبق لهم علم بشيءٍ من شئونها، مع توافر الأسباب الواضحة الدلالة عليها. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)} المفرادت: {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ}: إنكار لإِخراجهم من قبورهم أَحياءً. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: أَي أَباطيل الذين سبقوهم، وهي جمع إسطار - بكسر الهمزة - وأسطورة - بضمها. {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}: أي لا يكن صدرك ضيقًا بمكرهم. التفسير 67 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ}: بيان لجهل الكافرين بالآخرة وعَمَاهم عنها بحكاية إنكارهم لليعث، والمراد بهم: مشركو قريثس فقد أَنكروا إخراجهم من قبورهم أحياء إنكارا شديدًا متكررًا مبالغًا فيه. وتقييد الإخراج بوقت كوْنهم ترابًا ليس لتخصيص الإِنكار الواقع منهم بالإِخراج في هذا الوقت فقط، فإنهم منكرون للإِحياء بعد الموت مطلقًا، وإن كان الجسد على حاله،

وإنما ذكر لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له في زعمهم، وهي كونهم ترابًا، وكما أنكروا إخراجهم فقد أنكروا كذلك إخراج آبائهم. 68 - {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: استئناف مسوق لتقرير الإِنكار، وصُدِّر بالقسم لزيادة التأْكيد، أي: والله لقد وعدنا هذا الإخراج نحن وآباؤنا من قبل أن يعدنا به محمَّد ولم نر له حقيقة ولم نعلم له وقوعًا فيما مضى، ذلك لأن هذا الوعد ما هو إلاَّ أباطيل الأَولين حكاها محمد عنهم، وليس له حقيقة، وقد رد الله عليهم بقوله: 69 - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}: أي: قل - يا محمد - لهؤلاءِ المكذبين: سيروا في الأرض فانظُرُوا بإمْعانٍ وتفكروا كيف كان عاقبة المكذبين للرسل - عليهم السلام - فيما جاءُوا به من الإيمان بالله وحده، وبالمعاد الذي تنكرونه، فإن مشاهدة عاقبتهم، وآثار ما حل بهم من العذاب والنكال اللذين لم يَنْج منهما سوى الرسل - عليهم السلام - ومن اتبعهم من المؤمنين يكفى أن يكون عظة وعبرة لذوى البصائر وأولى الألباب، ودلالة واضحة على صدق ما جاءَت به الرسل وصحته، وفيه تهديد لهم على التكذيب، وتخويف بأَن ينزل بههم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم. 70 - {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}: تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي: ولا تأْسف على المكذبين لإصرارهم على الكفر، وتذهب نفسك عليهم حسرات، ويكون صدرك حرجًا من كيدهم وإنكارهم ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك عليهم، ومظهر دينك في المشارق والمغارب على من خالفه وعانده: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬1). ¬

_ (¬1) من الآية 30 من سورة الأنفال.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُوفَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} المفردات {رَدِفَ لَكُمْ}: أي لحق بكم، ويتعدى بنفسه وباللام. {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}: أي ما تخفيه من الأَسرار، تقول: أكننت الشيءَ إذا أخفيته في نفسك. {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ}: الغائبة؛ جميع ما أخفاه الله وغيبه عن خلقه. وتاؤه للمبالغة في الغيبوبة، كراوية. {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: المراد به؛ اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد، وهو بيِّنٌ واضح، أو مُبَيِّنٌ ما فيه لمن يشاءُ من ملائكته: التفسير 71 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: يسأَل الكفار عن وقت العذاب العاجل الموعود به، سخرية به، وإنكارًا له قائلين: متى يحين وقت العذاب الذي وعدتم بأن ينزل بنا إن كنتم صادقين في إخباركم بأنه آت إلينا، وواقع علينا؟ فهموا الوعد بالعذاب من أمرهم بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين والجمع في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} باعتبار شركة المؤمنين للرسول في الإِخبار بذلك.

72 - {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}: أي: قل لهم - أيها النبي -: عسى أن يكون قد اقترب منكم بعض الذي تستعجلون حلوله، وتطلبون وقوعه من العذاب، وكان ذلك عذاب بدر، أو عذاب القبر، وهذا المعنى قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك. وعسى هنا لتحقق الوقوع لما وعدوا به. قال الزمخشرى: إن عسى ولعل سوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأَمر وجده وأنه لا مجال للشك فيه، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم، فعلى ذاك جرى وعد الله تعالى ووعيده. وقيل: إن عسى على معناها، والترجى المفهوم منها قيل: راجع للعباد. 73 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}: أَي: وإن ربك - جل شأْنه - لذو إنعام كثير فاضل على كافة الناس مع ظلمهم لأنفسهم، ومن جملة ذلك ترك المعاجلة بالعذاب لهؤلاء المكذبين مع ما يقترفونه من ذنوب وآثام، وكان على المنْعَمِ عليهم أن يقوموا جميعًا بشكر ربهم على تفضله عليهم، ولكن أكثرهم أعرضوا عمَّا يطلب منهم من شكر وعرفان جحدًا لفضل خالقهم الذي أسداه إليهم، ومنهم أولئك المستعجلون للعذاب. 74 - {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}: أي: ساق ربك - جل شأْنه - ليعلم ما تخفى صدورهم من الأَسرار ومنها عداوتك، ويعلم ما يظهرون من القول بلا تفرقة بينهما في إحاطة علمه بهما كما قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} (¬1). ¬

_ (¬1) الآية 10 من سورة الرعد.

فليس تأْخير العذاب عنهم لخفاء حالهم عليه تعالى، وإنما لأن له وقتًا محددًا لا يتعداه بتقديره - جل شأنه - وعلم الله بما تخفيه صدورهم، وبما تظهره أقوالهم، فيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكى عنهم. 75 - {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: أَي: وما من خصلة شديدة الغيبوبة في السماءِ والأرض إلاَّ علمها الله، وأحاط بها، وأثبتها عنده في أم الكتاب، ذلك الكتاب الواضح البين في نفسه المبين ما فيه لكل من يطالعه وينظر فيه من الملائكة - عليهم السلام - وهو اللوح المحفوظ، وقيل: المراد به علم الله - تعالى -، فهو المبين لكل معلوم، وقيل: المراد به القرآن الكريم، فقد أشار إلى كل غائبة في السموات والأرض، وبين دلالتها على خالقها - سبحانه وتعالى -. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81} المفردات: {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}: المراد بهم؛ اليهود والنصارى، وإسرائيل: يعقوب - عليه السلام -. {عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}: الواضح البين، أو الفاصل بين الحق والباطل. {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ}: أي ولا تسمع من بطل سمعه وذهب لسبب من الأسباب، وفعله من

باب علم. فالمذكر أصم، والأُنثى صماء، والجمع صُمٌّ، مثل أحمر وحمراءَ وحُمْر، ويتعدى بالهمزة فيقال: أصمه الله. {بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}: أي عن كفرهم، يقال: ضل يَضل ضلالًا وضلالة: مال عن الطريق فلم يهتد. التفسير 76 - {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: لما ذكر - سبحانه - ما يتعلق ببدء الخلق، وإعادة المخلوقات بعد الموت بالبعث، ذكر ما يتعلق بالنبوة، ولكون القرآن الكريم أعظم ما تثبت به نبوة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. أنزل فيه - سبحانه - ما يقص به علي بني إسرائيل - اليهود والنصارى - أكثر ما اختلفوا فيه، بإظهار حقيقة أمره في وضوح وجلاء، ممَّا يدعوهم إلى الإِسلام لو تأَملوا وأَنصفوا، وأخذوا به، ولكنهم أعرضوا وكابروا مثلكم أيها المشركون. وتحزبوا أحزابًا كثيرة، ولعن بعضهم بعضًا، ووقع بينهم الجدال والتناكر. ومن جملة ما اختلفوا فيه اختلافًا كثيرا أمر عيسى - عليه السلام - فاليهود افتروا ونسبوا إلى مريم ما هي منزهة عنه، وكذبوا عيسى - عليه السلام - والنصارى تغالوا، فمن قائل: بأَنه إله، ومن قائل: بأنه ابن الله، ومن قائل: بأَنه ثالث ثلاثة إلى غير ذلك. كما اختلفوا في أمر النبي المبشر به، فمن قائل: هو يوشع، ومن قائل: هو عيسى، ومن قائل: إنه لم يأْت إلى الآن، وسيأتي آخر الزمان، كما اختلفوا في شأن الخنزير، فقال اليهود بحرمة أكله، وقالت النصارى بحله، إلى غير ذلك من أُمور. فجاء القرآن بالقول الوسط، قول الحق والعدل، حيث بين أن عيسى عبد من عباد الله وأَنبيائه، ورسله الكرام كما قال تعالى حكاية عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (¬1). وبين أن النبي المبشر به هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأن أكل لحم الخنزير حرام. وبين كذلك أكثر الأُمور التي وقع بينهم الخلاف فيها بيانًا شافيًا يقطع كل ريبة وخلاف، فكان هدى ورحمة لمن أقبل عليه كما قال تعالى: ¬

_ (¬1) الآية 30 من سورة مريم.

77 - {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}: أي: وإن هذا القرآن لهدى ورحمة لمن أنصف من اليهود والنصارى، فآمن به، واهتدى بهديه، واتبع سببله، أو هو هدى ورحمة لكل من آمن به على الإِطلاق، ويدخل فيهم من آمن من اليهود والنصارى دخولًا أوليًّا. وخص - سبحانه - المؤمنين بالذكر، مع أنه هدى ورحمة للعالمين؛ لأنهم المنتفعون به، أو المراد بهم المستعدون للإيمان بفطرهم النظيفة. 78 - {إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}: الذي: إن ربك - سبحانه - يقضى في الآخرة بين اليهود والنصارى، فيحازى بحكمه المحق الذي آمن بالقرآن، والمبطل الذي كفر به، ويراد بالحكم ما يحكم به، وهو الحق والعدل، ولا يقضي - سبحانه - إلا به فسمى المحكوم به حكمًا. أو يحكم بينهم بحكمته بوضع الأُمور في نصابها، وإعطائها ما تستحق من جزاءٍ، ويدل على هذا الوجه قراءَة من قرأ {بِحُكْمِهِ} جمع حِكْمَة، كنِعَم جمع نعمة. وقيل: يقضى بينهم في الدنيا بإظهار ما حرفوه، وبيان الحق فيما اختلفوا فيه وهو سبحانه "العزيز" أي: الغالب الذي لا يرد أمْرُه، ولا يعارَضُ قضاؤه "العليم" بكل شيءٍ من الأشياء لا تخفى عليه خافية، أو هو العزيز في انتقامه من المبْطلين، العلم بما بينهم وبين المحقين. 79 - {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}: أمرٌ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتوكل عليه - جل شأْنه - مرتَّبٌ على ما ذكر من شئونه - تعالى - فإنها موجبة للتوكل عليه وداعية إلى الإنابة إليه، أي: فتوكَّل على الله الذي عصمك من كيد الكائدين، وأمدك بتأييده ونصرته على أَعدائك، وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليهم الشقاوة وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون؛ لأنك على الحق البيِّن، وهو الدين القيِّم الذي تنزه عن كل شك أو شبهة، وفي ذلك بيان بأَن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته لا محالة.

80 - {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}: أي: إنك - أيها النبي - لا تستطيع هداية هؤلاءِ الكافرين إلى شيء ينفعهم لأَنهم كالموتى، حيث إنهم فقدوا الحس والعقل والإدراك فلا يَعُون شيئًا ممَّا يسمعون، ولا ينتفعون بما يتلى عليهم من القوارع والزواجر، شأْنهم في ذلك وهم أحياءٌ شأن الموتى في القبور الذين يستحيل عليك إسماعهم (¬1) أي شيءٍ ينفعهم، وذلك موجب لقطع الطمع في هدايتهم، وداع إلى تفويض الأَمر إلى الله والتوكل عليه. وهم كالصم الذين فقدوا أَداة السمع يصيح بهم الداعى إلى الحق فلا يسمعون النداءَ مع أَنهم صحاح الحواس، ذلك لأَن شأْن الأَصم عدم السماع ولو كان الداعى أَمامه، وبمقابلة صماخه فكيف يكون حال هؤلاءِ الصم إذا ابتعدوا عن الداعى وتولوا عنه مدبرين؟ لا شك أن عدم سماعهم للدعاءِ يكون أشد وأقوى، فإنهم مع صممهم معرضون عن الداعى، وفي ذلك من التأكيد والمبالغة في عدم السماع لدعوة الحق ما فيه مما لا يخفى، وإطلاق الإسماع بعدم ذكر المسموع لبيان عدم سماعهم لشيءٍ من المسموعات. 81 - {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}: أَي: ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم، وصرفهم عما هم فيه، وهدايتهم هداية موصلة إلى المطلوب؛ لأنهم كالعمى يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم مهديين بُصَراءَ إلاَّ الله تعالى. {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا}: ما يجدى إسماعك إلاَّ مَنْ علم الله أنهم يؤمنون بآياته ويصدقون بها، وهم الذين ليسوا موتى ولا صمًّا ولا عميًا. ¬

_ (¬1) قد احتجت عائشة - رضي الله عنها - بهذه الآية في إنكارها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسمع موتى بدر، فنظرت إلى الأمر بقياس عقلى ووقفت مع هذه الآية. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما أنتم بأسمع منهم. قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرقة عادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن الله رد إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسماعهم لحملنا نداء إياهم على معنى التوبيخ لمن بقى من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين. اهـ من تفسير القرطبي. ومن أراد الاستزادة فليرجع إليه وإلى غيرة في تفسير هذه الآية، والآية 52 من سورة الروم.

وجوز أن يراد بالآيات المعجزات التي أَظهرها الله - تعالى - على يديه - صلى الله عليه وسلم - الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية، وأَن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والإيمان بها: التصديق بكونها آيات الله - تعالى - وليست من السحر وغيره. {فَهُمْ مُسْلِمُونَ}: تعليل لإيمانهم بالآيات، أي: فإنهم مطيعون منقادون إلى الحق بسلوك طريقه السَّويّ وفق إرشاد آياته. وقيل: فهم مخلصون لله - تعالى - من: الإِسلام بمعنى الإخلاص، كقوله تعالى: "بلى مَنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لله وهو محْسِنٌ" (¬1) أي: أخلص. {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} المفردات: {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ}: قرب وقوع ما وعدوا به من العذاب بعد البعث. {دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}: هي دابة كبيرة يخرجها الله قرب قيام الساعة تكلم الناس ¬

_ (¬1) من الآية 112 من سورة البقرة.

- من الكلام - وقرأَ الكوفيون: {تُكَلِّمُهُمْ} - بفتح التاء وسكون الكاف وكسر اللام - من: الكلْم وهو الجرح، وسيأْتي بيان ذلك في الشرح. {فَوْجًا} أي: جماعة. {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} المراد بالآيات: إما القرآن، أو ما يعمه وسائر الآيات، ممَّا أقامه الله في الأنفس والآفاق. {أفهُمْ يُوزَعُونَ} أي: فهم يحبس أَولهم على آخرهم ويكفون، ليتلاحقوا، يقال: وزعه، أي: كفه، وهو من باب وَضع يضع، وفسره ابن عباس بقوله: فهم يدفعون، وفسره ابن زيد بقوله: فهم يساقون، وهي معان متقاربة. {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} أي: حل بهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم. التفسير 82 - {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}: بين الله في الآيات السابقة إنكار قريش للبعث بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) وذكر أنه - تعالى - سوف يقضى بينهم بحكمه، وسلَّى نبيه عن تكذيبهم إياه، بأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُسْمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء إذا ولَّوا مدبرين، وأنه لا يهدى هؤلاء العمى عن ضلالتهم، وجاءَت هذه الآية والآيات التي بعدها لتأكيد مجىء الساعة وقضاءِ الله عليهم بما يستحقون من العذاب الهون. والمزاد بوقوع القول عليهم: قرب نزول العذاب الموعود بهم في نحو قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬2) وذلك عندما يصير الناس إلى حد لا تقبل توبتهم، ولا يولد لهم ولد مؤمن، فحينئذ تقوم الساعة - كما ذكره الإِمام القشيري - وفي معناه ما روى عن حفصة بنت سيرين أنها قال: سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ ... } الآية، فقال: أوحى الله إلى نوح أنه: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} قالت حفصة: وكأنما كان على وجهي غطاءٌ فكشف، ¬

_ (¬1) من الآية 71 (¬2) سورة السجدة: 13

قال النحاس: وهذا من حسن الجواب؛ لأَن الناس ممتحنون ومؤخرون، لأَن فيهم مؤمنين وصالحين ومَنْ قد علم الله أنه سيؤمن ويتوب، فلهذا أُمهلوا .. ثم قال: فإذا زال هذا وجب القول عليهم فصاروا كقوم نوح، حين قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} (¬1) انتهى كلامه. والدليل على أن ذلك يكون قرب قيام الساعة: أن الآية ختمت بقوله تعالى: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وتلاها قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} كما يدل عليه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجالٌ، ودابة الأرض" (¬2). والدابة: اسم للحيوان الذي يدب ويتحرك، .. والكلام: ما يحصل به التخاطب والتفاهم، فماذا عسى أن تكون هذه الدابة التي تكلم الناس بما يفهمونه منها، ويكون ظهورها من علامات الساعة الكبرى؟ لا بد أن تكون دابة عظيمة في جسمها وفي تكوينها وفيما يصدر عنها؛ لتكون آية مقارنة لطلوع الشمس من مغربها، كما جاء في صحيح مسلم (¬3) بسنده عن عبد الله بن عمر أنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأُخرى على إثرها قريبًا". ويقول السدى في كلام الدابة: إنها تكلمهم ببطلان الأَديان سوى دين الإِسلام، وقيل: تكلمهم بما يسوءُهم. وقال عطاءٌ الخراسانى: تكلمهم فتقول: أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. قال القرطبي - شارحًا لهذا القول -: تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه مَنْ قرب ومن بعُد: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أي: بخروجى، لأن خروجها من الآيات. ¬

_ (¬1) سورة هود: 36 (¬2) ذكره القرطبي في تفسير الآية. (¬3) كتاب الفتن فيه.

أما على قراءة تكلمهم فهي من: الكَلْم بمعنى الجَرْح، ولا منافاة بينها وبين قراءة جمهور القراء، فإنها تكلِّمهم بما يسوءُهم ويجرحهم، لانغماس معظم الناس في الضلال في آخر الزمان. وقد جاء في وصف هذه الدابة آثار متباينة، فلهذا أمسكنا عن ذكرها، وحسب القارئ أن يعلم أنها من علامات الساعة، فلابد أنها شيء هائل يفوق الوصف، وأنها تخرج لإِقامة الحجة على الكافرين، وتثبيت المؤمنين، وإغلاق باب التوبة أمام الملحدين. ومعنى الآية: وإذا قرب وقوع ما قلناه على الكافرين من قيام الساعة وعقابهم على كفرهم، أَخرجنا لهم من الأرض دابة عظيمة هائلة، تكلمهم بما يفهمونه عنها، فتوبخهم على كفرهم وتنعى عليهم أنهم قبل خروجها كانوا بآيات الله وبراهينه لا يصدقون ولا يستيقنون، وأنه قد حان ميقات فنائهم وقيامهم لرب العالمين". لحسابهم وعقابهم على ما كانوا يعملون. 83، 84 {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ (¬1) يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: هاتان الآيتان للتذكير بما يحدث للكافرين بعد حشرهم من التوبيخ على كفرهم بآيات الله، قبل الحكم عليهم بالعذاب المقيم، والمراد من الحشر هنا: هو الحشر يوم القيامة. والمعنى: واذكروا يوم نجمع من كل أُمةِ نبيٍّ جماعةً كثيرة هم الذين يكذبون بآياتنا، فهم يدفعون ويساقون إلى المحشر الذي يجتمع فيه الخلائق، ويحبس أول الكافرين على آخرهم، حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمساءلة من المحشر، حتى إذا جاءُوه قال الله تعالى - موبخًا لهم -: أكذبتم بآياتى التشريعية، والتكوينية بادئ الرأى، غير ناظرين فيها نظرًا يجعلكم تحيطون بها علمًا ويدفعكم إلى الإيمان بربوبيتى ووحدانيتي، أَم ماذا كنتم تعملون بعقولكم في هذه الآيات البينات، حتى وصل بكم التفكير فيها إلى هذا التكذيب الذي أبعدكم عن الحق المبين؟ ¬

_ (¬1) مَنْ في قوله: "ممن" بيانية، أي: هم من يكذب بآياتنا.

ولما كان كلا الأَمرين لا يستوجب تكذيبهم لوضوح تقصيرهم فيهما، فلهذا لم يستطيعوا أن يجيبوا ربهم بما يخفف عنهم مسؤليتهم فيها فقال الله - تعالى - عقب هذه المساءَلة: 85 - {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ}: أي: ووجب عليهم العذاب الذي قلناه لهم على ألسنة رسلنا إن استمروا على تكذيبهم بآياتنا فهم لا يستطيعون النطق بما يدفع حجتنا عليهم. واعلم أن الحشر يوم القيامة لجميع الخلائق مؤمنهم وكافرهم ولكن هذه الآيات اختصت ببيان حشر المكذبين بآيات الله ومساءلتهم ومصيرهم؛ لأن السياق واللحاق يقتضي ذلك الاختصاص. ويرى الشيعة الإمامية أن لفظ (منْ) في قوله تعالى: {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} للتبعيض وليس للبيان، وأن الآية أفادت أن بعض المكذبين بآيات الله يحشرون، وليس ذلك صفة الحشر يوم القيامة؛ إذ يقول الله في شأنه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} وهذا يدل على أن هذا الحشر الجزئى يكون في الدنيا لبعض أعداءِ الله من الكافرين، لينتقم منهم على أيدى أوليائه وشيعته عند ظهور المهدي آخر الزمان إذ يرجع معه جماعة من أئمة أهل البيت، ليعاقبوهم بالإذلال والتوبيخ والقتل، ليفوزوا بثواب نصرة الله، ويفرحوا بظهور دولته، وبالجملة فهذه الآية من أشهر ما استدل به الشيعة الإمامية على رجعة أئمتهم، كما استدلوا بأحاديث رووها بهذا الصدد. والحق أن ما ذهب إليه الشيعة من رجعة أئمتهم أمر خيالي محض، والاستدلال عليه بالآية رأى فاسد؛ فإن الآية ليس فيها عنهم قليل ولا كثير لا في الرجعة ولا في غيرها، والحشر في لسان الشرع، هو حشر يوم القيامة، وهو في الآية للكافرين جميعًا، ولفظ (من) في قوله تعالى: {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} كما يحتمل أن يكون للتبعيض، يحتمل أيضًا أن يكون لبيان الفوج الذين يناقشهم الله، ويوبخهم ويعاقبهم بعد الحشر، والحق أَن هذه الآيات الثلاث (¬1) مسوقة لبيان حال المكذبين لرسل الله يوم القيامة كما يقتضيه السياق، ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى: "ويوم نحشر ... " إلى قوله تعالى: "ووقع القول عليهم" وأرقامها: 83، 84، 85.

ولا أدل على ذلك من أن الذي يوبخهم ويعاقبهم هو الله - تعالى - وليسوا أئمة الشيعة كما يزعمون، إذ يقول - سبحانه -: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} والرجعة التي قال بها الشيعة الإمامية لا يقول بها الشيعة الزيدية بل ينكرونها إنكارًا شديدًا، وقد ردُّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضًا تعارض روايات الإمامية (¬1)، فليرجع إلى كتبهم من أراد المزيد من العلم بفساد رأى هؤلاء الإمامية، والله ولى التوفيق. 86 - {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: هذه الآية جاءَت لتوجيه نظر المشركين وعقولهم إلى بعض آيات الله الكونية الشاهدة بوحدانيته، وقدرته على البعث والحشر والحساب التي أنكروها، والمراد من الرؤية هنا: الرؤية القلبية فإنها هي التي توصلهم إلى الإيمان. والمعنى: ألم يعلم هؤلاء المشركون أنا جعلنا الليل مظلمًا ليسكنوا فيه بالقرار والنوم بعد الحركة التي أجهدوا فيها أجسادهم وأرواحهم وعقولهم نهارا، وجعلنا النهار مضيئًا ليبصروا في ضوئه طرق التقلب في أُمور معاشهم، أن في ذلك التدبير المحكم لأمارات لقوم يريدون الإيمان، فإنه يشهد بأن الذي دبر هذا التدبير العجيب هو إله واحد قادر على بعث العباد وحشرهم وحسابهم، فإن من قدر على إبدال الظلمة بالنور، فإنه يقدر على إبدال الموت بالحياة. وَوَصْفُ النهار بالإبصار بدل الإضاءَة، للمبالغة في إضاءَته وبلوغها من القوة إلى درجة جَعْل الإبصار من صفاته، وذلك على سبيل المجاز. ¬

_ (¬1) راجع ما كتبه الآلوسي في شأن هذه الرجعة إن شئت، فقد أسهب فيها وأفاض.

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} المفردات: {الصُّورِ}: البوق، أَو جمع صُورة. {فَفَزِعَ} أي: خاف، وعبر عنه بالماضى لتحققه. {أَتَوْهُ} أي: جاءوه، وعبر عنه بالماضى لتحققه. {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}: تظنها ثابتة في أماكنها. {دَاخِرِينَ}: صاغرين. {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}: تسرع سرعته. التفسير 87 - {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}: هذه الآية والتي بعدها مسوقتان لإنذار المكذبين بالبعث وتخويفهم من لقاء رب العالمين، وللعلماء في تفسير الصور والنفخ فيه ثلاثة أقوال: (أحدها): أنه قَرْنٌ يشبه البوق، والنفخ فيه على الحقيقة، وسندهم في ذلك ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جاءَ أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما الصُّور؟ قال: "قرنٌ ينفخ فيه" والمشهور عند أصحاب هذا القول أن صاحب الصور الذي ينفخ فيه هو إسرافيل - عليه السلام -. (وثانيها): أن الصور -بإسكان الواو-: جمع صورة كالصُّور - بفتحها - والمراد بها: صور الخلائق، والنفخ في هذا القول كالذى قبله على حقيقته.

(وثالثها): أَن النفخ في الصور على حقيقته، وإنما هو صورة بلاغية بطريق الاستعارة التمثيلية، شبه فيها حال انبعاث الموتى وقيامهم من قبورهم وسيرهم إلى المحشر تلبية لنداء الله لهم - شبه حالهم ذلك - بحال قيام جيش نفخ لهم في البوق المعهود، وسيرهم إلى موضع عُيِّنَ لهم، وتعقيبا على هذا الخلاف يقول الآلوسى ما خلاصته: أن الأول في قول الأكثرين وعليه المعول؛ لأن قوله - تعالى - في آية أخرى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} ظاهر في أن الصور مفرد مذكر وليس جمع صورة وإلا لقال - سبحانه -: ثم نفخ فيها أخرى بتأْنيث الضمير الراجع إليها، وجَعْلُ الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، فيه إنكار لوجود صور حقيقى ينفخ فيه، وذلك مخالف لما نطقت به الأحاديث الصحاح .. هذه هي خلاصه تعقيب الآلوسى على الخلاف في حقيقة النفخ في الصور. والذي نراه: أن الذي يجب اعتقاده هو أن النفخ في الصور سوف يكون قطعا، أما شكل الصور وحقيقته وكيفية النفخ فيه فذلك من الغيبيات التي يوكل علمها إلى علام الغيوب سبحانه. والراجح أن النفخ في الصور سوف يكون مرتين، إحداهما يموت عندها الخلائق، والثانية نفخة البعث التي يقوم الناس عندها لرب العالمين للحساب والجزاء، كما في قوله - تعالى -: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} (¬1). واختلف فيما جاء بهذه الآية، أهي النفخة الثانية، أم هي النفخة الأُولى؟ وممن ذهب إلى ترجيح أنها النفخة الثانية الإمام أبو السعود، وقال في ترجيحه: إنه هو الذي يستدعيه سباق النظم الكريم وسياقه، وأن المراد بالفزع في قوله - سبحان -: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ما يعترى الكل عند البعث والنشور. من الرعب والتهيب الضروريين الجِبِليَّيْن بمشاهدة الأُمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق. ثم قال: وقيل: المراد بالنفخ هنا: هو النفخة الأُولى، وبالفزع: الخوف الذي ينتهى إلى الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي ¬

_ (¬1) الآية 51 من سورة يس.

الْأَرْضِ} فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها، دون من مات قيل ذلك من الأُمم. إلى آخر ما قال. ورجح العلامة الطيبى أنها النفخة الأولى، وقوله تعالى الآتى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} إشارة إلى النفخة الثانية. ونحن نختار ما رجحه العلامه أبو السعود من أن المراد بنفخة الفزع هنا نفخة البعث مراعاة للمقام، وفيما يلى تفسيرها على هنا الوجه: المعنى الإجمالي للآية السابقة: واذكروا - أيها المنكرون للبعث - يوم ينفخ في الصور، ليقوم الناس من قبورهم مُتَّجهين إلى المحشر، ليحاسبهم الديان على ما كانوا يعملون - اذكروا ما يحدث من الهول والكرب يومئذ فيفزع له أهل السموات وأهل الأرض، ويشتد خوفهم واضطرابهم إلا من شاءَ الله أن يطمئن، وهم الشهداءُ كما جاء في حديث صحيح، ولأنهم عند ربهم يرزقون، وضم بعض المفسرين إليهم حملة العرش ورؤساء الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحور العين وخزنة الجنة (¬1) وكل هؤلاء المبعوثين الفزعين عند هذه النفخة - كل هؤلاء - يحضرون الموقف بين يدي رب العالمين صاغرين. 88 - {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}: نقل القرطبي عن الإِمام القشيرى أنه قال: وهذا يوم القيامة، ثم قال: أي: تمر مرّ السحاب، حتى لا يبق منها شيءٌ: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (¬2) أهـ، ونحن نوافقه على ذلك مراعاة للسياق. وإلى هذا الرأى مال صاحب إرشاد العقل السليم فقد قال: إنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق، يبدل الله - تعالى شأنه - الأرض غير الأرض ¬

_ (¬1) ولكننا لم نجد في هؤلاء خبرا صحيحا. (¬2) سورة النبأ، الآية: 20.

ويغير هيئتها، ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر. وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى، لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} (¬1). وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬2) فإن اتباع الداعى الذي هو إسرافيل، وبروز الخلق الله - تعالى - لا يكون إلا عند النفخة الثانية. ونقل الآلوسى عن بعض المفسرين أن ذلك مما يقع عند النفخة الأولى، وعقب عليه بما يرجح كونه بعد النفخة الثانية، والله - تعالى - أعلم. ويُعقِّبُ الله ذلك التغيير الكونى الخطير بقوله - سبحانه -: {صُنْعَ (¬3) اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي: ما تقدم من النفخ في الصور وما ترتب عليه من فزع أهل السموات والأرض إلا من شاء، ومجيء الخلائق جميعا تلببة لنداء البعث والحشر، وتحويل الجبال إلى ما يشبه العهن المنفوش (¬4)، ومرورها مر السحاب في طريقها إلى الزوال، كل ذلك صنعه الله الذي أتقن كل شيء، وبناه على الحكم المستتبعة للغايات الجليلة، وليس ذلك من باب الإخلال والإفساد دون حكمة. وقد ختمت الآية بقوله - تعالى -: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} وهو تعليل لما تقدم من النفخ في الصور وفزع أهل السموات والأرض ومجيئهم إليه صاغرين للحساب، وقد اعترض بينهما بذكر تحويل الجبال إلى عهن منفوش يسير سير السحاب في طريقه إلى الزوال بعد أن كانت جامدة، توفية لمقام الحديث عن الأهوال التي تحيط بيوم الحساب والجزاء. ¬

_ (¬1) سورة طه 105: 108 (¬2) سورة إبراهيم: 48 (¬3) قال الآلوسى: (صنع الله) مصدر مؤكد لما قبله، وعقبه بكلام جيد خلاصته ما كتبناه في تفسير هذه الجملة والله الموفق. (¬4) أي: الصوف المنشور.

وقال العلامة الطيبى (¬1): قوله: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} إلخ. استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع؟ فقيل: إن الله خبير بعمل العاملين، فيجازيهم على أَعمالهم، وفضل ذلك بقوله - سبحانه -: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ... } إلخ. وهذا الذي قاله الطيبي قريب مما اخترناه في موقع الجملة وربما قبلها، وربما كان الذي قلناه أقرب وأولى، والله أعلم. المعنى الإجمالي للآية: وترى الجبال - أيها الإنسان وأنت في الموقف بعيد عنها - تظنها جامدة ثابتة في مكانها، ولكنها قد سُحِقتْ وأَصبحت كالعهن المنفوش، وقد سيَّرها الله - سبحانه - فوق سطح الأرض وجعلها تمر فوقها في طريقها إلى الزوال، لتبرز الأَرض التي كانت تواريها، وهي في سرعتها تمرُّ كما يمر السحاب في طريقها إلى الزوال، لتبرز السماء التي كانت تحجبها، صنع ذلك الصُّنعَ العجيب الله الذي أتقن كل شيءٍ بناءً وإزالة لحكم يعلمها، ومنها: أن يرى الظالمون عظيم جبروته الذي لم يكترثوا به في دنياهم، وأَن يحاسبهم على أرض جديدة تحقيقا لوعيده: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2) ولن يصعب عليه حساب عباده، فإنه خبير بما كانوا يفعلونه في دنياهم. ¬

_ (¬1) نقله الآلوسى في تفسيره لقوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها). (¬2) سورة إبراهيم: 48 - 51.

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} المفردات: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ): بالفعلة المستحسنة شرعًا. {مِنْ فَزَعٍ} الفزع: الخوف. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} المراد بها هنا: الشرك, كما سيأتي بيانه. {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}: الوجوه المعروفة, أو هي كناية عن الأنفس, وكبُّها: إلقاؤها, وسيأتي مزيد بيان لذلك. التفسير 89 - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)}: لما ذكر الله - سبحانه - في الآية السابقة أنه عليم بما يفعله عباده جاء بهذه الآية والتى تليها لبيان ما يترتب على علمه بها من جزائِهم عليها .. وفسر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من السلف - فسروا - الحسنة بشهادة التوحيد، بناء على ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسيره إياها بذلك، والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - فسرها بأكملها، وهذا لا ينافى أن كل حسنة من الأفعال لها جزاءٌ في الآخرة خير منها، والمراد من الفزع الذي يأمنه أصحاب الحسنات: الخوف من العقاب بالنار، وهو ما جاء في قوله تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} وحكى عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار, وهذا لا ينافى ما يحدث لجميع المكلفين عند البعث بعد النفخة الثانية، فإنه عام لجميع من في السموات والأرض كما جاء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} فلا فرق بين أهل الحسنات وأهل السيئات في الشعور بالفزع والتهيب والرعب عندما يرون أهوال يوم القيامة عقب البعث، فإن ذلك أمر جبلي لا يكاد يخلو منه أحد.

ومعنى الآية: من جاء بالفعله الحسنة من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وغيرها، فله جزاءً أعظم منها، حيث يجزى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، جزاءً دائِما جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وهؤلاء المتقون المحسنون آمنون من خوف العذاب يومئذ مطمئنون، وثوقا بوعد الله الذي لا سبيل إلى الخلف فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}. 95 - {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}: المراد بالسيئة هنا: الشرك، وغلبة السيئات على الحسنات، ويبقى كل منهما في النار على حسب حاله، فالكافر خالد فيها أبدا كما جاء في وعيده في القرآن والسنة، والمؤمن الفاسق يخرج منها بعد أن ينال نصيبه من العقاب فيها، فإنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان, كما جاء في صحاح السنة، ولهذا ختمت الآية بقوله - سبحانه -: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: لا يجزون إلا على حسب أعمالهم. ومعنى الآية: ومن جاء بسيئة الشرك أو طغت سيئاته على حسناته، فألقوا في النار على وجوههم (¬1) قيل لهم: هل تجزون إلا بعقاب مماثل لما كنتم تعملونه من السيئات؟ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} ¬

_ (¬1) ويجوز أن يكون المعنى: فألقيت نفوسهم في النار بإطلاق الوجه على النفس مجازًا, كما أطلقت الأيدي عليها مجازًا في قوله - تعالى - " ... فبما كسبت أيديكم" وقوله: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".

المفردات: {هَذِهِ الْبَلْدَةِ} المراد بها: مكة. {مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: من المنقادين لملة التوحيد. {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}: سيجعلكم تشاهدون أمارات سلطانه في الدنيا والآخرة. التفسير 91 - {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: بينت الآيات السابقة أحداث الشفاعة وأحوالها وفزع أهل السموات والأرض عندما يفاجأون بها إلا من شاء الله، ومجيئهم جميعًا لحساب ربهم صاغرين، وأن من جاء بالحسنة فله ثواب خير منها، ومن جاء بالسيئة عوقب بها جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا. وجاءت هذه الآية وما بعدها في ختام السورة لتقرر آمر التوحيد والبعث اللذين دار عليها الحوار بين النبيين وأممهم في ثناياها. ومعنى هذه الآية: إن الله - تعالى - ما أمر نبية محمدا - صلى الله عليه وسلم - به من عنده، إلا بأن يعبد الله رب هذه البلدة - مكة - التي جعلها الله حرما آمنا منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - وله وحده كل شيءٍ، فلا يصح أن يعبد معه سواه، وما أمره الله سبحانه إلا بأن يكون من المسلمين المنقادين لشريعة الإسلام، فلا سبيل له ولا لغيره أن يحيدوا عن توحيد الله، ولا أن ينصرفوا عن دين الإِسلام. 92 - {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}: وكما أمر الله نبيه بذلك أمره بتلاوة القرآن وتكرار الإرشاد به، لتنكشف للناس الحقائق المخزونة في آياته، فإن المواظبة على قراءته والوعظ به، من أسباب انكشاف الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية، فمن اهتدى بما يسمعه من عظات القرآن ونصائحه، وبتلاوته من آن لآخر - كما يفعله الرسول - فمن اهتدى بذلك فما تعود منفعة اهتدائه

إلا على نفسه، ومن ضل عن الحق بمخالفته في هذه النصيحة، فوبال ضلاله مختص به، ثم أمره أن يقول لهم: ما أُمرت في شأنكم وفي شأن غيركم إلا بالإنذار والتخويف من عقوبة الخلاف، أما استجابتكم لدعوتي فليست من شأني بل هي من شأنكم وشأن الله معكم، فما عليّ إلا البلاغ وقد فعلت. 93 - {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: وقيل - أيها الرسول - لقومك: الحمد لله على نعمائه، حيث أعاننى على تبليغ رسالته إليكم، وتلاوة القرآن دائما عليكم، ومتابعة الإنذار لكم, وإقامة الحجة عليكم، مع شدة معارضتكم ومخاصمتكم، سيريكم الله آياته في دنياكم وأخراكم، فتعرفون أنها برهان الحق ودليل الصدق، وما ربك - يا محمد - بغافل عما تعملون - أيها المشركون - فسوف تكون آيات عذابه حزاء وفاقا لأعمالكم. وقد حقق الله وعيده لمشركى قريش في دنياهم، بما حدث لهم في غزوة بدر الكبرى، وسائر انتصارات رسوله عليهم، وحصول القحط لهم بدعائه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم جوع عنيف اضطرهم إلى أكل الكلاب والجيف والعلهز (¬1) وسوف يرى أشد منه في أُخراه من مات منهم على كفره {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. ¬

_ (¬1) يطلق العلهز على القراد الضخم، وعلى طعام من الدم والوبر يؤكل في المجاعة، وعلى نبات ينبت ببلاد بنى سليم. اهـ: من القاموس.

سورة القصص

سورة القصص من السور المكية، وآياتها ثمان وثمانون، ووجه مناسبتها لما قبلها أنها تشتمل على شرح بعض ما أُجمل في قصة موسى في سورتى الشعراء والنمل، وقد روى عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم النمل ثم القصص. وقد ذكر الله في السورة السابقة سؤال الكفار يوم القيامة على جهة التوبيخ، وفي هذه السورة سؤالهم وتوبيخهم بما هو أوسع مما جاء في سورة النمل، كما ذكر هنا في أمر الليل والنهار أكثر مما ذكر هناك، إلى غير ذلك من المناسبات. مقاصدها: اشتملت هذه السورة المباركة على التنويه بآيات القرآن المبين، وحكاية ما حدث لقوم موسى من جبروت فرعرن، حيث كان يذبح أبناءهم ويستبقى بناتهم، وأنه - تعالى - شاء إنقاذهم من هذه المحنة فنجى موسى من القتل، حيث ألهم أُمه أن تصنع له تابوتًا وتلقيه في النيل ففعلت, فدفعته المياه إلى قصر فرعون، فالتقطه آله ليكون لهم عدوًّا وحزنًا, وليخلص بني إسرائيل من ظلم فرعون وأعوانه ويجعل هلاكه وجنوده على يد من رباه في كنفه, وقد ربط الله على قلب أُمه فصبرت، وفرحت به امرأة فرعون وأوصت بعدم قتله قائلة: {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وأوصت أمه أُختًا له أن تتبع أثره ففعلت، وحرم الله عليه المراضع فقالت أخته لأهل فرعون: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} فقبلوا نصيحتها، فرده الله بذلك إلى أمه: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}. ولما بلغ أشده آتاه الله حكمًا وعلما، وجعل من همه إنصاف بني إسرائيل: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} واستغفر ربه من ذلك فغفر له: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِين}.

ثم أراد أن يبطش بعدوه فقال له: {أتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} فخرج منها متجهًا إلى مدين: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وانتهى أمره مع أبيها إلى الزواج من إحدى ابنتيه على أن يكون أجيرا عنده ثماني سنين فإن أتم عشرًا فمن عنده، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله رأى نارا بجانب الطور وكانت امرأته بحاجة إلى الاستدفاء بالنار لشدة البرد، وحينئذ: {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهنا شرفه الله بالرسالة إلى فرعون وملئه فرد قائلا: {إنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} وطلب من الله أن يشرك معه أخاه في رسالته ليكون عونًا له فإنه أفصح منه لسانا، فاستجاب له ربه قائلًا: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}. فلما جاءهم موسى بآياته وصفوه بالسحر، وقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} وطلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليبلغ به إلى حيث يطلع إلى إله موسى، وقال: إنه يظنه من الكاذبين. وظل أمرهما في صراع فترة طويلة، فلما لم تغنه النذر انتقم الله منه ومن جنوده بما حكاه في قوله -سبحانه-: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ثم بين الله - تعالى - ما لهذه القصة من الدلالة على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ثم قال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

ثم عابَتْ هذه السورة عليهم أنهم لما جاءهم القرآن الحق من عند الله معجزة لنبيهم محمَّد، سألوه أن يأتيهم بكتاب من السماء جملة واحدة، كما جاء موسى قومه بالتوراة جملة واحدة، فأفحمهم الله بأنهم كفروا بما أوتى موسى من قبل قائلين: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} فلا همَّ لهم إلاَّ المكابرة والعناد، ثم بينت أن بعض أهل الكتاب لما تُلِيَ عليهم آمنوا به قائلين: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} وأنهم إذا سمعوا لغوهم فيه أعرضوا عنه, ثم نعت عليهم شركهم، وذكرت أن الله تعالى أمر نبيه أن يستخبرهم عمن يأتيهم بضياء يبصرون فيه إن جعل الله عليهم الليل مستمرًّا وسرمدًا إلى يوم القيامة، أو يأتيهم بليل يسكنون فيه إن جعل عليهم النهار كذلك؟ وأنه - تعالى - هو الذي تفضل عليهم برحمته فجعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليبتغوا فيه من فضله ولعلهم يشكرون وأنه سوف يناديهم يوم القيامة فيسألهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وأن الحق سوف يظهر لله عليهم، بشهادتهم على أنفسهم. ثم حكت قصة قارون, فبينت أنه من قوم موسى، فلما أغناه الله بغى عليهم وطغى وأعرض عن الآخرة، وزعم أن ما أُوتيه على علم عنده، فلم يسند الفضل فيه لرب العالمين، فخسف الله به وبداره الأرض، وما نفعه ماله ولا كبرياؤه ولا أتباعه، ثم ذكرت أن الدار الآخرة يجعلها الله للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. ثم تحدثت عن فضل الله وعدله في قضائه يوم القيامة، فذكرت أن: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ثم ختمت السورة بدعاء كل مكلف إلى توحيد الله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

بسم الله الرحمن الرحيم {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوعَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} المفردات: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: القرآن الواضح، من: أبان بمعنى اتضح، والمبين للأحكام، من: أبان غيره أي: أوضحه، وأطلق الكتاب على القرآن لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، أو لأنه يكتب في الصحف. {مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} بعض خبرهما. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} يصدقون حالًا واستقبالًا. {عَلَا فِي الْأَرْضِ}: استكبر في أرض مصر. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي: جعلهم أصنافًا يستخدم كل صنف منهم فيما يريد، أو أحزابًا يعادى بعضهم بعضًا، وللكلام بقية في التفسير. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}: هم بنو إسرائيل. {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: يبقى إناثهم دون قتل. التفسير 1، 2 - {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}: تقدم الكلام على أسماء الحروف التي بدئت بها بعض السور فارجع إلى مثله في أوائل سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما, كما تقدم الكلام على {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} في سورتي يوسف والشعراء فارجع إليها إن شئت.

والمعنى الإجمالي: طسم: هذه الآيات التي جاءت بسورة القصص آيات القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ الواضح الدلالة على الحق، المبين للحلال, والحرام وقصص الأنبياء, ونبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأحوال البعث والحشر والنشور والحساب والجزاء. 3 - {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: نقص عليك - أيها الرسول - بعض أخبار موسى وفرعون وقوميهما قصصا متصفا بالحق لقوم يصدقون به حالًا واستقبالًا، لينتفعوا بما جاء فيها ويتعظوا بمواعظها. ففي قصة موسى مع قومه يعلمون أن قرابة موسى مع قارون لم تنفعه مع كفره، وفي قصته مع فرعون يعرفون أن كبرياء فرعون وعلوه وبطشه لم تعصمه من نقمة الله القوى الجبار المتكبر. 4 - {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}: فرعون: لقب قديم لكل ملك كان يحكم مصر من أهلها. علوه في الأرض: تجبره على أهلها: كما قاله ابن عباس، وقال قتادة: علا في نفسه عن عبادة ربه بكفره، وادعى الربوبية والمراد من الأرض: أرض مصر، والشِّيَعُ: جمع شيعة، وتطلق على كل قوم أمرهم واحد, يتبع بعضهم رأى بعض، وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، والمراد من جعل فرعون أهل مصر شيعا: أنه جعلهم أصنافا يتبعونه في تحقيق غاياته ومآربه من الشر والفساد. أو من مختلف الأغراض والغايات من بناء وحرث وحفر وغير ذلك، أو أنه فرق بينهم وجعل بعضهم عدوًّا لبعض حتى يشتغلوا بأنفسهم، ويتم له بذلك السيادة عليهم، وفقًا للقول المعروف عن الجبارين: فرق تسد. والمراد بالطائفة المستضعفة: بنو إسرائيل، فهم الذين كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، والمراد من نسائهم: إناثهم - صغارًا كُنَّ أم كبارا - وسبب ذلك على ما قيل، أنه كان يعتمد في أمور المستقبل على رأى الكهنة والمنجمين، فقال له قائل منهم: إن هلاكه سيكون على يد ذكر من بني إسرائيل، أو أنه رأى رؤيا فعُبرَتْ له بذلك. قال الزجاج: العجب من حمقه: لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا موجب للقتل

والمعنى الإجمالي للآية: إن فرعون علا بجبروته في أرض مصر وجعل أهلها فرقا، فأما من كان من أهل مصر، فقد استظهر بهم واستعان على ظلمه وجبروته، ولم يمس ذكورهم ولا إناثهم بسوء، وأما بنو إسرائيل فإنه كان يذبح صغار الذكور من مواليدهم خوفا منهم، ويستبقى إناثهم لخدمة أهل مصر , ولأنه كان لا يتوقع الشر من جهتهن، إنه كان من المفسدين الراسخين في الفساد، لاجترائه على قتل من لا جريرة له بناءً على رأى فاسد، فإن قتلهم لا يغير من قضاء الله إن جعل هلاكه على يد أحدهم، فإنه لا ينفعه حذره من قدره. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)} المفردات: {نَمُنَّ}: ننعم. {أَئِمَّةً}: مقدمين في أمر الدين. {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}: لبعض ما كان يملكه فرعون. {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}: ما كانوا يخافون. التفسير 5 - {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}: بين الله في الآية السابقة أن فرعون تجبر في الأرض، ولم يكن عادلًا في حكم مملكته، إذ أنه جعل بعض أهلها سادة وهم أهل مصر الأصليون، وجعل بعضا آخر من ساكنيها عبيدًا مسخرين هم بنو إسرائيل، وكان يذبح المواليد من أبنائهم الذكور خوفا على نفسه منهم، ويستبقى إناثهم أحياءً لخدمتهم وجاء بهاتين الآيتين لبيان الحكمة في إرسال موسى - عليه السلام -

لفرعون وبنى إسرائيل، وقد ثبت تاريخيًا أنه لم يكن لبنى إسرائيل ميراث لأرض مصر الأصلية ولا حكم فيها، بل الذي ثبت هو خروجهم منها إلى أرض فلسطين، فلذلك يكون المراد من ميراثهم الأرض إسكانهم أرض فلسطين، وجعلهم أصحاب ملك فيها كأنها ميراث لهم، أو أنهما كانت متابعة لحكم فرعون فأورثهم الله إياها منه بتسليطهم عليها وقتئذ، وقد عاقبهم الله بنزع سلطانهم عليها حين أفسدوا في الأرض، كما أشارت إليه سورة الإسراء وكما ثبت عندهم في سفر الخروج. ومعنى الآيتين: ونريد بإرسال موسي - عليه السلام - أن ننعم علي بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وقومه في أرض مصر، وأن ننقلهم من الشرك إلى عبادة الله - تعالى - ونجعلهم بذلك أئمة في الدين يقتدى بهم المشركون من حولهم، ونجعلهم مستقرين في أرض فلسطين استقرارا يشبه الميراث، وأن نمكن لهم في الأرض التي أسكناهم فيها ونسلطهم عليها فتكون تحت سلطانهم وحكمهم ما داموا عاملين بشرعنا، وأن نرى فرعون ووزيره هامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من الهلاك على يد رجل من بني إسرائيل، حيث أغرقناهم في اليم أجمعين، وسيأتي تفصيل ذلك قرآنا وتفسيرا إن شاء الله تعالى. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}

المفردات: {وَأَوْحَيْنَا}: وألهمنا. {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} اليم: البحر. والمقصود به هنا: النيل، وكل نهر عظيم يطلق عليه بحر لاستبحاره. {آلُ فِرْعَوْنَ} المراد بآله: من ينسبون إليه ولو بالخدمة. {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} أي: فتكون عاقبة أمره أن يكون لهم معاديًا، ومصدر حزن لهم. {خَاطِئِينَ}: اسم فاعل من خطىء بمعنى تعمد الذنب، وللكلام بقية في التفسير. {قُرَّتُ عَيْنٍ} أي: سكون وطمأنينة، يقال: قرت عينه، تقر - بفتح القاف وضمها - قرة وقُرَّة: إذا سكنت بعد حيرة، أو بردت وانقطع بكاؤها. التفسير 7 - {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}: بين الله في الآية السابقة أنه - تعالى - يريد أن ينعم على بني إسرائيل بالحرية بعد استعبادهم ويمكن لهم في الأرض، ويهلك فرعون وهامان وجنودهما على أيديهم دون أن ينفعهم حذرهم، وجاءت هذه الآية وما بعدها تحكى قصة الإنعام على الأولين وإهلاك الآخرين. واختلف العلماء في تفسير المراد من الوحى إلى أُم موسى، فقال قتادة: أنه بمعنى الإلهام، وقال جماعة: إنه كان خطابًا مناميًّا كسائر الرؤى الصادقة، وقال آخرون: إنه كان يملك، ولا يثبت لها بهذا نبوة؛ فإن النبوة لا تكون في النساء بالإجماع، وقد جاء تكليم الملائكة لغير الأنبياء في قصة الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل حيث أنزل إليهم ملكًا يسألهم أمنياتهم، فسألوه أن يكشف الله ما بهم ويحسن إليهم، فأجابهم الله إلى ما سألوه، فبخل الأولان، وكان الأخير سخيا فيما أعطاه الله فرضى الله عنه، وقد روى حديثهم البخاري ومسلم وغيرهما (¬1). ¬

_ (¬1) ارجع إليه في الجزء الثامن من القرطبي ص 188 طبع دار الكتب في تفسير قوله تعالى: "إنما الصدقات". المسألة الرابعة والعشرون.

وأخرج البخاري في صحيحه (¬1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد كان فيما كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتى منهم أحد فعمر". وقد سلمت الملائكة على عمران بن حصين ولم يكن نبيًّا - نقله القرطبي. ويقول مجاهد: كان الإيحاء بالرضاعة والإلقاء في اليم عند الخوف عليه - كان ذلك - قبل الولادة, وقال السدى: لما ولدت أم موسى أمرت أن ترضعه وتصنع به ما في الآية، وهذا وذاك من باب الاجتهاد. ويروى أنها صنعت له تابوتا من نبات البردي، وقَيَّرَتْهُ بالقار، فلما خافت عليه ألقته في النيل، وكان فرعون قد استشار جلساءه فيما يصنعه ببنى إسرائيل، فأشاروا عليه بقتل مواليدهم من الذكور ففعل، روى عن ابن عباس أنه لما استحرَّ القتل فيهم قالوا: إن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون، فتحرمون من خدمتهم، وتقومون بما كانوا يقومون به، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر، ودعوهم عاما فلا تقتلوا منهم أحدا، فيشب الصغار مكان من ماتوا من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون فتخافوا مكاثرتهم إياكم، وكانوا قد كثروا بمصر واستطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي، فسلط الله القبط عليهم، فأجمعوا أمرهم على قتل ذراريِّهم الذكور عاما وتركهم عاما، فحملت أُم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل حملت بموسى - عليه السلام - فكان من أمره ما قصَّ الله - تعالى -. وقد اشتملت هذه الآية على أعلى صور البلاغة، يروى أن امرأة أنشدت شعرًا فمدح الأصمعى فصاحتها وبلاغتها، فقالت: أبعد قوله - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } وقد جمعت بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وتفصيل ذلك: أن {أَوْحَيْنَا} و {خِفْتِ} خبران، و {أَرْضِعِيهِ} و {فَأَلْقِيهِ} أمران، {وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} نهيان، و {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} بشارتان، فما أعظم وأبلغ القرآن، إذ يجمع كل ذلك في هذه الآية القصيرة. ¬

_ (¬1) في كتاب الأنبياء، باب: مناقب عمر.

والمعنى الإجمالي للآية: وأعلمنا أم موسى أن ترضعه وقتما تكون آمنة عليه، فإذا خافت عليه من الجواسيس أَلْقَتْه في تابوت في النيل، كما أعلمناها أنه موضع رعايتنا، فلا تخاف عليه ضَيْعَةً، ولا خطرا من عدم رضاعه، ولا تحزن على مفارقته إيَّاها إنا سنرده إليها عن قرب ونجعله من المرسلين حينما يبلغ سن الرسالة. وهذا ما نراه في معنى الآية الكريمة حسب نصها, وللمفسرين كلام كثير حول قصة وضعه وإخفائه وخوفها عليه من جواسيس فرعون، وننقل فيما يلي ما قاله ابن كثير في ذلك فإنه احتاط فيه أكثر من غيره - وإن لم نجد له سندًا - ونراه تصويرًا للحال حسب الخيال أقرب من أن يكون حكايته للمقال. قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يفنى بنو إسرائيل، فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة، فقالوا لفرعون: إنه يوشك - إذا استمر هذا الحال - أن يموت شيوخهم، وغلمانهم لا يعيشون، ونساؤهم لا يمكن أن يقمن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك، فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا، فولد هرون في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى - عليه السملام - في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يدرن على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها, لا يقبلها (¬1) إلاَّ نساء القبط فإن ولدت جارية تركنها وذهبْن، وإن ولدت غلاما دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا - قبحهم الله - فلما حملت أُم موسى - عليه السلام - لم يظهر عليها مخايل العمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا، وخافت عليه خوفا شديدًا، وأحبته حبًّا زائدا، وكان موسى - عليه السلام - لا يراه أحد إلاَّ أحبه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} , فلما ضاقت ذرعا به أُلهمت في سرِّها، ونُفِث في روعها كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } الآية. وذلك أن دارها كانت على حافة النيل، فاتخذت تابوتا ¬

_ (¬1) يقال: قبلت القابلة المرأة: إذا تلقت ولدها حين ولادته.

ومهدت له فيه مهدا، وجعلت ترضع ولدها فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه جعلته في ذلك التابوت وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها، فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر، وذهلت عن ربطه، فذهب مع الماء حتى مرَّ به على دار فرعون (¬1)، فكان من أمره ما قص الله - تعالى - بقوله: 8 - {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}: الفاء في قوله: {فَالْتَقَطَهُ} أفصحت عن جمل مقدرة تعرف من السياق، أي: فنفذت ما أُمرت به من إرضاعه ثم إلقائه في اليم عندما خافت عليه. والمراد من آل فرعون: أتباعه وجواريه، ومن التقاطه: أخذه، والتعبير عنه بالالتقاط للإيذان بأنهم أخذوه بإعزاز واهتمام كما يهتم باللقطة، قال ابن كثير في تصوير ذلك: فالتقطه الجوارى فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتحنه قبل أن تفتحه هي، فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه وذلك لسعادتها وما أراده الله من كرامتها، وشقاوة زوجها (¬2). واللام في قوله: {لِيَكُونَ} لام العاقبة، وليست لام التعليل؛ فإنهم التقطوه ليكون لهم قرة عين، لا ليكون لهم عدوًّا وحزنا، أي: فكانت عاقبة التقاطه أنه كان عدوا لهم ومصدر حزن، لا قرة عين ومصدر فرح وغبطة، حيث كان من أمره معهم ما قص الله. ومن المفسرين من جعل اللام هنا للتعليل، على معنى أن الله قيَّضهم لالتقاطه، ليجعله لهم عدوا وحزنا، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم وخوفهم ولهذا قال عقبه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}. ولفظ: {خَاطِئِينَ} إما من الخطيئة، وهي الإثم (¬3)، وإما من الخطأ ضد الصواب (¬4)، ويكون عن غير عمد. ¬

_ (¬1) انتهى كلام ابن كثير مع تصرف سير. (¬2) ابن كثير مع تصرف قليل. (¬3) ويطلق عليه الخِطْء أيضًا - بكسر الخاء وسكون الطاء - وفعله: خَطِىء - بفتح فكسر - إذا تعمد الذنب. (¬4) وفعله: خطيء أيضًا في بعض لغات العرب، أو: هو اسم فاعل من أخطأ على غير قياس.

والمعنى الإجمالي للآية: ففعلت ما أوحاه الله إليها من إرضاعه ثم إلقائه في اليم عندما خافت عليه، فجرى به الماء إلى قصر فرعون، فأخذه أتباعه بعناية وحرص وفرح كما تؤخذ اللقطة - أخذوه - لتكون عاقبته أن يصير لهم عدوا مخاصمًا في الحق، ومصدر حزن دائم لهم، حيث كان سببًا في غرقهم في اليم وحزن أهليهم عليهم، عقابا لهم على كفرهم بربهم وعصيانهم لرسولهم، إن فرعون وهامان وزيره وأعوانه كانوا آثمين باستعباد بني إسرائيل وظلمهم وقتلهم ذكرانهم، وكفرهم بآيات ربهم، كما كانوا مخطئين في تقديرهم نجاتهم بقتل ذكور بني إسرائيل فقد جحدوا أن الله شديد العقاب. 9 - {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ (¬1) لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)} (¬2): لم يأت في القرآن ولا السنة اسم امرأة فرعون، وجاء اسمها (آسية بنت مزاحم) عند عدد من المفسرين، ويبدو أنه اسم عربى، فهل هي من ذرية العماليق الذين حكموا مصر وكانوا عربًا، أم كانت من قبيلة من قبائل العرب؟ ويبدو لي أنه لا سند له؛ فلذا لا نجزم بصحة هذه التسمية وندعها لعلام الغيوب. قال القرطبى: يروى أن آسية امراة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت صبيا صغيرا فرحمته وأحبته فقالت لفرعون: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي: هو قرة عين لي ولك. وقال ابن كثير: يعني أن فرعون لما رآه همّ بقتله؛ خوفا من أن يكون من بني إسرائيل، فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تحاج عنه وتحببه إلى فرعون، فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقال: أما لك فنعم، وأمّا لي فلا، فكان كذلك، وهداها به، وأهلكه الله على يديه اهـ. وقد نقل ابن كثير عن النسائى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي يحلف به لو أقرَّ فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها". ¬

_ (¬1) وقدمت نفسها عليه لما تعلمه من حبه إياها، وإيثار مصلحتها على مصلحته. (¬2) جملة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حال من آل فرعون، والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت امرأته كيت وكيت وهم لا يشعرون وجوز كونه حالا من القائلة والمقول له، والمراد بالجمع اثنان، وقيل غير ذلك.

والخطاب في {لَا تَقْتُلُوهُ} إما موجه منها إلى فرعون على طريقة التعظيم، حيث خوطب خطاب الجمع، كما قال الشاعر: فقلت ارحموني يا إله محمَّد. وإما موجه إلى المأمورين بقتل الصبيان، كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى، آنست منه بادرة أمن جديد، فالتفتت إلى خطاب المأمورين بقتل الصبيان فنهتهم عن قتله، معلِّلَة ذلك بقوله - تعالى - حكايته عنها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أما نفعه لهم فلما رأته فيه من مخايل النجابة، وأما اتخاذه ولدا فلما رأته فيه من مخايل الشرف اللائق بتبنى الملوك، ولم يكن لها منه ولد. والمعنى الإجمالي للآية: وقالت امرأة فرعون حين بهرها حسن موسى - قال لفرعون أو لأعوانه -: لا تقتلوه وذروه حيًّا لعله ينفعنا نفعا جزيلًا نتوقعه منه، أو نتخذه ولدا ونتبناه حيث لا ولد لنا، وهم لا يدرون ما يُخبئه لهم القدر، من هلاك فرعون وجنوده وإنقاذ بني إسرائيل من عبوديتهم على يديه. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} المفردات: {فَارِغًا} أي: خاليًا من كل شيء إلاَّ من شأن موسى، أو خاليا من التعقل وحسن التصرف. {إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي (¬1) بِه}: إنها كادت لتعلن أمره للناس. {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} الربط على القلب: مجاز عن التثبيت بالصبر. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: لتكون راسخة الإيمان بصدق وعدنا برده. ¬

_ (¬1) (إن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، واللام فارقة بينها وبين (أن) النافية، أي: أنها قربت أن تصرح بموسى وحاله معها.

{قُصِّيهِ}: تتبعي أثره وتعرّفى خبره. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}: أبصرته عن بعد. التفسير 10 - {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: اختلف العلماء في تفسير فراغ قلب أم موسى، فمنهم من فسره بخلوه من كل شيء إلاَّ من أمر موسى، وصح ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كما روى ذلك التفسير عن ابن مسعود والحسن ومجاهد وعكرمة. ومنهم من فسَّره بالخلو من الصبر, ومنهم من فسره بنسيانها وعد الله برده إليها من اليم، وقال أبو عبيدة: فارغا من الهم حيث عرفت أنه لم يغرق، وأن فرعون عطف عليه وتبناه - كما يقال: فلان فارغ البال، وقال أخرون: فارغا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كما في قوله - تعالى -: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي: لا عقول فيها. فعلا رأى ابن عباس يكون معنى الآية: وصار قلب أم موسى فارغا من كل شيء إلا من أمر موسي حيث ألقته في البحر، ولا تدرى أين ذهب الماء به، إنها كادت لشدة وجدها وحزنها على فراقه, لتظهر أنها ذهب ولدها في البحر, وتخبر بحالها معه, لولا أن ثبتها الله وصبرها لتكون من الملتزمين بتصديق الله في وعده , وعلى رأى أبي عبيدة: وصار فؤاد أم موسى فارغا من الهم حيث عرفت أنه لم يغرق. وأن فرعون وامرأته تبنياه. إنها أوشكت أن تبوح بأمره وتكشف سره إلى آخر المعنى السابق. 11 - {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: كان لموسى - عليه السلام - أخت كبرى تحسن تنفيذ ما تكلف به، وكان اسمها مريم - كما قيل - فلما ألقته أمه في البحر قالت لأخته هذه: تتبعي أثره واعرفي خبره لتعرف مصيره، فأبصرته عن بعد وأهل فرعون لا يشعرون أنها أُخته، وأنها تتعرف حاله ومصيره.

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} المفردات: {حَرَّمْنَا}: منعنا، فالتحريم مجاز عن المنع؛ لأن من حُرِّم عليه شيء فقد منعه. {الْمَرَاضِعَ}: جمع مرضع؛ وهي المرأة لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت: مرضعة. {يَكْفُلُونَهُ}: يتولونه ويقومون على تربيته ورضاعته. {أَشُدَّهُ}: قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة كما ذكره صاحب القاموس، وقال البيضاوى: هو من ثلاثين إلى أربعين سنة، وهو واحد جاء على بناء الجمع، كآنُك (¬1)، ولا نظير لهما، أو جمع لا واحد له. {وَاسْتَوَى}: واعتدل وتمَّ وبلغ المبلغ الذي لا يُزَاد عليه، واستوى الرجل: بلغ أشده أو أربعين سنة. {حُكْمًا} أي: حكمة. {وَعِلْمًا}: ومعرفة وفهما, وعلمه - بكسر اللام - علمًا: عرفه. التفسير 12 - {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}: ¬

_ (¬1) الآنك: الرصاص.

لما أصبح موسى بدار فرعون وأحبته زوجته وطلبت منه الإبقاء على حياته قائلة: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} عرضوا عليه المراضع التي كانت لديهم، فلم يقبل منهن ثديا، فذلك قوله - تعالى -: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ .. } إلخ. والمعنى: منع الله موسى أن يرضع ثدى امرأة قط - قال ابن عباس: لا يؤتى له بمرضع فيقبلها، وهذا تحريم منع لا تحريم شرع, قال امرؤ القيس: جالت لتصرعنى فقلت لها اقصرى ... إني امرؤ صَرْعِي عليك حرام أي: ممتنع. وقد منعه الله - سبحانه - أن يرتضع ثدى امرأة غريبة, حتى يحدث ما أراده - سبحانه - من قبل حضور أخته التي كانت تتبعه. قال ابن كثير: وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير أمه، ولأن الله - سبحانه وتعالى - جعل ذلك سببا لرجوعه إليها. فاغتم آل فرعون لامتناعه عن الرضاعة وأهمَّهم ذلك وخافوا عليه التلف والهلاك. وتلمّسوا له المراضع؛ فلما رأتهم أُخته حائرين فيمن يرضعه قالت: ألا أرشدكم إلى أسرة كريمة تكفله وتتعهده بالرضاع والتربية وتقوم برعايته، ولا تقصر في خدمته، وهم له حافظون ومخلصون في رعايتهم له، فلما قالت لهم ذلك طلبوا هذه المرضع، فلما حضرت دخلوا بها عليه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا، واستدعت زوجة الملك أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلا - وهي لا تعرف إنها أمه الحقيقية - وحين طلبت أم موسى أن تأخذ معها موسى لترضعه في بيتها أجابتها امرأة فرعون إلى ذلك, وأجرت عليها النفقة والإحسان الجزيل، وهكذا رجعت أم موسى بولدها إلى بيتها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها آمنا في عز وجاه ورزق واسع، ولهذا جاء في الحديث: "مثل الذي يعمل ويحتسب في صُنعه الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها".

ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل، فسبحان من بيده الأمر, ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهو الذي جعل لمن اتقاه عند كل هم فرجا، ومع كل ضيق مخرجا, ولله در القائل: وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان 13 - {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أرجع الله موسى إلى أُمه كي تطيب نفسها وتسرّ بعودته إليها, ولا تحزن بفراقه، ولتزداد علما بأن جميع ما وعد الله حق لا خُلف فيه من رده إليها وجعله من المرسلين, بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون، ويشبه أن تكون جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} تعريضا بما فرط من أمه حين سمعت بخبر موسى ووقوعه في يد عدو الله فرعون، فنسيت وعد الله فجزعت وأصبح فؤادها فارغا بعد أن أضحى وليدها الرضيع كالحمل الوديع في عرين الأسد. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: حكتم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. وقال القرطبي: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يعني أكثر آل فرعون لا يعلمون، أي: كانوا في غفلة عن التقدير وسر القضاء. 14 - {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: لما ذكر الله - تعالى - مبدأ أمر موسى - عليه السلام - ذكر أنه لما بلغ أشده وكمل وتم نضجه أعطاه الله الحكمة والعلم والمعرفة والحلم، ومثل ذلك الجزاء الذي جزينا به موسى وأمه نكافيء المحسنين على إحسانهم. واختلف في زمان بلوغ الأشُّد والاستواء، أخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن ابن عباس أنه قال: الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء ما بين الثلاثين

إلى الأربعين , وأخرج ابن حميد عن مجاهد أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء أربعون سنة، وهي رواية عن ابن عباس. ونقل عن الزجاج: أن الأشد ما بين الثلاثين إلى الأربعين، واختاره بعضهم لموافقته لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} لأنه يشعر بأنه منتهٍ إلى الأربعين، والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت تمام النمو وغايته، والاستواء: تمام العقل وكماله ونضجه، وذلك يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير كثيرة في كتب اللغة والتفسير. كما اختلف في المراد من الحكم والعلم، قال الزمخشرى: العلم: التوراة، والحكم: السنة، وحكمة الأنبياء - عليهم السلام -: سنتهم، قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} الآية: 34. وقيل: آتيناه سيرة الحكماء والعلماء وأخلاقهم وسَمْتَهم قبل البعثة, لأن استنباءه - عليه السلام - كان بعد وكْزِ القبطى، والهجرة إلى مدين ورجوعه منها.

{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)} المفردات: {فَاسْتَغَاثَهُ}: فطلب غوثه ونصره ومساعدته. {شِيعَتِهِ} شيعةُ الرجل - بكسر الشين -: أتباعه وأنصاره، ويقع على الواحد وغيره مذكرا ومؤنثا، وقد غلب على كل من يتولى عليا وآل بيته حتى صار اسما خاصا بهم.

{فَوَكَزَهُ مُوسَى}: فضربه بِجُمْع كفه (¬1)، وقد يطلق الوكز على معنى الطعن والدفع. {فَقَضَى عَلَيْهِ} قال الآلوسى: أنهى حياته، أي: جعلها منتهية مُتقضِّية. {ظَهِيرًا}: مُعِينًا ومساعدا. {يَتَرَقَّبُ}: ينتظر ويترصد المكروه. {اسْتَنْصَرَهُ}: طلب نصره ومعاونته. {يَسْتَصْرِخُهُ}: يستغيث به. {يَبْطِشَ}: يأخذه بالعنف والشدة والبأس. {جَبَّارًا} الجبار: اسم من أسمائه تعالى، والجبار: العظيم القوى، وكل عات، ومن يقاتل في غير حق. التفسير 15 - {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}: ذكر - سبحانه وتعالى - قصة قتل موسى ذلك القبطى الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، ثم ما قدر له بعد ذلك من الإكرام والنبوة والتكليم فقال: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ... } إلخ. قال ابن عباس: دخل موسى مدينة - منف - من أرض مصر في وقت لا يعتاد دخولها أو لا يتوقعونه فيه، وكان - كما روى عن الحَبْر - وقت القائلة، وفي رواية عنه: بين العشاء والعتمة. وإزاءَ هذا الخلاف في الرواية عن ابن عباس، نرى أن التعيين لا مبرر له، فيكفى أنه وقت غفلة، والله يعلم أكان ليلًا أم نهارا؟ وقال ابن إسحاق: هي مصر، وكأن موسى - عليه ابسلام - قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب ثم دخلها متنكرا، فوجد فيها رجلين يتنازعان ويتحاربان أحدهما ممن شايعة وتابعه، وهم بنو إسرائيل، والآخر من مخالفيه وهم القبط، ¬

_ (¬1) في القاموس: جمع الكف - بالضم - وهو حين تقبضها.

فاستعان الإسرائيليُّ بموسى وطلب منه نصره ومساعدته على خصمه القبطى, واستجاب له موسى وأعانه وضرب القبطى فقتله من غير قصد، ثم أسف موسى وقال: إن إقدامي على هذا من تزيين الشيطان وإغوائه، إن الشيطان للإنسان لعدو ظاهر العداوة واضح الضلال والإضلال. واختلف في سبب تقاتل هذين الرلجبن، فقيل: كان أمرا دينيا, وقيل: كان أمرًا دنيويا، روى أن القبطى كلف الإسرائيلى حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى، فاقتتلا لذلك، وكان القبطى - كما روى عن سعيد بن جبير - خبازا لفرعون، والله أعلم بصحة ذلك. 16 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: قال موسى - متضرعا داعيا ربه -: يا رب إني أسأت إلى نفسي، بما فعلت من ضرب ترتب عليه القتل، وكان فيه ذهاب النفس، فاغفر لي ذنبي، وهكذا ندم على عمله فحمله ندمه على الرجوع لربه والاستغفار من ذنبه فغفر الله له. ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر قبل الرسالة وبعدها، لأن الوكز من الصغائر، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره - بل قيل: لا يشكل أيضًا على القول بعصمتهم عن الصغائر والكبائر مطلقا لجواز أن يكون - عليه السلام - قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم وتخليص ضعيف من قوي, ومنْعَ معتد من اعتدائه، ففعله غير قاصد به القتل, وكأنه - عليه السلام - بعد أن وقع منه ما وقع تأمل, فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز، وأنه لم يتثبت في أمره لما اعتراه من الغضب، فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله، فقال ما قال من أنه من عمل الشيطان على عادة المقربين في استعظام خلاف الأوْلى: 17 - {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}: قال موسى - خاضعا سائلا ربه متوجها إليه -: يا رب بحق إنعامك عليّ بالمعرفة والحكمة والتوحيد، وحفظي من شر فرعون وقومه وفقني للخير والصواب، فإن وفقتنى إلى ذلك

النهي عن معاونة الظلمة

فلن أكون عونا ومساعدا للكافرين والمخالفين لأوامرك، وعن ابن عباس: لم يستثن , فابتلى به مرة أخرى، يعني: لم يقل: فلن أكون إن شاء الله. وقيل معناه: بسبب ما أنعمت علي من قوة الجسم ومتانة التركيب وغير ذلك من النعم أشكرك، فلن أستعمل نعمك في مظاهرة من تؤدي معاونته إلى الوقوع في جرم وإثم. النهي عن معاونة الظلمة: احتج أهل العلم بهذه الآية على منع معاونة الظلمة وخدمتهم، أخرج عبد الله بن الوليد الرصافى: قلت لعطاء بن رباح: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج، وله عيال, ولو ترك ذلك لاحتاج واستدان، فقال: مَن الرأس؟ قال: خالد بن عبد الله القسرى. قال: أما تقرأ ما قاله العبد الصالح: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} فلا يعينهم أخوك، فإن الله يعينه. ذكره القرطبي والآلوسى والزمخشرى. قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما, ولا يكتب له، ولا يصحبه، وإن فعل شيئًا من ذلك كان معينا للظالمين، قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} فإذا كان الركون إلى الظلمة أو العمل معهم موجبا لغضب الله وسخطه، معرِّضا لعقابه وناره , فماذا يكون حال من انغمسوا منهم في شرورهم وآثامهم , وشاركوهم في ظلمهم وأعانوهم على القتل والتشريد للأحرار الصالحين؟ بل من كانوا أداة تعذيب وقهر وظلم للأبرياء؟ لا شك أن عقابهم أشد وعذابهم أعظم. 18 - {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}: فأصبح موسى في مصر بعد قتله القبطى فزعا يتوقع أن يصيبه الأذى من القوم بسبب قتله المصري، وقيل: خائفا وقوع المكروه من فرعون، يترقب نصرة الله عليه, فإذا صاحبه الإسرائيلى الذي نصره بالأمس وساعده وقتل القبطى بسببه يستغيث به مرة ثانية على

مصرى آخر, فنهره موسى وزجره قائلًا له: إنك لظاهر الغواية كثير الشر؛ لأنك تسببت في قتل رجل، وتقاتل آخر، ودعوتنى مرة ثانية لنصرتك ومساعدتك. 19 - {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}: أي: فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطى الذي هو عدوٌّ لهما توهم الإسرائيلى المستصرخ لضعفه وذلته أن موسى يريد البطش به، فقال له - يريد أن يدفع عن نفسه -: {أتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} الآية - ولم يكن أحد يعلم بقتل موسى للقبطى أمس سوى هذا الإسرائيلى؛ لأن ذلك كان والناس في غفلة، فلما سمع القبطى ذلك تلقفه من فمه, ثم ذهب به إلى بيت فرعون، فألقاها عنده، فاشتد حنقه، وعزم على قتل موسى .. هكذا قال ابن كثير، وكون الخطاب من الإسرائيلى لموسى هو رأى ابن عباس، وهو الذي قال به ابن كثير كما تقدم. وقال الحسن: قاله القبطى الذي هو عدو لهما، كأنه عرف من قول موسى للإسرائيلى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أنه الذي قتل القبطى بالأمس من أجله، ولما انتشر الحديث ووصل - بأية صورة - إلى فرعون ومَلَئِه هموا بقتل موسى - عليه السلام - فخرج مؤمن من آل فرعون - قيل: هو ابن عم فرعون - ليخبره بذلك وينصحه، كما قال عَزَّ وَجَلَّ:

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)} المفردات: {الْمَلَأَ} كجبل: الأشراف، والقوم ذوو الشارة والتجمع. {يَأْتَمِرُونَ بِكَ}: يتشاورون بسببك، وسمى التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر بأمره، والائتمار والمؤامرة: المشاورة والهم بالشر. {سَوَاءَ السَّبِيلِ}: الطريق السوى. التفسير 20 - {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}: المعنى: وجاء رجل مؤمن من آل فرعون من أقصى المدينة يسرع في مشيه لمزيد اهتمامه بإخبار موسى ونصحه قال: يا موسى إن وجوه قوم فرعون والأشراف منهم يتشاورون في أمرك ويشير بعضهم على بعض بقتلك قصاصًا للقبطى الذي قتلته بالأمس، فاخرج من مصر قبل أن يظفروا بك، إني لك من الناصحين المخلصين، ولا أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون وكبار دولته في أمره كان ما قص الله بقوله:

21 - {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: فخرج موسى - عليه السلام - من مصر ممتثلًا نصح ذلك المؤمن خائفا يتوقع أن يتعرض له أعداؤد بالأذى في الطريق، يتلفت خشية أن يُدْرَك، يقول ضارعًا إلى الله ربه أن يحفظه وينجيه من اعتداء المعتدين، من فرعون وقومه. 22 - {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}: ولما خرج موسى - عليه السلام - فارًّا بنفسه منفردا خائفا، وصرف وجهه ناحية مدين - قرية شعيب - ورأى حاله من خلوه من زاد وغيره، وعدم معرفته بالطريق فوض أمره إلى الله - تعالى - راجيا أن يهديه الطريق الأقوم السوى - طريق الخير والنجاة - قال ابن عباس: خرج وليس له علم بالطريق إلاَّ حسن ظنه بربه، وقال ابن كثير: حقق الله له ما طلبه، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة فجعله هاديا مهديا.

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} المفردات: {وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وصل إليه، والوِرْد - بالكسر -: الإشراف على الماء وغيره دخله أو لم يدخله، والنصيب من الماء، والقوم يردون الماء. {تَذُودَانِ}: تدفعان وتمنعان غنمهما عن الماء , ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فَليُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضي" أي: ليُطْرَدَنَّ

ويمنعن. {مَا خَطْبُكُمَا}: ما شأنكما؟ وفي القاموس: الخطب: الشأن والأمر صغر أو عظم، والجمع: خُطوب. {يُصْدِرَ}: قرأ ابن عامر وأبو عمرو: {يَصْدِرَ} - بفتح الياء - من صدر، ضد ورد، أي: يرجع الرعاة بأغنامهم، وقرأ الباقون: {يُصْدِرَ} من أصدر بمعنى أرجع، أي: حتى يُرْجعوا مواشيهم. {الرِّعَاءُ}: جمع الراعى، وهو كل من ولى أمر الحيوان وغيره ولاحظه محسنًا إليه, وقام على حفظه ومراقبته. {تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} قال أبو البقاء: تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيرًا, كقولك: أبَوْتُهُ إذا كنت له أبا، أو من تأجرني بمعنى تثيبنى، ومنه تعزية الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أجَرَكُم الله ورحمكم"، وفي القاموس: أجره، يأجِرُه، ويأجُرُه. جزاه كآجره، والأجر: الجزاء على العمل. {حِجَجٍ}: جمع حِجَّة - بالكسر - وهي السنة. {أَشُقَّ عَلَيْكَ}: أوقعك في الشقة والصعاب. {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي: لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة. التفسير 23 - {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: ولما بلغ موسى ماء مدين ووصل إلى بئرها وأشرف عليه وجد فوق شفيرها وعلى جوانبها جماعة كثيرة من الناس مختلفي الأصناف يسقون مواشى مختلفة، منهم من كان يسقى إبلا ومنهم من كان يسقى غنمًا وهكذا، ووجد في مكان أسفل من مكانهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم امرأتين تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء كما قال ابن عباس، أو: لئلا تختلط بغيرها كما قاله الزجاج، فلما رآهما موسى - عليه السلام - رق قلبه لهما وعطف عليهما وقال: ما شأنكما وما خبركما؟ لماذا لا تردان الماء مع هؤلاء؟ قالتا: عادتنا ألاَّ نسقى حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء بعد ريِّها؛ لأننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مدافعة الرجال ومزاحمتهم، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضى الناس أوطارهم من الماء، يقصدان إبداء العذر عن توليهما السقى بأنفسهما. وفي سؤاله - عليه السلام - إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية مع التصون والعفاف.

قال الزمخشرى: فإن قيل: كيف ساغ لنبى الله أن يرضى لبنتيه بسقى الغنم؟ فالجواب: أن الأمر في نفسه ليس بمحذور فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادات متباينةٌ فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحَضر، خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة. قال ابن كثير ج 3 ص 384: وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال: أحدها: أنها شعيب - عليه السلام - الذي أرسل إلى أهل مدين وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد، ورواه ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أُبَيّ، حدثنا عبد العزيز الأزدى، حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص. وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب، وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب، وكان شعيب قبل زمن موسى بمدة طويلة، لأنه قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ولقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل - عليه السلام - كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم، وكان بين الخليل وموسى مدة طويلة، وما قيل: إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو- والله أعلم - احتراز من هذا الإشكال، ومما يقوى كونه ليس بشعيب النبي أنه لو كان إياه لكان جديرا أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده، ثم الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه شيرون - والله أعلم -. ويقول الآلوسى - بعد أن ساق مثل ما تقدم -: والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيها. 24 - {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}: اهتز وجدان موسى، وتحركت عوامل الرحمة في قلبه، فتطوع لمساعدتهما وسقى غنمهما لأجلهما، ثم ركن إلى مكان ظليل ليستريح من الجهد الذي بذله، وهو يقول في تضرع وتذلل لربه: يا رب إني فقيرٌ إلى ما تسوقه إليّ من خير، محتاج إلى شيء تنزله من خزائن كرمك، ويبدو من عبارته شدة الحاجة إلى نجدة من رحمة الله بعد ما قاسى من سفر طويل وحرمان شديد، فعرَّض بالدعاء ولم يصرح بالسؤال.

قال الزمخشرى: وإنما فعل ذلك رغبة في المعروف، وإغاثة للملهوف؛ لأنه بعد أن وصل إلى ماء مدين وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيماتهما مترقبتين لفراغهم فما أبطأت همته في انتهاز تلك الفرصة احتسابا على ما كان به من النصَب والجوع، فرحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في تلك الزحمة بقوة قلبه وشدة ساعده وما آتاه الله من الفضل في متانة الخلقة، وفيه انتهاز فرصة الاحتساب وترغيب في الخير، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين، والأخذ بسيرهم ومذاهبهم. ولما رجعت الفتاتان بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما مسرعين، فسألهما عن خبرهما، فقصَّتا عليه ما فعل موسى - عليه السلام - فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها. 25 - {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: فجاءت إحدى الفتاتين مُوفدة من قبل أبيها تسير نحو موسى سير الحرائر، في حياء وخَفَر، قالت: إن أبي يدعوك ليثيبك ويكافئك على سقيك غنمنا، فلما ذهب موسى إلى والد الفتاتين وحدثه حديث، وقصَّ عليه قصصه، وما جرى له، وسبب خروجه من مصر، وتتبع القوم له واقتفائهم أثره، وشدة حرصهم على ملاقاته والفتك به، قال له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا؛ فقد خرجت من مملكتهم، ولا سلطان لهم في بلادنا وسلمت من القوم المعتدين: يريد فرعون وقومه. وفي قول الفتاة السابق ما فيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة، وقد لبى موسى دعوة شعيب لا على سبيل أخذ الأجر على معروف بذله لبنتيه، ولكن على سبيل التقبل لمعروف قُدِّم له، وقد قص على شعيب قصصه وعرَّفه أنه من بيت النبوة، ومثله حقيق بأن يُضَيّف ويُكَرَّم، على أنه ليس بمنكر أن يقبل الأجر على خير فعله لاضطرار الفقر والفاقة.

رُوِي أنها لما قالت له: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} كره ذلك، ولما قدم إليه الطعام امتنع مع شدة حاجته إليه وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع (¬1) الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف ثمنا؛ فقال شعيب: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا (¬2). هذا وإن كل من فعل معروفًا فأهدى بشيء لم يحرم أخذه. 26 - {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}: قالت إحدى ابنتي هذا الرجل (ولعلها هي التي استدعت موسى إلى أبيها والتي زوجها من موسى عليه السلام): يا أبت اتخذه أجيرًا لرعى الغنم والقيام على شئونها وحفظها، ورعايتها، إنه خير من تستأجره للقيام بهذه المهمة، وأداء هذا العمل لقوته وأمانته، وكلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه؛ لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان - أعني القوة والأمانة - في القائم بالعمل فقد فرغ بال صاحبه وتم مراده، وقد ساقته مساق المثل حيث قالت: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} بدلًا من أن تقول استأجره لقوته وأمانته. وعن ابن عباس: أن شعيبا أحفظته الغيرة: أغضبته، فقال: وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت له حمله حجر البئر ونزعه الدلو، وأنه صوَّب رأسه (¬3) حين بلغته رسالته، وأمرها بالمشى خلفه. اهـ: بتصرف. وروى ابن كثير والزمخشرى عن ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب حين قالت {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، وصاحب يوسف في قوله: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا}، وأبو بكر في عمر، أي: في اختياره عمر وترشيحه ليكون خليفة بعده. وقدمت وصفه بالقوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر، لتقدُّم علمها بقوته على علمها بأمانته، أو ليكون وصفه بالأمانة بعده من باب الترقى من المهم إلى الأهم، ¬

_ (¬1) طلاع الشيء - ككتاب -: ملؤه. اهـ: قاموس. (¬2) الكشاف بتصرف. (¬3) صوب رأسه: خفضها. اهـ: قاموس ص 94 ج 1.

واستُدِلّ بقولها: {اسْتَأْجِرْهُ} على مشروعية الإجارة عندهم، وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضروريات الحياة وفيها قضاءٌ لمصالح الناس. 27 - {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}: استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها؟ أي: قال شعيب - عليه السلام - لموسى: إني أُريد أن أزوجك واحدة من ابنتي هاتين على أن يكون مهرها أن تعمل عندي أجيرا لرعي الغنم ثماني سنوات فإن أتممت عشرا في الخدمة والعمل فالإتمام من عندك لا ألزمك به، ولكن إذا فعلته فهو منك تفضل وتبرع، وما أريد أن أصعب الأمر عليك وأوقعك في مشقة بإلزام أطول الأجلين، ستجدني إن شاء الله من الصالحين المحسنين للمعاملة الموفين بالعهد. وعلى النحو المتقدم وعد شعيب موسى المساهلة والمسامحة من نفسه، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعي غنمه ولا يفعل نحوه ما يفعله المعاسرون مع من يعمل لهم من المناقشة في مراعاة الأوقات، والمضايقة في استيفاء الأعمال، وتكليف الرعاة أشغالا خارجة عن حد الشرط، وهكذا كان الأنبياء - عليه م السلام - آخذين بالأسمح في معاملات الناس، وفي الآية الكريمة السابقة جواز عَرْضِ الولى ابنته على الرجل الصالح، وهذه سنة حسنة، عرض صالح بني مدين كل صالح بني إسرائيل بنته، وعرض عمر بن الخطاب بنته حفصة على أبي بكر وعثمان، فلا بأس بعرض الرجل وليّته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بالسلف الصالح. كما تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال الشافعي ومالك. واحتجا بهذه الآية، وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها إلاَّ برضاها، أما الصغيرة البكر فيزوجها وليها بغير رضاها بلا خلاف، واستدل الشافعي بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح، وخالفه غيره.

قال القرطبى في المسألة العاشرة: قوله تعالى: {إحْدَى ابْنَتَيَّ} يدل على أنه عرض لا عقد لأنه لو كان عقدا لعيَّنَ المعقود عليها له, لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز الإبهام في النكاح، فلابد من تعيين المعقود عليها. ثم قال في المسألة الحادية عشرة: أما تعيين الفتاة فقد حدث عند العقد. ثم قال: وأما ذكر أول المدة في الإجارة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه، فإما عيناه وإلا فهو من أول العقد. وقد دلت الآية الكريمة على أنه قد أصدقها منفعة هي الإجارة، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجرى في حديث الرجل الذي لم يكن عنده إلاَّ شيء من القرآن, وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجل سائلا: "ما تحفظ من القرآن؟ " فقال: سورة البقرة والتي تليها. قال: "فعلِّمها عشرين آية وهي امرأتك" اهـ: ملخصا من القرطبي. وتسمية المهر أجرا اصطلاح قرآني وقد قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. فإن قيل: إن إجارته كانت منفعة لأبيهما كما هو ظاهر النص , فالجواب: أن الغنم إما أن تكون لها فمنفعة إجارته عائدة عليها، وإن كانت الغنم لأبيها فربما كان ذلك شرع من قبلنا يجعل المهر من حق الأب. 28 - {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: قال موسى لصهره: ذلك الذي قُلْتَه وعاهدتني فيه, وشارطتنى عليه قائم بيننا، لا يخرج كلانا عنه، لا أنا عما شرطت على، ولا أنت عما شرطت على نفسك أي أجل من الأجلين - أطولهما الذي هو العَشْرُ أو أقصرهما الذي هو الثماني - وفيتك بأداء الخدمة فيه فلا يعتدى عليّ بطلب الزيادة عليه. قال الزمخشرى: أراد بذلك تقرير أمر الخيار وأنه ثابت مستقر، وأن الأجلين على السواء، إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء، وأما التتمة فموكولة إلى رأيي

إن شئت أتيتُ بها وإلا لم أُجبر عليها، وقيل معناه: فلا أكون معتديا، وهو نفي للعدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم عليّ ولا تبعة عليّ، والله على ما نقول من الشروط الجارية بيننا وكيل وشاهد وحفيظ، والمراد: توثيق العقد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلًا، وبما سبق في الآيتين استدل العلماء على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة، فإن موسى لم يكن حينئذ موسرا، وأن في قوله تعالى-: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} اكتفاءً بشهادة الله - عَزَّ وَجَلَّ - إذ لم يشهد أحدا من الخلق، فيدل ذلك على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح عندهم، وقد اختُلف في ذلك على قولين: أحدهما: أنه لا ينعقد إلاَّ بشاهدين، وبه قال أبو حنيفة، والشافعى، الثاني: أنه ينعقد دون شهود، وبه قال مالك؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد, وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدُّف (¬1). قال ابن كثير ج 3 ص 385: وقد دل الدليل على أن موسى - عليه السلام - إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما. قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم , حدثنا سعيد بن سلمان، حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: سألنى يهودى من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدرى حتى أُقدم على حبر العرب فأسأله, فقدمت على ابن عباس - رضي الله عنه - فسألته، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فعل، والله - تعالى - أعلم. ¬

_ (¬1) انظر القرطبي: المسألة الثالثة والعشرين.

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} المفردات: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ}: أتم المدة المضروبة بينه وبين شعيب. {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ}: أبصر من الجهة التي تلى الطور, وأصل الإيناس: إبصار ما يؤنس. {بخَبَر): بنبإ يعلم منه الطريق، وكانوا قد أخطأوا الطريق وضلوا عنه. {جذوة} - مثلثة الجيم -: عود غليظ مشتعل. {تَصْطَلُونَ}: تستدفئون. التفسير 29 - {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ... } الآية، هذه الآية تتضمن كلاما قبلها يقتضيه سياق القصة، وتتابع أحداثها، فإن قوله - تعالى - على لسان شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ... } الآية (¬1) لم يزد على أنه مجرد عرض، وإبداء رغبة لم يبرم فيه عقد , ولم تتكامل معه أركان الزراج، ومن عادة القرآن أن يستغنى عن ذكر ما يستدعيه المقام ويفهم من التتابع، فإن الإيجاز من مقاصد البلاغة، وتمام النسج على هذا أن يقال: فلما توافقا، وتم عقد النكاح أخذ في إمضاء ما التزمه {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} أي: فلما أتم موسى المدة التي تركها شعيب لخيار موسى - عليه السلام - والمراد به: الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم، عن الحسن ابن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - وأخرج البخاري، وجماعة عن ابن عباس: أنه سئل: أي الأجلين قضى موسى - عليه إلسلام -؟ فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. ¬

_ (¬1) من الآية 27 من سورة القصص.

وقوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي: مضى إلى مصر بأهله: وما كان معه من الزاد بإذن من شعيب - عليه السلام - قالوا: كان موسى - عليه السلام - قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم خفية من فرعون وقومه، قال ابن عطاء: لما أتم موسى أجل المحنة, ودنت أيام الزلفة، وظهرت أنوار النبوة سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. ومعنى {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}: أبصر من الجهة التي تلي الطور, لا من بعضه كما هو المتبادر، واصل الإيناس - على ما قيل -: الإحساس من الأُنس فيكون أعم من الإبصار. وقال الزمخشرى: هو الإبصار البين الذي لا شبهة فيه, واستظهر بعضهم أن المبصر كان نورًا حقيقة إلاَّ أنه عبر عنه بالنار اعتبارًا لاعتقاد موسى, ولأن النار هي طلبته. وقوله تعالى: {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} معناه: قال موسى لأهله حين آنس النار: أقيموا مكانكم، واثبتُوا, وفي البحر: أنه خرج بأهله وماله في فصل الشتاء, وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام, وامرأته حامل لا يدرى أليلا تضع أم نهارا, فسار في البرية لا يعرف طريقها، فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل، فأخذ امرأته الطلق، فقدح زنده فأصلد (¬1)، فنظر فإذا نار تلوح من بعد، فقال لأهله: امكثوا وأقيموا مكانكم إني أبصرت نارا سأقصدها {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: رجاء أن أجد عندها من يرشدني إلى الطريق فآتيكم بخبر عنه، أو آتيكم بعود غليظ ملتهب بالنار تلتمسون به الدفء من شدة ما تعانون من البرد. ¬

_ (¬1) أي: لم يخرج نارا.

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)} المفردات: {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ}: الجانب الأيمن بالنسبة لموسى، وقيل: الأيمن من اليُمْن. {الْبُقْعَةِ} - بضم الباء -: القطعة من الأرض على غير هيئة التي بجانبها, وتفتح باؤها أيضًا كما في القاموس. {جَانٌّ}: حية كحلاء العين بيضاء وتكثر في الدور ولا تؤذى. {مُدْبِرًا}: منهزما خلفه من الخوف. {يُعَقِّبْ}: يرجع. {اسْلُكْ}: ادخل. {جَيْبِكَ} الجيب: فتحة القميص من حيث يدخل الرأس. {جَنَاحَكَ} الجناح: العضد والذراع؛ لأنه الذراع للإنسان كالجناح للطائر. {سُوءٍ}: عيب ومرض. {الرَّهْبِ} - بفتح الراء والهاء -: الخوف، - وفيه إسكان الهاء مع فتح الراء وضمها - وبه قرئ. {بُرْهَانَانِ}: حجتان واضحتان، تثنية برهان، وهو الحجة النيرة القاطعة يقال: أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. التفسير 30 - {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ ... } الآية. أي: فلما أتى النار التي آنسها موسى - عليه السلام - جاءه النداء من الجانب الأيمن

بالنسبة إلى موسى في مسيره، فالمقصود بالجانب الأيمن: الجهة اليمنى، وجوزوا أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليُمن والبركة، وعلى هذا يجوز أن يكون وصفا للشاطئ أو الوادى، وقوله: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} معناه: نودى من شاطىء الوادى الأيمن في هذه القطعة التي باركها الله بما خصها به من آياته وأنواره المشتملة على الشجرة النابتة فيها. وقوله: {أَنْ يَا مُوسَى} تفسير للنداء، أو بيان لشأنه وحقيقته حسما لكل شك وقطعًا لكل تأويل، قال جعفر: أبصر نارا دلته على الأنوار؛ لأنه رأى النور في هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس، وأحاطت به أجواء الأنس فخوطب بألطف خطاب، واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلما شريفا أعطى ما سأل، وأمن مما خاف. ومعنى: {إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: إني أنا الله ربك الذي يخاطبك ويكلمك، ورب العالمين الفعال لما يشاء, لاَ إله سواه، ولا رب غيره - تنزه وتعالى - عن المماثلة في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله فاسمع مني، ولا تك في شك مما يلقى إليك، وقد سمع موسى - عليه السلام - على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا خلقه الله في الشجرة - وقيل: خلقه في الهواء كذلك، وسمعه موسى من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات، وذهب الشيخ الأشعرى والإمام الغزالي إلى أن موسى - عليه السلام - سمع كلامه النفسي القديم بلا صوت ولا حرف, كما ترى ذاته - عَزَّ وَجَلَّ - يوم القيامة بلا كيف ولا كم. وقال الحسن: إنه - سبحانه - نادى موسى - عليه السلام - نداء الوحى لا نداء الكلام، ولم يرتض ذلك العلماء لما فيه من مخالفة الظاهر، وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكلم من بين الأنبياء. ولفظ: (أنا) وإن كان كل واحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه. هذا: وجاء في سورة طه في التعبير عن هذه القصة {نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}، وفي سورة النمل: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} وما هنا غير ذلك، بل ما في كل غير ما في الآخر، فاستشكل ذلك، وأُجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة والواقع أن ما في القرآن ترجمة عربية لما سمعه موسى، فتؤدَّي بأي عبارة تفهم أصل المعنى، وذهب الإِمام إلى أنه - تعالى - حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما.

ومثل هذا يقال فيما تكرر ذكره من القصص في القرآن الكريم مع اختلاف التعبير فيه,؛ لأن كل سورة تعنى عند ذكر القصة بالجانب الذي تسوقها من أجله، والتعبير الذي يناسبه. 31 - {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} الآية. هذه الآية معطوفة على قوله: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} فهي من جملة ما نودى به، فقد ناداه أولًا بما يؤكد ألوهية الله وربوبيته - سبحانه - لموسى وللعالمين جميعا ليستيقظ انتباهه وتنقشع غفلته، وناداه ثانيًا بما يؤدى الغرض ويحقق المقصود من اصطفائه للرسالة بقوله: وألق العصا التي تحملها في يديك على الأرض تنقلب حية في سرعة حركتها, ثعبانا عظيمًا في ضخامة جثتها وضخامة فمها، آية لك. وعن الحسن: ما كانت إلا عصا من الشجرة التي اعترضها اعتراضا, وعن الكلبي: كانت عصا من شجرة العوسج التي نودى منها موسى. وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} يفصح عن كلام محذوف تقديره: فألقى موسى العصا طاعة لأمر ربه فانقلبت حية في خفتها وسرعة حركتها. وثعبانا في ضخامة جثتها. وعظم حجمها، فلما أبصرها تهتز وتتحرك بهذه الخفة تملاسه الخوف واستبد به الرعب ففر منهزما. ولم يعقب على شيء ولم يرجع وراءه أو يلتفت خلفه من شدة خوفه, وعند ذلك نودى من قبل الله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} من المخاوف لأنك رسول الله, وإنه لا يخاف لدى المرسلون. 32 - {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ... } الآية. هذه الآية من جملة ما نودى به موسى. والمعنى: أَدخل يدك في فتحة ثوبك حيث يخرج الرأس، فإن فعلت تخرج بيضاء من غير مرض ولا عيب. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} في الكشاف: فيه معنيان: (أحدهما): أن موسى - عليه السلام - لما قلب الله - تعالى - العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده، كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء، فإذا ألقيت العصا فانقلبت حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد

بالجناح: اليد لأن يد الإنسان بمزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى فقد ضم جناحه إليه. (الثاني): يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه لنفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر، لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ومعنى: {مِنَ الرَّهْبِ} من أجل الرهب, أي: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك. انتهى بتصرف يسير. وقوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ ... } معنا: فهذان الأمران العجيبان - وهما قلب العصا، وخروج اليد بيضاء - برهانان واضحان, وحجتان نيرتان، مُرْسلان من ربك، واصلان إلى فرعرن وقومه ليرتدعوا عما هم فيه، إنهم كانوا قوما خارجين عن طاعة الله، أحقاء بأن نرسل إليهم هاتين المعجزتين لزجرهم وردهم عن فسقهم وكفرهم، والبرهان معناه: الحجة النيرة من قولهم: أبره الرجل: إذا جاء بالبرهان مأخوذ من: بره, إذا ابيضَّ وتسمى الحجة سلطانا أيضا من السليط، وهو الزيت الذي يتلألأ عند الاتقاد. {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)} المفردات: {رِدْءًا}: معينًا يشتد به أمرى. {يُصَدِّقُنِي}: بإيضاح الحق بلسانه، وبسط القول فيه، ونفى الشبهة عنه. التفسير 33 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}: أي: قال موسى - عليه السلام - تعقيبا على تكليفه بالرسالة، وطلبا لما يعينه عليها، ويقويه كل أدائها كما يفهم من قوله - تعالى -: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} ولم يقله استعفاء

من الرسالة ورفضا - كما زعم اليهود - قال: يا رب إني قتلت من هؤلاء القوم نفسا حين استنصرني الرجل الذي من شيعتي، فإذا تعرضت لهم ورأوني فإني أخاف أن يقتلوني بقتيلهم، ولا معين لي يمنعنى منهم، أو يدفع عني شرهم. 34 - {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}: أي: وأخى هارون هو أقدر مني على توضيح الحجة ورد الشبهة، وقوة المعارضة - وأنما قال ذلك لأنه - عليه السلام - كانت به عقدة في لسانه تضعف تعبيره وتعوق بيانه - فأحتاج إلى من يعيننى ويبلغ حجتى، فأرسل معى أخي هارون ردءا وعونا يساعدني على توضيح الدعوة وإبراز الحجة، ويصدقني، ويخلص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل الكفار ويظهر صدقي بتقرير الحجج وتزييف الشبه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} فلا يسعفنى لساني على محاجتهم ولا يطاوعنى على مقاومتهم، ومعارضة باطلهم. {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} المفردات: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ}: سنقويك ونعينك. {سُلْطَانًا}: تسلطا وغلبة بالحجة والبرهان. التفسير 35 - {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ... } الآية. استئناف وقع جوابا من الله لسؤال موسى - عليه السلام - بقوله: {أَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا} أي: قال الله - سبحانه - لموسى: سنعينك ونقربك بإجابة مطلوبك، حيث نشد عضدك بإرسال أخيك هرون معك.

وشدة عضده كناية عن تقويته لأن الجسد يشتد بشدة العضد - وهو ما بين المرفق إلى الكتف وقوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} معناه: ونجعل لك ولأخيك تسلطا وغلبة عليهم فلا يقوون على تكذيبكم، وتمتنعون عليهم فلا يصلون إليكما باستيلاء أو محاجة. وقوله تعالى: {بِآيَاتِنَا} يجوز أن يكون متعلقا بـ {نَجْعَلُ}، أو بـ {لَا يَصِلُونَ}، والمعنى: أنت يا موسى وأخوك هرون ومن اتبعكما - أنتم - الغالبون بآياتنا، الممتنعون بقوتنا فلا سبيل لفرعون وقومه إلى الوصول إليكما بأذى. وبهذه العدة من الله اشتد عضد موسى - عليه السلام - وقوى عزمه، وتسامت همته إلى مواجهة طغيان فرعون وملئه، وتحطيم إلاهيته، كما تمت نعمة الله على هرون بإرساله، بفضل طلب موسى لذلك من ربه، ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هرون - عليهما السلام - فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)} المفردات: {بَيِّنَاتٍ}: واضحات الدلالة على رسالة موسى. {مُفْتَرًى}:. مختلفا لم يحدث قبل هذا مثله، أو سحر تفعله أنت ثم تكذب به على الله. {الْأَوَّلِينَ}: السابقين. التفسير 36 - {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ... } الآية. أي: فلما جاء موسى بآيات الله ومعجزاته الواضحات أنكرها فرعون ومَلَؤه، وكذبوها، وقالوا: ما هذا الذي جئت به إلاَّ سحر مختلق لم يفعل مثله قبله، أو سحر تفعله أنت من عند نفسك ثم تفتريه على الله وتكذب، وزادوا في العناد والكفر والإنكار فقالوا: وما سمعنا بهذه النبوة التي تدعيها في آبائنا السابقين علينا, ولا وقع فيهم مثل هذا القول.

{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)} المفردات: {عَاقِبَةُ الدَّارِ}: هي العاقبة والنهاية المحمودة لقوله تعالى: {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}. و {الدَّارِ} هي: الدنيا. التفسير 37 - {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى ... } الآية. تتعلق بهذه الآية مباحث: أولًا: أن موسى - عليه السلام - يعني نفسه بقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ}. ثانيا: أن السياق يقتضي عدم العطف بالواو لأن الموقع موقع سؤال وجواب، ولكنه جاة عطفا بالواو على قولهم: ما هذا إلا سحر مفترى ليوازن الناظر بين القولين، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر. ثالثا: أن الآية جرت على أسلوب التشكيك والتعمية استجهالًا لهم على حد قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. والمعنى: قال موسى - عليه السلام - ردا على قولهم: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} ربي أعلم منكم بحال من أهله للدعوة إلى الهدى والفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى، ووعده العاقبة المحمودة في الدنيا، وعاقبتها أن يختم للإنسان فيها بما يفضى به إلى الجنة بفضل الله وكرمه. ووجه اختصاص العاقبة بالعاقبة المحمودة دون مطلق العاقبة: أنها هي التي دعا الله إليها عباده، وحضهم عليها، وهيأ فيهم العقول التي ترشدهم إليها، وقال عنها: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}: تنزيه لله - تعالى - أن يرسل الكاذبين، أو ينبئ الساحرين، أو يفلح عنده الظالمون فيفوزون بمطلوب، أو ينجون من محذور. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)} المفردات: {الْمَلَأُ}: الأشراف وذوو الرأي. {أَوْقِدْ}: أشعل النار. {صَرْحًا}: قصرا عاليا وبناء شامخا. التفسير 38 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ... } الآية. بعد أن جمع فرعون السحرة وتصدى للمعارضة، وكذب موسى وسمع إجماع قومه على التكذيب قال في تيه وشموخ مخاطبًا أشراف قومه: يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى مما يدعيه موسى ويدعو إليه، نفي علمه بإله غيره دون أن ينفى وجود الإله, حيث لم يقل: ليس لكم إله غيرى، يريد بذلك: أنه لو كان لهم إله غيره لعلمه، وهو بذلك يحاول أن يخلع على نفسه خلق الإنصاف في الحكم، ولهذا رتب عليه قوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} والواقع أنه كاذب؛ فإن ألوهية الله - تعالى - لعباده لا يمكن أن تخفى على مثله, وهذا ما يشهد به قوله تعالى حكايته عن موسى - عليه السلام -: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ}. ومعنى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ}: أشعل النار على الطين شديدة قوية ليتحول إلى آجُر، فيكون أقوى في البناء، فإذا استحال الطين آجُرا فابْنِ قصرا عاليا، وبناء شامخا

لأصعد عليه فأطلع إلى إله موسى الذي يدعيه، ويدعو له، وكأنه يوهم قومه أنه لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء يمكن الصعود إليه، والاطلاع عليه، وإني لأظنه من الكاذبين فيما يذكر من أمر الإله وما يدعى من شأن النبوة، ولكن أحب أن أحقق الأمر من طرقه المختلفة حتى لا يكون لديّ ولا لديكم شك في أنه ليس لكم إله غيرى، وهذا منه مبالغة في التمويه، وإغراق في التلبيس واللعب بعقولهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} المفردات: {بِغَيْرِ الْحَقِّ}: بالباطل؛ لأن الاستكبار بالحق لله وحده. {لَا يُرْجَعُونَ}: - بضم الياء - من الرجع المتعدى إلى المفعول بنفسه، و - بفتحها - من الرجوع الذي لا يتعدى إلى المفعول بنفسه. {فَنَبَذْنَاهُمْ}: طرحناهم ورميناهم. {الْيَمِّ}: البحر. {أَئِمَّةً}: قادة ودعاة. {لَعْنَةً}: طردا وإبعادا عن الرحمة. {الْمَقْبُوحِينَ}: المشوهين الموسومين بعلامات منكرة قبيحة. التفسير 39 - {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ ... } الآية. المعنى: واستكبر فرعون اللعين وجنوده في أرض مصر، واستعلوا وتعاظموا على الإيمان باللهِ، والتصديق برسالة موسى استكبارا باطلا بغير أهلية ولا استحقاق؛ لأن رؤية العظمة

للنفس على الخصوص دون غيرها لا تكون حقا إلاَّ من الله - عَزَّ وَجَلَّ - قال الزمخشرى: الاستكبار بالحق إنما هو لله وحده، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير حق، وفي الحديث القدسى: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار". وأكثر المفسرين على أن الأرض هي مصر، وقيل: مطلق الجرم المقابل للسماء، وفي التقييد بها زيادة تشنيع عليهم، وتسفيه لعملهم، حيث استكبروا في أسفل الأجرام بغير استحقاق ولا تأهيل، ومعنى قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}: توهموا أن لا معاد ولا بعث، وأنهم لا يعودون إلينا, ولا يرجعون لنا لملاقاة الجزاء، ومواجهة العذاب. والتعبير عن اعتقادهم بالظن إما على ظاهره، وإما تحقير لهم، وسخرية باعتقادهم؛ حيث بنوه على الأوهام. 40 - {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}: أي: فباغتنا فرعون وجنوده فأخذناهم فنبذناهم وطرحناهم في البحر، ورميناهم فيه رمي البقايا التالفة والمخلفات التافهة، وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ، واستحقار شديد للمأخوذين وكأنه أخذهم مع كثرتهم وطرحهم في اليم كما يأخذ الإنسان شيئًا عديم القيمة فيرميه. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي: فتأمل يا رسول الله وانظر كيف انتهت عاقبة هؤلاء الطغاة وكيف استحال تجبرهم وكفرهم، وبَيِّنْ هذا لقومك وللناس ليعتبروا ويتدبروا. 41، 42 - {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}: المعنى: خلقناهم وصيرناهم في عهدهم قدوة للضلال يدعون إلى موجبات النار في الدنيا من الكفر والمعاصي، ويوم القيامة لا ينصرون من أحد بدفع العذاب أو تخفيف ويلاته عنهم بوجه من الوجوه. وأتبعناهم في هذه الدنيا التي فتنتهم وصرفتهم عن اتباع الهدى - أتبعناهم - لعنة وطردًا وإبعادا عن الرحمة، أو أتبعناهم لعنًا من اللاعنين الذين يجرى ذكرهم على ألسنتهم، حيث لا تزال الملائكة تلعنهم والمؤمنون خلفا عن سلف.

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: وهم فوق لعنتهم في الدنيا، يوم القيامة من المطرودين المبعدين، أو من المهلكين المشوَّهين، فيجمع لهم بذلك خزى الدنيا وذل الآخرة، روى ابن عدى والطبراني عن ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا". {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} المفردات: {الْكِتَابَ}: التوراة. {الْقُرُونَ الْأُولَى}: هم أقوام نوح، وهود، وصالح، ولوط - عليهم السلام - {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}: أنوارا لقلوبهم. التفسير 43 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ... } الآية. هذه الآية والآيات بعدها تشعر - بتصدرها بالقسم والتوكيد - بأنها بداية حديث عن موسى - عليه السلام - مع أن السورة من أولها تحكى قصته، والذي يفهم من هذا الأسلوب - والله أعلم - أنه إثارة للانتباه بعد أن طال الكلام عن القصة، وتجديد للتشويق، ومدخل إلى التصديق برسالة سيدنا محمَّد - عليه الصلاة والسلام - بما يخبر به من غيبيات في قصة موسى لم يكن شاهدها ولا علم له بها من قبل. والمعنى: ولقد آتينا موسى التوراة، وأنزلناه مفصل الأحكام، من بعد ما أهلكنا القرون السابقة عليه من أقوام نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام. والتعرض لبيان كون إيتاءِ التوراة بعد إهلاك الأمم السابقة للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها، وضرورة نزولها لهداية الناس، وردهم إلى العبادة، وذلك تمهيد لما يعقبه من بيان الحاجة الملحة إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن إهلاك

القرون الأُولى من موجبات اندراس معالم الشرائع المؤدى إلى اختلال نظام العالم وفساد أحواله، وذلك يستدعى تشريعا جديدا يرد الناس إلى جادة الصواب، ويرشدهم إلى السلوك القيم، ولهذا قال: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: أنوارا لقلوبهم، تبصر بها الحقائق، وتميز بين الحق والباطل، حيث كانت من طول ما تغشَّاها من الجهل عمياء عن الفهم والإدراك؛ فإن البصيرة نور القلب، كما أن البصر نور العين. والمراد بالناس أُمة موسى - عليه السلام - ومن أُنزل إليهم التوراة لترشدهم إلى الاستقامة وحسن السلوك، وما تتضمنه من تأييد بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وحقية رسالته. وقوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: معناه: هدى إلى شريعة الله التي هي الطريق الموصلة إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورحمة ينال من عمل بها ثوابه وحسن جزائه ليكونوا على حال يرجى منه التذكر والاعتبار، فمعنى: لعل هنا؛ التعليل، حكى الواقدى عن البغوى أنه قال: جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلاَّ {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فإنها للتشبيه، والمشهور أنها للترجى. {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)} المفردات: {الْغَرْبِيِّ}: الجبل الغربى، أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات.

{إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ}: إذ عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحى. {الشَّاهِدِينَ}: الحاضرين للوحى من جملة السبعين المختارين للميقات. {أَنْشَأْنَا قُرُونًا}: خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة. {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}: تمادى وتباعد عليهم الزمن. {ثَاوِيًا}: مقيمًا. {الطُّورِ}: الجبل. {لِتُنْذِرَ}: تخوف وتحذر. التفسير 44 - {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}: هذه الآية وما بعدها شروع في التنبيه إلى نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وفي بيان أن إنزال القرآن واقع في زمان مساس الحاجة إليه، واقتضاء الحكمة له البتة. وقد صدر بتحقيق كونه وحيا صادقا من الله - عَزَّ وَجَلَّ - ببيان أن الوقوف على ما تناول من أخبار، وما فصَّل من أحوالا لا يتسنى إلاَّ بالمشاهدة أو بالتعلم ممن شاهدها على أُسلوب قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. والمعنى: وما كنت بجانب الجبل الغربى، أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} وعهدنا إليه، وأحكمنا أمر نبوته بالوحى وإنزال التوراة، وما كنت من جملة الشاهدين الحاضرين الوحى، وهم السبعون المختارون للميقات، المنوه عنهم بقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} ما كنت من الشاهدين ذلك حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى ونزول ألواح التوراة عليه فتخبر بذلك. ويصح أن يكون المعنى: وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك من شأن موسى، وأخبرت به فهو نفي لشهادته - عليه الصلاة والسلام - جميع ما جرى لموسى فكان عموما بعد خصوص. 45 - {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}: هذه الآية استدراك لتأكيد المعنى السابق في الآية قبلها.

والمعنى: ولكنا خلفنا بين زمانك وزمان موسى قرونا وأممًا كثيرة تمادى وتباعد عليها الزمن، فتغيرت الشرائع، وتبدلت الأحكام، وعممت عليهم الأنباءُ، لا سيما ما كان منهم في آخر هذه الأزمان من الذين أنت فيهم, فاقتضت حكمته - تعالى - التشريع الجديد وقصَّ الأنباء على ما كانت عليه، فأوحينا إليك، وقصصنا عليك ما لم تكن شاهده ولا قريبا من زمانه، تصديقا لنبوتك وتحقيقا لرسالتك. {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي: ما كنت مقيما في أهل مدين وقوم شعيب حتى يكون علمك بما تقصه وما تتلوه من آياتنا الناطقة بما كان لموسى - عليه السلام - معهم، وبما كان لهم معه عن طريق إقامتك فيهم تتسمع منهم، وتتعلم هذه الأخبار عنهم, ثم تتلوها عليهم {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}: ولكن ذلك بإرسالنا لك ووحينا إليك. 46 - {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: المعنى: كما لم تكن بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، ولم تكن ثاويا في أهل مدين، لم تكن كذلك ولم تحضر بجانب الطور وقت ندائنا موسى: إني أنا الله رب العالمين، واستنبائنا إياه، وإرسالنا إياه إلى فرعون. {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن أرسلناك بالقرآن الكريم الناطق ذكر وغيره رحمة من ربك لقومك، وهداية لهم بما تدعوهم إليه من نبذ عبادة الأصنام إلى عبادة الله وحده، وتهذيب سلوكهم، وتقويم عوجهم حتى تطهير الأرض من فسادهم، وتنجلي عن بصائرهم غشاوات الجهل، وأدران الكدر والضلال، كما أرسلناك لتنذر قوما عربا وغير عرب طال عليهم أمد الجهل، وامتد بهم زمان الضلال، ما آتاهم من نذير من قبلك ينذرهم، ويخوفهم عواقب أمورهم. قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل - عليه السلام - وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته. ونزيد على ذلك: أن إسماعيل أرسل إلى العرب العاربة، أما العرب المستعربة التي نشأت بعد إسماعيل من ذريته، فلم يرسل إليهم سوى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ولذا قال الله - تعالى - في سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُون}.

وقوله - تعالى -: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: معناه: فعلنا هذه الأمور كلها ليكون لهم منها تذكر وعظة واعتبار فيرجعوا عن كفرهم، ويقلعوا عن إصرارهم وعنادهم. {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} المفردات: {مُصِيبَةٌ}: عقوبة ونقمة. {لَوْلَا أَرْسَلْتَ}: هلا أرسلت. التفسير 47 - {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ... } الآية. الكلام عن الرسالات السماوية وعن إرسال الرسل خليق أنا يثير في نفس السامع تساؤلا عن الدوافع والأسباب المقتضية لذلك، وجاءت هذه الآية إجابة عن هذا التساؤل، توضح أن الحكمة السامية في إرسال الرسل قطع أعذار المشركين والعصاة، وإلزامهم الحجة حتى لا يكون لهم اعتذار إذا واجهوا مصيرهم ولاقوا جزاءهم، والآية وإن كانت تشير إلى الحكمة في إرسال محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إليهم، لكنها تشير إلى مثلها في جميع الرسالات. والمعنى: ولولا أن تصيب المشركين من قريش وغيرهم من الكفار عقوبة، أو تحل بهم نقمة بسبب ما يقترفون من الكفر، وما يرتكبون من المعاصي، فيقولوا معتذرين عن إتيانها: فعلنا ذلك جهلًا، يا ربنا هلَّا أرسلت إلينا رسولًا يرشدنا إلى خير ما نفعل، ويوجهنا إلى السلوك السوي فنتبع آياتك الظاهرة على يديه، ونسير في أفعالنا على هديه، ونكون من المؤمنين بما جاء به فلا نفعل ما فعلناه.

لولا أن هذا يمكن أن يقولوه عند عقوبتهم على جناياتهم التي قدموها ما أرسلناك، لكن لما كان قولهم ذلك محققًا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لأعذارهم. {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)} المفردات: {الْحَقُّ}: القرآن المنزل على سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أو الرسول المصدق بالقرآن. {تَظَاهَرَا}: تعاونا بتصديق كل منهما الآخر. التفسير 48 - {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}: أي: فلما جاء هؤلاء القوم من أهل مكة الموجودين عند بعثة سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لما جاءهم القرآن الحق وهو المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قالوا تعنتا واقتراحا: هلا أوتي محمَّد مثل ما أوتي موسى من التوراة المنزلة جملة، ومن المعجزات الأخرى كقلب العصا حية وفلق البحر, وغير ذلك، قالوا هذا كما قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} (¬1). وقوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} رد عليهم وإظهار لتعنتهم، وبعدهم عما يرشدهم إلى الحق. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 12.

والمعنى: أولم يكفر أمثالهم، ومن مذهبهم كمذهبهم في الكفر والعناد بما أوتي موسى؟ وعن الحسن - رحمه الله - كان للعرب أصل في أيام موسى، فيكون المعنى على هذا: أولم يكفر آباؤهم المعاصرون لموسى، وقوله: {مِنْ قَبْلُ} متعلق بـ {يَكْفُرُوا} أي: أولم يكفروا من قبل هذا القول؟ أومن قبل هؤلاء الكفار؟ قالوا: سحران تظاهرا وتعاونا: سحر موسى وسحر هارون. ونحن نرجح أن الذين كفروا بما أوتي موسى من قبل وقالوا: سحران تظاهرا، هم أهل مكة، روى أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأن محمَّد - عليه الصلاة والسلام - فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك، وقالوا: إنا بكل من الكتابين - القرآن والتوراة - كافرون، قالوا ذلك تأكيدا لكفرهم لغاية عتوهم وتماديهم في العناد والطغيان، وقرئ: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} يعنون موسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} المفردات: {أَهْدَى}: أقوى في الهداية. {مِنْهُمَا}: من القرآن والتوراة.

التفسير 49 - {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي: قل يا رسول الله لهؤلاء المشركين: إذا كان القرآن والتوراة سحرين متظاهرين فأتوا بكتابٍ من عند الله أقوى منهما في الهداية، فإن تأتوا به أتبعه وأصدقه، وأمضي على هديه، وهذا الشروط مما يأتي به من يشير إلى وضوح حجته وسنوح محجته؛ لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بيّن الاستحالة، فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} معناه: إن كنتم صادقين في أنهما سحران مختلقان تظاهرا، وإيراد الجملة بأسلوب التشكيك مع استحالة صدقهم مزيد تهكم بهم. 50 - {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ... } الآية. أي: فإن لم يستطيعوا أن يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب هو أهدى من القرآن والتوراة - ولن يستطيعوا ذلك ولن يقابلوه - فاعلم أنهم إنما يتبعون آهواءهم الزائغة، ويصرون على موقفهم عنادا وكفرا من غير أن يكون لهم مُتَمسك ما أصلا، إذ لو كان لهم لأتوا به. وإنما عبر عن عجزهم عن الإتيان بعدم الاستجابة إيذانا منه - صلى الله عليه وسلم - بأنه على كمال أمنٍ من أمره - كأن أمره - صلى الله عليه وسلم - لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}: أي: لا أحد أضلُّ ممن أَتبع هواه، واستبد برأيه بغير هدى من الله، فهو أضل من كل ضال. وتقييد اتباع الهوى بغير الهدى من الله - تعالى - لزيادة التقريع، والإشباع في التشنيع والضلال. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى, والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.

طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الإدارة رمزي السيد شعبان رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1985 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 242 س 85/ 86 - 25.004

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} المفردات: {وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} من التوصيل؛ وهو كثير الوصل وتكريره، أي: والينا وأتبعنا تبليغهم القرآن، وقرأ الحسن "وصلنا" قال الرَّاغب (¬1): أي: أكثرنا لهم القول موصولًا بعضه ببعض. {يَتَذَكَّرُونَ} يَتعظون ويتدبَّرون. {وَيَدْرَءُونَ} أي يزدّون ويدفعون، وفي الحديث: "ادرَأَوا الحدود بالشُّبهات" أي: ادفعوها. {بِالْحَسَنَةِ}: بالطاعة. {السَّيِّئَةَ} المعصية. {اللَّغْوَ} كل ما ليس بحق، وقال مجاهد: الأذى والسبّ، وفي اللغة: اللَّغو واللَّغا ¬

_ (¬1) قال الآلوسي: وأصل التوصيل: ضم قطع الحبل ووصل بعضها ببعض.

بوزن الفتى: السَّقَط وما لا يعتدُّ به من كلام وغيره (¬1). {أَعْرَضُوا عَنْهُ} انصرفوا عنه ولم يشتغلوا به. {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} قال القرطبي: أَمْنٌ مِنَّا لكم، وعند الزمخشرى: كلمة توديع ومتاركة لا تحيَّة. {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} لا نطلب صحبة الجاهدين ولا نريد مخالطتهم ولا جدالهم. التفسير 51 - {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: قال القرطبي: الآية الكريمة ردٌّ على من قال: هلاَّ أُوتى محمد القرآن جملة واحدة مثل ما أُوتي موسى التوراة كذلك؟ والمعنى: ولقد نزلنا القرآن - وعدًا ووعيدًا وقصصًا وعبرا ونصائح - أنزلناه كذلك متواصلًا متتابعًا وفق ما تقتضيه الحكمة لعلهم يتذكرون ما يجب على كل عاقل من الخضوع للحق متى تبين، والقرآن حق واضح يعرفه كل من نظر فيه وفتح قلبه وعقله، فلو فعلوا لتذكروا وآمنوا. ولقد ظل القرآن ينزل على الرسول ثلاثة عشر عامًا بمكة يشرح العقيدة ويُعَمِّق الإِيمان في نفس المؤمنين، ويردُّ على شبهات المشركين، وعشر سنوات بالمدينة بعد أن انتقل الرسول إليها وكوّن هناك الدَّولة الإِسلامية الفاضلة التي لم يسمع الزمان بمثلها، وفي المدينة نزلت آيات الأحكام مبينة الدستور الإسلاميَّ للدولة الإِسلامية الأُولى شارحًا أحوال الأُمَّة في السلم والحرب موضِّحًا الآداب الاجتماعية والسلوك السويَّ الذي يجب أن ينهجه المسلمون، ولقد كان القرآن ينزل أحيانًا ردًّا على سؤال أو على شُبَه أهل الكتاب، أو تشريعًا في حادثة فكان ينزل مناسبًا لمقتضى الحال، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله أُميًّا، لا يقرأُ ولا يكتب، فلكى ييسر الله حفظه أنزله عليه مفرّقًا ولم ينزله جملة واحدة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (¬2). ¬

_ (¬1) القاموس ج 4 ص 386 (¬2) سورة الفرقان، الآيتان 23: 33.

وفي فضل القرآن وبيان قيمته ومنزلته يقول تعالى: 52 - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}: أخبر الله - سبحانه وتعالى - أن بعض الذين أوتوا الكتاب من بني إسرائيل قبل نزول القرآن ومجىء الرسول يؤمنون به وبما نزل عليه من قرآن كعبد الله بن سلام وغيره (¬1). قال القرطبي: ويدخل فيه من أسلم من علماء النصارى وهم أربعون رجلًا، قدموا المدينة، منهم اثنان وثلاثون رجلًا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب، وثمانية من الشام وكانوا أئمة النصارى، وأنزل الله فيهم هذه الآية وما بعدها. 53 - {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}: هذه الآية استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم. والمعنى: وإذا يُقرَأُ القرآن على أهل الكتاب من اليهود والنصارى قالوا: صدَّقنا بما فيه إنه الحق من ربنا لأن مثله لا يقوله بشر، إنا كنا قبل نزوله أو قبل بعث محمد - عليه الصلاة والسلام - مؤمنين بأنه سيُبعث وينزل عليه القرآن، فإيمانهم به متقادم العهد لما شاهدوا ذكره فما الكتب المتقدمة، فالمراد بالإِسلام: الانقياد الظاهرى، أي: إنا كنا - قبل نزول القرآن - مُنقادين لأحكام الله - تعالى - الناطق بها كتابه المنزل إلينا، ومنها وجوب الإِيمان به، فنحن مؤمنون به قبل نزوله على الرسول، ونحن عرفنا محمدًا وكتابه قبل نزوله، فإسلامنا سابق على تلاوته. 54 - {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: أُولئك الموصوفون بما سبق من النُعُوت يُمْنحون جزاءهم مرتين: مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن، وذلك بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بكتابهم، ثم بالقرآن بعد نزوله، أو على الإِيمان بالقرآن قبل النزول وبعده، أو على أذى من هجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين (¬2). ¬

_ (¬1) الآلوسي. (¬2) الآلوسي.

قال القرطبي: ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعرى أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: - "ثَلاثَةٌ يُؤَتَؤْنَ أجْرَهُم مَّرَّتَينِ: رَجُلٌ من أَهْلِ الْكتَابِ آمن بنبيِّهِ وأَدْرَكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتَّبَعَهُ فله أَجْرَانِ، وعبْدٌ مملُوكٌ أَدَّى حَقَّ الله - عزَّ وجَلَّ - وحقَّ سَيِّده فَلَهُ أجْرَان، وَرَجُلٌ كانت لَهُ أَمَةٌ فغذَّاها فأحسن غذاءَها، ثم أَدَّبها فأحسن أَدبها، ثم أعتقها وتَزَوَّجها فله أَجران" أخرجه مسلم في كتاب الإِيمان، والبخاري بلفظ مختلف. قال العلماء: وكما أنهم يؤجرون على صبرهم، فإنهم يؤجرون على دفعهم المعصية بالطاعة قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" أو يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى، فهو وصف لهم بمكارم الأَخلاق، أي: من قال لهم سُوءًا لا يَنُوه وقابلوه من الخلق الحسن بما يدفعه، كالإعراض ولين الحديث. وأثنى عليهم ربهم بأنهم ينفقون من أموالهم التي كسبوها من الحلال في الطاعات وفي سبيل الخير، ويبذلون مما رزقهم الله من كسب طيب فما سبيل الله، ولتخفيف آلام المرضى والمحتاجين. 55 - {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}: أي: يؤتيهم الله أجرهم مرتين على ما تقدم بيانه بن الصفات الكريمة، وعلى إعراضهم عن اللغو، وإذا سمعوا ما قاله المشركون من سَقَطِ القول وبذيئه أعرضوا عنه ولم يشتغلوا به، كما قال - تعالى -: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬1). {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}: أي قالوا متاركين لهم على سبيل التوديع لا على سبيل التحية: سلام عليكم وَأَمْنٌ منا لكم، فإنَّا لا نحاوركم ولا نُسَابُّكم {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}: أي لا نطلب الجاهلين والسفهاءَ للجدال والمراجعة والمشاتمة ولا نريد صحبتهم ومخالطتهم، وهذا تعليل لمتاركتهم. قال ابن إسحق في السيرة: قدم على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهو بمكة - عشرون (¬2) رجلًا أو قريب ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية: 72. (¬2) هذه الرواية تخالف ما حكاه القرطبي من أنهم كانوا أربعين من أئمة النصارى، وتقدمت هذه الرواية.

من ذلك من النصارى حينما بلغهم خبره عن الحبشة فوجدوه بالمسجد، فجلسوا إليه وكَلَّمُوه وسأَلوه - ورجال من قريش في أندبتهم حول الكعبة - فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عمَّا أرادوا دعاهم إلى الله - تعالى - وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام فما نفر من قريش فقالوا لهم: خيَّبكم الله مِنْ رَكْبٍ، بعثكم من وَرَاءَكم مِنْ أهل دينكم ترتادون لهم لتأُتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدَّقْتُمُوه فيما قال، ما نعلم ركبًا أحمق منكم، أو كما قالوا - فقالوا لهم: سلامٌ عليكم، لا نُجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نَأْلُ أنفسنا خيرًا - ويقال: إنهم النَّفر النَّصارى من أهل نجران، فالله أعلم أيُّ ذلك كان، قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، وكذلك الآيات التي في سورة المائدة: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} إلى قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} اهـ ابن كثير ج 3 ص 394. 56 - {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}: المعنى: إنك - أيها الرسول - لا تقدر على هداية قلوب من أحببتهم إلى الحق، بأن تدخلهم في الإِسلام وإن بذلت في ذلك غاية المجهود، وجاوزت في السعى إليه كل حد معهود، ولكن الله يهدى من يشاء هدايته فيدخله في الإِسلام، وهو - سبحانه - أعلم بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء - سبحانه - هدايتهم، ومنهم من ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب (¬1). وقال الزمخشري: المعنى: إنك لا تقدر أن تُدْخِل في الإِسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم؛ لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره، ولكن الله - تعالى - يقدر على أن يُدْخِل من يشاءُ إدخاله، وهو الذي علم - سبحانه - أنه غير مطبوع على قلبه. وقال الآلوسي: هذه الآية سيقت لتسليته - صلى الله عليه وسلم - حيث لم ينجع في قومه الذين بحبهم إنذارُه - عليه الصلاة والسلام - إيَّاهم وما جاء به من الحق، بل أصروا على ما هم ¬

_ (¬1) الآلوسي.

عليه وقالوا: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ثم كفروا به وبموسى، فكانوا على عكس قوم أجانب من أهل الكتاب، حيث آمنوا بما جاءَه من الحق، وقالوا: إنه الحق من ربنا، ثم صرحوا بتقادم إيمانهم به، وأشاروا بذلك إلى إيمانهم بنبيِّهم وبما جاء به أيضًا، وذلك فيما حكاه الله بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (¬1). وقال ابن كثير: قد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه - رضي الله عنه - قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمَيَّة ابن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عم، قل: لاَ إله إلاَّ الله، كلمة أحَاجُّ لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمَيَّة: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه -، وَيَعُودان له بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلاَّ الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عن ذلك"، فأنزل الله - تعالى -: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (¬2). وأُنزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وخالف في ذلك الشيعة، وقالوا بإيمانه، وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك. ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآيتان: 52، 53. (¬2) سورة التوبة، الآية: 113.

{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} المفردات: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي نُخرج من أرضنا ومقرِّنا، أَو يبطش بنا أعداؤنا. قال الآلوسى: وأصل الخطف؛ الاختلاس بسرعة، فاستعير لما ذكر. {أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}: أي أولم نهيِّء لهم في الأرض حرمًا مكينًا ونمنعهم فيه من العدوان. {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}: يحمل إليه ويجمع فيه من كل جانب وجهة؛ عن ابن عباس وغيره.

{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}: اغتر أصحابها ولم يقوموا بحق النعمة، من البطَرِ، وهو: جحود النعمة وكفران الفضل. وفي القاموس: البَطَرُ: الأَشَرُ وقلَّة احتمال النعمةِ، أو الطغيان بها، وفعله: كَفَرِح (¬1). أهـ. {أُمِّهَا} في القاموس؛ أُمُّ كل شيء: أصله وعماده وأُمُّ القرى: مكَّةُ؛ لأَنها توسَّطت الأرض، أو لأنَّها قبلة الناس يؤُمُّونها. {لَاقِيهِ}: مدركٌ له، ظافر به. {الْمُحْضَرِينَ}: الذين يُحْضَرُون مرغَمين للعذاب، وفي القاموس: حضر - كنصر وعلِم - حضورًا، ضد غاب (كاحتضر وتحضر). التفسير 57 - {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ... } الآية. هذا قول بعض مشركى مكة (¬2)، قال ابن عباس: قائل ذلك من قريش: الحارث ابن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافةَ أن يتخطَّفنا العرب من أرضنا - يعني مكة - لاجتماعم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، وهذا من تَعِلاتِهم الكاذبة، وأعذارهم الباطلة، وحججهم الواهيةِ. وفيه ما فيه من اعترافهم بأن ما مع محمد - عليه السلام - هو الهدى، وتسجيلهم على أنفسهم أنه ما صدّهم عن الإِيمان به إلا خوفهم على مصالحهم وفزعهم من ثورة العرب عليهم إذا أسلموا، وقد أجاب الله عن تعللهم هذا بقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا}: أي أو لم نعصمهم ونثبت أقدامهم ونجعل مقرهم حرما أمينا لحُرمة البيت الحرام الذي تتناحر العرب حوله، ولا تجتريء على القتال فيه، وكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض لأوهى الأسباب، وأهل مكة آمنون في حرمهم لا يخافون، ومع أنهم قارُّون بواد غير ذي زرع فإن الثمرات والأرزاق تجمع لهم من كل صوْب ويحملها الناس إليهم من كل حدب، ¬

_ (¬1) قاموس ج 4 ص 374. (¬2) انظر القرطبي الكشاف.

وكان هذا كده رزقًا من عند الله لا فضل فيه إلا لله وحده، فإذا ما خوّلهم لله الأمن والأمان والاستقرار والاطمئنان والرزق الواسع بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام، فكيف يستقيم أن يُعرِّضهم للتخوف والتخطف، ويسلبهم الأمن إذا ضمُّوا إلى حرمة البيت حرمة الإِسلام؟. قال يحيى بن سلام: يقول: كنتم آمنين في حرمي تأْكلون رزقى، وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني، وآمنتم بي؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون فهم غافلون عن الاستدلال بأَنَّ مَنْ رزقهم وأَمَّنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا ويمنع الكفار عنهم. 58 - {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}: بيَّن الله في الآية السابقة فساد دعواهم الخوف من الناس إن آمنوا، وبيَّن في الآية أَنهم أحِقَّاء بالخوف من بأس الله الذي يشاهدونه بأعينهم كلما ساروا بقوافلهم على آثار من هلك قبلهم، وبقايا وخرائب المدن والقرى التي جحدت آلاء ربها وكفرت بأنبيائها كما يكفرون بنبيهم، فعذبهم الله بكفرهم وذكَّرهم فيها بأن ما حدث في الماضى لغيرهم يمكن أَن يقع لهم في الحاضر والمستقبل وحينئذ يتبين أن الخوف في الكفر لا في الإيمان. أي: وكثير من أهل القرى كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدَّعة والاطمئنان حتى بطروا واغترُّوا ولم يقوموا بحق النعمة من الشكر عليها بالإيمان، فدمَّرنا عليهم وخربنا ديارهم، وتلك مساكنهم التي تمرُّون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا، لم تسكن من بعد تدميرهم إلاَّ زمانًا قليلًا؛ إذ لا يسكنها إلا المارة أثناء سفرهم يومًا أو بعض يوم. 59 - {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}: قال الآلوسي: هذه الآية الكريمة فيها بيان للعناية الربانية إثر بيانا إهلاك القرى المذكورة.

والمعنى: ما صحَّ وما استقام، أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يُهْلِك القرى قبل الإنذار، بل كانت سنته - عز وجل - التي لا تتخلف ودستوره الذي لا يتغير ألَّا يهلكها حتى يبعث في أصلها وحاضرتها التي ترتجع تلك القرى إليها رسولًا يتلو عليهم آياتنا الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ويوضح لهم المنهج، وإنما أهلكهم بعد إلزامهم الحجَّة بإرسال الرسول كيلا يقولوا: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} (¬1). وتحقيقًا لوعده الذي لا يتخلف: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬2). {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}: أي وما كنا مهلكى أهل القرى بعد ما بعثنا في أُمِّها رسولًا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا، فاعتبروا - يا كفار مكة - بما حدث لمن كان قبلكم، وما يمكن أن ينزل بكم. وإنما كان البعث في أُم القرى لأَن في أهل البلدة الكبيرة فطنة وكَيْسا، فهم أقبلُ للدعوة وأَشرف، وفي إيمانهم عون على إيمان غيرهم. 60 - {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}: بيَّن الله في الآيات السابقة فساد رأْى المشركين في رفضهم الإسلام خوفًا على أنفسهم بقولهم: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} وجاءت هذه الآية لتبين حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم. ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآية: 47 (¬2) سورة الإسراء، الآية: 15

والمعنى: أي شيءٍ أصبتموه من أُمور الدُّنيا وزينتها فشأْنه أن يتمتَّع به أيَّامًا قلائل ثم يزول عنكم أو تزولون عنه، وما عند الله في الجنة من الثواب خير في نفسه من ذلك؛ لأَنَّه لذَّة خالصة عن شوائب الأَلم، وبهجة كاملة عارية عن سمات الهمّ، وأبقى؛ لأنه أبَدِىّ، أَغفلتم فلا تعقلون هذا الأَمر الواضح وتستبدلون الذي هو أدنى بالذى هو خير وتخافون على ذهاب ما أَحببتموه من متاع الحياة الدنيا، وتمتنعون من اتباع الهدى المفضى إلى ما عند الله من سعادة أبدية؟ 61 - {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}: هذه الآية الكريمة تقرير وتوضيح لما قبلها، ومعناها - كما قال ابن كثير -: أفمن هو مؤْمن فصدّق بما وعده الله على صالح الأَعمال من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة؛ لأن وعده - تعالى - لا يتخلف، كمن هو كافر مُكذِّب بلقاء الله ووعده ووعيده فهو مُمتَّع في الحياة الدنيا أيَّامًا قلائل ثم هو يوم القيامة من المُحضرين، أي: من المعذبين - كما قال مجاهد وقتادة. وفي سبب نزولها قال ابن عباس: نزلت في حمزة بن عبد الطلب وأبي جهل بن هشام. وقال مجاهد: نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل، وعمَّم الثعلبي فقال: نزلت في كل كافر مُتِّعَ في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار، وفي كل مؤْمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} المفردات: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}: تحقق مؤَدى القول على الشياطين والدعاة إلى الكفر، والمراد بالقول: آيات الوعيد، كقوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). {أَغْوَيْنَا}: أضْللنا بأن دعوناهم إلى الغي وهو الضلال، وغوى يغوي غيًّا: ضَلَّ. ¬

_ (¬1) سورة السجدة، من الآية: 13

{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ}: تَتَبْرأَ بعضنا من البعض، فالشياطين يتبرءون ممن أطاعهم، والرؤساءُ يتبرءُون ممن تبعهم. {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ}: خفيت عليهم الحجج خفاء المرئي على الأعمى. {لَا يَتَسَاءَلُونَ}: لا يسأل بعضهم بعضًا عن الححج. {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}: قال الآلوسي: الخيرة، التخيُّر، كالطيرة بمعنى التَّطُّير، والخِيَرَةُ والتَّخَيُّرُ: الاختيار. {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}: ما يخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة وعداوتهم للرسول. {وَمَا يُعْلِنُونَ}: ما يظهرونه من الأَفعَال الخبيثة والطعن في الإِسلام. {لَهُ الْحَمْدُ}: لله وحده القضاءُ النافذ في كل شيءٍ من غير مشاركة فيه لغيره. التفسير 62 - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: لا يزال الحديث متَّصلًا عن أحداث يوم القيامة، ففي هذه الآية إشارة إلى ما يوبخ الله به الكفار المشركين في هذا اليوم حيث يناديهم ويسأَلهم فيقول: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: أي أين الآلِهَةُ التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام أو غيرها ليدافعوا عنكم وليشفعوا فيكم؟ والتعبير بشركائي، تقريع لهم على زعمهم، وفيه تهكم بهم. والتعبير بلفظ: {تَزْعُمُونَ} للإِشارة إلى كذبهم، فقد قيل: "زعموا" مطية الكذب. 63 - {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}: الآية الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا صدر عنهم من قول حينئذ؟ فقيل: قال الذين حق عليهم القول وهم شركاؤهم من الشياطين، أو رؤساؤهم الذين اتخذوهم أربابًا من دون الله، بأن أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوهم عنه:

{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}: أي: ما أكرهناهم على الغَيِّ، وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة، والتَّسْويل لا بالقَسر والإِلجاء، فغووا باختيارهم غيًّا مثل غَيِّنا باختيارنا، تبرأْنا إليك منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى منهم للباطل ومقْتًا للحق، ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم، ومسارعة الذين حق عليهم القول إلى الجواب مع كون السؤال لِلْعَبَدةِ، إمَّا لتفطنهم أن السؤال عنهم لاستحضارهم وتوبيخهم بالإِضلال وجزمهم بأن الْعبَدَة سيقولون: هؤلاء أضلُّونا، وإمَّا لأن العَبدة قد قالوا: إنهم أضلُّونا، فاعتذر هؤلاء المعبودون بما قالوه ردًّا لقولهم، إلا أن القرآن لم يَحْك قول العبدة إيجازا لظهوره. ومرادهم بالإشارة في قوله {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا}: بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم، وأنَّهم غير قادرين على إنكاره ورده. 64 - {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}: وقيل للكفار تقريعًا لهم، وتهكمًا وتشهيرًا بهم على رءُوس الأشهاد بدعاء من لا نفع فيه لنفسه - قيل للكفار -: استعينوا بآلِهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم، وتدفع عنكم كما كنتم ترجون منهم ذلك في الدار الدنيا، فاستغاثوا بهم، فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة ولأنهم في شغل شاغل عنهم، وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة، ولو أنهم كانوا يهتدون لوجه من وجوه الجيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب، أو: لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين لما رأوه. قال الزمخشري. حكى - سبحانه وتعالى - أولًا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم؛ لأنهم إذا وُبِّخُوا بعبادة الآلهة اعتذروا أن الشياطيبن هم الذين استفزوهم وزينوا لهم عبادتها، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم ألهتهم، وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وقطع الحجة، وإبطال المعاذير في قوله تعالى:

65 - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}: أي: واذكر - أيها الرسول - كذلك يوم يُنَادى المشركون من جانب الله تعالى - نداءَ توبيخ، فيُقال لهم: بأَي شيء أجبتم رسلي الذين بعثتهم لإرشادكم ودعوتكم للإيمان والتوحيد فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانَة وكيف كان حالكم معهم؟ 66 - {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}: أي: فخفيت عليهم الحجج وغابت، قال مجاهد: لأن الله قد أدحض حججهم، وقال الزمخشري: لا يسأل بعضهم بعضًا كما يتساءَل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعًا في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجُواب، وإذا كان الأنبياءُ - لهول ذلك اليوم - يترددون في الجواب عن مثل هذا السؤال لعجزهم ويفوضون الأمر إلى علم الله، وذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬1). فما ظنك بالضُّلَّالِ من أُممِهم؟. 67 - {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}: لما ذكر الله - سبحانه وتعالى - من حق عليهم القول من التابع والمتبوع قال - سبحانه وتعالى، حثا لهم على التوبة والإقلاع عن الشرك -: فأما من تاب من المشركين عن الشرك وجمع بين الإيمان والعمل الصالح فعسى أن يكون من الفائزين بالمطلوب عنده - عَزَّ وَجَلَّ - الناجين من الهلاك، فلا جدوى لتوبة بغير إيمان ولا حجة لإيمان بغير عمل صالح، وقد جاء هذا المعنى في القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬2). و (عسى) للتحقيق على عادة الكرام، فهي من الله واقعة بفضله وكرمه ومنِّه ووعده الذي لا يتخلف، والتعبير بعسى ليعلم أن الإنسان مهما عمل صالحًا فليس له إلا الرجاءُ والأمل في رحمة الله، وفي الحديث الصحيح: "لن يُدخل أحدًا عملهُ الجنة، قالوا: ولا أنت ¬

_ (¬1) المائدة الآية: 109. (¬2) سورة طه الآية: 82

يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة (¬1)، وقيل: (عسى) للترجِي من قبل التائب المذكور، بمعنى: فيتوقع أن يفلح ويفوز. 68 - {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: بين الله في الآيات السابقة أن الشركاء لا ينفعُون المشركين في أُخراهم، وجاءَت هذه الآية لتبين أن الأَمر كله لله، ولهذا اختار لعباده من يرشدهم إلى سواء السبيل، فليس لهم الخيرة في عقائدهم ولا في اختيار رسلهم، كما نزلت لكي ترد على أولئك الذين يقترحون على الله الرسل، كالوليد بن المغيرة حيث قال: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني بذلك نفسه من مكة، وعروة بن مسعود الثقفى من الطائف. والمعنى: وربك يخلق ما يشاء من خلقه بقدرته ويختار منهم من يشاء بحكمته لطاعته وحمل رسالته، على مقتضى علمه باستعدادهم لذلك، فليس في مقدور الخلق ولا من حقهم أن يختاروا على الله ما يشاءُون من أديان باطلة وآلهة زائفة، تنزَّه الله تعالى بذاته تنزُّهًا خاصًّا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره، وتقدس وتمجد عن إشراكهم. قال الزمخشرى: إن الاختيار إلى الله - تعالى - في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه، ولا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم. وجعل بعضهم (سبحان الله) تعجيبًا من إشراكهم من يضرهم ولا ينفعهم بمن يريد لهم الخير ويسوق لهم النِّعم. 69 - {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}: وربك - أيها الرسول - يعلم ما يخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لك، ويعلم ما يظهرونه من الأفعال الخبيثة والطعن فيك، وقولهم: هلَّا اختير غيرك للنبوة، فهو - سبحانه - يعلم ما تُكن الضمائر وما تنطوى عليه السرائر، كما يعلم ما تبديه الظواهر من جميع الخلائق: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (¬2) والآية الكريمة تهديد وتحذير شديد لأعداء الله؛ لأنه - سبحانه - يعلم كل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (كتاب الطب) باب تمني المريض الموت. (¬2) سورة الرعد الآية: 10.

ما تجيش به صدورهم من الشر، وما يجول بعقولهم من الإثم، ويعلم بكل ما يعلنونه على ملأ من الناس من ضلال. 70 - {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: وهو - سبحانه - المستأثر بالأُلوهية المتفرد بها، لا ربّ غيره ولا معبود سواه، له وحده كل الحمد، وجميع الثناءِ والشكر لا إلى غيره؛ لأنه المُولى للنعم كلها - عاجلها وآجلها - على الخلق كافة، يحمده المؤمنون في الدنيا على إنعامه وهدايته، وفي الآخرة على عدله ومثوبته، وله القضاءُ النافذ في كل شيءٍ من غير مشاركة فيه لغيره. عن ابن عباس: له الحكم بين عباده فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل، ولأهل معصيته بالشفاء والويل، لا مُعقب له، لقهره وغلبته وحكمته، وإليه ترجعون لا إلى غيره فيجزى كلّ عامل بعمله من خير وشر ولا يخفى عليه منكم خافية. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}

المفردات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ}: أخبروني. {سَرْمَدًا}: دائمًا متصلًا مؤبدًا، وهو عند البعض من السَّرد: وهو المتابعة، ومنه قولهم: الأشهر الحرم ثلاثة سَرْدٌ، وواحد فرد، والميم زائدة لدلالة الاشتقاق عليه. {تَسْكُنُونَ فِيهِ}: تستقرُّون فيه، مأَخوذ من (السَّكن) وهو الهدوءُ والطمأْنينة. {وَنَزَعْنَا}: أخرجنا بشدة وأبرزنا بسرعة، وجاء في اللغة: نَزَعَهَ من مكانه ينزعه: قلَعَه، كانتزعه. {شَهِيدًا}: أي شاهدًا. {بُرْهَانَكُمْ}: حجتكم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ}: ذهب وغالب عنهم غيبة الشيء الضال، أي: الضائع. {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: أي ما كانوا يختلقونه في الدنيا من الباطل والكذب على الله - تعالى - من أن معه آلهة تُعْبَد. التفسير 71 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ}: انتهت الآيات السابقة بإثبات الوحدانية لله - تعالى - وانفراده بالخلق والاختيار، وعلمه السرائر والظواهر، واستحقاقه وحده الحمد من عباده، في الدنيا على إنعامه وهدايته وفي الآخرة على عدله ومثوبته، وتفرده بالحكم والفصل بين العباد، وإليه المرجع والمصير. وتواصل هذه الآية وما بعدها توكيد هذه المعاني وتوضيحها بأمثلة مُحَسَّة تشهد له - سبحانه - بكل ما سبق وبأَنه صاحب النعم وواهب المنن، فالآيات القرآنية الثلاث الآتية تنبه الناس إلى حقيقة يجب أن يفهموها، وهي أنه - تعالى - لو خلق الأرض بحيث يكون ليلها دائمًا، أو بحيث يكون نهارها كذلك فليس هناك إله غيره ينعم عليهم بالليل والنَّهار

المتعاقبين، وبفضل الله ورحمته كان النظام الكونيّ يكفل تعاقب الليل والنهار فيكون السكون والهدوءُ في اللَّيل، والسعى والكدح في النَّهار وبهذا يتهيأُ التوقيت الصالح لحياة الإنسان والحيوان والنبات، وهذا فضل من الله على عباده، يستدعى الإقرار بقدرته ودوام شكره. ومعنى الآية: أخبروني من يقدر على هذا؟ إن جعل الله عليكم الليل دائمًا متصلًا متتابعًا إلى يوم القيامة فأَصبح الكون ملفوفًا في ليل دامس لا يعقبه نهار، وظلام طامس لا يأتي بعده نور، أخبروني من إله غير الله يأتيكم بنور تبصرون فيه معايشكم وتنطلقون في أرجاء الأرض وأنحائها تعمرونها، فتزرعون وتتاجرون وتنتقلون من مكان إلى مكان، أفلا تسمعون هذا الكلام الحق سماع تدبر واستبصار وقبول للدلائل الباهرة، لتعرفوا أن غير الله - تعالى - لا يقدر على ذلك فتقوموا بشكره، وتعترفوا بفضله، وتُقِرُّوا بوحدانيته. 72 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}: ثم أخبر - سبحانه وتعالى - أنه لو جعل النهار دائما مستمرًا إلى يوم القيامة بحيث تعملون دائما دون انقطاع من إله غير الله يأتيكم بليل تستريحون فيه من التعب ومشاق الحياة وتفرغون فيه من النصب؟ أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطإ في عبادة غيره؟ وقال الآلوسي: أفلا تبصرون الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة، لتقفوا على أن غير الله لا قدرة له على ذلك؟ فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على الإتيان بالليل والنَّهار غيره فلم تشركون؟ وقال البيضاوى: لعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوءَ نعمة في ذاته مقصود بنفسه ولا كذلك الليل، ولأن منافع الضوء أكثر مما يقابله، ولذا قرن به أفلا تسمعون، وبالليل أفلا تبصرون لأن استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر. اهـ: بيضاوي. ولذا ما اجتمع السمع والبصر في موضع من كتاب الله إلاَّ وقُدِّم السمع على البصر.

قال - تعالى -: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬1). {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (¬2). ولقد ذكر العلماء والمحدثون في تعليل ذلك أن السمع أول الحواس يؤدي وظيفته في الدنيا، وهو أداة الاستدعاء في الآخرة، ولأن الأُذن لا تنام فالسمع أسبق وأنفع وأدوم، وللعلامة الآلوسي تعليق مطول على الآيتين في الجزء السابع ص 107 وما بعدها فليرجع إليه من أراد التوسع. 73 - {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي: وبسبب رحمته بكم خلق لكم الليل والنهار لتسكنوا في الليل وتستريحوا من عناء الأعمال وأعباءِ الحياة وأثقال المعيشة، ولتطلبوا الرزق الحلال بالنهار بالأَسفار والترحال والضرب في الأرض، ولتدركوا فضل الله عليكم فتشكروه بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيءٌ بالليل استدركه بالنهار، أو بالنهار استدركه بالليل كما قال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (¬3). 74 - {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}: المعنى: واذكر كذلك - أيها الرسول - يوم يُنادَى المشركون من جانب الله فيقال لهم: أين الشركاء الذين زعمتموهم آلهة ينصرونكم أو شفعاءَ يشفعون لكم؟ وهو تقريع إثر تقريع، للإِشعار بأنه لا شيء أَجلب لغضب الله - تعالى - من الإشراك، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده - عَزَّ وَجَلَّ. يقول القرطبي: ينادى الله المشركين مرة فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيدعون الأصنام فلا تستجيب فتظهر حيرتهم وخيرتهم، ثم ينادَون مرة أخرى على رؤُوس الأشهاد فيسكتون، وهو توبيخ وزيادة خزى. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآية: 36 (¬2) المؤمنون، الآية: 78. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 62

75 - {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: الآية الكريمة إنذار بما ينتظر هؤلاء المشركين يوم القيامة لجدالهم في وحدانية الله، وتعاميهم عن نعمه عليهم ورحمته بهم. والمعنى: وأَخرجنا يوم القيامة من كل أُمة شاهدًا يشهد عليهم بما كانوا عليه، وهو نبي تلك الأُمة كما روى عن مجاهد وقتادة، ويؤيده قوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬1). فقلنا لكل أُمة من الأُمم: هاتوا حجتكم وأحضروا دليلكم على صحة ما تدينون به، وعلى صدق ما ادعيتموه من أن لله شركاء، فعلموا يومئذ أن الحق لله في الألوهية لا يشاركه - سبحان - فيها أحد ولا إله غيره ولم يجدوا جوابًا، وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يختلقونَه من الكذب على الله - تعالى - من أن معه آلهة تعبد. ويقول ابن كثير: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: ذهبت معبوداتهم فلم ينفعوهم. ويقول الآلوسي: وصيغة الماضي في "ونزغنا" للدلالة على التحقق والثبوت، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله، لصدوره من المولى - عَزَّ وَجَلَّ - فهو نزع يليق بعزيز قوى. والله أعلم. * {إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} ¬

_ (¬1) سورة النساء الآية: 41

المفردات: {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}: أي ظلمهم، أو تكبر عليهم. {الْكُنُوزِ}: الأموال المدخرة المحبوسة، من: كنزه، بمعنى: ادَّخره وحبسه عن الناس، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. {مَفَاتِحَهُ}: جمع مِفتح - بكسر الميم - وهو المفتاح الذي تفتح به الأغلاق، أو جمع: مَفْتح - بفتح الميم والتاء - وهو الوعاءُ الذي يكنز فيه كالصندوق. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}: العصْبة، الجماعة يتعصب بعضها لبعض ويشد أزره، ومعنى {تَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}: تثقلها، يقال: ناءَ به، وأناءَه، أي: أَثقله، كما يقال: ذهب به وأذهبه، فالباءُ للتعدية، وبه قال الخليل وسيبويه والفراءُ، واختاره النحاس، وسيأتي بسط الكلام في تفسيره. {لَا تَفْرَحْ}: أي لا تفرح بدنياك فرحًا يذهلك عن أُخراك. {الْفَرِحِينَ}: قال الزجاج؛ الفرحين والفارحين سواءٌ، ونزيد على ما قاله: أن الفَرِح صيغة مبالغة تفيد زيادة الفرح. {وَابْتَغِ}: واطلب. {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ}: ولا تطلبه. التفسير 76 - {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ... } الآية. اختلف في قارون من جهة قرابته لموسى - علبه السلام - فمن قائل: إنه ابن عمه، وهو ما روى عن ابن عباس وابن جريج وغيرهما - ومن قائل: إنه عمه، وحكاه محمَّد ابن إسحق، ومنهم من قال: إنه ابن خالته، ولم نجد لهذه الروايات سندًا، وحسبنا ما قاله الله - تعالى - في نسبه من أنه من قوم موسى، أي: من بنى إسرائيل، وبصفه الله بأنه بغى عليهم، والبغي - في اللُّغة -: التطاول ومجاوزة الحد، وقد فسره المفسرون هنا بتفسيرات

مختلفة، فمنهم من فسره بالتكبر، فإنه كان جميل الصورة واسع الثراء، وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة، فتكبر عليهم لذلك، ومنهم من فسره بالظلم؛ لأن فرعون ملكه عليهم فظلمهم وبغي عليهم، والذي نراه أن لكنوزه دخلًا في ظلمه؛ لأن من نصحوه من قومه قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} فهذا واضح في أن ماله أغراه بالإفساد والظلم، ولذا عقبه الله بقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ... الآية}. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}: أي: وأعطيناه من كنوز الأَموال ما دفعه إلى التكبر والتعالى على قومه وظلمهم، فالمراد من الكنوز؛ الأموال المدخرة، ويصف الله عظمة هذه الكنوز بأَن مفاتحها تنوءُ بالعصبة أُولى القوة، والمراد من المفاتح الخزائن. قال الضحاك: مفاتحه: ظروفه وأوعيته، وروى نحو ذلك عن ابن عباس والحسن، وعلى هذا الرأى تكون مفاتح جمع مفْتَح - بفتح الميم وسكون الفاء - أي: مكان الفتح، وهو الوعاء. ومنهم من قال: إنه جمع مِفتح - بكسر الميم وسكون الفاء - وهو المفتاح الذي تفتح به الخزانة، والأول أقرب إلى التعقل؛ فإن العُصبة أولى القوة تقْدر على حمل المفاتيح، ولا تنوءُ بها، وإنما تنوءُ بحمل الخزائن، والله أعلم. والعصبة: الجماعة الكثيرة من غير تعيين بعدد خاص كما قاله الراغب، ومنهم من عين لمعناها عددا خاصًّا من عشرة إلى خمسة عشر، هو مروى عن مجاهد، ومنهم من زاد إلى سبعين. وقال الخفاجي: إن أصل معناها: الجماعة مطلقًا - كما هو مقتضى الاشتقاق (¬1)، والعرف هو الذي يخص العدد، ومعنى (تفوءُ به العصبة أُولو القوة): تنهض به متثاقلة كما قال ابن عباس وأبو صالح والسُّدى وبه قال الخليل والفراءُ والنحاس. ¬

_ (¬1) فإن أصلها الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.

وبعض المفسرين جعل هذه العصبة من الرجال، وحددوها بأربعين رجلًا أقوياء، ونسبوا هذا إلى ابن عباس، حيث رووا عنه أن المفاتح هي الخزائن، وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلًا أقوياء. وبعضهم جعلها من الحيوانات كالبغال والخيل، وإطلاق العصبة عليها لغوى؛ قال صاحب القاموس: العصبة - بالضم - من الرجال والخيل والطير: ما بين العشرة إلى الأربعين، كالعصابة - بالكسر - ونقول: إنهم أَخذوا هذا المعنى من العَصْب، بمعنى الشد، فإنها يشد بعضها أَزر بعض، وبعضهم جعل المفاتح كناية عن العلم والحفظ، كما فسروها في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فالمراد من الآية: وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والإحاطة بها ليثقل على الجماعة القوية من الرجال، لاختلاف أصنافها وكثرتها التي تتعب القائمين على حفظها وحسابها والإحاطة بها، وهذا هو تفسير أبي مسلم للآية، وهو - وإن استبعدوه - له سنده من قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} كما أنه تجنَّب فيه المبالغات التي ذكرها كثير من المفسرين في تفسيرها: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. قال ابن عطية: (إذْ قَالَ) متعلق ببغى عليهم، أي: بغى على قومه إذ قالوا له: لا تفرح ورجح بعض المفسرين تعلقه بمحذوف يقتضيه المقام، أي: فأظهر قارون الفرح بكنوزه إذ قال له الأتقياءُ من قومه: لا تفرح بها إن الله لا يحب الفرحين، وقد نهوه عن فرحه الذي أورثه البغى، ومنعه حق الله تعالى، فهذا هو الذي يُنْهى عنه، أما الفرح سرور بنعمة الله ورضا عنها مع أداء حقها المشروع فلا ينهى عنه؛ لأنه نوع من الشكر على النعم الذي حضَّن عليه الشرع، كما قال - تعالى -: {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬1). والمراد من عدم محبة الله للفرحين البطرين: بغضه لهم، إبعادهم عن حضرته وعن كرمه. والمعنى العام للآية: إن قارون كان من بني إسرائيل قوم موسى، فظلمهم وتكبر عليهم بما أُوتيه من علم وجاه ومال، وأعطيناه من الأموال التي كنزها وحبسها عن مَبَرَّات الآخرة - أَعطيناه - ما إن خزائنه لتثقل الجماعة القوية من الدواب التي تحملها، أو من الرجال القائمين على حفظها وحسابها وتدبير أمرها، فأظهر قارون الفرح والتفاخر بكنوزه، إذ قال له أتقياءُ قومه: لا تفرج بها فرح البطر والكفران، إن الله لا يحب الفرحين البطرين الذين يكفرون ولا يشكرون، بل يبغضهم وينتقم منهم. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، من الآية: 37

77 - {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: واطلب فيما أعطاك الله من الكنوز والأموال ثوابا في الدار الآخرة بِصَرْفها في مصارف البر والتقوى، ولا تترك حظك من الدنيا ترك المنسى، فخذ من زينتها وطيباتها ورزقها ما تتجمل به ويعينك على تقوى الله - تعالى - ويقيك شر الحاجة، وأحسن إلى عباد الله - تعالى - كما أحسن الله إليك تأسي بصنيعه معك، أو: أحسن بالشكر والطاعة كما أحسن الله إليك بالنعم (¬1)، ولا تطلب بهذه الكنوز الفساد في الأرض والبغى على العباد إن الله لا يحب المفسدين، بل ببغضهم وينتقم منهم. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}: {أُوتِيتُهُ}: أُعطيته. {الْقُرُونِ}: جمع قرن، واختلف في زمنه، وأَصح ما قيل فيه: إنه مائة سنة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لغلامه: "عِشْ قرنًا" فعاش مائة سنة، ويطلق على كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد، قاله صاحب القاموس وهو المراد هنا، ويطلق أيضا على أهل زمان واحد، ومنه قول الشاعر: إذا ذهب القرن الذي أنت فيهمُ ... وخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب ¬

_ (¬1) ويجوز أن تكون الكاف في كلا المعنيين للتعليل، أي: أحسن لأجل إحسان الله إليك.

ذكره صاحب المختار. {الْمُجْرِمُونَ}: المذنبون، والجرْم والجريمة: الذنب. التفسير 780 - {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي .... } الآية. لما نصح أتقياءُ بني إسرائيل قارونَ بأن يحسن الإنفاق من ماله كما أحسن الله به إليه، ظن أنهم يصفونه بأنه أوتيه إحسانًا عليه بغير سبب يقتضيه، فرد عليهم بقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} واختلف في تفسير هذا العلم، فقيل: إنه علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها، وقال أبو سليمان الداراني: علم التجارة ووجوه المكاسب، وقيل: علم استخراج الكنوز والدفائن، وقيل: علم الكيمياء، فكان يحول الرصاص والنحاس ذهبًا، ورده العلماء بأن فيه دعوى قلب الحقائق، وذلك لا يكون إلاَّ لله - تعالى - ولم يثبت حدوثه منه بطريق صحيح، وما يشاع بين العامة من إمكان ذلك، إنما هو من باب الأراجيف التي لم تثبت في الواقع، بل هي من باب الصبغ والتزييف (¬1). وقال الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيرها: إنما أُوتيتُه على علم من الله باستحقاقي إياه، فلولا رضاه عني وعلمه بفضلي ما أعطانيه، وكلمة {عِنْدِي} على هذا الرأي معناها: في ظني واعتقادي (¬2) وقد رد الله عليه بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}: أي: أجَهِل قارون فبغى على قومه وأفسد في الأرض، ولم يعلم أن الله - تعالى قد أهلك من قبله من الأُمم الخوالي من هو أشد منه قوة في الآلات، وجمعًا للأعوان والأنصار والأموال، ولا يسأل عن ذنوبهم المذنبون سؤال استعلام أو معاتبة واسترضاء، وإنما يُسأَلون سؤال تقريع وتوبيخ، لقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكيف جهل قارون ذلك فأَفسد وبغى وزعم أنه أوتى كنوز المال استحقاقًا؟ ¬

_ (¬1) راجع ابن كثير. (¬2) و (عندي) - على هذا - خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذا عندي وفي اعتقادي، أما على ما تقدم فهو صفة لعلم.

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُوحَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} المفردات: {فِي زِينَتِهِ}: فيما تزين به من متاع الجياة الدنيا. {وَيْلَكُمْ}: هو في الأصل دعاء بالويل، وهو الهلاك، ثم شاع استعماله في الزجر عمَّا لا ينبغي، وهو المراد هنا. {وَلَا يُلَقَّاهَا}: أي ولا يلقى هذه النصيحة، أي: لا يتقبلها ويعمل بها. {إِلَّا الصَّابِرُونَ}: على الطاعات، وعن المعاصي. التفسير 79 - {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}: اختلف في المراد من الذين يريدون الحياة الدنيا، فقيل: هم جماعة من مؤمني بني إسرائيل تمنَّوْا أن تكون لهم دنيا كدنيا قارون جريًا على سنة البشر من حب التوسع فيها، وكان ذلك على سبيل الغبطة، لا على سبيل الحسد، وقيل: هم جماعة من الكفار أو المنافقين الذين لا هَمَّ لهم إلاَّ دنياهم، والظاهر مع الرأى الأول، وتمنى مثل ما للغير لا يقدح في الإيمان، ولكن طلب الآخرة أفضل، كما يشير إليه رد أهل العلم عليهم في الآية التالية.

ومعنى الآية: فحرج قارون ذات يوم على قومه بني إسرائيل في زينة عظيمة وتجمل باهر: من ملابس ناضرة، ومواكب فارهة فاخرة، وخدم وحشم، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخرفها وزينتها، تمنوا مثل الذي أُعيطه قارون ليتمتعوا به مثل متاعه، قائلين: يا ليت لنا مثل ما أُوتي تارون إنه لذو حظ وافر من دنياه، فلما سمع مقالتهم أهل العلم ردوا عليهم بما حكاه الله بقوله: 80 - {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}: أي: وقال الذين أوتوا العلم ينصحون طلاب الدنيا وزخرفها، ويزجرونهم عن طلب التوسع فيها حتى لا تفسدهم كما أفسدت قارون - قالوا لهم -: ويلكم لا تطلبوا مثل ما أوتي قارون ولا تتمنوا مثل زيتته ومتاعه الدنيوي، ثواب الله في الآخرة خير من زينته ومتاعه وأعظم مما أوتيه - من ماله ورجاله - لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملًا صالحًا يرضاه، ولا يتلقى هذه النصيحة بحسن قبولها والعمل بمقتضاها إلَّا الصابرون على الطاعات، وعن السيئات. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}

المفردات: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}: أي أدخله الله وداره في جوف الأرض، يقال: خسف المكانُ يخسِف خسوفًا: ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض: ذهب به فيها وأدخله في جوفها، وخسف هو في الأرض وخسف به (¬1) {فِئَةٍ} أي: جماعة {وَيْكَأَنَّ} هي كلمتان (وى) و (كَأَنَّ). قال الخليل وسيبويه: (وَيْ): اسم فعل بمعنى أعجب، وتكون للتحسُّر والتندم أيضًا، قال الجوهرى: وقد تدخل (ويْ) على (كأَن) المخففة والمشددة، تقول: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} قال الخليل: هي مفصولة، تقول: ويْ - ثم تبتدئ فتقول: (كأَن) يعني: أن الوقف على (وَيْ). كما في البحر، و (كأن) فيه عارية عن معنى التشبيه جيءَ بها للتحقيق، كما في قول الشاعر: وأَصبح بطن مكة مقشعرا ... كأَن الأرض ليس بها هشام ويروي الثعلبي عن الفراء أَن (ويكأَن) كلمة تقرير، كقولك: أما ترى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك ويلك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت أي: أما ترينَّه؟ وبهذا قال ابن زيد وجماعة، وهو بمعنى ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (ويكأن): حرف واحد بجُمْلته، وهو بمعنى ألم تر (¬2). التفسير 81 - {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}: لما ذكر الله - تعالى - خروج قارون في زينته، وفخره على الناس وخيلاته بدنياه، وبغيه على عباد الله، عقب ذلك ببيان ما حل به من الجزاء على البغي والخيلاء، وبضم إليهما الكفر، كما سيصرح به في الآية التالية: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. ويرى ابن كثير أنه هو المعنى بحديث البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا رجلًا يجر إزاره إذ خسف به، فهو ¬

_ (¬1) انظر القرطبي. (¬2) هذه خلاصة بحوث طويلة، فارجع إلى القرطبي والآلوسي وغيرهما من الموسوعات إن شئت المزيد.

السبب المباشر للخسف بقارون وداره

يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وللتجلجل معان، منها: الذهاب في الأرض، والتضعضع، وشدة الصوت، والوعيد، والأخير هو أنسبها؛ فهُو في وعيده وعقابه إلى يوم القيامة، وهناك يعذب عذاب الكافرين حيث يخلد في النار. ولم نجد أحدًا من المفسرين تحدث عن الأرض التي خسف به وبداره فيها، ويوجد في محافظة الفيوم بحيرة صغيرة تسمى (بركة قارون) فلعله وقومه كانوا يسكنون بهذه المنطقة، وأنه خرج على قومه في زينته بأرضها فغيبه الله وداره في جوفها، ونشأت بركة قارون بسبب هبوط الأرض هبوطًا شديدًا تحت مستوى المياه الجوفية، فسارعت المياه الجوفية فملأت مكان الخسف، ونشأت بذلك بركة نسبت إليه، لتكون آية على مكانه وشاهدا على عاقبة بغيه وكفره، ومعلوم أن بني إسرائيل قد كثروا بمصر حتى أصبحوا بها أمة، وقد أذلهم المصريون، واستخدموهم في بيوتهم وحقولهم، فلما جاء موسى برسالة إلى فرعون، وأظهره الله عليه استطاع أن يخفف عنهم ذل ألاسر والاستعباد فطلب إليهم أن ينفردوا ببيوت لهم يسكنونها مستقلين عن سادتهم من المصريين، وأن يكونوا مُتجاورين، وفي ذلك يقول لله - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. ولو صح استنباطنا من أنهم يسكنون بمنطقة الفيوم حيث بركة قارون، فإن ذلك لا يمنع من أن بيوتهم في مصر، فإن الفيوم إقليم مصري، ولعله كان له شأن في ذلك الزمان. السبب المباشر للخسف بقارون وداره يروى أنه كان كثير الإيذاء لموسى فصبر عليه؛ لأنه كان ابن عمه حتى اتهمه بالزنى في محضر من قومه فبرأه الله وحكَّمه فيه، وفي ذلك روى ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس "أن قارون كان ابن عم موسى - عليه السلام - وكان يتتبع العلم حتى جمع علمًا، فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى - عليه السلام - وحسده، فقال موسى: إن الله - تعالى - أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى، فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، أفتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى

بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، فنرسلها إليه فتتهمه بأنه أرادها على نفسمها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حُكْمك (¬1) على أن تشهدى على موسى أنه فجَر بكِ، فقالت: نعم، فجاءَ قارون إلى موسى - عليه السلام - قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم فقالوا: بِم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأَن تصلوا الرحم، وكذا وكذا، وقد أمرني الزاني إذا زنى وقد أُحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت، قال: نعم، قالوا: فإنك زنيت، قال: أَنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءَت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى - عليه السلام -: أنشدك بالله إلاَّ ما صدقتِ فقالت: أما إذْ نشدتني (¬2) بالله - تعالى - فإنهم دعوني وجعلوا لي جُعْلًا (¬3) على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أَنك برئ وأنك رسول الله. فخر موسى ساجدًا يبكى، فأَوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأَرض فمُرها تطعك، فرفع رأْسه فقال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم .... الحديث". وفي تبرئة الله لموسى ممَّا اتهموه به يقول الله - تعالى - في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (¬4). وهناك روايات أُخرى في سبب خسفه، وحسب القارئ ما تقدم. المعنى الإجمالي للآية فخرقنا بقارون وبداره الأرض وغيبناهما في جوفها، فما كان له من جماعة غير الله يدفعون عنه نقمة الله ونكاله، وما أغنى عنه ماله وخزائنه ولا حماه خدمه وحشمه وأنصاره، وما صح ولا استقام أن يكون من الممتنعين من بطش الله بأي سبب من أسباب الامتناع، فإنه لا بد واقع، ليس له من دافع. 82 - {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}: ¬

_ (¬1) أي: ما تحكمين به من المال أجرًا على اتهامه بالزنى. (¬2) أي: سألتني. (¬3) أي: أجرًا. (¬4) الآية: 69.

{وَأَصْبَحَ} هنا بمعنى: وصار، و {بِالْأَمْسِ} بمعنى: منذ زمان قريب، واستعماله بهذا المعنى مجاز مشهور، ومن المفسرين من حملهما على معناهما الحقيقي، ونحن نوثر المعنى الأول في تأْويل الآية؛ لما فيه من الاحتياط في تأْويلها، ولشموله للمعنى الثاني أيضًا. ومعنى الآية: وصار الذي تمنوا منذ زمان قريب مثل ما أُوتي قارون من السعة والغنى يقولون: نَعجب ممَّا حدث لقارون، ونندم على تمنينا مثل ما أُوتى حقًّا إن الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده لا لِكرَامَة تقتضى البسط، ويضيقه على من يشاء، لا لهوان يقتضي التضييق، فهو الحكيم في قضائه وقدره، لولا أن منَّ الله علينا فلم يعطنا ما تمنينا لخسف بنا كقارون؛ لأن المال يغوينا كما أغواه، ويدمرنا كما دمره، نعجب مرة أُخرى من هذا العقاب، ونندم على تمنينا مثل يساره الذي فتنه، إنه لا يفلح الكافرون بنعم الله، المؤثرون لدنياهم على دينهم، المكذبون برسلهم ووعْدِهِم ووعيدهم، فهم الخاسرون النادمون. {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} المفردات: {عُلُوًّا}: استكبارًا. {وَالْعَاقِبَةُ}: الخاتمة الطيبة. 83 - {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: هذه الجنة العظيمة الموجودة في الآخرة بنعيمها الدائم، وجمالها الباسم نجعلها ثوابًا للمؤمنين الصالحين الذين لا يريدون بنعم الله عليهم تعالِيًا على الناس، وسلطانًا فوقهم،

ولا يريدون بها عدوانًا وظلما يفسد عليهم حياتهم، والعاقبة المحمودة في شرع الله وحكمه للذين يتقون غضبه فيطيعون أمره، ويجتنبون نهيه، ويسالمون عباده. جاء في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يأيها الناس إني أُوحي إليّ أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا" أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، ومن أحب أن يتجمل بين الناس بنعم الله عليه فلا يعد هذا تعاليًا ولا كبًرا، فقد صح أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أُحب أَن يكون ردائي حسنًا ونعلى حسنة أفمن الكبر ذلك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال" أخرجه الإِمام مسلم والإمام أحمد. 84 - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: من جاء يوم الحساب والجزاء بالخصلة الحسنة عقيدة أو عملا، فله جزاء خير منها، حيث يضاعف الله ثوابها بحسب ما فيها من حسن النية والأداءِ، ومن جاء بالخصلة السيئة عقيدة أو عملا فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا بمثل ما كانوا يعملونه من السيئات دون زيادة عليهما، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬1). وإنما قال: من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة، ولم يقل: من عمل الحسنة ومن عمل السيئة للدلالة على أن استحقاق الثواب أو العقاب مستفاد من الخاتمة التي يجيء بها الإنسان لربه، لا من أول العمل، فمن أمضى عمره في الكفر ثم أسلم وحسن عمله فقد جاء ربَّهُ بالحسنة وله ثوابه، ومن أمضى عمره في الإيمان والعمل الصالح ثم كفر، فقد جاءَ ربه بالسيئة وله عقابه. نعوذ بالله من سوء الخاتمة. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، الآية: 47

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُوأَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} المفردات: {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}: أوجب عليك تبليغه، والعمل به. {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي: لراجعك إلى مكان عظيم تعودته - وهو مكة -: من العادة، أو إلى مكان تعود إليه بعد الخروج منه: من العْودِ؟، وهو مكة أيضًا، وذلك في يوم فتحها سنة ثمان من الهجرة، وفيه معان أخرى، وما ذكرناه أولاها. {ضَلَالٍ مُبِينٍ}: بعد عن الحق واضح، من (أَبانَ): اللازم، بمعنى اتضح. {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ}: وما كنت تتوقع أن ينزل عليك القرآن. {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ}: أي معينًا لهم بإجابتهم إلى طلبهم. {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ}: ولا يمنعك الكافرون عن العمل بآيات الله بعد وقت إنزالها إليك.

{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: أي كل شيءٍ فإن إلا ذاته - تعالى - فالوجه مجاز عن الذات، وللكلام بقية في التفسير. التفسير 85 - {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: ذكر الله - تعالى - في الآيات السابقة قصة موسى وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم، وهلاكه، ونصره أهل أهل الحق عليه، وجاءَ بهذه الآية مشيرة إلى قصة سيدنا محمَّد وأصحابه مع قومهم، واستطالتهم عليهم، وإخراجهم إياهم من بلدهم، ومبشرة بإعزازه - صلى الله عليه وسلم - ورده والمؤمنين المهاجرين إلى مكة وفتحهم إياها غالبين منصورين، ووسط بين القصتين ما هو مرتبط بهما من شئون الآخرة، للانتقال من قصة أُخرى، قال مُقاتل: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغار ليلًا مهاجرًا إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة واشتاق إليها، فقال له جبريل: إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}: أي مكة ظاهرًا عليها، قال ابن عباس: نزلت بالجحفة فليست مكية ولا مدنية. وتفسير المعاد بمكة قول الأكثرين، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم، وقال الضَّبِّي: معاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف منه ثم يعود إليه. وفي المعاد أَقوال أُخرى، وما ذكرناه أولى منها بالقبول، لما ذكرناه من الربط بين القصتين. ومعنى الآية: إن الله الذي فرض عليك - أيها الرسول - تبليغ القرآن والعمل به، لراجعك ظافرًا إلى مكة بلدتك التي تعودتها وقد أخرجوك منها فلن يكون خروجك منها أبديًا، قل لقومك: ربي أعلم بمحمد الذي جاءَ بالهدى من عنده فينصره ويرده إلى بلده وينشر هداه، وأعلم بمن هو في ضلال واضح من قومه فيخذله، ويذله.

86 - {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ}: هذه الآية مقررة لما جاء في الآية السابقة، من الوعد بإعادته إلى مكة التي أخرجوه منها ومؤَيدة لموقفه السلبي من دعوتهم إياه إلى العودة إلى ملة الشرك التي نشأُوا عليها، وتثبيت له عليه، قال مقاتل: دعا كفار مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دين آبائه فذكره الله - تعالى - نعمه، ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه. والواقع أن الرسول الأمين لا يتصور منه أن يكون ظهيرا للكافرين في دينهم، فهو بعيد عنه منذ صباه، وكان يعبد الله على ما بقى من دين إبراهيم، فالغرض من نهي الرسول عن أن يكون ظهيرًا لهم، إنما هو إقناطهم من استجابته إليهم مهما اشتدت قسوتهم، ببيان أن الأمر صدر له بمخالفتهم ممن أنزل عليه الكتاب رحمة به وبهم، فلا تطمعوا في مخالفته ما كلفه به ربه. ومعنى الآية: وما كنت تتوقع أن يختارك الله رسولًا، وأن يُنزل عليك كتابًا تبلغه قومك ومَنْ وراءَهم، ولكن رحمة من ربك بعباده وبك، اختارك وأنزل عليك الكتاب فلا تكونن في يوم من الأيام معينًا للكافرين - وأنت من الله بهذه المكانة والمنزلة المقتضية لنصرك عليهم - بل دم على ما أنت عليه من مخالفتهم والاستمرار في دعوتهم إلى الحق مهما لقيت في سبيله فلسوف يعيدك ربك إلى بلدك مظفرًا منصورا. 87 - {وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: ولا يمنعنك قومك بإعراضهم وعدائهم عن تبليغ آيات الله بعد إذ أنزلها الله إليك، فلا تتأثر لمخالفتهم وصدهم الناس عنك، وإيذائهم لك ولأتباعك، فإن الله سيعلي كلمتك، ويؤيد دينك، ويظهر ما أُرسلت به على سائر الأَديان، ودم على ما أنت عليه من الدعوة إلى إلى ربك وحده لا شريك له، ولا تكونن من زمرة المشركين بعد أن دعوك إليهم، فهم أهل الضلال، وأنت رسول الهدى، وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور.

والغرض من الآية: إقناط الكافرين من استجابة الرسول إليهم، كما تقدم في الآية السابقة، فإنه لا يتصور منه أن يكون من المشركين، قد اختاره رب العالمين، وكيف يتصور منه ذلك وهو الذي كان يقول: "والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الدين ما تركته أو أهْلِك دونه". 88 - {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: هذه الآية كالآيتين قبلها لمزيد تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما هو مقيم عليه من الدعوة إلى توحيد الله، وقطع أطماع المشركين في استجابته إلى ما أرادوه منذ فجر الدعوة من تركه دعوة التوحيد وعودته إلى الوثنية دين الآباء والأجداد مهما بالغوا في إيذائه فاقرأ ما كتبناه عليهما قبلها، لتدرك مبلغ ترابطها. ومعنى هذه الآية: والزم توحيد ربك الذي أنت مقيم على عبادته ولا تعبد مع الله إلها آخر. فإنه لا معبود بحق سواه، كل شيءٍ مصيره إلى الهلاك إلا ذاته - سبحانه - له القضاءُ النافذ في خلقه عابدين ومعبودين وسواهم، وإليه تُرجعون للحساب والجزاء، فكيف يُعبد سواه وقضاؤه نافذ في خلقه بالهلاك والفناء؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل". واعلم أن المراد من الشيءِ: الموجود، ولهذا استدل بالآية على إطلاق لفظ شيءٍ على الله - تعالى - وكأنه قيل: كل موجود في أي وقت هالك إلا ذاته فلا يلحقه هلاك - سبحانه وتعالى -. وقال مجاهد والثوري في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إلاَّ ما أُريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه، والمقصود من هذا الرأى أن الأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله - تعالى - تبقى ببقاء ثوابها، حيث يجدها صاحبها نعيمًا مقيمًا في جنة الرحمن الرحيم.

سورة العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العنكبوت سورة العنكبوت مكية - قيل: هي آخر ما نزل بمكة - فيكون ذكر شيءٍ عن المنافقين فيها من باب الإخبار بالمغيبات عن مجتمع المدينة، وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها: أن الله - تعالى - أخبر في سورة القصص، التي قبلها بما كان من فرعون واستعلائه على قومه، وجعلهم شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءَهم ويستحيى نساءَهم، ويسومهم سوءَ العذاب فافتتحت سورة العنكبوت بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار، وعذبوهم بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل تسلية لهم بذكر ما وقع بمن قبلهم، وحثًا لهم على الصبر وتحمل الأذى، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم}. كما أن من المناسبة أيضًا ما أشارت إليه الآيات في خاتمة سورة القصص، من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} على بعض الأقوال، وما أَشارت إليه سورة العنكبوت من هجرة المؤمنين في قوله - تعالى -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}، هذا، وقد ختمت سورة القصص بما يفيد هلاك جميع المخلوقات، ورجوعهم إلى الله، فكان من جميل النسق أن تبدأَ سورة العنكبوت بعدها بتوجيه المؤمنين إلى الصبر على ما يتعرضون له من الأذى، وما يُفتنون به من بلاء المشركين، ليكون لهم جزاءُ الصابرين، وعقبى المتقين. خلاصة هذه السورة بدأت السورة بذكر ما يتعرض له المؤمنون من الفتن، وما يواجههم من عنت وإرهاق وتعرض لفتن كثيرة جرت عليها سنة من قبلهم من المؤمنين حيث أُوذوا من الكافرين برسلهم ليتبين الذين صدقوا، ويُعلَم الكاذبون، ثم حثت الآيات على التمسك بالعقيدة، والعمل الصالح استعدادًا للقاءِ الله، ونبهت إلى جميل الجزاء، وحسن الثواب لمن أقام على عمل الصالحات التي من جملتها الإحسان إلى الوالدين، واصطناع المعروف معهما مهما كان شأْنهما، وحذرت من ضعفا الإيمان ضعفًا تهزه الحوادث، ويذهب به التعرض للأذى والفتن. ثم انتقلت الآيات إلى طرف من قصص نوح وإبراهيم ولوط مع قومهم في بيان يطول ويقصر، حتى انتهت إلى قصة شعيب - عليه السلام - مع أَهل مدين.

ثم انتقلت من هذا إلى تهوين أمر المشركين والكافرين مهما بلغت قواهم، وظهر أمرهم، فإن هذا كله لا يلبث أن يزول، وينتهى بهم إلى أشد العقاب، ولا تنفعهم معبوداتهم؛ فهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتا {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. ثم دعت الآيات إلى حسن المجادلة مع أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة حسبما يرشد إلى ذلك الكتاب الكريم الذي أُنزل على النبي الأُمي الذي لم تسبق له قراءَة ولم يجلس إلى معلم: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}: وتأكدت هذه المعاني كلها بآيات بعد ذلك ترد شبههم، وتنعى عليهم استعجالهم العذاب الذي لن يفوتهم إن كان مقدرًا عليهم، وسيغشاهم من فوقهم، ومن تحت أرجلهم إذا حان حينه، وجاء أوانه. ثم اتجهت الآيات في ختام السورة إلى دعوة المؤمنين إلى التماس عزتهم وقوتهم في أرض الله الواسعة، فستكون لهم العاقبة الحسنى في الدار الآخرة التي هي الحيوان لو كانوا يعقلون. وبمقدار ما عابت الآيات أحوال الكافرين، وأنكرت عليهم تكذيبهم للحق حين جاءَهم، بشرت المجاهدين في سبيل الله بالهداية إلى سبيل الرشاد في الدارين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. وسميت السورة سورة العنكبوت لذكره فيها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1)} بدئت هذه السورة بسرد حروف من حروف المعجم كغيرها من كثير من السور، والكلام في ذلك مثل الكلام في نظائره من هذه الفواتح الكريمة السابقة، فارجع إلى مثله في أوائل القرآن إن شئت. ومما تجدر الإشارة إليه أن السور التي بدئت بسرد حروف من المعجم أتبعت هذا الابتداء بالحديث عن القرآن الكريم بصور مختلفة، وأساليب متعددة، إلا ثلاث سور هذه إحداها

وسورة الروم، وسورة مريم، وهذا يدلنا على أن في هذا الكتاب العزيز أسرارا لا يزال العقل البشري في عجز عن إدراكها، ومعرفة الحكمة فيها ومنها، مهما تكلف في توجيه ذلك المتكلفون. على أن ذكر هذه الحروف في مفتتح هذه السور وغيرها أُسلوب من أساليب إثارة الانتباه والتيقظ لما يذكر بعدها من أغراض وأهداف. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} المفردات: {أَحَسِبَ}: أظَنّ، والحسبان كالظن: ترجيح أحد النقيضين على الآخر. {لَا يُفْتَنُونَ}: لا يختبرون ولا يمتحنون، من قولهم: فَتن الذهب، إذا أدخله النار ليختبر جودته. {صَدَقُوا}: آمنوا عن عقيدة وإخلاص. {الْكَاذِبِينَ}: المنافقين في إيمانهم. {أَنْ يَسْبِقُونَا}: أن يفوتونا ويعجزونا فلا يلاقوا جزاءَ أعمالهم. التفسير 2 - {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}: (الحُسْبَانُ): ترجيح أحد النقيضين على الآخر كالظن. بخلاف الشك، فهو: التردد بينهما، وبخلاف العلم، فهو: القطع بأَحدهما، ولا يتعلق الحسبان بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجُمل، ولذلك يقتضي مفعولين أَصلهما المبتدأُ والخبر، أو ما يسد مسدَّهما كما هنا.

والمعنى: أظَنَّ الناس تركهم غير مفتونين لمجرد إيمانهم أو نطقهم بالشهادتين دون أن يتعرضوا للفتن في دينهم، والامتحان بمشاق التكاليف من المهاجرة والمجاهدة، والصبر على فعل الطاعات، واحتمال أنواع المصائب في الأموال والأنفس والثمرات؛ ليتميز المخلص في إيمانه من المنافق، والراسخ في الدين من المتزلزل فيه، فيلاقى كل واحد جزاءَه بما يقتضيه عمله كما في قوله - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬1). رُوي أنها نزلت في أُناس من المسلمين الأَوائل كان المشركون من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، كسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار ابن ياسر، وأبيه ياسر، وأُمه سمية، وغيرهم. فكانت صدورهم تضيق لذلك، فنزلت هذه الآيات تسلية لهم وإعلامًا بأَن هذه هي سنة الله في خلقه اختبارا لهم وتمحيصًا. وهذه الآيات وإن نزلت في هُؤلاء فهي باقية في أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أبد الدهر. وقيل: نزلت في "مهجع" مولى عمر بن الخطاب أول من قُتِل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فجزع عليه أبواه، وامرأته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سيد الشهداءِ مهجع، وأول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأُمة". 3 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}: هذه الآية تتصل بالآية قبلها، توضح أن ابتلاء الأمم سنة قديمة مبنية على الحِكم البالغة، جارية بين الأُمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافها. والمعنى: ولقد اختبرنا الأمم قبلكم، وابتليناهم بأنواع من البلاء، وضروب من الفتن والمحن أشد مما أصابكم، فمنهم من صبروا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا ومنهم من ارتدَّ عن دينه، وهؤُلاء وأولئك معلومون لله مجزيون على أعمالهم، كما قال سبحانه: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا .... } أي: فوالله ليعلمن الله الصادقين الذين ¬

_ (¬1) الآية 142 من سورة آل عمران.

صبروا لهذا الامتحان يعلمهم علمًا تنجيزيًا، بعد أن علمهم قبل أن يكونوا، وليعلمن الكاذبين في إيمانهم كذلك، فيجزى كلًّا جزاءه الذي يناسب حاله (¬1). 4 - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: هذه الآية انتقال من إنكار حسبان الناس أن يتركوا لمجرد الإيمان دون أن يفتننوا. إلى إنكار حسبان الذين يعملون السيئات أن لا نجازيهم على سيئاتهم وهو أبطل من الحسبان الأَول، وقد عمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي. وتكون الآية على هذا في المشركين وعصاة المؤمنين، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه - تعالى - ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نُزِّل جريهم على غير موجب العلم بالجزاءِ من الغفلة وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء. والمفهوم من السياق، ومن سبب النزول: أن الحسبان الأول كان من المؤمنين، وهذا الحسبان من الكافرين، وبهذا أخذ ابن عباس - رضي الله عنهما -. فقد روى أنه قال: يريد - سبحانه - بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة، وأبا جهل، والأسود، والعاص ابن هشام، وشيبة وعتبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط. وحنظلة ابن وائل، وأنظارهم من صناديد قريش. وهذا لا يمنع أن الآية تعم جميع من يعمل السيئات؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والمعنى الإجمالي للآية: أظنَّ الذين يرتكبون السيئات من الكفر والمعاصي أن يفوتونا، ويهربوا من حسابنا فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم، لقد ظنوا كذبا، وحسبوا باطلا، وحكموا فاسدًا {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: أي بئس الحكم الذي يحكمونه هذا الحكم. ¬

_ (¬1) روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان من كان قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه".

{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} المفردات: {يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ}: يتوقع ملاقاة جزائه، أو يخاف. {أَجَلَ اللَّهِ} الوقت الذي حدده وعينه. {جَاهَدَ}: غالب نفسه وقهرها على الطاعة. التفسير 5 - {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: المعنى: من كان يتوقع ملاقاة جزائه ثوابًا أو عقابًا: فليبادر إلى ما يحقق رجاءه، ويؤمن خوفه، وليختر من الأعمال ما يؤدي إلى حسن الثواب، وجميل العاقبة، وليحْذر ما يسوقه إلى سوء العاقبة كقوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1). وقوله - تعالى -: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} معناه: فإن الوقت الذي حدده وعينه لذلك لآت وواقع لا محالة عن غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، فليستعد لذلك ويقدم له. وقيل: المقصود برجائه لقاء الله: أمَلُه بلقائه في الجنة. ومعنى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}: هو السميع لأَقوال عباده في جهرهم وسرهم، وخلواتهم وجلواتهم، العليم بجميع أحوالهم وشئونهم لا يغيب عنه من ذلك شيء، ولا يخفى عليه أمر. ¬

_ (¬1) الآية 110 من سورة الكهف.

ويجازي كلا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر تصديقًا لقوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (¬1). 6 - {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: ذكرت الآيات السابقة ابتلاءَ الله عباده واختبارهم ليمحص الذين آمنوا فيجزل لهم الثواب، ويعظم الأجر، ثم جاءت هذه الآية تحفز هممهم إلى الاستزادة من عمل الصالحات. وكثرة الطاعات، فقال - تعالى - ما معناه: ومن جاهد نفسه بالصبر على طاعة الله، أو دفع وساوس الشيطان فإنما يجاهد لنفسه لعود منفعته إليها، إن الله لغنى عن العالمين فلا حاجة له إلى طاعتهم، وإنما أَمرهم - سبحانه - بها ليثابوا عليها بموجب رحمته وحكمته. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} المفردات: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}: لنسقطنَّ عنهم عقاب سيئاتهم. {أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي أحسن جزاء أعمالهم، بأن تجازي الحسنة الواحدة بعشر أمثالها فأكثر، أما الجزاء الحسن فإنه يكون بمجازاة الحسنة بحسنة مثلها فقط. التفسير 7 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}: قررت الآية السابقة أن من جاهد فإنما يجاهد لنفسه، وهذه الآية تؤكد هذا المعنى وتزيد ¬

_ (¬1) الآية 31 من سورة النجم.

عليه أن فضل الله - تعالى - لا يقف عند الجزاء بالمثل، بل فضله أعظم، ورحمته أوسع وأشمل، فهي تشير إلى أن الله - تعالى - يسقط عذاب الكافرين بإسلامهم، ويتجاوز عن عقاب العصاة لفعل الطاعات، ثم تتجلى وحمة الله وواسع فضله بقوله - تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي: لنثيبنهم أحسن ثواب أعمالهم، فنجازى على الحسنة بعشر أمثالها وأكثر. ولا نقف على الجزاء الحسن فنثيب على الحسنة حسنة فقط. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المفردات: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}: أمرناه، و (وصَّى) يجرى مجرى الأمر معْنًى، فكأنه قيل: وأمرنا الإنسان، ويستعمل فيما كان في المأمور به نفع عائد على المأمور غيره. {جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي}: بَالَغَا في حملك على الشرك. {مَرْجِعُكُمْ}: عودتكم بالموت. {أُنَبِّئُكُمْ}: أُخبركم. التفسير 8 - {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: جاءَت هذه الآية في معرض الحديث عن الإيمان وعمل الصالحات تُوجِّه إلى منهل من

أثْرى مناهل الرحمة وهو بر الوالدين والإحسان إليهما، وقد نزلت هذه الآية في سعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - بعد إسلامه حيث حلفت أُمّه "حمنة (¬1) " بنت أبي سفيان أَلاَّ تنتقل من الضِّح (¬2) إلى الظل، ولا تطعم ولا تشرب حتى يرتد، فلبثت ثلاثة أيام، فجاءَ سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه فنزلت هذه الآية، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يداريها بالإحسان. وقيل: نزلت في عباس بن أبي ربيعة وقد فعلت أُمه مثل هذا الفعل، وسواء أكان نزولها في هذا أَم ذاك، فهي لجميع الأمة؛ لأن الإحسان إلى الوالدين مطلوب من كل مسلم. ومعنى الآية: أمرنا الإنسان بإِيتاء والديه، وإيلائهما كل فعل ذي حسْن يرضيهما ويوفر راحتهما، ويحقق البر بهما ما دام في كل هذا طاعة الله، فإن ذلك يحقق له الثواب وعظيم الأجر، ويعود على الوالدين بالخير والراحة والإحسان، فإن ابتغى الوالدان أو أحدهما من الولد شيئًا فيه معصية، أو جاهداه وحملاه حملًا على أن يشرك بالله ما ليس له علم بأُلوهيته وإنما يعلم بطلانه، فلا يطعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن مع التلطف في معاملتهما، والصبر على ابتلائه بهما؛ فإنه لا يصبر على بلاءِ الله إلاَّ صديق. وقوله - تعالى -: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: معناه؛ إليَّ وحدي نهايتكم جميعًا منْ آمن منكم ومن أشرك، ومن برَّ والديه ومن عقهما، فأكشف لكم عن هذا كله، وأُجازي كلاًّ بعمله، الخير بالخير، والشر بالشر. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} ¬

_ (¬1) جاء في الإصابة ج 4 ص 160 رقم 3187 في ترجمة سعد بن أبي وقاص أن اسم أمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بنت عم أبي سفيان بن حرب. (¬2) الضح: نور الشمس.

المفردات: {فِي الصَّالِحِينَ}: الصلاح؛ ضد الفساد، وهو أبلغ صفات المؤمنين. التفسير 9 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}: الدخول في الصالحين مطلب من أجلِّ المطالب التي تستشرف إليها نفوس خاصة المؤمنين بلْه الأنبياء والمرسلين، وهذا سليمان - عليه السلام - مع ما أعطاه الله من الرسالة والملك، وتسخير كثير من الأكوان يقول: {بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬1). والمعنى: والذين آمنوا بالله، وصدقوا بوحدانيته، وأخلصوا في عبادته بعمل الصالحات، والإكثار من الطاعات، لندخلنهم ونحشرنهم يوم القيامة في زمرة الراسخين في الصلاح الذي هو منتهى درجات المؤمنين، وغاية ما امتدح الله به الأنبياء والمرسلين، قال - تعالى - في شأن إبراهيم - عليه السلام -: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2). وقيل: المراد لندخلنهم مدخل الصالحين وهو الجنة، والمؤدَّي واحد في كلا المعنيين. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} ¬

_ (¬1) جزء الآية 19 من سورة النمل. (¬2) جزء الآية 122 عن سورة النحل.

المفردات: {أُوذِيَ فِي اللَّهِ}: عُذِّب من الكافرين بسبب إسلامه. {فِتْنَةَ النَّاسِ}: ما يلحقه من أذاهم. {كَعَذَابِ اللَّهِ}: مثل عذاب الله الذي ينتظر العصاة في الآخرة. {نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}: فتح وغنيمة. {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}: كنَّا مشايعين ومناصرين لكم في الدين. {الْمُنَافِقِينَ}: الذين يظهرون الإِسلام ويخفون الشرك. التفسير 10 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ... } الآية. نزلت هذه الآية في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم، وكانوا يكتمون ذلك على المسلمين، وقيل: إنها نزلت في المنافقين. والمعنى: ومن بين المسلمين ناس ضعاف الإيمان يقولون: آمنا بأَلسنتهم، ولم يتغلغل الإيمان في قلوبهم، ولم يتعمق في ضمائرهم، فإذا مسهم أذى من الكفار والمشركين بسبب إيمانهم خافوا هذا الأذى ولم يصبروا عليه، ووافقوهم على شركهم وأظهروا لهم ولاءَهم معادلين هذا العذاب لعذاب الله - تعالى - في الآخرة، ومُنزليه منزلته في الشدة والهول. {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ}: وحصل للمؤمنين فتح أو غنيمة رجعوا إلى المؤمنين، وأكدوا لهم إيمانهم بقولهم: إنا كنا مشايعين لكم في الدين، مناصرين لكم في بلائكم، فأَشركونا معكم في الغنيمة، ويردّ القرآن عليهم هذا الادعاءَ الكاذب بقوله: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}: أي إن الله - تعالى - أعلم بما في صدور العالمين من أنفسهم به، فلا يخفى ذلك على الله، بل لا يخفى على المتفرسين الذين ينظرون بنور الله - تعالى - أحوالهم من رقة الإيمان أو من النفاق. 11 - {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}: تؤكد هذه الآية ختام الآية السابقة، فتقرر على سبيل التأكيد أن الله - تعالى - يعلم

الذين آمنوا عن صدق وإخلاص ويعلم المنافقين أو الضعفاء الإيمان الذين يعبدون الله على حرف فيهز إيمانهم الأذى، وتزلزله فتن الكفار، وليختبرنَّ إيمانهم بالأمن والخوف والسراء والضراء فيجازي كل واحد بعمله. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} المفردات: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا}: اسلكوا طريقنا التي نسلكها في الدين. {خَطَايَاكُمْ}: أَوزاركم وسيئاتكم. {أَثْقَالَهُمْ}: خطاياهم وذنوبهم الفادحة. {يَفْتَرُونَ}: يختلقون في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل. التفسير. 12 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: نزلت هذه الآية في كفار قريش على ما أخرجه جماعة عن مجاهد، قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليم شيءٌ التزمنا حمله، وهو بيان لأُسلوب آخر من أَساليب الكفار في استمالة المسلمين، وإغرائهم بالكفر، وحملهم بهذا الأسلوب على الإشراك بعد حملهم علبه بالإيذاء والوعيد والتهديد.

والمعنى: وقال الكفار من مشركي مكة للمسلمين الذين اتبعوا دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: اتبعوا سبيلنا، واسلكوا طريقتنا التي نسلكها في ديننا، ولنحمل عنكم ذنوبكم وآثامكم إن صح أن هناك بعثًا وجزاءً، أو إن كان في اتباعكم لنا خطيئة يؤاخذ عليها عند البعث - كما تقولون - وقد ردَّ الله عليهم بقوله - تعالى -: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}: أي: وما أولئك المشركون بحاملين من شيء من خطاياهم التي التزموا أن يحملوها لهم إن واقفوهم، وإن هؤلاء المشركين لكاذبون في دعواهم القدرة على حمل خطايا المسلمين؛ لأنهم يقولون ما لا يقدرون عليه، ولا يملكون أداءَه. 13 - {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: هذه الآية استمرار في تسفيه المشركين، ودرء أباطيلهم ببيان ما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا. والمعنى: وليحملنَّ هؤلاء المشركون في الآخرة آثامهم الفادحة، وأوزارهم الثقيلة {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي: وأوزارا وآثاما أُخَر مع أثقال أنفسهم وهي أثقال من تسببوا في إضلالهم وحملهم على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص ذلك من أثقال من أضلوهم شيئًا أصلا. والتعبير بالأثقال عن الخطايا والذنوب للإيذان بخطورتها كأنها عبءٌ ثقيل تنوءُ به الكواهل، وهذا كما في قوله - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) - وكما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما داع دعا إلى هدى فاتُّبع عليه وعُمِل به فله مثل أُجور الذين اتبعوه، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتُّبع عليها وعُمِل بها، فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه، ولا ينقُصُ ذلك من أوزارهم شيئًا". ¬

_ (¬1) من الآية 25 من سورة النحل.

{وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: المقصود من سؤالهم: تبكيتُهم وتوبيخهم، لا الاستعلام عن افترائِهم، فالله به عليم. والمعنى: وليسألن الله - تعالى - هؤلاء المشركين يوم القيامة سؤال تقريع وتبكيت عما كانوا يفترونه، ويختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها أكاذيبهم هذه. وقد اتضح مما تقدم أن هذه السورة الكريمة قد صنفت الناس إلى مؤمنين خُلَّص صدقوا في إيمانهم، وأخلصوا في أعمالهم، وإلى مؤمنين ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف فيهتز إيمانهم أمام الفتن، ويتزلزل لما يلحقهم من إيذاء، وإلى مشركين ممعنين في الكفر والضلال والإضلال. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} المفردات: {فَلَبِثَ فِيهِمْ}: مكث في دعوتهم إلى التوحيد. {الطُّوفَانُ}: الماءُ الكثير الغالب الذي يغشى كل شيء، وقد يطلق على كل ما يحيط ويطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والمطر والظلام. {وَجَعَلْنَاهَا}: أي السفينة، أو الحادثة والقصة. {آيَةً}: عظة وعبرة.

التفسير 14 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}: هذا شروع في عرض شيء من قصص الأنبياء تسلية للرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه ببيان ما عاناه الأنبياءُ - عليهم السلام - قبله مع أُممهم، إثر بيان افتتان بعض المؤمنين بأذية الكفار والمشركين، وتأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا لمجرد أن يقولوا: آمنا. وتثبيتا للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما كان عليه من الصبر على أذى الكفار والمشركين. ومعنى الآية: ولقد أرسلنا رسولنا نوحا - عليه السلام - إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته والتزام طاعته، فلبث فيهم ومكث يدعوهم إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يجد منهم إلا إصرارا على الكفر، وإمعانا في العناد، ومعارضة لدعوته حتى استحقوا العقاب، وعرضوا أنفسم لانتقام الله منهم، فأخذهم الطوفان، وغمرهم الماءُ من كل ناحية وجانب عقب تمام المدة التي مكث يدعوهم فيها {وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: مستمرون على الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح - عليه السلام - والتعبير بقوله: {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} بدلًا من أن يقال: إلا خمسين سنة للبعد عن التكرار. 15 - {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}: أي: فأنجينا نوحا من الغرق، وأنجينا معه جماعة المؤمنين الذين صحبوه في السفينة التي صنعها بوحي من الله وتحت حفظه ورعايته، وكان الذين معه من أولاده وأتباعه ثمانين، وقيل: ثمان وسبعون، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث، منهم أولاد نوح سام، وحام، ويافث، ونساؤُهم، وقيل في عددهم غير ذلك، والله أعلم بحقيقة عددهم، ويكفى في قلتهم أنهم ركاب سفينة واحدة مع ما حمله فيها من كل حيوان زوجين اثنين.

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم - وصححه - عن ابن عباس قال: بعث الله - تعالى - نوحا - عليه السلام - وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله - تعالى - وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكروا أن مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء، وجاء في بعض الآثار أنه - عليه السلام - أطول الأنبياء عمرا، أخرج ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح - عليهما السلام - فقال: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان، فقال وسطَ الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر (¬1). ومعنى قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}: جعلنا السفينة عظة وعبرة حيث بقيت على الجودي زمانا طويلًا، قيل: إلى بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقيل: جعلنا الحادثة والقصة المفهومة من السياق عظة وعبرة للعالمين، لاشتهارها فيما بينهم. {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)} المفردات: {اتَّقُوهُ}: اتقوا أن تشركوا به شيئًا. ¬

_ (¬1) قال: بمعنى نام نصف النهار، ومصدره: القيل والقائلة والقيلولة.

{أَوْثَانًا}: أصناما منوعة، جمع وثن، قال أبو عبيدة: الصنم: ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن: ما يتخذ من جص أو حجارة. {إِفْكًا}: كذبا. {فَابْتَغُوا}: فاطلبوا. التفسير 16 - {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: أي: واذكر إبراهيم حين قال لقومه: اعبدوا الله وحده واتقوه فلا تشركوا به أحدًا ذلكم الذي آمركم به وأدعوكم إليه من العبادة والتوحيد، وما يتبع ذلك من عمل الطاعات خير لكم من كل خير، ومما أنتم عليه من الوثنية التي لا خير فيها {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر، أو كنتم من أهل العلم بوجه من الوجوه تبين لكم أن الخير كله في عبادة الله وحده لا شريك له. 17 - {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: هذه الآية استمرار في تسفيههم وبيان بطلان دينهم، وكونه شرا في نفسه بعد بيان أنه شر بالنسبة للدين الحق. والمعنى: إنكم بعبادتكم هذه ما تعبدون من دون الله إلا أصناما هي في نفسها تماثيل مصنوعة ليس لها وصف غير ذلك، وما تخلقون إلاَّ كذبا حين تسمونها آلهة، وتدَّعون أنها شفعاؤكم عند الله، أو معنى: {تَخْلُقُونَ إِفْكًا}: أي تعملون هذه الأصنام، وتنحتونها بأيديكم لتكون العاقبة من خلقها الإفك والكذب. إن هذه الأصنام التي تتخذونها وتعبدونها من دون الله لا تقدر على نفعكم، ولا تملك لكم رزقا أيَّ رزقٍ: قليلا أو كثيرا. فابتغوا عند الله واطلبوا الرزق الكامل كله، فإن الله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، واعبدوه وحده واشكروا له على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته وشكره تستكثروا من خيره وفضله.

وقوله - تعالى -: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} - معناه: إلى الله - وحده لا إلى غيره - تعودون وترجعون بالموت والبعث، فافعلوا ما تؤمرون به واستعدوا للقائه. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} المفردات: {الْمُبِينُ}: الواضح البيِّن في نفسه، أو المبين لغيره الموضح له. التفسير 18 - {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: هذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله - تعالى -: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يحتمل أن تكون من كلام سيدنا إبراهيم لقومه منتظمة في سياق القصة، وأن تكون وقعت معترضة في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشأن قريش، بين أول قصة إبراهيم وآخرها قصد بها التنفيس عنه - صلى الله عليه وسلم - ومسلاة له بأن أباه إبراهيم - عليه السلام - كان مبتلى من قومه بمثل ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، وسواء أكان هذا أم ذاك فإن المعنى: وإن تكذبوني في دعوتي فلن تضروني بتكذيبكم؛ فما على الرسول إلا البلاغ والتبعة في التكذيب على المكذبين لا على رسلهم، وقد كذبت الأمم قبلكم - أنبياءهم مثل: شيث وإدريس وإبراهيم ونوح وغيرهم فما ضروهم، وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم، وأما الرسل فقد تم أمرهم، واستكملوا واجبهم في التبليغ الواضح الذي لا يبقى معه شك.

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} المفردات: {أَوَلَمْ يَرَوْا}: المراد من الرؤية هنا: العلم، أي: أولم يعلموا علمًا يشبه المشاهدة بالبصر. {يُبْدِئُ الْخَلْقَ}: يوجده ابتداءً من مادة ومن غير مادة على غير مثال. {يُعِيدُهُ}: يحييه بعد موته وتحلل أجزائه، بل وتلاشيها. التفسير 19 - {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}: كلام مستأنف مسوق للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دلائله. والمعنى: أغفلوا وجهلوا، ولم يعلموا - علمًا تؤكده الرؤية وتؤيده المشاهدة - كيفية خلق الله - تعالى - الخلق ابتداءً من مادة ومن غير مادة على غير مثال سابق، وكل ما في هذا الكون يوحى بذلك، ويفرض العلم به، ولا ينكره إلا مكابر معاند، ثم الله - سبحانه وتعالى - يعيد خلقه بالبعث بعد فنائه؛ لأن القادر على خلقه ابتداءً لا يعجزه إعادة خلقه كما تقرر هذا في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) الآية 27 من سورة الروم.

{إنَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}: أي؛ إن أمر إعادة الخلق بعد الفناء يسير على الله سهل لا يفتقر إلى شيء أصلا، وإنما يقول الله - تعالى - له: (كن فيكون). ويجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من البدء والإعادة. 20 - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}: أنكرت الآيات السابقة على الخلق غفلتهم وتعطيلهم العقل بعدم تدبرهم في قدرة الله - تعالى - الواضحة في بدء الخلق تدبرا يصل بهم إلى اليقين بقدرته على البعث وإعادة الخلق، وهذه الآية تأمرهم بالسير في الأرض لينظروا فيها كيفية بدء الخلق الدالة على قدرته - تعالى - على النشأة الآخرة. والأمر في قوله - تعالى -: {قُلْ سِيرُوا} يحتمل أن يكون لسيدنا محمَّد إذا كانت هذه الآيات معترضة في قصة إبراهيم - عليه السلام - لتسلية الرسول، وأن يكون لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - إذا كانت هذه الآية والتي قبلها وبعدها متصلة بقصته. والمعنى: قل - يا أيها الرسول - لقومك سيروا في الأرض، وتقلبوا في جوانبها ومناكبها، فانظروا كيف بدأ الله الخلق على أطوار مختلفة، وطبائع متغيرة. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}: أي؛ ثم الله الذي أنشأ النشأة الأولى قادر أن يعيد خلقهم في الآخرة مثل النشأة الأولى التي شاهدوها، وعاينوا آثارها وأطوارها. والتعبير عن الإعادة بالنشأة الآخرة يشعر بأن النشأتين شأن واحد من شئون الله - تعالى - من حيث إن كلا منهما إخراج من العدم إلى الوجود، لا فرق بينهما إلا بالأولية والآخرية. وإظهار اسم الله في قوله - تعالى -: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} مع إضماره في قوله - سبحانه -: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة، كما أن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق في أقطارها

ومما ينبغي الالتفات إليه في هذه القضية ما يتعاقب من النبات والثمار فيكون في كل سنة على مثل ما كان عليه في السنة السابقة، فهذا مما يستدل به على صحة البعث كما أشار إليه العلامة أبو السعود، ونزيد عليه: أن الأمر كذلك في مختلف أنواع الحيوانات والطيور والأسماك. وقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: تذييل لتحقيق ما قبله؛ لأن من علم قدرة الله - تعالى - على جميع الأشياء لا يتصور أن يعجز عن إعادة الخلائق بعد فنائهم. {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)} المفردات: {تُقْلَبُونَ}: تردُّون وترجعون. {بِمُعْجِزِينَ}: بفائتين ولا هاربين من عذاب الله. {وَلِيٍّ}: معين وناصر يمنعكم من العذاب. التفسير 21 - {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وإليه تقلبون}. جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة. والمعنى: يعذب بعد النشأة الأُخرى من يشاء بعدله، وهم المنكرون المصرون على الكفر. {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} بفضله، وهم المؤمنون المصدقون، وتقديم التعذيب على الرحمة لأن المقام مقام ترهيب وتخويف.

وقوله - تعالى -: {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} معناه؛ إلى الله وحده تردون وترجعون، فتلاقون جزاءكم من التعذيب والرحمة. 22 - {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير}: هذه الآية من تمام الوعيد في الآية السابقة. والمعنى: وما أنتم - أيها الخلق - على كثرتكم، واختلاف أحوالكم بفائتين من حساب ربكم، ولا هاربين من جزائه بالتوارى في الأرض الفسيحة، أو الهبوط في مهاويها. أو التخفي في مناكبها، ولا بالتحصن بالسماء التي هي أمنع من الأرض إذا استطعم الصعود إليها. وقيل: وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا من في السماء. {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير}: أي؛ ليس لكم من الله من أحد يحرسكم مما يصيبكم من بلاءٍ أرضي أو سماوي، ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذابه وبلاءه إذا شاء. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: المفردات: {يَئِسُوا}: انقطع رجاؤهم وقنطوا. {رَحْمَتِي}: جنتي.

التفسير 23 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي والذين كفروا بآيات الله التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقاء الله الذي تنطق به آياته، أولئك يائسون من رحمته، قانطون من دخول جنته يوم القيامة، وأولئك لهم عذاب موجع مؤلم في الآخرة. وفي تكرار الإشارة والإسناد وتنكير العذاب، ووصفه بالإِيلام، وفي وصفهم باليأس من رحمته - تعالى - مع شدة حاجتهم إليها يؤمئذ - وذلك كله - ما يؤذن بسوء حالهم وفظاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} التفسير 24 - {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: يتشوف السامع إلى السؤال عن حال قوم إبراهيم - عليه السلام - بعد أن دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وأمرهم بالسير في الأرض والتدبر في أحوالها وتقلباتها ليعلموا كيفية قدرة الله - تعالى - على بدءِ خلقه فيعلموا من هذه المشاهدات والأحوال كيفية قدرته على إعادة الخلق بالبعث بعد الفناء، فتكون هذه الآية هي الإجابة على هذا السؤال، ويتسق بذلك السياق في أحكم نظام وأدقه.

والمعنى: فما كان جواب قوم إبراهيم على دعوته إياهم إلاَّ أن قالوا: اقتلوه بأداة قتل أو حرقوه بنار لتستريحوا منه، وتستأصلوا شره، ثم انتهوا من هذا الترديد إلى إحراقه، فجمعوا أحطابا كثيرة، ثم أضرموا فيها النار حتى ارتفع لهيبها، وحميت جذوتها، ثم عمدوا إلى إبراهيم - عليه السلام - فأوثقوه وقذفوا به فيها، فأمرها الله أن تكون بردا وسلامًا على إبراهيم ففقدت خاصيتها، ثم خرج منها سالمًا مُعافًى بفضل الله بعد ما مكث فيها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: إن في ذلك الإنجاء من النار بعد أن بذلوا فيها جهودهم وما تبع ذلك من بردها على إبراهيم، وخيبة أملهم فيها - إن في ذلك - لمعجزات عجيبة، وآيات واضحة الدلالة لقوم مستعدين لتقبل الهداية، واستجابة الدعوة، فأما غيرهم فهم غافلون عن اجتلائها. محرومون من الفوز بمغانمها، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أمر الإحراق فقط دون القتل كما في هذه الآية، ولعل الآيات الأخرى اكتفت بما انتهوا إليه، وقد جاءت قصته - عليه السلام - في أكثر من سورة من القرآن مع تفاصيل أخرى. {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} المفردات: {أَوْثَانًا}: أصنامًا تعبدونها من دون الله. {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}: سببًا في تواصلكم واجتماعكم على عبادتها. {وَمَأْوَاكُمُ}: منزلكم الذي تأوون إليه خالدين فيه أبدا.

التفسير 25 - {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: لم يخرج إبراهيم من النار خائر العزم، واهن القوة وإنما خرج في مثل حاله الأولى من القوة والتصميم ماضيًا في تسفيه قومه، وتسخيف عقولهم حيث قال لهم: إنما اتخذتم من دون الله آلهة زائفة، وأصنامًا من صنعكم لا نفع لها، ولا غناء فيها جمعتكم على عبادتها، وأوجدت بينكم المودة والتآلف لنصرتها ولن يكون لكم ذلك إلا في الدنيا، ثم يوم القيامة تنقلب الأُمور، ويتبدل التواد تباغضا، والتلاطف تلاعنا حيث يكفر بكم أتباعكم، ويلعن كل فريق منكم الفريق الآخر. كما في قوله - تعالى -: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (¬1). ومأواكم ومسكنكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه النار، ومالكم من دون الله من ناصرين يخلصونكم من عذابها كما خلص الله إبراهيم من ناركم، وعصمه ونصره من سوء صنيعكم. {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} ¬

_ (¬1) الآية 166 من سورة البقرة.

المفردات: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}: أي آمن بإبراهيم وأسلم له قياده. {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}: أي وقال ذلك إبراهيم - عليه السلام - والهجرة: مفارقة بلد إلى بلد آخر، فإن كانت قربة إلى الله فهي الهجرة الشرعية، وهي اسم من: هاجر مهاجرة كما في القاموس. {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: أي منَّ الله - سبحانه على إبراهيم بالذرية، فوهب له إسحاق ابنًا ويعقوب ابن ابن. {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}: فلم يبعث الله نبيًا بعده إلا من صلبه، ولم تنزل الكتب السماوية إلاَّ عليهم. التفسير 26 - {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي: إن لوطا صدق إبراهيم - عليه السلام - في جميع مقالاته، أو صدق بنبوته حين ادّعاها. لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد؛ فإن لوطا - عليه السلام - كان مؤمنًا باللهِ. ولوط: ابن أخي إبراهيم - عليه السلام - وهو المشهور عند جمهور المفسرين، وذكر بعضهم أنه ابن أُخته، نقل ذلك الآلوسى في تفسيره. وهو أول من أمن بإبراهيم، وأجاب دعوته إلى الحق، وكان إبراهم يسكن كُوثى - بالضم - قرية بالعراق (¬1) وهي من سواد الكوفة، هاجر منها إلى حرَّان ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارح، وامرأته سارة، ثم أُرسل لوط في حياة إبراهيم - عليه السلام - إلى أهل سدوم وإقليمها، وكان من أمرهم ما تقدم في الأعراف وهود والنمل. ¬

_ (¬1) انظر القاموس.

وإبراهيم - عليه السلام - أول من هاجر من أرض الكفر كما قال الكلبي، وقال مقاتل: هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال حين ترك قومه مهاجرا: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي: إلى الجهَة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، أو من أجل ربي، حيث لا أُمنَعُ عبادته وإظهار دينه، وقيل المعنى: إنِّي مهاجر من خالفني من قومي متقربًا إلى ربي {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي: الغالب على أمره الذي يمنعنى من أعدائى، ولا يأمر - لعظيم حكمته - إلاَّ بما فيه الخير والمصلحة. 27 - {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: أي: لما فارق قومه أقر الله عينه بولد صالح نبى وهو إسحاق، وبولَد ولَدٍ وهو يعقوب ولد إسحاق، وذلك في حياة جده، كانت هذه الهبة العظيمة التي لا يُقَادرُ قدرها حين أيس من الذرية من امرأته سارة وهي عجوز عقيم. ولم يذكر هنا إسماعيل - عليه السلام - لأنه ولد له قبل ذلك من أم شابة ولم تكن عجوزا عقيمًا، وفي هاجر، أما إسحاق فولد بعده من سارة العجوز العقيم، ومن ورائه يعقوب ابن إسحاق. وقال الزمخشري: إن إسماعيل ذكر ضمنًا وتلويحًا بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} ولم يصرح به لشهرة أمره، وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب به نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو من أولاده وأعلم به: اهـ. وقد خص الله - سبحانه - إبراهيم - عليه السلام - بقوله: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} تكريمًا له؛ حيث إنه لم يبعث بعده نبي قط إلا من صلبه وقد أوتوا الكتب المنزلة، وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وآتاه - سبحانه - أجره في الدنيا بانتماء أهل الملل إليه، والثناء عليه، وإعطاء الولد والذرية الطيبة، واستمرار النبوة فيهم، والصلاة عليه إلى آخر الدهر، وسعة الرزق {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: أي جمع الله له

بين سعادة الدنيا الموصولة، وسعادة الآخرة، فوفقه إلى القيام بجميع ما أُمر به من عمل دائب لمحاربة الشرك، وإعلاء التوحيد، والطاعة له وحده، كما قال - تعالى -: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬1) {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)} المفردات: {لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}: أي؛ الفعلة الشنيعة، وهي إتيان الرجال. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ}: أي الطريق، وكلتاهما تذكر وتؤنث. {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر}: أي تقترفون في ناديكم الأمر القبيح الذي ينكره الدين والخلق. التفسير 28 - {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}: أي؛ واذكر - أيها الرسول - لوطا إذ قال لقومه أهل سدوم موبخا ومحذرا لهم من الأعمال القبيحة التي أقبلوا عليها وتمسكوا بها، قال لهم، إنكم لتأتون الفعلة البالغة الغاية ¬

_ (¬1) سورة النجم، الآية: 37.

في الفحش، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء. وقرأ الجمهور: أئنكم على الاستفهام الإنكاري. وقوله - تعالى -: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} حكايته لقول لوط - عليه السلام - مسوق لتقرير كمال قبحها، ببيان إجماع جميع العالمين قبلهم على التحاشي عنها لكونها ممَّا تشمئز منه النفوس، وتنفر من شناعته الطباع، وأنها جريمة نكراءُ، ابتدعوها ولم يُسبقوا إليها من أحد من بني الإنسان. 29 - {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} الآية. أي: إنكم لتنكحون الرجال انتهاكًا لحرمات الله، وتقطعون الطريق بسبب حمْلِ الغرباء والمارة على تلك الفعلة الشنعاء، وإتيانهم كرهًا، أو: وتقطعون طريق النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث، أو: وتقفون في طريق الناس تقتلونهم، وتأخذون أموالهم وقد بلغ بهم التمادى في اقتراف كل قبيح أنهم كانوا يأتون في مجتمعهم كل أنواع المنكر، من اللواط وغيره. أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أُم هانيء بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى -: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} فقال: "كانوا يجلسون في الطريق فيقذفون أبناء السبيل، ويسخرون منهم"، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمَّد وقتادة وابن زيد: هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا. ولما وقفهم لوط - عليه السلام - على قبائحهم أجابوه بما حكاه الله عنهم بقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: أي فيما تعدُنَا به من نزول العذاب، تكذيبًا له وسخرية به فيما نهاهم عنه وأوعدهم بنزوله. وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مراتب تبليغ لوط - عليه السلام - وما في سورة الأعراف المذكور في قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} (¬1)، وما في سورة النمل المذكور في قوله - تعالى -: " {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُم} .. (¬2)، فقد صدر بعد هذه المرة، وذلك لأن ¬

_ (¬1) من الآية: 82. (¬2) من الآية: 56.

قولهم: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} من باب التكذيب والسخرية، وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات، أما قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، وقولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فمن باب العقاب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي منهم بما يؤذيهم، ويُبعدهم عن ديارهم. اهـ: بتصرف من الآلوسي. وقيل: إن ما هنا جواب قومه - عليه السلام - له إذ نصحهم، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره. 30 - {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}: لجأ نبي الله لوط إلى ربه متضرعًا: ملتمسًا أن ينزل العذاب الموعود على هؤلاء المفسدين الذين فعلوا الفاحشة وتمسكوا بها وأصروا عليها، واستعجلوا العذاب الذي أوعدهم به سخرية منه حينما دعاهم إلى ما فيه صلاح حالهم، واستقامة أمرهم. ووصفهم بالمفسدين مبالغة في استحقاقهم استنزال العذاب بهم لأنهم فسدوا وأفسدوا. {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)}

المفردات: {بِالْبُشْرَى}: بالبشارة بالولد ونصرة لوط. {هَذِهِ الْقَرْيَةِ}: هي سدوم كما سبق. {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}: الباقين في العذاب. {سِيءَ بِهِمْ}: اعترته المساءة خوفًا عليهم من قومه. {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}: أي عذابًا من السماء يزعجهم، من: ارتجز، أي: ارتجس، واضطرب. {آيَةً بَيِّنَةً}: هي آثار القرية الخربة التي تدل على قصتها العجيبة. {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. التفسير 31 - {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}: لما استنصر لوط - عليه السلام - ربه على قومه بعث الله لنصرته ملائكة فمروا بإبراهيم - عليه السلام - في هيئة أضياف كما تقدم في سورة هود، والحجر، ولما أوجس منهم خيفة شرعوا يؤنسونه، ويبشرونه بأنهم أُرْسِلُوا له بالبشارة بالولد والنافلة (¬1) من امرأته سارة، وأخبروه بأنهم أُرسلوا كذلك لإهلاك قوم لوط كما حكاه قوله - سبحانه -: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وهم أهل قرية سدوم لإصرارهم على الفاحشة، وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي. 32 - {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}: ¬

_ (¬1) أي: ولد الولد، والمراد بهما إسحاق وابنه يعقوب - عليهما السلام.

أي: قال لهم - على سبيل التفجع والتحزن -: أتلكونها وفيها من هو برئ من الظلم؟!. فكان ردهم عليه بأنهم غير غافلين عن مكان لوط فيها وأتباعه من المؤمنين. وقيل: يجوز أن يكون إبراهيم - عليه السلام - اعتقد عدم تناول إهلاك أهل القرية للوط - عليه السلام - لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه، وحبه له. وقوله - سبحانه - حكاية عنهم: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} يشعر بأنهم معنيون بلوط وأهله أتم عناية؛ لتأكيد وعدهم بالتنجية بالقسم، أما امرأته فلأنها كانت تماليء قومها على كفرهم وبغيهم، فكانت من الباقين في العذاب وقد مر الكلام عن ذلك في سورة النمل. 33 - {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} الآية. بعد مفارقة الرسل لإبراهيم - عليه السلام - ساروا إلى لوط - عليه السلام - في سورة شبان حسان، فلما رآهم كذلك اعترته المساءة والحيرة، وعجزت طاقته عن تدبير أمرهم. وعن الحيلة لإنجائهم، وكان لا يعلم أمرهم في الساعة الراهنة التي رآهم فيها. ولما شاهدوا فيه مخايل الضمير من جهتهم، وعاينوا ما يشير إلى أنه عاجز عن مدافعة قومه، طمأنوه. {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}: أي لا تخف من قومك علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك، ولن يصيبك وأهلك أذى إلاَّ امرأتك فهي من الهالكين الباقين في العذاب. 34 - {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: بيان لما أشار إليه قوله - سبحانه -: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} من نزول العذاب على أهل قرية سدوم، أكبر قرى قوم لوط، وفيها بدأت الفاحشة كما قيل، ولذا خصت بالذكر وقد استأصل العذاب أهلها وقطع دابرهم. قال ابن كثير: إن جبريل - عليه السلام - اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذابًا إلى يوم المعاد. اهـ

{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}: أي بسبب فسقهم المعهود المستمر حل بهم عذاب الإبادة والاستئصال. 35 - {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: أي: ولقد أهلك الله هذه القرية وترك منها آية واضحة تدل على ما فعله الله بهم لتكون عبرة وعظة لقوم يحكمون عقولهم، ويستعملونها في الاستبصار والانتفاع بما شاهدوه من كمال قدرة الله، وقوة سلطانه. وفي الآيات من الدلالة على ذم اللياطة وقبحها ما لا يخفى؛ فهي كبيرة بالإجماع، وأشد حرمة من الزنى. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)} المفردات: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، أي لا تحدثوا فيها الفساد بكفركم، فإنه أصل كل فساد، والعثُوُّ، والعِثِيُّ: أشد الفساد. {الرَّجْفَةُ}: الزلزلة الشديدة، أو صيحة جبريل - عليه السلام -. {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أي باركين على الركب ميتين. التفسير 36 - {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}:

يخبر - سبحانه - عن عبده ونبيه شعيب أنه خاطب أهل مدين، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك ده، وأن يخافوا يوم القيامة، حيث قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}: أي خافوا ما ينزل بكم فيه من فنون الأهوال والشدائد، واعملوا اليوم الأعمال التي تؤمنكم غائلته وقسوته، قال يونس النحوي وأبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والخشية، أي: اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال. ثم نهاهم - سبحانه - عن العثو في الأرض قاصدين الفساد ظلما وبغيًا على أهلها، وكانوا ينقصون المكيال والميزان، ويقطعون الطريق على الناس، مع كفرهم بالله ورسوله، وذلك أشد الفساد وأبشعه، فقال لهم: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ولما لم يعد لتهديده أثر حيث استمروا مندفعين في اقتراف آثامهم، نزل بهم من العذاب ما حكاه الله بقوله: 37 - {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أي: أصابتهم زلزلة شديدة دمرت عليهم ديارهم وأرضهم، وقيل، صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة أحدثت الرجفة بسبب تحريكها للهواء، فأصبحوا بسبب ذلك باركين على ركبهم ميتين (¬1). {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} ¬

_ (¬1) وقد مضت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف، وهود، والشعراء.

المفردات: {مِنْ مَسَاكِنِهِمْ}: بالأحقاف. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}: أي الطريق الحق. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}: أي عقلاء ذوي بصائر ولكنها لم تنفعهم. {ومَا كَانُوا سَابِقِينَ}: أي فائتين، بل أدركهم أمر الله، أو: وما كانوا سابقين في الكفر، بل سبقتهم أُمم كثيرة. {حَاصِبًا}: سحابًا أو ريحًا يحصبهم بالحجارة. {الصَّيْحَةُ}: تَمَوُّجٌ شديد في الهواء يحدث هزة عنيفة مهلكة. {خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ}: أي غيبناه في جوفها، يقال: خسف المكان خسْفًا، من باب ضرب، وخسوفًا: ذهب في الأرض، وخَسَفَ الله به الأرض، أي: أدخله فيها وخرقها به. التفسير 38 - {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ .. } الآية: أي: واذكر عادا إذ أرسلنا إليهم هودا فكذبوه فأهلكناهم، وثمود إذ أرسلنا إليهم صالحًا فكذبوه فأهلكناهم، وقد ظهر لكم يا أهل مكة أتم ظهور ما نَزل بهم فيما حدث بمساكنهم عند مروركم عليها في أسفاركم، وكانت العرب وبخاصة أهل مكة تعرف مساكنهم جيدًا، وتمر عليها كثيرًا في أسفارهم فيبصرونها، ويشاهدون في غدوهم ورواحهم آثار ماحل بها من دمار وهلاك، وكانت عاد تسكن الأحقاف وهي قريبة من حضرموت باليمن، وثمود تسكن الحجر قريبًا من وادى القرى. وقد زين الشيطان لعاد وثمود الكفر والعصيان بوسوسته وإغوائه، فصرفهم بذلك عن الطريق السوى الموصل إلى الحق. {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} بواسطة الرسل، فقد أَوضحوا لهم السبيل، فلا عذر لهم في ضلالهم عنه، ولا حجة لهم في اختيار الغي والضلال،

أو: كانوا عقلاء ذوى بصائر يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالنظر والاستدلال لوضوح الأدلة وظهور البراهين ولكنهم أعرضوا ولم يعتبروا، قال الفراءُ: كانوا عقلاء ذوى بصائر يعرفون الحق، ولكنهم أهملوه كفرا وعنادًا وجحودًا، وقال مجاهد: وكانوا مستبصرين في الضلال. 39 - {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ .. } الآية: أي: واذكر - أيها الرسول - لهؤلاء المغترين بأموالهم وسلطانهم مصرع قارون، وفرعون، وهامان. وقارون (¬1) كان من قوم موسى - عليه السلام - وقُدِّم ذكره على فرعون وهامان؛ لأن المقصود تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما لقى من قومه لحسدهم له، فقارون مع أنه كان من قوم موسى قد لقى منه موسى ما لقى، روى أنه كان يؤذيه في كل وقت ويحسده وهو يداريه لقرابته. أو قدِّم لأنه أشرف من فرعون وهامان لإيمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة، وكونه ذا قرابة من موسى - عليه السلام - أو: قدم لأن هلاكه قبل هلاكهما، فتقديمه يكون على وفق الواقع، وفرعون ملك مصر، وهامان وزيره، وكانا رأس الكفر بالله ورسوله تزعما قومهما في الكفر بموسى، وأنزلا ببنى إسرائيل أشد العذاب وأقساه. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}: أي: لما جاءهم موسى بالحجج الواضحة على نبوته، ودعاهم إلى الإذعان واتباع الحق استكبروا في الأرض عن الإيمان بالله والطاعة له، وهذا يشعر بقلة عقولهم وضعف إدراكهم لأن من في الأرض محياهم ومماتهم لا ينبغي لهم أن يستكبروا على القوى القاهر الذي يملك السموات والأرض وما فيهما كما أنهم لا يفوتون أمر الله - تعالى - بل يدركهم وينزل بهم الدمار والهلاك، فلا يفلت منهم أحد. ¬

_ (¬1) تقدم الحديث عنه في سورة القصص.

وقال أبو حيان: المعنى: وما كانوا سابقين الأُمم إلى الكفر بل قد سبقهم إلى الكفر قرون كثيرة، فأهلكناهم، أي: تلك عادة الأمم مع رسلهم - عليهم السلام -. 40 - {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أي: فكل واحد من المذكورين الذين كذبوا رسلهم، عاقبناه بما اقترف من ظلم وفساد، وكان أخذ كل منهم وفق ما أراده الله، فمنهم من أهلكناه بالريح العاصفة التي تحمل الحصباء - وهي صغار الحصى - وهم قوم لوط. وقال ابن عطية: يشبه أن يدخل عاد في ذلك، لأن ما أُهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو من الحصب بأمور مؤذية. ومنهم من أخذته الصيحة المدوية المهلكة، كمدين وثمود ومنهم من خسفنا به الأرض فغارت به، وغيبته في جوفها كقارون. ومنهم من أغرقناه في اليم كفرعون، وهامان وجنوده أجمعين {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ}: بأن يعاقبهم من غير جرم؛ فإن ذلك محال من جهته - تعالى - وليس من سنته - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: أي إنما فعل بهم ذلك جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم حيث استمروا على ما يوجب عقابهم من الكفر والمعاصي باختيارهم. {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

المفردات: {الْعَنْكَبُوتِ}: دويبة تنسج نسجًا رقيقًا واهيًا، والمراد: النوع الذي يبنى بيته في الهواء، وتطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، والغالب في استعمالها التأنيث، وجمعها: عناكب وعناكيب. {أوْهَنَ الْبُيُوتِ}: أشدها ضعفًا وعجزًا عن دفع أي أذى. التفسير 41 - {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا .. } الآية: هذا مثل ضربه الله - سبحانه - للمشركين الذين اتخذوا آلهة من دون الله يرجون نصرها ورزقها ويتمسكون في الشدائد بها مع ما هي عليه من عجز وعدم غناء، ضربه - جل وعلا - ليبين به أن شأنهم في الضعف والوهن، والاعتماد على غير معتمد كشأن العنكبوت اتخذت مما نسجته بيتا تحتمي به من البرد والحر وغيرهما، وبيتها من اوهى البيوت وأبعدها عن الصلاحية للاحتماء. فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه، بل إن آلهتهم أوهن من بيت العنكبوت إذ له حقيقة وانتفاع في الجملة، أما هي فلا. وقيل: المعنى؛ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحِّد الذي عبد الله - تعالى - كمثل عنكبوت اتخذت بيتًا بالإضافة إلى رجل بنى بيتًا من آجر وحجر أو نحته من صخر، وكما أن أضعف البيوت إذا استوعبناها بيتًا بيتًا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقرأناها دينًا دينًا عبادة الأوثان، وهو وجه حسن ذكره الزمخشرى في الآية ونقله الآلوسي. وقوله - تعالى -: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} وقع تذييلا لتقرير الغرض من التشبيه وهو أن أمر دينهم بلغ الغاية التي لا غاية بعدها في الضعف والوهن، حيث لا يرى شيء يدانى بيت العنكبوت في ذلك، ثم أكد ذلك بتجهيلهم بقوله - سبحانه -: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا يعلمون شيئًا من العلم لما اتخذوا هذه الآلهة أولياء من دون الله، ولعلموا أن هذا مثلهم، وأن أمر دينهم لا وزن له، ولا بقاء،

وقيل: لو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت لما عبدوها، وقد جهَّلهم - سبحانه - في الاتخاذ، ثم زادهم - جل وعلا - تجهيلا بأنهم لا يعلمون هذا الجهل الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل. 42 - {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي: قل لهم - أيها الرسول -: إن الله لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم أي شيء يدعونه إلها من دونه فقد بلغ من الحقارة حدًا لا غاية له، وإنهم لفي جهل بيّن حيث تركوا عبادة الله - تعالى - وعبدوا غيره مع أنه شيء لا يعبأ به. ويجوز أن يكون المعنى أن الله يعلم أنكم لستم (¬1) تدعون من دون الله شيئًا؛ لأن ما تدعوته لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئًا. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: أي الغالب الذي لا شريك له {الْحَكِيمُ} في ترك المعاجلة بالعقوبة، وهو تجهيل لهم وتقريع حيث عبدوا - من فرط الغباوة - جمادا لا علم له ولا قدرة وهو بالإضافة إلى العزيز القاهر القادر على كل شيء الحكيم البالغ في العلم، وإتقان العمل ما لا غاية وراءه - فهو بالنسبة إلى العزيز الحكيم - كالمعدوم البحت، وإن من هذا شأنه - جل وعلا - من الغلبة والحكمة قادر على مجازاتهم. 43 - {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}: هذا المثل والأمثال الكثيرة التي ذكرها القرآن في سوره يضربها - سبحانه - للناس تقريبا لِفَهم ما ضُرِبت له، وإدراك معناه، وإظهارا للمعاني المستورة وتوضيحًا، وكان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون: إن رب محمَّد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، فلهذا قال - سبحانه -: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}: أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا الراسخون في العلم المتدبرون للأشياء على ما ينبغي، روى محيي السنة في مسنده عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية {أتِلْكَ الْأَمْثَالُ} ... الآية، فقال: "العالم: من عقل عن الله - تعالى - فعمل بطاعته واجتنب سخطه". ¬

_ (¬1) على أن (ما) نافية؛ أي: ما يدعون من دونه شيئا؛ لأن الآلهة لحقارتها ليست شيئًا موجودا.

{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)} المفردات: {بِالْحَقِّ}: أي بالعدل والقِسط، أو بحكمته وقدرته المنزهة عن العبث. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}: أي علامة ودلالة. {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ}: أمر للرسول بتلاوة القرآن وبرواية قراءته وإبلاغه للناس. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} أدِّها في أوقاتها وبأركانها وشروطها. {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}: أي تنهى عن القبيح السيء الذي ينكره الشرع والعقل. التفسير 44 - {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}: أي: خلقها محقًّا بخلقها مراعيًا للحكم والمنافع المنزهة عن العبث حيث تتعلق بهما شئون عباده، ويستدل بما فيهما من آيات بينات، ودلائل واضحات على كمال قدرته - تعالى - وبديع صنعته، ويشير إلى ذلك قوله - سبحانه -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لآية دالة على أنه - تعالى - المنفرد بالخلق والتدبير والألوهية، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أن الهداية والإرشاد لجميع المخلوقين، لأنهم المنتفعون بذلك. ويصح أن يكون المراد من المؤمنين: الذين يريدون الإيمان.

45 - {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ}: أمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن والمداومة عليها تقربًا إلى الله - تعالى - بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني، وتذكيرا للناس وحملا لهم على قراءته والعمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق. {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وإقامة الصلاة: أداؤها في وقتها بأركانها وجميع شروطها، ويراد بها الصلاة المكتوبة المؤداة بالجماعة، وهي الصلوات الخمس التي تكفر ما بينها من الذنوب كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا) خرَّجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال فذلك: حديث حسن صحيح. ولما كان أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالصلاة منتظمًا لأمر الأُمة بها علّل بقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}: كأنه قيل: وصلِّ بهم لأن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، أي: أنها سبب للانتهاء عنهما، وذلك لتضمنها صنوف العبادة، والوقوف بين يدي الله في غاية الخضوع والتعظيم، كأنها تقول لمن يأتي بها: لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعصي ربّاً هو أهل لما أتيت به من مناجاة له، وإقبال عليه، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه - عَزَّ وَجَلَّ - بما تكون به كالمتناقض في أفعاله. أهـ: بتصرف من الآلوسى. ولا شك أن المصلى الصادق في مناجاته ينتهي بصلاته عن المعاصي صغيرها وكبيرها، وينعم برعاية الله ويفوز برضاه حيث خشع لها قلبه، ورغبت فيها نفسه، وظهرت على جوارحه هيبتها، حتى إذا قاربه الفتور أظلته صلاة أُخرى يترجع فيها إلى أفضل حاله. وإذا كنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك فهذا ليس ناشئًا عن الصلاة، بل عن غفلة المصلى عن حقوق الصلاة، فمن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تفكُّر ولا فضائل، فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان في طريقه معاص تبعده من الله - تعالى - تركته يتمادى في بعده، بمعنى أنها لا تقربه

إلى الله، حيث لم تنهه عنها، وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس وهو: "في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله - تعالى - فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلاَّ بعدا". وقيل لابن مسعود: إن فلانا كثير الصلاة. فقال: (إنها لا تنفع إلاَّ من أطاعها، وطاعة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وكأنه أراد بالصلاة التي تطاع وتنهى عن ذلك الصلاة الخاشعة المقبولة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله - تعالى -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له" بمعنى: أنها لم تؤت ثمرتها، كما في الصلاة التي تؤدي مع الغفلة التامة، والإخلال بما يليق بها، وهذه الصلاة تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله كما ضيعتنى، كما جاء في السنة. وبالجملة، فإن الصلاة تنهى من واظب عليها، وأقبل بقلبه فيها على ربه، فإنها تنتهى بصاحبها إلى صلاح الحال وحسن المآل، ويشير إلى هذا ما أخرج أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن فلانا يصلى بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: "سينهاه ما تقول". {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر}: أي والصلاة أكبر من سائر الطاعات في أثرها وثمرتها؛ لأن ما فيها من ذكر الله هو العمدة في الأمر بالحسنات والنهي عن السيئات، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} بمعنى: امشوا إلى الخطبة والصلاة. وقيل: ولذكر الْعبْدِ الله - تعالى - أكبر من سائر أعماله، فهو تعميم بعد تخصيص. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال: ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها

إلى مليككم، وأسماها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم؟ قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكره - تعالى - وروى عن جماعة من السلف ما يقتضيه، أخرجه أحمد في الزهد، وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل ابن آدم عملًا أنجى له من عذاب الله - تعالى - من ذكره - تعالى - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع؛ لأن الله - تعالى - يقول -: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}، وقال أبو حيان: {يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من الخير والشر، فيجازيكم بحسبه، ففيه وعد ووعيد، وحث على مراقبة الله - جل وعلا -.

{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} المفردات: {وَلَا تُجَادِلُوا}: الجدال؛ التجاوز في الخصومة. {أَهْلَ الْكِتَابِ}: اليهود والنصارى. التفسير 46 - {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } الآية. هذه الآية انتقال إلى مقعد جديد من المقاصد التي تضمنتها سورة العنكبوت: وهو أسلوب مجادلة أهل الكتاب. والمعنى: لا تجادلوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا تناقشوهم في شأنٍ من شئون الدين، والدعوة إلى الإيمان إلا بالخصلة التي هي أحسن، كمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والشغب بالنصح، والسَّوْرة - أي: الحِدّة - بالأناة، على وجه لا يدل على الضعف، ولا يؤدى إلى إعطاء الدّنيّة، قال - تعالى - في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). وقال - تعالى - في سورة طه لموسى وهارون - عليهما السلام - حين أمرهما بالتوجه إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2). ¬

_ (¬1) من الآية: 125. (¬2) الآية: 44.

وقوله - تعالى -: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}: معناه؛ إلا الذين أفرطوا في ظلمكم، وجاوزوا الحدود في عنادكم، والاعتداء عليكم، ولم ينفع معهم الرفق، فليس عليكم حرج في استعمال الغلظة معهم، بحيث لا تصل إلى القتال؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الإذن بقتال المشركين. وقيل: إن معنى الآية: ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلاَّ الذين ظلموا فنبذوا الذمة، ومنعوا الجزية، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف، وهذا الرأي قائم على أن الآية مدنية، فإن الحرب والجزية مما شرع بالمدينة، وكونها مدنية مخالف لما وقع عليه الإجماع من أن السورة مكية، إلا أن يقال: إنها مكية باعتبار معظمها. وقوله - تعالى -: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}: توجيه إلى أسلوب من أساليب المجادلة بالحسنى، والمعنى: جادلوهم بالتي هي أحسن وقولوا لهم: آمنا بالذي أُنزل علينا من القرآن، وبالذي أُنزل عليكم من التوراة والإنجيل، ولا تصدقوهم فيما يروونه من دينهم فقد يكونون كاذبين، ولا تكذبوهم فقد يكونون صادقين. أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون الكتاب بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال - صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم". وقوله - تعالى -: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: تتميم لقوله - تعالى -: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ومعناه: إلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في ألوهيته، ونحن له وحده خاصة مطيعون، لا نطيع غيره، ولا ندين لسواه. وفي هذا تعريض بهم لاتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} المفردات: {الْكِتَابَ}: القرآن الكريم. {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ}: أي اليهود والنصارى الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل. {يُؤْمِنُونَ بِهِ}: يؤمنون بالقرآن. {وَمِنْ هَؤُلَاءِ}: أي من العرب، أو من أهل مكة، أو ممن في عهد الرسول من أهل الكتاب. {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}: بالقرآن. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا}: وما ينكرها عن علم، والجحود: نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه. {الْكَافِرُونَ}: المتوغلون في الكفر المصممون عليه. التفسير 47 - {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ... } الآية. عرضت الآية السابقة لما أنزله الله من الكتب في قوله - تعالى -: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} فكانت بمثابة الترشيح للحديث عن إنزال القرآن

وموقف المعاصرين من العرب وأهل الكتاب منه في هذه الآية التي تجرد فيها الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: مثل إنزالنا الكتب السابقة على من سبقك من الأنبياء أنزلنا إليك القرآن الكريم صادقا مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية مقررا لرسالات أنبيائها الذين أُمرنا بالإيمان بما أنزل إليهم في قوله - تعالى -: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} من الآية السابقة. وقوله - تعالى -: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}: معناه؛ فالذين آتيناهم الكتاب من الطائفتين: اليهود والنصارى الذين تقدموا عهد الرسول حيث كانوا مصدقين بنزول القرآن حسبما علموا مما عندهم من الكتاب، أو هم: عبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صدقوا بنزوله بعد أن سمعوه وعرفوا خبره من كتبهم، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب؛ لأنهم هم المنتفعون به، فكأن من عداهم لم يؤتوه. {وَمِنْ هَؤُلَاءِ}: أي: من العرب، أو من أهل مكة من يؤمن بالقرآن العظيم. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}: أي؛ وما ينكر آياتنا عن علم مع ظهورها وقيام الحجة لها، وزوال الشبهة عنها "إلاَّ الكافرون" المتوغلون في الكفر المصممون عليه، فإن ذلك يصدهم عن معرفة حقيقتها، ومن هؤلاء كعب بن الأشرف وأصحابه. {وَمَا كُنْتَ تَتْلُومِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}.

المفردات: {تَتْلُوا}: تقرأ. {تَخُطُّهُ}: تكتبه. {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}: إذًا لتشكك المعاندون الكافرون الذين مردوا على إنكار كل حق. التفسير 48 - {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}: الحديث متصل عن القرآن الكريم، وإثبات إعجازه بعد الإخبار بنزوله. والمعنى: وما كنت يا أيها النبي الأمي قبل إنزال القرآن إليك تقدر أن تقرأ شيئًا من كتاب، أي كتاب، ولا تقدر أن تكتبه، أو تكتب شيئًا منه، ولو كنت ممن يقدر على شيء من ذلك أو يتعاطاه إذا لكان لهؤلاء المبطلين المنكرين وجه في الارتياب والشك في أنه من عندك مع معرفتهم مدى صدقك ونزاهتك عن الكذب، وإن ظهور هذا الكتاب الجامع لجميع العلوم الشريفة على أُمِّيٍّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة أمر خارق لا يدع مجالا لشك ولا موقعا لريبة لو كانوا منصفين. وذِكْر اليمين في قوله - تعالى -: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} زيادة تصوير لما نفى عنه - صلى الله عليه وسلم - من القراءة والكتابة، وتأكيد لهذه الحقيقة حتى لا يبقى مدخل لمجاز، فهو مثل قوله - تعالى -: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (¬1) مع ما هو معروفٌ من أنه لا طير إلا بجناحين. 49 - {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ .... } الآية. هذه الآية إضراب عن ارتياب المبطلين لكفرهم، والمعنى: ليس القرآن الكريم مما يُرْتَابُ فيه لوضوح أمره، وثبوت إعجازه، وعجزكم عن الإتيان بمثله أو بشىء ¬

_ (¬1) من الآية: 38 من سورة الأنعام.

منه، بل هو آيات ثابتة راسخة في صدور العلماء الذين يحفظونه من الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يلتقطوه من كتب يعرفونها، أو يرووه عن أحد غيرهم، بل حفظوه وعرفوه بحيث لا يقدر أحد على تحريفه، بخلاف كتب أهل الكتاب فإنها لم تكن ذات سند متصل إلى أنبيائها، وقد جاء في وصف أهل القرآن: "صدورهم أناجيلهم". {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} أي: وما يكفر بآياتنا وينكرها مع ظهورها إلاَّ المتوغلون في الظلم والمكابرة المجاوزون للحدود في الشر والفساد، والظالمون في هذه الآية: هم الكافرون في الآية السابقة، واختلاف التعبير لاستيعاب صفاتهم التي تقتضى تسفيه آرائهم، وتؤكد حمقهم وعنادهم. {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} المفردات: {الْكِتَابَ}: القرآن. {ذِكْرَى}: عظة وتذكرة. التفسير 50 - {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: هذه الآية شروع في عرض لون من ألوان عنادهم وعنتهم.

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)} المفردات: {وَمِنْ آيَاتِهِ}: أي ومن دلائل قدرته. {مُبَشِّرَاتٍ}: بالمطر لأنها تتقدمه. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}: وهي نزول المطر وحصول الخصب. {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ}: أي ولتسير السفن في البحر عند هبوبها بأمره. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي ولتشكروا نعم الله عليكم. التفسير 46 - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي: ومن آيات الله الدالة على عظيم ما تفضل به على خلقه: إرسال الرياح لتبشركم بالمطر لأنها تسبقه وتدل عليه، وليذيقكم من فيض رحمته التي تتمثل في المطر وحصول الخصب وسائر منافع الرياح، ولتكون سببًا في إجراء السفن في البحر عند هبوبها بأمره - سبحانه - وتقديره، وقد ذكر في التنزيل جريان الفلك {بِأَمْرِهِ} - تعالى - لأن الريح قد تهب ولا تكون مواتية لجريانها، فلابد من انضمام أمره - تعالى - للريح حتى تأتي بالمطلوب، وإلا تعين إرساء السفن، والاحتيال في حبسها. فبتسيير السفن في البحر بأمره - سبحانه - يحصل لكم ما تبتغونه من فضله بنقل التجارة فيه، والانتفاع بخيراته. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: أي ولتشكروا نعمة الله عليكم فيما ذكر من هذه النعم الجليلة.

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المفردات: {شَهِيدًا}: حاضرا بعلمه. {آمَنُوا بِالْبَاطِلِ}: أمنوا بألوهية غير الله - عز وجل - وهو شامل لنحو عيسى والملائكة. {الْخَاسِرُونَ}: المغبونون في صفقتهم. التفسير 52 - {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}): المعنى: قل - يا رسول الله - للمكذبين لك، المنكرين عليك: كفى باللهِ شهيدا وعالمًا بما صدر مني من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار، فيجازى - سبحانه - كلا بما يليق به. والله يعلم ما في السموات والأرض من جميع الأُمور التي من جملتها شأني وشأنكم، لا يخفى عليه من ذلك شيء. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ}: أي؛ صدقوا بألوهية ما يعبدونه من دون الله، سواء في ذلك الأصنام وعيسى والملائكة {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} مع تعاضد موجبات الإيمان به. {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: المغبونون في صفقتهم؛ لأنهم اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب يوم الحساب.

والمعنى: وقال مشركو قريش - بتوجيه من أهل الكتاب -: هلا أنزل على محمَّد آيات مادية من ربه مثل: ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، نراها ونحسها، قل لهم يا رسول الله ردًّا لمقالهم: إنما الآيات عند الله وحده، هو الذي يملك إنزالها. ويختار ما شاء منها ينزلها حسبما يشاء على من يشاء من غير دخل لأحد، أو اقتراح من أحد، ولا أملك أن أتخير على الله، وإنما أنا نذير مبين أي: ليس شأني إلا الإنذار والتخويف بما ينتهي إليَّ إنزاله من الآيات. 51 - {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}): هذه الآية كلام وارد للرد على المشركين، وإبطال اقتراحهم، وتسفيه رأيهم، روى عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بقوم حمقا وضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم، إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم) فنزلت. والمعنى: أقصَّر هذا الكتاب ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك القرآن تستمر على تلاوته بينهم، وقراءته فيهم في كل زمان ومكان، فلا يزال معهم آية ثابتة خالدة لا تزول كما تزول كل الآيات غيره بعد زمانها، كما أنها تكون في مكان دون مكان؟. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إن في ذلك القرآن الكريم الذي تعم آيته الزمان والمكان إلى آخر الدهر لنعمة عظيمة لا يقدر قدرها، وتذكرة بالغة لقوم يطلبون الإيمان، ويحرصون على تحصيله. وقيل: أولم يكف اليهود حجة عليهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك؟

{وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} فقيل، إنه راجع إلى العذاب الذي استعجلوه، وقيل: راجع إلى أجل العذاب والأول أظهر؛ لأن العذاب هو موضع استعجالهم، وإذا كان المراد به عذاب بدر فالمراد من إتيانه بغتة وهم لا يشعرون: أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم، بل يأتيهم وهم قارون آمنون لا يخطرونه بالبال، كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتًا وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون. وقال آخرون: إتيانه بغتة وهم لا يشعرون من حيث إنه غير متوقع لهم أن يغلبوا يوم بدر؛ لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال. 54 - {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ... } الآية: تكرار استعجالهم العذاب لبيان غاية تجهيلهم وسفه عقولهم. والمعنى: ويستعجلونك بالعذاب إمعانًا في الجهل، وإغراقًا في العناد وركاكة في التفكير {وإن جهنم} التي هي مكان العذاب الذي لا عذاب فوقه {المحيطة} بهم لكفرهم ومعاصيهم المحيطة بهم. والتعبير بالجملة الاسمية في قوله - تعالى -: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} للدلالة على تحقيق الإحاطة. والمراد بالكافرين: إما المستعجلون للعذاب، ووضع الظاهر موضع المضمر للإشعار بعلَّة الحكم، وإما جنس الكافرين، والمستعجلون داخلون فيهم دخولا أوليًّا. 55 - {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الآية. يحتمل أن {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} ظرف لمحيطة، أي: محيطة بالكافرين في هذا اليوم. ويحتمل أن يكون الظرف معمولا لمحذوف طوى ذكره للإيذان بغاية كثرته، وفظاعته. والمعنى: يوم يعمهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ومن جميع جهاتهم بحيث يجدون من الهوان والأهوال ما لا يفي به مقال.

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} المفردات: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}: يطلبون تعجيل العذاب الذي توعدتهم به. {أَجَلٌ مُسَمًّى}: هو الأجل الذي ضربه الله لوقوع العذاب. {بَغْتَةً}: فجأة بدون توقع ولا انتظار. {لَا يَشْعُرُونَ}: لا يتوقعون نزوله بهم. {يَغْشَاهُمُ}: يحيط بهم ويعمهم. التفسير 53 - {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى ... } الآية. أي: ويستعجلك كفار قريش بوقوع العذاب الذي توعدتهم بوقوعه عليهم، ويستعجلونك استهزاءً وسخرية، واستبعادا لوقوعه بمثل قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} (¬1). {وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى}: ضربه الله لوقوعه، وحدَّده وأثبته في اللوح المحفوظ، وهو وقعة بدر الكبرى، أو الموت. {لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}: لأنهم به جديرون، فالله لا يعجل بالعذاب باستعجالهم وإنما يؤخره لحكمة تقتضيه، وهي إتاحة الفرصة للتائبين منهم. ¬

_ (¬1) من الآية: 32 من سورة الأنفال.

وأحسن خشوعًا، والبقاع تتفاوت تفاوتًا كثيرا، ويتفاوت أهلها خشونة ولينًا وانحرافًا ودينًا، فلا تتشبثوا بأرض لا تجدون فيها أمنكم، ولا وفرة في دينكم. ومعنى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُون}): وإن لم تخلصوا عبادتي في أرض فإياي فاعبدوني في أرض غيرها، فإن السعادة ليست في المكان، وإنما السعادة كل السعادة في إخلاص الإيمان. 57 - {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُون}: هذه الآية استئناف لتسهيل أمر الهجرة على المستضعفين، وحثهم على إخلاص العبادة. والمعنى: كل نفس من النفوس مفارقة لا محالة، ذائقة مرارة الموت البتَّة، راجعة إلى ربها، ملاقية جزاء أعمالها، ومن كانت هذه عاقبتهُ فليجعل كل همه في الاستعداد لنهايته، والتزود لآخرته، عسى أن يكون من الناجين في دار النعيم. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)} المفردات: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}: لنسكننهم وننزلنهم على وجه الإقامة. {غُرَفًا}: جمع غرفةٍ والمراد بها: علالي وقصور جميلة. التفسير 58 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} الآية. ذكرت الآية السابقة أن الموت سيجرى على كل نفس في الدنيا، ثم جاءت هذه الآية بعدها تنبه إلى تحقيق الإيمان لإخلاص العبادة، وتحث على الاستزادة والإكثار من عمل الصالحات.

{وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ويقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - أو يقول بعض ملائكته بأمره - سبحانه -: اشربوا وتجرعوا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من السيئات في يوم الحساب، وما كنتم تتعجلونه وتنكرونه من أهوال العذاب. {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)} المفردات: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}: فلا تعبدوا سواي. {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: مُحِسَّةٌ بنزوله. التفسير. 56 - {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ... } الآية. روى عن مقاتل والكلبي أن الآية نزلت في المستضعفين من المؤمنين بمكة، أُمروا بالهجرة عنها، وعلى هذا أكثر المفسرين. وعمم بعضهم الحكم في كل من لم يتمكن من إقامة أُمور الدين في أرضه كما ينبغي لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم، فقالوا: تلزمهم الهجرة إلى أرض يتمكنون فيها من ذلك. وقال مطرف بن الشخير: إن الآية عِدَة منه - تعالى - بسعة الرزق في جميع الأرض. والنداءُ في قوله - تعالى -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}: خطاب تشريف لبعض المؤمنين وتكريم للمستضعفين. والمعنى: يا عبادي الذين أخلصوا الإيمان بي إذا لم تتيسر لكم العبادة كما ينبغي في بلد أنتم فيه فهاجروا إلى بلد تتوقعون أنكم فيه اسم قلبًا، وأصح دينًا، وأكثر عبادة

والمعنى: وكم من دابة من الدواب التي تمشي على الأرض لا تطيق حمل رزقها، أو لا تدخره، الله وحده يرزقها ويرزقكم، وإنها مع ضعفها وتوكلها، وأنتم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله؛ لأن رزق الكل بأسباب هو المسبب لها وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة، والله هو العظيم السمع فيسمع قولكم، والمحيط العلم فيعلم نياتكم وضمائركم. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلاَّ الإنسان والنملة والفأرة. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: المفردات: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر}: ذللهُمَا وسيرهما في مساراتهما. {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: فكيف يصرفون عن توحيد الله. التفسير 61 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: عيّر المشركون المسلمين بالفقر، وقالوا: لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء، وكان هذا منهم مغالطة وتمويهًا؛ إذ كان في المشركين فقراء أيضًا، فجاءت هذه الآية تزيل هذه الشبهة، وتسجل عليهم الاعتراف بقدرة الله على كل شيء، ومن جملة ذلك الغنى والفقر. والمعنى: وبالله لئن سألت - يا محمَّد - هؤلاء المشركين الجاحدين أنعمى: من خلق السموات والأرض، وأخرجهما من العدم إلى الوجود على أدق نظام وأبدع إحكام، وذلَّلَ الشمس والقمر وسيرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا يختلف تعاقبهما، فيجد الناس

والمعنى: والذين صدقوا بالله وأخلصوا في عبادته، وصدقوا برسوله، وأكثروا من عمل الصالحات، وتحصيل الطاعات، لنسكننهم وننزلنهم من الجنة على وجه الإقامة والخلود منازل عالية، وقصورا شامخة، تجري من تحت أشجارها الأنهار لتزيد في بهجتها وجمالها، فيجتمع لهم طيب المنزل، وجمال المنظر، ودوام النعيم. {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: أي، نعم أجر العاملين غرف الجنة منزلا ودارًا، أو: نعم أجر العاملين أجرهم. 59 - {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: صفة للعاملين، أي: فنعم أجر العاملين الذين صبروا على مفارقة الأوطان، والهجرة لأجل الدين، وعلى إيذاء المشركين، وعلى جميع ما فتنوا به من الشدائد، كما صبروا على فعل الطاعات ومجافاة المعاصي. ولم يتوكلوا في جميع ما يفعلون ويذرون إلاَّ على الله وحده ابتغاء مرضاته، وطمعًا في حسن جزائه. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)} المفردات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ}: أي؛ وكثير من الدواب، والدابة: كل نفس تدب على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا}): أي، لا تطيق حمل رزقها لضعفها، أو: لا تخزن رزقها، وليس من شأنها أن تخزنه. التفسير 60 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر المؤمنين بالهجرة إلى المدينة قالوا: كيف تقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت.

لا يصلح إيمانه إلاَّ الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك" ويجوز أن يكون البسط والتقدير لواحد على معنى: يبسط الرزق لمن يشاء ويقدره له على التعاقب. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: فيعلم أن كلا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة، فيفعل كلا منهما في وقته. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} المفردات: {أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ}: أخصبها وجعلها ذات زرع. {مَوْتِهَا}: جَدْبهَا. التفسير 63 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}: تكرار السؤال لهم؛ لاستخلاص مزيد من اعترافهم بقدرته - تعالى - تسجيلا عليهم، وإلزاما لهم لإبراز سفههم، وإشهار عنادهم في كفرهم. والمعنى؛ وبالله لئن سألت هؤلاء المشركين من نزل من السماء مطرًا فأنبت به الأرض وأحياها بذلك بعد موتها وجدبها، وقحط أهلها - لئن سألتهم - ليقولُنَّ جوابًا على ذلك: الله وحده هو الذي فعل ذلك وقدَّره وأنعم به مصلحة لعباده، قل: الحمد لله على إظهار

في ذلك فرصة السعى على معاشهم وأرزاقهم، ومنحة راحتهم وطمأنينة سكونهم، لئن سألتهم من فعل ذلك؟ ليقولن في جواب سؤالك لهم: الله وحده هو الذي فعل ذلك، ولا يجدون سبيلا إلى إنكاره أو التردد فيه، فكيف يصرفون بعد هذا الإقرار عن عبادتهم له، وينقلبون إلى عبادة الأوثان؟ والاستفهام هنا إنكار واستبعاد من جهته - تعالى - لتركهم العمل بموجب جوابهم عن الله - تعالى -. {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} المفردات: {اللَّهُ يَبْسُطُ}: يوسعه ويزيده. {وَيَقْدِرُ}): يضيقه ويقلله. التفسير 62 - {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: هذه الآية تبين أثرا من آثار قدرته الباهرة التي تجلت في الآية السابقة في خلق السموات والأرض، فإن القادر على خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر لا يعجزه إجراءُ الرزق على مخلوقاته. والمعنى: الله القادر على ما ذكر هو الذي يبسط الرزق ويوسعه على من يشاء من عباده الذين يعلم من شأنهم أن البسط يصلحهم، وهو الذي يقدر الرزق ويضيقه على من يشاء من عباده الذين يعلم أن البسط يبطرهم، ويفسد أحوالهم، وحول هذا المعنى قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل -: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من

{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)} المفردات: {رَكِبُوا}: الركوب، الاستعلاء على الشيء. {الْفُلْكِ}: السفينة، يطلق على المفرد والجمع. التفسير 65 - {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}: تتصل هذه الآية بما قبلها من حيث إنها إقرار من المشركين بألوهية الله - عز وجل - واعتراف منهم بأنه - سبحانه - هو وحده القادر على رفع الضر، ودفع البلاء. والمعنى: فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة، ومخرت بهم في عرض البحر، ثم تعرضوا لخطر الغرق، وأيقنوا بالهلاك دعوا الله مخلصين له الدين مقرين بوحدانيته، معترفين بقدرته، فلما تجلى الله عليهم فنجاهم من الغرق إلى البر، وأنقذهم من الهلاك فاجئوا بالعودة إلى الشرك وعبادة الأصنام مجافين بذلك أوفى قواعد الإنصاف، فإن النفوس البشرية مفطورة على شكر من أجرى عليها رزقًا، أو استنقذها من مكروه، ولعمري إن الإيمان بالله أول موجبات الشكر، وأول مقتضيات الاعتراف بالفضل. 66 - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: تعليل لرجوعهم إلى الشرك، أي: إذا هم يشركون ليكونوا كافرين بما أجرينا عليهم من نعمة، وحققنا لهم من نجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام، وتوادهم عليها.

البرهان واعترافهم بما يلزمهم الحجة، أو قل: الحمد لله على العصمة مما هم عليه من الضلال فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى. ويجوز أن يكون حمدًا على هذا وذاك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أي: بل أكثرهم لا يتدبرون بما فيهم من عقول فيما نريهم من الآيات ونقيم لهم من الدلالات، أو: بل أكثرهم ليسوا من أهل التعقل والتدبر. {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} المفردات: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ}: لهي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها، والحيوان: مصدر حَييَ، كالحياة، وأصله: الحَيَيَانُ، قلبت الياء الثانية واوًا، وفي بناء المصدر على فَعَلان زيادة معنى لما يفيده من الحركة والاضطراب؛ لأن الحياة حركة، والموت سكون. التفسير 64 - {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: الإشارة في قوله - تعالى -: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} للتحقير. والمعنى: وما هذه الحياة الدنيا الفانية التي يتشبث بها المشركون إلاَّ لهو يلهو به الكبار في غفلة وعَمَهٍ، ولعب يلعب به الصغار في عبث وبهجة، ثم لا تلبث أن تزول: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}: لهي الحياة الدائمة الخالدة التي لا فناء لها ولا موت فيها، ولا يكدر صفوها ولا ينقطع نعيمها {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}): أي لو كانوا أهلا للعلم والمعرفة، أو: لو كانوا يعلمون ذلك ويفقهونه لما آثروا عليها الدنيا الفانية.

والمعنى: أجَهلَ أهل مكة وغفلوا ولم يعلموا بالمشاهدة أنّا جعلنا مكة بلدهم حرمًا ممنوعًا مصونًا يقرون فيه، ويأمنون على أنفسهم من القتل، وعلى أموالهم من النهب، والناس حولهم من العرب يُتخطفون قتلًا وسبيًا، ويُخلتسون سلبًا ونهبًا، إذ كان العرب من كل مكان، وفي كل موقع - غير مكة - في تقاتل وتغالب، وتغاور وتناهب، أفيتفق منهم مع هذه النعم التي يعيشون فيها أن يؤمنوا بالأصنام فيعبدوها من دون الله، أو بالشيطان فيستجيبوا لوسوسته وإغرائه، وبنعمة الله التي يعيشون، يها وينعمون بها، المتمثلة في تسخير الأكوان، وإجراء الأرزاق، ودفع المكاره والأخطار - أفبهذا كله - هم يكفرون ويجحدون، وهي المستوجبة للشكر وصدق الإيمان. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} المفردات: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: اختلق على الله كذبًا حيث ادعى له شريكا. {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ}: أو كذب بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به. {مَثْوًى}: دار إقامة دائمة ومستقر. التفسير 68 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}: ينتهى بهذه الآية الحديث عن المشركين في هذه السورة، وهي تسجل عليهم مجاوزتهم الحد في ادعائهم الشريك الله، وتنعى عديهم تكذيبهم الرسول، كما تتوعدهم سوء العاقبة بالخلود في جهنم. والمعنى: وأي إنسان أشد ظلمًا لنفسه ممن اختلق على الله كذبًا، فادعى له شريكًا مع وضوح الدلالة على وحدانيته - وتوافر الشواهد على ألوهيته، وجاوز الحدود في الظلم بتكذيب

وذهب بعض المفسرين إلى أن اللام في قوله - تعالى -: (ليكفروا)، (وليتمتعوا) هي لام الأمر، وأن الأسلوب مسوقٌ مساق تهديدهم ووعيدهم، فهو على حد قوله - تعالى -: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (¬1)، ومعنى قوله - تعالى -: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وتمتعهم حين يرون العذاب يوم القيامة، يوم لا يغنى عنهم شركهم من الله شيئًا ولا هم ينصرون. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} المفردات: {حَرَمًا آمِنًا}: مكانًا مقدسًا يأمنون فيه، وهو مكة. {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ}: الخطف والتخطف: الأخذ بسرعة، والمراد به: القتل والسلب. {أَفَبِالْبَاطِلِ}: الأصنام أو الشيطان. التفسير 67 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}: تذكر هذه الآية أهل مكة بفضل الله عليهم في جعل بلدهم مكة حرمًا آمنًا، وتنْعي عليهم إيمانهم بالأصنام، وكفرهم بنعمة الله. ¬

_ (¬1) من الآية 40 من سورة فصلت.

سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الروم مكية وآياتها ستون مقاصد السورة: اشتملت سورة الروم على الوعد بانتصار الروم على الفرس خلال بضع سنين من هزيمة الفرس إياهم - وقد تحقق وعد الله فإنه لا يخلف الميعاد - وبينت أن عاقبة المسيئين الهلاك والدمار، وأن الآخرة آتية لا شك فيها، وأن المؤمنين سوف يكونون فيها في روضة يُحبرون وأن المشركين لا يحميهم شركاؤهم من عذابها الأليم. وتحدثت عن بعض آياته - تعالى - كخلق الناس من تراب، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليسكنوا إليها، وخلق السموات والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، مع أنهم ينتمون إلى أصل واحد، ومنامهم بالليل والنهار وابتغائهم من فضله، ثم دعت الناس إلى التدين بهذا الدين الحق الذي يتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، ونهتهم عن أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وعابت على الناس إشراكهم بربهم إذا مستهم رحمة، مع أنهم يلجأون إليه - تعالى - إذا مسهم - الضر. ودعت إلى إيتاء ذي الفربى حقه والمسكين وابن السبيل، ونهت عن الربا وبينت أنه لا يربو عند الله، وإنما تربو عنده الزكاة. ثم ذكرت أن ظهور الفساد في البر والبحر إنما يكون بما كسبت أيدي الناس، وأعادت الدعوة إلى الدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ثم بينت أن الله هو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، فيستبشرون بعد قنوطهم ويأسهم، وأنه بهذا المطر يحيي الأرض بعد موتها، ومن يفعل ذلك فهو قادر على إحياء الموتى،، ثم شبهت المشركين في عدم سماعهم دعوة الرسول بالموتى وبالصُّم إذا تولوا مدبرين، ثم بينت أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن المجرمين سوف يقسمون أنهم ما لبثوا في

الرسول وإنكار ما جاء به بعد عجزهم عن محاكاته أو معارضته، وقوله - تعالى -: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}: تأكيد لاستحقاقهم الإقامة في جهنم، والخلود في عذابها، أي: لقد استوجبوا الثَّوَاء في جهنم خالدين في عذابها بمجاوزتهم الحد في الكذب على الله، وتكذيب رسول الحق والصدق، فهي فسيحة الأرجاء، ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترأوا هذه الجرأة؟ وقد نزلوا منزلة العالمين بذلك لغاية وضوحه. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} المفردات: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}: غالبوا أنفسهم وشيطانهم وأعداءهم لأجلنا. {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}: لَنُيَسَّرَنَّ لهم طرق الوصول إلينا. التفسير 69 - {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}: هذه الآية تختم سورة العنكبوت فتربط آخرها بأولها، فقد ذكرت الآيات في أولها أن المؤمنين لا يستحقون جميل الجزاء لمجرد قولهم: آمنا، دون أن يتعرضوا للفتن، ويمتحنوا بالشدائد والمحن، فيجاهدوا في الله أنفسهم، ويبذلوا منها ومن أموالهم وأهليهم، ثم تجيء هذه الآية في ختامها تطمئن المؤمنين على فضل جهادهم، وثواب بلائهم في نصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ليتجلى في كتاب الله العزيز الإعجازُ المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والمعنى: والذين غالبوا وجالدوا من أجلنا، وفي سبيل نشر ديننا، وتصديق رسولنا محسنين في كل ما يفعلون ويتركون، لنهدينهم السبل الموصلة إلى مرضاتنا، ولنسهلن لهم طرق الوصول الي جنتنا، وإن الله لمع المحسنين بالنصر والعزة في الدنيا، وبالنعيم المقيم في الجنة.

التفسير 1 - 5 {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: كان العالم يسيطر على معظمه أُمَّتَانِ كبيرتان - الفرس والروم - وكانت الحرب تدرر بينهما من وقت لآخر في سبيل السيطرة على الأمم الضعيفة، واستنزاف خيراتها، واستعباد أهلها. وبعد أن شرف الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة غزت الفرس الروم في أدنى أرضهم إلى العرب - وهي بصرى وأَذرعات - وقال ابن عباس والسدي: الأردن وفلسطين. وقيل غير ذلك، ولا تنافي بين هذه الأقوال، فقد غزوهم في جميع مستعمراتهم، في آسيا حتى ألجأوهم إلى القسطنطينية، وحاصروهم فيها مدة طويلة. ولما بلغ الخبر أهل مكة المشركين، فرحوا وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس وثنيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم، فنزلت الآية، فقال لهم أبو بكر: لا يَقِرَّن الله عينكم،، فوالله لتظهرن الروم على فارس في بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: اجعل بيننا أجلًا أُنَاحِبُكَ - أي: أُراهنك - عليه، فناحبه على عشر قلائص (¬1) من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما جرى بينه وبين أبي بن خلف، فقال - صلى الله عليه وسلم - البضع "ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر (¬2) ومادَّه في الأجل (¬3) فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أُبَيًّ بن خلف من جرح جرحه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه من أُحُد، وظهر الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي بن خلف، وجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تصدق به". ¬

_ (¬1) جمع قلوص، وهي: الناقة الشابة. (¬2) قيمة الرهان. (¬3) طاوله في موعد الرهان.

دنياهم غير ساعة، فلا ينفعهم هذا الاعتذار، فقد لبثوا في كتاب الله إلى يوم البعث، ثم ختمت بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}. بسم الله الرحمن الرحيم {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} المفردات: {الم}: تقدم الكلام على مثلها أول سورة البقرة والسور التي بعدها، فارجع إليه إن شئت. {الرُّومُ}: قوم من الفِرِنج يستوطنون الجنوب الشرقي من أوربا، ويقول المؤرخون: أنهم عرفوا باسم جدٍّ لهم، اسمه: روم، أو: رومي، من ذرية يافث بن نوح - عليه السلام. {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}: في قرب أرضهم من العرب، أو من الفرس. {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ}: من بعد كونهم مغلوبين. {فِي بِضْعِ سِنِينَ}: البِضْعُ، من الثلاث إلى التسع. {وَهُوَ الْعَزِيزُ}: وهو الغالب.

ومن العلماء من فسر نصر الله الذي يفرح به المؤمنون بغير ما تقدم، فقد فسره بعضهم بصدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، ومنهم من فسره بتولية بعض الظالمين بعضًا وتفريق كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا، وأضعف كل منهم شوكة الآخر، تمهيدا لغلبة الإسلام، وهذه آراء جيدة، وإن كان الرأي الذي ذكرناه في المعنى هو المناسب لقوله - تعالى - {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} ولهذا رجحه المفسرون. 6 - {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: هذه الآية مؤكدة للوعد السابق بنصر الروم في بضع سنين وفرح المؤمنين بهذا النصر. والمعنى: وعد الله بنصر الروم على الفرس وعدًا لا خلف فيه، فإن الله لا يخلف وعده، لاستحالة الكذب عليه - تعالى - ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه - سبحانه - وعدهم بذلك لعدم تصديقهم القرآن فيما أخبر به عن الله - تعالى - أو لا يعلمون قدرة الله على تحقيقه لفساد رأيهم. 7 - {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}: هذه الآية مؤكدة لما جاء في الآية السابقة من أن أكثرهم جاهلون لا علم عندهم. والمعنى: أن معرفتهم بالحياة الدنيا لا تتجاوز ظاهرها، حيث يعلمون منافعها ومضارها العاجلة، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يجمعون وكيف يبنون، وكيف يندمون عاجلًا بزخارفها، ويلتذون بملاذها، ويتمتعون بمشتهياتها، فهم لا يشعرون أنها مزرعة الآخرة، ووسيلة إلى نيل الرغائب الجليلة فيها، فهم: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}.

وفي نصرهم على فارس أخبار طويلة لا مجال هنا لذكرها ومناقشتها وتحقيق الحق فيها، وحسب القارئ ما ذكرنا، ومن شاء المزيد فليرجع إلى المطولات. واستدلت الحنفية بما حدث بين أبي بكر وأبي بن خلف على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. والآية ما دلائل النبوة؛ فإن الهزيمة التي ألحقتها فارس بالروم ألجأتهم إلى عقر دارهم، وأفقدتهم جميع الأقاليم التي كانت لهم في آسيا، وجعلتهم من الضعف بحيث لا يظن أحد أن تقوم لهم قائمة بعد هذه الهزيمة النكراء، فإذا نزل القرآن مبشرا بنصرهم ومحددا موعد هذا النصر بأنه في بضع سنين، وتحقق هذا النصر في موعده، فإنه دليل على أنه من عند الله، وليس من عند محمَّد كما زعم أعداءُ الإسلام، فإنه لا يقدم على مثل هذا الوعد الخطير إلاَّ من هو مؤيد من العليم الخبير. والمعنى الإجمالي لهذه الآيات: الم. غلبت فارس الروم في أقرب أرض الروم إلى بلاد العرب، أو إلى بلاد الفرس، أو إلى بلاد الروم الأصلية، حيث وصلت هزيمتهم إلى مشارف القسطنطينية وحوصروا فيها مدة طويلة، والروم من بعد ما غلبهم الفرس سيغلبون الفرس خلال بضع سنين، لله الأمر من قبل كونهم مغلوبين للفرس، حيث سلط الفرس عليهم فهزموهم وغلبوهم، ولله الأمر من بعد ما غلبهم الفرس، حيث أمدهم بأسباب نصره، فأصبحوا ظاهرين على الفرس فغلبوهم واستردوا الأرض منهم، فالنصر والهزيمة لكلتيهما بأمر الله وحكمته حسب قانونه الذي أجراه بين عباده: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ويومئذ تغلب الرومُ فارسَ يفرح المؤمنون بنصر الله، حيث نصر من له كتاب على من يعبدون غيره، وملأ بالأسى والحزن قلوب كفار مكة الذين كانوا من قبل شامتين، ينصر الله بفضله من يشاء نصره من عباده، على عدوه، وهو العزيز الغالب فلا يعجزه نصر من يشاء على عدوه مهما كان أمره لحكمة يراها في نصره، الرحيم باللطف بالمغلوب، وتهيئته لقبول القضاء، أو بإصلاح حاله واستعادة مكانه.

التفسير 8 - {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}: بعد أن سجلت الآية السابقة عليهم قصور علمهم بالحياة الدنيا، حيث لم يتجاوزوا ظاهرها، جاءت هذه الآية لتوبخهم على عدم تفكُّرهم بعمق في مصير هذه الدنيا. والمعنى: أَغَفَلَ هؤلا الكافرون ولم يتفكررا في أعماق أنفسهم، حتى يعلموا أن الله - تعالى - لم يخلق السموات والأرض وما بينهما إلا للحق من الثواب والعقاب للمكلفين فيها على حسب أعمالهم، أو إلاَّ بالعدل، فلا يستوى عنده دمشق ومبطل، ولا محسن ومسىء، وخلقهما وما بينهما لأجل مسمى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وإن كثيرا من الناس بلقاء جزاء ربهم في الآخرة لجاحدون؛ لأنهم لا يدركون من الحياة الدنيا إلا ظاهرها، ولا يتعمقون في التفكر فيها، فلذلك حسبوا أن الدنيا نهاية كل حي، وأن الله لا يبعث من في القبور. 9 - {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: الهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} إما أن تكون لتقرير عدم سيرهم وتوبيخهم على ذلك - إن كانوا من القاعدين الذين لم يسيروا في الأرض ويعتبروا بالهالكين - فيكون التقدير: أقعدوا ولم يسيروا في الأرض فينظروا، وكان عليهم أن يسيروا بين آثار الهالكين ليتعظوا، وإما أن تكون لنفى قعودهم وتوبيخهم على عدم انتفاعهم بسيرهم بين آثارهم - إن كانوا ممن ساروا في خرائبهم - وكأنه قيل: أقَعَدُوا ولم يسيروا في خرائب الكافرين فينظروا ويعتبروا؟ كلَّا، بل ساروا ولكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا. والمعنى الإجمالي للآية: أقَعَدَ هؤلاء الكفار ولم يسيروا في أرض الهالكين السابقين ويشاهدوا كيف كانت عاقبة أولئك المشركين المنكرين للبعث قبلهم، كانوا أقدر منهم على

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)} المفردات: {فِي أَنْفُسِهِمْ}: ظرف للتفكر، وليس بمفعول تعدى إليه، فإنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم، بل أمروا أن يستعملوا التفكر النفسي في خلق السموات والأرض وما بينهما ليعلموا أنها لم تخلق إلَّا بالحق، وفائدة ذكر {فِي أَنْفُسِهِمْ} مع أن التفكر لا يكون إلاَّ فيها؛ لتحقيق أمره، وزيادة تصوير حال التفكر المؤدى إلى الصواب، وهو التفكر العميق لا التفكر الظاهري. {إِلَّا بِالْحَقّ} قال الفراءُ: معناه: إلاَّ للحق، أو إلاَّ بالعدل. {وَأَجَلٍ مُسَمًّى}: ووقت سماه الله ينتهيان عنده، وهو يوم القيامة. {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ}: بلقاء جزائه يوم القيامة. {السُّوأَى}: تأنيث الأسوأ، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمراد بالسوأى: النار.

والمعنى: الله - سبحانه - شأنه أنه يبدأ الخلق وينشئه من العدم - كما تعلمون أيها الكافرون - ثم يعيده بعد فنائه، ثم إلا حسابه وجزائه ترجعون وتبعثون، فلماذا تكفرون وتنكرون؟ أليس من قدر على الإبداع والاختراع فهو قادر على الإعادة بعد الفناء؟ 12 - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}: اختلف المفسرون في تفسير معنى الإبلاس، فمنهم من فسره باليأس، كابن عباس، وهو المراد من حديث: "أنا مبشرهم إذا أُبلسوا" أي: ذا يئسوا، ومنهم من فسره بالسكوت وانقطاع الحجة، ومنهم من فسره بالحزن الناجم عن شدة اليأس، والحق أنها معان متقاربة وليس بينها تناف. والمعنى: ويوم يقوم الناس لرب العالمين في الساعة التي حددها للقيامة - يومئذ - ييأس المجرمون من النجاة ويتحيرون، وقد انقطعت حجتهم وصمتت ألسنتهم، ولفّهم الحزن من كل جانب. 13 - {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ}: ولم يكن لهؤلاء المجرمين من آلهتهم التي عبدوها شفعاء ينقذونهم من سوء مصيرهم، كما كانوا يزعمون في دنياهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وكانوا بشركائهم يومئذ كافرين. والتعبير عمَّا سوف يحدث يوم القيامة - وهو مستقبل - بصيغة المضارع التي دخلت عليه (لم) في قوله: {ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} فحولته إلى المضى، وبصيغة الماضي في قوله: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} للإيذان بأنه واقع ولابد، فكأنه وقع فعلا وأُخْبر عنه.

التمتع بالحياة الدنيا، حيث كانوا أشد منهم قوة وقلبوا الأرض ظهرًا لبطن في الزراعة والبحث عن المعادن ونحوها وعمروها بفنون العمارات أو أقاموا بها أكثر مما عمرها مشركو مكة، وجاءتهم رسلهم بالمعجزات البينات التي تستوجب إيمانهم فكذبوهم، فما كان الله ليهلكهم بغير ذنب كما يفعل الظالمون، ولكنهم كانوا ظالمين لأنفسهم بفعلهم ما يقتضي إهلاكهم دون أن يكون لله أو لرسله دخل في ظلمهم. 10 - {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}: ثم كان عاقبة الذين عملوا السيئات وظلموا بها أنفسهم - كان عاقبتهم - العقوبةُ السوأى في الدنيا بالإهلاك وفي الآخرة بالنار؛ لأنهم داوموا على تكذيبهم بآيات الله، وكانوا بها يستهزئون ولم تنجهم قوتهم، ولم تنفعهم عمارتهم. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)} المفردات: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ}: يتحير الكافررن وتنقطع حجتهم، يقال: أبلس الرجل، إذا سكت وانقطعت حجته. {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} أي: تبرءُوا من آلهتهم التي عبدوها. التفسير 11 - {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: بين الله في الآية السابقة أن نهاية الكافرين المسيئين لأنفسهم أن يعاقبوا العقوبة السيئة في الدنيا والآخرة، وجاء بهذه الآية لتقرير ذلك.

وأما الذين كفروا باللهِ ورسله، وكذبوا بآياتنا الكونية والتنزيلية، وكذبوا بالبعث والجزاء في الآخرة فأولئك في عذاب جهنم مجبورون على الحضور والإقامة فيه. قال الآلوسي: والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين، أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر، وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلا على المؤمنين المجتنبين للمفسقات - على ما قيل - وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل من الصالحات شيئًا أصلًا، وحكمهم معلوم من آيات أخرى - انتهى بتصرف يسير. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} المفردات: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ}: فتنزيها له عما لا يليق به. {عَشِيًّا}: العشي؛ آخر النهار. {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: وحين تدخلون في وقت الظهر. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}: كالإنسان من التراب. {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}: كالسقط الميت من أُمٍّ على قيد الحياة. {وَيُحْيِ الْأَرْضَ}: بالنبات. {بَعْدَ مَوْتِهَا}: بعد يَبَسِهَا. {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}: أي؛ تبعثون من قبوركم.

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} المفردات: {فِي رَوْضَةٍ}: الروضة، الأرض ذات النبات والأزهار والماء، والمراد بها هنا الجنة. {يُحْبَرُونَ}: يُسَرُّون، يقال: حَبَره يحبُره - بضم الباء - حبْرًا، وحُبرة، وحبورًا: إذا سره سرورًا يتهلل له وجهه. {مُحْضَرُونَ}: مجبرون على الحضور. التفسير 14 - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}: ويوم يقوم الناس لرب العالمين في الساعة التي عينها لبعثهم - يومئذ - يتفرق الخلق إلى مؤمنين وكافرين، ثم فصل - سبحانه - مصيرهم بعد تفرقهم فقال: 15 - {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}: فأَما الذين صدقوا بالله ورسله، وعملوا الصالحات التي أمرهم بها، فهم في جنة عظيمة يسرون غاية السرور، بما ينعمون به فيها من النعيم المقيم والخير العميم، الذي أخبر الله عنه بقوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وأخبر عنه الرسول بقوله: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". 16 - {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}:

وذِكْرُ قوله - تعالى - {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: بين أوقات التسبيح، للإيذان باستحقاقه - تعالى - الحمد من أهل السموات والأرض على نعمه بالإضافة إلى تسبيحه، قال العلامة أبو السعود: قدمت {وَعَشِيًّا} على {حِينَ تُظْهِرُونَ} مراعاة للفواصل، وقال الآلوسي: وتخصيص الأَوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار، كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح. والمعنى: فَصَلاَةً، أو فتنزيهًا لله عما لا يليق به حين تدخلون في الظلام بعد النور، وحين تدخلون في الصباح والنور بعد الظلام، وله الحمد استحقاقًا وأداءً في السموات والأرض على توالي نعمه على من فيهما، وتنزيهًا له آخر النهار وحين تدخلون في الظهر. أخرج أبو داود وغيره عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إلى قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك ما فاته في ليلته، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في يومه). 19 - {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}: درج المفسرون على تفسير هذه الآية ومثلها بنحو قولهم: يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي، ويخرج الدجاجة الحية من البيضة الميتة، ويخرج البيضة الميتة من الدجاجة الحية، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، والواقع أن النطفة ليست ميتة وكذلك البيضة، فالنطفة مليئة بالحيوانات المنوية التي لا تحصى، فإذا التقت نطفة الرجل ببويضة المرأَة في القناة الفالوبية التي توصل الرحم بمبيض المرأة، لقحتها بأقوى حيواناتها المنوية ونشأ عن هذا التلقيح الخلية الأولى للجنين، وكذا الأمر بين نطفة الديك وبيضة الدجاجة، وقد شرحنا ذلك علميًّا في تفسير قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ .. } (¬1). ¬

_ (¬1) الآية رقم (5) من سورة الحج.

التفسير 17، 18 - {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: بين الله - سبحانه - في الآيتين السابقتين حال ومآل فريقي المؤمنين الصالحين والكافرين المكذبين من الثواب والعقاب، وجاء بهذه الآية ليرشد عباده إلى ما ينجى من الثاني ويُفضي إلى الأول، من تنزيهه - تعالى - عما لا يليق بجنابه، وحمده والثناء عليه بما هو أهله من الصفات الجليلة، وقد اقترنت بالفاء من قوله: {فَسُبْحَانَ} للإيذان بترتيب ما بعدها على ما قبلها في المعنى، فكأنَّهُ قيل: إذا عرفتم حال الفريقين ومآلهما فسبحوا الله حين تمسون ... إلخ، وسبحان: مصدر، ناب عن فعل الأمر، وهو محذوف وجوبًا إن كان منصوبًا بتقديره، لأنه ناب عنه فلا يجتمعان. والمقصود من التسبيح هنا: الصلاة عند ابن عباس، فقد قال: الصلوات الخمس في القرآن. قيل له: أين؟ فقال: قال الله - تعالى -: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر {وَعَشِيًّا} العصر (¬1) {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر وبهذا قال الضحاك وابن جبير، والأكثرون على أن الصلاة فرضت بمكة، وهذا يوافق كون السورة كلها مكية على الصحيح. وإطلاق التسبيح على الصلاة إما لوجوده في ركوعها وسجودها، وإما لأنها مشعرة بتنزيهه - تعالى - عن الشريك (¬2). ومن العلماء من حمل التسبيح في الآية على التسبيح في الصلاة لا على الصلاة نفسها، قال علي بن سليمان: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات. ¬

_ (¬1) ويقول صاحب مختار الصحاح نقلا عن الأزهرى: العشي: ما بين زوال الشمس وغروبها، وصلاة العشي هي الظهر والعصر، ونقول: إن شمول العشي للظهر إذا لم يذكر معه الظهر، فإن ذكر معه اختص بآخر النهار - كما هنا. (¬2) وإما لأنه مأخوذ من السبحة، والسبحة: الصلاة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم: "تكون له سبحة يوم القيامة".

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} المفردات: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: من جنسكم. {أَزْوَاجًا}: زوجات. {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ}: واختلاف لغاتكم مع أن الأصل واحد. {مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: نومكم فيهما.

ولولا وجود الحياة في كل ذلك لما وجدت الأجنَّةُ في البطون ولا الفراخ في البيض وقد عُرفت كل هذه الحقائق بالمناظير المكبرة وبالتجارب، فمن لا حياة في نطفته أو في بويضة امرأته فهو عقيم، وهي عاقر، وكذا الأمر في الدجاج. ولعل هذا التفسير المأثور عن السلف ناشيء إما عن قصور علم الأجنة عند الناس وقئئذ أو أنه على سبيل المجاز فإن هذه النطفة بالنسبة إلى الإنسان، والبيضة بالنسبة إلى الدجاجة تعتبر كالشيء الميت، فإن الفرق بينهما بعيد المدى، فتبارك الله أحسن الخالقين. ولعل التفسير الواضح القائم على الحقيقة أن يقال: يخرج الحي من الميت كالإنسان من التراب ويخرج الميت من الحي كالسقط الميت من المرأة الحية. ومن العلماء من فسرها تفسيرًا مجازيًا بطريقة أخرى، فقال: يخرج العالم من للجاهل، ويخرج الجاهل من العالم، ويخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وعلى هذا فالمراد من الحياة والموت في الآية العلم والجهل، أو الإيمان والكفر على سبيل المجاز. وقد شرحنا مثل هذه الآية في سورة آل عمران باستيفاء فارجع إليها إن شئت. والمعنى الإجمالي للآية: يُخرج الله بقدرته الحي من الميت كالإنسان والحيوان من التراب مباشرة أو عن طريق الأغذية، ويخرج الميت من الحي كالسقط الميت من المرأة، والبيضة العقيم من الدجاجة، ويحيي الأرض (¬1) بالماء والنبات بعد يبسها وفقدان منفعتها، مثل ذلك الإخراج البديع تُخرَجُون من قبوركم للحساب والجزاء، فكيف تنكرون البعث وأنتم ترون آياته في الإحياء والإماتة، أليس في كل خَلَف بعثٌ لسلفه الميت؟. ¬

_ (¬1) والإحياء والموت في الأرض مجازى.

ولكن المحققين حملوه على التمثيل لا على الحقيقة، فالمعنى المراد: أنهن في اعوجاج طباعن يشبهن الضلع الأعوج ولهذا عقبه بقوله: "وإن أَعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا" فهذا يشير إلى اعوجاج طباعهن، وأن أكثر الاعوجاج في رءوسهن حيث توجد ألسنتهن، فإن حاولت أن تجعل امرأتك مستقيمة الطباع بعيدة عن خطأ اللسان فشلت، وانتهت محاولتك في إصلاحها إلى كسرها، وهو كناية عن إصابتها بَدَنيا أو نفسيا، أو عن طلاقها، كمن يحاول إصلاح الضلع الأعوج فإنه يفشل، وتنتهي محاولته إلى كسره، وإن تركتها دون تقويم وتهذيب بقيت على اعوجاجها، كما يبقى الضلع على اعوجاجه إذا تركته، وخير الأمور الوسط، وهو الوعظ برفق، والتغاضي عما يدفع إليه الطبع غالبا، وما من رجل أو امرأة إلا له عيوب. وخير ما تحمل عليه الآية: أن المرأة خلقت من جنس الرجل، فكانت على نظام خلقه، لا فرق بينهما إلا الذكررة والأنوثة ولهذا عقب خلقها منه بقوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإن خلق الزوجة من جنس زوجها - تكوينا وعقلا - يؤدى إلى سكون الزوج إليها وقيام المودة والرحمة بينه وبينها، بخلاف ما لو خلقت من جنس حيواني آخر، فإن الأمر يكون بينهما على التباين والتناقض. أما مبدأ خلق حواء، فقد قيل: إنه من فضلة طينة آدم، ولكن التوراة صريحة في أنها خلقت من أحد أضلاع آدم، كما جاء في سفر التكوين (الإصحاح الثاني 21 - 23) والله أعلم بصحة ذلك. والمعنى الإجمالي للآية: ومن دلائل ربوبيته - تعالى أنه خلق لكم - أيها البشر - أزواجا من جنسكم جسدًا وعقلا، لا يفرق بينكم وبينهن سوى الذكورة والأُنوثة، ليسكن الرجل منكم بالزواج الشرعي إلى زوجه، وإن لم يكن يعرفها من قبل، وليبقى بمباشرتها الجنس البشريُّ، وليطمئن إليها بالعشرة معها، فإن الجنس يميل إلى جنسه ويألفه، بخلاف ما لو كانت من جنس آخر، وجعل بينكم مودة ورحمة، فكلاكما يحب الآخر

{الْبَرْقَ}: هو ما يلمع تباعًا أثناء المطر. {خَوْفًا وَطَمَعًا}: خوفًا من الصواعق، وطمعًا في المطر. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: المراد من السماء هنا: السحاب، وكل ما علاك سماء. {بَعْدَ مَوْتِهَا}: بعد يبسها. {أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}: أن توجدا في الفضاء بقدرته وتدبيره. {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}: أي؛ تفاجئون بالخروج من قبوركم تلبية لنداء الله. التفسير 20 - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}: ومن علامات ربوبيته وأُلوهيته - تعالى أنه خلقكم يا بني آدم من تراب ضمن خلق أَبيكم آدم منه، أو أنه خلقكم من نطف تولدت من أغذية أصلها ومادتها التراب، ثم إذا أنتم أُناس عقلاء تنتشرون عن طريق التوالد، أو الهجرة في أنحاء الأرض بعد أن بدأ خَلْقكم بآدم ثم من بعده حواء، وجعلكم تستنبطون خيراتها الظاهرة والباطنة بما وهبكم من القوى العملية والجسدية، وعلمكم من شئون الكون ما لم تكونوا تعلمون، فسبحان من خلقكم ونشركم وأقدركم على عمارة أرضه وجعل لكم من أنفسكم آيات على ربوبيته ووحدانيته. 21 - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: اختلف العلماء في تفسير خلق الأزواج من أنفس البشر، وكثير منهم فسره بأنهن خُلِقْنَ من ضلع آدم تبعًا لحواء أُمهن. وقد ورد حيث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل هذا المعنى، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضِلع، وإن أَعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا".

يسترده بأي جهد يبذله، ما لم تأته به عناية الله ورحمته، فتلك آيات عديدة تضمنتها آية النوم، وقد يصبح الأرق مرضا ملازما فيصاب صاحبه بالكآبة وغيرها من الأمراض النفسية أو الجسدية، ولا ينفعه إلا رحمة تأْتيه من الرحمن الرحيم من حيث لا يعلم، فلهذا ينبغي لمن يصاب بالأرق أن يكون شديد اللجوء إلى الله - تعالى - بالدعاء، ومما جاء فيه ما أخرجه الطبراني في مسنده عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم أنم عيني وأهديء ليلي" فقلتها فذهب عني. وينبغي لمن أصابه الأرق أيضًا أن يبعد عن نفسه التفكير فيه، حتى لا يصبح عقدة نفسية، وعليه أن يكون قوي الأمل في رجوع النوم إليه برحمة الله، وأن يكون عظيم التوكل على الله والثقة في رحمة الله، حتى لا تطول غربة النوم عنه. والنوم كما يكون ليلًا يكون نهارا، فمن الناس من يعملون ليلًا كالحرّاس وعمال المخابز، فهؤلاء ينامون نهارا، ومنهم من يعملون نهارا، وقد ينامون ظهرا، ومنهم من يأتيه النوم في أي وقت من الليل أو النهار، تبعًا لحاجة أجسادهم ونفوسهم، فمن رحمة الله أن جعله مشاعا بين الليل والنهار لمن يحتاجون إليه، فلهذا قال - سبحانه -: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار}. وأما آية ابتغاء الرزق فإنها تضم عدة آيات، والرزق بيد الله، وكم من طالب رزق معين يأتيه غيره، وكم من طالب له لا يجده، وكم من غافل فيأتيه رزق لم يتوقعه ولم يسع إليه. وطلب الرزق كما يكون في النهار يكون في الليل، وبخاصة في هذا الزمان، حيث تفتح المتاجر والمصانع أبوابها ليلًا كما تفتح نهارا، والله - تعالى - يسوق الرزق لجميع عباده {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولكن الله - تعالى - ربط المسببات بأسبابها، ولهذا أمر عباده بالسعي في طلب الرزق الذي قسمه الله لهم بقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}

ويرحمه ويدفع عنه ما يضره ويؤذيه قدر استطاعته، إن فيما ذكر في هذه الآية من عجائب تدبير الله لدلائل على ربوبيته، وعظيم فضله، وواسع رحمته - لدلائل - لقوم يتفكرون. 22 - {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}: ومن دلائل ربوبيته خلق السموات والأرض وما فيهن من عجائب الإبداع وروائع الجمال، وبقائهن في الفضاء بعجيب قدرته وعظيم علمه وحكمته، ومن دلائل ربوبيته أيضًا اختلاف لغاتكم، حيث علم كل أُمة لغتها المخالفة للغة غيرها، أو ألهمها العبارات المختلفة للتعبير عن حاجاتها، وخالف بين طرائق نطقكم، فلا يكاد يوافق أحدكم غيره في أُسلوب نطقه واختيار عباراته، ومن دلائل ربوبيته أيضًا اختلاف ألوانكم من أبيض إلى أسود إلى أصفر إلى غير ذلك، أو اختلاف ألوانكم بتخطيط الأعضاء والهيئات والألوان، بحيث وقع التمايز والتعارف، حتى إن التوأمين - مع اتحاد أصلهما - لا بد من وجود اختلاف بينهما ليحصل التعارف، إن في ذلك كله لآيات عظيمة لكل عالم مفكر، على وجود إله حكيم قدير عليم. 23 - {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: دعت هذه الآية الكريمة إلى التأمل في آيات جليلة واضحة الدلالة على ربوبية الله ومزيد رحمته بعباده، وهي آية النوم وآية طلب الرزق، وما تشتملان عليه من آيات. فأما آية النوم فإنها وسيلة إلى راحة القوى النفسية والبدنية، وإعادة النشاط إليها بعد الكلال. والنوم هبة من هبات الرحمن الرحيم، فليس للإنسان أي كسب أو جهد فيه، وما على الإنسان إلا أن يستسلم لفراشه ويغمض عينيه وينتظر رحمة الله تأْتيه بالنوم فليسع بفضل الله إلى إحساسه وشعوره العقلي، فيغيبه في طياته، ويضفى على أجهزته البدنية والعقلية الراحة والسكينة، ولو شرد النوم عن الإنسان فإنه لا يستطيع أن

أو خوفا من نزول المطر للمسافر برًّا لأَنه يضره، وطمعا للمقيم لأنه ينفعه في الزراعة وغيرها، ولهذا قال عقبه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: وينزل الله من السحاب مطرا فيحيي به الأرض بالنبات والشجر، بعد أن كانت هامدة يابسة، فلما جاءها الماءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} إن فيما تقدم من إراءَة البرق وإنزال المطر وإنبات الزرع والشجر لآيات بينات على قدرة الله وحكمته وربوبيته، وأنه يبعث من في القبور. لآيات على ذلك لقوم يعقلون. 25 - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}: ومن علامات أُلوهيته - تعالى - أن توجد السماءُ والأرض في الفضاء بأمره وتدبيره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ثم إذا دعاكم يوم القيامة للخروج من الأرض التي دفنتم فيها، إذا أنتم تخرجون فور الدعاء، فمن قدر على البدء والاختراع فهو على الإعادة أقدر. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} المفردات: {قَانِتُونَ}: منقادون خاضعون. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}: وله الوصف الأعظم. {الْعَزِيزُ}: الغالب.

{وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وإن كان بعض الرزق يأتي بغتة من غير سعي، كالمواريث والهبات والصدقات المفاجئة، ولكن السنة الإلهية في الحصول على الأرزاق هي السعي إليها؛ فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. والمعنى الإجمالي للآية: ومن آيات ربوبيته - تعالى - وكمال تدبيره وحكمته نومُكم بالليل تارة، وبالنهار أُخرى، حسب حاجتكم إلى النوم، فحينما تحتاجون إليه أو تطلبونه يحقق الله لكم منه حاجتكم، ومن آياته طلبكم الرزق في الليل والنهار أيضًا فيأْتيكم منه ما قسمه الله لكم، إن فيما تقدم من النوم وطلب الرزق في ليل أو نهار، لآيات واضحة الدلالة على ربوبيته ووجوب الاستعانة به واللجوء إليه، إن فيما تقدم لآيات لقوم يسمعون سماع تدبر وتفكر. والتعبير بقوله، {يَسْمَعُونَ} بدلا من: يبصرون، أو: يتفكرون، للإيذان بأن الأمر من الظهور بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة، ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا، ولا إلى إعمال الفكر بعمق لغاية وضوحه. 24 - {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: المقصود من قوله: {يُرِيكُمُ} المعنى المصدري، فكأنه قيل: ومن آياته إراءتكم البرق، وهو من باب استعمال الفعل المضارع في جزء من معناه وهو الحدث، كما قالوه في المثل المشهور: تسمع بالمُعَيْديِّ خير من أن تراه أي: سماعك به ... إلخ. وذهب أبو علي إلى أن الكلام على تقدير (أن المصدرية) والأصل، أن يريكم، فلما حذفت ارتفع الفعل وبطل عملها بالحذف، والمآل في كلا الوجهين واحد وهو المعنى المصدري، والبرق: هو الومضات الكهربية المضيئة السريعة المتلاحقة أثناء المطر الغزير. والمعنى الإجمالي للآية: ومن آيات الربوبية والبعث أن يريكم الله البرق اللامع المنبعث من السحب الركامية خوفا من نزول الأمطار الكاسحة بسيلها أو من نزول الصواعق وطمعا في مطر ينفع ولا يضر.

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)} المفردات: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: ذكر لكم مثلا منتزعا من أنفسكم أيها البشر. {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ}: هل؛ حرف استفهام مراد منه النفي، أي: ليس لكم من عبيدكم شركاءُ، ولفظ {مِنْ} الأُولى ابتدائية، والثانية تبعيضية، والثالثة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري في لفظ: {هَلْ}. {كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}: كخوفكم منها. {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: نوضحها ونبينها. التفسير 28 - {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } الآية: بين الله - تعالى - في الآيات السابقة دلائل ربوبيته ووحدانيته وأن له المثل الأعلى والوصف الأسمى في جميع الصفات، لا يدانيه فيها أحد، وجاء بهذه الآية ليؤكد بها وحدانيته بطريق ضرب المثل، لما فيه من تشبيه المعقول بالمحسوس، وهو في الإفحام أقوى.

التفسير 26 - {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}: ولله من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن، ومَنْ عسى أن يكون بها من مخلوقات مكلفة عاقلة لا علم لنا بها، كل هؤُلاء لإرادته - تعالى - خاضعون، حيث يتصرف فيهم كما يشاء بمقتضى حكمته وتدبيره - جل وعلا -. 27 - {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: والله هو الذي يبدأ الخلق من آن لآخر، ثم يعيده بالبعث بعد الموت، والإعادة أسهل من البداية إذا نظر إليها بمقاييس الناس، وإن كانت عند الله سواءً، لأَنه يقول للشيء: كن فيكون، ولله الوصف الأَعلى العظيم في السموات والأرض، يصفه به كل من فيهما دلالة أو نطقا، ولا يدانيه في كمال أوصافه أحد، وهو العزيز الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في خلقة وتدبيره، أخرج الإِمام البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله: كذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني - وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (¬1) ". ¬

_ (¬1) انظر ابن كثير.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} المفردات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}: اجعل وجهك مستقيما نحو الدين. {حَنِيفًا}: مائلا عن الباطل إلى الحق، فَعِيل من الحَنَف: وهو الميل، ويطلق الحنيف على صحيح الميل للإسلام، وعلى دين إبراهيم - ذكره صاحب القاموس. {فِطْرَتَ اللَّهِ}: خلقته. {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}: خلقهم عليها. {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}: لا تبديل لدين الله. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}: ذلك الدين المستقيم. التفسير 30 - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ... } الآية: بعد أن بين الله آيات ربوبيته، وضرب مثلا لفساد الإشراك جاء بهذه الآية لإقرار ما تقدم من وجوب التوحيد، وحث كل مكلف على الإقبال على دين التوحيد الذي هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها. والخطاب في قوله - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} لكل فرد مكلف من الأُمة المحمدية في شخص نببها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهو إمامها، أو خطاب لكل مكلف مباشرة.

وحتى تعظم قيمة هذا المثل في الإِفحام عند القاريء نقول: إن المشركين كانوا معترفين بأن أوثانهم عبيد الله - تعالى - فقد كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك". ومعنى الآية، ذكَر اللهُ لكم مثلا لإشراككم عبيد الله معه في الأُلوهية، وهذا المثل منتزع من أنفسكم أيها البشر: هل لكم من عبيدكم الذين ملكتهم أيمانكم - هل لكم منهم - شركاءُ فيما رزقناكم من الأموال وسواها، فتكونوا أنتم وإياهم في حق ملك ما رزقناكم والتصرف فيه سواء بحيث تخافونهم أن يستبدوا بتصرف ما، كخوفكم أيها الشركاء الأحرار بعضكم من بعض. وخلاصة هذا المثل الذي ابتدأ بالاستفهام الإنكاري: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ .. } خلاصته أنه ليس لمماليككم حق الشركة في أموالكم، فإذا كنتم تأْبون أن يشرككم عبيدكم في أموالكم وهم مثلكم في البشرية غير مخلوقين لكم، بل لله - تعالى - فكيف تشركون باللهِ - تعالى - في المعبودية والأُلوهية التي هي من خصائصه الذاتية - كيف تشركون به مخلوقه بل مصنوع مخلوقة؟ - جل وعلا - حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ وكيف يرضي الله بذلك؟ مثل ذلك التفصيل الواضح يفصل الآيات ويبينها لقوم يستعملون عقولهم في فهم حقائق الأُمور. 29 - {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: إضراب وإعراض عن مخاطبة المشركين لجهلهم واتباع أهوائهم، وكأنه قيل: لم يفعلوا شيئا من الآيات المفصلة قبل هذه الآية، بل اتبعوا أهواءهم الزائفة التي ظلموا بها أنفسهم حيث عبدوا غير الله بجهالة وسوء رأي، مع تمكنهم من العدم من فتحوا قلوبهم للحق، فمن يستطيع هداية من أضلهم الله عن الحق بسبب إعراضهم عنه، وما لهؤُلاء الضالين من ناصرين يخلصونهم من الضلال وتبعاته.

والمعنى الإجمالي للآية: فأقبل - أيها العاقل - على الإِسلام دين الحق واستقم عليه واهتم به، مائلا إليه بجد وهمة، منصرفا عن سواه من سائر الأديان، فطر الله الناس عليه وخلقهم مستعدين له، لاتُبَدِّلوا فطرة الله وخلقته، ذلك الدين المستقيم الذي لا يصح تبديله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون استقامته، ووجوب الإيمان به؛ لعدم تدبرهم وإهدارهم عقولهم. {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} المفردات: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}: أي؛ راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، من أناب: إذا رجع مرة بعد أُخرى. {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ}: قيل؛ هم أهل الأهواء والبدع، أو اليهود والنصارى. {وَكَانُوا شِيَعًا}: أي؛ فرقًا، جمع شيعة، والشيعة في الأصل: الأتباع والأنصار، وكل جماعة اجتمعوا على أمر، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليًّا وأهل بيته حتى صار اسمًا لهم خاصًّا بهم، وجمع الجمع: أَشياع. {كُلُّ حِزْبٍ}: الحزب؛ الطائفة من النَّاس، والجمع: أحزاب. التفسير 31 - {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: بين - سبحانه - بهذه الآية أن العبادة لا تقبل من عباده إلاَّ مع الرجوع إليه - عَزَّ وَجَلَّ - والإخلاص له، فقال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وهو مرتبط بقوله - سبحانه -: {فِطْرَتَ اللَّهِ}

والوجه في قوله - تعالى - "فأَقِمْ وجهك" إما أن يراد به معناه المعروف، وإما أن يراد به الذات كلها، وسواءٌ أكان المراد به هذا أم ذاك فالآية تمثيل لوجوب الإقبال على دين الإِسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام به، ولذلك عقبه بقوله: {حَنِيفًا} أي: مائلا عن الأديان كلها متجها إليه ومقبلا عليه، أو دِينَ إبراهيم الحنيف - عليه السلام - يعني أن التوحيد هو دين إبراهيم الحنيف. وهذا الدين الإسلامي الذي أمرنا الله بالاستقامة عليه، هو فطرة الله وخلقته التي فطر الناس وخلقهم عليها، أخرج الإِمام البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يُمَجِّسانه كما تُنْتَجُ البهيمة بهيمة جمعاءَ (¬1)، هل تجدون فيها من جدعاء (¬2)؟ " ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬3). وأخرج ابن مردويه بسنده عن حماد بن عمر الصفار قال: سألت قتادة عن قوله - تعالى -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فقال: حدثني أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فطرة الله التي فطر الناس عليها: دين الله تعالى" وبهذا التفسير فسرها السلف. ومن العلماء من فسر الفطرة بأنها قابلية الحق والتهيؤ لإدراكه، فالناس جميعًا مفطورون ومخلوقون مستعدين لقبوله، لا يمنعهم عنه إلا المبطلون من شياطين الإنس والجن، والتفسيران متقاربان، والفطرة في كليهما: اسم هيئة من الفطر، بمعنى الخلق والاختراع. وأما قوله - سبحانه -: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فهو خبر مراد منه النهي، أي: لا تبدلوا دين الله وخلقته التي خلق الناس عليها بالإصغاء إلى دعاة الباطل من شياطين الإنس أو الجن. ¬

_ (¬1) أي: مجتمعة الأعضاء، سليمة من العيوب. (¬2) مقطوعة الأطراف أو بعضها. (¬3) البخاري في تفسير سورة الروم.

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)} المفردات: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ}: أي نالهم قليل من الضر، ويتعدى إلى ثان بالحرف. {يُشْرِكُونَ}: أي يشركون به غيره في العبادة. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}: أي ليجحدوا النعمة التي أُعطيت لهم، يقال: كفر النعمة، وكفر بها: جحدها وغطاها. {فَتَمَتَّعُوا}: أي انتفِعوا به كما شئتم، يقال: استمتعت بكذا، وتمتعت به: انتفعت. {سُلْطَانًا}: أي؛ حجة وبرهانًا. التفسير 33 - {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ... } الآية: أي: وإذا مس الناس قحط وشدة وهزال ومرض وغيرُ ذلك أقبلوا على ربهم مستغيثين به راجعين إليه مقبلين عليه تاركين دعاء غيره من الأصنام وسواها، ذلك شأنهم في حال الاضطرار، ولكنهم في حال الرخاء وتوالي النعم عليهم والخلاص من تلك الشدة

أي: الزموا فطرة الله عائدين إليه مقبلين عليه بالتوبة النصوح التي تطهِّر قلوبكم، وتزكى نفوسكم. أو مرتبط بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أي: فأقيموا وجوهكم، واستمروا على الدين الذي شرعه الله لكم منيبين إليه، وإنما جمع مع أن الخطاب في: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} لمفرد وهو النبي؛ لأن خطابه خطاب لأمته، وقال الفراءُ: فأقم وجهك ومن اتبعك منيبين فهو كقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} (¬1)، {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه، وأدوا الصلاة بشروطها وفي أوقاتها ولا تكونوا من المشركين، بل من الموحدين المخلصين له العبادة، لا تريدون بها سواه؛ لأنها لا تنفع إلاَّ مع الإخلاص له وحده - سبحانه -. 32 - {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: أي: ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم (¬2)، وتفريقهم لدينهم: اختلافهم فيما يعبدونه وفق اختلاف أهوائهم. {وَكَانُوا شِيَعًا}: أي فِرقًا، كل فرقة تشايع إمامها الذي مهَّد لها دينها ووضع أُصوله، فأَصبحوا بذلك نِحَلًا وأديانًا مختلفة، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس، وعبدة الأَوثان وسائر أهل الأديان الباطلة التي قبلنا، اختلفوا على أديان وملل باطلة. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}: أي كل فريق منهم بما عندهم من الدين المعوج المؤسس على الباطل مسرورون، وبه معجبون، يظنون أنهم على الحق الذي جهلوه، وكان عليهم أن يبحثوا عنه ويتبعوه، فالجملة ذكرت تقريرًا لمضمون ما قبلها من تفريق دينهم وكونهم شيعًا. ¬

_ (¬1) هود: 112. (¬2) قوله: من الذين فرقوا دينهم بدل من المشركين بإعادة الحرف، وفائدة الإبدال: التحذير من الانتماء إلى حزب من الأحزاب ببيان أن الكل على الضلال.

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)} المفردات: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: بلاء وعقوبة. {يَقْنَطُونَ}: أي يَيئسون من رحمة الله، وقنط من باب ضرب وتعب، وهو قانط وقنوط، ويُعَدَّى بالهمزة. {وَيَقْدِرُ}: أي ويضيق، يقال: قَدَرَ الله الرزق، يقدِره - بكسر الدال - ويَقْدُره - بضمها - ضيَّقه، والكسر أفصح، وبه قرأ السبعة. التفسير 36 - {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... } الآية. أي: وإذا أَذقنا الناس نعمة من مطر رسعة وصحة وأمن ودعة ونحوها فرحوا بتلك النعمة بطرا وأشرا لا حمدًا وشكرًا لمجريها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي بلاء وضيق بشؤم معاصيهم التي اقترفوها، فاجأُوا باليأْس من رحمة الله، وهذا شأن من لم يرسخ الإيمان في قلبه، وفي نسبة الرحمة إليه - تعالى - دون السيئة تعليم للعباد ألا يضاف الشر إليه - سبحانه -. وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة، وبيان سبب إصابة السيئة: إشارة إلى أن الأول منَّة وتفضل منه - تعالى - والثاني قسط وعدل بسبب معاصيهم التي قدموها وباءُوا بإثمها.

{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}: أي فاجأ فريق بالإِشراك بربهم، الذي كانوا يدعونه منيبين إليه، وذلك بنسبة خلاصهم ممَّا كانوا فيه إلى غيره من صنم أو كوكب أو غيرهما من المخلوقات. وتخصيص الإشراك ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير: (ضر ورحمة) للإشارة إلى أَنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويَطْغَوْن لأدنى نعمة. 34 - {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أي: يشركون به غيره لكي يكفروا بما آتيناهم من النعم، أو اللام للأمر قصدًا إلى التهديد والوعيد، كما يقال عند الغضب: اعصني ما استطعت، وهو مناسب لقوله - سبحانه -: {فَتَمَتَّعُوا} أي: افعلوا ما شئتم فسوف يحيق بكم عاقبة تمتعكم ووباله. والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في التهديد، ثم أنكر - سبحانه - على المشركين عبادة الأوثان بلا دليل ولا برهان فقال: 35 - {أمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}: في هذه الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بالإعراض عنهم وتعديد جِنَاياتهم لغيرهم، أي: بل أنزَلْنَا عَلَيْهِم حجة لها سلطان يجعلهم يتكلمون بما كانوا به مشركين. أو يراد: بل أأنزلنا عليهم مَلَكًا ذا سلطان فهو يتكلم وينطق بإشراكهم بالله - تعالى - ويبين صحته، أو ينطق بالذى يشركون بسببه، والمراد: نفي أن يكون لهم مستمسك يُعَوَّل عليه في شركهم، إذ الاستفهام للإنكار.

التفسير 38 - {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ... } الآية: وجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشرى: أنه - سبحانه وتعالى - لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما كسبت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، فقال - تعالى -: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ... } الآية، والخطاب للنبي، والمراد هو وأُمته، على أنه المقصود به أصالة، وأُمته تبعًا، وقال الحسن: هو خطاب لكل سامع، وجوز غير واحد أن يكون الخطاب لمن بسط له الرزق. أي: فأَعط ذا القربى حقه من الصدقة وسائر المبرات صلة للرحم. قال مجاهد وقتادة: صلة الرحم فرض من الله - عَزَّ وَجَلَّ - حتى قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة، وقيل: إن الأمر بالإيتاء لذى القربى على وجه النَّدب، وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصدقة على الأَقارب على عتق الرقاب، فقال لميمونة وقد أَعتقت وليدة: "أَما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" من القرطبي بتصرف. وأعط المسكين وابن السبيل ما يستحقانه، قال ابن عباس: أي: أطعم السائل الطواف والضيف المنقطع به الطريق، والمشهور: أنه المنقطع عن ماله. وعُبّر عن القريب به القربى في جميع المواضع، ولم يُعَبَّر عن المسكين بذي المسكنة؛ لأن القرابة ثابتة لا تتجدد، ولا يقال: ذو في الأغلب إلاَّ في الثابت، ألاَ ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأْي الصائب: فلان ذو رأى، وتكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك، والمسكنة لكونها تطرأ وتزول لم يُقل فيها ذلك. {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}: أي إن الإتيان المفهوم من الأمر خير في نفسه أو خير من كل عمل آخر، للذين يقصدونه - عَزَّ وَجَلَّ - بمعروفهم خالصًا يأْملون به النظر إلى وجهه يوم القيامة، وهو الغاية العظيمة والرجاءُ المأْمول. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: حيث حصلوا بإِنْفاق مالهم النعيم المقيم، لا الذين بخلوا بما أُوتوا ولم ينفقوا شيئًا.

37 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... }: أي: ألم ينظروا، ولم يشاهدوا أن الله يوسع الخير في الدنيا لمن يشاء، ويضيقه على من يشاءُ؟ وهذا باعتبار شخصين، أو شخص واحد في زمانيْن، فلا يحق لهم أن يدعوهم الفقر إلى القنوط من رحمته - سبحانه - فهو القابض الباسط، والمراد: إنكار بطرهم عند الفرح، وقنوطهم عند الشدة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: أي إن فيما تشاهدونه من البسط والتضييق لحجة بالغة لقوم يؤمنون بالله حق الإيمانن فيستدلون بها على القدرة والحكمة البالغة، وعلى أنه - سبحانه - يفعل ذلك بمحض مشيئته، وليس الغنى بفعل العبد وجهده، ولا الفقر بعجزه وتقاعده، ولا يعرف ذلك ويقدره حق قدره إلاَّ من آمن بأَن ذلك تقدير العزيز العليم، فكم أخفق الجادون، ونجح وتقدم المبطئون. {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المفردات: {وَالْمِسْكِينَ}: هو الذي لا شيءَ له، أو له شيء لا يقوم بكفايته. {وَابْنَ السَّبِيلِ}: المسافر المحتاج إلى نَفَقَةِ سفره. {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}: أي يقصدونه - عَزَّ وَجَلَّ - بمعروفهم خالصًا، أو يريدرن النظر إلى وجهه يوم القيامة وهو الغاية القصوى.

به وجهه - تعالى - ولكن لا إثم فيه، فما يأخذه المعطى من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس - بآثم (فهو مباح (¬1) وإن كان لا ثواب فيه) كما قال ابن كثير. وقرئ: {أَتَيْتُمْ} بدون مدّ، أي: وما جئتم من عطاء ربا، أو فعلتم، وتسمية الهدية المذكورة ربا لأنها سبب للزيادة، وقيل: إن الآية نزلت في الزيادة التي حرمها الشارع. قال السدي: إن الآية نزلت في ربا ثقيف؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا، وتعمل به فيهم قريش. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}: أي وما أعطيتم من صدقة تطوع تبتغون بتلك الصدقة وجهه - تعالى - خالصًا فلا تطلبوا عليها مكافأة، ولا يدفَعكم إليها رياء ولا سمعة. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي: هم الذين ضاعفوا ثوابهم وجزاءَهم عند الله ببركة الصدقة إلى عشر أمثالها أو أكثر، كما قال - تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (¬2)، وكما في الصحيح: "وما تصدق أحد بعدْل تمرة من كسب طيب إلاَّ أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربِّي أحدكم فُلُوَّه (¬3) أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أُحد"، وقوله - سبحانه -: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}: التفات حسن من الخطاب إلى الغيبة لإفادة التعميم، فكأنه قال: من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين. وأتى بالجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة. 40 - {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أثبت الله - سبحانه - في هذه الآية لوازم الأُلوهية وخواصها لذاته، وهي الخلق، والرزق والإماتة والإحياء، ثم نفى هذه اللوازم عمَّا اتخذوهم شركاء له - تعالى - بقوله: ¬

_ (¬1) قيل: كان هذا حراما على النبي - صلى الله عليه وسلم - علي الخصوص. قال الله - تعالى -: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} اهـ: القرطبى. (¬2) من الآية رقم 245 البقرة. (¬3) الفلو: المهر الصغير. والفصيل: ولد الناقة؛ لأنه يفصل عن أمه.

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} المفردات: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا}: الربا؛ الفضل والزيادة، وبابه: نَصَرَ. {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ}: أي صدقة تطوع؛ لأن السورة مكية، والزكاة فرضت في المدينة. التفسير 39 - {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوعِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}: عن الضحاك في هذه الآية: هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه، لا له ولا عليه، ليس له فيه أجر وليس عليه فيه إثم. وعن ابن عباس أنه أُريد به هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه، فذلك الربا الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر صاحبه، ولكن لا إثم عليه، وفي هذا المعنى نزلت الآية، وبهذا قال عكرمة. والمعنى: وما أعطيتم من ربا - فيما تهدونه لسواكم ليزيد ويزكو في أموال الناس الذين أعطيتموهم إياه بأن يحصل لكم أكثر منه فلا يزيد عند الله، ولا تثابون عليه لأنكم لم تريدوا

التفسير 41 - {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: ظهر الفساد في البر والبحر بالجدب والقحط، والغلاء الشديد، وذهاب البركة، وكثرة المضار التي تلحق الناس والدواب، والنبات لانقطاع المطر أو قلته، وغير ذلك من كوارث البر والبحر، والبر والبحر هما المشهوران المعروفان في اللغة وعند الناس، وقال قتادة: البر: الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري، والبحر: المدن، والعرب تسمى الأمصار بحارًا لسعتها، وعن مجاهد: البر: البلاد البعيدة من البحر، والبحر: السواحل والمدن التي عند البحر. وظهور الفساد في البر والبحر بسبب شؤم ما فعله الناس من المعاصي والذنوب. وقد ابتلاهم - سبحانه - بالفساد في البر والبحر: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، قبل أَن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لكي يرجعوا عَمَّا هم فيه من المعاصي بالتوبة والإقلاع عن الذنب، كما قال - تعالى -: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). والآية تشير إلى حكم عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة. 42 - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}: هذا القول الكريم مسوق لتأكيد تسبب المعاصي في غضب الله ونكاله، أي: قل لهم - أيها الرسول -: سِيرُوا فِي الأَرضِ لِتَنظُرُوا كَيْفَ أهلك الله الأمم السابقة، وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم، ففي ذلك عظة وعبرة لردع العصاة {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}: مسوق للدلالة على أن كثرة الشرك شؤم على غير المشركين؛ لأنه تهويل لأمر الشرك وتقبيح وأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة. ¬

_ (¬1) الأعراف: 168.

{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}: أي لا يقدر أحد من شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله على فعل شيء من خواص الأُلوهية، لأَنه - جل وعلا - هو المختص بها، وقد سئلوا فلم يجيبوا عجزًا. ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا تقبل ولا تعقل شركة ما ليس بإله لمن هو إله لتجرده من لوازم الأُلوهية التي انفردت بها الذات العلية. ولتأكيد تنزهه عن الشركاء قال - تعالى -: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أي تقدس وتنزه - جل وعلا - عن أن يكون له شريك أو مثيل أو ولد أو والد، وإنما هو الأَحد الفرد الصمد، وإطلاق لفظ (الشركاء) على آلهتهم الباطلة لأنهم كانوا يسمونهم الآلهة والشركاء، ويقدمون القرابين لها. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)} المفردات: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}: الفساد؛ ضد الصلاح، والمراد به: الجدب والقحط وكثرة المضار. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}: أي؛ بما تحملت من الإثم، يقال: كسب الإثم، واكتسبه: تَحَمَّله. {عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ}: عاقبة كل شيء: آخره ونهايته.

لأحد ردّه، وذلك هو يوم القيامة، ويوم إذ يجيءُ بتفرق الناس إلى فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقيل: يتفرقون تفرُّق الأشخاص، على ما ورد في قوله - تعالى -: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} (¬1) ورجح هذا بأَنه المناسب، لأن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين لا يدرون ماذا يصنعون، ولا ما يصنع بهم. 44 - {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}: أي: كل من كفر فعليه وبال كفره بأن يصليه الله نار جهنم خالدًا فيها، لا يموت ولا يحيا، وكل من عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون ويُعدون مَنزلًا في الجنة يتخذونه مستقرًّا ومقامًا، شأْنهم في ذلك شأْن من يمهده لنفسه ويوطئه، لئلا يصيبه في مضجعه ما يؤذيه من نتوءٍ أو قضض (¬2) ونحوهما، وجمع الضمير في قوله: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} باعتبار معنى {مَنْ} ويروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} قال: في القبر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت في القبر وغيره. وتقديم الجار والمجرور في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلاَّ على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه. 45 - {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}: متعلق بيمهدون علة له، أي: يمهدون لأنفسهم منزلًا وموئلا في الجنة، لأن الله يجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما قدموا مجازاة الفضل: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله، إنه لا يحب الكافرين لكفرهم، فلذا أبعدهم عن رحمته وعاقبهم، وتفضل بحسن الجزاء على المؤمنين الصالحين. ¬

_ (¬1) الآية رقم 4 من سورة القارعة. (¬2) القضض: ما تفتت من الحصى.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} المفردات: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}: الوجه معروف، أو هو مجاز عن الذات، وإقامته: توجيهه، والدين القيم: الدين المستقيم وهو الإِسلام. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ}: لا يرده الله عنهم، وهو يوم القيامة. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يتفرقون. من: التصدُّع، وهو التفرق، وأصله: يتصدعون فقلبت تاؤه صادًا وأُدغمت في الصاد. {يَمْهَدُونَ}: أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة، كما يوطيء الرجل لنفسه فراشًا ليستريح مضجعه والمهد، والمهاد: الفراش الممهد. التفسير 43 - {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}: أي: فاتجه بذاتك قلبًا وروحًا وجسدًا نحو الدين الكامل الاستقامة وهو الإسلام، من قبل أن يأْتي يوم لا مرد له من الله بعد أن يجيء به، وإذا لم يرده - سبحانه لم يتهيأْ

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} المفردات: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}: أي المعجزات، والحجج البينات. {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}: أي فعاقبنا الذين كفروا بإهلاكهم في الدنيا. يقال: نَقَمت منه، من باب: ضرب، وانتقمت منه: عاقبته، وجَرَمَ وأجرم: اكتسب الإثم. التفسير 47 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}: هذه الآية متوسطة بين ما سبق وما لحق من أحوال الرياح وأحكامها؛ لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له، والوعيد لأعدائه، وفي ذلك تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر المطلوب بقوله - تعالى -: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حتى لا يحل بهم ما حل بأُولئك الأمم من الانتقام. والمعنى: ولقد أرسلنا قبل مبعثك رسلًا إلى أقوامهم، كما أرسلناك إلى قومك، فجاءَ كل رسول بما يخصُّه من المعجزات والحجج البينات، كما جئت قومك ببيناتك، فآمن بعض وكذب بعض، فانتقمنا ممن كفر بالإهلاك في الدنيا بسبب إجرامهم الذي أوصلهم إلى التكذيب والكفر، وكان نصر المؤمنين حقًّا علينا بإنجائهم مع الرسل وهو حق أوجبه - سبحانه - على نفسه تكرمًا وتفضلًا، كقوله - تعالى -: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ

الرَّحْمَةَ} (¬1)، وروى من حديث أبي الدرداء قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يَذُبُّ عن عرض أخيه إلاَّ كان حقًّا على الله - تعالى - أن يَرُدَّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ذكره النحاس والثعلبي والزمخشري وغيرهم. وفي الآية مزيد تشريف وتكريم للمؤمنين، حيث جعلوا مستحقين على الله - تعالى - أن ينصرهم، وفيها إشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجلهم. وظاهر الآية أن النصر لهم في الدنيا، وفي بعض الآيات - كما يقول الآلوسي - ما يشعر بعدم اختصاصه بها. قال ابن عطية: وقف بعض القراء على (حَقًّا)، والمعنى: وكان الانتقام من المجرمين حقًّا، وتكون جملة: {عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} مستأْنفة لبيان ما تميز به المؤمنون، وأنه - سبحانه - لا يخلف الميعاد. {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} ¬

_ (¬1) الآية: 12 من سورة الأنعام.

المفردات: {فَتُثِيرُ سَحَابًا}: أي تنشره. {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}: قطعًا، جمع كِسْفَة، كَحِكَم: جمع حِكْمَة، وقريء: كِسْفا بسكون السين. {فَتَرَى الْوَدْقَ}: أي المطر. {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}: من وسطه. {لَمُبْلِسِينَ}: أي لساكتين متحيرين من شدة الحزن آيسين من النجاة. {آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ}: يراد برحمة الله: المطر. التفسير 48 - {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ... } الآية. مسوق لبيان ما أُجمل فيما سبق من أحوال الرياح، أي: أنه - سبحانه - يرسلها، فتنشر السحاب، وتدفعه بقوة، وينميه الله ويجعل من القليل كثيرا حتى يملأ أرجاء الأُفق، ينشره - سبحانه - وفق مشيئته هنا وهناك، سائرًا أو واقفًا، مُطْبقًا من جانب وغير مطبق من جانب آخر، أو مطبقا إطباقًا تامًّا، ويجعله تارة أخرى قطعًا متفرقة غير منبسطة، فترى المطر يخرج من وسط السحاب، في حالتي البسط والتقطُّع، فإذا أنزله الله على بلاد من يشاء من عباده وأراضيهم استبشروا فجأة بمجيء الخصب لحاجتهم إليه، وترقبهم له، وكان شأنهم قبل تنزيله ما حكاه الله بقوله: 49 - {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}: أي: وإن كان هؤلاء قبل أن يصيبهم المطر قَنِطِينَ مكتئبين، قد ظهر الحزن عليهم ظهورًا بالغًا لاحتباس المطر عنهم. وكرر لفظ: {مِنْ قَبْلِ} للتأْكيد، وأفاد التكرير - كما قال ابن عطية - سرعة تقلب البَشَر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله - سبحانه -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ

يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان حتى يحصل التقلُّب من اليأس إلى الاستبشار فجأة {مِنْ قَبْلِ} بعده مؤكِّدًا، للدلالة على الاتصال، ودفع ذلك الاحتمال. وقال الزمخشرى: أُكِّد ليدل على بُعْد عندهم بالمطر، فيفهم منه استحكام يأْسهم. 50 - {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الخطاب لكل من يتأتى منه النظر، أي: فانظر نظر تفكير وتأمل إلى آثار رحمة الله المترتبة على إنزال المطر: من إحياء الأرض بعد موتها، وإنبات الزروع وأنواع الثمار، وفي الأمر بالنظر إلى إحياء الله - تعالى - للأرض إحياءً بديعًا بعد موتها، التنبيه إلى عظيم قدرته - تعالى - وسعة رحمته - عَزَّ وَجَلَّ - مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث. يعني: أن ذلك القادر العظيم - الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي النَّاس بعد موتهم، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات؛ فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، فهو استدلال بالشاهد على الغائب، ثم ختمت الآية بقوله - سبحانه -: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقرير لمضمون ما قبله، أي: أنه بالغ القدرة على جميع الأشياء التي من جملتها إحياءُ الموتى؛ لأن نسبة قدرته - عَزَّ وَجَلَّ - إلى جميع المقدورات سواءٌ، وهذا من المقدورات بدليل الإنشاء والبدء.

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} المفردات: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا}: أي فرأوا الزرع الذي أصابته الريح قد اصفر وشرع في الفساد بعد خُضرة ونَضْرة. {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}: أي ليظلُّن مستمرين على كفرهم، وفعله من باب: فَرِحَ. {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}: لأنهم قد أُصيبوا بالصمم، وهو ثقل السمع، والمفرد: أصم، وفعله من باب: فتح، فيقال: صَمَّ يصَم - بفتح العين فيهما - وصَمِمَ - بالكسر - نادر. {إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}: أي إذا أعرضوا عنك مولِّين، يقال: دَبَر: وَلَّى، كأَدبر: قاموس. {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}: أي لا تستطيع هداية من عميت بصائرهم، والعُمْى: من أصابهم العَمَى، وهو ذهاب البصر كله، والعَمَى أيضًا: ذهاب بصر القلب والمفرد أعمى، والفعل: كرضى: قاموس. {فَهُمْ مُسْلِمُونَ}: أي خاضعون.

التفسير 51 - {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}: أي: أُقسم لئن أرسلنا ريحًا يابسة - حارة أو باردة - على الزرع الذي زرعوه، ونبت وشب، واستوى على سوقه فضربته الريح بالصفار، فرأوه قد اصفر بعد خضرته ونضارته وشرع في الفساد، ليظلُّن (¬1) من بعد اصفرار الزرع يجحدون ما تقدم من النعم التي أنعم الله بها عليهم، ويصرون على كفرهم بالله. وفي هذا ما يشير إلى ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط حيث إنهم إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمة الله، وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته، ورزقهم المطر، أفرطوا في الاستبشار، فإذا أرسل عليهم ريحًا عظيمة فضربت زرعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله، فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله في كل حال، وأن يشكروا نعمته عليهم بالطاعة، ويحمدوه عليها، ولا يفرطوا في الاستبشار إذا أصابهم برحمته، وأن يصبروا على بلائه إذا احتبس عنهم المطر، أو اعتراهم ما يسوءهم، ولكنهم عكسوا الأمر، فأَبوا ما يجديهم، وأتوا بما يؤذيهم بكفرهم. 52 - {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}: تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا تحزن عليهم لإعراضهم، وعدم استجابتهم لك، فكما أنك ليس في قدرتك أن تُسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الذين فَقدوا القدرة على السمع، وهم مع ذلك مدبرون عنك؛ إذْ لو أقبلوا عليك لربما فطنوا الشيء من كلامك بما يرونه منك من رمز وإشارة، فبصممهم وإدبارهم فقدوا كل وسيلة للفهم والإدراك للانتفاع بمواعظك، فكانوا كالموتى في عدم السماع. ¬

_ (¬1) لظلوا هنا بمعنى المستقبل تقبل لأنه في معنى جواب (إن) ولا يكون إلا مسقبلا، ولذلك كان معناه ليظلن، ويحسن وقوعه في موضع المستقبل في الكلام من معنى المجازاة، والمجازاة لا تكون إلا بالمستقبل: قاله الخليل وغيره.

خاتمة

53 - {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}: في هذه الآية تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - أي: إن هداية هؤلاء الذين عميت بصائرهم، وماتت قلوبهم ليست لك يا محمَّد، بل هي إلى الله - تعالى - فإنه - سبحانه - بقدرته يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، وليس ذلك لأَحد سواه، فلا يَسُوْك إعراضهم عنك، ولا تذهبْ نفسك عليهم حسرات؛ لأنك لا تسمع مواعظ الله إلاَّ المؤمنين الذين استمعوا إلى أدلة التوحيد، مع استعدادهم للهداية التي خُلقت أسبابها فيهم، فهؤلاء المؤمنون خاضعون مستجيبون منقادون لأوامر الله - سبحانه. خاتمة: قال الآلوسي: نُقل عن العلامة ابن الهمام أَنه قال: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع، استدلالًا بقوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ونحوها من قوله - تعالى -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (¬1) ولذا لم يقولوا بتلقين القبر، وحكى السفاريني في البحور الزاخرة: أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى، ووافقتها طائفة من العلماء على ذلك، ورجَّحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير الطبري، وكذا ذكره ابن قتيبة وغيره، واحتجوا بما في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة - رضي الله عنهما - قال: لما كان يوم بدر وظهر عليهم - يعني: مشركي مكة - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ببضعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش فأُلقوا في طَوِيٍّ، أي: بئر من أطواء بدر، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناداهم، يا أبا جهل بن هشام، يا أُمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؛ فإني قد وجدت ما وعد ربي حقًّا. فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا روح لها؟ ¬

_ (¬1) وقالوا: إن الأصل عدم التأويل، والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق خلافه، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون.

فقال: "والذي نفس محمَّد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" زاد في رواية لمسلم عن أنس: "ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" إلى غير ذلك من الأدلة. وأجابوا عن الآية: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} التي احتج بها أصحاب الرأي الأول". فقال السهيلي: إنها كقوله - تعالى -: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ}: إن الله - تعالى - هو الذي يسمع ويهدي، وقال بعض الأجلة: لا تسمعهم إلاَّ أن يشاء الله - تعالى - أو لا تسمعهم سماعًا ينفعهم وقد ينفى الشيءُ لانتفاء فائدته، وثمرته. انتهى ما ذكره الآلوسي بتصرف، ومن أراد المزيد فليرجع إليه عقب تفسير الآية (53) من سورة الروم، والله الموفق. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} المفردات: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ}: ابتدأكم ضعفاء، وقيل: خلقكم من أصْل ضعيف، وهو النُّطفة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}: حين بلوغكم الحلم والشبيبة فتلك حال القوة. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}: ثم ردَّكم إلى أصل حالكم من الضعف بالشيخوخة والهرم. التفسير 54 - {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}:

نبه الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة إلى بعض دلائل قوته ومظاهر قدرته وعظمته ونعمته، وفي هذه الآية يشير إلى دليل آخر في نفس العبد على قدرته - تعالى - ليتدبره كما قال - تعالى -: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬1). وهذا الدليل هو تَنَقُّل الإنسان في أطوار مختلفة، من طور الضعف حين خلقه من النطفة بتحويلها وتطويرها، وإخراجه من بطن أمه ضعيفًا واهن القوى، ثم إمداده بالقوّة بعد الضعف، حيث يشتد قليلًا قليلًا حتى يصير شابًا قويّ البنيان، ثم يتحول إلى طور الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمَّة، وتتغيَّر الصفات الظاهرة والباطنة. يفعل الله ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، ومن جملة هذا ما ذكر من التَّقَلُّب بين الضَّعف والقوَّة، والشَّيبة، وهو العلم بتدبير خلقه القدير على إيجاد ما يريد. وهذا التَّرديد في الأحوال المختلفة والتغيبر من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع القدير، العلم، الحكيم. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية: 21.

المفردات: {السَّاعَةُ}: القيامة، صارت علمًا لها بالغلبة، كالنَّجم للثريا. {غَيْرَ سَاعَةٍ}: قطعة من الزمان قليلة. {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (¬1) أي: مثل ذلك الصرف كانت تصرفهم الشياطين عن الحق إلى الباطل في الدنيا. {فِي كِتَابِ اللَّهِ}: في اللَّوح المحفوظ، أو في علم الله وقضائه. {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (¬2): ولا هم يُطْلَبُ منهم إزالة عَتْب الله، أي: غضبه عليهم - وإزالته - بالتوبة والطاعة، من قولهم: استعتبني فلان فأَعتبته، أي: استرضاني فأَرضيته وتركت عتبى. التفسير 55 - {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}: يخبر الله - تعالى - عن جهل الكفار في الدُّنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون فيهم جهل عظيم أيضًا. فمنه: حلفهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصدهم بذلك عدم قيام الحجَّة عليهم، وأنهم لم يُنْظَروا حتى يصلحوا أمرهم، أو عَدُّوا مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها، والكثير الذي لا ينفع قليل، والكلام على هذا تَحَسُّر على إضاعتهم أيام حياتهم، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}: أي مِثْل ذلك الصَّرف عن الحق إلى الباطل وعن الصِّدق إلى الكذب كانت تصرفهم الشياطين في الدُّنيا، والغَرضُ من سوق الآية وصف المجرمين بالتمادى في الكذب والإصرار على الباطل، وهذا يناسب المعنى الأول. ¬

_ (¬1) إفك: كضرب وعلم، إفكا - بالكسر والفتح -: كذب، وأفكه، يأفكه، أفكا: صرفه وقلبه - قاموس ج 3 ص 292. (¬2) العتبى - بالضم -: الرضا، واستعتبه: أعطاه العتبى، كأعتبه، وطلب إليه العتبى، اهـ: قاموس ج 1 ص 100.

56 - {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: فيردّ عليهم الذين آتاهم الله العلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة: لقد مكثتم في الدنيا فترة كافية للعمل الصالح، ولكنكم كفرتم، فسجلت أعمالكم في كتبه المسجلة لها إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث الذي أَنكرتموه، ولكنكم كنتم تجهلون أنه حق، فتستعجلون به استهزاءً، وفي الآية دليل على فضل العلماء وعظيم قدرهم. 57 - {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}: أي: فيوم إذْ يقع ما تقدم من خيف الكفار وقَوْلِ أُولي العلم لهم، وذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين - فيومئذ - لا ينفع الَّذِين كفروا اعتذارهم عمَّا فعلوه من إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرُّسل، ولا يُقَال لهم: أرْضُوا ربكم بتوبة وطاعة، كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا؛ لفوات أوان العمل. والآية الكريمة إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم ولا ينجيهم من النار الاعتذار ولا يمنحون الرضا، بسبب كفرهم ومعاصيهم. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}

المفردات: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: ولقد بيّنا لهم في القرآن من كل صفة، كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ، وَضَرْبُ المثل: ذكره وبيانه. {مُبْطِلُونَ}: أصحاب أباطيل وَمُزوِّرون. {يَطْبَعُ}: يختم. {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}: ولا يحملنَّك على الخِفَّة والقلق. {الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}: لا يصدِّقون بالبعث، ولا يؤمنون بالله ورسوله إيمانًا حقًّا. التفسير 58 - {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}: أي: ولقد بينا للناس في هذا القرآن الحقَّ ووضَّحناه وضربنا لهم فيه الأَمثال ليستبينوا الحق ويتَّبعوه، وقصصنا عليهم من كل صفة عجيبة الشأن كصفة الكفار للمبعوثين يوم القيامة، وما يقولون وما يُقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم، ولا يُسْمَع من استعتابهم، ولئن أتيتهم بآية من الآيات، أو بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها أو غيرها ليقولَنَّ الذين كفروا لك وللمؤمنين الذين اتَّبعوك: إن أنتم إلاَّ أصحاب أباطيل مُزَوِّرون، وذلك لشدَّة عُتُوِّهم وعنادهم وقساوة قلوبهم. 59 - {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: أي: مثل ذلك الختم يختم الله - تعالى - على قلوب الجهلة الذين لا يطلبون العلم، ولا يتحرّون الحق، بل يصرون على خرافات اعتقدوها، وتُرَّهات ابتدعوها، فإن الجهل يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المُحِق. قال العلامة الزمخشري في الكشاف: ومعنى طبع الله، أي: منع الألطاف التي ينشرح لها الصدر حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها مَنْ عَلِم أنها لا تُجْدي عليه، ولا تُغْنِي عنه، فكأنَّه قال: كذلك تقسو وتصدأُ قلوب الجهلة حتى يُسَمُّوا المُحِقِّين مُبطلين وهم أعْرَقُ خلق الله في تلك الصِّفة. اهـ: باختصار ج 3 ص 209.

60 - {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}: أي: إذا علمت حالهم، وطبع الله - تعالى - على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السَّيئة، إن وعد الله حق، وقد وعدك - عَزَّ وَجَلَّ - بالنَّصر وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق، ولا بدَّ من إنجازه والوفاء به، لأَن وعْدَه - سبحانه وتعالى - لا يتخلَّف ولا يحملنك على القلق وعدم الصبر الذين لا يؤمنون بدعوتك، بل كذَّبوا بها وآذوك بأباطيلهم وهم شاكُّون ضَالُّون لا يُسْتَبعدُ أمثال ذلك منهم. وفي الآية من إرشاده - تعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه - سبحانه - له كيف يتلقَّى المكاره بالصبر انتظارًا للفرج، ما لا يخفى.

سورة لقمان

سورة لقمان وآياتها أربع وثلاثون، نزلت بعد الصافات وسبب نزولها: أنَّ قريشًا سألت الرسول عن قصَّة لقمان مع ابنه فنزلت. مناسبتها لما قبلها: ذكر العلماء أوْجُهًا كثيرة لمناسبة. هذه السورة لما قبلها، ونقتصر على ما يلي: ذكر في السُّورة السابقة - سورة الروم - قوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وذكر هنا في سورة لقمان قوله - تعالى -: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وكلتاهما تفيد إمكان البعث وسهولته على الله - تعالى - كذلك جاء في السورة السابقة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه السورة: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} فذكر - سبحانه - في كل من الآيتين قسمًا لم يذكره في الأُخرى، ففي الأُولى ذكر الفريق المشرك، وفي الثانية ذكر الفريق المؤمن، وبيَّن في الآيتين طبيعة الناس وما جبلوا عليه، إذا مسَّهم مكروه دعَوْا ربهم خاشعين مُخْبتين، فإذا نَجَّاهم من شدَّتهم نسى أكثرهم فضله، وجحدوا آلاءه، ورجعوا إلى شركهم، وبقي قليل منهم. كذلك ذكر في السورة الأولى هزيمة الروم ثم غلبتهم بعد قتال مرير بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تَحَارَبَا عليها وخرجا بذلك عن مقتضى الحكمة، وذكر في سورة لقمان قصَّة عبدٍ حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا مُلتفت إليها، أوْصَى ابنه بما يأْبى القتال، ويقتضي الصبر والمسالمة، وبَيْن الأمرين مِنَ التقابل ما لا يخفى. مقاصد السورة صُدّرت السُّورة الكريمة بـ (الم) إفْحَامًا للكافرين الذين تحدَّاهم القرآن أن يأْتوا بمثله مع أنه مُؤَلَّف من كلمات ذات حروف كالتي ينطقون بها في لغتهم، وتنبيهًا للآذان لتستعدَّ لسماع وقبول ما يُتْلى عليها من الهَدْي الرَّبَّاني، ثم أشارت إلى القرآن الحكيم باسم

الإشارة الذي يدلّ على البعد للفت النَّظر إلى علوّ منزلته، وذكرت أخلاق المحسنين التي تمكنُوا بها من الهدى والفلاح دون غيرهم، وعقبت ذلك بذكر نوعين من الناس: ضالٍّ مُضِلّ يُعْرض عن الإيمان حينما يُعْرض عليه، ومؤْمن صالح، وبينت جزاء كل، ثم أخذت السُّورة تلفت الأنظار إلى بعض مظاهر قدرته ودلائل نعمته، وذكرت تحدِّيَ الرسول للمشركين في قوة وصلابة بأن هذه المظاهر وتلك الدلائل مخلوقة لله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه من الشُّركاء الذين عبدتموهم، ولن يجدوا جوابًا لأن الظالمين بشركهم في ضلال مبين. ثم ذكرت وصايا لقمان لابنه وما اشتملت عليه من أخلاق ونَهْيٍ عن الشرك وأمْر ببرّ الوالدين. ثم عرضت لما خلقه الله للإنسان وأكرمه به من نعم ظاهرة وباطنة، وتحدَّثت عمن يجادل في الله بغير علم وإذا دعى إلي الإيمان واتِّباع ما أنزل الله اعتذر باتباع الآباء وتقليدهم فيما كانوا عليه، مع أنه ضلال يؤدى بهم إلى عذاب النار، ورفعت السُّورة من قدر من يَتَّجه إلى الله بوجهه، ويفوّض إليه جميع أمره، فقد تعلق بأقوى الأسباب التي توصله إلى رضا الله، وأوصت الرسول بألاَّ يهتمّ بكُفْر من كفَر، فسيرجع إلى الله ويذوق وبال أمره، ثم ذكرت الآيات أن المشركين إذا سُئِلوا عمن خلق السموات والأرض يقولون: هو الله، وهم بإقرارهم هذا لا يعلمون أنهم قد أقاموا الحجة على أنفسهم بفساد عقيدتهم. ثم صوّرت السُّورة مدى عظمة الله، وعلمه، وكلامه، بأنه لو صار كلُّ أشجار الأرض أقلامًا، ومياه البحار الكثيرة مِدَادًا تُكْتَب به كلمات الله لفنيت الأقلامُ وَنَفِذَ المداد، وما نفدت كلمات الله، ومدى قدرته بأن خَلْقَهم وبَعْثَهم كَخَلْق وبعْث نفس واحدة، ومدى قدرته وفضله بأنه يُولِج الليل في النهار، ويُولِج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجرى أجل مسمَّى، وأن الفلك تجرى في البحر بنعمته ليُريكم من آياته، وأن الناس يلتجئون إليه في المُلمات.

وأمَرَتْ السورة بتقوى الله والخشية من يوم الحساب، حيث يُجازى الناس على أعمالهم وحذرت النَّاس من أن يُفتنُوا بمباهج الدنيا أو يُخدعوا بوسوسة الشيطان، وخُتمت السُّورة ببيان مفاتح الغيب وما استأْثَرَ الله بعلمه. ومِمَّا تقدم يتضح أن أهم ما تناوَلَتْه السُّورة من أغراض ما يلي: (1) إثبات عقيدة التوحيد التي من أجلها أرسل الله جميع الرسل، وقد اشتملت السورة على مجموعة من الآيات الكونية التي تدلُّ على أن مَنْ خلَقَ هذا الكون قويٌّ قاهر، وعظيم قادر، ومُنْعِم متفضِّل جدير بأَن يُعْبَد، وأن الشرك أعظم الظلم. (2) الحث على مكارم الأخلاق التي جاءت في وصية لقمان لابنه من إقامته الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، والأمر بالمعررف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والصبر، والتواضع، وهذه هي صفات المجتمع الفاضل. (3) إعمال العقل والتفكير في ملكوت السموات والأرض. (4) ذم التقليد لأنه إنكار للعقل وتعطيل له. بسم الله الرحمن الرحيم {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المفردات: {الْحَكِيمِ}: ذي الحكمة، أو الحكيم قائلهُ. {هُدًى}: دلالة مُوصلة الي المقصود، وهو مصدر هَدَيْتُ فلانا الطريق: إذا دللته عليه.

{يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} معنى إقامتها: تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وآدابها، من أقام العود: إذا قومه. {يُوقِنُونَ}: يؤمنون أقوى الإيمان. {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: أي أولئك المؤمنون المحسنون في أعمالهم مُتَمَكِّنُون من الهدى الذي جاءهم من ربهم. التفسير 1 - {الم}: الله أعلم بمراده، وقيل: ابتدأ الله بعض السور بمثل هذه الحروف، ليشير إلى أن القرآن مؤَلف من كلمات ذات حروف من جنس ما يؤلف منه العرب كلامهم، وقد أعجز العرب عن أن يأتوا بمثله ومحمد مثلهم، فتلك حجة على أنه من عند الله، أو ليُنبه العقول والأَسماع ويشدَّها إلى الأسماع والإنصات لما يتلى. 2 - {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}: هذه الآيات العظيمة الرفيعة القدر والمنزلة آيات القرآن الكريم المكتوب، المشتمل على الحكمة والصواب والعلم النافع. 3 - {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}: هذه الآيات هداية كاملة، ورحمة شاملة للذين يعملون الحسنات التي ذكرها في الآية بعدها، أو الذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال، ثم خص الله منهم {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} لفضل اعتدادهم بها لما لها من أثر فعال في حياة الفرد والمجتمع. 4 - {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}: المُحسنون هم الذين يقيمون الصَّلاة، ومعنى إقامتها: تأديتها على الوجه الأكمل بالإتيان بها تامة دون نقص في فرائضها وآدابها، والدَّوام عليها، والمحافظة على أوقاتها، وجمع الهمة عند أدائها وعدم الفتور في أدائها، ويؤْتون الزَّكاة، أي: يُعطونها مُستحقيها،

وهم الأصناف الذين ذكرهم الله في القرآن: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } الآية (¬1). والزكاة هي العلاج الرباني الذي عَلَجَ به العليم الحكيم أمراضَ البشرية كلها، وحلَّ به مشكلة الفقر، وحقَّق به العدالة الاجتماعية التي أعجزت نُطُسَ الأطباء (¬2)، وأكابر الحكماء، وقامت من أجلها مذاهب، ونشأَت فلسفات، وكلٌّ منها يضرب في أوْدِية الضلال ما دام بعيدا عن الهَدْي والعلاج الإلهي. وهم بالحياة الآخرة يؤمنون أقوى الإيمان وأعظمه. 5 - {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: أولئك المؤمنون المحسنون الموصوفون بما سبق من الصفات مُتمَكِّنون من الهدى الذي جاءهم منحة من ربهم، وأولئك هم الفائزون حقا دون سواهم، والاستعلاءُ في قوله - تعالى -: {عَلَى هُدًى} تمثيل لتمكُّنهم من الهدى واستقرارهم عليه، وتمسكهم به، ومعنى {هُدًى}: لُطْفٌ وتوفيقٌ استعانوا بهما على أعمال الخير والترقِّي إلى الأفضل فالأفضل، ونكَّر {هُدًى} لتفخيمه، أي: أنهم على هدى لا يبلَغ كُنهُهُ ولا يُدْركُ قدْرُه. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} ¬

_ (¬1) سورة التوبة الآية 60. (¬2) أي: أمهرهم.

المفردات: {لَهْوَ الْحَدِيثِ}: كل ما شغل عن عبادةِ الله وذكره من الغناء والأَضاحيك والخرافات وغيرها، وقد رُوي ذلك عن الحسن. {سَبِيلِ اللَّهِ}: دينه الموصل إليه، أو كتابه الهادي إليه. {هُزُوًا}: مهزوءًا بها وسخرية منها. {وَلَّى}: أعرض عنها غير مُعتد بها. {مُسْتَكْبِرًا}: مُبالغا في التكبر. {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}: مع أنه سامع. {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}: الوقر الصم كليا أو جزئيا، وهو مانع من السماع. {فَبَشِّرْهُ}: أعلمه، وذكر البشار للتهكم. التفسير 6 - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}: لما ذكر الله - تعالى - حالَ السعداء وهم الّذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، ذكر عقبه حال الأَشقياء الذين أعرضوا عنه، ولم ينتفعوا بهديه، وأقبلوا على استماع الباطل وأحاديث اللهو والمجون وما لا خير فيه كالمزامير والغناء. وفي أسباب النزول للواحدي، عن الكلبي ومُقَاتِل: أن النضر بن الحارث كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشترى أخبار الأعاجم - وفي بعض الروايات: كتب الأعاجم - فيرويها ويُحَدِّث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدِّثكم بحديث عاد وثمود وأنا أُحَدِّثكم بحديث رُستم وأخبار الأكاسرة، فيستحلون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت. والمعنى: ومن الناس من اهْتَدَى وهَدَى، ومنهم من ضل وأضل، فكان يشترى باطل الحديث وما لا خير فيه من الكلام، ويقصه على الناس وينشره بينهم، ويدعوهم إليه ويحسِّنه عندهم؛ ليصرفهم ويصدهم عن دين الله، أو عن الاستماع إلى كتابه الهادي

إليه، بغير بصيرة حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، جهلًا منه بما هو عليه من إثم وما يرتكبه من جُرْم، ويتخذ آيات الله ووحيه سخرية - الذين يفعلون ذلك - لهم عذاب مُهين ومذل لهم، لما اتَّصفوا به من إهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه، ودعوة الناس إليه. وقول الله - تعالى -: {يَشْتَرِي} في الآية: إما من الشِّراء المعروف على ما رُوى عن النَّضر بن الحرث من شِرائه كتب الأعاجم، أو نحو قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} (¬1): أي استبدلوا الكفر بالإيمان واختاروه عليه؛ وعن قتادة: اشتراؤُه: استحبابه، يختارون حديث الباطل على حديث الحق. 7 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: وإذا تُقْرأُ على هذا الضَّال آيات الله أعرض عنها غير مُعْتَدٍّ متكبِّرا مُبالغًا في التكبّر، وحاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع، كأَنَّ في أذنيه صَممًا وثُقْلا مانعا من السّماع فأَنذره - أيها الرسول - بأن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة يوم القيامة يؤلمه كما تألَّم بسماع كتاب الله وآياته، وتصَامم معرضا عنها وما به من صمم، وقوله - تعالى -: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} فيه رمز إلى أنَّ من سمعها لا يُتَصَوَّر فيه التَّوْلية والاستكبار لما فيها من الأمور المُوجبة للإقبال عليها والخضوع لها. وقوله - تعالى -: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أصل معنى الوقْر: الحمل الثقيل، استعير للصم، ثم غلب حتى صار حقيقة فيه. حكم الغناء: أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن أبن عباس أنه قال: {لَهْوَ الْحَدِيثِ}: هو الغناء وأشباهه (¬2) ولقد عرض المفسِّرون لحكم الغناء وأطالوا فيه الكلام وبخاصة العلامة الآلوسي، وإليك نبذه مختصرة في هذا الموضوع: الغناء الذي يُحرك النفوس ويبعث على إثارة الشهوة لما فيه من شعر يُشَبَّب (¬3) فيه بالنِّساء ويحث على الفجور بذكر الخمور والمحرمات، لا يُختلف في تحريمه، لأنه اللهو المذموم باتفاق. بل حكى بعضهم الإجماع علي حرمته في جميع الأديان. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 16. (¬2) الألوسي. (¬3) التشبيب: النسيب بالنساء وذكر محاسنهن.

أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تبيعوا القِيان ولا تشتروهنَّ ولا تُعلِّموهن، ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهنَّ حرام" في مثل هذا أُنزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... } إلخ ذكر ذلك الآلوسي والكشاف. أمّا من سَلِم من ذلك، ففي "الدر المختار": التغنِّي لنفسه لدفع الوحشة لا بأْس به عند العامة على ما في "العناية" وصحّحه العيْني وغيره، وإليه ذهب شمس الدين السّرخسي، قال: ولو كان فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا، ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدُّفِّ فيه، ومنهم من أباحه مطلقا، ومنهم من كرهه مطلقا. انتهى كلام الدّر - ذكر ذلك الآلوسي، قال: الآلوسي: ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السَّماع، فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت: "دخل عَليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريتان تُغَنِّيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، وفي رواية لمسلم تسجَّى بثوبه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارةُ الشيطان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؟. فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد. والحق أنَّ الغناء الذي لا يُحرِّك الشَّهوة، ولا يحثُّ على الفجور وشرب الخمور، يجوز في المناسبات كالعيدين، كما ورد في حديث البخاري السابق عن عائشة، وكالعرس؛ لما ورد أن الرسول حينما علم بزواج فتاة قال: "هلا بعثتم معها من يقول: (¬1). أتيناكم أتيناكم ... فحيُّونا نُحَيِّيكم فلولا الحبة السمرا ... ء لم نحلل بواديكم" ¬

_ (¬1) في السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 289 أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت النساء إذا تزوجت المرأة أو الرجل خرج جواري الأنصار يغنين ويلعبن فمروا في مجلس فيه رسول الله وهن يغنين ويقلن: أهدى لها زوجها أكبشا ... يبحبحن في المربد وزوجها في النادى ... يعلم ما في غد فقال: "سبحان الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، لا تقولوا هكذا، وقولوا: أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم قال البيهقي: هذا مرسل جيد: هامش جمع الجوامع ص 2338 العدد التاسع عشر من الجزء الثاني.

وعند التنشيط على القيام بالأعمال الشَّاقَّة كغناء وأناشيد أصحاب الحرف والصناعات، وكحداء الإبل للصبر على قطع المفاوز واجتياز الصحراء، كما يجوز سماع ذلك، والله أعلم. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} المفردات: {جَنَّاتُ النَّعِيمِ}: أي جنات النَّعيم الكثير. {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}: أي هذا ثابت لا محالة؛ لأنه وعد الله، ووعده لا يتخلَّف. {الْعَزِيزُ}: الذي لا يغلبه شيء. {الْحَكِيمُ}: الذي لا يفعل إلا ما توجبه الحكمة، فهو يضع الشيء في موضعه. التفسير 8، 9 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: في هاتين الآيتين بيان حال المؤمنين بآياته - تعالى - إثر بيان حال الكافرين بها، أي: إنَّ الذين آمنوا بالله وبآياته وعملوا الأعمال الطيبة الصالحة لهم جنَّات يتنعمون

فيها بأنواع الترف، من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنِّساء وغير ذلك مما لا يخطر ببال أحد، وهم في ذلك مقيمون لا يظعنون، ولا يَبْغُون عنها حِوَلا، بل يبقون فيها على وجه الخلود، وهذا حاصل لا محالة؛ لأنه وعد الله، والله لا يخلف الميعاد، وهو العزيز الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولا يغلبه شيء فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده، الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي يضع الشيء في موضعه. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} المفردات: {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: عَمَد وعُمُد: جمع عمود، وعماد، وهو: ما يُعْمَد به، أي: يُسْنَد. {رَوَاسِيَ}: جبالا ثوابت أو شوامخ. {أَنْ تَمِيد}: أي لئلا تضطرب وتتحرك. {وَبَثَّ}: ونشر وذرأَ. وأصل البثّ: الإثارة والتَّفريق، ومنه قوله - تعالى -: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (¬1). {زَوْجٍ}: صنف ونوع {كَرِيمٍ}: حسن شريف، كثير المنافع. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية رقم: 6.

{خَلْقُ اللَّهِ}: مخلوقه. {فَأَرُونِي}: فأَعلموني وأخبروني. {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟. التفسير 10 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}: استئناف جيء به للاستشهاد بما فصَّل فيه على عزَّة الله التي هي كمال القدرة والغلبة، وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل. والمعنى: خلق السّموات بغير عمد مرئيَّة، فإن الله - سبحانه - أمسكه بنظام محكم غير مرئى يحفظها من السّقوط أو الانتثار، وبعد أن ذكر الله - عزَّ وجلَّ - صنعه العجيب في حفظ السموات بَيّن صنعه الحكيم في حفظ الأرض حيث وضح سبحانه أنه جعل في الأرض جبالا شاهقة ثوابت حتى لا تهتزَّ وتضطرب بكم، والحكمة اقتضت خلقها على حال لو خلت معه من الجبال لَمَاَرَتْ واضطربت، ونشر فيها من كل الحيوانات التي تدبّ وتتحرك، ولما قرّر - سبحانه - أنه الخالق نبّه على أنه الرازق بإنزاله من السماء ماء وإنباته بسببه من كل صنف بهيج كثير المنافع، حسن المنظر. والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين: (وأنزلنا - فأنبتنا) لإبراز مزيد الاعتناء بهما. 11 - {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: هذا الذي ذكره الله - تعالى -: في الآية السابقة - من إيجاد السّموات والأرض وما فيهما وما بينهما مخلوق لله، صادر عن إرادته وفعله وتقديره وحده لا شريك له، فأخبروني ماذا خلق الذين من دونه مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد حتى يكونوا شركاء له، بل الظَّالمون بإشراكهم في ضلال واضح وجهل وعمى ظاهر لا خفاء فيه، ثم انتقل من تبكيتهم بما ذكر إلى تسجيل الضلال المبين المستدعى للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة لاستحالة أن يفهموا شيئًا فيهتدوا به إلى العلم بفساد ما هم فيه فينزجروا

عنه، حيث قال: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، والتعبير بقوله: {بَلِ الظَّالِمُونَ} بدل الإضمار: للدلالة على أنَّهم بإشراكهم ظالمون بوضعهم الشيء في غير موضعه، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الدائم. {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} المفردات: {لُقْمَانُ}: هو - على ما ذكر الكشَّاف - لقمان بن باعوراء بن أخت أيّوب - عليه السّلام - أو ابن خالته، والذي عليه المحقِّقون: أنَّه كان رجلا صالحا حكيما، ولم يكن نبيّا، ولقد سجل الله في القرآن نصيحته لولده، وما سوى ذلك فإسرائيليات تفتقر إلى الدليل. {الْحِكْمَةَ}: هي على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: العاقل والفهم والفطنة. {لِابْنِهِ}: قيل: تاران - على ما قاله الطَّبري - وقيل: ماثان، وقيل: غير ذلك والله أعلم بالحقيقة. {يَعِظُهُ}: ينصحه ويخوّفه. {يَا بُنَيَّ}: تصغير إشفاق ومحبّة، لا تصغير تحقير. {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ}: لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه. {عَظِيمٌ}: لما فيه من التَّسوية بين من لا نعمة إلا منه ومن لا نعمة تصد عنه.

التفسير 12 - : {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}: كلام مستأْنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنَّقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل. والمعنى: ولقد أعطينا لقمان العقل والفهم والإصابة في القول، وأمرناه أن يشكر الله - عزَّ وجل - على ما آتاه ومنحه من الفضل الذي خصَّه به دون سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه لأَنه إنما يعود نفع ذلك وثوابه عليه، ومن كفر النعم وجحدها ولم يشكرها فإنما يكفر على نفسه؛ لأنَّ ضرر كفره عائد عليه، لأنَّه - تعالى - غنيّ لا يحتاج إلى الشكر، ولا يتضرر بالكفر، حميد حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، أو محمود بالفعل، ينطق بحمده - تعالى - جميع المخلوقات بلسان الحال. 13 - {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}: واذكر إذ قال لقمان لابنه وهو ينصحه ويذكره بما هو خير له، نصيحة أب محبٍّ لولده مشفق عليه، فهو حقيقٌ أن يمنحه أفضل ما يَعْرف، ويسُوق إليه كل ما فيه الخير له: ولهذا أوصاه أوَّلًا بأن يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا، وقال محذرًا: إن الشرك لظلم عظيم، أي: أعظم الظلم. روى الإمام البخاري بسنده المتصل عن عبد الله قال: لمَّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إيمانه بظلم؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه ليس بذاك، ألاَ تسمع إلى قول لقمان: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ورواه مسلم من حديث الأعمش - اهـ: ابن كثير. وإنما كان الشِّرك ظلمًا عظيمًا لأن التسوية بين من لا نعمة إلاَّ منه وما لاَ نعمة منه البتة، ولا يُتصور أن تكون منه نعمة، إنما هو ظلم لا يُكْتنه عِطَمُهُ. وقوله - تعالى -: {وَهُوَ يَعِظُهُ} قال الراغب: الوعظ: زجر مقترن بتخويف. وقال الخليل: التذكير بالخير فيما يرق له القلب.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} المفردات: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}: أمرناه ببرِّهما. {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}: ضعْفا على ضعف. {وَفِصَالُهُ}: وفطامه. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}: تفسير لـ "وصينا" وما بينهما مؤكد للوصيَّة في حقِّ الأُم خاصة. {إِلَيَّ الْمَصِيرُ}: إليَّ المرجع لا إلى غيري. {وَإِنْ جَاهَدَاكَ}: وإن حملك والداك بجهد. {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: أي ما ليس لك علم باستحقاقه العبادة. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}: اسلك طريق من تاب عن شركه ورجع إلى الله. التفسير 14 - {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}:

كلام مستأنف على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدًا لما في الوصية من النهي عن الإشراك، فهو من كلام الله - عَزَّ وَجَلَّ - ولم يقله - سبحانه وتعالى - للقمان، وقيل: هو من كلامه - تعالى - للقمان، وكأنَّه قيل: قلنا له: اشكر، وقلنا له: وصَّينا الإنسان ... إلخ. والمعنى: وأمرنا الإنسان بأن يرْعَى والديه ويجعل لأمِّه أوفر نصيب، وأعظم قدر من العناية والرِّعاية؛ لأنها حملته جَهْدًا على جهد، وثقلًا على ثقل، يتزايد به ضعفها، ويتضاعف؛ لأن العمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا، وقد وقَّت الله فطامه في هذه الآية بعامين، للإشارة إلى أنهما الغاية التي لا تُتَجَاوزُ، والأمر فيما دون ذلك موكول إلى اجتهاد الأُم، وظاهر الآية أن مدَّة الرِّضاع عامان، ويؤيِّده قوله - تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬1)، وإلى هذا ذهب الشافعي والإمام أحمد، وأبو يوسف. ومحمد، وهو مختار الطحاوي، وروي عن مالك، وذهب الإِمام أبو حنيفة إلى أن مدَّة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرًا، ومن أراد معرفة دليله فليرجع إلى المطولات. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}: ووصَّينا الإنسان أن اشكر لي على نعمتي عليك، ولوالديك على ما تحملا من المشقَّة فيك حتى استحكمت قواك، وشُكْرُ الله يكون بطاعته وفعل ما يرضى عنه، وشكر الوالدين بصلتهما والبرّ بهما والدُّعاء لهما، إليّ المرجج والمآب لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من خير أو شر، ومن شكر أو كفر، وهذا تعليل لوجوب الامتثال لما أمر الله. 15 - {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: وإن حملك والداك بجَهْد على أن تشرك بالله ما لا تعلم أنه يستحق العبادة فلا تطعهما وصاحبهما في الدُّنيا صِحابًا معروفًا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم والمروءة، كالقيام ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 233.

بشئونهما من طعام وكسوة، وعدم جفائهما وانتهارهما، ومن عيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا، وذكر لفظ: {فِي الدُّنْيَا} لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء، فلا يضر تحمُّل مشقتها لقلة أيامها وسرعة مُضيّها. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يريد: واسلك طريق المؤمنين في دينك، ولا تتبع سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورًا بحسن مصاحبتهما في الدنيا، ثم إلى مرجعك ومرجعهما فأجازيك على إيمانك وأُجازيهما على كفرهما. والآية الكريمة نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج ابن أبي ليلى، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي عثمان النُّهدي: أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ ... الآية} كنت رجلًا بَرًّا فلمَّا أسلمتُ قالت: يا سعد، ما هذا الذي أراك أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتُعَيَّر بي، فقال: قاتل أمِّه، قلت: لا تفعلي يا أُمَّه؛ فإني لا أدع دينى هذا بشيء، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل فَأَصبَحَت قد اشتدَّ جهدها، فلما رأيت ذلك قلتُ: يا أمّه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نَفسًا نفسًا ما تركت دينى هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية. وأخرج الواحدي، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إنه يريد بمن أناب: أبا بكر فإن إسلام سعد كان بسبب إسلامه. وقيل: من أناب، محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون. والظاهر العموم، وقوله - تعالى -: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال الزمخشري: أراد بنفي العلم به نَفْيَه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام كقوله - تعالى -: {مَا يَدْعُون مِن دُونِهِ مِن شَيء} (¬1)، وقال الآلوسي: المعنى: وإن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرًا ليس لك به علم. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآية رقم: 42.

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} المفردات: {إِنَّهَا}: أي الخصلة من الإساءة أو الإحسان. {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}: أي إن تكن في الصِّغر قدر حبة الخردل مثلًا، والمثقال: ما يُقدر به غيره لِتَسَاوي ثقلهما، وهو في العُرْف معلوم وزنه. {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ}: يُحضِرها فيحاسب عليها. {لَطِيفٌ}: يصل علمه إلى كل خفي. {خَبِيرٌ}: عالم بكنهه. {إِنَّ ذَلِكَ}: إشارة إلى ما ذُكر من الصبر على ما أصابك وغيره. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: مما عزمه الله وقطعه على عباده وأمر به. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}: أي ولا تُمِلْه عنهم، ولا تُوَلِّهم صفحة وجهك كما يفعل المتكبِّرون.

{مَرَحًا}: فرحًا وبطرًا. {مُخْتَالٍ}: متكبر. {فَخُورٍ}: كثير الفخر، يُعدِّد ما أَعْطى مباهاة. {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}: أي وتوسط فيه بين البطء والإسراع، من القصد، وهو الاعتدال. {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ}: أقبحها وأوحشها. التفسير 16 - {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}: رجوع إلى القصة بنشر بقية ما أُريد حكايته من وصايا لقمان لابنه: يا بُنَيَّ إن الحسنة أو السيئة إن تكن في الصِّغر قدر حبة الخردل مثلًا، وتكن مع ذلك في أخفى مكان وأحْرَزه كجوف الصَّخرة، أو كانت في العالم العلوي أو السُّفليّ، يحضرها الله ويحاسب عليها. والحكمة في هذا الترتيب - كما جاءَ في البحر لأبي حيان - أنه بدأ بما يتعقله السامع أولًا، وهو كينونة الشيء في صخرة، ثم عقبه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع، ثم عقبه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض. {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يحضرها يوم القيامة فيحاسب عليها، وهو إما على ظاهره، أو معناه: يجعلها كالحاضر المشاهد للتذكير والاعتراف بها، وهو أبلغ من قوله: (يعلمه الله) ففيه مع العلم بمكانه: القدرة على الإتيان به، وذلك لأن الله لطيف يصل علمه وقدرته إلى كل خفي، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقَّت ولَطُفَت واستترت، خبير عالم بكُنههِ ومُستَقَرّه، فهو خبير بدبيب النملة السَّوداء على الصخرة الصَّماء في الليلة الظلماء. 17 - {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: بعد ما أمَرَ لقمان ولده بالتَّوحيد الذي هو أوَّل ما يجب على المكلَّف - في ضمن النهي عن الشَّرك - ونَبَّهه إلى كمال علمه - تعالى - وقدرته - عز وجل - أمره بالصَّلاة التي هي أكمل

العبادات - تكميلًا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد - فقال مُستَمِيلًا له: يا بُنَيَّ أقم الصلاة بأركانها وشروطها في مواقيتها، تكميلًا لنفسك، وأمر غيرك بما عرف حسنه شرعًا وعرفًا، وانْهَهُ عن القبيح والمنكر تكميلًا له. والمعروف: ما حسَّنه الشَّارع وأَمر به، والمنكر: ما أنكره الشارع وقبَّحه ونهي عنه. والظاهر أنه أمره بكل معروف ونهاه عن كل منكر، وخص بعضهم المعروف بالتوحيد، والمنكر بالشرك. ثم قال له: واصبر على ما أصابك من الشدائد والمحن في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن الصَّبر على ما أصابك وعلى سائر ما أُمرت به من عزم الأمور، أي: مما عزمه الله - تعالى - وأمر به أمر إيجاب وإلزام، فلزم قَبُولُه والعمل به والحرص عليه، وهذا تعليل لوجوب الامتثال لما سبق من الأمر والنهي. 18 - {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: ولا تستكبر على الناس، بل ألِن جانبك لهم، وأقبل عليهم متواضعًا، ولا تُوَلِّهم شِقَّ وجهك وصفحته كما يفعله المتكبِّرون إعجابًا بأنفسهم لأن الله لا يحب كل مختال فخور وأصل الصَّعَر: داءٌ يَعتري البعير فيلوى منه عنقه، ويستعار للكبر، ولا تمش في الأرض مرحًا وبطرًا كما يمشي المختالون المتكبرون؛ لأن الله - سبحانه - لا يُحبُّ كل مختال فخور. والمختال: المتكبِّر، وهو مأخوذ من الخيلاء وهو التَّبَختر في المشي كِبرًا، والفخور: كثير الفخر، وهو المباهاة، ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لغيره، والتعبير بفخور وهي من صيغ المبالغة، ولأن ما يقبح من الفخر كثيرة فإن القليل منه معفو عنه لابتلاء الناس به، فلطف الله - تعالى - بالعفو عنه، وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهدين بين الصَّفَّين، وبإباحة الفخر بنحو المال لقصد حسن كالتحدث بنعمة الله. 19 - {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}: بعد النهي عن المرح في المشي أمر - سبحانه - بالتوسط فيه بين البطء والإسراع في تواضع، وذلك أليق بالمسلم، وأبعث على الهيبة والوقار، فقال: واقصد في مشيك، من

القصد: وهو الاعتدال، أَي: لا تَدِب دبيب المُتَمَاوتين ولا تثِب وثْبَ الشُّطَّار. قال ابن مسعود: كانوا يُنهَون عن خَبَب اليهود ودبيب النَّصَارى، ولكن مشيا بين ذلك، أما قول عائشة تصف عمر: كان إذا قال أسْمَع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أَشبع، وإذا مشى أسرع، فالمراد بالإسراع التوسُّط، وما فوق دبيب التَّمَاوُت، وكذلك ما ورد من صفته - عليه الصلاة والسلام -: "إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب" (¬1) فالمقصود به نشاطه - عليه الصلاة والسلام - وقُوَّتُه، لا الإسراع، لنهيه - عليه الصلاة والسلام - عنه حيث قال: "سرعة المشى تُذهِب بهاء المؤمن". واخفض من صوتك وانقص منه واجعله قصدًا، ولا ترفعه إذا تكلَّمت، فذلك أوقر للمتكلم، وأَبسط لنفس السامع وفهمه، إن أقبح ما يُستنكَر من الأصوات ويُستَكرَه: لصوت الحمير، والجملة تعليل للأمر بالغضِّ من الصوت على أبلغ وجه وآكده، حيث مثل حال الرَّافِعِين أصواتهم بحال الحمير في نهاقهم، وفي ذلك من المبالغة في الذَّمَّ والتَّهجين والتَّثبِيط عن رفع الصوت والتَّرغيب عنه ما فيه، ولقد رد الله - سبحانه وتعالى - بهذا على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بِجَهَارة الصوت ورفعه، مع أن ذلك يؤذى السَّامع؛ إذ يَقرع الصَّمَاخ بقوة، وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأُذن. {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} ¬

_ (¬1) في القاموس: الحط: الحدر من علو إلى أسفل. الصبب - محركة -: تصبب نهر أو طريق يكون في حدور.

المفردات: {سَخَّرَ}: ذَلَّل، والتسخير - على ما قاله الراغب -: سياقه الشيء إلى الغرض المختص به قهرًا. {وَأَسْبَغَ}: أتم وأكمل. {نِعَمَهُ}: جمع نعمة، وهي: كل نفع قصد به الإحسان. {يُجَادِلُ في اللهِ}: يجاور ويخاصم وينازع في توحيد الله وعبادته وصفاته. {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}: ليس معه من الله برهان، ولا هدى رسول، ولا كتاب مرشد. {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله}: على رسوله من الشرائع المطهرة. {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، يريدون عبادة ما عبد آباؤهم من دون الله. التفسير 20 - {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ في اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}: رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصَّة لقمان، من خطاب المشركين وتوبيخهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد. والمعنى: قد رأيتم أن الله سخر لكم وذلَّل ما في السموات: الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك، وما في الأرض: البحار والأنهار والثِّمار والمعادن والدَّواب وما لا يحصى وأتم عليكم نعمه الظاهرة منها، وهي ما تُعْلَم بالمشاهدة، كغلبة الإِسلام والنُّصرة على الأعداء وحسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والسمع والبصر واللسان وسائر الجوارح، والباطنة: وهي ما لا تعلم إلاَّ بدليل، أو لا تعلم أصلًا، مثل: المعرفة والقلب، والعقل والفهم. وكم في بدن الإنسان وحياته من نعمة لا يعلمها ولا يَهتدي إلى العلم بها، وصدق الله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 18.

ومع هذه النعم فمن الناس من ينازع ويخاصم في توحيده - عزَّ وجل - وفي صفاته - جل شأنه - كالمشركين المنكرين وحدانيَّته - سبحانه - وعموم قدرته - جلَّت قدرته - وشمولها البعث. والإظهارُ بدل الإضمار في قوله - تعالى -: {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} بذكر الاسم الجليل - تهويل لأمر الجد فيه، وهذا الفريق الضَّال من الناس يفعل ما يفعل بغير علم مستفاد من دديل عقلي، ولا هُدى راجع إلى رسول مأخوذ منه، ولا كتاب أنزله الله - تعالى - ذي نور واضح الدلالة على المقصود، منقذ من ظلمة الجهل والضلال، بل يجادلون لمجرد التقليد واتِّباع ما كان عليه الآباء. وقوله - تعالى -: {يُجَادِلُ} من الجدال، وهو: المفاوضة على سبيل المنازَعة والمغالبة، وأصله من: جَدَلْت الحبل، أي: أحكمت فَتْلَه، كأن المتجالدين يَفْتِل كل منهما صاحبه عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة. 21 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}: وإذا قيل لهؤلاء المجالدين في توحيد الله المنازعين في عبادته وصفاته: اتَّبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشَّريعة المطهَّرة، والدين الحق، وعقيدة التوحيد، قالوا: بل نتَّبع ما وجدنا عليه آباءنا فنعبد ما عبدوا من الأصنام والأوثان، ولم يكن لهم حجة في هذه العبادة إلا اتباع آبائهم الأقدمين، والاقتداء بالسالفين، ولو كانوا في ضلال مبين، ولقد عاب الله عليهم هذا النطق العجيب فقال: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}: أي: أيتَّبعونهم وينهجون منهجهم ويقلدونهم تقليدًا أعمى بلا تفكير ولا إعمال عقل، ولو كان الشيطان يدعو المجادلين وآباءهم إلى ضلال يُفضِي بهم إلى عذاب النار التي تتسعَّر وتلتهب؟

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}. المفردات: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}: يخلص ويفوض إلى الله جميع أُموره. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: فقد تعلق بأوثق ما يُتعلق به من الأسباب وأشده. {عَاقِبَةُ الْأُمُور}: مصير الأُمور ونهايتها. {فَنُنَبِّئُهُمْ}: فنخبرهم. {ذَاتِ الصُّدُورِ}: خبيئة القلوب ودخيلتها. {نَضْطَرُّهُمْ}: نلجئهم ونلزمهم. {عَذَابٍ غَلِيظٍ}: عذاب شديد ثقيل. التفسير 22 - {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ .. } الآية: بين الله في الآية السابقة حال الشرك المجادل التشبث بدين آبائه، المصرّ على تركه، ويبين في هذه الآية حال المسلم المستسلم لله المصدق بتوحيده، القائم على طاعته. والمعنى: ومن يسلم نفسه إلى الله بأن يفوض إليه - تعالى - جميع أُموره، ويقبل عليه قلبا وقالبا، وهو محسن خلص في أعماله وأقواله، فقد استمسك وتعلق بأقوى ما يتعلق به من الأسباب الموصلة إلى سعادة الدنيا، ونعيم الآخرة، وإلي الله عاقبة الأمور ومصيرها

كلها، فهي صائرة إليه لا إلى غيره، وليس لأحد سواه - جل وعلا - تصرف فيها بأمر أو نهي، أو ثواب أو عقاب - سبحانه - يجازي من أسلم وجهه إلى الله، وأخلص التفويض إليه، كما يجازي المجادل المماري فيه، يجازي كلاًّ بما يستحقه ويليق به: بمقتضى عدله وحكمته. وفي قوله - تعالى -: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} تمثيل حال المتوكل على الله المشتغل بالطاعة بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه، ليتيسر له تحقيق مراده. 23 - {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ .. } الآية. هذه الآية رجوع إلى بيان حال الكافر. والمعنى: ومن كفر من هؤلاء المشركين فلا تحزن على كفره، ولا يهمك أمره: فقد أبلغت وليس عيك إلا البلاغ، وما أضر بذلك إلا نفسه، فإن الله - تعالى - سينتقم منه ويعاقبه أشد عقاب، ولهذا قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}: أي إلينا لا إلى غيرنا رجوعهم بالبعث فنُعْلِمهم على وجه التبكيت والتقريع مما عملوا في الدنيا من الكفر والمعاصي، ونجازيهم بما يستحقون من العذاب والعقاب {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: إن الله - تعالى - واسع العلم بحقيقة ما في القلوب وضمائرها، لا يخفى عليه سرها، كما لا تخفى عليه علانيتها، ولا يفوته شيء من الجزاء عليها. 24 - {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}: أي: ننفعهم زمانًا، أو نفعًا قليلًا في دنياهم بأن نيسر أمورهم، ونوسع عليهم أرزاقهم، ثم نلجئهم إلى عذاب غليظ ثقيل يجمع إلى الإحراق بالنار الضغط والتضييق، مع إلزامهم ذللك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما أُلجىء إليه. وعبر عن متاعهم في الدنيا بالقلة، لأن متاعها مهما توفر وتكاثر، وتعددت أنواعه وألوانه، وتطاولت أيامه فهو قليل جدًّا إذا قوبل بما عند الله، وما أعد للمتقين في دار الجزاء، وكل زائل قليل، وعُمُره وإن طال قصير.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)} التفسير 25 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .. } الآية. هذه الآية ترقٍّ في تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد تسليته بقوله - تعالى -: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} فإن انتزاع اعترافهم بقدرة الله - تعالى - في خلق السموات والأرض اعتراف بصدقك في دعوى الوحدانية، وتسجيل لسفههم في تكذيبك وفي إشراكهم بخالق السموات والأرض. والمعنى: ولئن سألت - أنت أيها النبي الكريم - هؤلاء الشركين، أو سألهم أي مخاطب غيرك: من خلق السموات والأرض وأحكم خلقهما وأبدع صنعتهما على نظام لم يعتره اضطراب، ولم يطرأ عليه خلل منذ عرفهما الإنسان؟ ليقولن: خلقهن الله، لأنهم في شركهم بعبادتهم معترفون بوحدانيته في خلقهن. {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} قل يا محمد: الحمد لله على إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان شركهم وكذبهم، أو قل: الحمد لله على وضوح دلائل التوحيد بحيث لا يجحدها كافر، ولا ينكرها مكابر، أو قل: الحمد لله الذي هدانا إلى التوحيد وصدق الإيمان، ولم يقدر علينا اللجاج والعناد فيما هو ظاهر الشواهد، واضح البراهين. وقوله - تعالى -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} معناه: بل أكثرهم ليسوا أهلا للعم، ولا من ذوي الرأي والتفكير السديد. أو: بل أكثرهم لا يعلمون أن هذا الاعتراف حجة عليهم، يقيم الدليل على جهلهم وعنادهم.

26 - {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}: هذه الآية إبطال لشركهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكًا لمالكه في ملكه، فكيف يكون شريكًا له في العبادة؟. والمعنى: لله ما في السموات والأرض خلقا وملكا وتصرفا، وليس لأحد سواه فيهن شأن استقلالا أو شركة، فلا يستحق العبادة غيره بوجه من الوجوه. وقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} معناه: أنه - تعالى - هو الغني عن كل شيء، فليس محتاجًا إلى شريك أو غيره، المحمود من مخلوقاته بلسان المقال أو بلسان الحال. وهذا التعقيب بعد قوله - تعالى -: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لدفع حاجته - تعالى - إلى شريك له فيهما، أو إلى عبادة عابد منهما، وإنما استعبدهم لمصلحتهم، فهو المستحق للعبادة وإن لم يعبدوه، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} المفردات: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ}: من مد الدواة إذا زادها من المداد وهو الحبر، ويطلق المد والمادة على مطلق الزيادة. {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}: ما فنيت ولا انتهت؛ لأن كلماته - تعالى - ليست قاصرة على القرآن الكريم. {بَعْثُكُمْ}: عودتكم إلى الحياة بعد الموت.

التفسير 27 - {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ .. } الآية: قال ابن عباس: إن سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالت: يا محمد!! كيف عُنينا بهذا القول؟ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، وعندك أنها تبيان لكل شيء، فقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "التوراة قليل من كثير" فنزلت الآية. والمعنى: ولو ثبت أن ما في الأرض من جميع أنواع الشجر أقلام، وصار البحر على اتساعه وامتداده مدادًا يمده ويزيده من بعده سبعة أبحر مثله في السعة وكثرة الماء، فكتبت بهذه الأقلام وهذا المداد كلمات الله وأوامره في كونه وملكوته، ما فنيت ولا انتهت كلمات الله لعدم تناهيها، بل تفنى الأقلام وينتهي المداد دون أن تنتهي كلماته - تعالى - فإن كلام الله في شئون كونه أمرا ونهيا وإيجادًا وإعدامًا وغير ذلك لا ينتهى، والمكلفون به من الملائكة وغيرهم لا يحصونه عددا {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ}: قادر غالب لا يعجزه شيء {حَكِيمٌ}: لا يخرج عن الحكمة ما يتكلم به. هذا وفي الآيات مباحث منها: 1 - أن المراد (بشجرة) كل أنواع الأشجار النى يمكن أن تؤخذ منها الأقلام، والنكرة قد تعم في الإثبات كما في قوله - تعالى -: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}. 2 - اختيار جمع القِلَّة في {أَقْلَامٌ} مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه، وإيثار جمع القلة في الكلمات (وجمع المؤنث من قبيل القلة) للإيذان بأن ما ذكر لا يفي بالقليل منها فكيف بالكثير. 3 - ليس المراد بذكر العدد في قوله: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} خصوص العدد، وإنما المراد الكثرة، واختير عدد (سبعة) بخصوصه من بين الأعداد لأن كثيرا من المعدودات التي لها شأن سبع، كالسموات، والكواكب السيارة، وأيام الأسبوع إلى غير ذلك.

27 - {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}: توسطت هذه الآية الآيات التي تتحدث عن قدرة الله وتعدد آثارها، للإيذان بأن من له هذا الكون العريض لا يصعب عليه خلقُنا ولا بعثنا، فقد ورد أنها نزلت في أُبي بن خلف، ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله - تعالى - قد خلقنا أطوارا: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم تقول: إنا نبعث جميعًا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟. والمعنى: ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم بعد الموت يوم القيامة إلا كخلق نفس واحدة وبعثها في السهولة واليسر والتأتي بالنسبة إليه - عَزَّ وَجَلَّ - لأنه لا يشغله شأن عن شأن، ومناط وجود الكل تعلق إرادته - تعالى - وقوله للشيء: كن فيكون {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}: أي: إن الله - تعالى - عظيم السمع والبصر يسمع ويبصر جميع مخلوقاته لا يشغله بعضها عن بعض. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}

المفردات: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}: يدخل كل واحد منهما في الآخر فيتفاوت بذلك حالهما طولا وقصرًا. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: سيرهما، وذللهما طلوعًا وأُفُولًا. {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قيل: هو يوم القيامة. وقيل: منتهى دورتهما. {الْفُلْكَ}: السفينة، ويطلق على الواحد والجمع. {صَبَّارٍ شَكُورٍ}: كثير الصبر على البلاء والشكر على النعماء. {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ}: غطَّاهم وأحاط بهم. {كَالظُّلَلِ} الظُّلل: جمع ظلَّة، وهو ما يستظل به من جبل وسحاب وغيرهما. {مُقْتَصِدٌ}: مقيم على القصد السوى من التوحيد. {يَجْحَدُ}: ينكر ويكفر. {خَتَّارٍ}: شديد الغدر. {كَفُورٍ}: مبالغ في الكفر. التفسير 29 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ... } الآية: هذه الآية شروع في تفصيل بعض آثار القدرة المتمثلة في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وتوضيح نعمه على خلقه، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عام لكل من يصلح للخطاب. والمعنى: ألم تعلم علمًا قويًّا جاريًا مجرى الرؤية البصرية أن الله - تعالى - يدخل جزءًا من كل واحد من الليل والنهار في الآخر ويضيفه إليه، فيختلف بذلك حالهما طولا وقصرًا، وذلل الشمس والقمر، وهداهما لمصالح خلقه طلوعًا وأفولًا، كلٌّ من النيرين يجرى في فلكه

إلى أجل سماه الله وحدده، لا يعدوه ولا يقصر عنه، قيل: هو يوم القيامة، وقيل: إلى منتهى ومدار معلوم، الشمس تجرى فيه إلى آخر العام والقصر يسرى فيه إلى آخر الشهر .. وهذا الإيلاج بالنسبة لعالمنا الأرضي والعوالم المماثلة لنا، وليس عند الله ليل ونهار، وقدمت الشمس على القمر في قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لأنها كالمبدإ للقمر، ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر، وعطف {سَخَّرَ} الماضي على {يُولِجُ} المضارع، فخالف بين المعطوفين لأن إيلاج واحد من الليل والنهار في الآخر متجدد يختلف طولًا وقصرًا، وحرارة وبردًا، بخلاف تسخير الشمس والقمر، فإنه لا تجدد فيه ولا تعدد، إنما التجدد والتعدد في آثاره كما يشير إليه قوله - تعالى -: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. وقوله - تعالى -: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} معطوف على {أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ} داخل في حيز الرؤية؛ فإن من شاهد مثل ذلك الصنع لا يكاد يغفل عن كون صانعه - عز وجل - محيطًا بجلائل أعماله، خبيرًا بدقائقها، فلا يَنِد عنه أمر من أُمورها، ولا يخفى عليه شأن من شئونها. 30 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}: أي: ذلك المذكور من الآيات الكريمة، والمشاهد الواضحة من سعة العلم، وكمال القدرة، واختصاص الباري - تعالى - بذلك ثابت بسبب أن الله - تعالى - وحده هو المتقق في ذاته وفي جمع صفات الكمال اللائقة بربوبيته، وأن ما يدعونه من دونه من الآلهة الباطل المعدوم الذي لا يقوم على أُلوهيته دليل، وأن الله هو العلي على جميع الأشياء، الكبير عن أن يتصف بنقص، أو أن يكون له شريك. 31 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: تصور هذه الآية مظهرًا آخر من مظاهر قدرته، ومشهدًا من مشاهد آياته في الأرض بعد أن صورت الآيات السابقة مظاهر القدرة في السماء.

والمعنى: ألم تعلم - أيها المكلف - علمًا يقينيا آخر تضمه إلى علمك السابق تعميقًا للإيمان، وتجسيدًا للحقائق - ألم تر وتعلم - أن السفن تجرى في البحر بنعمة الله - تعالى - وقدرته على تهيئة أسباب الجري من الريح، وانسياب الماء، وحفظ الله لها، أو بنعمة الله التي تحملها من الطعام والمتاع والأغراض؛ ليريكم رأي العين آياته الناطقة بأُلوهيته، الشاهدة بعظيم قدرته. إن في كل ما ذكر من الآلاء والمشاهد لآيات عظيمة في دلالتها كثيرة في عددها لكل صبار كثير الصبر على البلاء، شكور عظيم الشكر على النعماء، والراد من الصبار الشكور: المؤمن. لأن الصبر والشكر عمدتا الإيمان، فقد ورد "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر" كما أن التعقيب بهما على ركوب الفلك يُلمِع إلى مناسبة دقيقة لأن الراكب الفلك إذا كان مؤمنًا يكون غالب بين صبر عند أسباب الفزع وشكر عند أسباب الأمن. 32 - {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}: تسير هذه الآية مع جري السفينة وتحكي أحداث البحر، فإن راكبه كثيرًا ما يكون عرضة لغضبته وثورة الموج، واهتياج الماء فيتملكه الهلع. والمعنى: وإذا غشي ركاب البحر وغطاهم وأحاط بهم موج هائج متعالٍ كالجبال والسحب التي تعلو الرءُوس، وأحدق خطر الغرق بهم خلصت نفوسهم مما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الخوف الشديد فاتجهوا جميعًا إلى الله مستجيرين داعين مخلصين له الدين أن يؤمّن خوفهم ويبدد فزعهم، فلما قدر لهم النجاة، ووصلوا إلى بر السلام والأمن عاودتهم نزعات الشر، وغلبهم سلطان الهوى والضلال، وانقسموا، فمنهم مقتصد، أي: مقيم على القصد، أي: الطريق السوي وهو التوحيد، باق على الإخلاص الذي كان عليه في البحر عند الفزع، ومنهم جاحد راجع إلى كفره وإنكار فضل الله عليه، وما يجحد بآيات الله وينكرها بعد قيام البراهين عليها إلاَّ كلُّ ختَّار غدار شديد الغدر لا يذكر فضلا ولا يحمد معروفًا، كفور مبالغ في الكفر مجرد من الانتفاع بآيات الله - تعالى - وإدراك نعمه، فقوله - تعالى -: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} في مقابل {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قائم مقام عبارة "ومنهم جاحد" مع تضمنه ذم الجاحد، والإيجاز من ألوان البلاغة.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} المفردات: {وَاخْشَوْا يَوْمًا}: هو يوم القيامة. {لَا يَجْزِي}: لا يغني ولا يقضي. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ}: فلا تلهينكم ولا تخدعنكم. {الْغَرُورُ}: الشيطان؛ لأنه يغر الإنسان ويخدعه، وأصل الغرور: صيغة مبالغة من غرَّه: إذا أصاب غَرَّته، أي: غفلته ونال منه ما يريد. التفسير 33 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا ... } الآية. تتجه السورة في نهايتها وبعد الذي ذكرته من دلائل التوحيد، ومظاهر النعم - تتجه إلى الأمر بالتقوى، وتجنح إلى العظة والتخويف من لقاء الله، فتوجه هذا النداء الذي تحس منه النفس المطمئنة معاني الإشفاق، ولمسات الرحمة والإحسان، وتعم به جميع المخلوقين مؤمنين ومشركين حتى تنقطع منهم الأعذار، ولا يبقى لأحد عتب ولا تعلَّة. والمعنى: يأيها الناس آمنوا بالله ربًّا، واتقوه حق تقواه، فافعلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وخافوا يومًا لا ينفع فيه مال ولا جاه، يوم القيامة الذي لا يغني والد عن ولده ولا يقضي عنه شيئًا، ولا مولود هو مغنٍ عن والده ولا قاضٍ عنه شيئًا، وكل

يواجه عمله ويلقى جزاءه، فينال ثوابه أو عقابه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} (¬1). واختلاف التعبير بين {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} وبين {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} لأنه - تعالى - لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره - عز وجل - وأوجب على الولد أن يكفى والده ما يسوءُه، قطع - سبحانه - هنا وَهْم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة، كما أوجب الله عليه ذلك في الدنيا. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: إن وعد الله بالقيامة - والبعث متحقق ثابت لا يخلف، وذكر الآلوسي أن المراد بوعد الله: الثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد، أو هو على معناه اللغوي، وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه، وأما عدم إخلاف الوعيد بالعقاب ففيه كلام، والحق أنه لا يخلف أيضًا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين ليس من إخلاف الوعيد في شيء، لما أن الوعيد في حقهم كان معلقًا بشرط لم يذكر ترهيبًا وتخويفًا. وقيل: المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: ولا يلهينكم الشيطان ويصرفنكم عن الطاعات، ويحملكم على المعاصي بتزيينها لكم. وعن أبي عبيدة: "كل شيء غرّك حتى تعصي الله - تعالى - وتترك ما أمرك - سبحانه - به غرور، شيطانًا أو غيره" وإلى ذلك ذهب الراغب، قال: "الغرور: كل ما يغر من مال وجاه وشهوة وشيطان". ¬

_ (¬1) سورة عبس، الآيات: 34 - 37.

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} المفردات: {السَّاعَةِ}: القيامة. {الْغَيْثَ}: المطر. {وَمَا تَدْرِي}: وما تعلم. التفسير 34 - {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ... } الآية. أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلًا يقال له: الوارث بن عمرو جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد!! متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا، فمتى تُخْصِب؟ وقد تركت امرأتي حاملًا، فمتى تلد؟ وقد علمتُ ما كسبتُ اليوم، فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت، فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية، وهي وثيقة الارتبارط بما قبلها، فقد تعرض ما قبلها لذكر يوم القيامة، فتهيأت بذلك الأذهان للسؤال عنه، وجاء الجواب عن هذا السؤال وعن مثله مما استأثر الله بعلمه. والمعنى: إن الله - تعالى - وحده عنده عدم قيام الساعة استأثر به لحكمة يعلمها، ولم يعط علمه لنبي مرسل، ولا لملك مقرب {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في وقته بلا تقديم ولا تأخير، وفي بلد لا يتجاوزه إلى غيره، وبمقدار تقتضيه حكمته، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} من ذكر أو أُنثى، تام أو ناقص، وغيرها من أحوال الأجنة في بطون أمهاتهم.

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}: أي لا تعلم كل نفس برة أو فاجرة، عاجزة أو قادرة، مؤمنة أو كافرة، ما يجرى عليها من الرزق أو من الأعمال في غدها. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي: وما تعلم نفس - أية نفس - في أي مكان أو زمان تموت. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي: إن الله واسع العلم فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء التي من جملتها مفاتح الغيب، خبير يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها. واختلاف التعبير بين الجملة الاسمية في قوله - تعالى -: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} والجملة الفعلية بعده في قوله - تعالى -: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} للدلالة بالتعبير الأول على مزيد الاعتناء باختصاص أمر الساعة، وعلى شدة خفائها، وبالتعبير الآخر على استمرار تجدد المتعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص. وهكذا تنتهى سورة لقمان بذكر مفاتح الغيب التي استأثر الله بعلمها، كما تدل عليه الأحاديث والآثار؛ فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: متى الساعة؟ فقال للسائل: ما السئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربَّها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْمِ في البنيان، هن في خمس لا يعلمهن إلاَّ الله - تعالى - ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... } الآية. هكذا في بعض الروايات، ولعل هذا الاستئثار بهذه الخمس من قيض رحمة الله - تعالى - ومزيد فضله؛ لتأخذ الدنيا حظها من التعمير في غير تخوف ولا تعويق، وليعلم الخلق أن مفاتيح رزقهم عند الله، وأسبابه عنده، فيقبلوا عليه بالدعاء، وينقطعوا إليه بالرجاء، وليرضى كل إنسان بما يقضي له الله به من الذرية ذكورًا أو إناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا، وليبيت كل مخلوق معتمدًا على ربه فيما يجرى عليه من رزق في غَدِه، فلا تغره قوته ولا تخدعه حيلته ومهارته، ويسعى لتحصيله حيث كان، حتى يدركه أجله فيما لا يعلمه من مكان وزمان. وليست المغيبات محصورة في هذه الخمس، وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها، أو لأنها كثيرًا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها، وبالجملة فالمغيبات لا تتناهي، فسبحان العليم الخبير.

سورة السجدة

" سورة السجدة" سورة السجدة مكية، وعدد آياتها ثلاثون آية، وتوافقها في عدد آياتها سورة (الملك) كما تشاركها في بعض الفضائل، وتسمى هذه السورة سورة المضاجع؛ لقوله - تعالى -: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} كما تسمى سورة "سجدة لقمان" تمييزًا لها عن سورة (حَم) - فصلت - فإنها تسمى أيضًا سورة السجدة. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل منهما على دلائل الأوهية. وفي البحر: لما ذكر - سبحانه - فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول، ثم ذكر - جل وعلا - المعاد وهو الأصل الثاني وختم به السورة، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة. وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها: إنها شرح لمفاتح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبلها فضل هذه السورة: جاء في فضلها أخبار كثيرة: منها ما أخرجه أبو عبيدة في فضائله، وأحمد، وعبد بن حميد والدارمي، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن جابر قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ: {الم تَنْزِيلُ ... السجدة}، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها هي وهل أتى في صلاة فجر الجمعة، أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة: الم تنزيل: السجدة، وقيل أتى على الإنسان". ما تشتمل عليه السورة: بدأت هذه السورة مما بدأت به سور كثيرة من القرآن الكريم بسرد حروف من المعجم، وإتباع ذلك بالحديث عن القرآن، ببيان أنه تنزيل من رب العالمين لا مجال فيه لشك،

ولا مدخل لريبة، وبرفض مزاعم المشركين أن رسول الله افتراه من عنده، وبيان أنه الحق المنزل علية من ربه لينذر به قومه الذين لم يسبق لهم إنذار قبل بعثته، لأنه أول رسول أُرسل فيهم، فإن إسماعيل - عليه السلام - كان قد أرسل إلى قبيلة جُرهُمَ وهم من العرب العاربة، وقد نشأت العرب المستعربة من ذريته مع جرهم، وفيهم أُرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أول رسول للعرب المستعربة. ثم تنتقل الآيات بعد تقرير إرسال الرسول وإنزال القرآن عليه إلى ذكر دلائل من قدرة الله المتمثلة في خلق السموات والأرض، واستيلائه على عرشه، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ليعرج إليه يوم القيامة، وهو العالم بكل شيء الذي أحسن كل شيء خَلَقه، وبدأ خلق الإنسان (آدم) من طين على وجه بديع، وفطرة عجيبة، ثم نسل منه ذريته، ونفخ فيها من روحه، وجعل لها السمع والأبصار والأفئدة لتتيسر لها وسائل الحياة فتشكر نعمه - تعالى - وتحمد فضله، ولكنها قليلًا ما تؤدي شكر ذلك. ثم تعرض لحال المشركين واستبعادهم البعث بعد أن يموتوا وتتحلل أجزاؤهم، وتتيه في التراب وتضل في أجزاء الأرض، وتقرر أن الموت حق عليهم تتوفاهم الملائكة الموكلون بهم، ثم يرجعون إلى ربهم، ويبعثون ليوم عظيم يقفون فيه بين يدي الله خزايا يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فات، وهيهات هيهات!!!! ثم تذكر الآيات حكمة الله السامية في اختلاف أحوال الخلق بالإيمان والكفر - ولو شاء لآتى كل نفس هداها - ليكون لجهنم عمارها من الجِنّة والناس أجمعين، وليذوقوا عذاب الخلد بما كانوا يعملون، من الإشراك بربهم، ونسيان لقائه وجحد جزائه. ثم تشيد الآيات بذكر المؤمنين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وما أُعد لهم من نعيم مقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ثم تقرر الآيات أن إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم شأن قديم، وسنن طبعي لا يحتمل ريبة، وقد أنزل التوراة على موسى وكانت هدًى لبني إسرائيل، وكان منهم أئمة يهدون بأمر الله،

ويوقنون بآيته، وسوف يفصل الله بين الأنبياء وأُممهم بما فعلوه معهم، ثم تتجه الآيات إلى تبصير النفوس الغافلة، والاتعاظ بالأمم السابقة التي يعيشون مكانها، ويمشون في مساكنها، وإلى الانتفاع بآيات الله وقدرته التي تسوق الماء إلى الأرض الجُرُز، أي: الجدباء التي لا زرع فيها، فتخصب وتنبت، وتحيا وتعمر بالإنسان والحيوان، أليس ذلك بقادر على إحياء الموتى وبعثهم كما أحيا الأرض الجرز بعد موتها وقحطها، وبعث فيها الحياة والجمال. وتختم السورة بتبكيت المشركين على استبعادهم ليوم الفتح الذي ينتظره المؤمنون ليفصل بينهم وبين المشركين، ويتوعدهم بأن هذا اليوم آت لا محالة، وسيلاقون فيه جزاءهم ولا ينفعهم إيمانهم ولا هم ينظرون، وتطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإعراض عنهم، وانتظار النصرة عليهم وهلاكهم الذي ينتظرونه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)} المفردات: {لَا رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه. {افْتَرَاهُ}: اختلقه من عنده. {لِتُنْذِرَ}: لتخوّف وتحذِّر.

التفسير 1 - الم: هذه الآية ابتداءُ سورة السجدة، وهي سادسة ست سور بدئت بهذه الأحرف، وقبلها سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة العنكبوت، وسورة الروم، وسورة لقمان، ثم هذه السورة، وقد تقدم الكلام عليها مبسوطًا في سورة البقرة وفي غيرها من هذه السور. 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: الكلام في هذه الآية يجري على نمط الكلام الذي في السور المشاركة لها في البدء بالحديث عن القرآن الكريم، ومن ذلك أنه الكلام المنزل من رب العالمين الذي لا مجال فيه لشك، ولا مدخل لريب، كما في قوله - تعالى -: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}. و {الم} إن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو خبر لمبتدأ محذوف، و {تَنْزِيلُ} خبر ثان، و {لَا رَيْبَ فِيهِ} خبر ثالث، و {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر رابع، والتقدير: هذا الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين، والمراد من التنزيل اسم المفعول، أي: مُنزَّل الكتاب، وهناك إعرابات أخرى فارجع إليها إن شئت. والمعنى: هذه السورة التي تسمى الم لا شك في أنها - كسائر القرآن - منزلة من رب العالمين الذي يعلم مصالح عباده، ولكن المشركين يمارون في الحق ويجادلون فيه ويزعمون أن هذا القرآن من عند محمد كما حكى الله عنهم بقوله: 3 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}: أثبتت الآية الأولي أن هذا القرآن تنزيل من رب العالمين لا سبيل فيه إلى شك، بل هو أبعد شيءٍ عنه، ثم أضرب - جل وعَلَا - عن ذلك إضرابًا انتقاليًا مشوبا بالإنكار بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: بل أَيقول المشركون افترى محمد القرآن على الله من عنده، وأعانه عليه قوم آخرون، وقوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} إضراب إبطالي عن دعواهم الاختلاق، وتسفيه لعقولهم، وإثبات أن هذا القرآن هو الحق الصادق

الثابت المنزل من ربك لتنذر به، وتخوف قريشًا قومك الذين لم يسبق لهم إنذار بمثله قبل بعثتك إليهم؛ لأنهم لم يرسل إليهم رسول منهم قبلك فقد كان إسماعيل - عليه السلام - غير عربي، أُرسل لقبيلة جرهم التي هي من العرب العاربة، أما قريش فمن العرب المستعربة. التي هي من ذرية إسماعيل وجرهم، أو أنهم لم يباشرهم وآبائهم الأقربين إنذار، وإنما كان الإنذار لآبائهم الأقدمين، وقد طال عليه العهد، وبعد به الزمن، فلم يسمعوا شيئًا منه، ولم يعرفوا شيئًا عنه، وقد بعثك الله إليهم، وأنزل عليك الكتاب لتنذرهم به {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: رجاءَ أن يهتدوا، فهو على الترجي من رسول الله، كما جاء الترجي من موسى - عليه السلام - في قوله - تعالى -: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬1) أو على التعليل بمعنى: ليهتدوا. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} المفردات: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬2) أي: قام وحده بتدبير سمواته وأرضه بعد خلقها، ولهذا قال بعد ذلك: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}. {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}: من ناصر ينصركم ولا وسيط يشفع لكم. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: يريده على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة، والمراد به هنا: أمر الدنيا وشئونها. ¬

_ (¬1) من الآية 44 من سورة طه. (¬2) سبق بسط الكلام على آراء العلماء في تفسير مثل هذه الآية في سورة الأعراف.

التفسير 4 - {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } الآية: لما ذكرت الآية السابقة الرسالة بعنوان الإنذار بينت هذه الآية ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد، وإقامة الدليل. والمعنى: الله الذي جلت قدرته وتعاظم سلطانه خلق السموات، ورفعها بغير عمد ترونها، وأحكم نظامها، وبسط الأرض، وجعل فيها جبالا رواسي، وأجرى فيها أنهارًا، وأنبت بها زرعًا وأشجارًا، وخلق بينهما كائنات وأجرامًا لا يعلم كنهها ولا يحيط بحقائقها إلاَّ الله الواحد القهار. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: وذللهما وسيرهما على أبدع نظام وأدق إحكام لا يختل لهما مدار، ولا يختلف لهما مسار، وخلص من هذا كله في ستة أيام من أيامه تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬1). ويقول في هذه السورة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وهي الآية التالية. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: ثم دبر ملكه بعد تمام خلقه، لم يعنه في ذلك أحد، ولم يحتج إلى نصير أو شريك، فقدِّروا قدرته واشكروا نعمته. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} ينصركم إذا جاوزتم طاعته ورضاه، وما لكم من وسيط يشفع لكم، ويدفع عنكم عذابه، أو يجيركم من بأسه. {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أي: أتسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها كفرًا وعنادًا؟ 5 - {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}: أصل التدبير: النظر في دابر الأمر، والتفكير فيه ليجىء محمود العاقبة. وهو في حقه تعالى مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان والحكمة. والمعنى: يريد الله الأمر على وجه الحكمة والإتقان بأسباب تقتضيه، نازلة أحكمها وآثارها من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة. ¬

_ (¬1) سورة الحج من الآية: 47.

{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي: ثم يصير إليه خبر ذلك الأمر ويصعد إليه ليعلمه - جلَّ شأنه - موجودا كما أراده - جل وعلا - قال الآلوسي: والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبير - سبحانه - وصول خبر وجوده بالفعل كما دبَّر - جل وعلا - بواسطة الملك، وعرضه ذلك في حضرة قد أعدها الله للإخبار بما هو - جل وعلا - أعلم به، إظهارًا لكمال عظته وعظيم سلطنته، وذلك كعرض الملائكة عليه أعمال العباد الوارد في الأخبار: اهـ. بتصرف يسير. ومعنى قوله - تعالى -: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي: في زمن متطاول يبلغ في حساب دنياكم ألف سنة مما تعدون من السنين التي تقيسون بها آجالكم وأعمالكم، وإن كان الملك يقطعه في زمن يسير كشأنه في الوحي وفي رحلة الإسراء والمعراج، وقيل معناه: يقضى قضاة ألف سنة فينزل به الملك، ثم يعرج بعد الألف لألف آخر، وقيل: المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، نقله القرطبي. واعلم أن أيام الله ليس فيها ليل ولا نهار، وإنما هي أزمان تحت مشيئة الله - تبارك وتعالى - وقد يقدر اليوم مرة في كتاب الله بألف سنة مما يعده البشر، وقد يقدر بخمسين ألف سنة كما جاء في بعض الآيات، وكل ذلك من باب ضرب المثل لطول أيام الله - تعالى - وقد يطول اليوم عن ذلك كله وما يعلم شئون ربك إلا هو. {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)}

المفردات: {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الغيب: ما غاب عن الخلق وخفى، والشهادة: ما شاهدوه ورأوه. {الْعَزِيزُ}: القوي الغالب. {الرَّحِيمُ}: البالغ الرحمة واللطف. {الْإِنْسَانِ}: آدم - عليه السلام -. {نَسْلَهُ}: ذريته. {سُلَالَةٍ} سلالة الشيء: ما استل منه، وسلالة الإنسان: النطفة. {مَهِينٍ}: مبتذل لا يعتنى به. {ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ}: خفينا وتحللت فيها أجزاؤنا. التفسير 6 - {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: أي: ذلك الموصوف بما مرّ من خلق السموات والأرض وما بينهما وتسخير الشمس والقمر، والاستواء على العرش، وتدبير أمر الكائنات - ذلك الموصوف بهذا كله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي: عالم كل ما غاب عن المخلوقات وخفي، وما شاهدوه من أحوالها وشئونها ورأوه رأي العين. {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي: وهو القوى الغالب على كل شيء. {الرَّحِيمُ}: الواسع الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء. 7 - {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}: أوصاف جارية على الله - تعالى - بعد وصفه بالأوصاف السابقة، والمعنى: الذي أتقن كل مخلوق خلقه، ووفَّر له ما يليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وبدأ خلق الإنسان - وهو آدم عليه السلام - من طين على وجه بديع تحار فيه العقول، وجعله بحيث يكون مستتبعًا لخروج كل فرد من ذريته، خلقًا بعد خلق، وجيلا بعد جيل، وذلك ما حكاه بقوله: 8 - {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}:

أي: ثم جعل ذرية آدم المخلوق من طين - جعلها - مخلوقة من خلاصة من ماءٍ مبتذل لا يُعبَأُ به عند الناس وهو المني، فإنهم يتخلصون منه بغسل موضعه، وسميت الذرية نسلًا لأنها تنسل من الإنسان، وتنفصل عنه. 9 - {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}: أي: ثم قوَّمه وعدَّله بتكميل أعضائه، وتنسيقها في الرحم، وتصويرها على ما ينبغي {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أي: أدخل فيه الروح المملوكة له، وأجرى فيه الحياة. وقوله - تعالى -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} معناه: خلق لكم هذه الأعضاء الكريمة لمنفعتكم، فتستعينون بها على حياتكم، وتيسير أموركم الدينية، والدنيوية المختلفة، وإن أيسر ما تقابل به هذه النعم هو الشكر عليها، وصرفها فيما خلقت له، ولكنكم قليلًا ما تشكرونها، بأداء حق الله فيها. 10 - {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}: هذه الآية استئناف كلام جديد مسوق لبيان أباطيلهم وأنه لم يقف أمرهم عند عدم الشكر، بل جاوزه إلى الكفر وإنكار البعث. {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أئذا خفينا في الأرض التي دفنت فيها أجسامنا، وتحللت أجزاؤنا، وصرنا ترابًا مخلوطًا بترابها، أيعقل أن نبعث ونعود إلى خلق جديد؟ {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي: إن أمر هؤلاء المشركين لا يقف عند إنكار البعث بل يتجاوزه إلى كفرهم بلقاء ربهم، والمراد من لقائه - تعالى -: لقاء ملائكته وما يكون بعده من حساب وجزاء فهم يكفرون بالبعث وكل ما يتصل به من شئون الآخرة. {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}

المفردات: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ} أصل المتوفى: أخذ الشيء وافيًا تامًّا، ثم غلب في قبض الروح، يقال: توفاه الله؛ أي: استوفى روحه وقبضه. {مَلَكُ الْمَوْتِ}: اسمه عزرائيل، ومعناه - كما قيل - عبد الله، وهو موكل بقبض أرواح جميع الخلائق. التفسير 11 - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}: لما ختمت الآية السابقة ببيان كفرهم بالبعث والنشور، أتت هذه الآية للرد عليهم بيانًا للحق، وإبطالا لما زعموه من إفك وبتهان. والمعنى: قل لهم - أيها الرسول -: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ومعرفة انتهاء آجالكم، بحيث لا يترك منكم أحدًا دون أن ينتزع روحه على أشد ما يكون، حيث إن الملائكة - وهم أعوانه - يضربون رجوهكم وأدباركم كما قال - تعالى -: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (¬1). فأعوان ملك الموت يعالجون قبض الأرواح، وملك الموت يقبضها، والله يزهقها، وهذا هوالجمع بين قوله - تعالى -: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (¬2) وقوله هنا: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وقوو - تعالى -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (¬3) اهـ بتصرف من القرطبي. ولما كان ملك الموت يتولى ذلك عن الله - تعالى - أضيف التوفي إليه هنا. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} بالبعث والحساب والجزاء، وهوتهديد ووعيد. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 50. (¬2) من الآية 61 من سورة الأنام. (¬3) من الآية 42 من سورة الزمر.

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)} المفردات: {نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ}: مطرقوها من الخزي والندم في موقف الحساب، من النكْس: وهو قلب الشيء على رأسه، كالتنكيس، وفعله: من باب نصر. {لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي: رشدها وتوفيقها إلى الإيمان. {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: بما تركتم ذكر لقائه، فالنسيان مشترك بين الغفلة والترك العمد. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: تركناكم في العذاب. التفسير 12 - {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}: الخطاب للنبي، وخطابه - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمته، أو خطاب لكل أحد ممن تصح منه الرؤية.

والمعنى: ولو ترى حال منكري البعث يوم القيامة، أو حال كل مجرم باعتبار الجنس ومن جملتهم هؤلاء - لو ترى حالهم - لرأيت أمرا فظيعًا، وصورة عجيبة، حيث تراهم مطرقي الرءُوس من الندم والخزي والذل والغم عند محاسبة ربهم إياهم وجزائهم على أعمالهم، يقولون في ضراعة وإقرار بالتقصير: ربنا أبصرنا ما كنا نكذب به، وسمعنا ما كنا ننكره، فقد أبصرنا صدق وعيدك، وسمعنا قول الرسل سماع تصديق وإذعان، وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات البصرة، والآيات السموعة، وكنا قَبلُ صمًّا عميًا لا ندرك شيئًا. أو يقولون: أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة، وسمعنا قول الملائكة: إن مَرَدَّكم إلى النار فارجعنا إلى الدنيا بعد أن أبصرنا وسمعنا لنتدارك ما فاتنا، ونعمل عملا صالحًا وفق ما ترشد إليه آياتك، لأننا الآن موقنون بالبعث والحساب، وزالت عنا الشكوك، يقولون ذلك ادعاءً منهم بصحة الأفئدة، والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما توجبه، وكانوا يسمعون ويبصرون في الدنيا ولا يتدبرون، ولكن أنَّى لهم أن يجابوا إلى تحقيق أملهم، وقد علم الله منهم أنهم كاذبون، وأنه لو أعادهم إلى الدنيا لعادوا كما كانوا كفارًا، كما قال - سبحانه -: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1). 13 - {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}: أي: ولو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليًّا بأن نعطي كل نفس: برة أو فاجرة ما تهتدي به قهرًا في دنياها لفعلنا، ولكن حق القول مني أن أجازى كل امرىءٍ على ما كسبت يداه باختياره، فلأملأنّ جهنم من كفار الجن والناس أجمعين بما كانوا يكسبون. فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى لكل نفس، بل منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم، حيث صرفتم اختياركم إلى الغي والضلال بتزيين الشيطان وإغوائه، ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها المعلوم لنا أزلًا، فلما لم تختاروا الهدى ¬

_ (¬1) من الآية 28 من سورة الأنعام.

واخترتم الضلالة لم نشأ إعطاءه لكم، وإنما أعطيناه الذين اختاروه من النفوس البرة لنقاءِ نفوسهم، وكمال استعدادهم، وهم المعنيون بما سيأتي من قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ... } الآية. وفي تخصيص الجن والإنس في قوله - سبحانه -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} إشارة إلى أن الله عصم ملائكته من عمل يستوجبون به جهنم. 14 - {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: الأمر للتهديد والتوبيخ، وهو مرتب على ما يُعرب عنه ما قبله من نفي الرجع إلى الدنيا، أو على قوله - تعالى -: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ... } الآية: والمعنى: فذوقوا العذاب الدائم يا أهل النار بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم العظيم، وترككم التفكر فيه، والتزود له بما ينجيكم من شدائده وأهواله، والنسيان بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه حيث أُريد به ترك الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح، ويعبر بالذوق كما يطرأُ على النفس وإن لم يكن مطعومًا لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}: استئناف، للإشعار بتشديد الانتقام منهم والسخط عليهم، أي: تركناكم في العذاب ترك الشيء المنسي بالكلية. وقوله - سبحانه -: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: تكرير لتهديدهم بذوق المذاب للتأكيد والتشديد، وتعيين المفعول المطوي في الذوق الأول وهو "عذاب الخلد" الذي لا انقطاع له، والإشعار بأن سبب العذاب ليس مجرد ما ذكر من النسيان، بل له أسباب أُخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا، ولما كان ختام الآية فيه زيادة عن صدرها حصلت بها مغايرته له استحق العطف عليه، ولم ينظم الكل في سلك واحد، للتنبيه على استقلال كل من النسيان وأعمالهم من فنون الكفر والمعاصي في استيجاب العذاب.

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} المفردات: {خَرُّوا سُجَّدًا}: المراد به السجود المعهود، وعليه أكثر العلماء، أي: سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيمًا لله، وخر: من باب ضرب. {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: جمعوا بينه التسبيح والحمد في سجودهم، فقالوا: سبحان الله وبحمده. والتسبيح: التنزيه. {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أي: ترتفع جنوبهم عن مواضع الاضطجاع، كناية عن ترك النوم للعبادة. {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: خوفًا من عذابه - تعالى - وطمعًا في ثوابه، وأكثر ما يستعمل الطمع فيما يقرب حصوله، وقد يستعمل بمعنى الأَمل، ومن كلامهم: طمع في غير مطمع. {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}: مما تسر به قلوبهم، يقال: قرت العين قُرَّةً - بالضم - وقُرورًا: بردت سرورًا، وقر من باب: تعب. التفسير 15 - {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: استئناف مسوق لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى، وتعيين من يستحقه في الآية بطريق القصر.

والمعنى: إنَّمَا يؤمن بآياتنا الذين إذا وعظوا بها أقبلوا عليها وتفهموا معانيها، من غير تردد ولا تسويف، وهَبَطُوا على وجوههم فوضُعوا جباههم على الأرض بحمد الله تعظيمًا لذاتِه العلية، وخوفًا من سطوته وعذابه، وشكرًا على ما رزقهم من نعمة الإِسلام، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث، وأثنوا عليه لنعمائه - جل وعلا - التي أجلُّها الهداية إليه عن طريق آياته، والتوفيق إلى الاهتداء، فخلطوا بذلك التسبيح بالتحميد، وهم في كل أحوالهم لا يستكبرون عن عبادته وإخلاص الإيمان له، والثناء عليه، لا كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمع الآيات. أو: لا يستكبرون كما استكبر أهل مكة عن السجود، ويرى ابن عباس أن المعنى: خروا ركعًا، وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة. قاله المهدوي، وقال أبو حيان: هذه السجدة من عزائم سجود القرآن. والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم في قوله - جل ذكره -: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} للإشعار بعلة التسبيح والتحميد، من حيث إنهم يفعلونها بملاحظة ربوبيته لهم. 16 - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: أي: تتنحى وتتجنبُ جنوبهم الفُرُش ومواضع النوم؛ وهذا التعبير كناية عن ترك النوم وعدم الاستسلام له، ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي - صلى الله عليه وسلم -: نبيّ تجافى جنبُه عن فراشه ... إذا استُثقِلتْ بالمشركين المضاجع وفي المراد من تجافي الجنوب عن المضاجع أقوال، والمشهور أن المراد به: القيام لصلاة النفل ليلًا، قاله جمهور المفسرين، وهو قول مجاهد، والأوزاعي، ومالك بن أنس، والحسن بن أبي الحسن، وأبي العالية وغيرهم؛ لأن أفضل النفل ما كان في الأسحار، وفي الحث على قيام الليل أحاديث كثيرة، منها حديث معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّةٌ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئُ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل" قال: ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ: {يَعْمَلُون}.

أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والقاضي إسماعيل بن إسحق، وأبو عيسى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال أنس: إن المراد بالآية انتظار صلاة العشاء الآخرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل، قال أنس: نزلت فينا - معاشر الأنصار - كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عطية: كانت الجاهلية ينامون من وقت الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء غريبًا وشاقًّا. اهـ. وقال الضحاك: تَجَافِي الجُنُب: هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة. وقاله أبو الدرداء. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: يسألونه - تعالى -: خائفين من غضبه وعذابه وعدم قبول عبادتهم، وطامعين في ثوابه وحسن جزائه. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: ومن المال الذي أعطيناهم إياه ينفقون في وجوه الخير، وقيل: معناه الزكاة المفروضة (¬1)، اهـ: القرطبي. 17 - {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: يخبر الله - سبحانه - أنه أعد لهؤلاء الذين ذكرت محاسنهم ثوابًا عظيمًا من النعيم المقيم الذي أُخفي لهم، فلا تعلم كنهه نفس من النفوس، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، فضلا عمن عداهم بهذا النعيم الذي تبرُدُ أعينهم سرورًا به وتبتهج قلوبهم له: جزاء وفاقًا لما أخفوه من أعمالهم الصالحة في الدنيا، فإن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن: أخفى قوم عملهم، فأخفى الله لهم ما لم تر عين، ولم يخطر على قلب بشر. رواه ابن أبي حاتم. وفي معنى هذه الآية ما خرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله - تبارك وتعالى -: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ¬

_ (¬1) وقيل: مما رزقناهم من المعارف وأنواع الفيوضات ينفقون، إشارة إلى تكميلهم لغيرهم بعد كمالهم في أنفسهم.

ولا خطر على قلب بشر، ذخرا بَلْه (¬1) ما أطْلَعكم عليه" ثم قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} والإبهام في لفظ "أعين" للتعظيم وإعلاء الشأن، قال ابن عباس: الأمر في هذا أجل وأعظم من أن يعرف تفسيره، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أُخفى لهم في غاية الحسن والكمال فلا تشذ عن استحسانه عين ما، ثم بيَّن أن من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان فقال - سبحانه -: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)} المفردات: {كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا}: أُريد بالفسق الذي اتصفوا به: الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع، وأصله وفق الاشتقاق: الخروج مطلقًا، من فسقت الثمرة: خرجت من قشرها. ¬

_ (¬1) بله: من أسماء الأفعال، ومعناها: دع عنكم ما أطلعكم عليه، فالذي يطلعكم عليه أعظم، كأنه أضرب عنه استقلالا له في جنب ما لم يطلعهم عليه. اهـ: شرح النووى.

{فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا} أي: الجنات التي فيها مساكنهم جعلت لهم نزلا ضيافة وثوابًا على أعمالهم، والنزل في الأصل: ما يعد للنازل من الطعام والشراب، ثم عمَّ كل عطاء. {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أي: ملجؤهم ومنزلهم. {الْعَذَابِ الْأَدْنَى}: عذاب الدنيا من قحط وقتل وأسر. {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}: قبل عذاب الآخرة. {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي: تولَّى بترك التدبر والقبول. {مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} أي: ممن أذنبوا مُعَاقِبون، يقال: جرم فلان: أذنب، كأجرم، وانتقم منه: عاقبه. التفسير 18 - {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}: قال ابن عباس وعطاء بن يسار: نزلت الآية في علي بن أبي طالب، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنهما تلاحيا (¬1)، فقال له الوليد: أنا أبسط منك لسانا وأحدّ سنانا، وأملأُ الكتيبة جسدًا، فقال له علي: اسكت؛ فإنك فاسق - فنزلت الآية - قال ابن عبد البر: لا خلاف بين أهل العم بتأويل القرآن أنها نزلت فيه: انتهى كلامه. ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والاستفهام في قوله - تعالى -: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ... }. للإنكار والنفي، ولذا عقَّبه - سبحانه - بقوله: {لَا يَسْتَوُونَ}. والمعنى: أيستوي الناس في جزائهم، وقد اختلفت أعمالهم، فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقًا؟ لا يتوهم ذلك بعد وضوح ما بينهما من التباين، فهما لا يستويان جزاءً كما لم ¬

_ (¬1) تلاحيا، أي: تخاصما.

يستويا عملا، حيث إن المؤمن له جنة الخلد يتمتع بنعيمها، والكافر له جهنم يتجرع غصصها خالدا فيها أبدًا. والتعبير بقوله: {لَا يَسْتَوُونَ} بواو الجمع مع أن الضمير عائد على اثنين وهما المؤمن والكافر. لأن الاثنين جمعٌ لُغةً؛ لأنهما واحدٌ جُمِعَ مع آخر. 19 - {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: تفصيل لمراتب الفريقين في الدار الآخرة، بعد ذكر أحوالهما في الدنيا. والمعنى: أن المؤمنين الذين صدقت قلوبهم آيات الله، وعملوا الصالحات بمقتضاها جعلت لهم جنات المأوى، أي: التي فيها يأوون ويسكنون، نزلا، أي: ضيافة لهم، وثوابًا على أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها في الدنيا. وإضافة الجنات إلى المأوى إشارة إلى أنها هي المأوى والمسكن الحقيقي، وأن الدنيا منزل مرتحلٌ عنه لا محالة. 20 - {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}: المعنى: وأما الذين خرجوا عن الإيمان إلى الكفر فمسكنهم ومقامهم النار، في مقابل جنات المأوى التي أعدت للمؤمنين، هؤلاء الكافرون كلما دفعهم لهيب النار إلى أعلاها فشارفوا الخروج منها وقربوا منه رُدوا إلى موضعهم فيها ودفعوا إلى قعرها، قال الفضيل: "والله إن الأيدى لموثقة وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهيب ليرفعهم والملائكه تقمعهم" (¬1) وقيل لهم على لسان الخَزَنَة تقريعًا وتشديدًا زيادة في غيظهم: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا مستمرين على تكذيبكم بعذابها، وهذا دليل على أن المراد هنا بالفاسق: الكافر، إذ التكذيب يقابل الإيمان. ¬

_ (¬1) تقمعهم: تضربهم بالمقمعة - بكسر الأول - وهي خشبة يضرب بها الإنسان على رأسه ليذل ويهان. اهـ: المصباح وفي القاموس: المقمعة - كمكنسة -: العمود من حديد يضرب به رأس الفيل، وخشبة يضرب بها رأس الإنسان، والفعل كمنع، ويقال: قمعه، وأقمعه.

21 - {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: ونقسم لنذيقن الكافرين في الدنيا العذاب الأدنى وهو الأقل أو الأقرب، وذلك ما أصابهم من القتل والسَّبْي يوم بدر، كما روى عن عبد الله بن مسعود، وعن مجاهد: القتل والجوع، وأخرج ابن المنذر، وابن جرير عن ابن عباس أنه قال: هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها، وقال مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف، وعن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر، وحكى عن مجاهد أيضًا. لنذيقنهم هذا العذاب قبل أن يصلوا إلى العذاب الأكبر، وهو عذاب الآخرة الذي به يخلدون في النار لعلّ (¬1) من بقى من المعذبين بالعذاب الأدنى يتوبون عن الكفر بعد مشاهدتهم إياه، ويعودون إلى الإيمان. وفي الآية لم يقل: الأصغر في مقابلة الأكبر، أو الأبعد في مقابلة الأدنى، لأن المقصود هنا: هو التخويف والتهديد، وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر، وبالكبر لا بالبعد، قاله النيسابورى. 22 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}: بيان إجمالي لحال من قابل آيات الله - تعالى - بالإعراض عنها بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد. والمعنى: لا أحد أظلم لنفسه ممن ذكره الله بآياته الواضحة النيرة التي ترشد إلى الصراط المستقيم، والفوز بالسعادة العظمى والنعيم المقيم، ثم كان منه بعد التذكير بها ما يستبعد عقلا وهو الإعراض عنها بترك التدبر فيها، وتناسيها كأن لم يسمعها، ولم يعلم عنها شيئًا، وتشير كلمة (ثمَّ) إلى الاستبعاد العقلي للإعراض عن الآيات مع وصفها بما ذكر من الأوصاف العظيمة، وختمت الآية بتهديد كل من اقترف الإجرام والأفعال المذمومة، حيث قال - سبحانه ¬

_ (¬1) لعل للترجي الحاصل من المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه، وعن ابن عباس تفسيرها هنا: بكى، وكأن المراد: كي نعرضهم بذلك للتوبة.

وتعالى -: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} ولم يقل: (منه) أي: من الأظلم (منتقمون) لأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم، ثم توعد المجرمين جميعًا بالانتقام منهم، فقد دل بذلك على إصابة الأظلم بالنصيب الأوفر من الانتقام، ولو قال: (منه) لم تحصل هذه الفائدة. وجوز أن يراد بالمجرمين الأظلم المذكور، وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى (مَن) باعتبار معناها، وكأنه قيل: إنا منهم منتقمون، واختير هذا التعبير ليؤذن الإتيان بالمظهر أن علة الانتقام ارتكاب هذا المُعْرض مثل هذا الجرم العظيم. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)} المفردات: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} أي: فلا تكن في شك من لقائك الكتاب مثله، والمرية: اسم من امترى في أمره: شك. {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} أي: قادة يقتدى بهم في دينهم. {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أي: يعلمون التوراة علمًا لا يداخله أي شكّ، واليقين: العلم الحاصل عن نظر واستدلال، ويَقِن الأمرُ من باب تَعِب: إذا ثبت ووضح، ويستعمل أيضًا متعديًا بنفسه وبالباء، فيقال: يقنته ويقنت به.

التفسير 23، 24 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)}: المعنى: ولقد آتينا موسى الكتاب (أي: التوراة) فلا تكن - أيها النبي - في شك من لقائك كتاب القرآن مثلما لقى موسى كتاب التوراة، ونهيه - عليه الصلاة والسلام - عن الشك في لقائه المقصود منه نهي أُمته، وجعلنا الكتاب الذي أنزل على موسى هاديًا لقوم - بني إسرائيل - من الضلالة، ويشير ذلك إلى أنه لم يتعبد به أحد من ولد إسماعيل، ولذلك خُصَّ به بنو إسرائيل، وجعلنا من بينهم قادة يقتدى بهم في دينهم سوى الأنبياء - عليهم السلام - جعلناهم يرشدونهم، ويدعونهم إلى سلوك الطريق القويم، وَفْق ما في تضاعيف الكتاب من الحِكم والأحكام، وذلك بأمرنا إياهم بأن يهدوا الخلق إلى طاعتنا، وكان هؤلاء أئمة حين صبروا على مشاق الطاعة، ومقاساة الشدائد في نصرة الدين، وفي ذلك إشارة إلى أن الصبر ثمرته الإمامة للناس، وكان هؤلاء الأئمة يصدقون بآيات التوراة تصديقًا يقينيًّا لا شك فيه، لحصوله عن نظر واستدلال، وكذلك لنجعلنَّ الكتاب الذي أُوتيته هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون تلك الهداية، وفيه تعريض بكفرة أهل مكة، وأجاز بعضهم أن يراد من أئمة بني إسرائيل أنبياؤهم. 25 - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: المعنى: إن ربك هو يحكم ويقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة فيميز بين الحق والمبطل فيما اختلفوا فيه من أُمور الدين، حتى يكون الجزاء لكل بما يستحقه قسطًا وعدلا، وفق العمل الذي عمله. وقيل: يقضى بين الأنبياء وأُممهم. حكاه النقاش.

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)} المفردات: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}: أوَ لَمْ يبين لهم، والواو عاطفة على مقدر يقتضيه المقام، والتقدير: أغفلوا ولم يهد لهم، وفاعل (يهد) ضمير يشير إليه ما بعده. {كَمْ أَهْلَكْنَا}: و (كم) في محل النصب بأهلكنا، ولا يصح أن يكون فاعلًا ليهد، لأن اسم الاستفهام. لا يحمل فيه ما قبله عند الجمهور، وأجازه الفراء، وهو رأي ضعيف، ومفعول (يهد) مقدر، والتقدير: أو لم يبين لهم الحق كثرة من أهلكنا ... إلخ. {مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ}: جمع قرن وهو الجيل من الناس. {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ}: وهي اليابسة التي لا نبات فيها؛ لأنه جُرِز نباتها، أي: قُطِع، إما لعدم المطر، وإما لأنه رعى وأُزيل، ولا يقال للتي لا تنبت، كالسباخ جمع سَبْخة، لا يقال لها: جرز، والسبخة - مسكنة ومحركة -: أرض ذات نَزّ (¬1) وملح: اهـ. التفسير 26 - {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ}: الهمزة للإنكار، والمعنى: أتركوا الاتعاظ، ولم يبين لهم الحق كثرة من أهلكنا قبلهم من القرون الكافرة المعروفة لهم كعاد وثمود وقوم لوط، أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهمم إياهم فيما جاؤهم به من قويم السبل، فلم تبق منهم باقية، كما قال - تعالى -: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (¬2) وهؤلاء المكذبون من أهل مكة يمرون ¬

_ (¬1) النز: ما يتحلب من الأرض من الماء: قاموس. (¬2) الآية 98 من سورة مريم.

في أسفارهم للتجارة بديار وبلاد أولئك المكذبين المهلكين، ويشاهدون آثار هلاكهم. ويمشون في مساكنهم فلا يرون فيها أحدًا ممن كان يسكنها ويعمرها {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (¬1) وكان عليهم أن يعتبروا بهذه القرون المعاقَبة قبلهم. إن فيما حل بأولئك الطغاة من هلاك ودمار بسبب تكذيبهم الرسل إغفال ما جاءهم من الآيات البينات، وهي عظيمة في نفسها، كثيرة في عددها {أَفَلَا يَسْمَعُونَ} أي: أَصَموا فلا يسمعون آيات الله وعظاته وأخبار من تقدم من الأُمم سماع تدبر واتعاظ، ليثوبوا إلى رشدهم، ويقبلوا على طاعة ربهم؟ 27 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}: المعنى: أعَمُوا ولم يشاهدوا كمال قدرتنا بسَوْق السحاب الحامل للماء، أو بسوق نفس الماء بالسيل أو بإجرائه في الأنهار، نسوقه إلى الأرض الجرز وهي اليابسة التي لا نبات فيها لانقطاع الماء عنها أو لرعيه أو إزالته، نسوق الماء إليها لنحييها بعد موتها، فنخرج بالماء زرعًا - ويراد به النبات مطلقًا مزروعًا أو غير مزروع - نخرجه به ليكون غذاء تأكل منه أنعامهم كالكلأ (¬2) والعشب والتبن والحبوب الخاصة بها، وتأكل منه أنفسهم، كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان والخضراوات والفواكه {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} هذا بأَعينهم، وينظرون إليه نظر تفكر وتدبر، فيستدلوا به على كمال قدرته - تعالى - على إحياء الموتى بالبعث، وعلى فضله وإحسانه إلى خلقه؟!. وقدم الأنعام في الآية على أنفسهم لأن انتفاعها مقصور على الزرع، وأما الإنسان فقد يتغذى بغيره، وجعلت الفاصلة هنا (يبصرون) لأن ما قبلها مرئي، وفي الآية السابقة يسمعون لأن ما قبلها مسموع، وقيل: ترقيًا إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر: ذكر ذلك الآلوسي. ¬

_ (¬1) الآية 92 من سورة الأعراف. (¬2) الكلأ: العشب رطبه ويابسه.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)} المفردات: {يَوْمَ الْفَتْحِ} الفتح: الفعل، ويوم الفتح هو يوم القيامة، فهو وم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم، وقيل: يوم بدر، أو فتح مكة. {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: يؤخرون ويمهلون للتوبة. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن سفههم، ولا تُجبْهُم إلاَّ بما أمرناك به. {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أي: منتظرون هلاككم، وسيأتي لذلك مزيد بيان. التفسير 28 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: المعنى: كان المشركون من أهل مكة يقولون للنبي وللمؤمنين على وجه التكذيب والاستهزاء: متى هذا الفتح؟ إذا سمعوهم يقولون لهم: إن الله سيفتح لنا عليكم بالفصل بيننا وبينكم في الخصومة فيثيب المحقين، ويعاقب المبطلين. وهذه الآية مرتبطة بقوله - تعالى -: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬1). 29 - {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}: المعنى: قل لهم - أيها النبي تقريعًا لهم، وبيانًا للحق الثابت -: يوم الفتح، أي: يوم ¬

_ (¬1) الآية 25 من هذه السورة.

القضاء والفصل بين المؤمنين وأعدائهم في القيامة إذا حل بهم لا ينفع نفسًا إيمانها لفوات وقته، ولا هم يمهلون ويؤخرون من العذاب الذي يستحقونه ولو لحظة. 30 - {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}: المعنى: فأعرض - أيها النبي - عن سفه هؤلاء المشركين، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم وبلغ ما أُنزل إليك من ربك، وانتظر النصر عليهم وهلاكهم، فإن الله سينجز لك ما وعدك، وسينصرك على من خالفك نصرًا عزيرًا في الدنيا والآخرة، فهو - سبحانه - لا يخلف الميعاد. وهم منتظرون أن تدور بكم الدوائر، وتصيبكم حوادث الزمان كقوله - تعالى -: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (¬1)، وسيجدون غِبَّ ما ينتظرون فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم ما لا قبل لهم بدفعه. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي الإعراض عن المنكرين المستهزئين بالدعاة والمرشدين والمُضِيُّ في وعظهم وإرشادهم لعل الله يهديهم. ¬

_ (¬1) من الآية 52 من سورة التوبة.

سورة الأحزاب

" سورة الأحزاب" مدنية، وآياتها: ثلاث وسبعون مقاصدها: بدأ الله هذه السورة بأمر المؤمنين في شخص نبيهم بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وباتباع الوحي، والتوكل على الله - تعالى - وعقب ذلك ببيان أن الأزواج لا حق لهم في تحريم زوجاتهم كتحريم أُمهاتهم، وأن التبني غير مشروع في الإِسلام، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أُمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق بالميراث من المهاجرين والأنصار، ناسخًا بذلك التوارث بالتآخي في الإِسلام بينهم في أول الهجرة، ثم بيَّن للمؤمنين فضله عليهم في الانتصار في غزوة الأحزاب، حيث أرسل على أعدائهم الأحزاب ريحًا وجنودًا لم يرها المسلمون، ففر الأحزاب منهزمين، وأنقذ المسلمين بذلك من حصارهم من فوقهم ببني قريظة، ومن أسفل منهم بالأحزاب، ونعى على المنافقين تخاذلهم ومعاذيرهم الكاذبة التي اخترعوها للفرار من المعركة، وأثنى على المؤمنين الصادقين الذين ثبتوا مع رسولهم في المعركة حتى جاء النصر من عند الله .. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} ثم أَتبع ذلك تخيير النبي لزوجاته، وأمر الله إياه بنصحهن، وختم ذلك بقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} ثم أتبع ذلك نصائح للمسلمين والمسلمات، وذكر قصة الخلاف التي وقعت بين زيد ابن حارثة وبين زوجته زينب بنت جحش، وانتهت بطلاق زيد لها وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها، تأكيدًا لنسخ التبني وآثاره.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى زيد بن حارثة، وكان يدعى زيد بن محمد فلما نسخت شرعة التبني أصبح يدعى زيد بن حارثة، ونزل في ذلك قوله - تعالى -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}. ثم بين الله عدم وجوب العدة على المرأة إذا طلقت قبل الدخول، بها، وبين ما أحله لنبيه من الزوجات، وذكر طائفة من الآداب نحو بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحريم الزواج بزوجاته بعده، وبين وجوب لبس الثياب الساترة للمسلمات عند خروجهن، حتى لا يتعرضن للأذى، وهدد المنافقين والمرجفين بسوء المصير إن لم يرجعوا عن إرجافهم، وأمر رسوله أن يذكر لسائليه عن الساعة أنه لا يعلمها إلاَّ الله ولعلها تكون قريبًا، وبين أن الكافرين خالدون في النار أبدًا، وفي المؤمنين عن إيذاء الرسول كما آذى بنو إسرائيل موسى، وحثهم على أن يتقوا الله ويقولوا قولًا سديدًا وأوصاهم في ختامها بأداء الأمانة، لأن مسئوليتها عظيمة عند الله - تعالى -. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} المفردات: {اتَّقِ اللَّهَ}: دم على تقواه، أو زد على ما أنت عليه من التقوى.

{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}: ودم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم. {عَلِيمًا حَكِيمًا}: واسع العلم عظيم الحكمة. {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}): فَوِّض الأمر إليه. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: وكفى به حافظًا ومعينًا. التفسير 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}: خاطب الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ولم يخاطب غيره من الأنبياء بوصف النبوة كقوله - تعالى -: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} وقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} وذلك لتشريف نبيه محمد وتكريمه، وليرتب عليه ما هو من أبرز آثاره وأقوى لوازمه، وهو وجوب التقوى منه لله - تعالى - وعدم طاعته للكافرين والمنافقين. وسبب نزولها - على ما ذكره الثعلبى والواحدي - أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة ابن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن الموادعة (¬1)، وقدم معهم من المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وهموا بقتلهم. وروى أن عمر بن الخطاب لما سمع قولهم هذا قال: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني قد أعطيتهم الأمان" فقال لهم عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا من المدينة. وقيل: نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا منه أن يمتعهم باللات والعزى سنة، يأخذون نذورها على أن لا يعبدوها، لتعلم قريش منزلتهم عنده - صلى الله عليه وسلم - فأبى عليهم ذلك. ومعلوم قطعًا أن النبي أشد الناس ¬

_ (¬1) أي: زمن الهدنة التي كانت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش في صلح الحديبية.

تقوى لله، وأبعدهم عن طاعة الكافرين والمنافقين، وإنما أمره الله بذلك تأييدًا له في موقفه منهم، وتثبيتًا له في مواجهة الكافرين والمنافقين، لكي ييئسوا من موافقته لهم بعد أن تلقى هذا الأمر من مولاه - جل وعلا - كما أن فيه أمرًا ضمنيًا للمؤمنين بذلك، فإن النبي إمام أُمته، فإذا كان الله قد أمره بذلك - وهو من التقوى والبعد عن طاعة الكافرين والمنافقين بالمحل الأرفع - فغيره من أمته أولى بذلك. والتقوى - كما قال طَلْقُ بن حبيب -: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله - ذكره القرطبي. والمعنى الإجمالي: للآية: يا أيها النبي دُمْ على ما أنت عليه من تقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فيما يعود على الدين بالضعف، وازدد في ذلك قوة على قوة، وليقتد بك المؤمنون في امتثال أمر الله ونهيه، إن الله كان - منذ الأزل ولا يزال - واسع العلم بالمصالح والمفاسد، عظيم الحكمة، فلا يكلفكم إلا ما تقتضيه الحكمة، مما يعود عليكم بالخير في الدنيا والآخرة. وبين الله لنبيه سبيل التقوى فقال: 2 - {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أي: واتبع في كل ما تأتي به أو تتركه من أمور الدين والدنيا ما يوحى إليك من ربك من الآيات والأحكام التي من جملتها ما جاء بالآية الكريمة السابقة، وليقتد بك المؤمئون في ذلك، إن الله كان بما تعملون خبيرًا، فيرشدكم إلى ما فيه صلاح أعمالكم وحسن المثوبة عليها. 3 - {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: واعتمد على الله - تعالى - في القيام بأعباء الوحي وتكاليفه، وكفى بالله موكولًا إليه الأمور كلها، فلا تهمنك معاصاة الكافرين ومناوأتهم، فإن الله ناصرك ومؤيدك.

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} المفردات: {فِي جَوْفِهِ}: في صدره. {تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} الظِّهار: قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، يريد بذلك تحريتم مباشرتها تحريمًا أبديًا كما هو شأنه مع أمه، وهو مأخوذ من الظهر، باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك. {أَدْعِيَاءَكُمْ}: جمع دعيٍّ، والمراد به هنا: الابن بالتبني. {السَّبِيلَ}): الطريق. {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}: انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوهم. {هُوَ أَقْسَطُ}: هو أعدل. {وَمَوَالِيكُمْ}: جمع مولى، ويطلق لغة على: المعتق، والعتيق، وابن العم، والناصر، والجار، والحليف، والمراد به هنا: الولي في الدين - أي: الصديق فيه - ويقابله العدو. {جُنَاحٌ}: إثم. {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}: فيما فعلتموه مخطئين جاهلين قبل النهي. {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}: ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه وقصدتموه من ذلك بعد النهي.

التفسير 4 - {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}: نزلت هذه الآية لرد ما كان مزعومًا أو متبعًا قبل الإِسلام، فقد زعمت العرب أن الأريب اللبيب القوي الحافظة له قلبان، ومن ذلك قولهم لأبي معمر الفِهْري - أو جميل ابن معمر الجمحي - له قلبان، لأنه كان داهية قوى الحفظ لما يسمع، وكان يزعم أن له قلبين يفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، وقد كذَّبه الله قولًا في هذه الآية، وفعلًا يوم بدر، وذلك أنه انهزم في هذا اليوم، ولقي أبا سفيان في العير في طريقه إلى مكة وهو معلق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فسأله أبو سفيان: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلاَّ أنهما في رجلي، فعرفوا من يومئذ أنه لو كان كما زعم لما لبس نعله في يده، والقلب: قطعة من اللحم صنوبرية الشكل، خلقه الله - تعالى - لضخ الدم في الشرايين لتغذية الجسم، وجذبه ثانيًا من الأوردة لإيصاله إلى الرئتين لتطهيره من "ثاني أُكسيد الكربون" الناتج من عملية الاحتراق في داخل الجسم، وبعد تطهيره يستعيده القلب ليعيد قذفه في الشرايين، وقد جعله الله مناطًا للحفظ والعلم، إما لأنه يمد الأجهزة الحافظة في المخ بغذائها - فهو سبب للحفظ والعلم - وإما لأن الحفظ والعلم من وظائفه. وكان من عادة العرب أن يحرم الرجل زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه، بأن يقول لها: أنت عليَّ كظهر أمي أو نحوها، فلا يباشرها كما لا يباشر أحَدٌ أُمَّه، وكانوا يعتبرون الظهار طلاقًا في الجاهلية، وسيأتي حكمه في الإسلام في سورة المجادلة بمشيئة الله - تعالى -. كما كان من عادتهم أن يتبنى الرجل ولد سواه فيرث ماله من بعده كما يرث الولد من أبيه النَّسَبِي، وتحرم عليه زوجته كما تحرم عليه زوجة ابنه من صلبه، فنزلت الآية لردِّ هذا كله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى غلامه زيد بن حارثة بعد أن أعتقه، وفقًا كان عليه العرب، ولهذا كان يدعى زيد بن محمد، فلما نزلت هذه الآية نسبه

إلى أبيه حارثة، قال القرطبي: روى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}. وكان زيد - فيما روي عن أنس بن مالك وغيره - مسبيًّا من الشام، سَبَته خيل من تهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة، فوهبته خديجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأقام عنده مدة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك قبل البعثة: خَيِّراه، فإن اختاركما فهو لكما دون فداءٍ، فاختار الرق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثره على حريته وقومه، فقال محمد - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر قريش، اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه" فرضي بذلك أبوه وعمه. اهـ: من القرطبي بتصرف يسير. وكان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان. ذكره القرطبي. والمعنى الإجمالي للآية: ما خلق الله لرجل من قلبين في صدره، بل خلق له قلبًا واحدًا يعيش على نبضاته، ويعى أصناف العلم بسببه، وما صير أزواجكم في حكم أمهاتكم من حرمة المباشرة، حتى تجعلوهن مثلهن فيها، وما جعل الغرباء من عتقائكم وغيرهم أبناءً لكم، حتى تعطوهم حكمهم في الميراثِ وحكم عدم نكاح زوجاتهم، ذلك الذي تزعمونه في شأن هؤلاء جميعًا هو قولكم بأفواهكم، دون أن يكون له نصيب من الصحة، والله يقول الحق في شأنهم وفي كل أحكامه، وهو يهدي بشرعه إلى الطريق المستقيم. 5 - {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}: في هذه الآية زيادة بيان لحكم التبني في الإِسلام، قال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن: اهـ. وبيان ذلك أن النبي سن

للناس جواز التبني الذي كان معمولًا به في الجاهلية قبل نسخه بهذه الآية وما قبلها، ولو خالف الإنسان هذه الآية، فدعا غيره إلى أبيه بالتبني، فإن كان على جهة الخطأ، بأن سبق لسانه إليه فلا إثم عليه، لقوله - تعالى -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولا يجري هذا المجرى من غلب عليه اسم المتبني، كما هو الحال في المقداد بن عمرو، فقد غلب عليه لقب المقداد بن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ولكنه لصق به لفظ (ابن الأسود) بعد نزولها، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة فإنه كان يدعى لأبي حذيفة بعد نزولها، وغيرهما، ولم يحكم أحد بإثم من كان يقول هذا لغلبته على صاحبه. وذلك غير ما حدث لزيد بن حارثة، فإنه لما نزلت الآية قطع الناس نسبه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالبنوة، وعزوه إلى أبيه حارثة، فإن نسبه أحد بالبنوة إلى محمد بعد نزولها متعمدًا كان آثمًا، لقوله - تعالى -: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: فعليكم الجناح والإثم، قاله القرطبي، ثم قال في المسألة السادسة: روى الصحيح عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة، كلاهما قال: سمعته أُذناي ووعاه قلبي، محمدًا (¬1) يقول: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام". أما قول الكبير للصغير: أنت ابني على سبيل التحنن والشفقة فلا حرمة فيه، ولكن بعض العلماء يرى كراهته، لما فيه من التشبه بالكفرة. وحكم التبني بقوله: (هو ابني) عند الحنفية، أنه إن كان عبدًا عتق عليه، ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب، وكان بحيث يولد مثله لمثله، وعند الشافعية: لا عبرة بالتبني لا في العتق ولا في النسب (¬2). المعنى الإجمالي للآية: انسبوا من تبنيتموهم إلى آبائهم الحقيقيين، فإن لم تعلموا آبائهم يقينًا فهم إخوانكم في الدين وأولياؤُكم فيه، فقولوا: هذا أخى ووليي في الدين، ¬

_ (¬1) "محمدًا" بدل من الضمير المنصوب محلا في قوله: "سمعته أذناي". (¬2) انظر الآلوسي.

أي: صديقي فيه (¬1)، وليس عليكم إثم فيما قلتموه مخطئين قبل النهي، أو بعده نسيانًا أو سبق لسان، ولكن الإثم فيما قلتموه عامدمين قاصدين البنوة وأحكامها بقلوبكم، وكان الله غفورًا فيغفر للعامد إذا تاب، رحيمًا برفع الحرج والإثم فيما كان قبل النهي، أو كان خطأ لسان أو نسيانًا بعده. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)} المفردات: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}: أحق بهم من أنفسم. {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: مثل أُمهاتهم في التحريم واستحقاق التعظيم. {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} أي: أصحاب القرابات بعضهم أحق ببعض في التوارث. {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}: إلاَّ أن تعطوا حلفاءكم من المهاجرين والأنصار: برًّا معروفًا كالتوصية. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي: كان ما ذكر من الأحكام في الآيات السايقة مسطورًا في اللوح المحفوظ. ¬

_ (¬1) من الولاء ضد العداء، ويجوز أن يكون بمعنى عتيق إن كان كذلك.

التفسير 6 - {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ .. } الآية: هذه الآية نسخ الله بها بعض الأحكام التي كانت في صدر الإسلام، وبيانه ما يلي: (1) أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي على أحد وعليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه ديغ فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته" أخرجه الصحيحان، وروى البخاري بسنده في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم قول الله - تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينًا أو ضَيَاعًا فليأتني فأنا مولاه" أخرجه البخاري في تفسير سورة الأحزاب. والمراد من عصبته: قرابته، والضَّياع: مصدر ضاع جعل اسما لكل ما هو عرضة للضياع، من عيال لا كافل لهم، ومال لا قيِّم عليه، وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع، وتجمع على ضياع - بكسر الضاد (¬1) - وقال بض العلماء: هو أولى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة، ويؤيد هذا المعنى حديث مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقَعْن فيها، وأنا آخذ بحُجزِكم وأنتم تقتحمون فيها" قال العلماء: الحُجْزة للسراويل والمعقد للإزار، فهذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه، أخذ بذلك الموضع منه. وهذا مثل لاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نجاتنا، وحرصه على تخليصنا من المهالك التي بين أيدينا، بدافع شهواتنا ووسوسة الشيطان الرجيم، فهو أولى بنا من أنفسنا. وفسرها بعضهم بأن المراد بأولويته بهم من أنفسهم أنه إذا أمر بشيء، ودعت النفس إلى غيره، كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، وشرعه أحق من هوى أنفسهم، ¬

_ (¬1) انظر القرطبي في تفسير (الضياع) بفتح الضاد - ومن كسر الضاد - (ضياعًا) فالمراد بهم العيال الضائعون الذين لا كافل لهم، جمع ضائع.

فينفذ حكمه لا حكمهم قال - تعالى -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). واستنبط بعض الفقهاء من هذا الحديث - تفسيرًا للآية - أنه يجب على الإمام أن يقضى من بيت المال دين الفقراء، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "فعلي قضاؤه". (2) ومنها أنها جعلت زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمهات المؤمنين، حيث صيرتهن في حكم الأمهات في وجوب التعظيم والنفقة وحرمة النكاح على الرجال، ثم إن هذه الأُمومة لا توجب ميراثًا، ولا تمنع من زواج بناتهن. واختلف في كونهن أمهات النساء، فمنهم من قال بذلك قياسًا على الرجال، ومنهم من منع رعاية للنص، ولما رواه الشعبي عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها -: أن امرأة قالت لها: يا أُمَّه، فقالت لها: "لست لك بأُم، إنما أنا أُم رجالكم" قال ابن العربي: وهو الصحيح. واستظهر القرطبي أنهن أمهات للرجال والنساء، فكما شملت أولوية النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال والنساء بقوله - تعالى -: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فكذلك قوله - سبحانه -: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ويحمل الأثر المروى عن عائشة - رضي الله عنها -، إن صح -: (لست لكِ بأُم إنما أنا أم رجالكم) على أنه رأي لها في الآية. اهـ: بتصرف. واختلف في النظر إليهن على وجهين: (أحدهما) أنهن كالمحارم فلا يحرم النظر إليهن. (وثانيهما) أن النظر إليهن حرام، لأن تحريم نكاحهن إنما هو لحفظ حق الرسول فيهن، ومن حفظ حقه فيهن حرمة النظر إليهن، وأما اللائي طلقهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففي ثبوت حق الأمومة لهن خلاف. ولا يجوز أن يسمى النبي ¬

_ (¬1) سورة النساء؛ الآية: 65.

- صلى الله عليه وسلم - أَبًا للمؤمنين، لقوله - تعالى -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ولكن يقال: إنه مثل الأَب لهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنَا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم .. ". الحديث أخرجه أبو داود. وصحح بعضهم جواز إطلاق الأُبوة عليه؛ لأنه سبب للحياة الأبدية، كما أَن الأَب سبب للحياة، بل هو أحق بالأُبوة منه، وبهذا الرأْي أَخذ معاوية، وعكرمة، ومجاهد والحسن، بل قال مجاهد: كل نبي أب لأُمته، ومن هنا قيل في قول لوط: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} إنه أراد النساء المؤْمنات من أُمته، وأَخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان يقرأُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}. (3) أن قوله - تعالى -: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ المْهُاجِرِينَ والأْنصارِ} ناسخ لما كان في أول الهجرة من التوارث بالهجرة، حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا (¬1) .. }. فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأَعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئًا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلِكَ في هذه السورة بقوله: {وَأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. كما أنه ناسخ للتوارث بالحِلْف والمؤاخاة في الدين، روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام في تفسيرها قال: "إنا - معشر قريش - لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأَنصار نعم الإخوان، فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، ثم قال: حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا" وثبت عن عروة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك، فارْتَثَّ كعب يوم أُحد (¬2)، فجاءَ الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضَّح والريح (¬3) لورثه الزبير، فأَنزل الله - تَعالَى - ¬

_ (¬1) الآية: 72. (¬2) الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح. (¬3) الضح - بكسر الضاد - ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، أراد أنه لو مات كعب عما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح، وكنى بذلك عن كثرة المال.

{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ (¬1) ... } فبين الله - تعالى - أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة. ويرجع ذلك إلى أن المسلمين لما توالدوا في الإِسلام وكثروا عدل بهم إلى التوارث بالقرابة بعد قطعه بسبب الكفر. والمراد من كتاب الله: اللوح المحفوظ، أو القرآن الكريم، والمراد من لفظ (المؤمنين) الأَنصارُ، ومن لفظ (المعروف) في قوله: {إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}: الوصية، ومن (الأولياءِ) الأَصدقاء من المؤمنين، ويدخل فيهم المهاجرون والأنصار، فإن الوصية تصح لكل مؤمن ومؤمنة وتقدم على الميراث بالقرابة والمصاهرة، - لقوله - تعالى - في سورة النساء: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ (¬2)} بشرط أن تكون لغير وارث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وَصية لوارث" ومن العلماءِ من عمم المعروف في كل بر وخير، فيشمل الوصية وغيرها من أنواع البر كالهبة، ومنهم من عمم الأولياء فأجاز الوصية لليهود والنصارى إذا كانوا موالين، وبه قال محمَّد بن الحنفية. وغيره، ومنهم من قصر المعروف في غير المسلم على الأَقارب منهم كالوالدين والأَولاد، ومن أراد المزيد فليرجع إلى المطولات. والمعنى العام للآية: النبي أحق بالمؤمنين من أنفسم؛ لأَنه أكثر منهم رعاية وعناية بمصالحهم، فحبه مقدم على حبهم لأَنفسهم، وتنفيذ أمره وشرعه مقدم على تنفيذ رغباتهم وشهواتهم، فهو أعرف بمصلحتهم الدنيوية والأُخروية منهم، وأزواجه - صلى الله عليه وسلم - كأُمهاتهم في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام، والبر والإعظام فلا يحل الزواج بإحداهن بعده، ولا التفريط في أي حق من حقوقهن، إعظامًا لمقام نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإجلالًا لقدره في أُمته، وهن فيما عدا ذلك كالأَجنبيات، فلا تجوز الخلوة بهن كما تجوز ¬

_ (¬1) وقيل: النسخ كان بآية أخر الأنفال، وقيل: بالإجماع. (¬2) سورة النساء من الآية: 11.

بالأُمهات، ولا تحرم بناتهن ولا أَخواتهن كما تحرم بنات الأُمهات وأخواتهن، وأصحابُ القرابات - وقد انتشر الإِسلام بينهم - أحق بميراث قريبهم من المهاجرين والأنصار، لزوال الكفر الذي كان سببًا في حرمانهم من الميراث، ونقله منهم إلى المؤمنين من المهاجرين والأَنصار، وهذه الأولوية لا تمنع من أن تقدموا لأوليائكم من الأَنصار والمهاجربن وغيرهم معروفًا وبرًّا سوى الميراث كالوصية والهبة والهدية والصدقة، كان ما تقدم في هذه السورة من الأحكام في كتاب الله (اللوح المحفوظ، أو القرآن) مسطورًا واجب التنفيذ والامتثال. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)} المفردات: {وَإِذْ أَخَذْنَا}: واذكر - أيها النبي - حين أَخذنا. {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ}: من النبيين عهدهم بالدعوة إلى دين الله. {مِيثَاقًا غَلِيظًا}: عهدًا عظيم الشأْن، أو قويًّا متينًا؛ لتأْكيده باليمين. {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} ليسأل النبيين عن الصدق الذي بلغوه لأَقوامهم، وعُبّر عن النببين بالصادقين لملازمتهم للصدق، وعما بلَّغُوه بالصدق؛ لأَنه من عند الله، وقد جعل نفس الصدق على سبيل المجاز.

التفسير 7 - {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}: بعد أَن بين الله في الآيات السابقة بعض ما أبلغه رسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأُمته من الأَحكام الناسخة لما كانوا عليه قبلها، جاءَ بهذه الآية لبيان أن تبليغ أحكام الله وشرائعه أمر مفروض على النبيين جميعًا، وقد أخذ عليهم العهود والمواثيق بتبليغها، سواءُ أَكانت ناسخة لما قبلها، أَم مؤكدة لها، أم جديدة لم يسبق مثلها. والتصريح بذكر هؤُلاءِ الأَنبياءِ الخمسة - مع اندراجهم في عموم الأَنبياءِ قبلهم - لكونهم مشاهير أرباب الشرائع، وأُولي العزم من الرسل، وقدم نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على سائر أولى العزم؛ تكريمًا له وتعظيمًا لشأْنه، لعموم نبوته وبقائها إلى قيام الساعة، فهو سيد ولد آدم ولا فخر، ورتب بعده باقى الأنبياء حسب ترتيبهم في الوجود والبعث، وإعادة أخذ الميثاق في الآية لتأكيده، ووصفه بكونه غليظًا تعظيمًا لشأْنه. ومعنى الآية: واذكر لقومك - أيها النبي - حين أخذنا من جميع النبيين ميثاقهم أن يبلغوا شرائعنا لأُممهم، ويخصوني بالعبادة وحدي، وأخذنا هذا الميثاق بخاصة على أُولى العزم منهم، حيث أخذناه عليك وعلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم بذلك ميثاقًا مؤكدا عظيمًا، ثم بين المقصود من أخذ هذا الميثاق بقوله - سبحانه -: 8 - {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}: أي: أخذنا الميثاق بتبليغ شرائعنا على جميع النبيين المعروفين بالصدق عندنا وعند أقوامهم منذ نشأَتهم؛ ليسأَل الله هؤُلاءِ الأَنبياءَ المتصفين بالصدق عما قالوه وبلغوه من شرائعه الصادقة، وبماذا أجابهم أقوامهم، فيؤدوا الشهادة أمام الله عما قوبلت به دعوتهم كما قال - سبحانه -: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} (¬1) ويرتب على شهادتهم ما يستحقه أقوامهم من ثواب أَو عقاب، وقد أَعد للمؤمنين ثوابًا كريمًا، وأعد للكافرين عذابًا أَليمًا. ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية: 109.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} المفردات: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}: من قريش ومن تحزب معهم في غزوة الأَحزاب. {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}: المراد بهم: الملائكة. {مِنْ فَوْقِكُمْ}: من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان وبنو قريظة. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}: من أسفل الوادى من جهة المغرب، وهم قريش وباقي حلفائها. {زَاغَتِ الْأَبْصَارُ}: مالت عن مستوى نظرها. {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي: خافوا خوفًا شديدًا، فالكلام على التمثيل أو الكناية لا على الحقيقة؛ لأن القلوب لا تفارق أماكنها من الصدور، ولكنها تضطرب رعبًا والحناجر: جمع حنجرة، وهي الحلقوم حيث مخرج الصوت. {هُنَالِكَ}: ظرف مكان وقد يستعمل في الزمان حقيقة من قبيل المشترك، أو مجازًا، والمراد به هنا: الزمان، أي: في ذلك الحين ابتلى المؤمنون. {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}: اضطربوا من الفزع اضطرابًا عنيفًا.

التفسير 9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}: تحكى هذه الآية والآيات التي بعدها قصة غزوة الخندق، وتسمى غزوة الأَحزاب وكانت - كما قال ابن إسحاق -: في شوال من السنة الخامسة الهجرية. والمراد بالجنود الذين جاءُوا لحرب المؤمنين: الأحزاب الذين تحزبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أَسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن - وكان الرسول قد أَقطعه أَرضًا يرعى فيها سوائمه حتى إذا سمن خفه وحافره قام يقود قومه لحرب من أَنعم عليه - وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل وبنو سليم يقودهم أبو الأَعور السلمى، وبنو النضير يقودهم رؤساؤهم حيي بن أخطب وأبناء بني الحقيق، وبنو قريظة برياسة سيدهم كعب بن أسد. وكان بين بني قريظة وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فنقضوه بسعي حُيَيّ ابن أخطب، وكان عدد جنود الأَحزاب اثنى عشر ألفًا (¬1). وسببها: أن يهود بني النضير كانوا قد خانوا عهد الرسول - عليه السلام - وذلك أَن النبي وبعض أصحابه كانوا في ديار بني النضير، فائتمروا على قتله، بأن يأْخذ أحدهم صخرة فيلقيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - من علو، فأَطلع الله نبيه على قصدهم فرجع مع أصحابه، وبعث إليهم أن اخرجوا من بلادى فقد هممتم بقتلى، فتحصنوا بحصونهم، فحاصرهم النبي ست ليال، فسأَلوا أن يكف عن قتالهم، على أن يخرجوا من ديارهم ومعهم ما حملت الإبل غير آلة الحرب، فأَجابهم النبي إلى ما طلبوا، فذهب فريق منهم إلى خيبر وعلى رأْسهم حيي بن أخطب وآل أبي الحقيق وذهب آخرون إلى أَذرعات، فلم يقر لهم قرار بعد تركهم ديارهم، وعزموا على الأَخذ بالثأْر ¬

_ (¬1) وقيل: عشرة آلاف، وقيل: خمسة عشر ألفًا.

ليستردوا بلادهم، فذهب جمع منهم برياسة حييّ بن أخطب إلى قريش لتحريضهم على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعدهم أن يقاتلوه معهم، ثم حرضوا غطفان فاستجابوا لهم، فخرجت قريش مع أحابيشها وبنو غطفان، فلما علم الرسول بخروجهم في حشدهم الكبير برياسة أبي سفيان، استشار أصحابه: أيمكث بالمدينة أم يخرج لقتالهم خارجها؟ فأَشار عليهم سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة من الحرَّة الشرقية إلى الحرة الغربية، فإنها هي الجهة التي تعتبر عورة ومدخلا للمدينة، أما بقية حدودها فمشغولة بالنخيل والبيوت، فيصعب على العدو القتال من ناحيتها، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل عشرة أربعين ذراعًا ليحفروها، وقاسى المسلمون شدائد وصعابًا في حفرها، حيث لم يسبق لهم حفر الخنادق في حروبهم، ولم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ينقل التراب متمثلا بشعر عبد الله بن رواحة: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأَنزلَن سكينة علينا ... وثبت الأَقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أَبينا ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب بعسكره في الجهة الشرقية، مسندًا ظهره إلى جبل سلع المطل على المدينة، أما قريش وأحابيشها فنزلوا بمجمع الأَسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحد، وكان الخندق فاصلا بين الرسول وبين أعدائه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم النساءُ والذراري في الآطام (¬1)، واشتد الخوف عند المسلمين، وتجلى نفاق المنافقين في هذه الغزوة، فانسحبوا من المعركة معتذرين بأَن بيوتهم عورة {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} وكانوا يقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}. ¬

_ (¬1) جمع أطم: وهو المكان العالي من حصن أو جبل أو قصر.

وفي أَثناءِ هذا الخطر الداهم، نقضت قريظة عهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأَصبح المسلمون بين نار من فوقهم ونار من أَسفل منهم، وقد هرب المنافقون بأَعذارهم المكذوبة، فزاغت الأَبصار وبلغت القلوب الحناجر من الخوف، ومضى قريب من شهر دون حرب بين الفريقين سوى الرمى بالنبل والحجارة من وراءِ الخندق، إلا أَن فوارس من قريش منهم عمرو بن عَبْدِ وُدّ - وكان يعد بأَلف فارس - وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله، اقتحموا الخندق بخيولهم من مكان ضيق، فجالت خيولهم في السيخة بين الخندق وسلع، خرج علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في نفر من المسلمين، وأَخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، فأَقبلت الفرسان معهم، وقتل عليٌّ عَمْرَو بنَ عَبْدِ وُدّ في قصة مشهورة، فانهزمت خيله حتى اقتحمت هاربة من الخندق، وقتل مع عمرومنبه بن عثمان بن عبد الدار، ونوفل بن عبد العزى، قيل: إنه وجد في جوف الخندق، فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: أجمل من هذه ينزل بعضكم أُقاتله، فقتله الزبير بن العوام، وذكر ابن إسحاق أن عليًا طعنه في ترقوته حتى أَخرجها من مراقه فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال: "هولكم؛ لا نأْكل ثمن الموتى". وقد هيأ الله للمسلمين بعد ذلك أسباب النصر، فقد جاءَ نعيم بن مسعود الأَشجعي من غطفان - وهو صديق قريش واليهود - فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومى لا يعلمون، فمرنى بأَمرك حتى أُساعدك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنت رجل واحد، وماذا عسى أن تفعل، ولكن خَذِّلْ عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: أنتم تعرفون ودي لكم وخوفي عليكم، وإني محدثكم حديثًا فاكتموه عني، فوعدوه بكتمانه فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالم وديارهم وأن قريشًا وغطفان ليسوا مثلكم، فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا إلى بلادهم وأما أنتم فتساكنون الرجل (يريد الرسول) ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأَرى أن لا تدخلوا هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم، بأَن تأْخذوا منهم رهائن سبعين شريفًا منهم، فاستحسنوا رأْيه، ثم توجه

إلى قريش فاجتمع برؤسائهم وقال: أنتم تعرفون ودى لكم، ومحبتى إياكم، وإنى محدثكم حديثًا فاكتموه عني، فوعدوه بذلك، فقال: إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا مع محمَّد، وخافوا أن ترجعوا وتتركوهم معه، فقالوا له: أيرضيك أن نأْخذ جمعا من أشرافهم ونسلمهم إليك، وترد جناحنا التي كسرت - يريد بني النضير - فرضي بذلك منهم، ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل عما أخبر قريشًا، فأرسل أبو سفيان وفدا لقريظة يدعوهم للقتال غدًا - وكان يوم سبت - فقالوا: إنا لا نقاتل يوم السبت، ولم يصبنا ما أصابنا إلا بالتعدى فيه، ولن نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم، فتحققت قريش وغطفان مما قاله نعيم بن مسعود الأشجعى، فتفرقت القلوب وخاف بعضهم بعضًا، وأدى نعيم بن مسعود بهذه الوقيعة أعظم خدمة للإسلام في هذا الخطر المحدق به. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ابتهل إلى ربه قائلا: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأَحزاب، اللهم اهزمهم وانصرنا. عليهم" فكان هذا الدور الذي أداه نعيم جزءًا من إجابة الله لدعوته، وأرسل الله على أعدائه ريحًا باردة في ليلة مظلمة شاتية، كفأت قدورهم، وأطفأَت نيرانهم، وقلعت خيامهم، وأَرسل عليهم جنودًا من الملائكة لم يروها، كبَّرت في جوانب العسكر، فماجت الخيل بعضها في بعض، فقال طليحة بن خويلد الأَسدى: أما محمَّد فقد بدأكم بالسحر فالنجاءَ النجاء. فأَجمعوا أَمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، خوفًا من أن تتفق يهود مع المسلمين فيهجموا عليهم في تلك الليلة المدلهمة، وقد بلغ من خوفهم أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم: ليتعرف كل منكم أخاه، وليمسك بيده خوفًا من أن يدخل بينكم عدو، وبدأ بالرحيل، فقال له صفوان بن أُمية: أنت رئيس القوم فلا تتركهم وتمضى، فنزل من فوق بعيره وآذنهم بالرحيل، فرحلوا مهزومين. والمعنى: يا أَيها الذين صدقوا باللهِ ورسوله، اذكروا نعمة الله عليكم حين جاءتكم جنود كثيرة من الأَحزاب، مجهزون بمختلف أنواع السلاح، فأَرسلنا عليهم ريحًا شديدة كفأَت قدورهم، وقلعت خيامهم، ونشرف الرعب بينهم، وأرسلنا عليهم - أيضًا - جنودًا من الملائكة لم تروها، وكان الله بما تعملونه من حفر الخندق والاستعداد للقتال بقدر وسعكم، وأنه لا يكفي في رد هؤُلاء الأَعداء المحيطين بكم، كان الله بذلك كله خبيرا، فلذلك نصركم بالريح والجنود التي لم تروها.

10، 11 - {إِذْ جَاءُوكُمْ (¬1) مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}: المعنى: يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم حين جاءكم جنود الأَحزاب {مِنْ فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادى من جهة المشرق وهم بنو غطفان ومن تبعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} من أَدنى الوادى من جهة المغرب - وهم قريش ومن تابعهم من الأَحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة (¬2) - وحين مالت الأبصار عن مستواها، وانحرفت عن طريقتها (¬3) حيرة ودهشة، وخافت القلوب خوفًا شديدًا، كأنها من خوفها بلغت الحناجر، وتظنون بالله مختلف الظنون، فالمؤمنون الصادقون يظنون أَن ينجز الله وعده بنصر نبيه وأَوليائه وإعلاء دينه - أو أنه يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنهم مهزومون فيقولون ما يليق بحالهم مما سيحكيه الله - تعالى -:. {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ}: على اختلاف درجاتهم بهذه المحنة، واضطربوا اضطرابا قويًّا من شدة الفزع، وظهر على لسان كل فريق ما يليق بحال إيمانه من صدق أو نفاق. {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)} ¬

_ (¬1) بدل من (إذ جاءتكم) بدل كل من كل. (¬2) وقيل: الجائي من فوق بنو قريظة، ومن أسفل قريش وأسد، وغطفان، وسليم، وقيل غير ذلك. (¬3) وقال الأخفش: حين مالت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها.

المفردات: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: ضعف اعتقاد. {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}: من النصر. {إِلَّا غُرُورًا}: إلا باطلا من القول. {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}: يا أهل المدينة. {لَا مُقَامَ لَكُمْ}: لا مكان لكم في أَرض المعركة تقيمون فيه وأنتم مطمئنون للنصر. {فَارْجِعُوا}: إلى منازلكم. {إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}: غير حصينة (¬1). {مِنْ أَقْطَارِهَا}: من جوانبها. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ}: الردة وقتال المسلمين. {لَآتَوْهَا}: لفعلوا الفتنة. {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}: وما مكثوا بإتيانها إلا زمانًا يسيرًا مقدار السؤَال والجواب. التفسير 12 - {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}: في هذه الآية وما بعدها يحكى الله موقف المنافقين ومرضى القلوب من وعد الله بالنصر في غزوة الأَحزاب، وتخذيلهم للمجاهدين من أَهل المدينة، وفرارهم من المعركة بأَعذار واهية، والتعبير بلفظ (يقول) بدلا من (قال) للدلالة على تكرار قولهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} واستحضارًا لصورته لمزيد التشنيع عليهم. روى النسائي بسنده عن البراءِ قال: لما أَمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأْخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَلقى ثوبه وأخذ المعول وقال: "باسم الله" فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: "الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحمراءَ الآن من مكانى هذا" قال: ثم ضرب أُخرى وقال: "باسم اللهِ" فكسر ثلثًا آخر، ثم قال: "الله أَكبر. أُعطيت مفاتيح فارس، والله ¬

_ (¬1) وعورة في الأصل: مصدر، بمعنى الخلل، وصفت بها البيوت للمبالغة، ويوصف بها المفرد والمثنى والجمع مذكرًا أو مؤنثًا بلفظ واحد كما هو شأن المصادر.

إني لأُبصر قصر المدائن الأَبيض "ثم ضرب الثالثة وقال: "باسم الله "فقطع الحجر، وقال: "الله أَكبر. أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر باب صنعاءَ (¬1) "وقد تحقق كل ذلك، ولكن المنافقين لا يفقهون، فوصفوا هذا الوعد بالغرور. وجاء في حديث آخر أَنه - صلى الله عليه وسلم - كلما ضرب ضربة أضاءَت له مملكة من هذه الممالك. والمعنى الإِجمالى للآية: واذكر - أَيها النبي وكل مؤْمن - حين يقول المنافقون ومرضى القلوب مكررين: ما وعدنا الله من النصر والاستيلاء على الممالك إلا وعدًا باطلًا لا سبيل إلى تحقيقه. 13 - {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}: المراد بالطائفة هنا عبد الله بن أبي بن سلول وأَصحابه - كما قال السدى - وقيل: هم أَوس بن قيظي وأَصحابه بنو حارثة - كما قال يزيد بن رومان. ويثرب هي المدينة، وسميت يثرب باسم رجل من العماليق نزلها من قبل - كما قاله السهيلي - ولها عدة أَسماءٍ، منها: طابة، وطيبة، وقد كره بعض العلماءِ إطلاق لفظ يثرب عليها؛ لحديث رواه أحمد بسنده عن البراءِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله" تفرد به أحمد، وفي إسناده ضعف كما قال ابن كثير. ومعنى قولهم: {لا مُقَامَ لَكُمْ}: لا مكان لكم في أَرض المعركة تقيمون فيه، فأَنتم عرضة للفناءِ من الأَحزاب الكثيرة العدد والعُدَدِ، ويصح أن يكون المعنى: لا إقامة لكم، أي: لا يمكنكم الإقامة، أو لا ينبغي أَن تقيموا هنا والحال على ما ترون. أو: لا إقامة لكم في دين محمَّد، فارجعوا كفارا، وتحللوا بذلك من بيعتكم إياه وأسْلِمُوه. ومعنى الآية: واذكر - أيها النبي وكل مؤمن - حين قال جماعة من المنافقين وضعفاءِ الإيمان لجنود المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للدفاع عن المدينة: لا ينبغي أن تقيموا هنا على شفير الخندق في مواجهة الأَحزاب، فارجعوا إلى بيوتكم، يريدون ¬

_ (¬1) ذكره القرطبى في آخر المسألة الثالثة من مسائل قوله - تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ... } الآية التاسعة من هذه السورة.

بذلك ترك النبي مع المهاجرين، حتى إذا انتصرت عليهم الأَحزاب كان لهم بذلك يد عندهم تنجيهم من بطشهم، ويستأْذن جماعة منهم النبي في العودة إلى بيوتهم ليحرسوها قائلين: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي: ذليلة غير حصينة يخاف عليها من السُّرَّاق، وما هي بعورة - كما زعموا - ما يريدون بهذا الاستئذان إلا فرارًا من أَرض المعركة. 14 - {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}: ولو دخل الأَعداءُ المدينة أو البيوت من جوانبها على هؤُلاء المعتذرين عن القتال بخلل بيوتهم، ثم سأَلهم هؤُلاء الأَعداءُ الحرب في صفوفهم ضد محمَّد وأَصحابه لأَعطوها وخاضوا غمارها ضده، ولم يتلبثوا في بيوتهم إلا زمنًا يسيرًا بقدر ما يأْخذون سلاحهم فطلبهم الإذن في الرجوع إلى بيوتهم ليس راجعًا إلى اختلالها وعدم حصانتها - كما زعموا - بل لنفاقهم وكراهتهم نصرة رسولهم. وفسر بعضهم الفتنة بالكفر، والمعنى عنده: ولو سئلوا الردة عن الإِسلام لأَعطوها وما مكثوا بإعطائها إلا زمنًا يسيرا بمقدار السؤال والجواب، والمعنى الأول أَولى، وهو اختيار ابن عطية، وقد دخل فيه هذا المعنى ضمنًا. {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}

المفردات: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} أي: لا يفرون، والفار يُوَلّى دبره. {مَسْئُولًا}: مطلوبًا الوفاءُ به. {لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}: لا تنتفعون بالبقاء إلا زمنًا قليلًا. {يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ}: يمنعكم من قضائه خيرًا كان أو شرًا. التفسير 15 - {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}: قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أُحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله على أن لا يعودوا لمثل ما فعلوا. وهذه الآية الكريمة تعيب عليهم نكوصهم في عهدهم في غزوة الخندق، حيث كانوا ضمن المنافقين المستأْذنين في الرجوع من المعركة لحفظ بيوتهم من الأَعداءِ، بحجة أَن بها عورة وخللًا، وتُذكّرهم بوجوب الوفاءِ بالعهد. والمعنى: وقد كان هؤُلاءِ المنافقون المعتذرون عاهدوا الله أمام رسوله من قبل هذه الغزوة أن لا يعودوا للفشل الذي هموا به يوم أُحد، فلا يولون الأَدبار في حروب الرسول مع الكافرين، وكان الوفاءُ بعهد الله مطلوبًا، فما بالهم يستأذنون في العودة إلى بيوتهم في أَصعب أحوال الحرب بين الإِسلام والكفر. 16 - {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}: قل - أيها الرسول - لهؤلاءِ المعتذرين الفارين من المعركة: لن ينفعكم الفرار من الموت حتف أُنوفكم إن قضى الله بذلك، أو من القتل إن قضى الله أَن تقتلوا وإذا فررتم من أَحدهما فسيدرككم ما قضاه الله عليكم منهما، وإذًا لا تمتعون بالفرار إلا زمانًا قليلًا مهما طال، فإن متاع الدنيا قليل مهما طال الأَجل.

17 - {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: قل لهم - أيها الرسول -: من هذا الذي يمنعكم من قضاء الله إن أراد بكم سوءًا أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله - عندما يحل بهم السوءُ - قريبًا ينفعهم ولا نصيرًا يدفع الضر عنهم. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} المفردات: {الْمُعَوِّقِينَ}: المثبطين الصادين الناس عن رسول الله، وهم المنافقون. {هَلُمَّ إِلَيْنَا}: تعالوا إلينا وأَقبلوا علينا. {الْبَأْسَ}: الحرب والقتال، وأَصل معناه: الشدة. {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}: بخلاءَ بالمعاونة. {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ}: كنظر المغشى عليه. {مِنَ الْمَوْتِ}: من معالجة سكرات الموت. {سَلَقُوكُمْ}: آذوكم بالكلام وبالغوا في شتمكم وذمكم.

{بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}: قاطعة سلطة. {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}: بخلاءَ على الإنفاق في سبيل الله. {أَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}: أبطلها. التفسير 18 - {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}: ذكر الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة بعض صور النفاق وصفات المنافقين، فهم الذين يستأْذن فريق منهم النبي في الرجوع إلى المدينة في غزوة الخندق متعلين بأَن بيوتهم غير محصنة ولابد من حراستها، وما يريدون إلا الفرار مع أَن بعضهم عاهدوا الله في غزوة أحد لا يولون الأَدبار، ولن ينفعهم الفرار من الموت أو القتل، ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا. وفي هذه الآية الكريمة يبين الله صورة من صور هؤلاء المنافقين. وقد نزلت هذه الآية الكريمة - كما قال ابن السائب - في عبد الله بن أُبي، ومن رجع معه من المنافقين من الخندق إلى المدينة، كانوا إذا جاءَهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في جيش الرسول أن: ائتونا فإنا ننتظركم. والمعنى: يعلم الله على سبيل التحقيق المثبطين سرًّا عن رسول الله، وهم فريق من المنافقين يصدون الناس عنه، ويمنعونهم من شهود الحرب معه، ومشاركته في الذب عن دين الله، وقتال أعداءِ الإِسلام، وهم الذين يقولون لإخوانهم في النفاق وكراهية الرسول وبغض الإِسلام: هلم إلينا، أَي: انضموا إلينا وقربوا أَنفسكم منا، وتعالوا ودعوا محمدًا فلا تشهدوا معه حربًا، فإنا نخاف عليكم الهلاك بهلاكه. وكانوا لا يباشرون الحرب والقتال إلا قيلا لعدم إخلاصهم، فهم لا يشهدون القتال إن شهدوه إلاَّ تقية دفعا عن أنفسهم. وقيل: إن قوله - تعالى -: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} من تتمة كلامهم، ومعناه: ولا يأْتي أصحاب محمَّد حرب الأَحزاب، ولا يبقون فيها إلاَّ زمانًا قليلا تدور بعده الدوائر عليهم، والظاهر المعنى الأَول.

19 - {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا}: لا يزال النظم الكريم يعرض صور المنافقين. ومعنى الآية: بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة وبكل ما فيه منفعة لكم، فإِذا جاءَ الخوف من العدو، وتُوُقِّع أن يُستأْصل أَهل المدينة، رأيتهم ينظرون إليك في تلك الحال تدور أعينهم في أحداقهم حائرة، كحال المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذرًا وخوفًا من الحرب. فإِذا ذهب الخوف وجاءَ الأَمن وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نسوا تلك الحال واجترأْوا عليكم، وضربوكم بأَلسنة ذَرِبَةٍ فصيحة وقالوا: عظموا نصيبنا من الغنيمة فإنا ساعدناكم وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم. وقد سأَل نافع بن الأَزرق، ابن عباس - رضي الله عنه - عن "السلق" في الآية فقال: الطعن باللسان، قال: وهل تعرف العرب ذلك، فقال: نعم، أَما سمعت قول الأعشى: فيهم الخصب والسماحة والنجـ ... ـدة فيهم والخاطب المسلاق وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة البليغة، قال: معنى سلقوكم: خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة، يقال: خطيب مسلاق إذا كان بليغًا في خطبته. {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: بخلاءَ على كل خير، فلا يعاونونكم في الحرب ولا ينفقون في سبيل الله، ولا غير ذلك من فنون الخير، أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لم يؤمنوا إيمانًا صحيحًا نابعًا من قلوبهم، فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان، وأضمروا في قلوبهم الكفر وتظاهروا بالإِسلام، ولم يستبطنوه فأَحبط الله أعمالهم، أي: أذهب أجرها وأظهر بطلانها؛ لأنها باطلة مذ عملت؛ إذ صحتها مشروطة بالإيمان الصادق، وكان ذلك الإحباط على الله يسيرا هينا سهلا، لا يبالى به ولا يخاف اعتراضا عليه؛ لأنه عادل

يقول العلامة الزمخشرى: وفي هذا بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح، وتنبيه على أَن الأَعمال الكثيرة من غير تصحيح الإيمان كالبناء على غير أَساس وأنها مما يذهب عند الله هباءً منثورًا. {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}: المفردات: {بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ}: كائنون في البادية الأَعراب. {مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}: رياءً وسمعة وخوفًا من التعيير. التفسير 20 - {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}: ومن صفات المنافقين أنهم يظنون أن جيوش الأحزاب لا تزال مكانها تحاصر المدينة وأنهم لم يرحلوا ولم يشتت الله شملهم، وذلك لما مسهم من الجزع، وأصابهم من الدهشة والهلع، وإن يأْت الأَحزاب كرة ثانية يتمنوا أنهم خارجون إلى البدو ومقيمون بين الأعراب يتسقطون أخباركم، ويسأَلون كل قادم من جانب المدينة عما حدث لكم وجرى عليكم من الأَحزاب، وهكذا يتعرفون أحوالكم بالاستخبار والسؤال لا بالمشاهدة والعيان فرَقًا وخوَرًا. واختيار البادية ليكونوا سالمين من القتال، بعيدين عن أرض المعركة، ولو كانوا فيكم في هذه الكرة المفروضة، وظلوا في معسكركم، وحدث قتال، والتحم الجيشان

ما قاتلوا إلا قتالًا قليلًا رياءً وسمعة وخوفًا من التعيير، وهو قليل لا يجدى نفعًا، ولا يسوق نصرا، ولا يدفع ضررا لأَنه زياءٌ، ولو كان لله لبالغوا في القتال لتحقيق النصر. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} المفردات: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}: قدوة طيبة. {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: يأْمل رضا الله، وثواب اليوم الآخر. {مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من الابتلاءِ والنصر. {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أَي: ظهر صدق خبر الله ورسوله في الوعد. {وَتَسْلِيمًا}: وانقيادًا لأَوامره وطاعة لرسوله. التفسير 210 - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}: هذه الآية أصل كبير في التأَسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله، ولقد أمر الله - تبارك وتعالي - الناس فيها بالتأَسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأَحزاب في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه

وقال معاتبا للذين قلقوا واضطربوا في أَمرهم يوم الأحزاب وللمتخلفين: لقد كان لكم (¬1) في رسول الله أُسوة حسنة فهلا اقتديم به وتأسيتم بشمائله؟ والآية وإن سيقت للاقتداء به - عليه السلام - في أمر الحرب من الثبات في القتال ونحوه، فهي عامة للاقتداء به في كل أفعاله "ما لم يُعلم أنها من خصوصياته". أخرج الشيخان والنسائى وابن ماجه وغيرهم عن ابن عمر: أنه سئل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأَته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ فقال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، وسعى بين الصفا والمروة ثم قرأَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: لمن كان يأْمل رحمة ربه ورضوانه، ونعيم اليوم الآخر وهو يوم القيامة أو يخاف الله واليوم الآخر، فالرجاءُ هنا بمعنى الأَمل أو الخوف، وقرن - سبحانه وتعالى - بالرجاء كثرة الذكر لأَن المثابرة على كثرة ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق التأَسي والاقتداءُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصرح بعض الأَجلة كالإِمام النووى أَن ذكر الله المعتبر شرعًا ما يكون في جملة مفيدة كسبحان الله، والحمد لله، وأَجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه، فالمتلفظ بنحو: سبحان الله والحمد لله إذا كان غافلا عن المعنى لا يثاب إجماعًا. 22 - {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}: هذا بيان لما صدر عن خلص المؤْمنين وصالحي المسلمين عند اشتباه الشئون، واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم. ¬

_ (¬1) في الكلام فن التجريد، وهو أن ينزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف بها، نحو: لقيت منه أسدًا، وهو كما يكون بلفظ في، كقول الشاعر: أراقت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

أي: لما شاهد المؤْمنون الأَحزاب وعاينوا جموعهم المحتشدة، قالوا مشيرين إلى ما شاهدوه: هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار الذي يعقبه الفرج القريب والنصرة على الأعداءِ، أو الجنة. قال ابن عباس: يعنون قوله - تعالى - في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬1) وفي البحر عن ابن عباس قال: قال الرسول لأصحابه: "إن الأحزاب سائرون إليم تسعا أو عشرا" أي: بعد تسع ليال أو عشر من وقت أخباره لهم، فلما رأوهم قد أَقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وكذلك قول الرسول: "سيشتد الأَمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم" وتتبعه ابن حجر بأَنه لم يوجد في كتب الحديث. وصدق الله ورسوله في الوعد حيث ظهر صدق خبر الله. ورسوله في مجىء الأَحزاب وفي النصرة عليهم، وما زادهم ما رأَوه من الضيق، وما كابدوه من الشدة إلا قوة إيمان بالله، وحسن انقياد لأوامره، وطاعة لرسوله. وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد ويقوى لزيادة التكاليف وزيادة الأَعمال، وكما يزيد لذلك ينقص بنقصه - كما قال الجمهور. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 214، أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما.

المفردات: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}: من الثبات في القتال مع الرسول حتى الاستشهاد أو النصر، ووفوا بذلك. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}: وفاءً بنذره بأَن قاتل حتى استشهد. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: ومنهم من يبق حيا ينتظر ذلك الشرف. {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} أي: وما غيروا عهد الله ولا نقضوا شيئا منه. {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ}: بأن يميتهم على نفاقهم فيعذبون بكفرهم. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: أو يوفق المستعد منهم للتوبة. التفسير 23 - {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}: لما ذكر - سبحانه وتعالى - عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأَنهم استمروا على العهد والميثاق. أخرج الإِمام أَحمد ومسلم والترمذي والنسائى وجماعة عن أَنس قال: غاب عمى أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه!! لئن أَراني الله مشهدا مع رسول الله فيما بعد ليرين الله - تعالى - ما أصنع، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أَبا عمرو أَين؟ قال: واها لريح الجنة أَجدها دون أُحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ .... } الآية. وكانوا يرونها نزلت فيه وفي أصحابه. وفي الكشاف: نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، أي: نذر الثبات التام والقتال الذي يُفضى بحسب العادة إلى نيل الشهادة أو النصر.

والمعنى: من المؤْمنين المخلصين رجال، أي رجال؟! رجالٌ عاهدوا الله أن يكونوا فداءً للدعوة وقربانا للإسلام، ومنارات على طريق الإيمان بالثبات مع الرسول في القتال، والاستبسال في الذود عن دين الله حتى يفوزوا بإحدى الحسنيين: الشهادة أَو النصر، وصدقوا في هذا العهد بأَن وفوا به وحققوه بما أظهروه من أعمالهم، ومن وفى بعهده فقد صدق فيه. وهؤُلاء الصادقون منهم من قضى نحبه، أَي: وَفَّى بنذره بأَن قاتل حتى استشهد كحمزة أَسد الله ورسوله، قتل وهو يصول ويجول كالأَسد الهصور في الميدان، ومصعب ابن عمير استشهد وهو يحمل لواءَ المؤمنين إلى الجنة، وأَنس بن النضر الذي تقدمت قصته، ومنهم من ينتظر بأَن بقى حيًّا يتشوف إلى ذلك الشرف وينتظر يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤَدى نذره ويفي بعهده كعثمان وطلحة، روى أَن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أُصيبت يده، فقال الرسول: "أوجب طحة". وعن ابن عباس أن نافع بن الأَزرق سأَله عن قوله - تعالى -: (قَضَى نَحْبَهُ) فقال: أجله الذي أجل له، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد: ألا تسأَلون المرءَ ماذا يحاول ... أنَحْبٌ فيقضى أم ضلال وباطل وأَخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروى نحوه عن ابن عمر. والمعنى الأصلي للنحب - على ما قرره الراغب والبيضاوى والكشاف -: النذر، يقال: قضى فلان نحبه، أي: وفى بنذره، واستعير للموت لأَنه كنذر لازم في رقبة كل حيران، كما يطلق - أيضًا - في اللغة على الأَجل والنفس وغيرهما. {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}: وما غيّر هؤُلاء الصادقون عهدهم، ولا نقضوه ولا بدلوا تبديلا، لا أصلا ولا وصفا، بل ظلوا على ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا راغبين فيه مراعين لحقوقه صادقين في تحقيقه، وفي الكلام تعريض بمن بَدَّله من المنافقين، فكأَنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون.

24 - {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: المعنى: إنما يختبر الله عباده بالخوف والشدائد والزلازل والمحن ليميز الخبيث من الطيب فيظهر أَمر هذا وذاك بالفعل، ليجزى الله المؤمنين الصادقين بصدقهم في إيمانهم ووفائهم وصبرهم على تحقيق ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به ومحافظتهم عليه، ويعذب المنافقين الناقضين عهد الله، المخالفين لأَمره إن شاءَ إن لم يتوبوا، أو يتوب عليهم بأن يوفق المستعد منهم للتوبة. ولما كانت رحمته - تبارك وتعالى - بخلقه هي الغالبة قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا}: بقبول التوبة {رَحِيمًا}: بالعفو عن المعصية. والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة: أنه - تعالى - إن شاءَ عذبهم في الآخرة لبقائهم على نفاقهم في الدنيا، وإن شاءَ - سبحانه - لم يعذبهم بأَن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى التوبة والإِخلاص في الإيمان والعمل. ومثل ذلك قول السدي: المعنى: ويعذب المنافقين إن شاءَ تعذيبهم لبقائهم على نفاقهم، أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان بالتوبة فيعفو عنهم. وللعلامة الآلوسي كلام طويل في هذا الموضوع فليرجع إليه من أَراد. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} المفردات: {الَّذِينَ كَفَرُوا}: الأَحزاب. {بِغَيْظِهِمْ} الغيظ: أشد الغضب والحنق. {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}: غير ظافرين بشيءٍ من مرادهم. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}: بجنوده من الريح والملائكة.

التفسير 25 - {وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيًّا عَزِيزًا}: رجوع إلى حكايته بقية القصة، وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (¬1). يقول الله - تعالى - مخبرا عن الأحزاب لما أَجلاهم عن المدينة بما أَرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية: ورد الله الأحزاب الذين كفروا، بما أَرسله عليهم من الريح والجنود، فلم ينالوا خيرا من غزوهم للمؤمنين، فقد أَلقى الله الرعب في قلوبهم فولوا مهزومين مدحورين، وكفى الله المؤمنين القتال ولم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤْمنين قتلهم وحده، ونصر عبده، وأعز جنده بجنود من الريح والملائكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأَحزاب وحده، فلا شىءَ بعده" أخرجه الشيخان. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}: إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش وحلفائها، قال محمَّد بن إسحق: لما انصرف أهل الخندق قال - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم" فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان رسول الله يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله - تعالى - مكة، وهذا الحديث الذي ذكره محمَّد بن إسحاق صحيح كما قال الإِمام أحمد، وروى مثله الإِمام البخاري في صحيحه، {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} على تنفيذ ما يريد، {عَزِيزًا} لا يغلبه غالب. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية: 9.

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} المفردات: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ}: عاونوا الأَحزاب وساعدوهم. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}: يهود بني قريظة. {مِنْ صَيَاصِيهِمْ}: من حصونهم، جع صِيصيَة، وهو: ما تُحصِّن وامتُنِع به. {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وأَلقى في قلوبهم الخوف الشديد. {وَأَوْرَثَكُمْ}: وملككم إياها وجعلها لكم. {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} بعد وهي خيبر، أخذت بعد قريظة، وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. التفسير 26 - {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}: سبب النزول: روي أن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأَحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إليهم فإن الله دَاقُّهُمْ (¬1) دقَّ البيض على الصفار، وإنهم لكم طعمة، فأذن في الناس أن من كان ¬

_ (¬1) دقه: كسره، أو ضربه فهشمه، فاندق. ص 222 ج 3 قاموس.

سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاءِ الآخرة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تنزلون على حكمى؟! " فأبوا، فقال: "على حكم سعد بن معاذ" فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أَن يقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم ونساؤُهم، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أَرقعة" (¬1) ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضربت أعناقهم، وروى أن النبي جعل عقارهم للمهاجرين دون الأَنصار، فقالت الأنصار في ذلك، فقال: "إنكم في منازلكم" وقال عمر - رضي الله عنه -: أَما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: "لا، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس" قال: رضينا بما صنع الله ورسوله - اهـ: الكشاف بتصرف. والمعنى: وأنزل الله الذين عاونوا الأحزاب المخذولة وساعدوهم على حرب رسول الله من أهل الكتاب، وهم بنو قريظة - من اليهود من بعض أَسباط بني إسرائيل - كان قد نزل آباؤُهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأُمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬2) واقتلعهم من قلاعهم التي تحصنوا بها، وحصونهم التي امتنعوا خلفها، وأَلقى في قلوبهم الخوف الشديد، لأنهم مالأُوا المشركين على حرب الرسول -، وهم يعرفون صفاته في كتبهم، وليس من يعلم كمن لا يعلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليكون لهم العز والغلبة والشوكة، فرد الله عليهم كيدهم في نحرهم، انهزم المشركون ورجعوا بصفقة المغبون، وتركوا حلفاءهم من بني قريظة لنصيبهم المحتوم، وراموا استئصال المؤْمنين فاستئصلوا، ولهذا قال - تعالى -: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}: فالذين قُتِلُوا هم المقايلة، والأَسرى هم النساءُ والذرارى. 27 - {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}: ¬

_ (¬1) في الصحاح: الرقيع: سماء الدنيا وكذلك سائر السموات. (¬2) سورة البقرة من الآية: 89

وأَورثكم مزارعهم، وملككم حصونهم ومنازلم وأَموالهم: نقودهم ومواشيهم وأثاثهم، انتقل إليكم ملكها بعد قتلهم، وأَصبح مِلْكُكُم إياها مِلْكًا قويا، ليس بعقد يقبل الفسخ أو الإقالة، وأَورثكم أيضًا أرضا لم تطأْها أَقدامكم من قبل، قال عروة: لا أَحسبها إلا كل أرض فتحها الله -تعالى- على المسلمين، أو هو فاتحها إلى يوم القيامة، وبذلك قال عكرمة واختاره في البحر. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}: فقد شاهدتم بعض آثار قدرته في هزيمة الأحزاب وتشتيت جموعهم، والانتصار العظيم علي بني قريظة وأورثكم أرضهم وأموالهم، وهو - سبحانه - قدير على أن يملككم ما شاء. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} المفردات: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}: وكن تسعا وطلبن منه شيئا من زينة الدنيا. {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: السعة فيها والتنعيم بها. {وَزِينَتَهَا}: وزخرفها ومتعها. {فَتَعَالَيْنَ}: أَقْبلْنَ بإرادتكن واختياركن. {أُمَتِّعْكُنَّ} متعة الطلاق. {وَأُسَرِّحْكُنَّ}: أطلقكن. {سَرَاحًا جَمِيلًا}: طلاقا حسنًا لا ضرار فيه. التفسير 28 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}:

جاءَ في البحر: أنه لما نصر الله نبيه، وردَّ عنه الأَحزاب، وفتح عليه النضير وقريظة، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحليّ والحُلَل والإماءِ والخَوَل (¬1)، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف - صلى الله عليه وسلم - بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأَن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأَبناءَ الدنيا أَزواجهم، فأَمره - تعالى - أن يتلو عليهن ما نزل في أَمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ... الآية} وبدأَ بعائشة فقال لها: "إني ذاكر لك أَمرا ما أحب أن تتعجلي فيه حتى تستأْمرى أبويك". قالت: ما هو؟ فتلا عليها قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ... الآية} قالت: أَفيك استأْمر أبويّ؟ بل أختار الله ورسوله، ثم تتابعن كلهن على ذلك فسماهن الله أُمهات المؤْمنين، تعظيما لحقهن، وتأْكيدا لحرمتهن، وتفضيلا لهن على سائر النساء، وقصره عليهن إذ قال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (¬2) اهـ: آلوسى. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم مثل ذلك، ومما سبق يتضح مناسبة هذه الآية لما قبلها. وفي خبر رواه ابن جرير وابن أَبي حاتم عن قتادة والحسن: أَنه لما نزلت آية التخيير كان تحته - عليه السلام - تسع نسوة، خمس من قريش وهن: (1) عائشة (2) وحفصة (3) وأم حبيبة بنت أبي سفيان (4) وسودة بنت زمعة (5) وأم سلمة بنت أبي أُمية. ومن غير قريش: (6) صفية بنت حُيَيّ الخيبرية (7) وميمونة بنت الحارث الهلالية (8) وزينب بنت جحش الأسدية (9) وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكان هذا التخيير كما روى عن عائشة وأبي جعفر بعد أن هجرهن - عليه الصلاة السلام - شهرا "تسعة وعشرين يوما" وكان درسا قاسيا، وموقفا حاسما - وقفه رسوله الله أمام نسائه حين أردن زخارف الدّنيا وزينتها - بأَمر من الله. والمعنى: يا أيها النبي قل لأزواجك ناصحًا مبينًا لهن وحي الله وأمره: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، والسعة فيها، والتنعم بها، فاقبلن بإرادتكن واختياركن لخصلتين ¬

_ (¬1) أي: الخدم. (¬2) سورة الأحزاب: الآية: 52.

حكم المتعة

أعطيكن متعة تخفف عنكن وحشة الطلاق، وقسوة ومرارة الفراق، وأطلقكن طلاقًا جميلا لا إساءَة معه ولا ضرار فيه. وفي مجمع البيان: تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وقدم التمتع على الطلاق إيناسًا لهن، ولأن الإِسلام يقدِّم الخير قبل الشر ويسوق النفع قبل الضر. 29 - {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}: وإن كنتن تُؤثرن حب الله - سبحانه - وحب رسوله - عليه الصلاة والسلام - والدار الآخرة ونعيمها الباقي الذي لا يدانيه شيءٌ في الدنيا وما فيها، وترضين بما أنتن فيه من شظف العيش، وخشونة الحياة، فإن الله هيأ ويسَّر للمحسنات منكن أجرًا عظيمًا، جزاءً إحسانهن باختيار الله ورسوله على دنيا الناس. و (مِنْ) للبيان لا للتبعيض؛ لأَن كلهن كن محسنات في أعمالهن آثرن الله ورسوله واليوم الآخر. ويستدل الكاتب الإسلامي المرحوم مصطفى صادق الرافعى بهذه القصة على أنه - عليه السلام - لم يكن زواجه رغبة في متعة، ولا طلبًا لشهوة، ولا حبًّا لجسد، ولو كان الأمر على ذلك لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة، وتجريد نسائه جميعًا منها، وأمره من قبل ربه أن يخيرهن بين تسريحهن، فيكنَّ كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأَة، وبين إمساكهن فلا يكنّ معه إلا في طبيعة أُخرى تبدأْ من حيث تنتهى الدنيا وزينتها. ولم تقتصر القصة علي نفي الدنيا وزينتها عنهن، بل نفت الأَمل في ذلك إلى آخر الدهر، وأماتت معناه في نفوسهن، بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها. اهـ ملخصا من كتاب وحي القلم للرافعى ج 2 ص 63 وما بعدها". حكم المتعة: المتعة للمطلقة التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة.

تخيير الرسول لنسائه

وعن الزهرى متعتان: إحداهما يقضى بها السلطان ويجبر عليها من طلَّق قبل أن يفرض لها ويدخل بها. والثانية: حق على المتقين بعد ما فرض لها ودخل بها. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة، فقال لزوجها: متعها إن كنت من المتقين، ولم يجبره. وعن سعيد بن جبير: المتعة حق مفْروض. وعن الحسن: لكل مطلقة متعة إلاَّ المختلعة والملاعنة. تخيير الرسول لنسائه: اختلف فيما وقع من التخيير، هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار أو لا؟ فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم - ومنهم ابن الهمام - إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما كان تخييرًا لهن بين الإرادتين، على أنهن لمن أردن الدنيا فارقهن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ينبئُ عنه قوله - تعالى -: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ}. وذهب آخرون: إلى أنه كان تفويضًا إليهن بالطلاق، حتى أنهن لو اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقًا. ولقد ذكر الإِمام الرازى في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل: الأُولى: أن التخيير منه - صلى الله عليه وسلم - كان واجبًا عليه بلا شك؛ لأَنه إِبلاغ للرسالة. الثانية: أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا، فالظاهر أنه يجب عليه التمتيع والتسريح، لأَن الخلف في الوعد منه - عليه السلام - غير جائز. الثالثة: أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة على غيره - عليه السلام - بعد البينونة، وإلّا لا يكون التخيير مُمَكِّنًا من التمتع بزينة الدنيا. الرابعة: أن الظاهر أن من اختارت الله - تعالى - ورسوله يحرم على النبي طلاقها "نظرًا لمنصبه الشريف".

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} المفردات: {بِفَاحِشَةٍ}: بكبيرة. {مُبَيِّنَةٍ}: ظاهرة القبح. {ضِعْفَيْنِ} أي: ضعفي عذاب غيرهن، أي: مثليه. التفسير 30 - {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}: المعنى: يا نِسَاءَ النبي من ترتكب منكن كبيرة من الكبائر، أَو تقترف ذنبًا من الذنوب القبيحة، كعصيان الله ورسوله، ومشاقته فيما ليس في طاقته، يضاعف لها العذاب ضعفين، أي: تعذب ضعفى عذاب غيرها، أي: مثليه. وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساءِ، كان صدوره منهن أقبح؛ لأَن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وعلو المنزلة، وليس لأحد من النساءِ مثل فضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك كان ذم العقلاءِ للعاصى العالم أشد منه للعاصى الجاهل. ولما كانت مكانتهن رفيعة ناسب أَن يجعل عقاب الذنب لو وقع منهن مضاعفًا، صيانة لشرفهن الرفيع، وكان تضعيف العذاب عليهن يسيرًا هينًا لا يمنعه - جلَّ شأْنه - عنهن كونهن نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو سبب له. وروى عن زين العابدين - رضي الله عنه - أن رجلا قال له: إنكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب وقال: نحن أَحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله - تعالى - في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن نكون كما تقول، إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، وقرأَ هذه الآية والتي تليها - والله أعلم.

{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}. المفردات: {وَمَنْ يَقْنُتْ}: ومن يطع ويخضع: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}: لفظ أحد أصله: وَحَد كما قال الزمخشرى، وهو بمعنى واحد، وُضِع في سياق النفى العام ليستوى فيه المذكر والمؤنث، والواحد والكثير، والمعنى هنا: لستن كجماعة من جماعات النساء في الفضل، فمقامكن أرفع من مقامهن. {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: فلا تَجئْن بالقول خاضِعًا لَيِّنًا. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: فجور. {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: قوْلًا معروفًا بالجد. {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: أَمر من قَرَّ يَقَرُّ على لغة أهل الحجاز من باب عَلِم يعلم، دخلت عليه واو العطف وأَصله: واقررْن فخفف بحذف الراء الأُولى، وحذف ألف الوصل بعد تحريك القاف، وهو من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه، كما قاله أَبو حيان في البحر. وفتحُ القافِ في (قَرْنَ) قراءَة حفصٍ، وقرأَ الجمهور بكسرها (وقِرْنَ) وهو من الوقار، وفعله وَقِر يقِرُ، والأَمر منه للنسوة (قِرْنَ) بكسر القاف، والواو قبله للعطف، وأما واوه فقد حذفت كقولك (عِدْ) في وَعد.

{وَلَا تَبَرَّجْنَ}: ولا تبدين من محاسنكن ما يجب ستره. {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}: يبعد عنكم الذنب. {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أَي: من القرآن الجامع لكونه آيات الله، وكونه حكمة أو من القرآن والسنة. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} اللطف من الله: الرفق والتوفيق والعصمة. والخبير: الدقيق العلم. التفسير 31 - {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}: هذه الآية والتي قبلها، واللاتي بعدها آدابٌ أمر الله بها نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء الأُمة تبعا لهن. والمعنى: ومن يخضع منكن لله ورسوله، فلا يطالبنه - صلى الله عليه وسلم - بما ليس في طوقه، ولا يبالين بزينة الحياة الدنيا، وتستمر على عمل الصالحات، من رعاية البيت، ومراعاة شأْن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصلاة والصيام وسائر خصال البشر - من يخضع منكن كذلك - نعطها أَجرها مرتين، مرة على قنوتها وخضوعها، وأُخرى على عمل الصالحات، وأَعددنا لها رزقًا عظيمًا في الجنة زيادة على أَجرها. وهذه المضاعفة للأَجر، في مقابل المضاعفة للعذاب، إن أَتين بمعصية؛ أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال في حاصل معنى هذه الآية والتي قبلها: من عصى منكن فإن العذاب يكون عليها ضعف سائر نساءِ المؤمنين، ومن عمل صالحًا منكن فإن أجرها يكون ضعف سائِر نساء المسلمين. وهذا يستدعى أنه إذا أُثيب سائر نساءِ المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن على الحسنة بعشرين مثلًا لها، وإن زيد للنساء على العشر شىءٌ زيد لهن ضعفه. قال الآلوسي: وكأَنه - والله تعالى أعلم - إنما قيل: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} دون (يضاعف لها الأجر ضعفين) كما قيل في المقابل: يضاعف لها العذاب ضعفين؛ لأن أصل تضعيف

الأجر ليس من خواصهن، بل كل من عمل صالحًا من النساءِ والرجال من هذه الأُمة يضاعف أجره، فأخرج الكلام مغايرًا لما تقتضيه المقابلة رمزًا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مُغَاير لتضعيف العذاب. 32 - {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}: ذهب جمع من المفسرين إلى أن (أحد) وصف لمذكر محذوف، وأن المعنى ليست كل واحدة منكن كشخص واحدة من النساءِ في عصركن، فكل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن، لما امتازت به من شرف الزوجية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمومة المؤمنين، وذهب الزمخشرى إلى أن (أحد) إذا وضع في سياق النفى استوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجماعة، وقد استعمل (أحد) بمعنى المتعدد في قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لأَن لفظ (بين) لا يدخل إلا على متعدد. قيل: وهذا التوجيه أولى من سابقه، على القول بفضل آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران على نساء العالمين جميعًا، فإنه لا يمنع من تفضيل جماعة زوجات الرسول على كل جماعة سواهن، بخلاف الأَول فإنه يتعارض مع تفضيل كِلْتَيْهمَا على كل واحدة بن نساء العالمين، وفي جملتهن زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى الآية مجتمعة: يا نساءَ النبي: ليست جماعتكن مثل سائر جماعات النساء إن اتقيتن مخالفة حكم الله ورضا رسوله، فلا يكن قولكن لينا كما كانت حال نساءِ العرب حين مكالمة الرجال بترخيم الصوت، ولينه، بل يكون قولكن جزلا، وكلامكن فصلا، حتى لا يطمع من في قلبه مرض الفجور والفسوق وقلن قولًا معروفًا بالصواب في عرف الشريعة وكرام النفوس. وبالجملة: فالمرأَة تندب - إذا خاطبت الأَجانب والمحرمين عليها بالمصاهرة وغيرها - إلى الجِدِّ في القول من غير رفع صوت، فإن المرأة مأْمورة بخفض الكلام (¬1) والجد فيه. ¬

_ (¬1) انظر الآلوسي، والقرطبي.

33 - {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}: أمر الله - تعالى - نساءَ نبيه أَن يقررن ويلزمن بيوتهن ونهاهن عن التبرج، وهو كما قال مجاهد وقتادة وابن أبي نجيح: أَن تلقى المرأَة خمارها على رأَسها، وَلا تشده فيوارى قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وقال أبو عبيدة: التبرج أَن تبدى المرأة من محاسنها ما تستدعى به شهوة الرجال، وأَصله كما قال أبو حيان: من البَرَج وهو سعة العين وحسنها، ويقال: طعنة بَرْجاءُ، أي: واسعة. ولهذا قال الليث في معناه: تبرجت المرأَة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها، ويُرَى مع ذلك من عينها حُسْنُ نظر. واختلف العلماءُ في تأْويل الجاهلية الأُولى، ومن أحسن ما قيل في ذلك: إنها الجاهلية التي كانت قبل الإِسلام، وهي جاهلية كفر، وأَما الجاهلية الأُخرى فهي جاهلية الفسق في الإِسلام، ويعضده قوله - صلى الله عليه وسلم - لأَبي الدرداء - رضي الله عنه -: "إن فيك جاهلية". قال: جاهلية كفر أَو إسلام؟ قال: "بل جاهلية كفر"، ويرى ابن عطية أَنها ما قبل الإِسلام، وأَن الأُولى بمعنى السابقة وليس المعنى أن ثَمَّ جاهلية أُخرى، وقد أوقع اسم الجاهلية على المدة التي قبل الإِسلام، فقالوا في شعرائِها: شاعر جاهلي، وبالجملة فالمقصود من الآية أن لا يشبهن نساءَ ما قبل الإِسلام في مشيتهن المنكرة، وكلامهن اللين، وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعًا. وهذا الحكم لا تختص به نساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فكل نساءِ المؤمنين مأْمورات بالتصون والاحتشام، والشريعة مليئة بلزوم النساء البيوت، والكف عن الخروج إلاَّ لضرورة وإنما خص نساءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب تشريفًا لهن، لأَنهن قدوة لسواهن. قال ابن العربي: لقد دخلتُ نَيِّفًا على أَلف قرية، فما رأيت نساءً أصون عيالًا، ولا أَعف نساءً من نساءٍ نابلس، التي رُمى بها الخليل - صلى الله عليه وسلم - بالنار، فإني أقمت فيها، فما رأيت امرأة في طريق نهارًا إلاَّ يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى

يمتليء المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة ورجعن إلى منازلهن، لم تقع عينى على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكَفِهن حتى استشهدن فيه. اهـ فليعتبر نساءُ عصرنا بهذا السلف الصالح. والمعنى الإجمالي للآية: "والْزَمْن بيوتكن يا نساءَ النبي، ولا تظهرن محاسنكن للأجانب كما كان يفعل نساءَ الجماهلية قبل الإِسلام، وأدين الصلاة بأَركانها وشروطها، وأعطين الزكاة لأَصحابها، وأطعن الله ورسوله فيما يأمركن به وينهاكن عنه، ما يريد الله بما كلفكُنَّ به إلا أن يذهب عنكم الذنب المدنس لعرضكم يا أهل بيت النبي، ويطهركم منه تطهيرًا يليق بمكانة رسوله. والمراد بأهل البيت نساؤه - صلى الله عليه وسلم - كما يدل عليه النسق، وقيل: نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته، وفيما يلي بيان آراء العلماءِ في ذلك وأدلتهم. 34 - {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}: يدل صدر هذه الآية كل أن المراد بأَهل البيت نساؤه، وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء: هن زوجاته بخاصة لا رجل معهن، والمراد بالبيت على هذا مساكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وقال آخرون - ومنهم الكلبي -: هم علي وفاطمة والحسن والحسين، واحتجوا بقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ولو كان للنساء بخاصة لقال: (عنكن ويطهركن) بالنون، وقد يجاب عن ذلك بأَنه روعي لفظ الأَهل وإن كان المراد النساء، كما يقال للرجل: كيف حال أهلك؟ - والمراد امرأتك أو نساؤك - فيجيب: هم بخير، وفي مثل هذا يقول الله تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} قال القرطبي: والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم، وإنما قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ} - بضمير جماعة المذكور - لأَن رسول الله وعليًّا وحسنًا والحسين كانوا فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت؛ لأَن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام - والله أعلم.

وقد ذهبت الشيعة إلى تخصيص أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما - رضي الله عنهم - لما روى: (أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات غدوة وعليه مِرْطٌ مِرَجَّل (¬1) من شعر أسود فجلس، فأَتت فاطمة - رضي الله عنها - فأَدخلها فيه، ثم جاءَ عليٌّ فأدخله فيه، ثم جاءَ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - فأَدخلهما فيه، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} والاحتجاج بذلك على عصمتهم، وكون إجماعهم حجة ضعيف. والتخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها، والحديث يقتضي أنهم من أهل البيت، لا أَنه ليس غيرهم. والمقصود من ذكرهن آيات الله والحكمة، أن يبلغن ما يسمعن من آيات القرآن العظيم الجامعة بين كونها آيات الله وكونها حكمة، وقيل: المراد بالحكمة السنة. ويجوز أن يكون المراد تذكيرهن ما أَنعم الله به عليهن، من حيث إنه - تعالى - جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي، وما شاهدن من برحاء الوحي، ممَّا يوجب قوة الإيمان، والحرص على الطاعة، حثًّا على الائتمار والعمل بما كلفن به، وهذا المعنى أليق بسياق الآية مع ما قبلها. والمعنى الإجمالي للآية: وتذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله القرآنية، ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك نعم جليلة من الله عليكن، تقتضى الائتمار بما أُمِرْتُنَّ به، والانتهاء عما نهيتنَّ عنه، إن الله كان لطيفًا عظيم الرفق، خبيرًا يعلم ويدبر ما يصلح في الدين، ولذلك خيركن ووعظكن، أو يعلم من يصلح لنبوته، ويعلم من يصلح أن يكون من أَهل بيت نبيه. وجوز بعضهم أن يكون التعبير بلطيف نظرا للآيات لدقة إعجازها، وبخبير نظرًا للحكمة لمناسبتها الخبرة - انظر الآلوسي. ¬

_ (¬1) المرط - بكسر الميم وسكون الراء -: كساء من صوف أو خز منتوف الشعر: قاموس.

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)} المفردات: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ}: والمداومين على الطاعة والمداومات. {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}: والمتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم والمتواضعات. التفسير 35 - {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ... الآية}: بدأَ الله بذكر الإِسلام الذي هو مفتاح العصمة، وأساس عمل الجوارح، وثنى بذكر الإيمان الذي ينتفى به النفاق، وتدور عليه النجاة يوم الدين أمَّا ما بعده ذلك فمرتب عليهما. وسبب نزولها ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن أُم سلمة - رضي الله عنها - قالت: (قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فلم يَرُعْنى ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ .... إلى آخر الآية}.

وأَخرج ابن جرير عن قتادة قال: (دخل نساءٌ على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلن: قد ذكركن الله - تعالى - في القرآن وما ذُكرنا بشيء، أمَا فينا ما يذكر، فأَنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... }، وهناك روايات أُخرى غير ما ذكر، ولا مانع أن تجتمع كلها في سببية النزول. ومعنى الآية: إن الداخلين في السلم الخاضعين لحكم الله والخاضعات والمصدقين ما يجب التصديق به والمصدقات، والمطيعين الله تعالى والمطيعات، والصادقين في القول والعمل والصادقات، والصابرين على الطاعات وعن المعاصي والصابرات، والمتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم والمتواضعات والمتصدقين بما يحسن التصدق به والمتصدقات والصائمين الصوم المفروض والصائمات، أعد الله لمن اجتمعت فيهم هذه الصفات مغفرة لصغائر ذنوبهم، وأجرًا عظيمًا على طاعتهم. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} المفردات: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ}: وما صح ولا استقام. {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} أَي: إذا قضى رسول الله، وذكر لفظ الجلالة لتعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإشعار بأَن قضاءَه من قضاءِ الله تعالى. {الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}: الخيرة: مصدر من تخير، كالطِّيَرَة: مصدر من تطيَّر، ولم يجىء مصدرًا في هذا الوزن سواهما - على ما قيل - أي: وما كان لهم أَن يختاروا من أَمرهم ما شاءُوا، وجمع الضمير في (لهم) لرعاية المعنى، لوقوع مؤمن ومؤمنة في ساق النفى فتعمّ.

التفسير 36 - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش بنت عمة الرسول أُميمة بنت عبد المطلب: وأخيها عبد الله، روى من ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها لمولاه زيد بن حارثة، وقال: إني أُريد أَن أُزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك، فأَبت وقالت: يا رسول الله لكن لا أرضاه لنفسى، وأَنا أَيِّمُ قومي (¬1) وبنت عمتك، فلم أكن لأَفعل، وفي رواية أنها قالت: أنا خير منه حسبًا، ووافقها أخوها عبد الله على ذلك، فلما نزلت هذه الآية رضيا وسلما، فأَنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدًا بعد أَن جعلت أمرها بيده، وساق لها عشرة دنانير وستين درهمًا مهرًا، وخمارًا وملحفة ودرعًا وإزارًا وخمسين مُدًّا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد. أَنه قال: نزلت في أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أَول امرأَة هاجرت من النساءِ، فوهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فزوجها زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأَخوها، وقالا: إنما أَردنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية بسبب ذلك، فأَجابا إلى تزويج زيد (¬2) - ولعل ذلك - كان بعد طلاقه لزينب. ومعنى الآية: وما صح ولا استقام لرجل ولا لامرأَة من المؤمنين إذا قضى رسول الله أمرًا أن يختاروا من أَمرهم ما شاءُوا، بل يجب عليهم أَن يجعلوا رأيهم تبعًا لرأْيه واختيارهم تبعًا لاختياره، فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحى يوحى، ومن يعص الله ورسوله برفض أمر قضاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد بعد عن طريق الحق بعدًا بينًا واضحًا. ¬

_ (¬1) الأيم من النساء: من لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبًا. وكذا الأيم من الرجال. (¬2) انظر الآلوسي، والقرطبي.

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ اللهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (39)} المفردات: {لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}: وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإِسلام، وأنعم الرسول عليه بالعتق. وتَبنَّاه فكان يدعى زيد بن محمَّد. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}: لا تطلق زينب. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}: وتخفى في نفسك أمر تزوجها الذي شرعه الله لك، حذرًا من قالة الناس. {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}: حاجة - كناية عن أنه طلقها. {حَرَجٌ}: ضيقٌ. {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ}: في أزواج من دعوهم أبناءَهم وهم غرباءُ. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}: وكان حكمه وقضاؤه نافذًا.

{فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}: في الرسل السابقين. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}: وكان حكم الله قضاءً مقضيًّا وحكمًا مفعولًا. {حَسِيبًا}: كافيًا للمخاوف، أو محاسبًا. التفسير 37 - {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ... الآية}: المراد بالذى أنعم الله عليه، وأنعم الرسول عليه: زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي، وهو غلام عربي اشترته السيدة خديجة، ووهبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأَعجبه ظرفه وأدبه فأعتقه وتبناه، وأحسن تربيته ورعايته (¬1). وكان التبنى أمرًا سائدًا قبل الإِسلام، وكان من تبنى أحدًا كانت له حقوق الابن النسبي من الميراث وغيره، وبحكم هذا التبنى خطب له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنت عمته زينب بنت جحش، وزوجه إياها كما تقدم بيانه، روى أبو عصمة نوح ابن أَبي مريم مرفوعًا إلى زينب أنها قالت: (أمْسَى زيد فأَوى إلى فراشه - قالت زينب -: ولم يستطعني زيد، وما أَمتنع منه غير ما منعه الله مني فلا يقدر على). وكانت تؤذى زيدًا بلسانها، وتفخر عليه بحسبها ونسبها، فجاءَ زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن زينب تؤذينى بلسانها، وتفعل وتفعل، وإنى أُريد أن أُطلقها، فقال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ ... الآية} فطلقها زيد فنزلت: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ... الآية}. وروى عن علي زين العابدين بن الحسين - رضي الله عنهما، ورب الدَّار أدرى بما فيها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أوحى الله - تعالى - إليه أن زيدا يطلق زينب، وأَنه ¬

_ (¬1) قال ابن كثير: وكان سيدا كبير الشأن جليل القدر حبيبا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له: الحب ويقال لابنه أسامة: الحب ابن الحب، قالت عائشة - رضي الله عنها - ما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية إلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه - أخرجه الإمام أحمد بسنده عنها - اهـ.

يتزوجها بتزويج الله إيَّاها له، فلما اشتكى زيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - خُلُقَ زينب وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة الأدب والوصية: اتق الله في قولك، وأمسك عليك زوجك، وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأْمره بالطلاق، لما علم أنه سيتزوجها، وخشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلحقه قول من الناس في أَن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر من أنه خشى الناس في شيءٍ قد أَباحه الله له، بأَن قال: "أمْسِكْ" مع علمه أنه يطلق، وأعلمه أن الله أحق بالخشية في كل حال. قال القرطبي: قال علماؤنا: وهذا القول أَحسن ما قيل في تأْويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين: كالزهرى والقاضى بكر ابن العلاء القشيرى، والقاضى أبو بكر بن العربى وغيرهم. اهـ. هذا وللقصَّاص كلام فيما كان يخفيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أَمر زينب يدور حول حبه لها، وحدوث رغبته في طلاقها ليتزوجها، وهذا الكلام من وضع الزنادقة ولا يليق إلصاقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان يريد أن يتزوجها أو كان يحبها لكان قد خطبها بكرًا، وكان ذلك أولى به - صلى الله عليه وسلم - من أن يتزوجها ثَيِّبًا بعد طلاق عتيقه ومتبناه لها، ولكنها مشيئة الله لكي يقطع دابر عادة التبنى التي كانت فاشية في العرب، وكانت زوجة المتبنى حرامًا على أبيه بالتبنى كالنسيب سواءٌ، بسواءٍ وفي النص القرآنى ما يقطع بكذب هؤلاء الوضاعين، فإن الآية دلت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخفى في نفسه ما الله مبديه ومظهره، والله لم يظهر حبه لها، بل أَظهر تزويجه إيَّاها بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فهذا التزويج الذي أوحاه الله إليه تَحَرَّج منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأَخفاه في نفسه، وهو الذي أظهره الله في كتابه، كما أظهره بين الناس، قال الخفاجي: واضح أن الله - تعالى - لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبنى أَوحى إليه - عليه الصلاة والسلام - أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد، فلم يبادر له - صلى الله عليه وسلم - مخافة طعن الأَعداءِ فعوتب عليه. اهـ - وهذا هو الحق الذي لا ينكره إلاَّ حقود جهول، وكذاب حقير.

أسئلة وأجوبة

أسئلة وأجوبة قال ابن العربى: فإن قيل: لأَي معنى قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقد أَخبره الله أَنها زوجه؟ قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يُعْلِمْه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها، فأَبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها، فإن قيل: كيف يأْمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه - وهذا تناقض - قلنا: بل هو صحيح لإِقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله - تعالى - يأْمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن، فليس لمخالفة الأَمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأَمر به عقلًا وحكمًا، وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه. فخر زينب بتزويج الله إياها ولقد صح من حديث البخاري والترمذي أن زينب - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كانت تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأُدِلُّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تُدِل بهن: أن جدى وجدك واحد، وأنى أنكحك الله إياى من السماءِ، وأن السفير لجبريل - عليه السلام - تعنى سفارته بين الله تعالى - وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم -. المعنى الإِجمالى للآية: واذكر - أيها النبي - حين تقول لزيد بن حارثة الكلبي الذي أَنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق والرعاية والتبنى ومختلف فنون الإحسان، أمسك عليك زوجك زينب ولا تطلقها، واتق الله فيما تقوله عنها فلا تذمها بالكبر وإيذاء الزوج، وتخفى في نفسك أنك مأْمور بتزوجها مع أَن الله سيبديه ويظهره علنًا، وتخشى لائمة الناس لو قلت له طلقها، إذ يقولون: أمر رجلًا بطلاق امرأته، ثم تزوجها بعد أن طلقها، والله - تعالى - أحق أن تستحيى منه وتخافه فلا تأْمر زيدًا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فلما قضى زيد منها حاجة فطلقها زوجناكها بعقد شرعى لكي لا يكون على المؤمنين

ضيق في التزوج من أزواج أدعيائهم إذا طلقوهن، فالحكم بينك وبين الأُمة في ذلك سواءٌ، وكان أمر اللهِ الذي تعلقت به إرادته مفعولًا ونافذًا. 38 - {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}: أي: ما صح ولا استقام أن يكون على النبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من ضيق فيما قسم الله له وأَحله من تزوج زينب التي طلقها زيد بن حارثة مثبناه - طلقها - باختياره، بعد أن نصحه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك، وهذا حكم الله في الأنبياءِ قبله، لم يكن ليأْمرهم بشيءٍ في النكاح وغيره كداود وسليمان، وعليهم في ذلك حرج، وكان أَمر الله الذي يقدره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا معدل عنه. والآية رد على من توهم من المنافقين نقصًا في تزوجه امرأَة زيد مولاه، ودعيِّهِ الذي كان قد تبناه. 39 - {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}: قال الإِمام ابن كثير في تفسيرها: يمدح الله الذين يبلغون رسالات الله (¬1). إلى خلقه ويؤدونها بأمانتها، ويخافونه ولا يخافون أحدا سواه، فلا تمنعهم سطوة أَحد عن إبلاغ رسالات الله، وكفى بالله ناصرًا ومعينًا، وسيد الناس في هذا المقام - بل وفي كل مقام - محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قام بأداءِ الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، إلى جميع أنواع بني آدم، وأَظهر الله كلمته ودينه وشرعه على جميع الأَديان والشرائع، فإِنه قد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وأَمَّا هو- صلوات الله وسلامه عليه - فإِنه بعث إلى جميع الخلق - عربهم وعجمهم - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ثم وَرَّثَ مقام البلاغ عنه أُمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه ¬

_ (¬1) يشير بذلك إلى أن الذين يبلغون منصوب على المدح، أي: أمدح الذين، ويجوز أن يكون مرفوعًا على المدح أيضا أي: هم الذين يبلغون الخ.

رضي الله عنهم - بلغوا عنه كما أَمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأَحواله، في ليله ونهاره وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم، وأرضاهم، ثم وَرثَه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا، فبنورهم يهتدى المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون. وفي هذه الآية إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس عليه بأَس من لائِمة الناس في أمر قضاه الله لنسخ عادة التبنى. {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} المفردات: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}: قرأ عاصم وحده بفتح التاء، وقرأَه منصوبًا بتقدير ولكن كان رسول الله وخاتم النيبيين، وقرأ ابن أبي عبلة وغيره بالرفع، على تقدير: ولكن هو رسولُ الله وخاتمُ، والقراءَة بفتح التاءِ على معنى أَنهم ختموا به - صلى الله عليه وسلم - فهو كالخاتم والطابع لهم، والقراءَة بكسر التاءِ هي قراءَة الجمهور، على معنى أَنه ختمهم أي: جاءَ آخرهم، وقيل: الفتح والكسر سواءٌ، مثل طابَع وطابِع ودانَق ودانِق، وطابَق من اللحم وطابِق (¬1). التفسير 40 - {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}: سبب نزول هذه الآية: أنه لما قال المنافقون: تزوج محمَّد امرأة ابنه أفحمهم الله بإنزالها، أي: ليس محمَّد أبا أحد من رجالكم نسبًا، ولكنه رسول الله، وخاتم النبيين، فهو أَبو أُمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءَه عليهم حرام. ¬

_ (¬1) انظر: القرطبي.

وقد أَفادت هذه الآية أَنه لا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - بإجماع المسلمين خلفًا عن سلف، ولصراحة الآية لم يستطع المارقون أَن يدعوا النبوة، بل ادعى بعضهم الرسالة كالبهاءِ، وهذا إفك وكفر مبين، فإِنه إذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بطريق الأولى؛ لأَن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإِن كل رسول نبي ولا عكس، وقد وردت الأَحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا نبى بعده، أخرج البخاري ومسلم بسنديهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لي أَسماءً: أَنا محمَّد وأَنا أحمد وأَنا الماحى الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي ولم يبق من النبوة إلاَّ الرؤيا الصالحة"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزءٌ من ستة وأَربعين جزءًا من النبوة" (¬1) ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس يبقى بعدي من النبوة إلاَّ الرؤيا الصالحة": وقد روى الإِمام مسلم بسنده عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثلي ومثل الأَنبياءِ كمثل رجل بني دارًا فأَتمها وأكملها إلاَّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأَنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأَنبياءَ" ونحوه عن أبي هريرة، غير أَنه قال: "فأَنا اللبنة وأَنا خاتم النبيين"، وروى الإمام أَحمد بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي" - قال أنس: فشق ذلك على الناس - قال: قال: ولكن المبشرات، قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: "رؤيا الرجل المسلم، وهي جزءٌ من أَجزاءِ النبوة". ولم يقصد بهذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له أبناءٌ، فقد ولد له: إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر (¬2)، ولكن لم يعش له أحد منهم حتى يصير رجلًا، وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام البخاري في كتاب التعبير. (¬2) أما إبراهيم فمن مارية القبطية، وأما الثلاثة الآخرون فمن خديجة - انظر ابن كثير. (¬3) انظر: القرطبي.

ومعنى الآية: ما كان محمَّد أبا أحد من رجالكم أُبوة نسبية، ولكنه كان رسول الله وخاتم النبيين والمرسلين، فلا حرج عليه في أن يتزوج مطلقة زيد بن حارثة؛ لأنه كان ابنا دعيا ولم يكن ابنًا نسبيًّا، ولهذا دعى إلى أبيه حارثة بعد أن صحح الله أنساب الناس: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} فلهذا أَبطل بنوة الأَدعياءِ، وآثارها، وختم بمحمد نبوة ورسالات الأَنبياء والمرسلين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} المفردات: {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: أول النهار وآخره. {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة. {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ}: عند الموت أو البعث أو دخول الجنة. {أَجْرًا كَرِيمًا}: أجرًا عظيمًا هو الجنة. التفسير 41، 42 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}: المقصود من ذكر الله - تعالى - أَن تذكر أَسماؤه وصفاته باللسان تارة وبالقلب تارة أُخرى، ومرجع الكثرة في الذكر إلى العرف.

ومن العلماءِ من عين الذكر بلفظه، قال مقاتل في تفسيرهما: هو أَن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) على كل حال، ومنهم من ضبط كثرته مع هذا النص بثلاثين مرة. وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى ابن عباس قال: جاءَ جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد قل: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أَكبر ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلى العظيم عددَ ما عَلم ورِنةَ ما عَلِم وملءَ ما عَلِم، فإِنه من قالها كتب له ست خصال، كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرًا ... " إلى آخر الحديث. ومعنى الآيتين: يا أَيها الذين صدقوا بالله ورسوله اذكروا الله بأَسمائه الحسنى وصفاته بألسنتكم سرًّا وجهرًا وبقلوبكم ذكرًا كثيرًا، ونزهوه سبحانه - عما لا يليق به أَول النهار وآخره، أَطهارًا ومحدثين، فإن ذلك أَفضل الزاد إلى المعاد، وتخصيص البكرة والأَصيل بالذكر ليس لقَصْر الذكر والتسبيح عليهما دون سائر الأوقات، بل لفضلهما لكونهما تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار وتلتقى فيهما. والتسبيح نوع من الذكر، وإفراده من بين الأذكار لكونه عمدة في ذكر الله - تعالى - فما لم ينزه الله - تعالى - عما لا يليق به لا يتحقق ذكر الله تعالى. 43 - {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}: هذه الآية استئناف في مقام التعليل للأمرين قبلها، والصلاة من الله على عباده المؤمنين رحمته لهم وبركاته عليهم، وصلاة الملائكة دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم، كما قال - سبحانه - في شأْنهم: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ومن مؤمنى الإنس والجن دعاءٌ، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما. والمعنى: الله هو الذي يصلى عليكم أيها المؤمنون فيرحمكم ويغدق نعمه وبركاته وفتوحاته عليكم، كما يصلى عليكم ويستغفر لكم ملائكته عناية بكم وإكرامًا لكم، لكي يخرجكم بذلك من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الكفر والعصيان إلى نور الإيمان والطاعة، وكان الله بالمؤمنين رحيمًا، حيث صلى الله عليهم، وكلف بالصلاة ملائكته المقربين.

44 - {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}: أصل التحية: أن يقول المرءُ لغيره: حياك الله، أي: جعل لك حياة، ويقال: حيَّا فلان فلانًا تحية إذا قال له حياك الله، ثم جعل كل دعاء عند اللقاء تحية؛ لكونه غير خارج في مضمونه عن طلب الحياة. والهاءُ في يلقونه ضمير عائد على الله - تعالى - والمراد من لقائه - تعالى - حضور موت العبد، روى عن ابن مسعود أنه قال: "إذا جاءَ ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام" وقيل: المراد به خروجهم من قبورهم، فيسلم عليهم الملائكة ويبشرونهم بالجنة، وقيل ذلك عند دخولهم الجنة، كما قال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وقيل: إن الذي يحييهم عند دخولهم الجنة هو الله تعالى - إذ يقول: "سلام عليكم عبادى. أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون، فيقولون بأجمعهم: يا ربنا إنا راضون كل الرضا" وروى أن الله - تعالى - يقول: "السلام عليكم، مرحبًا بعبادى المؤمنين الذين أرضونى في دار الدنيا باتباع أمرى". والآية الكريمة تتسع لكل تلك المعانى، ولا حرج على فضل الله في اجتماعها. ومعنى الآية: تحية المؤمنين من الله وملائكته يوم يخرجون من دنياهم، ويوم ينشرون ويحشرون لربهم ويوم يدخلون جنة ثوابهم: سلام عليكم، وقد هيأ الله - تعالى - لهم أجرًا عظيمًا لا غاية وراءَه. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}

المفردات: {شَاهِدًا}: على من بعثت إليهم. {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ}: بتيسيره ومعونته. التفسير 45، 46 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}: اشتملت هاتان الآيتان على خمسة أوصاف للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ولقد وصف في التوراة بمثل هذه الصفات وبغيرها من الصفات التي تتجلى فيه - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الإمام أحمد بسنده عن عطاء بن يسار قال: (لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أَخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، قال: والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزًا للأُميين، أَنت عبدي ورسولى، سميتك المتوكل لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأَسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأَن يقولوا: (لا إلهَ إلاَّ الله، فيفتح به أعينا عميًا وآذانًا صما وقلوبًا غُلفًا). ورواه البخاري بسنده عنه، وعن عبد الله بن سلام في كتاب البيوع، وروى ابن أَبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه الذي كان يهوديًا وأسلم، قال وهب بن منبه: (إن الله أَوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: شعياءُ أَن قم في قومك بني إسرائيل فإنى منطق لسانك بوحى، وأَبعث أُميًّا من الأُميين، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صَخَّابٍ في الأَسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أَبعثه مبشرًا ونذيرًا، لا يقول الخنا: أَفتح به أَعينًا كُمْهًا (¬1) وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، أُسدده كل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأَجعل السكوت لباسه، ¬

_ (¬1) الكمه - بضم فسكون -: جمع الأكمه وهو الأعمى، والمراد (أعينا عميا).

والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإِسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأُعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين أُمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأستنقذ به فئامًا (¬1) من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أُمته خير أُمة أُخرجت للناس، يأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءَت به رسلى، ألْهِمُهُم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قيامًا وقعودًا، ويقاتلون في سبيل الله صفوفًا وزحوفًا، ويخرجون من ديارهم ابتغاءَ مرضاتي ألوفًا، يُطهِّرون الوجوه والأطراف، ويَشُدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أُمته من بعده يهدون بالحق وبه ويعدلون أُعِزُّ مَنْ نصرهم، وأُؤيد من دعا لهم، وأَجعل دائرة السوءِ على من خالفهم أو بَغَى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئًا مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأَولهم، ذلك فضلى أُوتيه من أشاءُ وأنا ذو الفضل العظيم) أخرجه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليمانى. وقد اشتملت هذه الآية على خمسة من أَسمائه - صلى الله عليه وسلم - وقد سماه الله رءُوفًا رحيما، ويقول القرطبي: قال - صلى الله عليه وسلم -، فيما روى عنه الثقات العدول -: "لي خمسة أَسماءٍ: أنا محمَّد وأَحمد وأَنا الماحي الذي يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى وأنا العاقب" ثم يقول القرطبي: "وقد ذكر القاضى أبو بكر بن العربى في أحكامه في تفسير هذه الآية من أسماءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة وستين اسما" اهـ. ¬

_ (¬1) الفئام - ككتاب -: الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه.

كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته

وروى عن ابن عباس أَنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا ومعاذًا فبعثهما إلى اليمن وقال: "اذهبا فبشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا فإنه قد أُنزل عليَّ .. " وقرأَ هاتين الآيتين. ومعنى الآيتين: يا أيُّهَا النبي إنا أرسلناك شاهدًا لله بالوحدانية وعلى من بعثت إليهم، تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم، وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب، وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال، وتؤديها يوم القيامة أداءً مقبولا فيما لهم وفيما عليهم، كما جاءَ في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ} وفي قوله سبحانه -: {لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬1) وشاهدًا على جميع الأُمم بأَن أنبياءَهم قد بلغوهم رسالة ربهم، طبقًا لما عرفته من القرآن العظيم، وأرسلناك مبشرًا للطائعين بالجنة ونذيرًا للكافرين والعصاة بالنار، وداعيًا إلى الإيمان باللهِ واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، وإلى طاعته وفق شرعه بتيسيره ومعونته، وأرسلناك سراجًا منيرًا يستضاءُ به في ظلمات الجهالة والشبهات. كيف يتحمل الرسول الشهادة عن أمته يتحمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشهادة عن المعاصرين له من أُمته بما لهم وما عليهم، أما مَنْ بعده - صلى الله عليه وسلم - فعن طريق عرض الأَعمال عليه كما جاءَ في الأحاديث الدالة على ذلك، ولكنه يعرف ذلك إجمالًا لا تفصيلا، روى أبو بكر وأنس وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليردَنَّ ناس من أصحابى على الحوض حتى إذا رأَيتهم وعرفتهم اختلجوا دونى، فأَقول: يا رب أصيْحابي أُصيْحابي، فيقال لي: إنك لا تعرف ما أحدثوا بعدك". 47 - {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}: معطوف على مقدر يقتضيه المقام، أي: فراقب أحوال أُمتك، وبشر المؤمنين منهم بأَن لهم من الله فضلا كبيرًا على سائر الأُمم، أو جزاءً جزيلا تفضل الله به عليهم في مقابل صالحات أعمالهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية: 143.

48 - {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: هذَا النهي تأْييد من الله - تعالى - لموقفه من الكافرين والمنافقين (¬1)، وإقرار لما هو عليه في شأْنهم من معاصاتهم، جىءَ به بأُسلوب النهي لقطع أَطماعهم في ملاينة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم. والمعنى: دم على ما أنت عليه - أيها النبي - من معاصاتهم في مآربهم، وَتَرْكِ الملاينة في الإنذار والمسامحة معهم، ولا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارهم، واصبر على ما ينالك منهم، وتوكل على الله في كل أمرك؛ فإنه كفيل بنصرك وتأْييدك، وكفى بالله موكولا إليه في جميع الأُمور. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} المفردات: {نَكَحْتُمُ}: عقدتم. {تَمَسُّوهُنَّ}: تجامعوهن. {فَمَتِّعُوهُنَّ}: فأعطوهن المتعة، وسيأْتى في التفسير بيانها. {وَسَرِّحُوهُنَّ}: أخرجوهن من منازلكم، فليس لكم عليهن عدة. {سَرَاحًا جَمِيلًا}: من غير ضرار ولا منع حق. التفسير 49 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}: حدثنا الله فيما مضى عن قصة زينب وكان مدخولا بها، وخطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) فهو من باب: إياك أعني واسمعى يا جارة.

بعد انقضاءِ عدتها، وجاءَ بهذه الآية المباركة لتبين للمؤمنين حكم الزوجة التي تطلق قبل الدخول بها، وقد أَفادت هذه الآية أن المرأة إذا عقد عليها وطلقت قبل الدخول بها فلا عدة عليها، وهذا حكم أجمعت عليه الأُمة. وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) فأصبح حكمها قاصرًا على المدخول بهن، كما أنها مخصصة لعموم قوله تعالى: " {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (¬2) فأصبح حكمها قاصرًا على المدخول بهن كسابقتها. والنكاح مختلف في معناه لغة، فقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطءِ، وقيل: العكس، وقيل: مشترك بينهما، ولم يرد في كتاب الله إلاَّ بمعنى العقد غالبًا، ومن آداب القرآن الكناية عن الدخول بالمماسة أو الملامسة، أو القربان أو الغشيان أو الإتيان. والطلاق المعلق بالنكاح كقوله لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق لا يقع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق قبل نكاح" وبهذا قال نيف وثلاثون من الصحابة والتابعين والأَئمة - كما قال القرطبي -، وقال جماعة من أهل العلم يقع طلاق المعينة بشخصها أو قبيلتها أو بلدها، وممن قال بذلك: مالك وأصحابه، والأَول هو الحق. وقد جاءَ في الآية طلب المتعة لمن طلقت قبل الدخول، وإنما تجب إذا لم يفرض لها صداق فإن فرض لها صداق، فلا يجب لها سوى نصفه، لقوله تعالى - في سورة البقرة: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}. ومن العلماء من جعلها عامة للمطلقة قبل الدخول، فرض لها صداق أو لم يفرض، لإطلاقها في الآية، والأرجح أنها مستحبة للمفروض لها صداق واجبة لمن لم يفرض لها (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة - من الآية: 228. (¬2) سورة الطلاق - الآية: 4. (¬3) وعلى هذا يكون الأمر مشتركا بين الوجوب وانتدب على رأي من يجيزه.

وفي مذهب الشافعي القديم وجوبها لكلتيهما، ولا تزيد المتعة على نصف مهر مَنْ سمى لها، ولا تنقص عن خمسة دراهم، وأَما من لم يسم لها فلا تزيد عن نصف مهر مثلها ولا تنقص عن خمسة دراهم، وفي الموضوع تفصيلات أوْفَى في الموسوعات، وحسب القارئ هذا القدر. والمعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تباشروا وطأَهن (¬1)، فأَعطوهن متعة جبرًا لطلاقهن، وأخرجوهن من بيوتكم إخراجًا جميلا (¬2)، من غير ضرار ولا منع حق مع كلام طيب لمواساتهن، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)} المفردات: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}: أعطيت مهورهن، وسمى المهر أجرًا، لأَنه في مقابل الاستمتاع بالمرأة. {أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}: غنمته من الكفار بتيسير الله لك. {يَسْتَنْكِحَهَا}: ينزوجها. (حَرَجٌ): ضيق. ¬

_ (¬1) ويرى بعض المذاهب أن الخلوة الصحيحة بالمرأة كالدخول بها. فإن طلقت قبلها فلها المتعة، أما إن طلقت بعد الخلوة وقبل الدخول فلا متعة لها عندهم كالمدخول بها عند غيرهم. (¬2) لأنكم ليس لكم عليهن عدة.

التفسير 50 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... } الآية: اختلف العلماءُ في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} فمنهم من أولها بمعنى أبحنا لك أن تتزوج كل امرأة خالية تؤتيها مهرها سوى المحارم، ومنهم من أولها بمعنى أبحنا لك أزواجك الكائنات عندك؛ لأنَّهن قد اخترنك على الدنيا، وهذا هو رأْي الجمهور؛ وهو الظاهر، لأن قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ماض، ويؤيده ما قاله ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوج في أَي الناس شاء، وكان يشق ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلَّا مَنْ سُمِّي سُرَّ نساؤُه بذلك. وتقييد الإحلال بتعجيل صداقهن، ليس لتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأَفضل له، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسبية بقوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} فإن المشتراة لا يتحقق بدءُ أَمرها وما جرى عليها، وقد كان مهره لنسائه اثنتى عشرة أُوقية ونَشًّا، والأُوقية كانت أربعين درهما، والنشُّ: نصف الأُوقية، فيكون مهر الواحدة منهن خمسمائة درهم، إلاَّ أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقد أمهرها عنه النجاشى - رحمه الله - أَربعمائة درهم، وإلا صفية بنت حيي بن أَخطب، فقد اصطفاها من سبي خيبر ثم أَعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية، أَدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها، فإنها قد خرجت في سهمه من سبايا بني المصطلق فكاتبته عن نفسها، وذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسام - تستعينه على كتابتها، فقال لها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أَقضي عنك كتابتك وأَتزوجك، فقالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت. {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي: وأَبحنا لك التسري مما أَخذت من غنائم الكفار، وقد ملك صفية وجويرية فأَعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية، ومارية القبطية أُم ابنه إبراهيم، ومعنى {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ}: مما رده الله عليك من فيءِ الكفار من السراري، والغنيمة قد تسمى فيئًا، والسراري مباحات للنبي - صلى الله عليه وسلنم - ولأمته مطلقًا، وأَما الزوجات فمن غير قيد للرسول

- صلى الله عليه وسلم - ولكنه لم يتزوج سوى ثلاث عشرة، وأَما الأُمة فلا يتزوج أَحدهم منهن سوى أَربع في عصمته، ويرجع هذا التفاضل في عدد الزوجات إلى أَن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك له الحق فيمن يرى في الزواج بها شد الأَزْرِ للدعوة الإِسلامية، وتأْليفًا لأَهل أُولئك الزوجات وغير ذلك من السياسات الإِسلامية، فأَنت ترى أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتوسع في الزواج في شبابه في مكة، وتوسع فيه في شيخوخته بعد الهجرة؛ لتحقيق أَغراض إسلامية نشأَت بعد الهجرة. أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن محمَّد بن كعب، وعمر بن الحكيم، وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِتَّ عشرة امرأَة، ستًّا من قريش: خديجة، وعائشة، وحفصة وأُم حبيبة وسودة، وأُم سلمة، وثلاثًا من بني عامر بن صعصعة وامرأتين من بني هلال بن عامر، ميمونة بنت الحارث - وهي التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وزينب أُم المساكين، وامرأَة من بني أَبي بكر بن كلاب من القُرطاء (¬1) - وهي التي اختارت الدنيا - وامرأَة من بني الجون وهي التي استعاذت منه فطلقها، وزينب بنت جحش الأَسدية، والسبيتان: صفية بنت حيى بن أَخطب وجويرية بنت الحارث ابن عمرو بن المصطلق الخزاعية (¬2)، ويلاحظ أَنه - صلى الله عليه وسلم - توفي عن تسع. {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}: أي وأَحللنا هؤُلاءِ بشرط الهجرة معك، ويقول ابن كثير تعليقًا على ما تقدم: هذا عدل وسط بين الإِفراط والتفريط؛ فإن النصارى لا يتزوجون المرأَة إلاَّ إذا كان بينها وبينهم سبعة أَجداد، واليهود يتزوج أَحدهم بنت أَخيه وبنت أُخته، فجاءَت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأَباحت بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأَخ والأُخت، وهذا بشع فظيع. ¬

_ (¬1) هم بطون من بني كلاب أبناء أخوة ثلاثة: قرط، وقريط، وقريط بوزن قفل، وأمير، وزبير. (¬2) انظر ابن كثير - وجمهرة أنساب العرب لابن حزم، وفي عددهن ومن عقد عليهن ولم يدخل بهن كلام كثير، وحسب القارئ ما تقدم.

{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وأحللنا لك أَيها النبي امرأَة مؤمنة إذا وهبت نفسها لك أَن تتزوجها بغير مهر إنْ شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} كقوله - تعالى - إخبارًا عن نوح - عليه السلام - أَنه قال لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (¬1). وقد أَباح هذا النص للنبي - صلى الله عليه وسلم - أَن يتزوج من وهبت نفسها له دون مهر، واختلف العلماءُ في حدوث ذلك، فابن أَبي حاتم يروى بسنده عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأَة وهبت نفسها، ورواه ابن جرير بسنده عن يونس بن بكير أَنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحًا ومخصوصًا به؛ لأَنه مردود إلى مشيئته، كما قال تعالى: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. ومن العلماء من قال بحدوث ذلك في ميمونة بنت الحارث، ومنهم من قال إنهن أَربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأَنصارية، وأُم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم (¬2). وقد ثبت أن امرأَة عرضت عليه نفسها هبة فزوجها من سواه، أَخرج الإِمام البخاري بسنده عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن امرأَة عرضت نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رجل: يا رسول الله زوجنيها، فقال ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد. فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزارى ولها نصفه - قال سهل: وماله رداءٌ - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما تصنع بإزارك؟ إن لبستَهُ لم يكن عليها منه شيءٌ، وإن لبِسَتْه لم يكن عليك منه شىءٌ، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاه أو دعى له، فقال له ما معك من القرآن؟ فقال: معي سورة كذا، وسورة كذا لسور يعدِّدها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَملكناكها بما معك من القرآن". وفي رواية: زوجتكها ¬

_ (¬1) سورة هود من الآية: 34. (¬2) ذكر هؤلاء الأربعة الإِمام البيضاوي.

وهي رواية الأَكثر ولا تحل المرأَة بالهبة لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. قال القرطبي: أجمع العلماءُ على أَن هبة المرأَة غير جائزة، وأن لفظ الهبة لا يتم به نكاح إلا ما روى عن أَبي حنيفة وصاحبيه، فإنهم قالوا: إذا وهبت فأَشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز، قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز النكاح بلفظ الهبة مع استيفاءِ ما يطلب في النكاح كالمهر: اهـ بتصرف يسير. المعنى الإجمالي للآية: يا أيها النبي إنا أَحللنا لك أَزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن، وأحللنا لك الاستمتاع بالجواري اللاتي ملكتهن من غنائم الجهاد، وأَحللنا لك بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن إلى المدينة معك (¬1)، وأحللنا لك امرأَة مؤمنة وهبت نفسها لك إن أَردت نكاحها، فإن إرادتك هذه تقوم مقام القبول، وقد خصك الله بما خصك به من دون المؤمنين من أَجل نبوتك تشريفًا وتكريمًا لك بها (¬2)، قد علمنا ما فرضنا عليهم في أَزواجهم من اشتراط العقد إيجابًا وقبولا وأَن لا يتجاوزن أَربعة، ووجوب القسم والمهر بالوطءِ حيث لم يسم، وما فرضناه لهم من التسري بملك اليمين كيف شاءُوا، وقد خصصناك - أَيها النبي - بما خصصناك به لكيلا يكون عليك ضيق عند الاقتضاء، وكان الله واسع الغفران، فيغفر ما يعسر التحرز عنه، عظيم الرحمة بالتوسعة في مظان الحرج. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)} ¬

_ (¬1) قال البيضاوي: يحتمل تقييد الحل بالهجرة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. (¬2) ولهذا عدل عن الخطاب في الآية إلى ذكره بعنوان النبوة في معرض الخصوصية.

المفردات: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} أي: تؤخر. والأَصل ترجىء، فخفف بقلب الهمزة ياءً، وقرىءَ بالوجهين في السبعة. {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أَي: ومن طلبته ممن نحيته وأَبعدته فلا إثم عليك. يقال: بغى، وابتغى، وتَبَغَّى بمعنى طلب. والعزل: التنحية. والجناح: الإثم. {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي: تبرد - سرورًا - وفعله من باب فرح. التفسير 51 - {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ... }. الآية. المعنى: لك أَيها النبي أَن تؤخر من تشاءُ من أَزواجك، وتضم إليك من تشاءُ منهن، ويراد بذلك أَنك مخير فيهن توسعة عليك، إن شئت أَن تقسم المبيت بينهن قسمت، وإن شئت أَن تترك القسم تركت. هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم. فَخُص - صلى الله عليه وسلم - بأَن جعل الأَمر إليه، ولهذا ذهبت طائفة من فقهاءِ الشافعية وغيرهم إلى أَنه لم يكن القسم واجبًا عليه - صلوات الله وسلامه عليه - واحتجوا بهذه الآية الكريمة. كذلك مما يدل على أن القسم لم يكن واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم - ما أَخرجه البخاري بسنده، عن مُعَاذ، عن عائشة أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستأْذن في يوم المرأَة مِنَّا بعد أن نزلت هذه الآية {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ}. فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت كنت أقول: إن كان ذلك إليّ، فإني لا أُريد يا رسول الله أن أُوثر عليك أَحدا. قال ابن كثير فهذا الحديث يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم، وهو الذي ينبغي أَن يعول عليه؛ بهما قال ابن العربي؛ لكنه مع ذلك كان يقسم بينهن من قبل نفسه دون فرض عليه، تطييبًا لنفوسهن، وصونًا لهن عن الغَيْرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي، ولم يتركه حتى لحق بالرفيق الأَعلى.

قال صاحب البحر: اتفقت الروايات على أَنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعدل بين أَزواجه في القسم حتى مات. وقيل: إن المراد من الآية تُطلق مَنْ تشاءُ، وتمسك من تشاءُ. وقال بعضهم: الإرجاءُ والإيواءُ لإطلاقهما في الآية يتناولان ما في التفسيرين من التخيير في القسم والطلاق. وعن أبي رزين في سبب نزول الآية: هَمَّ رسول الله أَن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا تخلِّ بيننا وأنت في حل مما بيننا وبينك. افرض عن نفسك ومالك ما شئت. فأَنزل الله تعالى الآية. فأَرجأَ بعضهن، وآوى بعضهن (¬1). {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي: إذا أَردت أَن تؤوي إليك امرأَة ممن نحيت وأَبعدت فلا إثم عليك في ذلك. وكذلك حكم الإرجاءِ هو إلى مشيئتك. فدل أَحد الطرفين على الآخر. وأفاد صاحب الكشاف أَن الآية متضمنة قسمة جامعة لما الغرض؛ لأَنه - صلى الله عليه وسلم - إما أَن يطلق، وإما أَن يمسك، وإذا أَمسك ضاجع أَو ترك، وقسم أَو لم يقسم، وإذا طلق وعزل، فإما أَن يخلي المعزولة لا يبتغيها أَو يبتغيها (¬2) ". {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أَي: إذا علمن أَن الله قد رفع عنك الحرج، وفوض أَمرهن إلى مشيئتك. كان ذلك أَقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزن؛ لأنه حكم كلهن فيه سواءٌ، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلًا منك عليهن ومنة، وإن رجحت بعضهن علمن أَنه بحكم الله - تعالى - الذي فوض الأَمر إليك فتطمئن نفوسهن به دون أَن يتعلقن بأَكثر من ذلك؛ لأَن المرءَ إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيًا بما أُوتي منه وإن قل، وكان - عليه الصلاة والسلام - مع هذا التمييز يسوى بينهن في القسم تطييبًا لقلوبهن ويقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أَملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أَملك، لإيثاره عائشة - رضي الله عنها - دون أَن يظهر ذلك في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به محمولا على بيوت أَزواجه، إلى أَن استأَذنهن أَن يقيم في بيت عائشة، قالت عائشة: أَول ما اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) أرجأ: ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وآوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب. (¬2) وانقسام الطلاق والإمساك بأقسامه بسبب إطلاق الإرجاء والإيواء في قوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء}.

في بيت ميمونة، فاستأْذن أَزواجه أَن يمرض في بيتها - يعني عائشة - فأَذِن له .. الحديث. خرجه الصحيح. انظر القرطبي. وقد قبض - صلى الله عليه وسلم - في بيتها. ورد في الصحيح أَنها قالت: (فلما كان يومي قبضه الله - تعالى - بين سَحْري ونَحْري) (¬1). وعن ابن عباس ومجاهد أَن المعنى: إذا علمن أَن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أَعينهن ولم يحزن، ورضين بما تفعله من التسوية أَو التفضيل؛ لأَنهن يعلمن أنك لم تطلقهن. وقال الشعبى: الآية في الواهبات أنفسهن، تزوج رسول الله منهن وترك منهن، وقال الزهري: ما علمنا أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَرجأَ أحدًا من أَزواجه، بل آواهن كلَّهنَّ (¬2). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}: خبر عام - والإشارة إلى ما في قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في المعنى سائر المؤمنين، أَي: أنه - سبحانه وتعالى - يعلم ما في قلوبكم من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه. كما يدخل في المعنى أيضًا أزواجه المطهرات لعلمه - تعالى - بما في قلوبهن من الرضا بما دبّر الله - تعالى - في حقهن من تفويض أَمرهن إلى مشيئته - صلى الله عليه وسلم - وبما يقابل ذلك من الخواطر الرديئة: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} أَي: أَنه جل شأنه واسع العلم بلغ فيه مداه، يحيط علمه بسركم ونجواكم، وبضمائركم وخواطركم لا يعاجل عباده بالعقوبة رحمة بهم حتى يتدبروا أَمرهم، ويفكروا في مصيرهم، ولا يغتروا بإمهالهم فسبحانه يمهل ولا يهمل. {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} ¬

_ (¬1) السحر: الرئة، والنحر: أعلى الصدر. (¬2) انظر القرطبي.

المفردات: {مِنْ بَعْدُ} أَي: من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم. {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا أَن تستبدل بهن أزواجًا: ببعضهن أَو بكلهن. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أَي: حافظًا ومطَّلِعًا فاحذروا تجاوز حدوده. التفسير 52 - {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } الآية: قال غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: نزلت هذه الآية مجازاة لأَزواج النبي، ورضًا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة؛ لمَّا أخبرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم. والمعنى: لا يحل لك النساءُ من بعد التسع اللَّاتي في عصمتك اليوم؛ لأَنها نصابك، كما أن الأَربع نصاب أُمتك، ولا أَن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجًا أُخَر: بكلهن أو ببعضهن كرامة لهن وجزاءً على حسن صنيعهن حيث اخترنك، وأعرضن عن متاع الدنيا وزينتها. أخرج أبو داود في ناسخه، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أَنس قال: لما خيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترن الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قصره عليهن. فقال سبحانه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وأَخرج ابْن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية: احتبسه الله - تعالى - عليهن كما حبسهن عليه - عليه الصلاة والسلام - وهن التسع اللَّاتي مات عنهن: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأُم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية. و {مِنْ} في قوله تعالى: {مِنْ أَزْوَاجٍ} لتأكيد النفي، وفائدته استغراق الجنس بالتحريم. فيشمل النهيُ استبدالَ بعضهن أَو كلهن، ولو أَعجبك حسن الأزواج

المستبدلة (¬1). فنهاه - سبحانه - عن الزيادة عنهن أَو طلاق واحدة منهن أَو استبدال غيرها بها. وقوله - سبحانه -: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ ممن حُرم عليه من النساء في قوله سبحانه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي: من كانت بملك اليمين، وهي المملوكة، فتحل له - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ أَكانت مما أَفاءَ الله - تعالى - عليه أَم لا، ولم تحرم عليه المملوكة؛ لأَن الإِيذاءَ لا يحصل بها؛ لأَنه لا يجب القسم لها. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أي: حافظًا وَمُطَّلِعًا على كل ما في الكون، لا تخفى عليه خافية فاحذروا مجاوزة حدوده، وتخطى أَوامره ونواهيه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} المفردات: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي: غير منتظرين إدراكه ونضجه. يقال: نظرت الشيء، وانتظرته بمعنًى، والإنى مقصورًا: الإدراك والنضج. اهـ: مصباح. ¬

_ (¬1) قال القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها، واختلف فيما يجوز أن ينظر منها. فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعي وأحمد. بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وهناك أقوال أخرى يرجع إليها في القرطبي وغيره من الموسوعات.

{فَإِذَا طَعِمْتُمْ} أي: أَكلتم، ويطلق الطعام على كل ما يساغ حتى الماء، وفي العرف: الطعام لما يطعم، والشراب لما يشرب، وطعم من باب تعب. {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: ولا مسرورين به، ومستمتعين. {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} أي: يترككم حياءً من تنبيهكم. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} والمتاع: هو كل ما ينتفع به كالطعام والثياب وأَثاث البيت وغيرها. {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: وهو الساتر؛ لأَنه يمنع من المشاهدة، والأصل في الحجاب: جسم حائل بين جسدين، وقد استعمل في المعاني، فقيل: المعصية حجاب بين العبد وربه، والجمع: حُجُب ككتاب وكُتُب. التفسير 53 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... } الآية: شروع في بيان ما يجب على الناس مراعاته من حقوق نساءِ النبي - عليه الصلاة والسلام - وحقوقه وهو في بيوته - صلى الله عليه وسلم - إثر ما يجب عليه - صلى الله عليه وسلم - مراعاته من الحقوق المتعلقة بأَزواجه. والآية تتضمن أَمرين: أَحدهما الأَدب في الحضور للطعام والجلوس بعده، والثاني يتعلق بأَمر الحجاب لزوجاته - صلى الله عليه وسلم -. فأَما الأَوَّلُ فسببه كما قال ابن عباس: أَن أُناسًا من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، ثم يأْكلون ولا يخرجون، وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدَّب الله به الثقلاء. وعند أَكثر المفسرين: أَن سببه ما وقع يوم أَن تزوج - عليه الصلاة والسلام - زينب بنت جحش. أخرج الإِمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والبيهقي

في سننه وغيرهم من طُرُقٍ عن أنس قال: لمَّا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو يتهيأُ كأَنه للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأُلْقِيَ الحجاب بيني وبينه، فأَنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... } الآية. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلَّا مدعوين إلى طعام غير منتظرين إدراكه ونضجه: وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ وأُذِن لكم في الدخول فادخلوا، فإذا انتهيتم من طعامكم فتفرقوا وخففوا عن أهل البيت، وانتشروا لشئونكم، وهو خطاب لأُولئك المتحينين لوقت طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالنهي في الآية لهم ولأمثالهم ممن يفعل فعلهم في المستقبل، فلا يفيد النهي عن الدخول بإذن لغير الطعام، ولا عن الجلوس والمكث بعد الطعام لهم آخر بموافقة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَي: ولا تمكثوا مستأْنسين لحديث بعضكم بعضًا، كما وقع لأُولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسوا أَنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال الله سبحانه: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي: إن ذلكم اللبث الدال عليه الكلام، أو ما كانوا يفعلونه من الاستئناس، كان يسبب الإيذاءَ للنبي لتضييق البيت عليه وعلى أَهله، وصده عن الاشتغال بما يعنيه، فيستحيي من إخراجكم لشدة حيائه، ولما كان الحياءُ مِمَّا يمنع الحَيِيَّ من بعض الأفعال قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}: بمعنى؛ لا يمتنع منه، ولا يتركه ترك الحيي منكم فلذا أمركم - سبحانه - بالخروج، فالمراد بالحق هنا إخراجهم، ووضع الحق موضعه لتعْظيم جانبه، وهذا أَدب أدَّب الله به الثقلاءَ (¬1)، والظاهر كما قال روح ¬

_ (¬1) ومن هذا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس، عن عائشة - رضي الله عنها -: حسبك في الثقلاء أن الله لم يحتملهم فقال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا}.

المعاني: حرمة المكث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم، إذا كان في ذلك أَذى لرب البيت، وليس ذلك مختصًّا بما إذا كان اللبث في بيت النبي - عليه الصلاة والسلام. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: شروع في بيان الأَمر الثاني الذي تضمنته الآية وهو أمر الحجاب لزوجات الرسول، وفي حكمهن نساءُ الأُمة. والمعنى: وإذا طلبتم من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ينتفع به، فلا تسأَلوهن إلَّا من وراءِ ستر يستر بينكم وبينهن فإن سؤالكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من خواطر الشيطان ونوازع الفتن (¬1)، وأَنفى للريبة وأبعد عن التهمة. وكان النساءُ قبل نزول الآية يبرزن للرجال، وكان عمر - رضي الله عنه - يحب ضرب الحجاب عليهن، أخرج البخاري، وابن جرير، وابن مردويه عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أَمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأَنزل الله - تعالى - آية الحجاب. وقد ورد في الصحيح عن ابن عمر، قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أَسارى بدر، وقال أَنس بن مالك وجماعة: سببها أَمر القعود في بيت زينب: القصة المذكورة آنفًا. قال القرطبي: هذا أَصح ما قيل في أَمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأَقوال والروايات، لا يقوم شيءٌ منها على ساق. {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي: لا يصح ولا يستقيم أَن يقع منكم إيذاءٌ لرسول الله في حياته بفعل ما يكرهه ويتأَذى منه، كالمكث الذي كنتم تفعلونه، والاستئناس لحديث بعضكم بعضًا ومكالمة نسائه من غير حجاب ونحوها. وفي التعبير عنه - صلى الله عليه وسلم - برسول الله لتقبيح ذلك الفعل وأَنه بعيد بمراحل عما تقتضيه منزلته، وما يتطلبه علو شأْنه عند ربه حيث اختاره لرسالته. ¬

_ (¬1) وهي: الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال، فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة.

{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} أي: ولا يحل لكم أَن تتزوجوا أَزواجه من بعد موته أَو فراقه لهن، لأَنهن أَزواجه في الدنيا والآخرة؛ ذلك لأَن المرأَة في الجنة لآخر أزواجها، وهن أُمهات المؤمنين، ولا يحل للأَبناء نكاح الأُمهات. يروى أن رجلًا من المنافقين قال حين تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة: ما بال محمَّد يتزوج نساءَنا، والله لو قد مات لأجلْنا السهام على نسائه. فنزلت الآية في هذا، فحرم الله نكاح أَزواجه من بعده وجعل لهن حكم الأُمهات، وهذا من خصائصه تمييزًا لشرفه، وتنبيهًا على مرتبته - صلى الله عليه وسلم -. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}: إشارة إلى ما ذكر من إيذائه - عليه الصلاة والسلام - بالمكث بعد الطعام، ونكاح أَزواجه من بعده. أَي: وكان ما ذكر في حكمه - تعالى - عظيمًا هائلًا، لا يقادر قدره، ولا يعرف مداه، فكان من جملة الكبائر ولا ذنب أَعظم منه، كما يقول القرطبي. وفي ذلك من تعظيمه - تعالى - لشأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى. {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)} المفردات: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} أَي: إن تظهروا أمرًا من الأُمور أو تستروه في أنفسكم يعلمه الله. يقال: خَفَيْت الشيءَ أُخفيه من باب رمى: سترته، كأَخفيته بالهمزة (¬1). ¬

_ (¬1) وبعضهم يجعل الرباعي للكتمان والثلاثي للإظهار، وبعضهم يعكس الأوضاع.

التفسير 54 - {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}: سبب نزول هذه الآية على ما قيل، أَنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أَننهى أَن نكلم بنات عمنا إلَّا من وراءِ حجاب؟ لئن مات محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لنتزوجن نساءَه، وفي بعض الروايات لتزوجت عائشة. والمعنى: إن تظهروا على ألسنتكم شيئًا ممَّا لا خير فيه كنكاح أَزواجه من بعده أَو تخفوه في صدوركم يجزكم الله لا محالة بما صدر عنكم من المعاصي البادية، وبما أَخفيتموه من الخواطر والمعتقدات المذمومة، فإنه - سبحانه - كامل العلم لا يخفى عليه ما كان من ماض تقضَّى وما يكون من مستقبل يأْتي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬1). قال الإِمام أبو السعود: وفي هذا التعميم مزيد تهويل وتشديد، ومبالغة في التوبيخ والوعيد. {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)} المفردات: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ}: لا إثْمَ عَلَيهنَّ. ¬

_ (¬1) الآية: 19 من سورة غافر.

{وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي: نساءِ المؤْمنات. {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أَي: اقتصرن على ما أُبيح لكن فلا تتعدينه إلى غيره. التفسير 55 - {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ ... } الآية: الآية استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب منهم إثر أمره - تعالى - لنسائه - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب من الأَجانب. روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباءُ والأبناءُ والأَقارب: يا رسول الله أَوَ نُكَلمهن من وراءِ حجاب؟ فنزلت الآية. والمعنى: لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائِهن ولا من أبنائِهن ولا من إخوانهن، ولا من أَبناءِ إِخوانهن ولا من أَبناءِ أخواتهن ولا نسائِهن (¬1) المؤمنات فليس لهن أَن يتجردن أمام مشركة أو كافرة، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري. وهذا الحكم عام لنساء المؤْمنين، وقد سأَل بعض السلف فقال: لِمَ لَمْ يذكر العم والخال في هذه الآية والآية السابقة عند قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... }؟ فأجاب عكرمة والشعبي: بأنهما لم يذكرا؛ لأَنهما قد يصفان ذلك لبنيهما، فكرهَ لهما الرؤية وهذا الجواب غير مناسب؛ لأَن الوصف قد يقع من غيرهما، ولذلك كان الجواب المناسب لعدم ذكرهما هو أَنهما بمنزلة الوالدين، ولذلك سمى العم أَبا في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (¬2) فأُطلق على إسماعيل وصف الأُبوة ليعقوب مع أنه عم له، أو أَنهما لم يذكرا لأَنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أَبناء الإِخوة، وأَبناءِ الأخوات فإن مناط عدم لزوم الاحتجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة حيث إنهن عمات لأبناءِ الإِخوة، وخالات الأَبناءِ الأَخوات. ¬

_ (¬1) إضافة النساء إليهن للإشعار بأنهن معروفات لهن وموضع ثقة عندهن، والمقصود من الإخوان الإخوة. (¬2) من الآية 133 من سورة البقرة.

{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أي: اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أَن تتعدينه إلى غيره، أو اتقين الله في كل ما تأْتين وتذرن ولا سيما ما أُمرتن به، ونهيتن عنه، واخشينه في الخلوة والعلانية. وفي نقل الكلام من الغيبة في قوله سبحانه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ ... } إلى الخطاب في قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فضل تشديد في طلب التقوى منهن، ثم توعد مَنْ ظنَّ الإفلات من سلطانه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي: لا تخفى عليه خافية. قال ابن عطاء: الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب، كما يعلم خطرات الجوارح وهو - سبحانه - يجازيكم على الأعمال بحسبها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} المفردات: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}: الصلاة من الله على الرسول: الرحمة والرضوان، أو الثناءُ عليه عند الملائكة وتعظيمه، ومن الملائكة: الدعاءُ والاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاءُ والتضرع إلى الله أَن يعلي شأْنه ويرفع قدره. التفسير 56 - {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}: بعد أَن ذكرت الآيات السابقية الآداب التي يجب اتباعها معه - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، ومع أَزواجه المطهرات تشريفا له وتعظيمًا - بعد هذا - أَشادت هذه الآية - زيادة في تشريفه - بمنزلته العظيمة في الملإ الأَعلى عند ربه - سبحانه وتعالى -، وعند

ملائكته - عليهم السلام - حيث قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}: إخبارًا لعباده بأَنه يرحمه ويرضى عنه أَو يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تستغفر له وتعظمه. ثم أَمر الله المؤمنين بالدعاء له، والتسليم عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}: ليجتمع الثناءُ الذي هو حقيق به من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا. أخرج البخاري عند تفسير هذه الآية بسنده عن كعب بن عُجْرَة قال: قيل: يا رسول الله أمَّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: اللَّهم صلى على محمد وعلى آل محمَّد كما صليت على إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد (¬1). وفي رواية أُخرى عنه لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} قال: قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللَّهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. رواه الترمذي بهذه الزيادة (¬2)، ومعنى قولهم: أما السلام فقد عرفناه يقصدون به الذي في التشهد، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إيَّاه كما يعلمهم السورة من القرآن، وفيه: السلام عليك أَيها النبي ورحمة الله وبركاته. والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - واجبة، وقد اختلفوا في حال وجوبها، فهي واجبة مرة في العمر عند الطحاوي، وأَوجبها الشافعي في الصلاة، فلا تصح صلاة عنده ¬

_ (¬1) البخاري تفسير سورة الأحزاب. (¬2) وروي في ذلك عدة روايات.

بدونها، واختاره ابن العربي (¬1) وأوجبها الكرخي كلما ذكر اسمه، وهو الذي يقتضيه الاحتياط ويستدعيه العرفان بعلو شأْنه، وعليه الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَغِمَ أنف رجل ذكرت عِنده فلم يصلِّ عليَّ". قال الحافظ ابن حجر: (لم أَر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلاَّ ما نقل عن إبراهيم النخعي، وهذا مشعر بأن غيره كان قائلًا بالوجوب). اهـ: تفسير الألوسي. والصلاة على غيره على سبيل التبع، كصلى الله على النبي وآله فلا كلام في جوازها. أمَّا إذا أُفرد غيره من آل البيت فمكروه وهو من شعائر الروافض، ومن قال بالجواز مطلقا استدل بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} وبما صح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى" ونحوه، وقد أُجيب عنه: بأَنه صدر عن الله ورسوله، ولهما أَن يخصا من شاءَا بمن شاءَا، وليس ذلك لغيرهما إلاَّ بإذنهما، ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. وأمَّا الصلاة على الأَنبياء منا فجائزة معه - صلى الله عليه وسلم - وبدونه بلا كراهة، فقد جاءَ بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوى: (إذا صليتم على المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسوله من المرسلين). {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: قولوا السلام عليك أَيها النبي ونحوه، كما ذكرته الأحاديث. "والسلام عليك" جملة خبرية أُريد بها الدعاءُ بالسلامة من النقائص والآفات، أو الدعاءُ بالانقياد لأوامره من المسالمة وعدم المخالفة، بأَن يصير الله العباد مذعنين له - عليه الصلاة والسلام - ولشريعته. ¬

_ (¬1) وذكر الدارقطني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن الحسين أنه قال: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على آل بيته لرأيت أنها لا تتم.

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} المفردات: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: أَذية الله بالكفر به ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يطيق به. أَمَّا أَذية الرسول فتحصل بكل ما يؤذيه من الأَقوال والأَفعال. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أَي: أَبعدهم من كل خير ورحمة، واللعن في اللغة الإِبعاد. {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} أي: هيأَ لهم عذابا بالغ الغاية في الإهانة والإذلال. {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي: من غير جناية يستحق بها المؤمنون والمؤمنات الأَذية. {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} أي: فعلوا وتحملوا إِثم أَفحش الكذب الذي افتروه على غيرهم وبهتوهم به. {وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: ظاهرًا بينًا لا يخفى خبره. التفسير 57 - {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}: الآية: تهديد ووعيد لمن آذى الله بمخالفة أَوامره وارتكاب زواجره، وإصراره على ذلك، وآذى رسوله بعيب أو تنقيص. والمعنى: إن الذين يؤذون الله - تعالى - باقتراف ما لا يرضاه من كبائر المعاصي ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وقول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}،

وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقول المشركين: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا، وكقول الذين يلحدون في آياته، والإيذاءُ بالنسبة لله تعالى فيه تجوز، لاستحالة حقيقة التأَذي في حقه جل وعلا. وإيذاءِ الرسول هو قولهم: شاعر. كاهن. مجنون، وكسر رباعيته وشج وجهه الكريم يوم أُحد، وإلقاء السَّلى (¬1) على ظهره بمكة وهو ساجد، وغير ذلك ممَّا يؤذيه. ويجوز أن يكون المقصود من الآية تعظيم ذنب من يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر إيذاء الله معه، والغرض من ذلك بيان قربه منه، وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه - صلى الله عليه وسلم - يؤْذيه سبحانه، روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مغفل قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهَ اللهَ في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أَحبهم فبحبي أَحبهم، ومن أَبغضهم فببغضي أَبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أَن يأْخذه". هؤُلاءِ الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله عن رحمته في الدارين بحيث لا ينالون فيهما (¬2) شيئًا منها. وهيأَ لهم مع ذلك عذابا بالغ الغاية في إهانتهم وإذلالهم يصيبهم في الآخرة خاصة. وتنكير العذاب ووصفه بالإهانة، وكونه من إِعداد الله يؤْذن بأَنه فوق احتمالهم لشدته حيث قال سبحانه: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}. 58 - {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}: أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس قال: أُنزلت في عبد الله بن أبيّ وأُناس معه قذفوا عائشة - رضي الله عنها - فخطب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقال: من يَعْذرني في رجل يؤْذيني، ويجمع في بيته من يؤْذيني. فنزلت. ¬

_ (¬1) السلى: كالحصى، الذي يكون فيه الولد والجمع: أسلاء مثل سبب وأسباب. (¬2) وذلك في الآخرة ظاهر وأما في الدنيا فقيل: يمنعهم زيادة (الهدى).اهـ: تفسير الألوسي.

وقيل في سبب نزولها: إن عمر رأَى جارية من الأَنصار فضربها، وكره ما رأَى من زينتها، فخرج أَهلها فآذوا عمر باللسان. فأَنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في منافقين كانوا يؤْذون عليًّا - كرم الله وجهه - ويسمعونه ما لا خير فيه. والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر، ولكل ما سيأْتي من أَراجيف المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤْمنين والمؤمنات ما فيها. والمعنى: والذين ينسبون للمؤْمنين والمؤمنات ما يتأَذون به من الأَقوال والأَفعال القبيحة بغير جناية يستحقون بها الأَذية شرعًا (¬1). {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} أي: فقد تحملوا بذلك إثم الكذب الفاحش المفتري الذي يبهت المؤمنين والمؤْمنات، أَي: يدهشهم ويحيرهم لفظاعته في الإِثم حيث يحكون أَو ينقلون عنهم ما هم منه براء. عن أَبي هريرة - رضي الله هـ عنه - أَنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أَفرأَيت إن كان في أَخي ما أَقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته. رواه مسلم. {وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: وتحملوا كذلك ذنبًا ظاهرًا واضح الأَثر بيِّن الخبر. روي أَن عمر بن الخطاب قال لأُبيّ بن كعب: قرأْت البارحة هذه الآية ففزعت منها: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} والله إني لأَضربهم وأَنهرهم. فقال له. أُبيّ: يا أمير المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوِّم. وأُطلق إيذاءُ الله ورسوله في الآية السابقة، وقيد إيذاءُ المؤمنين والمؤْمنات في هذه الآية بقوله - سبحانه -: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} لأَن إِيذاءَ الله ورسوله لا يكون أبدًا إلاَّ بغير حق، وأَمَّا إِيذاءُ المؤْمنين والمؤْمنات فمنه حق كالحد والتعزير، ومنه باطل. ¬

_ (¬1) وقيل: من الأذية تعيير المؤمن بحسب مذموم أو حرفة مذمومة أو شيء يثقل عليه سمعه.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} المفردات: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} أي: يسدلن عليهن من الجلابيب، جمع جلباب، وهو ثوب واسع يغطي جميع الجسم كالملاءَة والملحفة يتخذنه إذا خرجن لداعية من الدواعي. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أي: أَقرب أَن يتميزن عن الإِماء والقينات اللَّاتي هن موضع التعرض للإيذاءِ من أهل الريبة. والقينة: الأَمة البيضاءُ، هكذا قال ابن السكيت مُغَنيةً كانت أو غير مُغَنية، وقيل: تختص بالمغنية. التفسير 59 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: بعد ما بين - سبحانه - سوءَ حال المؤذين زاجرًا لهم عن الإِيذاء أَمر النبي أَن يأْمر بعض المتأَذين منهم بما يدفع إيذاءَهم في الجملة من الستر والتميز عن مواقع الإيذاءِ، وذلك بأَن يدنين عليهن بعض جلابيبهن، ويراد من إدنائه أَن يلبسنه على البدن كله، أو التلفع بجزءٍ منه لستر الرأْس والوجه، وإرخاء الباقي على بقية البدن. هذا إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراءِ أَو بين النخيل، من غير تمييز بين الحرائر والإِماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فيكف الفساق عن معارضتهن، وكانت المرأَة من نساء المؤْمنين

قبل نزول هذه الآية تكشف عن وجهها وتبْرز في درع وخمار (¬1) كالإِماءِ فيعرض لهن بعض الفجار يظن أَنها أَمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية بسبب ذلك. قال معناه الحسن وغيره. ولفظ النِّساء خَصَّهُ العرف بالحرائر. والمعنى الإجمالي للآية: مُرْ - أيها النبي - أَزواجك وبناتك ونساءَ المؤمنين، أن يسدلن عليهن بعض جلابيبهن. واختلف في كيفية هذا السِّتر، فقال السّدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلَّا العين، وقال علي بن أَبي طلحة عن ابن عباس: أَمر الله نساءَ المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أَن يغطين وجوههن من فوق رءُوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال محمد بن سيرين: سأَلت عبيدة السلماني، عن قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأْسه وأَبرز عينه اليسرى. وظاهر الآية أنها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإِماءِ. فيعلم به أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأَذى ولا ريبة، ويشير إلى ذلك قوله - سبحانه -: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} أي: ذلك أَقرب وأَجدر أن يُعْرَفنَ لتسترهن أَنهن حرائر، فإذا عرفن فلا يتعرض لهن، وتنقطع الأَطماع عنهن، وليس المراد أَن تعرف المرأَة حتى تعلم من هي؟ وكان عمر - رضي الله عنه - إذا رأَى أَمة قد تقنعت ضربها بالدرة محافظة على زي الحرائر. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أَي: كثير المغفرة، فيغفر ما سلف منهن من تفريط فيما أُمرن به من الستر المطلوب، كما أَنه سبحانه كثير الرحمة فيثيب من امتثل منهن أَمره بما هو أَهله - جل شأْنه -. ¬

_ (¬1) ودرع المرأة: قميصها مذكر، والخمار ثوب تغطي به المرأة رأسها، والجمع خمر، مثل: كتاب وكتب، واختمرت المرأة وتخمرت: لبست الخمار.

* {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} المفردات: {الْمُنَافِقُونَ}: هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإِسلام. {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: ضعاف الإيمان. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}: ناشرو الأَخبار الكاذبة فيها ليبعثوا الرجفة والزلزلة في قلوب المؤمنين بأَكاذيبهم. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}: لنحرضنك ونسلطنك عليهم. {مَلْعُونِينَ}: مطرودين من رحمة الله. {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا}: أينما ظفر بهم أُسروا. {سُنَّةَ اللَّهِ}: طريقته الدائمة. التفسير 60 - {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}: بعد أن أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أَن يقول لأَزواجه وبناته ونساء المؤْمنين يدنين عليهن من جلابيبهن حتى يعرف الفساق أَنهن حرائر فلا يتعرضوا لهن بسوءٍ، هدد الله المنافقين ومرضى القلوب الذين كانوا يذيعون الأَخبار الكاذبة - هددهم - بأَنهم إن لم يرجعوا

عن إثارة الفتن بين المسلمين لَيُحَرضَنَّ اللهُ رسوله عليهم ويغرينّه بهم حتى يضطرهم إلى الجلاء عن المدينة ويلجئهم إلى الخروج منها لإفسادهم؛ حتى لا يجتمع هؤلاءِ بكفرهم وضلالهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤْمنين في بلد واحد إلَّا زمانا قليلًا يجمعون فيه متاعهم وشملهم، وكان هذا هو الجزاء الوفاق لطائفة من الناس لم ترع حرمة الجوار ولم تكن أَمينة على من يساكنونهم ويعاشرونهم، بل كانوا مصدر إزعاج وقلق. 61 - {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}: أي: مطرودين من رحمة الله أَينما وجدتهم ينشرون الفتن أَخذتهم وعاقبتهم فقتَّلتهم تقتيلًا جزاءَ خيانتهم وزجرا وتشريدًا لمن خلفهم. 62 - {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}: أي: سَنَّ الله ذلك وشرعه شرعًا مؤكدًا في الأُمم الماضية والشعوب السابقة أن يشرد أو يقتل أُولئك الذين يسعون بالإِفساد بين سواهم، وذلك بإجلائهم عن أَوطانهم وقهرهم وإذلالهم وقتلهم أَينما وجدوهم على حالة الإفساد وإشاعة الفزع والخوف بين المؤمنين، فأَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء الضالين ليس بدعًا، بل هو سائر على نظام سابق حكيم، وقضاءٍ محكم، ولن تجد لقضاءِ الله وحكمته تغييرًا وتبديلًا، فلا يبدل الله سنته، ولا يستطيع أحد من خلقه تبديلها. إذن فالحكم باقٍ كما كان في الأُمم السابقة من أَن المفسد يضرب على يديه ويؤْخذ بجريرته ويناله أَشد العقاب حتى يرتدع وينزجر غيره ممن تسول له نفسه أَن يحذو حذوه أو يسلك سبيله. وذكر الألوسي في كتاب روح المعاني كلاما عن السدي قال: أَخرج ابن أَبي حاتم عنه أنه فيها: كان النفاق على ثلاثة أوجه: نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوهًا من وجوه الأَنصار فكانوا يستحيون أَن يأْتوا الزنى؛ يصونون بذلك أنفسهم وهم المذكورون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض، وهم منافقون إن تيسر لهم الزنى

عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأَمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهن فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين يكابرون النساء يقول الله فيهم: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: لنحرضنك عليهم، ثم يصفهم بكونهم ملعونين، ويبين عقابهم بقوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أي: في أَي مكان وجدوا يعملون هذا العمل الشائن، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}: ثم قال السدى: هذا حكم في القرآن ليس يعمل به، لو أن رجلًا فما فوقه اقتصوا أَثر امرأَة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم، وهو أَن يؤخذوا فتضرب أَعناقهم، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}: كذلك كان يفعل بمن مضى من الأُمم، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}: فمن كابر امرأَة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية؛ لأَنه يكابر. اهـ. وما ذهب إليه السدى له تقديره ووجاهته، فإنه الأَولى والأَجدر أن يعامل به هؤلاء الذين يسعون في الأَرض فسادًا ويغتصبون النساء وينتهكون أَعراضهن غير عابئين ولا مبالين بالعقوبات غير الرادعة، ولا خائفين من بطش الله وأخذه، غير أنه لا يترك أمر عقاب وقتل من يفعل ذلك لعامة الناس، بل لا بد من الرجوع في ذلك إلى القاضي - شأْن سائر العقوبات والزواجر - حتى لا يتخذ الناس ذلك ذريعة وتَعِلَّةً للنيل من خصومهم وإهدار دمائِهم. {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} المفردات: {السَّاعَةِ}: يوم القيامة. {لَعَنَ الْكَافِرِينَ}: طردهم وأَبعدهم عن رحمته.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}: هيأَ لهم نارًا شديدة الاشتعال. {وَلِيًّا}: معينًا. {نَصِيرًا}: ناصرًا يخلصهم من النار. التفسير 63 - {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}: كان المشركون والمنافقون يسأَلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤال استهزاء وسخرية عن وقت قيام الساعة، وكذلك كان يفعل اليهود امتحانا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأَنهم يعلمون من التوراة أَن الله قد أَخفاها فأَمر الله رسوله أَن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} فلا يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ثم يخاطب الله نبيه بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} أَي: أَنها مع استئثار الله بعلمها فإنها مرجوة ومأْمولة المجيءِ عن قريب، يقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬1)، والله - سبحانه - قد أَخبرنا أَن علامات الساعة وأشراطها قد جاءَت، فقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (¬2) وأَشراط الساعة يحدثنا عنها رسولنا الكريم في حديثه الشريف الذي رواه الإِمام البخاري: عن عبد الله بن أَبي أَوفى قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم جاءَ أَعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى الرسول يتحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه. قال: أَين السائل عن الساعة؟ قال: ها أَنا يا رسول الله. قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأَمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" كما نجد بعض أَماراتها في آخر حديث عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - الذي جاءَ فيه جبريل - عليه السلام - في صورة رجل شديد ¬

_ (¬1) الآية الأولى من سورة القمر. (¬2) الآية 18 من سورة محمَّد.

بياض الثياب شديد سواد الشعر، ويقول عمر - رضي الله عنه -: ولا يعرفه منا أَحد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإِسلام فأَجابه، ثم سأَله عن الإيمان فأَفاده، ثم عن الإحسان فأَخبره به، ثم عن الساعة فقال رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أَمارتها. قال: أن تلد الأَمة ربتها، وأَن ترى الحفاة العراة رعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان" إلى آخر الحديث (¬1). وفي هذا الأُسلوب القرآني البديع تهديد للمستهزئين، وتبكيت وتقريع للممتحنين المتعنتين. وقد أَخفى - سبحانه - وقت الساعة لحث المؤْمنين ودفعهم إلى حسن الاستعداد للقاء الله بالعمل الصالح والإخلاص والإنابة له، وتقصير الأَمل في الدنيا، وعدم الاغترار بها، كما أَخفى - جل شأْنه - الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس ليحرص الناس على الحفاظ عليها جميعًا طلبا لها، وابتغاءَ الظفر بها، وأَخفى ساعة الإجابة يوم الجمعة، وليلة القدر في العشر الأَواخر من رمضان، وأَولياءَه في خلقه، واسمه الأَعظم من أَسمائه الحسنى، أخفى هذه الأَشياءَ ليواظب المؤْمن على أن يملأَ هذه الأَوقات بالذكر والعبادة والدعاءِ، ويرعى حرمة المسلمين جميعًا ويذكر الله بأَسمائه الحسنى؛ هذا وقد دأَبت طائفة البهائية على نشر ما يسمونه بسر العدد التاسع عشر ويتحايلون على إضفاءِ قدسية عليه وتبجيل له، ويدعون أن الحاسب الآلى يعطي تحديدا لزمن قيام الساعة، ويحاولون أَن يلووا ويطوعوا آيات القرآن الكريم لمعتقدهم الفاسد، ونحلتهم الباطلة، ولكن أَنى لهم ذلك، وعلماءُ الإسلام لهم بالمرصاد يتتبعونهم ويكشفون حيلهم وخداعهم، ويدحضون مزاعمهم ويظهرون زيف قولهم وباطل دعوتهم والله من ورائهم محيط. 64، 65 - {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: بعد أن بين - سبحانه - أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن وقتها مرجو ومأْمول المجىءِ عن قريب، أخبر وأَكد أنه - تعالى - طرد الكافرين من رحمته وأبعدهم عن رضوانه، وقطع ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

رجاءَهم في عفوه وفضله وأَيئسهم من مغفرته: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1)، وليس الأَمر قاصرا على الطرد من النعيم، ولكنه - جل علاه - هيأ لهم وخلق - جزاءَ كفرهم - نارًا شديدة الاشتعال والاتقاد: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (¬2) يمكثون فيها أبدًا لا تنفك عنهم ولا تزايلهم ولا يجدون وليا يدافع عنهم أو يحفظهم منها، ولا نصيرًا يجهد نفسه ويبذل وسعه في أن يخلصهم وينقذهم من لظاها هذا العذاب كان جزاء كفرهم وعنادهم، بعد أَن هداهم إلى طريق الخير وبين لهم طريق الشر وبشر وأَنذر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬3)، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬4). {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} المفردات: {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ}: تدار وتصرف من جهة إلى أُخرى، أو تغيَّر وتبدَّل من سيءٍ إلى أَسوأ. {سَادَتَنَا}: ملوكنا وحكامنا. {وَكُبَرَاءَنَا}: رؤساءَنا الذين نقتدي بهم في الشر. {ضِعْفَيْنِ}: مثلين. ¬

_ (¬1) من الآية 116 سورة النساء. (¬2) من الآية 24 سورة البقرة. (¬3) الآية 10 من سورة البلد. (¬4) من الآية 46 سورة فصلت.

التفسير 66 - {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}: بعد أن أَوضح الله ما يصير إليه أمر هؤُلاء من عذاب مقيم في جهنم أَبان - جل شأْنه - ما يصدر منهم من قول وما يبدو من ندم: ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والظلم مرتعُ مبتغيه وخيم فيقولون - وقد غيرت وجوههم من حالة قبيحة وسيئة إلى حالة أَقبح وأَسوأَ في النار من شدة ما يأْلمون وهول ما يجدون - يقولون ويرددون نادمين متحسرين على ما فرط منهم -: يا ليتنا استجبنا لله فآمنا به وأَجبنا داعي الله ورسوله فصدقناه فيما جاءَ به، لو حدث منا هذا ما أَصابنا ما نعانيه من الهول العظيم والعذاب المهين. وخص - جل شأْنه - الوجوه بالذكر مع أن أَجسادهم كذلك؛ لأن الوجوه أعظم الأَعضاء مكانة وشرفا، وذلك فيه ما فيه من الإذلال وتهويل الأَمر وتفظيع الخطب وتفزيع النفس وترويع القلب. 67 - {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}: أي إنهم في هذا اليوم بعد أن أَبدوْا ندمهم وأَظهروا أَسفهم، أرادوا أَن يتنصلوا من جريمتهم، فيلصقوها بسادتهم وكبرائهم، ممن كانوا لهم قادة في الشر وقدوة في الكفر، فيقولون ما كان منا إلاَّ الطاعة والخضوع والإِذعان لهؤُلاء الرؤساء فلم يكن منا عناد أَو مكابرة أو مجالدة للرسل والأَنبياءِ، وإنما كنا تبعا لهؤُلاءِ مستضعفين لديهم، مقهورين تحت سلطانهم، لا نملك إلاَّ أن نكون طوع أَمرهم، ولولا هؤلاء الرؤساءُ لكنا مؤْمنين، فهؤُلاءِ قد رضوا أَن يكونوا أَداة في أَيدي أولئك يصرفونهم كما يشاءُون، إنهم يعتذرون بذلك رجاءَ الإفلات من العقاب ولكنه عذر مردود غير مقبول، وحجة داحضة إذ كيف يغفلون نعمة العقل التي منحهم الله إيَّاها فجعلها مناط المسئولية ومحور الجزاءِ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬1). ويهدرون ¬

_ (¬1) الآية 38 من سورة المدثر.

ما تفضل به عليهم وملأَ به كونه من آيات وشواهد دالة على أَنه الواحد. 68 - {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}: بعد أن يئس هؤُلاء المرءُوسون من تحميل الرؤساء مسئولية إضلالهم، وأَنه لا فكاك لهم منه طلبوا من ربهم أن يضاعف العذاب ضعفين ويجعله كفلين ويكثره لهؤُلاء الذين كانوا سببًا في إضلالهم؛ تشفيًا فِيهم وغيظًا منهم، ضِعفا لضلالهم هم وضِعفًا آخر لإضلالهم غيرهم، كما طلبوا أَن يطردهم الله طردًا كبيرًا ويبعدهم بعدا سحيقًا لا أَمل في رحمة بعده، وهم بهذا الدعاء على رؤسائهم إنما ينفسون عن أَنفسهم من غيظ وغضب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} المفردات: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ}: أظهر براءَته. {وَجِيهًا}: عظيم القدر رفيع المنزلة. {سَدِيدًا}: قاصدًا ومتوجها إلى هدف معين.

التفسير 69 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}: بهذه الآية الكريمة يرشد الله المؤْمنين، وينهاهم عن أَن يتشبهوا بقوم موسى غلاظ القلوب الذين آذوا وأهانوا رسول الله موسى - عليه السلام - ورموه بشتى أَنواع النقائص فنسبوا إليه السحر والجنون ولطخوه بالزنى، وأَشاعوا عنه أَنه قتل أخاه هرون؛ لأَنهم كانوا يحبونه ويؤْثرونه للين جانبه معهم وحدة موسى عليهم، فأَظهر الله - سبحانه - براءة موسى مما نسبوه إليه، وأَبان ظلمهم له وحيفهم عليه، فدمغهم بالكذب والافتراءِ، وقرر أن موسى عليه السلام رفيع القدر لديه، عظيم المنزلة عنده، صنعه على عينه، ورعاه رضيعًا وآثره بالآيات البينات التسع، وناداه من جانب الطور الأيمن، وقربه وناجاه، واتخذه كليمًا، فحقا كان عند الله وجيهًا ذا منزلة رفيعة وجاه عريض، قيل: نزلت فيما كان من أَمر المنافقين في شأْن تزوجه - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، حيث قالوا: تزوج زوجة من تبناه، فآذوه مما قالوا مع أَنها ابنة عمته، ولو أراد لتزوجها بكرًا، ولكن زيدًا طلقها باختياره، وأَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسخ عادة التبني وآثارها، وأن يتزوج طليقة زيد متبناه، تأْكيدًا لنسخ أحكام التبني. 70 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}: ينادي الله عباده بأحب صفة لهم - وهي الإيمان بالله - يناديهم آمرًا لهم أَن يكونوا في وقاية وحفظ من غضب الله وعقابه، فلا يقربوا معصية، ولا يفرطوا في طاعة، مداومين على التمسك بالتقوى، ليكونوا في رعاية الله وعنايته {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (¬1). ثم يأْمرهم أَن يقولوا القول الصواب، يوجهونه ويقصدون به وجه الحق، ولا يعدلون به إلى القول الباطل الجائر، لا يشركون مع الله أَحدًا، ولا يخشون في الحق لومة لائم. ¬

_ (¬1) الآية 128 من سورة النحل.

71 - {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}): رتب - سبحانه - علي تقواهم لله وتحريهم القول الصادق أَنه يكافئهم ويجازيهم على ما يفعلون جزاءً حسنًا، وثوابًا جزيلا، وذلك بأَن يصلح لهم أَعمالهم، أي: يوفقهم إلى الصالح والمرضي منها، ويبارك لهم فيها، ويتقبلها بالقبول الحسن، ويغفر ويكفر سيئاتهم فيسترها ولا يفضحهم بها، بل إنه - عز جاهه - يذهبها ويمحوها {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1) ثم إذا أَحسن العباد التوبة والإنابة إلى الله - تعالى - وعملوا العمل الصالح، فمن سعة رحمته وعظيم فضله يجعل سيئاتهم حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2). ومن يتمثل أَمر ربه وأَمر رسوله فيفعل ما أُمر به، وينتهي عما نهي عنه فقد ظفر وسعد ونال الجزاء الأوفى في الآخرة والأولى، وفاز بالجائزة الكبرى التي يتعاظم قدرها وتسمو منزلتها وتعلو مكانتها. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} ¬

_ (¬1) من الآية 114 سورة هود. (¬2) الآية 70 من سورة الفرقان.

المفردات: {عَرَضْنَا}: طلبنا. {الْأَمَانَةَ}: هي التكاليف الشرعية. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}: والتزم الإنسان القيام بها. {ظَلُومًا}: كثير الظلم. {جَهُولًا}: كثير الجهل. التفسير 72 - {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا .. } إلخ الآية: لما بين الله - سبحانه - عظم شأن طَاعَة الله ورسوله، وذلك بإنذار المتمردين والخارجين عليها بالعذاب الشديد، وبشارة من قام بها وأَذعن لها بالحظ العظيم والفوز الكبير، أَتى عقب ذلك ببيان رفعة التكاليف الشرعية وإظهار عظمتها وخطرها وسمو منزلتها، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} أي: طلبنا من هذه المخلوقات العظيمة والكائنات الضخمة الكبيرة أَن يقمن بأضداء التكاليف الشرعية دون إلزام منا وقهر عليها، فأَبت وامتنعت عن القيام بهذه المسئولية الجليلة، ولم يكن إباؤُها وامتناعها عن تمرد وعصيان، كإباءِ إبليس حينما أَبي السجود لآدم، إذ كان إباؤُه عن استكبار واعتراض وتمرد على أَمر الله قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (¬1). وإنما كان إباؤُها عن خوف وإشفاق من أَنها لا تستطيع أَداءَها على وجه يرضى عنه ربها وخالقها. والمراد بالأَمانة التكاليف الشرعية الشاملَة لأَمانات الناس وعرضها على السموات والأَرض والجبال وامتناعها من قبول التكليف بها تمثيل لصعوبة الالتزام بأَدائِها فأَشفقن منها لذلك. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مَثَلٍ، أَي أَن السموات والأَرض على كبر أَجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أَي أَن التكليف أَمر حقه أن تعجز السموات والأَرض والجبال. وقد كلَّفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى ¬

_ (¬1) الآية 34 من سورة البقرة.

جَبَلٍ}. ثم قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} قال القفال: فإذا تقرر أَنه تعالى يضرب الأَمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يُخرَّج إلاَّ على ضرب المثل وجب حمله عليه: اهـ (¬1). والمراد من حمل الإنسان لها قبوله الالتزام بأَدائها. إما بإعداد الله له بما زوده من ملكات وغرائز وطبائع وما غرس فيه من قدرات. وإما بقبول ذلك قولًا يوم أن أخذ الله عليه الميثاق وهو في عالم الذر، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬2) وكان قبول الإنسان القيام بها يقتضي أن يشمر عن ساعد الجد، ولكن الإنسان كان شديد الظلم لنفسه فقد ترك الأَمانة ولم يقم بحقها، وفرط في جنب الله فلم يلتزم بالمسلك السوي والطريق المستقيم، وكان كثير الجهل غارقا في بشريته مطيعًا لهواه ونفسه الأَمارة بالسوءِ، ومكن منه الشيطان ولم يتبصر ويدرك ما ينتظره وما يؤُول إليه أمره من عذاب أَليم وعقاب مقيم، فكان في جهالة جهلاء، والمراد من الإنسان في الآية الكريمة معظم هذا النوع وأَكثره، إذ هناك من الناس من قام بنصيب وافر وحظ عظيم من أَداء الأَمانة والقيام بالتكاليف، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬3). وللزمخشري صاحب الكشاف رأْي جدير بالتسجيل والتنويه به؛ فقد قال: والمراد بالأَمانة الطاعة؛ لأَنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأَداء؛ وعرضها على الجمادات وإباؤُها وإشفاقها مجاز، قال: إن هذه الأَجرام العظام من السموات والأَرض والجبال قد انقادت لأمر الله - عز وعلا - انقياد مثلها، وهو ما يتأَتى من الجمادات وأَطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادًا أو تكوينًا وتسوية على هيئات مختلفة، وأَشكال متنوعة كما قال تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬4) وأَما الإِنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعات، ويليق به من الانقياد لأَوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع وأما حمل الأَمانة فمن قولك: فلان حامل الأَمانة ومحتمل لها، تريد أَنه لم يؤَدها إلى صاحبها ¬

_ (¬1) انظر القرطبي. (¬2) الآية 172 من سورة الأعراف. (¬3) من الآية 13سورة سبأ. (¬4) من الآية 11 سورة فصلت.

حتى تزول عن ذمته، وتخرج عن عهدته؛ لأَن الأَمانة كأَنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حاملها، أَلا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولي عليه حق، فإذا أَداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملًا لها إلى أَن قال: فمعنى {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا}، {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} فأبين إلاَّ أن يؤدينها، وأَبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤَديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركًا لأَداء الأَمانة، وبالجهل لإِخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أَداؤها. اهـ. ورأْى الزمخشري هذا يلتقي مع ما قبله في أن كلا منهما يدين ويؤثِّم ويتوعد من يضيِّع الأَمانة ولا يقوم بحقها. ولما كانت المعصية والطاعة سببا وعلة للجزاء قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: أن الله - سبحانه - يعذب المنافقين الذين يعبدون الله بجوارحهم، وقلوبهم غير مطمئنة بالإيمان، كما يعذب من يشرك بعبادة ربه أَحدا سواه، ويتوب ويغفر الهفوات واللمم من السيئات عن المؤْمنين والمؤْمنات تفضلا منه وجزاءَ انقيادهم وطاعتهم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} والله - جل شأْنه - غفور لسيئات عباده رحيم بهم.

سورة سبأ

سورة سبأ نزلت بمكة المكرمة وعدد آياتها أربع وخمسون، وسميت بهذا الاسم لورود قصة سبأ فيها وهم قبائل كانت تسكن اليمن، وسبأ: لقب أَبيهم الذي يجمع قبائلهم عامة واسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وكانت بلقيس بنت شراحبيل ملكة عليهم وهي التي أَنبأَ الهدهد سيدنا سليمان - عليه السلام - نبأَهَا (¬1). صلة هذه السورة بما قبلها: 1 - أَن كلا من السورتين ورد فيه أمر الساعة، ففي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} ويقول - تعالى - في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}. 2 - أَنه قد جاءَ ذكر الضعفاءِ والذين استكبروا في كل من السورتين: يقول - تعالى - في سورة الأَحزاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}. الآيتان 66، 67 وفي سورة سبأ يقول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ .. } الآيات (¬2). إلى غير ذلك مما يربط بين السورتين. أهم مقاصد السورة: 1 - تمجيد الله - تعالى - والثناءُ عليه في الدنيا، وتخصيصه بالحمد كله في الآخرة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ}. ¬

_ (¬1) ارجع إلى القصة في سورة النمل. (¬2) الآيات: 31، 32، 33.

2 - إثبات أَمر قيام الساعة، وبيان إحاطة علم الله بما دق وعظم في ملكوته وملكه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. 3 - بيان ما أكرم الله به نبيه داود - عليه السلام - من أن الجبال والطير ترجِّع التسبيح مَعَه إذا سبح وأنه - تعالى - جعل له الحديد لينًا يعمل منه الدروع، قال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}. 4 - ذكر تسخير الريح لنبي الله سليمان - عليه السلام - تجري بأَمره، وأنه أَذاب له النحاس يسيل كالماء، وأَن الجن كانت تعمل بين يديه، بإذن ربه، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}. 5 - بيان أن داود وآله طلب منهم أَن يشكروا نعم الله عليهم {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}. 6 - تسجيل ما كان لسبإ من نعيم وما كان في مسكنهم من جنتيين خيرهما كثير. وما من الله عليهم به من البركة والأَمن بتقارب قراهم، فلم يشكروا نعمة الله عليهم وأَعرضوا فأَرسل الله عليهم سيلا مدمرًا وبدلهم بجنتيهم جنتين ثمرهما قليل أو رديءٌ لا خير فيه، وما كان من ظلمهم أَنفسهم بأَن طلبوا أَن يباعد الله بين قراهم ليمشوا المسافات الطويلة في الصحاري والقفار فجعل الله سيرتهم تروى للاتعاظ بها وتكون مثالا لكفر النعمة كما شتت شملهم ومزقهم كل ممزق. 7 - تصوير مَشْهَد من مشاهد يوم القيامة وإبراز ما يقع فيه من جدل وشقاق بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، وكل يلقي التبعة على الآخر، توضح ذلك الآيات (31، 32، 33). 8 - بيان أَن المترفين وأُولي النعمة هم في كل أُمة رأْس الكفر والتكذيب، حيث تفتنهم أَموالهم وتغرهم أَولادهم، ويزهون ويتكبرون بجاههم، ولكن الله بين لهم أن أموالهم وأولادهم لا تقربهم من ربهم، ولا تنجيهم من عذابه. من الآيات 34، إلى 38

9 - تسلية الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه ناصره على الكافرين وخاذلهم فإنه - سبحانه - قد شدد النكير والعذاب على من كان أشد منهم قوة وأكثر عددًا قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: ويختتم - جل شأْنه - السورة بأنه إذا جاءَ يوم القيامة فلا نجاة لهؤلاء، وأنه لا ينفعهم إيمانهم آنذاك، قال تعالى: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، ويحال بينهم وبين دخول الجنة ويكون شأْنهم شأن من شابههم في الكفر من الأُمم الماضية، قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} المفردات: {يَلِجُ}: يدخل. {يَعْرُجُ}: يصعد. التفسير 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}: كل الثناء الحسن على الله مصدر الخير والإحسان ومالك كل الكائنات، فطرها على

أبدع نظام، وخلقها في أحسن إحكام، فهو - جل ثناؤه - يحمد في الدنيا وهو الحقيق بذلك الحمد وإن كان يحمد فيها غيره ويشكر سواه؛ فإن ذلك راجع إلى أَن غيره يكون سببًا وطريقًا إلى وصول نعم الله وانتهائها إلى المنعم عليه بها، فالمنعم في الحقيقة هو الله، أما في الآخرة فهو المستحق للحمد وحده فقد قطعت الأَسباب، وكل نفس بما كسبت رهينة، وهو - سبحانه - مختص بالحمد لما أَعده لعباده من نعيم مقيم، وتفضل بعفوه عن بعض الخطائين المذنبين، ولعدالته المطلقة مع خلقه أَجمعين {وَهُوَ الْحَكِيمُ} الذي أتقن كل شيءٍ صنعا، وأحسن كل كائن خلقًا وإبداعًا {الْخَبِيرُ} ببواطن الأُمور المحيط بكل شيءٍ علمًا. 2 - {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}: يدرك ويحيط بكل ما ينفذ إلى باطن الأَرض من ماءٍ يتخلل أَجزاءَها، وجذور تتعمق في جوفها، كما يعلم ما يأْوي إلى جوفها من هوام وحشرات ودواب، وغير ذلك مما يخطئه العد والحساب وسبحانه يعلم ما يخرج من بطنها إلى سطحها من نبات ومعادن، وماءٍ ونفط وغير ذلك مما يكون حياة وخيرًا كالرزق الحسن، أو عذابًا مدمرًا كالبراكين والزلازل، ويعلم - سبحانه - ما ينزل ويهبط علينا من أَجواءِ الفضاءِ كالملائكة التي تتنزل بالرحمات والخير للطائعين المخبتين أو تنزل بالعذاب والنكال على الطاغين المجرمين، ويعلم ما ينزل من الضوء والحرارة والأشعة والشهب والأَمطار والثلوج، ويعلم - جل شأْنه - ما يصعد ويعرج في السماء من كلم طيب وعمل حسن، وملائكة تصعد بأَعمالنا، وغازات وبخار، وصواريخ ومركبات وموجات لا سلكية، وأضواءَ منعكسة من الأرض إلى غير ذلك مما يعلمه علام الغيوب. وهو الكامل الرحمة الذي أمد الناس بنعمه الجليلة، وهو - سبحانه - مع كامل رحمته واسع المغفرة. كما قال - سبحانه -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا

مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1) وذلك للتائبين لقوله عقبها {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)} المفردات: {بَلَى}: حرف جواب يأْتي بعد النفي للإثبات. {يَعْزُبُ}: يبعد أو يغيب. {ذَرَّةٍ}: هباءَةٍ أَو نملة صغيرة. {مُعَاجِزِينَ}: ظانين تعجيز آيات الله. {رِجْزٍ}: أَسوأ عذاب. التفسير 3 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: ¬

_ (¬1) الآية 53 من سورة الزمر.

وقال الكافرون: إن الساعة لا تأْتيهم إنكارًا منهم قيامها، وجحدًا لمجيئها فلما حدث منهم ذلك أَمر الله - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم لهم بربه - جل علاه - أَنها آتية فقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أَي: سيقع ما تنفون ويحصل ما تنكرون، ووصف - سبحانه - نفسه بأنه عالم الغيب كله، وهذا أَدخل في إقامة الحجة عليهم إذ أن قيام الساعة من أدق الأُمور الغيبية وأَخفاها، ثم أكد ذلك وعززه بأنه لا يبعد ولا يغيب عنه ما مقداره وزن هباءَة أو أصغر نملة كائنة في السموات ولا في الأَرض ولا أَصغر من ذلك ولا أَكبر إلا وهو مسطور مسجل في كتاب واضح بين وهو اللوح المحفوظ، وليقطع الله عليهم طريق اللجاجة والتكذيب أَنذرهم بالجزاءِ على العمل، فالله - سبحانه - بحكمته جعل لكل عمل جزاءً فالمحسن يثاب كما قال تعالى: 4 - {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: أي لتأْتينكم الساعة ليثيب الله - سبحانه - من تمكن الإيمان في قلوبهم فأَثمر الأَعمال الصالحة، والأَفعال المرضية، لهم - دون غيرهم - غفران ما عسى أَن يكون قد وقع منهم من هفوات - فهم بشر - ولهم مع هذه المغفرة العظيمة الواسعة الشاملة رزق واسع طيب حسن في دار النعيم. والمسيءُ يعاقب كما قال تعالى: 5 - {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}: أي أن: أُولئك الذين يسعون بالإثارة والإنكار لآيات الله وقرآنه فينسبونه إلى السحر أو الشعر أَو الكهانة أو يقولون عنه إنه أساطير الأولين ظانين إبطال آيات الله أو تعجيزها عن أَن تصل إلى الناس في نقائها وصفائها لتعمل عملها الطيب المبارك في القلوب فتهديها إلى الحق والنور، أو أنهم يعملون على تعجيز المؤمنين عن تكثير أتباعها هؤلاء لهم - دون سواهم - عذاب بالغ السوء في إيلامه.

{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)} المفردات: {أَفْتَرَى}: أكذب واختلق. {جِنَّةٌ}: جنون. {نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ}: نغيبهم في بطنها. {كِسَفًا}: جمع كسفة، وهي القطعة. {مُنِيبٍ}: راجع وتائب إلى الله - تعالى -. التفسير بعد أن بين الله - سبحانه - حال المكذبين لآياتنا ومآلهم عقب ذلك ببيان رأْي أُولي العلم فيما أُنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: 6 - {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}:

المراد من الذين أُوتوا العلم: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين بعدهم سالكين طريقتهم، أَو هم أَهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله، أَو هم أولئك وهؤُلاء جميعًا، والمعنى: ويرى الذين أَعطاهم الله علمًا يقينيًّا تسامى في الصدق وتمكن في القلب - يرون الذي أُنزل إليك من لدن حكيم عليم هو الصدق الخالص، والحق الثابت الذي لا مرية فيه، أَما ما يفعله المعاجزون فهو باطل وزيف لا غناءَ فيه، وما أنزل إليك يهدى ويرشد كذلك إلى طريق وصراط الله العزيز الغالب الذي لا يغالب، وهو الحميد الذي يحمد ويشكر سعى من يصدق ويعمل صالحًا فيجازيه الجزاءَ الحسن، وفي هذا الأُسلوب الحكيم تنبيه وإرشاد إلى الالتجاء إلى الله رهبة من انتقام العزيز ورغبة في فضل وعطاء الحميد، وتثبيت لقلب نبيه، وبشارة له بأَنه ناصر دينه وناشره وحافظه، وخاذل أَعدائه ومهلكهم. 7، 8 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ}: لما عجز الكفار في أمر الساعة عن مقارعة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان لجأُوا إلى أُسلوب العاجز وهو السخرية والسفه والإثارة، فقال فريق منهم لفريق آخر - استهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستبعادًا لأَمر البعث -: هل ندلكم على رجل منكم يحدثكم بأُعجوبة من الأَعاجيب، وأَمر مستبعد غريب، وهو أنكم إذا صرتم رفاتًا وترابًا، ومزق الفناءُ أجسادكم كل ممزق، وبدد البلى أجزاءَكم كل تبديد - ينبئكم - أَنكم تبعثون وتعودون خلقًا جديدًا سويًّا. وإمعانًا منهم في السخرية والاستهزاء تجاهلوا اسم رسول الله وأتوا به نكرة كأَنه ليس معروفا لديهم. ثم هم مع ذلك يتغافلون عن شأنه - وهو بينهم الصادق الأمين - فيقولون: أَهو مفتر وكاذب فيما يدعيه على الله وينسبه إليه، أَم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ فيرد الله عليهم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} إضراب عن الأمرين ودحض لهما جميعًا أي: ليس الأَمر كما يفتري الكافرون، فالرسول - عليه الصلاة والسلام -

لم يكن منه افتراءٌ ولا كذب على الله، ولا به جنون ولكن هؤلاءِ - بسبب إنكارهم للبعث - في العذاب الشامل الذي ينتظرهم، وفي الضلال والزيغ الذي غمهم وبعد بهم عن طريق الهداية، ونأَى وشط عن الصراط المستقيم. 9 - {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}): أي أَعَمِي هؤُلاء الكافرون فلم يبصروا وينظروا إلى ما يحيط بهم من بديع صنع الله في سمائه وأَرضه فإن فيها ما يدعو إلى تدبر المتدبرين، وتفكير أُولي الأَلباب والمستبصرين، فضلا عن أَنهم جميعًا لا يقدرون على أَن يخرجوا أَو ينفذوا من أَقطار السموات والأَرض، فهو - سبحانه - قاهر لهم وهم في قبضته فإن شاءَ خسف بهم الأَرض وغيبهم في بطنها كما فعل بقارون، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (¬1). أَو يسقط وينزل عليهم قطعًا من السماءِ تهلكهم كصنيعه مع أَصحاب الأَيكة، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬2) ثم يؤكد أن النظر في السموات والأرض والتدبر فيها والاعتبار بما حصل للأُمم السابقة علامة وأَمارة وهداية لكل عبد راجع إلى ربه ملتجئ إلى مولاه، متوكل عليه. * {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} المفردات: {أَوِّبِي مَعَهُ}: رَجِّعي معه التسبيح، من التأْويب وهو الرجوع بعد الرجوع. {أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}: طوَّعناه له من غير نارٍ ولا مطرقة. ¬

_ (¬1) من الآية 81 من سورة القصص. (¬2) الآية 189 من سورة الشعراء.

{سَابِغَاتٍ}: واسعات ضافيات. {قَدِّرْ}: أَحْكِمْ أَو اقتصد. (السَّرْدِ): نسج الدروع. التفسير 10 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ... } الآية: أشارت الآيات السابقة على هذه الآيات إلى إنكار المشركين أَمر البعث، واستبعاد حصوله. فجاءَت هذه الآيات تبرز قدرة الله - تعالى - في معرض فضله على أنبيائه بما لا يمكنهم إنكاره بعد أَن فاضت به أَخبارهم وأَشعارهم. وفي ذكر ذلك بعد ذكر تكذيب المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى صدق رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأن إرساله لم يكن بدعًا، بل كان مما جرت به سنة الله قبله في الأَرض من إرسال الرسل قبله وتأْييدهم بالمعجزات. وإحلال العقاب بمن خالفهم. والمعنى: ولقد آتينا وأَعطينا داود من عندنا نعمة وإحسانا، لحسن إنابته وصدق توبته بما منحناه من الملك، وفصل الخطاب، وغير ذلك، وقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} تَفْصِيل لبعض الفضل الذي أَعطاه الله إياه، ومعناه: يا جبال رجعي معه التسبيح كلما سبح. روى أَنه - عليه السلام - كان إذا سبح سبَّحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها، ولا يعجز الله - جلت قدرته - أَن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع - وقد سبح الحصى في كف رسولنا عليه الصلاة والسلام - وسمع تسبيحه، فلا يبعد ما قيل: من أَن الله - عَزَّ وَجَلَّ - خلق فيها الفهم وناداها وأمرها بذلك كما ينادي أُولي الفهم ويأْمرهم، وأنها امتثلت ما أُمرت به. وقيل: المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أَعين، واستخراج معدن وإنشاء طريق، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ} معناه: وسخرنا له الطير؛ لأَن إيتاءَها إياه - عليه السلام - هو تسخيرها له، وفي تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المطيعين لأمره المذعنين لحكمه، ما يشعر بأَنه مَا مِنْ حيوان ولا جماد، ولا صامت ولا ناطق، إلا وهو منقاد إلى مشيئة الله - تعالى -

غير ممتنع على إرادته - سبحانه - وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} معناه: طَوَّعناه، وجعلناه في يده لينًا يصنعه كيف شاء، ويتصرف فيه بما يشاءُ. 11 - {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: أي أَلنا له الحديد وأَمرناه أن اعمل منه سابغات، ويحتمل أَن تكون علة وغاية على معنى أَلنا له الحديد ليعمل سابغات. وعن مقاتل أنه - عليه السلام - حين ملك علي بني إسرائيل كان يخرج متنكرًا فيسألُ الناسَ عن حاله، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأَله فقال: نعم العبد لولا خلة فيه، فقال: وما هي؟ قال: يُرْزَقُ من بيت المال، ولو أَكل من عمل يده لتمّت فضائله، فدعا الله - تعالى - أَن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع، وأَلان له الحديد، فأَثرى، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو بعض ليلة وثمنها أَلف درهم ينفق بعضها على أَهله، وينفق الباقي في مصالح المسلمين والصدقات. كذا قيل، ولعل الأَقرب إلى الفهم أَن داود - عليه السلام - كان يكره أَن يرزق من بيت المال، ويحب أن يأْكل من عمل يده تورعًا، فدعا الله أَن يعلمه صنعة وييسرها له ليأْكل من عمل يده فتم له ذلك ويسره الله له وكان أَول من اتخذها. وقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} معناه: وأَحكم نسج الدرُوع وأَتقن صنعتها بحيث تتناسب حلقها ولا تكون مضطربة قلقة ولا تكون غليظة فيشق حملها ولا خفيفة فيسهل كسرها، وقيل: معنى قدِّر في السرد: اقتصد في نسج الدروع فلا تصرف وقتك كله فيه، واعمل فيه بما يوفر لك القوت والإعاشة، واصرف باقي وقتك في عبادة الله وطاعته، وهذا هو الأَنسب بقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} فإنه خطاب من الله - تعالى - لداود وآله وتكليف لهم بالعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، ومع أَن أَهله لم يجر لهم ذكر

فإنهم يفْهَمُون التزامًا من ذكره، وأَجاز بعضهم أَن يكون المراد بالعمل الصالح إتقان عمل الدروع، وحينئذ يكون الخطاب خاصًّا، ويحتمل أن يكون أمرًا عامًّا بالعمل الصالح مطلقًا بما في ذلك عمل الدروع. وقوله تَعَالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} معناه: إني عالم بكل ما تفعلونه مُطّلع عليه لا يخفى علي شىءٌ منه، وهو تعليل للأَمر أو لوجوب الامتثال متضمن للتحذير من مخالفته على وجه الترهيب والترغيب، فإن من يعمل عملا لملك، ويعلم أَنه بمرأَى منه وتحت عينه يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه حتى ينال رضاه، ويَحْظَى بالأَمن والأَمان عنده. {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} المفردات: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}: بنصب الريح على معنى وأَعطينا سليمان الريح، وبالرفع على تقدير: ولسليمان الريحُ مسخرةٌ. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}: جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} القطر: النحاس الذائب، أَي: أَجرينا معدن النحاس سائلا كما ينبع الماءُ من العين. {يَزِغْ}: يعدل ويخالف ما أَمرناه به.

{مَحَارِيبَ}: جمع محراب. قيل: معناها قصور، وقال المبرد: لا يسمى محرابًا إلاَّ ما يرتقى إليه بدرج - وقيل: المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال، وقيل: المساجد. {وَتَمَاثِيلَ}: جمع تمثال وهي الصور. {أجِفَانٍ} جمع جفنة: وهي ما يوضع فيها الطعام من أَعظم القصاع وأَكبرها، ويليها في الصغر القصعة، ويليها المِئْكلة، ويليها الصُّحَيفَة. {كَالْجَوَابِ}: جمع جابية: وهي الحياض التي يُجْبى فها الماءُ للإِبل. {قُدُورٍ} جمع قدر وهي ما يطبخ فيه من فخار ونحوه على شكل مخصوص. {رَاسِيَاتٍ}: ثابتات على الأثافي (¬1) لا تنزل عنها لعظمها. التفسير 12 - {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}: هذه الآية شروع في تعداد ما من الله به على سليمان بعد بيان ما آتاه - عزَّ وجَلَّ - لداود عليهما السلام. والمعنى: وسخرنا لسليمان الريح، وذللناها له تخضع لأَمره، وتتحرك على مقتضى إرادته كالمملوك المختص بالمالك يأْمرها بما يريد، ويسيطر عليها كما يشاءُ فهي مسخرة ومذعنة لأَمره. ومعنى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}: جريها بالغداة - أَول النهار - مسيرة شهر، وجريها بالعشي - آخر النهار - مسيرة شهر، فكانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب أَخرج أَحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية: كان سليمان - عليه السلام - يغدو من بيت المقدس فَيُقِيلُ باصطخر ثم يروح من اصطخر فيقيل بقلعة خراسان. ¬

_ (¬1) الأثافي: ما يوضع عليه القدر من الحجارة، ومفردها أثفية.

قال ابن الحاجب في أَماليه: إنما أَعاد لفظ الشهر للإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التي تأْتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، ولم يقتصر على زمن الغدو ليقيس عليه زمن الرواح؛ لأَن الرياح كثيرًا ما تسكن، أَو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين. وإنما لم يقل: ومع سليمان الريح كما قال - في داود -: يا جبال أوبي معه، لأَن حركتها بتسخير سليمان لها، وسلطانه عليها بأَمر ربها، فتسير معه حيث شاءَ وهذا على خلاف تأْويب الجبال، فإنه كان تبعًا لتأْويب داود - عليه السلام - ولم يكن مسلطًا عليها. وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}. معناه: وأَجرينا له معدن النحاس بعد إذابته - كما ألنَّا الحديد لداود - فسال ونبع كما ينبع الماءُ من العين، فلذلك سمى عين القطر باسم ما آل إِليه، وكانت الأعمال تتأَتى به وهو بارد، ولم يلن ولا ذاب لأَحد قبله: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: ومن الجن فريق يعمل بين يدي سليمان بإذن الله وأَمره كما ينبيءُ عنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يخرج من الجن عما أمرناهم به من طاعة سليمان والعمل بأَوامره وإرشاداته {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}: أَي: نصله يوم القيامة ألوانًا من عذاب جهنم جزاءً وفاقًا لخروجه على أَمرنا، فالمقصود بالعذاب عذاب الآخرة، وفي هذا دلالة على أَن الجن مكلفون كالبشر. وعن الحسن قال: الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤُلاء وهؤُلاءِ مؤْمنون، وهم شركاءُ في الثواب والعقاب. ومن كان من هؤلاء وهؤُلاء مؤْمنًا فهو ولي الله - تعالى - ومن كان كافرًا فهو شيطان. هذا وفي قوله تعالى: {بِإِذْنِ رَبِّهِ} بذكر لفظ الرب، وقوله: عن أَمرنا بالإضافة إلى الضمير لمحة لطيفة؛ لأَن لفظ الرب ينبيءُ عن الرحمة، فناسب ذكره عند الإشارة إلى حفظ سليمان كما ناسب عند الإشارة إلى تعذيب الجن ذكر ضمير العظمة الموجب لزيادة الخوف.

13 - {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}: هذه الآية تفصيل لما يقوم به الجِن من الأَعمال لسليمان - عليه السلام -. والمعنى: يعمل هؤُلاء الجن لسليمان ما يشاءُ عمله من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات. والمحاريب جمع محراب، وهي قصور حصينة، ومساكن شريفة، ومنازل شاهقة سميت بذلك لأَنه يحارب غيره لحمايتها، وقيل: هي صدور المجالس. قال المبرد: لا يسمى محرابًا إلا ما يرتقى إليه بدرج، وقيل: هي المساجد. ويطلق المحراب أيضًا على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإِمام، وهو مما أُحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأَول، ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله. وتماثيل: جمع تمثال. قال الزمخشري: صور الملائكة والأَنبياء والصالحين، كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام وغيرها، ليراها الناس فيعبدوا مثل عبادتهم وكان اتخاذ الصور جائزًا في شرعهم. كما قال الضحاك وأَبو العالية. وقد روي أنهم عملوا لسليمان - عليه السلام - أَسدين في أسفل كرسيّه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظله النسران بجناحيهما والله أعلم بصحة ذلك. {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} جمع جفنة: وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقًا وهي أَعظم القصاع، ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة، ويليها الصفحة وهي ما تشبع الخمسة، ويليها المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة، وهي ما تشبع الواحد. والجوابي جمع جابية: وهي الحياض الواسعة يجبى إليها الماءُ، فهي مجبيٌّ إليها لا جابية، ثم غلبت على إناءٍ خاص كبير الحجم يملأُ ماءً.

{وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}: جمع قدر؛ وهو ما يطبخ فيه من فخار وغيره على شكل مخصوص، وراسيات معناها ثابتات على الأَثافي لا تنزل عنها لعظمها، وصف القدور بثابتات بعد تشبيه الجفان بالجوابي يجمع إلى تحقيق التناسب حسن الاتساق، كما أَن تقديم الجفان وهي من أواني الأَكل على القدور مع أنها من أدوات الطبخ المقدم على الأكل يشير إلى أن هذه الأواني معدة للطعام وأن السماط الذي كاتت تستعمل فيه عظيمًا. وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} معناه: اعملوا يا آل داود من الطاعات، والأَعمال الصالحات ما تؤَدون به شكر الله على عظيم نعمه وجليل آلائه، أو اشكروا يا آل داود شكرًا على هذه النعم. روى ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما قيل لهم: اعملوا آل داود شكرا لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي. وجاءَ في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أَنه - عليه السلام - قال: يا رب كيف أَشكرك، والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه: الآن شكرتني حين علمت النعم منّي. {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: وقليل من عبادي المتوفر على أَداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه، قال ابن عباس في تعريف الشكور: هو الذي يشكر على أَحواله كلها، وفي الكشاف: هو المتوفر على أَداء الشكر الباذل وسعه فيه، وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافًا واعتقادًا وكدحًا، وأَكثر أَوقاته، وقيل: من يرى عجزه عن الشكر؛ لأَن توفيقه للشكر نعمة تستدعى شكرًا آخر لا إلى نهاية. وقد نظم بعضهم هذا فقال: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأَيام واتسع العمر إذَا مس بالنعماءِ عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وهذه الجملة في ختام الآية يحتمل أن تكون من بقية خطاب آل داود داخلة فيه، ويحتمل أن تكون جملة مستقلة جيءَ بها إخبارًا لنبينا - عليه الصلاة والسلام - تنبيهًا وتحريضًا على الشكر.

ومن بدائع التنزيل هذه المواءَمة بين ما منَّ الله به على داود وما منَّ به على سليمان عليهما السلام، فإن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياءَ لداود وثلاثة أَشياءَ لسليمان وناسب بينهما، فالجبال المسخرة لداود يناسبها الريح المسخرة لسليمان، وتسخير الطير يناسب تسخير الجن، وإلانة الحديد تناسب إسالة النحاس. وهكذا تتقارب النعم بينهما لتقوى الصلة بين الولد وأبيه. {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} المفردات: {قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}: أوقعنا على سليمان الموت، وحكمنا عليه به. {دَابَّةُ الْأَرْضِ}: هي الأَرَضة - بفتحات - وهي دُوَيْبة تأْكل الخشب ونحوه وتسمى سُرْفة، كما تسمى سوس الخشب، وإضافتها إلى الأَرْض من إضافتها إلى ما تحدثه وهو الأَرْض، أي: أَكل الخشب {مِنْسَأَتَهُ}: عصاه، سميت بذلك لأَنه ينسأُ ويطرد بها، من نسأْت الكلب إذا طردته. {خَرَّ}: سقط على الأرض. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ}: علِمَت، من تبين الشيءُ إذا ظهر بعد التباس. {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ}: ما مكثوا فيه وأَقاموا عليه. {الْمُهِينِ}: البالغ الحد في المهانة والذِّلَّة. التفسير 14 - {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}: جرت هذه الآية على نمط القصص القرآني من طي ما يعلم من أُسلوب القصة ويُفْهمُه

سياقُهَا، والمعنى: فلما تم لسليمان ما أَنعم الله به عليه من نعم يسخرها فيما يشاءُ ويوجهها إلى إنجاز ما يريد، فلما قضينا عليه الموت، وأَوقعناه وحكمنا به عليه ظلَّ أَمر موته خفيا على الجن فَعَمِيَ عليهم بعض الوقت ما دلهم عليه إلَّا دابة الأرض وهي الأَرَضَة أَكلت عصاه التي كان متكئًا عليها جالسا على كرسيه (¬1)، فسقطت وخرَّ سليمان ساقطًا على الأَرض بسقوطها. روي أَن داود - عليه السلام - أَسس بنيان بيت المقدس في موضع فسطاط موسى فتوفي قبل تمامه، فوصّى به سليمان عليهما السلام - فاستعمل فيه الجن والشياطين فباشروه، حتى إذا آن أَجله وعلم به سأل ربَّه أن يُعمّي عليهم موته ليفرغوا، ولتبطل دعواهم الغيب، فقام يصلى في مصلاه متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكيءٌ عليها فبقى كذلك، وهم فيما أُمروا به من الأَعمال، حتى أَكلت الأَرَضة عصاه فخرّ ميتًا، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه كلَّما صلى. {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}: أي فلما سقط سليمان على الأَرض ميتا، وظهر أَمر موته تبينت الجن وظهر من أَمرها أَنهم لو كانوا يعلمون الغيب - كما يزعمون - لعلموا موته وقت حصوله، فلم يلبثوا بعد موته في الأَعمال الشاقة والعذاب البالغ الحد في المهانة والذل، والمراد بالجن في قوله {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} جميع الجن؛ كبراؤُهم وضعفاؤهم. {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} ¬

_ (¬1) انظر القرطبي، فقد ذكر أنه اتكأ على عصاه على كرسيه حينما قام يصلي، ومعنى قيامه للصلاة أداؤه لها، من قولهم: قام بالأمر، أي: أداه.

المفردات: {سَبَإٍ}: قوم بلقيس، وهو في الأَصل اسم لرجل هو سبأ بن يشجب بن قحطان ويجمع قبائل اليمن عامة، ومن نسله عبد الله المنسوب إليه السبئية من غلاة الشيعة. {مَسْكَنِهِمْ}: مواضع سكناهم وهي باليمن، يقال لها مأْرب، بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال. {آيَةٌ}: علامة واضحة دالة على وجود الصانع الحكيم. {جَنَّتَانِ}: جماعتان من البساتين: جماعة عن يمين إقليمهم وجماعة عن شماله. {الْعَرِمِ}: سد يعترض الوادي، ويطلق أيضًا على المطر الشديد، والعرمُ: الصعب. من عَرِم الرجل فهو عارم: إذا شرس خلقه وصعب. {وَبَدَّلْنَاهُمْ}: آتيناهم بدل جنتيهم بعد إهلاكهما {خَمْطٍ}: مُرٍّ بشع. {أَثْلٍ}: شجر يشبه شجر الطرفاءِ لا ثمر له. {سِدْرٍ}: هو شجر النبق. {جَزَيْنَاهُمْ}: عاقبناهم. {الْكَفُورَ}: المبالغ في الكفر المتشبث به. التفسير 15 - {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}: لما ذكر - سبحانه وتعالى - الآيات السابقة بعض آلائة ونعمه على عباده المنيبين من أَمثال داود وسليمان وما اختصهم به من فضل، وأَسبغ عليهم من خير لقاءَ شكرهم، وجزاءَ امتثالهم وطاعتهم، عرض في هذه الآية طرفًا من قصة سبأ المنكرين للنعم، المعرضين عن الطاعة موعظةً قريش وتحذيرًا من كفرانهم النعم وإعراضهم عنها. وسبأ بن يشجب ويسمى أيضًا عبد شمس وهو أَول ملوك اليمن في قول. ولقب بهذا اللقب لأَنه أَول من سبى السبي من ولد قحطان، وفي بعض الأَخبار عن فروة بن مسيك قال: أَتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله: أخبرني عن سبإٍ. أرَجُلٌ هو أم

امرأَة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة: تيامن (¬1) منهم ستة وتشاءَم (¬2) منهم أَربعة، فأَما الذين تيامنوا فالأَزد. وكندة وحمير ومذحج. والأَشعريون وأَنمار ومنهم بجيلة. وأَما الذين تشاءَموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام. والمعنى: لقد كان لشعب سبأَ في مساكنهم التي يسكنونها وقصورهم. ووديانهم التي يعيشون فيها ويعمرونها آية واضحة وعلامة دالة بملاحظة سوابقها ولواحقها على وجود الصانع المختار، والحكيم القادر على ما يشاءُ، هذه الآية هي جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله. وكل بستان من هاتين الجماعتين يجمع أَلوانًا شتى من الأَشجار والثمار، وهذه البساتين ترى في تقاربها وتضامها كأَنها جماعة واحدة. والمقصود أَن مساكنهم من العظمة، والترف والنعيم بحيث تحفها الأَشجار وتحيط بها الثمار من جميع الأنواع والأَشكال عن يمين وشمال، وهم ينعمون بها، وينطلقون في أَكل ثمارها الموفورة، روي أَن المرأَة كانت تخرج وعلى رأسها المكتل وتسير بين الأَشجار فيمتليء المكتل مما يتساقط من الثمار فهذا قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي: كأَنها تناديهم بلسان الحال، وتدعوهم للأَكل منها، والشكر عليها. وقيل: هو على تقدير القول أَي: قال لهم نبيهم، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}. {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}: استئناف يرشد إلى مقتضيات الشكر وموجبات الحمد أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة بخيراتها الوفيرة وخصبها الجيد، وربكم الذي رزقكم هذه الأَرزاق الواسعة، وأَفاءَ عليكم بهذه النعم وطلب شكركم رب غَفُورٌ واسع المغفرة لفرطات من يشكره. 16 - {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}: المعنى: فتولوا وأعرضوا عن شكر الله تعالى، وعن الإيمان به مع هذه الآيات الداعية إليه، وهذه النعم المستوجبة له. ¬

_ (¬1) اتجهوا جهة اليمن. (¬2) اتجهوا نحو الشام.

فأرسل عليهم سيل المطر الشديد، فاجتاح السد الذي كان ينظم الريّ في البلاد. وقوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} معناه: عاقبناهم على إعراضهم وكفرهم وتكذيبهم نبيهم فأَذهبنا جنتيهم، وأَبدلناهم بهما جنتين ذواتي ثمر خمط مُرٍّ لا يستسيغه أَحد، يجمع بين المرارة والحموضة، وشجر آخر لا ثمر له يشبه شجر الطرفاء إلا أَنه أَكبر منه وهو الأثل، وشيءٍ قليل من شجر السدر وهو المعروف بالنبق. وهذا النوع ينتفع به وله شأْن عند العرب، ولكنه كان قليلًا عقابا لهم، ولو أُطلق لكان نعمة لا نقمة. وقال الأَزهرى: السدر سدران: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغَسُول، وله ثمرة عَفْصة لا تؤْكل - وهو الذي يسمّى الضال - وسدر ينبت على الماءِ وثمره النبق وورقه غَسُول يشبه العُنّاب. قال قتادة: كان شجرهم خير الشجر، فصيره الله شر الشجر بأَعمالهم، وتسمية البدل بجنتين للمشاكلة والتهكم. ولفظ (قليل) إما أن يكون وصفًا لسدر كما تقدم، وإما أن يكون وصفًا للثلاثة {خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}. 17 - {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي: ذلك العقاب الذي ألحقناه بهم من التبديل بجنتيهم الوارقتين المثمرتين جنتين خبيثتين ذواتي أُكل خمط مرٍّ وأثل لا ثمر له وشيءٍ من سدر قليل لا يغني، أَو لا ينتفع به - ذلك العقاب عاقبناهم به بسبب كفرهم وإعراضهم عن الإيمان وعن شكر النعم، ويجوز أَن تكون الإشارة إلى مصدر الفعل (جزيناهم) أي جزيناهم ذلك الجزاء، وتقديم لفظ (ذلك) وهو مفعول على الفعل العامل فيه وهو جَزى من {جَزَيْنَاهُمْ} للتعظيم والتهويل، أو للتخصيص على معنى: ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاءً آخر، وما نجازي مثل هذا الجزاءِ ولا نعاقب هذا العقاب الشديد المستأْصل إلا المبالغ في الكفر المصر عليه.

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)} المفردات: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي الشام، جعلناها مباركة بكثرة أشجارها ووفرة ثمارها، والتوسعة على أهلها. {قُرًى ظَاهِرَةً} متواصلة يقرب بعضها من بعض، أو ظاهرة مرتفعة على الآكام والمرتفعات وهي أشرف القرى، أو مقامة على الطريق معروفة يسهل سير السابلة إليها. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} جعلنا المسافات بينها مقدرة على أبعاد قريبة بحيث يسهل التنقل بينها. {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}: اجعل المسافات والأبعاد بيننا وبين القرى المباركة طويلة ممتدة لتطول أسفارنا إليها. {أحَادِيثَ} جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به على سبيل التلهى والاستغراب. {مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}: فرقناهم كل تفريق، وشتتناهم شر تشتيت. التفسير 18 - {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}: هذه الآية عود إلى ذكر ما أُوتي قوم سبأ من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، بعد ذكر ما أوتوا من النعم في مساكنهم ومنازل إقامتهم، ولم تذكر هذه النعم مع النعم التي قبلها

مباشرة لما في المعاودة والتثنية من إثارة الانتباه، وتجديد التذكير، فيكون أوقع في الأسماع وأقوى في التأثير والزجر. والمعنى: وجعلنا بين مساكن أهل سبأ وبين قرى الشام التي باركنا فيها بكثرة أشجارها، ووفرة ثمارها وخيراتها - ومياهها، والتوسعة على أهلها - جعلنا بينهم - قرى أخرى كثيرة ظاهرة متواصلة بحيث يظهر لمن في بعضها ما أمامه من الأُخرى، أو جعلناها مرتفعة على الآكام على العادة في بناه القرى المنيعة الشريفة، أو أقمنا أوضاعها على الطريق ليسهل توصل السابلة إليها {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} فجعلنا الأبعاد بين كل قرية وأخرى على مقدار معين لا يشق على المسافر قطعه، ولا يطول وقته. قيل: من سافر من قرية صباحًا وصل إلى الأُخرى وقت الظهر والقيلولة، ومن سار من قرية بعد الظهر وصل إلى أخرى بعد الغروب إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدوّ ونحوه، وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} على إرادة القول، بمعنى أبحناها وقلنا لهم: سيروا فيها، وهذا القول إما بلسان أنبيائهم، أي قال أنبياؤهم ومرشدوهم سيروا فيها حيث شئتم، وكيف شئتم ليالي وأيامًا آمنين لا تحسُّون مشقة ولا تستشعرون جوعًا ولا عطشًا ولا ترهبون عدوا، وإما بلسان الحال. أي: يسرنا لهم السير وسهلنا أسبابه فاندفعوا فيه كأنهم مأمورون به. وعلى أي تقدير فالمعنى: سيروا فيها آمنين مطمئنين وإن تطاولت مدة سفركم، وامتدت أيامًا وليالي كثيرة، وتقديم الليل على النهار لأن الليل مظنة الخوف من المغتالين وقطاع السبيل. 19 - {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ .... } الآية: المعنى: بطروا النعمة وسئموا من طيب العيش ولم يعرفوا قيمته وملوا العافية، وطلبوا الكدَّ والتعب فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا فاجعلها مسافات بعيدة. بحيث نسير إليها على نجائبنا، ونفاخر بدوابنا ونربح في تجارتنا، وظلموا أنفسهم بما قالوا وما طلبوا وكانوا كبني إسرائيل الذين ملُّوا المن والسلوى، وآثروا الذي هو أدنى، فعجل الله لهم الإجابة بتخريب تلك القرى، ونجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، كما يفهم

من قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: ألحقنا بهم الخراب والدمار فجعلناهم بحيث يتحدث الناس عن أخبارهم حديث التلهى والاستغراب، ويضربون بهم الأمثال فيقولون: ذهبوا أيدى سبأ، ومزقناهم كل تفريق وشر تمزيق حيث لحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إلى غير ذلك. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: إن في ذلك الذي ذكر من قصتهم، واختلاف أحوالهم وتقلب الأيام بهم لعظات واضحة وآيات شاهدة لكل من راض نفسه على الصبر وغالب الشهوات وصبر على الطاعات، وقدر نعم الله، وقابلها بالمزيد من الشكر والوفير من الحمد ليستديمها ويستزيدها تصديقًا قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬1). {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} المفردات: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}: حقق فيهم ظنه ووجده صادقًا. {سُلْطَانٍ} تسلط، واستيلاء. (حفيظ): محافظ. التفسير 20 - {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: لما ذكر الله - سبحانه وتعالى - قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى واستجابتهم لوسوسة إبليس، وتنكبهم السبيل السوى، أخبر عنهم فقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ ¬

_ (¬1) آية 7 من سورة إبراهيم.

عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي: حقق عليهم ظنه ووجده صادقًا، وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات وكفران النعم، أو ظنه ببني آدم حين شاهد - آدم عليه السلام - أصغى إلى وسوسته، وقال: إن ذريته أضعف منه عزمًا، والرأى الأول أقرب لاتصاله بقصة سبأ، وقوله: {فَاتَّبَعُوهُ} أي: فاتبعه أهل سبأ. ومعنى {إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: إلاَّ فريقًا قليلًا هم المؤمنون لم يتبعوه ولم يتأثروا بوسوسته، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار فإن المؤمنين قليل بالنسبة لكثرتهم. 21 - {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}: أي: وما كان لإبليس على هؤلاء الغاوين من تسلط وقدرة على الاستيلاء عليهم بالوسوسة إلاَّ ليظهر ما علمناه أزلا في شأنهم؛ من يؤمن بالآخرة ويصدق بالحساب والجزاء يوم القيامة بحسن اختياره، ممن هو من هذا في ريب بسوء اختياره. قال الحسن: والله ما ضربهم بعصى، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورا وأمانى دعاهم إليها فأجابوه. وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} معناه: وربك على كل شيءٍ وكيل قائم على أحواله وشئونه، فلهذا لا يفوته العلم بمن يؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها. و (حفيظ) إما مبالغة في حافظ أو بمعنى محافظ. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}

المفردات: {زَعَمْتُمْ}: ظننتم وقلتم إنهم آلهة. {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: وزن ذرة وقدرها. {ظَهِيرٍ}: معين. {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}: أزيل الخوف عن قلوبهم، يقال: فُزع عنه إذا أزيل الخوف عنه، مثل قولهم: قَرَّدْتُ البعير إذا أُزلت قراده، والفزع: انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف. التفسير 22 - {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فما السَّمَاوَاتِ وَلَا فما الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}: لما بين الله - تعالى - حال الشاكرين ونعمه عليهم، وحال المشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة في أخبارهم وأشعارهم، عاد إلى خطابهم وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: قل - يا رسول الله - لهولاء المشركين تنبيهًا على بطلان ما هم عليه، وتبكيتًا لهم: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله فيما يهمكم من جب نفع أو دفع ضرر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم. ولم يمهلهم ليجيبوا بل قال - سبحانه - {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة} إشعارًا بتعينه جوابًا، فإنه لا يقبل المكابرة، وهو متضمن حال آلهتهم في الواقع، وأنهم إذا كانوا من العجز والعوز لا يملكون وزن ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر ولا يستطيعون جلب نفع ولا دفع ضرّ. فكيف يكونون آلهة تُعْبدُ؟ وذكر السموات والأرض للتعميم عرفًا فيراد جميع الموجودات. كما يقال: صباحًا ومساءً لجميع الأوقات وشرقًا وغربًا لجميع الجهات، والمراد نفى قدرتهم على شيء من النفع أو الضر أو الإيجاد أو الإعدام، وقوله - تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير} معناه: ومالآلهتهم آية شركة في السموات والأرض، لا خلقًا ولا ملكًا ولا تصرفًا، وما لله جلَّت قدرته من هؤلاء الآلهة من ظهير ولا معين يعينه في تدبير أمر من أمورهما. 23 - {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}: هذه الآية: استمرار في تسفيه آلهتهم، واستقصاء لقطع كل ما يمكن أن يرجى منهم أو ينتظر من نفعهم.

والمعنى: لا توجد الشفاعة رأسًا، ولا تتأتى أصلا عند الله - تعالى - في حال من الأحوال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأْهلين للشفاعة المستحقين لها فقد قال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وعدم الإذن للأصنام بالشفاعة واضح، فلا مجال لنجاة عابديهم. ويمكن أَن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن الله لشفيعه بشأنه، فلقظ {مَنْ} في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} واقع على الشفيع في المعنى الأول وعلى المشفوع له في المعنى الثاني، وحاصل المعنى عليه: أن الشفاعة لا تنفع من الشفعاء المستاهلين إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة، وهم المقصرون من أهل الإيمان ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص، ولمن شفاعة الأصنام بدلالته، إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة، فلأَن يحرموها ابن جهة العجزة عنها بالكلية أولى. ومما تجدر الإشارة إليه أَن المراد بنفي نفع الشفاعة نفيها رأسًا، وإنما علق النفى بنفعها دون وقوعها تصريحًا بنفى ما هو غرضهم من وقوعها. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} معناه: حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير الرضا بالشفاعة من الله ذي الجلال والإكرام، قال المشفوع لهم المتلهفون على الإذن بالشفاعة المهتمون بأَمرها، قالوا للشفعاء: ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة؟ قال الشفعاء: قال ربنا القول الحق حيث أذن بالشفاعة للمستحقين لها، وهو المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وهذه الجملة وهي: {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} من تمام الكلام الجاري على آلسنة الشفعاء، قالوها اعترافًا بغاية عظمة الله وقصور شأن كل من سواه. وقال القرطبي في معنى الآية: إنه إذا أذن للشفعاء في الشفاعة، وورد عليهم كلام الله فزعوا، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل، والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سرى عنهم قالوا للملائكة فوقهم - وهم الذين يوردون عليهم الوحى بالإذن -: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي: ماذا أمر الله به. {قَالُوا الْحَقَّ}: وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}: فله أن يحكم في عباده بما يريد.

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} المفردات: {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ}: بالمطر وغيره. {وَالْأَرْضِ}: بالنبات وسواه. {قُلِ اللَّهُ} أي: قل إجابة عنهم إن لم يقولوه، إذ لا جواب سواه عندهم أيضًا. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} أي: وإنَّ أحَدَ الفريقين منا ومنكم. {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: لمحقٌّ متمكن من الحق، أو مبطل منغمس في الضلال الواضح. {أَجْرَمْنَا}: أذنبنا. {تَعْمَلُونَ}: من الكفر والمعاصي. {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا}: يوم القيامة عند الحشر والحساب. {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ}: ثم يحكم ويفصل بيننا بالعدل. {الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}: الحاكم الفيصل، العليم بما ينبغي أن يقضى به. {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ}: أعلموني هذه الآلهة التي جعلتموها أندادًا لله في العبادة. {كَلَّا}: ردع لهم عن اعتقاد شريك. {الْعَزِيزُ}: الغالب على أمره. {الْحَكِيمُ}: في تدبيره وتصريفه لخلقه.

التفسير 24 - {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: لما ذكر الله أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض بقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (¬1) أمر - سبحانه وتعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرر المشركين بقوله: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ} ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ} أي: الله يرزقكم، وذلك للإشعار بأنهم مقرون بقلوبهم إلاَّ أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال: فما بالكم لا تعبدون من يرزقكم؟ وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟ وقد كانوا يقرون بألسنتهم مرة، ويتلعثمون مرة، عنادًا وإصرارًا وحذرا أن تلزمهم الحجة، ونحوه قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (¬2). أي: قل - أيها الرسول - لهولاء المشركين إلزاما لهم: من يرزقكم من السموات والأرض، فينزل لكم الأمطار ويسوق لكم الأرزاق زرعًا نضيرا، وثمرًا وفيرًا، وغير ذلك من سائر الأرزاق ظاهرها وباطنها، وقيل لهم بعد الإلزام والإفحام: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: وإن أحد الفريقين منا معاشر الموحدين، ومنكم أيها المشركون لمتصف بأحد الأمرين: الاستقرار على الهدى، والتمكن من الحق، أو الانغماس في الضلال البيِّن الواضح. وهذا من الكلام المنصف الذي يقول كل من سمعه موافقًا أو مخالفًا - يقول - لمن خوطب به: لقد أنصفك صاحبك. ¬

_ (¬1) سورة سبأ من الآية: 22. (¬2) سورة الرعد، من الآية: 16.

وفي ذكره بعد ما تقدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين؛ لأن التعريض والتورية أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وغلبة الخصم، فكأنه قال لهم: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب، ومثله قول حسان - شاعر رسول الله - يخاطب أبا سفيان بن حرب، وكان قد هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم: أتهجوه ولست له بكفءٍ؟ ... فشركما لخيركما الفداء وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الحق والضلال للدلالة على استعلاء صاحب الهدى، وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، بخلاف صاحب الضلال فهو منغمس، حتى كأنه في مهواة موحشة لا يدرى أين يتوجه. 25 - {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: المعنى: قل لهم - أيها الرسول -: لا تُسألون عما اقترفنا من آثام، وارتكبنا من ذنوب، ولا نُسأل عما تعملون من شرور ومعاصٍ وكبائر، وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن مما يعبر به عن الكبائر، وأسند إلى المؤمنين فقيل: {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} وعن الكبائر من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات، وأسند إلى المخاطبين، فقيل: {وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. وذكر ابن كثير أن معنى الآية: التبرى منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله - تعالى - وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبنم فنحن برآء منكم وأنتم برآءُ منا، كما قال - تعالى -: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية: 41.

26 - {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}: قل لهم - أيها النبي بعد أن تبين الحق من الباطل - قل لهم: يجمع بيننا ربنا يوم، القيامة عند الحشر والحساب، ثم يقضى بيننا بالحق، ويفصل بالعدل، فيدخل المحقين الجنة، والمبطلين النار، وهو القاضي الواسع العليم، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية. 27 - {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ... } الآية: استفسار عن شبهتهم بعد إلزامهم بالحجة، زيادة في تبكيتهم، والمراد: قل لهم: أعلموني بالحجة والدليل في أي شيء كانت الشركة؟ هل شاركت الأصنام في خلق شيءٍ؟ فبينوا ما هو وإلا فَلِمَ تعبدونها؟ وقيل: (رأى) بَصَريَّةٌ، والمراد: أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله - عَزَّ وَجَلَّ - الذي ليس كمثله شيءٌ في استحقاق العبادة، والغرض إظهار خطئهم العظيم. وقال بعض الأجِلَّة: لم يُرِدْ من {أَرُونِيَ} حقيقته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى معبوداتهم ويعلمها، فهو تمثيل، والمعنى: ما زعمتموه شريكًا إذا برز للعيون - وهو خشب وحجر - تمت فضيحتكم وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أرني أباك الذي فاخرت به فلانًا الشريف، ولا تريد حقيقة الرؤية وإنما تريد تبكيته وتحقيره. {كَلَّا}: ردع لهم عن زعم الشركة ومذهبهم فيه، أي: ليس الأمر كما زعمتم فليس له نظير ولا شريك ولا نديد ولا عديل، وقد نبه على فحش غلطهم وأنهم لم يقدروا الله حق قدره بقوله: {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: بل هو الله الموصوف بالغلبة القاهرة، والحكمة الباهرة، فأين شركاؤكم - التي هي أخس الأشياء وأذلها - من صاحب هذه الرتبة العالية؟!

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)} المفردات: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً} أي: إلاَّ إرسالة عامة للناس جميعًا، من الكف، فإنها إذا عمتهم ففد كَفَّتهم أن يخرج منها أحد، قال الزجاج: أرسلناك جامعًا للناس في الإبلاغ "فهي حال من الكاف، والتاءُ للمبالغة". {الْوَعْدُ} المراد بالوعد: اليوم الموعود للجزاء. {مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} أي: لكم ميعاد يوم مؤجل محدد إذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدم. التفسير 28 - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: يقول الله - تعالى - لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: وما أرسلناك إلا جامعًا للمكلفين من الناس، مبشرًا من أطاعك بالجنة، ومنذرًا من عصاك بالنار، ولكن أكثرُ الناس لا يعلمون صدقك في دعوتك، وعموم رسالتك للناس جميعًا في شتى أنحاء الأرض، فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال. ومثل هذه الآية في عموم دعوته قوله - تعالى -: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 158.

وقوله - جل شأنه -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (¬1). ومثل ذلك ما ورد في الصحيحين مرفوعًا عن جابر قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحده قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" اهـ: ابن كثير، وفي الصحيح - أيضًا - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعثت إلى الأسود والأحمر، قال مجاهد: يعني الجن والإنس، وقال غيره: يعني العرب والعجم، والكل صحيح، وقال محمد بن كعب في قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يعني إلى الناس عامة. واعلم أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن ثابتة في مواضع أُخَرَ وبخاصة في سورة الجن، وسيأتي الحديث عن ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. 29 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: ويقول الكافرون من فرط جهلهم وعظيم غيهم استبعادًا لقيام الساعة، واستهزاءً باليوم الموعود للجزاء ثوابًا أو عقابًا - يقولون - متى هذا اليوم الموعود بالجزاء الأُخروي، إن كنتم صادقين في وعدكم به فأخبرونا، قالوا هذا مخاطبين رسول الله - صلي الله عليه وسلم - والمؤمنين به، والمراد بصيغة المضارع {يَقُولُونَ} الاستمرار التجددي، وقيل: عبر بها استحضارا للصورة الماضية لغرابتها، والأصل: (قالوا). 30 - {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُون}: أي: قل لهم - أيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكم ميعاد يوم عظيم محدد فإذا جاء لا يؤخر ساعة ولا يقدم، ولما كان سؤالهم عن الوقت إنكارًا وتعنيتا لا استرشادًا جاء الجواب على طريق التهديد مطابقًا لمجىء السؤال، وهو أنهم مرصودون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرًا عنه ولا تقدما عليه، وهو يوم القيامة الذي ستبين الآيات التالية أحوالهم فيه. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 1.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المفردات: {الَّذِينَ كَفَرُوا}: المشركون من أهل مكة. {بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: بالذي تقدمه من الكتب السماوية: كالتوراة والإنجيل الدالين على البعث. {الظَّالِمُونَ}: المنكرون للبعث، ظلموا أنفسهم بكفرهم به. {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}: محبوسون في موقف الحساب. {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}: يتحاورون ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب.

{الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}: في الدنيا من الكافرين وهم الأتباع. {اِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}: الرؤساءُ والقادة. {لَوْلَا أَنْتُمْ}: لولا إضلالكم وصدكم لنا عن الإيمان. {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}: باتباع الرسول. {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى}: استفهام بمعنى الإنكار، أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإِيمان وردوهم عنه. {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}: آثمين بإصراركم على الكفر. {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: بل صدنا مكركم بنا وخداعكم لنا في الليل والنهار، والمكر في لسان العرب: الاحتيال والخديعة. {أَنْدَادًا}: شركاء ونظراء في العبادة، جمع ندٍّ، وهو الشريك والمثيل، يقال: فلأَن ندُّ فلأَن، أي: مثله. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: أضمر الفريفان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال، وأخفاها كل عن الآخر حين عاينوا العذاب أو أظهروها، فإن {أَسَرَّ} من الأضداد. {الْأَغْلَالَ}: جمع غُل، وهو القيد يوضع في العنق، وقد نطلق الأغلال على السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم. التفسير 310 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}:

يخبر الله - تعالى - عن تمادى الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإِيمان بالنبي وبالقرآن، وبما أخبر به من أمر المعاد، وعدم الإِيمان بالذي سبقه من كتب الله التي نزلت على الأنبياء السابقين تتحدث عن عبادته وحده، وعن المعاد والثواب والعقاب، يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في كتبهم، فأغضبهم ذلك وقرنوا بالقرآن جميع ما تقدمه من كتب الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكفروا بها جميعًا. وقيل: الذي بين يديه هو يوم القيامة، أي: أنهم كفروا بالقرآن وبما جاء به من البعث والجزاء، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله، أو لكل مخاطب: ولو ترى في الآخرة مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجّهم وهم يتحاورون ويتراجعون القول بينهم باللوم والعتاب، بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين، وجواب (لو) مقدر، أي: لرأيت أمرًا هائلا فظيعًا مخيفًا، ثم ذكر ما يرجعونه من القول فقال: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}: استئناف لبيان تلك المحاورة، أي: يقول المستضعفون من الأتباع للمستكبرين من الرؤساء والقادة الذين اتبعوهم في الغي والضلال: لولا أنتم صددتمونا عن الهدى ومنعتمونا من الإِيمان، وحُلْتُم بيننا وبين الحق لكنا اتبعنا الرسول، وآمنا بما جاء به فنجونا من العقاب. 32 - {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}: استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا حين اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم؟ فقيل من جهتهم: أنحن صددناكم عن الهدى ... إلخ، أي: لسنا نحن الذين حُلْنا بينكم وبين الإِيمان وصددناكم عنه، ومنعناكم منه بعد إذ صممتم على الدخول فيه وصحت نياتكم في اختياره، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها، وآثرتم الضلال على الهدى، وأطعتم آمِرَ الهوى دون آمر الهُدى، فكنتم مجرمين مشركين مصرين على الكفر باختياركم لا لقولنا وتسويلنا، ونحن ما فعلنا بكم أكثرُ من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل

ولا برهان، وخالفتم باختياركم الأدلة والبراهين التي جاءت بها الرسل. 33 - {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: لما أنكر المستكبرون بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ ... } إلخ أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وردوا عليهم بقولهم: "بل أنتُم مجرمون" يريدون أن ذلك بكسبهم واختيارهم - لما أنكروا وقالوا ذلك - رد عليهم المستضعفون بقولهم: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهتكم؛ لأن الذي صدنا عن الهدى وصرفنا عن الحق خديعتكم ووسوستكم لنا في الليل والنهار، واحتيالكم علينا حين كنتم تطلبون منا أن نكفر بالله ونجعل له شركاء ونظراء في العبادة، وزينتم لنا الشرك وحسنتم لنا الكفر وخدعتمونا بأننا كل هدى، فإذا جميع ذلك خداع وكذب وباطل. {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أي: وأضمر الظالمون من الفريقين: - المستكبرين والمستضعفين - الندامة على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال الذي جانب المستكبرين، ومن الضلال والانقياد إلى المضلين في جانب المستضعفين حينما رأوا العذاب وشاهدوه؛ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق، واشتغلوا عن إظهار الندامة بهول العذاب، أو لأنهم علموا أن لا فائدة من إظهارها، وقال الزمخشري وغيره: أسروا الندامة بمعنى أظهروها، فإن {أَسَرَّ} من الأضداد؛ إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب، فمعنى أسرَّهُ: جعله سرا، أو: أزال سره، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}: أي: وجعلنا السلاسل التي تجمع أيدي الكفار في أعناق الكافرين، والمراد بالكفار: المتكبرون والمستضعفون جميعًا، والأصل (في أعناقهم) إلا أنه أظهر كفرهم للتنويه بذمهم، والتنبيه على موجب تلك الأغلال. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: ما يستحق هؤلاء جميعًا إلا جزاء ما كانوا يعملون من الشرور والآثام في الدنيا.

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} المفردات: {مُتْرَفُوهَا}: أصحاب النعمة والرياسة. {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} لا نؤمن به ولا نتبعه {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}: قالوا ذلك لاعتقادهم أن الله أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة، أو لإنكارهم عذاب الآخرة. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: يوسِّعه امتحانًا. {وَيَقْدِرُ} يُضيِّقه ابتلاء. {زُلْفَى} الزلفى، والزلفة: القربة، وهي كالقربى {جَزَاءُ الضِّعْفِ}: الثواب المضاعف، والضعف: الزيادة. {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ} غرفات الجنة: منازلها العالية. التفسير 34 - {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}: هذه الآية مسوقة لتسلية رسول الله عما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه وكفرهم به وتكذيبهم وعداوتهم له - عليه السلام - وليتأسى بما حدث لمن قبله من المرسلبن حيث كذبهم المترفون. والمعنى: وما أرسلنا في قرية من القرى رسولًا يدعو أهلها إلى الحق، ويأمرهم بالإيمان

ويخوفهم عاقبة المخالفة والخروج على أوامر الله إلا قال مترفوها: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: إنا بما جئتم به من التوحيد وغيره مكذبون لا نؤمن به ولا نتبعه، وإنما كان التكذيب طبيعة المترفين وديدنهم لما شغلوا به من زخرف الدنيا وبهجتها، وما غلب على قلوبهم منها، فهم منهمكون في الشهوات، ولأن الأديان جميعها جاءت تقرر حقوق الإنسان من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية وهذه كلها أمور ليست في مصلحتهم، كما أن الأنبياء جاءوا بمناهج من السماء، فيها أوامر ونواه، واتِّبَاع الأنبياء، والإيمان بدعوتهم يتطلب فعل الأوامر واجتناب النواهى، وهذا يشق على المترفين أولي النعمة والثروة والرياسة وأصحاب الرفاهية، ولهذه الحقيقة كان على رأس المكذبين لدعوات المرسلين ومناهج السماء المترفون الغارقون في الملاهى والشهوات من الرؤساء والجبابرة. أما الفقراء فإن قلوبهم - لخلوها من ذلك - أقبلُ للخبر، ولأن رسالات الأنبياء تحررهم من الأغلال وذل الإسار لكبرائهم، وتقرر لهم حقوقهم، وتحقق لهم مطالبهم - لهذا كله - كانوا أشد الناس حُبًّا لها وإقبالًا عليها وتعلقا بها وتفانيا في نشرها، ولهذا تراهم أكثر أتباع الأنبياء عليهم السلام. ولقد قرر القرآن هذه الحقيقة، وحكى عن قوم نوح قولهم له: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (¬1) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الساحل وبقى الآخر، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش، إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينُهم. قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دُلَّنى عليه، - قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب - قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى كذا وكذا. قال: أشهد أنك رسول الله. قال - صلى الله عليه وسلم -: وما علمك بذلك؟ قال: أَنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال: فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}: قال: فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد أنزل تصديق ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 111.

ما قلت. وكذلك قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل: "سألتك: أضعفاءُ الناس اتبعوه أم شرفاؤهم؟ فزعمت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل" اهـ: ابن كثير ج 3 ص 540 وقال - تبارك وتعالى - إخبارا عن المترفين المكذبين: 35 - {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}: هذه الآية تحكى ما أجاب به المترفون رسلهم حين دعوهم إلى الحق. والمعنى: وقال المترفون لرسلهم متباهين: نحن فُضِّلْنَا عليكم بالأموال والأولاد في نعمة لا تشوبها نقمة، وهو دليل كرامتنا على الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورضاه عنا، فلو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعوننا إلى تركه مخالفا لرضا الله لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، وهكذا قاسوا أمورَ الآخرة على أُمور الدنيا، وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعمٌ عليه في الآخرة، وأنهم لو لم يكونوا كرماء على الله لما وسع عليهم، ولولا أن المؤمنين هانوا عنده لما حرمهم فعلى قياسهم ذلك قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}: أرادوا أنهم أكرمُ على الله من أن يعذبهم نظرا إلى أحوالهم في الدنيا، وهيهات لهم ذلك: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬1). 36 - {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: قل - أيها النبي - لمن يزعم أن الغنى واليسار وكثرة المال والعيال دليل الكرامة والرضا - قل لهم - ردا عليهم، وحسما لمادة طمعهم الكاذب، وتحقيقًا للحق الذي يدور عليه أمر الكون: إن ربي ومالك أَمري يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسع له، ويضيق على من يشاة أن يضيق عليه، فربما يوسع - سبحانه - على العاصى، ويضيق على المطيع، وربما يعكس الأمر، وربما يوسع عليهما معا، وقد يضيق عليهما معًا، وقد يوسِّع على شخص مطيع أو عاصٍ تارةً، ويضيّق عليه أُخرى، يفعل ذلك حسبما تقتضيه مشيئته - عَزَّ وَجَلَّ - المبنية على الحكمة التامة والحجة القاطعة، فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا، لاختص به المطيع، وكذلك لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط، لاختص به العاصى، ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 55، 56.

والمراد: منع كون ذلك دليلًا على ما زعموا، لاستواء المعادى والموالى فيه. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: ذلك لأنهم لا يتأملون، فمنهم من يزعم أن مدار البسط: الشرف والكرامة. ومدارُ التضييق: الهوان والحقارة كهؤلاء المترفين المكذبين، وهم لا يدرون أن الأول كثيرًا ما يكون للاستدراج، والثاني قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات، ومنهم من تحير واعترض على الله - تعالى - في البسط على أُناس. والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم: كم عاقلٍ عاقلٍ أعْيَت مذاهبهُ ... وجاهلٍ جاهلٍ تَلْقَاهُ مرزرقًا هذا الذي ترك الأفهام حائرةً ... وصَيَّرَ العالم النِّحْريرَ زِندِيقًا ولعمري إن العالم النحرير العارف هو الذي يقول: ومن الدليل على القضاء وحكمه ... بؤسُ اللبيبِ وطيبُ عيشِ الأحمقِ 37 - {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}: المعنى: وليست هذه الأموال والأولاد دليلًا على محبتنا لكم، ولا اعتنائنا بكم، وليست أموالكم ولا أولادكم بالخصْلة أو المزَّية التي تقربكم عندنا قربة، لكن من آمن وعمل صالحًا. فإيمانه وعمله يقربانه منا، فأُولئك لهم الثواب المضاعف، فيجزون على الحسنة بعشر أمثالها أو بأكثر إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى وحرمان، ومن كل شيءٍ يحذر منه، روى مسلم عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بسنده قال: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (¬1). ¬

_ (¬1) ابن كثير.

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} المفردات: {يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا} أي: يمشون مسرعين في القرآن بالرد له والطعن فيه. {مُعَاجِزِينَ}: زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله عليهم. {فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي: عذاب في جهنم تحضرهم الزبانية فيها، لا يفلتون من العذاب. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}: يوسعه امتحانًا. {وَيَقْدِرُ لَهُ}: يضيقه له ابتلاءً. {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} في الخير. {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}: يعطى بدله. {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: وهو خير المعطين، وإطلاق الرازقية على غيره - تعالى - مجاز؛ لأنه موصل للرزق، فهو رازق صورة، وقال الآمدي: إن المعنى: خير من تسمى بهذا الاسم وأُطلق عليه حقيقة أو مجازًا. التفسير 38 - {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}: والذين يسعون في معارضة آياتنا بالرد عليها محاولين إبطالها والنيل منها والطعن فيها، وتعجيز أنبيائنا عن تبليغها وإيصالها للناس ليعملوا بها وينتفعوا بهديها، ويسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسوله، والتصديق بآياته زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله - تعالى - أو أنبيائه عليهم أولئك الذين يرتكبون ما سبق في جهنم تحضرهم الزبانية فيها، لا يُفلتون ولا يجديهم نفعًا ما عوّلوا عليه، وجميعهم مجزيون بأعمالهم.

39 - {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: - قل أَيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ربي يوسع الرزق علي من يشاء من عباده ويضيقه على من يشاء، فأنفقوا في سبيل الله وتقربوا لديه - عَزَّ وَجَلَّ - بأموالكم {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: ومهما أنفقتم من شيءٍ فيما أمركم به وأباحه فهو يخلفه عليكم، أي: فهو يعوض عليكم، لا معوض سواه، إما عاجلا بالمال فقد جاء في الحديث القُدُسي يقول الله تعالى: "أَنْفِق أُنْفِق عليك" أو يعوضه بالقناعة التي هي كنز لا ينفد، وإما آجلا بالثواب الذي كل خَلَفٍ دونه، وفي الحديث أَن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: "اللهم أعط ممسكا تلفا" ويقول الآخر: "اللهم أعط منفقًا خلفًا (¬1) " {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} قال العلامة الزمخشرى: خير الرازقين وأعلاهم رب العزة؛ لأن كل من رزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق عبده، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله أجراه الله على أيدى هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق. وقال القرطبي: ما أُنفق في معصية: فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البُنْيان فما كان منه ضروريا يَكِنُّ الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ¬

_ (¬1) رواهما مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - قرطبي.

المفردات: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي: يجمعهم للحساب عابدين ومعبودين. {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} أي: أهؤلاء خصوكم بالعبادة دوني؟ {سُبْحَانَكَ}: تنزيها لله عن الشرك. {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} أي: أنت ربنا الذي نواليه ونطيعه ونخلص في العبادة له. {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ}: لا يملك المعبودون للعابدين. {نَفْعًا}: شفاعة ونجاة. {وَلَا ضَرًّا}: عذابًا وهلاكًا. {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظلموا أنفسهم وهم المشركون. التفسير 40 - {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}: واذكر - أيها النبي - يوم يحشر الله المستكبرين والمستضعفين وما كانوا يعبدون من دون الله، وحين يعظم بالناس الحال، ويشاهدون من الأهوال ما لا يحيط به المقال، ثم يقول الله للملائكة - أمام من كانوا يعبدونهم -: أهؤلاء خصُّوكم بالعبادة دونى؟ وهذا الكلام مع كونه خطابًا للملائكة، فهو تقريع للمشركين وتبكيت لهم، وإقناط لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة الملائكة - عليه م السلام - وليس للاستفهام والاستعلام؛ لعلمه - سبحانه - بما تجيب به، وهو على نهج قوله - تعالى - لعيسى - عليه السلام -: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) وقد علم - سبحانه - كون الملائكة وعيسى منزهين بُرآء مما وجه إليهم من موضوع السؤال الوارد على سبيل التقرير والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم، وَهَوانُهُم ألزم، وتخصيص الملائكة بالذكر؛ لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم، ولأنهم الصالحون للخطاب، ولانه إذا بطلت عبادتهم، فعبادة غيرهم أولى بالبطلان، وذكر ابن الوردى في تاريخه أن سبب حدوث عبادة الأصنام ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية: 116.

في العرب أن عمرو بن لحي مرَّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم، فقالوا له: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية، فنستنصر بها ونستقى، فتبعهم، وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسَوَّلَ للعرب عبادته فعبدوه. واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإِسلام. 41 - {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}: استئناف بياني: كأنه قيل: فماذا قال الملائكة حينئذ؟ فقيل: قالوا - منزهين الله - سبحانك تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله، أن الذي نواليه من دونهم، إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فيبنوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافيةً لذلك، ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين - كما روى عن مجاهد - حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله، فهم خاضعون لتأثير الشياطين الذين زينوا لهم الشرك. وقيل: صورت الشياطين لهم صورة قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقال ابن عطبة: في الأُمم السابقة من عَبَدَ الجن، وفي القرآن ما يشير إلى ذلك، قال - تعالى -: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (¬1). 42 - {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}: أي: فاليوم لا يملك بعض المعبودين لبعض العابدين نفعًا بالشفاعة، ولا ضرًّا بالعذاب؛ لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد، فلا نافع ولا ضارَّ إلا وحدَه. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 100.

وهذا ما يقال للملائكة - عليهم السلام - من قبل الله عند جوابهم بالتبرؤ عما نسبه إليهم المشركون، يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد إظهارًا لعجزهم وقصورهم أمام زاعمي عبادتهم، وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجاء العابدين فيهم. وقيل: إن نسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم، كأَن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم. والمراد باليوم يومُ القيامة، وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق، لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم المشركون حيث ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدنيا، يقال لهم ذلك توبيخًا وتقريعًا. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}

المفردات: {آيَاتُنَا}: القرآن. {قَالُوا مَا هَذَا}: يعنون رسول الله التالي للآيات. {يَصُدَّكُمْ}: يصرفكم ويمنعكم. {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}: من الأصنام. {وَقَالُوا مَا هَذَا}: يعنون القرآن المتلُوَّ. {إِفْكٌ مُفْتَرًى}: مختَلَقٌ {لِلْحَقِّ}: أمر النبوة كله، أو دين الإِسلام. {سِحْرٌ مُبِينٌ}: ظاهر لمن تأمله أنه سحر. {كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا}: يقرأونها {مِعْشَارَ} معشار الشيء: عشره، وقيل: المعشار: عشر العشر، وقيل المعشار: عشر العُشَير، والعُشَيرُ هو عشر العشر، قال الماوردي: وهو الأظهر: لأن المراد المبالغة في التقليل اهـ: قرطبي. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: فكيف كأَن إنكاري لهم بالتدمير؟ والاستفهام للتهويل، أي: كان إنكاري هائلًا شديدًا. التفسير 43 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: هذا بيان لبعض آخر من كفرهم، أي: وإذا تتلى عليهم بلسان رسول الله - صلي الله عليه وسلم - آياتنا الناطقة بأحقية عقيدة التوحيد وبطلان الشرك، يسمعونها من فمه الشريف، قالوا: ما هذا؟ - يعنون رسول الله التالي للآيات الواضحات - إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم من الأَصنام، ويصرفكم عنه، ويمنعكم منه، فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لتحريك عروق العصبية منهم، مبالغة في تحبيب الشرك إلى نفوسهم، وتثبيتهم عليه، وتنفيرهم عن التوحيد، وقالوا: ما هذا - يعنون القرآن المتلو عليهم - إلا كذب مختلق ومفترى بإسناده إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأشاروا إلى القرآن بهذه الاشارة للنيل منه - قبحهم الله - وأنَّى لهم ذلك وهو الكتاب الكامل {لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} كما أشاروا إلى الرسول بمثلها في قولهم الذي حكاه القرآن عنهم بقوله: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} للغض من شأنه ولن يستطيعوا، فهو - صلى الله عليه وسلم - خير

المرسلين، سيد الأولين والآخرين، وقال الذين كفروا للحق، أي: لأمر النُّبُوَّة كله، أو القرآن حين جاءهم من غير تدبر ولا تأمل فيه - قالوا -: إن هذا إلا سحر مبين ظاهر لكل من تأمل فيه. 44 - {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ}: أي: وما آتيناهم كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (¬1) ولا أرسلنا إليهم قبلك من نذير ينذرهم بالعقاب على شركهم، وفي وصفهم بأنهم قوم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال كتاب، ولا بعثة رسول، فيه ما فيه من التهكم بهم، كما قال - تعالى -: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (¬2) فليس لتكذيبهم وجه ولا شبهة. 45 - {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: أي: وكذب الذين تقدموهم من الأُمم أنبياءهم كما كذبوا، وما بلغ المشركون المكذبون من قومك عُشْرَ ما آتينا هؤُلاء السابقين: من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري وعاقبة إنذاري بالتدمير والاستئصال ولم يُغْن عنهم استظهارهم بها هم به مستظهرون، فيلحذروا من مثله؛ لئلا ينالهم ما نالهم ويصيبهم ما أصابهم، فمن سنن الله أن ينصر أولياءه ويؤيد أصفياءه ويدحر مخالفيه وأعدءه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 35. (¬2) سورة الزخرف، آية: 21.

* {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} المفردات: {أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}: أُذكِّركم وأحذركم بكلمة واحدة هي: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ (¬1)} قيامهم لله: اهتمامهم بالتفكير لوجه الله فما دعاهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس المراد به ما يقابل القُعُود، من قولهم: قام فلأَن بالأمر، أي: اهتم به حتى أتمه. {مَثْنَى وَفُرَادَى} أي: اثنين اثنين وواحدًا واحدًا. {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} أي: يتفكر الاثنان كلاهما مع الآخر على سبيل التشاور والتفاهم للوصول إلى الحقيقة، ويتفكر كل واحد في نفسه بعد التشاور مع صاحبه. {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}: جملة مستأنفة للتعليل، أي: ثم تتفكروا فيما دعوتكم إليه لأنه ليس بصاحبكم جنون. {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} أي: ما محمد إلا رسول مُنذر لكم. {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: لم أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا، فالأجر لكم إن آمنتم بالله ورسوله. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي: ما أجرى إلاَّ عليه سبحانه. ¬

_ (¬1) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدره تقديره: قيامكم لله، وهو بدل من لفظ (واحدة).

التفسير 46 - {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}: بين الله في الآيات السابقة أن الذين كفروا من قريش لمَّا جاءهم الرسول برسالته كذبوه وقالوا: ما هذا إلاَّ إفْك مفترى وسحر مبين، كما أنهم كانوا يصفونه بالجنون؛ وقد بين الله خطأهم بقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي: أنه ليس عندهم علم عن طريق الوحى جاءهم على لسان رسول قبلك، لكي يعترضوا به على رسالتك ويردوها، وأنه كان ينبغي لهم أن يُقْبلوا عليك ويؤيدوك في رسالتك، بدلًا من تكذيبهم إيَّاك، وإعراضهم عن الكتاب الذي أيدك الله به وهو الحق المبين، في حين أنك فخرهم وعزهم، وأنت الرسول العربي الوحيد الذي جاءتهم، وجاءت هذه الآية أمرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمواصلة وعظهم وتذكيرهم لعلهم يهتدون، ومعلوم أن العرب - مع إشراكهم - كانوا يعتقدون أن الله هو خالقهم، وأنهم ما يعبدون آلهتهم إلاَّ لتقربهم إلى الله زُلْفى، ولهذا طلب إليهم في هذه الآية أن يخلصوا في تفكيرهم وبحثهم عن الحق من أجل الله الذي يقرون بأُلوهيته وربوبيته لأربابهم. والمعنى: قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: ما أنصحكم إلاَّ بخصلة واحدة، هي أن تتركوا التجمع في الرأي القائم على التعصب لعقائد أصولكم، وأن تنهضوا متفرقين: اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، فالاثنان يشاور كلاهما الآخر ويتفاهم معه؛ فإنه أعون على الوصول إلى الحق من الفكر الواحد، فإذا انقدح الرأي بين الاثنين، عاد كلاهما إلى نفسه، للموازنة والبت فيما جاءكم به محمد؛ فإنه ليس بصاحبكم هذا جنون، فقد عرفتموه بالعقل الراجح والفكر الرشيد، فلا يعقل أن يتصدى لأمر خطير تعتريه صعاب لا نهاية لها إلَّا وهو على نور من ربه، وقد أيده الله بالقرآن وسواه من المعجزات، ما محمد إلا محذر لكم قُبَيلَ عذاب شديد - هو عذاب الآخرة - فقد بعث قريبا من الساعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ أنا والساعة، كهاتينِ" مشيرًا إلى قربها بضم أصبع السبابة إلى الوسطى، إيذانًا

بالفرق الصغير بينهما، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، وقربه - صلى الله عليه وسلم - من الساعة نسبيٌّ، فالأرض مخلوقة منذ ملايين من السنين لا يعلمها إلَّا علام الغيوب. 47 - {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}: لم يحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم على تبليغ الرسالة أجرًا، قال - تعالى - أي سورة يوسف: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} الآية (104). وهذه الآية من هذا القبيل، تنفي أوَّلًا نفيًا صريحًا أنه سألهم أجرًا، وتبين أن بالأجر لهم إن آمنوا، وتبين أن أجره أي تبليغ الدعوة من الله وليس منهم. ومعنى الآية على هذا الوجه: قل - أيها الرسول - للمشركين من قومك: لم أسألكم علي إيمانكم برسالتي أجرًا فالأجر لكم (¬1) من الله حين تؤمنون، وما أجرى في تبليغ الحكم إليكم إلاَّ على الله وحده وهو على كل شيءٍ رقيب وحاضر، فلا يخفى عليه عملي وعملكم، وسيجزى كل امرئ حسب عمله ونيته. ويقول الزمخشري أي تفسيرها: {فَهُوَ لَكُمْ} جزاءُ الشرط الذي هو قوله: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} وتقديره: أي شيءٍ سألتكم من أجر فهو لكم، كقوله - تعالى -: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ... الآية}، وفيه معنيان: (أحدهما): نفى سؤاله الأجر رأسًا، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتنى شيئًا فخذه - وهو يعلم أنه لم يعطه شيئًا - ولكنه يريد به عدم الأخذ لتعليقه الأخذ علي ما لم يحدث وهو الإعطاء. (والمعنى الثاني): أنه يريد بالأجر ما أراد في قوله - تعالى -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}، وفي قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ¬

_ (¬1) ففي الآية من وجوه البلاغة (الاستخدام) وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر، فلفظ (الأجر) نفي أولًا أنه طلبه منهم، ثم أعاد الضمير عليه بمعنى أخر في قوله: (فهو لكم) وهو الأجر من الله، أي: فأجر الإيمان من الله لكم، ثم بين صراحة أن أجره علي الله بقوله: {إن أجرى إلا على الله).

إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} لأن اتخاذ السبيل إلى الله نفعه يعود إليهم، وكذلك المودة في القربى، فقرابته قرابتهم، وكلاهما أمر معنوي لا مال فيه. انتهى بتصرف يسير. {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} المفردات: {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ}: يلقيه وينزله ليرمي به الباطل. {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي: لم تعد للباطل كلمة يبدأ بها أو يعيدها. {فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي}: فإنما يعود ضرر الضلال عليها. التفسير 48 - {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}: قل - أيها الرسول -: إن ربي ينزل الوحي على من يشاءُ من عباده، ويرمي به الباطل فيدمغه، أو يرى به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعدًا بإظهار الإِسلام ونشره فهو علام الغيوب. 49 - {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}: قل: جاء الدين الحق من عند الله، وزهق الباطل واضمحل، فلم تبقَ للشرك مقالة يرددها بدءًا أو إعادة، بعد أن علت كلمة التوحيد بنزول القرآن وسطوع البرهان، وحينما فتح رسول الله مكة أي السنة الثامنة من الهجرة، دخل المسجد الحرام فوجد أصنام المشركين

حول الكعبة فجعل يطعنها بطرف قوسه وهو يقرأ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} و {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود. 50 - {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}: سبب نزول هذه الآية - كما ذكره القرطبي - أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تركت دين آبائك فضللت، فنزلت الآية. وقد أفادت أن ضلال الإنسان يعود ضرره عليه؛ لأنه باختياره، حيث لم ينتفع بهدي ربه، وأن اهتداءه تعود منفعته عليه؛ لأنه انتفع بهدى ربه، وهذا الحكم عام لكل مكلف وإنما أمر الله رسوله أن يسنده إلى نفسه، إما رعاية لسبب النزول؛ لتكون ردًّا على ما قاله له المشركون، وإمَّا لأن الرسول مع جلالة قدره عند الله، إذا كان الحكم بقسميه يتناوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يتناول غيره بالطريق الأَولوي، والتقابل بين شقي الآية يرجع إلى المعنى، فكأنه قيل: قل: إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فإنما هدايتي لنفسي. واختير الأُسلوب الوارد في الآية لما فيه من إسناد فضل اهتدائه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما أوحاه الله إليه. ومعنى الآية: قل - أيها الرسول -: إن ضللت عن الحق، فإنما يعود وبال ضلالي على نفسي، فإن النفس أمارة بالسوء، وإن اهتديت إلى الحق فبسبب ما أوحاه إليَّ ربي وتوفيقه إياي للانتفاع به، إنه - تعالى - عظيم السمع لكل مسموع، قريب بعلمه من كل معلوم، فلا يخفى عليه ضلال الضالين، ولا اهتداءُ المهتدين، وسوف يجازى كل امريء بما كسبت يداه.

{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} المفردات: {إِذْ فَزِعُوا}: حين خافوا عند الموت أو البعث. {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}: من ظهر الأرض القريب من بطنها، أو من بطنها القريب إلى المحشر. {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} التناوش: التناول السهل، - أي -: وكيف يتناولون الإِيمان تناولًا سهلا من مكان بعيد. {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}: وقد كفروا بمحمد ورسالته قبل حضور الموت. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: ويتكلمون في محمد بما لم يظهر لهم من المطاعن. {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}: ومنعوا من الانتفاع بإيمانهم بعد فوات الأوان. {بِأَشْيَاعِهِمْ}: بأشباههم، جمع شِيع، وشِيعٌ جمع شِيعة. {فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}: في شك موقع في الريبة، قال ابن عطية: الشكُّ المريب أقوى من مطلق الشك، وكأنه يريد أن يقول: إن لفظ (مريب) وصف للفظ شك لتقويته، فإن الريب بمعنى الشك والتهمة، ومثله قولهم: عجب عجيب، وشعر شاعر.

التفسير 51 - {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ}: كلام مستأنف يراد به حكايه أحوال الكفار حين يعرفون الحق معاينة وحضورًا؛ وذلك عند حضور الموت، أو حين بعثهم من قبورهم لحسابهم بين يدي رب العالمين. والخطاب في قوله - تعالى -: {وَلَوْ تَرَى} إمَّا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإمَّا لكل من يصلح للخطاب. والمعنى: ولو ترى الكفار عند الموت أو البعث من قبورهم، حين فزعوا وخافوا عاقبة كفرهم بعد أن أدركوا حقيقة أمرهم، فلا فوت لأحدهم ممَّا نزل به، وأخذوا من مكان قريب حيث أخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من بطنها إلى المحشر، لو تراهم حين ذاك لرأيت أمرًا هائلًا. والمقصود من وصف مكان أخذهم بالقرب سرعة نزول العذاب بهم، والاستهانة بهم، وبهلاكهم، وإلَّا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عز وجل. 52 - {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: وقالوا: آمنا بالله وحده، أو بمحمد وما جاءنا به من الحق، وكيف يتأتى لهم تناول الإِيمان تناولًا سهلًا من مكان بعيد عن مكان التكليف فلا ينفع إيمانهم عند الموت؛ لأنه في حدود الآخرة، ولا عند البعث لفوات زمان التكليف ومكانه. 53 - {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: هذه الآية جملة حالية من ضمير قالوا في الآية التي قبلها، أي: وقال الكفار: آمنا بالله أو بمحمد من مكان بعيد بعد فوات الأوان، وحالهم أنهم قد كفروا به من قبل - أي: زمن التكليف - وهم أحياءٌ في الدنيا، ويرجمون بالظن ويتكلمون بما لم يظهر في الرسول من المطاعن من موضع بعيد عنه - صلى الله عليه وسلم - إن هذا الإيمان لا ينفعهم بعد فوات الأوان وتبدل المكان.

وفسرها الزمخشري بقوله: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وهو قولهم أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شاعر ساحر كذاب، وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي؛ لأنهم لم يشاهدوا فيه سحرًا ولا شعرًا ولا كذبًا، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة عن حاله؛ لأن أبعد شيءٍ مما جاء به الشعر والسحر، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجُرِّبت - أبعد شيءٍ من عادته - الكذب والجنون. 54 - {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ}: ومنع الكفار من تحقيق ما يحبون من قبول إيمانهم في الآخرة، والنجاة من العذاب، كما فعل بأشياعهم من قبل من كفار الأمم السابقين، حيث لم يقبل لهم إيمان بعد خروجهم من الدنيا، إن هؤلاء وأولئك كانوا من تكليفهم في دنياهم في شك قوى من صدق رسلهم فيما بلغوهم عن الله - تعالى -: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة غافر: 85.

سورة فاطر

سورة فاطر (فَأدْلَى دَلْوَهُ): أي أَرسلها إِلى الجُبِّ ليملأها، وأما دلاها فمعناهُ جذبها ليخرجها. ذكره القاموس، وحكاه القرطبي عن الأصمعي وغيره. (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً): وأخفوه متاعًا للتجارة، وسمى مال التجارة بضاعة، لأنه بضعة من المال العام - أي قطعة منه. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ): أي باعوه بثمن مبخوس - أي منقوص من بخسه إِذا نقصه. (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ): أي دراهم قليلة، ومن هذا المعنى قوله تعالى في شأن قلة أَيام الصيام (أيَّامًا مَعدُودَات). (وَكَانُوا فِيهِ مِن الزَّاهِدِين): أَي من الذين لا يرغبون فيما بأَيديهم. التفسير 19 - {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ}: أي وبعد إلقاء يوسف في البئر وعودة إخوته إلى أَبيهم جاءَت جماعة من المسافرين إلى مصر، ونزلوا قريبًا من هذه البئر التى أُلقي فيها يوسف. فأَرسلوا الذي يرد الماء لهم عادة، ليستقي لهم من هذه البئر. فأرسل دلوه وأَنزلها فى البئر ليملأها ماءً، وأمسك بحبلها ليجذبها به، فتعلق يوسف بالحبل، فثقلت الدلو على الوارد، فأعانه على جذبها مساعدوه من الرفقة الذين جاءُوا معه ليستقوا لقومهم. {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ}: قال هذا الوارد الذي يستقي للجماعة السيارة مستبشرا فرحا، يا بشرى هذا غلام كأنه نادى البشرى، وقال لها أقبلي فهذا أَوانك، حيث فاز بنعمة خرجت له فجأَة من حيث لا يحتسب. وظاهر الآية أنه قال: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} قبل أن يخرج يوسف من البئر وبعد إدلاءِ الدلو، ولعلها لما ثقلت عليه حين انتزاعه إياها، خاطبه يوسف مستنجدا به لينقذه بإِخراجه من غيابة الجب، ويشبه أَن يكون هذا هو المتبادر، وإن كان يجوز أن يكون هذا القول بعد إخراجه إِياه واطلاعه على حسنه والله تعالى أَعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} المفردات: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مبدعها على غير مثال سبق، من الفطر وهو الابتداء والاختراع. {أُولِي أَجْنِحَةٍ}: أصحابا أجنحة، وهو جمع جناح وهو اليد، وسيأتي في التفسير بيان ذلك. {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، حسب مراتبهم. {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي: يزيد بحكمته في بعض مخلوقاته ما يشاء من الزيادات علي بعض آخر، وإن اتفقوا في الجنس والنوع. {فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}: فلا أحد يستطيع إمساكها ومنعها. {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}: وما يمنعه الله ويحبسه فلا أحد يستطيع إطلاقه من بعد إمساك الله له. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَي: الغالب.

التفسير 1 - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الفطر في اللغة أصلًا: بمعنى الشق، كأنه - تعالى - شق العدم فأخرج منه السموات والأرض ثم شاع إطلاقه على الابتداء والاختراع. أخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإِيمان وغيرهما عن ابن عباس قال: (كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها - يعني ابتدأتها -) والمقصود من فطر السموات والأرض أنه - تعالى - أبدعهما من غير مثال سبق. والملائكة: أجسام نورانية، خلقهم الله لطاعته: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} والأجنحة في اللغة بمعنى: الأيدي، وهي لكل كائن بحسبه، فاليد في الإنسان معروفة الشكل، وفي الطيور لها ريش مصفوف عليها يعينها على الطيران، وأمّا في الملائكة فإنها تتناسب مع نورانيتهم، والله - تعالى - هو الذي يعلم وصفها وشكلها والمقصود من قوله - تعالى -: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أن الملائكة لا يتساوون في عدد الأجنحة، فطائفة بجناحين لكل منهم، وأخرى بثلاثة أجنحة، وثالثة بأربعة أجنحة، ولعل ما في الآية من باب ضرب المثل، وأن من الملائكة مَنْ له أكثرُ من أربعة أجنحة (¬1)، وهل المقصود من {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أن نصف هذه الأجنحة في الجانب الأيمن من الملائكة، والنصف الثاني في الجانب الأيسر منهم حسب درجاتهم، أم أن العدد مكرر في الجانبين؛ لأن الأجنحة الثلاثة لا تنقسم. كل ذلك من باب الغيب الذي يترك علمه إلى الله وحده. والمقصود من (الخلق) في قوله - تعالى -: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} إما الملائكة، على معنى أنه - تعالى - يزيد أي عددهم أو في عدد أجنحتهم ما يشاء، وإما جميع الخلق، أي: أنه - تعالى - صاحب الإرادة والمشيئة في جميع خلقه، فيزيد فيهم صنفا وعددًا وجمالًا وحسنًا، وعقلًا وعلمًا وغير ذلك مما يناسب كل صنف حسب حكمته جل وعلا. ¬

_ (¬1) فقد جاء في السنة ما يشير إلى ذلك.

ومعنى الآية: كل الثناء بالجميل على الله مبدع السموات والأرض بما فيهما أو فوقهما، جاعل الملائكة رسلًا وسفراء بين الله وبين أنبيائه، ليبلغوهم ما أوحاه إليهم، ورسلًا بينه وبين الصالحين من عباده، لإلهامهم ما فيه الخير لهم ولغيرهم، وبينه وبين خلقه ليوصلوا إليهم آثار نعمته أو نقمته، وقد جعلهم ذوى أجنحة مختلفة، اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، يزيد في خلق الملائكة ما يشاءُ عددًا وأجنحة وشكلًا وصورة، أو يزيد في جميع خلقه ما يشاء نوعًا وعددًا وقوة وعقلًا وعلمًا وحسنًا وغير ذلك من الكمالات أو ما يقابلها، مما يناسب كل صنف حسب حكمته - جل وعلا - لا يمنعه مانع من تنفيذ مشيئته إن الله على كل شيء قدير. 2 - {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: المراد بفتح الرحمة: إطلاقها؛ ولذا قوبل بالإمساك، وفي اختيار لفظ الفتح إشارة إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالًا، وتنكيرها لتعميمها في كل فروعها. ومعنى الآية: ما يطلق الله للناس أي نوع من أنواع رحمته، كالعقل والعلم والحكمة والرزق والأمن والصحة وهدوء السر، فلا أحد يقدر على إمساكه ومنعه عمن كتبه الله له، وأى شيءٍ يمسكه الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساك الله له، وهو القوي الغالب فلا يمتنع له مراد، الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه. أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمد، ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وأخرج الإمام أحمد بسنده عن ورَّادٍ مولى المغيرة بن شُعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة ابن شعبة: اكتب إليَّ مما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني المغيرة فكتبت إليه أني سمعت

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من الصلاة "لاَ الله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وسمعته "ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وعن وأد البنات وعقوق الأمهات، ومنع وهات" (¬1). وبعد أن بين الله - سبحانه - أنه الموجد للملك والملكوت، والمتصرف فيهما على الإطلاق، أمر الناس بشكر نعمته فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوحِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} المفردات: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: تذكروها وأدوا حقها. ¬

_ (¬1) متفق عليه من رواية المغيرة بن شعبة أخرجه البخاري في "كتاب الأدب" باب: عقوق الوالدين 8 ص 4 ط / الشعب. ومسلم في "كتاب الأقضية" باب: النهي عن كثرة السؤال ... إلخ ج 3 ص 341 رقم 12 ط/الحلبي مع تقديم وتأخير.

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: فكيف تصرفون عن عبادة الله - تعالى - وحده. {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}: ولا يخدعنكم بالله الشيطان الخداع. التفسير 3 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: يرى الإِمام ابن عباس أن المراد من الناس في الآية أهل مكة؛ لأن السورة مكية، وقد مرَّ في الآية السابقة الحديث عن كفارها، وسيأتي تكذيبهم للرسول في الآية التالية. ويرى غيره أن المراد عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، فكلهم مأمورون بتذكر نعمة الله وشكره عليها، وأهل مكة داخلون فيهم. ونعمة الله بالنسبة لأهل مكة أنه - تعالى - أسكنهم حرمًا آمنًا، والناس يتخطفون من حولهم، وأنه يسوق الأرزاق إليهم وهم يسكنون في واد غير ذي زرع، وهم - بعد ذلك - يشتركون مع سائر الناس في نعم الله عليهم. والمعنى: يأيها الناس تذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم في خلقكم في أحسن الصور، ومنحكم نعمة العقل والكلام والقوة والإرادة، ومكنكم بذلك من استنباط منافع الأرض ظاهرها وباطنها، ومن الدفاع عن أنفسكم، والسعي على أرزاقكم، وأنزل الماء من السماء لترووا به أرضكم، فتخرج الزرع النضير والثمر الوفير، ومنه تشربون وتسقون ماشيتكم هل من خالق سوى الله يرزقكم من السماء والأرض ما به قوام حياتكم، وسبب وجودكم، وبقائكم، لا إله إلَّا هو الخلاق الرزاق، فكيف تُصْرفون عن توحيده والإيمان بما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}: وإن يكذبك مشركو مكة - أيها الرسول - فلا تحزن، فقد كُذِّبت رسل كثيرة قبلك من أُممهم - والبلوى إذا عمت هانت - وإلى الله وحده ترجع أمور الخلائق جميعا يوم الدين

فيحاسب كل امرىء على عمله ويجزيه عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. 5 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}: المراد بوعد الله: البعث والجزاء، وقد أُشير إليهما في الآية السابقة بقوله - تعالى -: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. والمعنى: يأيها الناس إن وعد الله عباده بالبعث بعد الموت وحسابهم وجزائهم على أعمالهم وعدٌ حق لا يتخلف، فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بزخارفها، فتركنوا إليها وتعملوا لها وتتركوا العمل للآخرة، فإن الدنيا فانية وأنتم تاركوها وراجعون إلينا بعد حين، ولا يخدعنكم بالله الشيطان الخداع الغشاش، فيقول لكم: تمتعوا بدنياكم من حلال ومن حرام كما تحبون فإن الله غفور رحيم - لا يخدعنكم بقوله هذا - فكما أنه غفور رحيم فهو عزيز ذو انتقام، فكيف لا يغضب ممن غفل عن مرضاته، وأصر على عصيانه، وهو مغمور بنعمه، ويعلم أن بطشه شديد، فهل من العقل أن يتعاطى المرءُ السم القاتل، ويعتقد أنه لا يموت به، ولقد أكد الله تحذيره من الشيطان فقال: 6 - {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوحِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}: إن الشيطان لكم عدو - أيها الناس - منذ بداية خلقكم، فقد أخرج أباكم آدم من الجنة، وتوعد بإضلال ذريته، فاتخذوه لكم عدوا واحذروا إغراءه وإضلاله في عقائدكم وشرائعكم، فما يدعو المتحزبين معه والمشايعين له إلا إلى ملاذ الدنيا وشهواتها الآثمة، ليورطهم فيها، ويجعلهم من أصحاب جهنم وبئس المصير.

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} المفردات: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}: حسنت له نفسه وشيطانه عمله السىء. {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}: فلا تهلك نفسك تحسُّرًا عليهم. {فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي: تظهره وتنشره. {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: أرسلناه إلى أرض بلد لا زرع فيه. {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي: مثل إحياء الأرض بالنبات نشور الموتى وبعثهم من قبورهم. التفسير 7 - {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: حذر الله عباده في الآية السابقة من خداع الشيطان حتى لا يكونوا باتباعه من أصحاب السعير، وعقَّبها بهذه الآية؛ لبيان مصير من يتبعه ومن يعرض عنه.

ومعنى الآية: الذين كفروا بسيرهم وراء الشيطان وقبولهم تغريره وخداعه لهم عذاب شديد لا يُقَادَر قَدرُهُ، والذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات التي عرفوها من الكتاب والسنة لهم مغفرة لما عسى أن يحدث منهم من الذنوب {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1) ولهم مع ذلك أجر كبير، لإيثارهم طاعة الله على طاعة الشيطان. 8 - {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}: لما بين الله في الآية السابقة مصير الكافرين الذين غرهم بالله الغرور، ومصير المؤمنين الذين أعرضوا عنه وأخلصوا لربهم، جاءت هذه الآية لتأكيد تفاوت الفريقين في الجزاء تبعًا لتفاوتهم في العمل، ولكي تخفف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثر ابتعاد قومه عن دعوة الحق. والمعنى: أهما متساويان في العمل حتى يتساويا في الجزاء؟ فمن زين له الشيطان عمله السىء فاعتقده حسنًا وانهمك أي الكفر والمعاصي، كمن استقبحه واجتنبه واختار الإِيمان والعمل الصالح؟ كلا لا يستويان، ليست مسئولا يا محمد عن ضلال هؤلاء الضالين، فإن الله يترك من يشاءُ في ضلاله الذي أراده لنفسه ويعاقبه عليه، ويُعين من يشاءُ على الهدى الذي اختاره لنفسه ويثيب عليه، لإعراضه عن الإصغاء إلى تزيين الشيطان، فلا تهلك نفسك تلهفًا على إيمانهم وحزنًا على كفرهم، إن الله عليم بما يصنعون فيجازيهم على كفرهم. 9 - {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}: هذه الآية تشير إلى برهان كوني على استحقاق الله - تعالى - للعبادة وحده، كما تشير إلى خطأ الكفار بعبادتهم أوثانهم الله لا شأن لها في أرزاقهم، وكفرهم بالبعث والنشور مع قيام الدليل عليه بإحياء البلد الميت. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 114.

رأي الكلاميين في كيفية البعث

ومعنى الآية: والله وحده هو الذي أرسل الرياح لتحمل بُخار الماء إلى حيث يتكون سحابًا فتثيره وتفرقه، ويسوقه الله إلى بلد أرضه يابسة لا نبات فيها، فتحيى به الأرض بعد يبسها، كذلك بعث الناس من قبورهم يوم القيامة في السهولة واليسر. قال أبو حيان: وقع التشبيه (¬1) بجهات، كما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاءُ تقبل الحياة، أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب، كذلك يجمع الله - تعالى - أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى، أو كما يسوق - سبحانه - السحاب إلى البلد الميت، يسوق - عَزَّ وَجَلَّ - الروح والحياة إلى البدن: أهـ. وجاء بالمعنى الأخير حديث أبي رُزَين قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك أي خلقه؟ قال: يا أبا رُزَين؛ أما مررت بوادي قومك مَحْلًا (¬2)، ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته في خلقه (¬3). رأي الكلاميين في كيفية البعث اختلف علماء الكلام (علماءُ علم التوحيد) في طريقة إعادة الجسم، فقال بعضهم: إنها تكون بإعادة أجزاء المبعوث المتفرقة وضمها بعضها إلى بعض، وقال آخرون: إن الإعادة عن عدم، وقد اعترض على هذا الرأى، بأنها إذا كانت عن عدم، فهذا يؤدى إلى أن يكون البعث إيجادًا لشخص جديد لم يكلف في الدنيا، فكيف يثاب ثواب الأول أو يعاقب عقابه، وقد أجاب أصحاب هذا الرأى بأن الثواب والعقاب للروح، والجسد بدونها لا يحس بعقاب ولا بثواب. ¬

_ (¬1) أي: تشبيه النشور. (¬2) أي: جدبا لا نبات فيه. (¬3) ابن كثير، والقرطبي.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المفردات: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}: يريد الشرف والمنعة. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}: إلى الله يصعد الكلام الطيب من التوحيد، والذكر والدعوة إلى الحق، وقراءة الكتاب، والسنة، والمراد من صعوده قبوله. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي: أن العمل الصالح يرفع قدر الكلم الطيب عند الله تعالى. {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}: ومكر أهل السيئات يهلك ولا ينفذ.

{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أي: زَوّج بعضكم ببعض. {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ}: وما يطول عمر أحد حتى يصير معمرًا. {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}: ولا ينقص من عمر أحدٍ غيره، بأن يعطى عمرًا ناقصًا عنه. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}: هذا عذب شديد العذوبة. {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}: وهذا مالح شديد الملوحة يحرق بملوحته. {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}: كاللؤلؤ والمرجان. {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}: الفلك تطلق علي السفينة الواحدة، وعلى أكثرُ منها، والمراد هنا السفن، ومعنى مواخر: جاريات تشق الماء بجريها. التفسير 10 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}: كان الكفار يتعزِّزون بالأصنام، كما قال - تعالى -: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} (¬1) والمنافقون يتعززون بالمشركين، كما قال - سبحانه -: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬2) فأنزل الله - تعالى - هذه الآية تخطئة لهؤلاء وأولئك، وبيانًا لأن العزة من الله لمن أطاعه، فهو الذي تطلب منه العزة بطاعته. والصعود هو التحرك إلى أعلى، وهو لا يكون في الكلام على الحقيقة، فهو مجاز عن قبوله، والمقصود من قوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ... } قريش، حيث اجتمعوا في دار الندوة ليمكروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يشير إليه قوله - تعالى - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة مريم: 81. (¬2) سورة النساء: 139. (¬3) سورة الأنفال، آية: 30.

ومعنى الآية: من كان يريد الشرف الرفيع والمنعة، فليطلبها من الله بطاعته، فلله العزة جميعًا يهبها لمن يشاءُ، إليه يرتفع الكلام الطيب من التوحيد وقراءة القرآن، والأحاديث النبوية والذكر والشكر والدعوة إلى الحق ونحوها، والعمل الصالح يرفع قدر هذا الكلام الطيب عند الله - تعالى - بحيث يكون له من الأجر أعظم مما لو تجرد عن العمل الصالح، ويصح أن يعود الضمير المستتر إلى الله - تعالى - ويعود الضمير الظاهر إلى العمل، والتقدير: والعمل الصالح يرفع الله إياه ويتقبله كما صعد إليه الكلام الطيب وتقبله. والذين يمكرون المنكرات السيئات من قريش ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة، ومكر أولئك هو يفسد ولا يتحقق {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والآية وإن تنزلت في مكر قريش برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحكمها شامل لهم ولغيرهم، كما قال - تعالى -: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (¬1). 11 - {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}: تضمنت هذه الآية أن الله - تعالى - خلق جميع البشر من تراب، وذلك إمَّا باعتبار أبيهم آدم، فقد خلقه الله من تراب، وإمّا لأنهم خلقوا من النطفة التي ترجع إلى الأغذية، والاغذية نشأَت من تراب، فهم مخلوقون جميعًا من تراب لهذا أو لذاك. والمقصود من النطفة ماءُ الرجل الذي فيه الحيوانات المنوية وماءُ المرأة الذي فيه البويضة، وقد مرَّ بيان ذلك مستوفى في تفسير قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} (¬2) فارجع إليها إن شئت. وهذه الآية تشير إلى دليل آخر من أدلة البعث غير ما تقدم والمقصود من قوله - تعالى -: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ}: وما يمد في عمر أحد حتى يصير معمرًا، فسماه معمرًا باعتبار ¬

_ (¬1) سورة فاطر: 43. (¬2) الآية: 5 من سورة الحج.

ما يؤول إليه، والمقصود من قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ولا ينقص من عمر أحد آخر غير المعمر، كما تقول: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر غير الدرهم الأول، وهذا هو المعروف في علوم البلاغة (بالاستخدام) وهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير عليه بمعنى آخر. ومعنى الآية: والله خلقكم يا بني آدم من تراب ضمن خلق أبيكم آدم منه؛ أو لأنكم خلقتم من الأغذية التي منشؤُها التراب، ثم خلقكم من نُطَف أبويكم ذكرانا وإناثا ثم جعلكم أزواجًا - يتزوج الذكر منكم الأنثى - ليبقى النوع الإنساني إلى انقضاء الدنيا، وما تحمل من أنثى بعد مباشرة الزوج لها إلاَّ بعلم الله وتدبيره، وما يعطى أحد عمرا طويلًا يصير به معمرًا وما ينقص من عمر غيره، بأن يعطى عمرًا ناقصًا عن هذا المعمر إلَّا ثابتا في كتاب (¬1) إن ذلك على الله سهل يسير، فكذلك البعث والنشور. ولابن عباس في تفسير الآية رأى غير ما تقدم يرويه عنه سعيد بن جُبير، وهو أن المعنى: "وما يعمر من معمر إلاَّ كتب عمره كم هو سنة، كم هو شهرًا، كم هو يومًا، كم هو ساعة، ثم يكتب تحته، أو في كتاب آخر، نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقصت سنة، حتى يستوفى أجله، فما مضى من عمره فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره" وقد شارك ابن عباس في رأيه هذا ابن جُبير وأبو مالك وحسان بن عطية والسُّدِّي، كما ذكره الآلوسي، وابن كثير .. ولكن جعل الآية شاملة لطويل العمر وقصيره أولى من قصرها على المعمر فقط، فإن كليهما مكتوب عند الله - تعالى -. 12 - {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: ¬

_ (¬1) والمراد به: علم الله، أو اللوح المحفوظ، أو صحف الملائكة.

ينبهنا الله بهذه الآية إلى أنه - تعالى - مع قدرته على خلق الأشياء المتباينة طبعًا فهو قادر علي أن يجعلها مشتركة في بعض المنافع، وأن يجعل بعضها منفردًا ببعض آخر منها، والبحر في اللغة: الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا، فكل ماء مستبحر في المحيطات والبحار والبحيرات والخلجان والأنهار صغيرها وكبيرها يسمى بحرًا، والاشتراك بين الملح والعذب في هذه التسمية واضح من النص الكريم، وقد بين الله في هذه الآية أن البحرين العذب والملح نأكل منهما لحمًا طريا هو السمك بمختلف أنواعه وأحجامه، والتعبير عنه باللحم الطري للإشارة إلى لطافته وسهولة مضغه لضعف أليافه، وأنه يكاد يكون لحمًا خالصًا لقلة العظم فيه بالنسبة إلى سائر الحيوان، كما أشار بالأكل منهما إلى المسارعة في أكله قبل أن يفسد. كما ذكر أننا نستخرج من كليهما حلية نلبسها، كاللؤلؤ والمرجان، ولكن المعروف أن ذلك لا يستخرج إلا من الملح دون العذب. وقد أجاب النحاس عن ذلك: بأن الله جمع البحرين في اللحم الطري وأفرد أحدهما في الحلية وهو الملح، كما في قوله - تعالى -: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} والسكون في الليل، والابتغاء من فضله في النهار، وقال غير: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما، لأن في البحر الملح عيونًا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج، وقيل: من مطر السماء (¬1). على أن الحلية ليس بلازم أن تكون من اللؤلؤ والمرجان، فأي مانع من اتخاذ حلية من عظام السمك الضخم في المياه العذبة الفسيحة الأطراف، كالبحيرات الاستوائية، ولهذا قال بعض قدامى العلماء: لا يبعد أن تكون الحلية من الماء العذب عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر، فتحمل ويتحلى بها. وجاء في التفسر المنتخب للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية أن العلم أثبت وجود الحلية في الماء العذب، كما أثبته الواقع، ففي المياه العذبة بإنجلترا واسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان وغيرها توجد أنواع من أصداف اللؤلؤ من الماس والياقوت، إلى غير ذلك، فارجع إلى تعليقه في الهامش على هذه الآية؛ فإنه نفيس. ¬

_ (¬1) انظر القرطبي.

ومعنى الآية: وما يستوي البحران في صفاتهما وفي منافعهما، هذا عذب شديد العذوبة سهل التناول لخلوه مما تعافه النفس، وهذا ملح شديد الملوحة لذاع لا يستساغ تناوله، ومع تباينهما في الصفة، فإنكم تأكلون من كل منهما سمكا طرى الألياف، وتستخرجون حلية تتحلون بلبسها، وترى الفلك على اختلاف أحجامها تشق ماءه وهي تجرى بكم فيه؛ لتطلبوا من فضل الله ورزقه متنقلين فيها من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، ولتشكروه - تعالى - بأن تعرفوه وتعرفوا حقوقه فتؤدوها كما أمركم بها. {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} المفردات: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}: يدخله فيه فينقص الليل ويزيد النهار. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: ذللهما وأجراهما خاضعين لمشيئته. {لِأَجَلٍ مُسَمًّى}: لوقت معين، وسيأتي شرحه. {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}: القطمير: لفافة النواة. التفسير 13 - {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}:

يدخل الله - تعالى - الليل في النهار فيزيد النهار وينقص الليل، وذلك في فصلي الربيع والصيف، ويدخل النهار في الليل، فيزيد الليل وينقص النهار، وذلك في فصلي الخريف والشتاء، وأجرى الشمس والقمر خاضعين لمشيئته، كل منهما يجري في فلكه، ويرسل نوره لأجل سماه الله، وهو يوم القيامة، أو هو مدة الدورة في كليهما، فدورة القمر تستغرق شهرًا قمريًا، ودورة الشمس تستغرق سنة شمسية، ثم يعود كلاهما لابتداء دورة جديدة، ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذا النظام هو الله ربكم له وحده الملك كله، لا شريك له فيه، والذين تدعونهم آلهة غيره من الأصنام ما يملكون قشرة نواة. 14 - {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}: إن تدعوهم يا عابديهم لتفريج كرب أو قضاء حاجة لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات، ولو سمعوا علي سبيل الفرض والتقدير ما حققوا دعاءكم لعدم قدرتهم على النفع والضر، ويوم القيامة يتبرأون من إشراككم بألسنة مقالهم يخلقها الله لهم، أو بألسنة حالهم قائلين: ما نحن آلهة وما أمرناكم بعبادتنا، وما كنتم إيانا تعبدون وإنما كنتم تعبدون هواكم. ويحتمل أن تكون الآية عامة لمن عبد الأصنام والملائكة والبشر كعيسى - عليه السلام - وعدم سماع الملائكة وعيسى لهم؛ لأنهم في شغل عنهم بها هم فيه، أو لأن التي صان أسماعهم عن ذلك الدعاء لقبحه، ولو سمعوا ما استجابوا لهم. * {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} المفردات: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} أي: المحتاجون إليه. {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: المستغنى عما سواه بالذات، المحمود بكل لسان.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}: بأن يفنيكم، ويستبدل بكم غيركم. {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي: وما ذلك بصعب أو ممتنع علي الله. 15 - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}: والمعنى: يا أيها الناس أنتم المحتاجون في أنفسكم إيجادا وإبقاءً، وفي حركاتكم وسكناتكم وفيما يَعنّ لكم من أموركم، أو خطب يُلِمُّ بكم، وهو - سبحانه - الغني بالذات عما سواه المحمود بكل لسان، لفيضِ إنعامه عليكم بعد فقركم إليه. وفي توجيه الخطاب لجميع الناس تغليب للحاضرين منهم على الغائبين. 16 - {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}: أي: إن يشأ يذهبكم - أيها العصاة - بإفنائكم وإبدالكم بخلق أطوع منكم وأزكى، ليسوا على طبيعتكم، بل مستمرون على طاعته وتوحيده، أو بأن يأتي بعالم غيركم لا تعرفونه، فإن غناه في الأزل بذاته لا بكم. وتفسير "الجديد" بما ذكر مروى عن ابن عباس، وجملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} تقرير وتأكيد لاستغنانه - عن رجل - عنهم. 17 - {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}: المعنى: أن إذهابهم والإتيان بخلق جديد ليس علي الله بصعب أو متعذر، فهو - سبحانه - القادر المتصرف إذا أراد شيئًا قال: كن، فيكون.

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} المفردات: {وَلَا تَزِرُ} أي: ولا تحمل، والوزر: الإثم والثِّقْل، يقال: وزر يزر من باب وعد، إذا حمل الإثم أو الثِّقل. {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} أي: وإن تدع نفس أثقلها الإثم إلى حِملها - بكسر الحاء - وهو في الأصل ما يحمل على الظهر ثم استعير للمعاني نحو: الذنوب والآثام. والجمع أحمال وحمول، وهو من باب ضرب. {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي: ومن يصلح حاله فإن ثمرة صلاحه تعود إليه، يقال: زكا يزكو إذا صلح، وزكيته بالتثقيل: نسبته إلى الزكاة وهي الصلاح والطهر. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب. التفسير 18 - {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ... }: روى أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين: اكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ وِزْركم، فنزلت.

والمعنى: ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى يوم القيامة، بل كل نفس تحمل إثمها الذي اقترفته، فلا تؤاخذ نفس بما لا تقترفه كما يفعل جبابرة الدنيا من أحذ الجار بجاره، والمولى بوليه. وأما قوله - تعالى -: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} فهو وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله من أوزارهم فليس فيه شىءٌ من أوزار غيرهم، والمراد بأثقالهم: ما كان بمباشرتهم، وبما معها: ما كان بسببهم. والمعنى: وإن تدع نفس مثقلة بحملها من الذنوب إنسانًا ليتحمل عنها بعض أوزارها لم تُجب يحمل شيء منه، ولو كان المدعو ذا قربى من الداعي كأب أو ولد أو أخ، إذ كل مشغول بنفسه كما قال - تعالى -: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1). وروى عن عكرمة: أن الرجل يأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول له: ألم أكن بك بارًّا، وعليك مشفقًا، وإليك محسنًا، وأنت ترى ما أنا فيه؟ فهب لي حسنة من حسناتك، أو تحمل عني سيئة. فيقول: إن الذي سألتني يسير ولكنى أخاف مما تخاف منه، وإن الأب يقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحوا من هذا، ثم تلا عكرمة: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تَلْقَى ولدها فتقول: يا ولدى، ألم يكن بطنى لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ ألم يكن حجرى لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بني، قد أثقلتنى ذنوب فاحمل عني منها ذنبًا واحدا، فيقول: إليك عني يا أماه فإني بذني عنك مشغول. {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} استئناف مسوق لبيان من يتعظ بها ذكر، أي: إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الذين يخشون ربهم غائبين ¬

_ (¬1) سورة عبس، الآيات: 34، 35، 36، 37.

عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، وأقاموا الصلاة بأركانها وشروطها، بقلوب واعية، وأفئدة ذاكرة، فإنما ينتفع بإنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل الكفر والعناد، فلا تحزن على إعراضهم عنك وصدهم غيرهم عن دعوتك. {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي: ومن تطهير من الأوزار والمعاصي بالإيمان والتوبة والعمل الصالح، فإنما يتطهر لنفسه، لاقتصار نفع عمله عليها، كما أن من تدنس بالمعاصي والإعراض عن دعوة الرسول لا يتدنس إلا عليها. وهذه الجملة فيها حث على تطهير النفس وتزكيتها. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي: وإلى الله المرجع والمآب لا إلى غيره، وهو وعد للطائع بحسن العاقبة، ووعيد للعاصي بسوء الخاتمة. {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} المفردات: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}: مثل للكافر والمؤمن. {ولَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ}: مثل للباطل والحق. {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}: مثل للثواب والعقاب، والحرور: الريح الحارة كالسموم، إلا أن السموم تكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، نقل ذلك عن الفراء، وقال الأخفش: الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل.

19 - {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}: عطف على قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}، والأعمى والبصير: مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدى وغيرهما، أي: لا يستوي الكافر الذي يماثل الأعمى في عدم الاهتداء إلى الطريق الموصلة للغاية، لا يستوي مع المؤمن الذي يماثل البصير، في أنه يضع الأمور في نصابها، ويرى الضار والنافع، ولا تلتبس عليه السبل، ولا تخفى عليه المقاصد والغايات، فيهتدى إلى خالقه ولا يشرك به غيره. وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف، إشارة إلى أن الكافر موجود قبل البعثة والدعوة إلي الإيمان، فالاستبصار يأتي بعد ضده. 20 - {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ}: أي: ولا يستوى الباطل المشبه للظلمات، ولا الحق المماثل للنور، إذ الظلمات تدعو إلى الحيرة شأن الباطل، والنور يهدى إلى الطريق القويم، شأن الحق. وجمع الظلمات مع إفراد النور، لتعدد فنون الباطل، مع اتحاد سبل الحق، وقدمت الظلمات على النور؛ لأنها عدم والنور وجود، والعدم مقدم على الوجود. 21 - {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}: أي: ولا يستوى الثواب المشبه للظل في أنه داع إلى الراحة والنعيم، مع العقاب الذي يماثل الحرور، وهي الريح الحارة، وهي ريح تلفح الوجوه وتكاد تمسك الأنفاس. وتكرير لفظ {لَا} .. بين المتقابلين للتأكيد. 22 - {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور}: تمثيل للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة بالأحياء، وللكافرين الذين استكبروا وأصروا علي كفرهم بالأموات.

{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} أي: يسمع من يشاءُ من أوليائه الذين خلقهم لجنته سماع تدبر وقبول لآياته. {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: إنك لا تسمع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، وأبطل حواسهم فأَصبحوا كالأَموات، وكما أَنك لا تسمع الأموات الذين توسدوا القبور، فكذلك لا تسمع من مات قلبه من هؤُلاءِ المشركين الذين كتبت عليهم الشقاوة والجملة ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأَموات، وإشباع في إِقناطه - عليه السلام - من إيمانهم، حيث علم - سبحانه - من يدخل في الإِسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدي سبحانه من يشاءُ هدايته، وأَما أَنت فخفي عليك أَمرهم، فلا تحرص على إِيمان قوم مخذولين رضوا بالباطل وأَصروا عليه. 23 - {إِنْ أَنتَ إلَّا نَذِيرٌ}: أي: ما أَنت إلا منذر بتبليغ رسالة ربك، فإن كان المنذر ممن أراد الله له الهداية وفق ما علم - سبحانه - عن طبيعته، وحسن اختياره، سمع واهتدى، وإن كان ممن أراد الله ضلاله، وطبع على قلبه لإِصراره على الكفر ضل وغوى، فلا تحزن عليهم، لأنه ليس عليك من أمر هدايتهم أو ضلالهم سوى التبليغ والإِنذار، وأَما الاهتداء فليس من وظائفك ولا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم لسوء اختيارهم، وخبث نفوسم. {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)} المفردات: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: محقين بإرسالك، أَو إرسالا مصحوبا بالحق

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} أي: ما من أمة مضى فيها نذير من نبي أو عالم يقال: مضى يمضي مضيا: خلا. {وَبِالزُّبُرِ} أي: الكتب: جمع زبور، فعول من الزبر بمعنى الكتابة، والزبور كتاب داود - عليه السلام - {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من الأَخذ: بمعنى الإِيقاع بالشخص وإنزال العقوبة به. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكان إنكاري عليهم شديدا بليغا. التفسير 24 - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}: المعنى: إنا أرسلناك - أيها النبي - محقين بإرسالك لتكون بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق، وما من أمة من الأُمم التي وجدت في الأزمنة السابقة إلا سلف فيها نذير من نبى أَو عالم، قام بما كلف به من نذارة أَو بشارة، والاكتفاء بقوله: "نذير" للعلم بأَن النذارة قرينة البشارة، ولا سيما أنهما اقترنتا في صدر الآية. 25 - {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}: الآية تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: وإن أصر هؤلاء المكذبون من كفار قريش على تكذيبهم إيَّاك، فلا تبال بهم، ولا تعبأْ بإِعراضهم؛ لأَنه قد كذب الذين من قبلهم من الأُمم الفانية التي اتبعت هواها، وقد جاءتهم رسلهم بالمعجزات الباهرة، والآيات والبراهين البيِّنة، والشرائع الموضحة الدالة على نبوتهم، وصدق دعوتهم، كما جاءتهم الصحف الإلهية كصحف إبراهيم، وبالكتاب الذي يشع نورًا وحكمة كالتوراة والإنجيل - على إرادة التفصيل -، يعني: أَن بمعنى الرسل جاءَ بالبينات لقوم، وبعضهم جاء بالزبر لآخرين، وبعض جاءَ بالكتاب المنير لغيرهم، لا على معنى إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر، ويلاحظ أن البينات بمعنى الدلائل أو الشرائع جاءت لجميعهم.

26 - {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: أي: ومع ما جاءهم به رسلهم من المعجزات والكتب استمروا على تكذيبهم، فأَمهلهم الله ثم عاقبهم بأَنواع العقوبة التي تركتهم أثرًا بعد عين لكفرهم {كَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} الاستفهام للتهويل والتعظيم، والمعنى: فكان إنكاري عليهم عظيمًا بليغًا استأْصلهم حتى لم تبق لهم باقية. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} المفردات: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ} الجدد: الطرائق المختلفة في ألوان الجبال، جمع جُدة - بضم الجيم - وهي الطريقة. {وَغَرَابِيبُ سُودٌ}: جمع غربيب، وهو الذي أَبعد في السواد، وأغرب فيه، ومنه الغراب، والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه لون الغراب: أسود غربيب، ولفظ "سود" بدل من غرابيب وليس توكيدًا؛ لأَن توكيد الكلمات لا يتقدم عليها. إهـ: قرطبي نقلًا عن القاموس. {وَالدَّوَابّ}: جمع دابة، وهي ما دب من الحيوان، وغلب على ما يركب، ويقع على المذكر أيضًا: قاموس.

التفسير 27 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ... } الآية. استئناف مسوق لتقرير ما أشعر به قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} من عظيم قدرته - عَزَّ وَجَلَّ - وقال أبو حيان: هو لتقرير وحدانيته تعالى - بأدلة سماوية وأرضية إثر تقريرها بأمثال ضربها - عَزَّ وَجَلَّ - والاستفهام للتقرير، والرؤية قلبية. والمعنى: ألم ينته إلى علمك قدرة الله البالغة فيما ذكر، وفي خلقه الأَشياءَ المختلفة من شيءٍ واحد وهو الماء الذي أَنزله من السماءِ، فأَخرج به ثمرات مختلفًا أَلوانها من أصفر، وأحمر، وأخضر، وأبيض، أو يراد باختلاف الأَلوان اختلاف الأنواع، فيختلف كل نوع بتعدد أصنافه. وقوله - تعالى -: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}: إما عطف على ما قبله بحسب المعنى، أَو حال، أي: وبعض الجبال ذو جدد بمعنى طرائق يخالف لون بعضها لون البعض الآخر، حيث نجد منها طريقة بيضاء، ومنها طريقة حمراءُ، ومن الجبال ما اتحد لونه، وهو الأَسود شديد السواد، وقيل: عطف على بيض فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بالجبال الملونة، والغربيب تأكيد للأسود بحسب المعنى، فيقال: أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأَغرب، وقد جاءَ في الآية على التقديم والتأْخير، أَي: سود غرابيب، كما قال الفراءُ، فيعرب بدلا كما تقدم. وفي تلك الجبال التي تختلف أَلوانها آيات واضحة على كمال قدرة الله، وعظيم صنعه، تنزهت أسماؤه عن الشريك والنظير، وعلا علوًّا كبيرًا. 28 - {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ ... } الآية. المعنى: وبعض الناس والدواب والأَنعام مختلف ألوانه كذلك، أي: اختلافا كاختلاف الثمرات والجبال، ففيهم الأَحمر والأبيض والأسود، وقوله: "كَذلِكَ" من تمام ما قبله والوقف عليه حسن بإِجماع أهل الأَداءِ، وهذا الاختلاف في الأَلوان دليل على صانع مختار - جل شأْنه -.

وقوله - سبحانه -: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} تكملة لقوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} بتعيين من يخشى الله - عَزَّ وَجَلَّ - من الناس، بعد بيان اختلاف طبقاتهم، وتباين مراتبهم، أي: إنما يخشاه بالغيب العلماءُ الذين علموه بصفاته فعظموه، ومن ازداد علمًا به ازداد منه خوفًا، وأَحق الناس بخشية الله هم العلماءُ الذين عرفوا أسرار اختلاف هذه الموجودات مع أَنها من أَصل واحد، ومَنْ عِلْمُه به أَقل كان آمنا لجهله وسوء نظره فيما وراء هذه الحياة؛ لأَن مدار الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "أنا أخشاكم لله وأَتْقاكم له"، وقال الربيع بن أَنس: من لم يخش الله فليس بعالم، وقال مجاهد: إنما العالم من خشى الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأسند الدارمى أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}) وحيث كان الكفار بمعزل عن هذه المعرفة لم يفد إنذارهم بالكلية إلاَّ من ألقى السمع وهو شهيد. وتقديم لفظ الجلالة وتأْخير العلماء يؤذن أن الذين يخشون الله من عباده العلماءُ دون غيرهم، وقرئ برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء، ويكون المعنى: إنما يعظم الله من عباده العلماء ويجلهم، فالخشية مستعارة للتعظيم؛ لأَن المعظَّم يكون مهيبًا. {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}: تعليل لوجوب الخشية لدلالة العزة على كمال القدرة على عقوبة العصاة وقهرهم، ودلالة المغفرة على إثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب حقه أن يُخشى، ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلاَّ القادر على العقوبة. وفي بعض الآثار: نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - وقد ظهرت عليه هذه الخشية حتى عرفت فيه.

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} المفردات: {يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ}: يقرءونه، وفعله: تلاه يتلوه تلاوة، ويقال: تلوت الرجل أتلوه تُلُوًّا على فُعُول: تبعته، فأَنا له تالٍ، وتِلْو وزن حِمْل. {لَنْ تَبُورَ}: لن تهلك. يقال: بار يبور بُورًا - بالضم - هلك. أو لن تكسد، يقال: بار الشيءُ بَوْرا - بالفتح -: كسد؛ لأَنه إذا ترك صار غير منتفع به فأشبه الهالك من هذا الوجه، فالمعنيان متقاربان. التفسير 29 - {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}: المراد من الذين يتلون كتاب الله، الذين يداومون على قراءَته حتى صارت لهم سمة وعنوانًا، والمقصود بهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء: هم المؤمنون أي: عامَّةً وهو الأرجح، ويدخل فيهم الأصحاب دخولًا أوليًّا، وهم مع مداومتهم على تلاوته يعملون به، فتلك صفتهم. وقيل: معنى يتلون كتاب الله: يتبعونه فيعملون بما فيه، بجعل يتلو من تلاه إذا تبعه، واختار بعضهم المعنى المتبادر حيث إنه - سبحانه - لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها عمل اللسان والجوارح والعبادة المالية.

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} أي: لا يقنعون بتلاوته عن حلاوة العمل بما دعا إليه، فيقيمون الصلاة فرضًا ونفلًا، وينفقون ممَّا آتاهم الله كيفما تيسر لهم الإنفاق في السر أو العلانية، وقيل: السر في الإنفاق المسنون، والعلانية في الإنفاق المفروض. وكون الإِنفاق ممَّا رزقوا إشارة إلى أَنهم لم يُسْرِفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط، فمِنْ للتبعيض، ومقام المدح يشعر بأَنهم تحروا الحلال الطيب. {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أَي: يرجون بما قدموا من الطاعات معاملة مع الله لنيل ربح الثواب، فالتجارة مجاز عن ذلك، وهذه تجارة لن تهلك ولن تكسد، وجملة {لَنْ تَبُورَ} صفة لتجارة جىءَ بها للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران؛ لأَنها اشتراءُ باقٍ بفان، وفيه إِشعار بأَنهم لا يقطعون برواج تجارتهم عند الله، بل يأْتون ما أَتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أَلاَّ يقبلها الله منهم. 30 - {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}: قوله - سبحانه -: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلق بـ {لَنْ تَبُورَ} أَي: لن تبور ليوفيهم أُجور ما قدموا من الطاعات والأعمال الصالحة، ويزيدهم عليه من خزائن فضله، وفيض إنعامه. {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}: تعليل لما قبله من التوفية والزيادة، أي: غفور للذنوب، شكور يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} المفردات: {مِنَ الْكِتَابِ} أي: القرآن. {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} أَي: جعلنا القرآن ميراثًا منك لأُمتك التي اخترناها على سائر الأُمم. {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: بأَن رجحت سيئاته على حسناته. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: بأن تساوت حسناته مع سيئاته. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}: بأَن رجحت حسناته على سيئاته. {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ}: الأَساور: جمع أسورة جمع سوار، فهي جمع جمع، وهو ما يلبس في المعصم، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب.

{الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أَي: أزال جنس الحزن الشامل لأَحزان الدنيا والآخرة. {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أَي: تعب ومشقة، يقال: نَصِب كفرح إذا تعب وأَعيا. {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أَي: إعياءٌ وكلال من التعب، يقال: لغب لَغْبًا ولغوبًا، كمنع: أَعيا أَشد الإِعياء. التفسير 31 - {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}: المعنى: والقرآن الذي أَوحيناه إليك - أَيها النبي - هو الحق مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية، بمعنى أنه لا ينفك عن التصديق لها وموافقته إِيَّاها في العقائد وأُصول الأَحكام، وهو - سبحانه - محيط ببواطن أمور عباده وظواهرهم، فَعِلمكَ وأَبصر أَحوالك، ورآك أهلًا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي اشتمل على سائر الكتب. 32 - {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}: المعنى: نحن أَوحينا إليك القرآن الكريم ثم قضينا بتوريثه منك الذين اصطفيناهم من عبادنا، وهم - كما قال ابن عباس وغيره -: أُمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ممن يسير سيرتهم إلى يوم القيامة، أَو أُمته بأَسرهم، فإن الله اصطفاهم على سائر الأُمم وجعلهم أُمة وَسَطًا، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أَفضل رسله - عليهم الصلاة والسلام - وليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} (¬1) والتعبير عن الإِيراث بلفظ الماضي لتحقق وقوعه، ولأَنهم ورثوه أزلًا في علم الله. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 169.

{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: الفاءُ للتفصيل، أَي: ظالم لها بالتقصير وهو المرجأُ لأَمر الله. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}: يتردد بين العمل بالقرآن ومخالفته. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَي: مقبل عليها، حريص على تحصيلها قبل غيره، بعلم الله وتوفيقه. وفي قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأْخذها. وخلاصة القول إن الظالم لنفسه: مَن رجحت سيئاته على حسناته، والمقتصد: مَن استوت سيئاته وحسناته، والسابق: مَن سبقت حسناته على سيئاته - كما تقدم في المفردات - وكلهم من أهل الجنة مآلًا بعد عفو الله، وقد روى عن عمر - رضي الله عنه - قال - وهو على المنبر -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، وسئل أبو يوسف - رحمه الله - عن هذه الآية فقال: كلهم مؤمنون، وأمَّا الكافرون فصفتهم بعد هذا، وهو قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وكون الطبقات الثلاث من أَهل الإِيمان هو ما عليه الجمهور. وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرة أَفراده، وأَن المقتصدين قليل بالنظر إليهم، والسابقين أقل من القليل، وقيل: قدم الظالم لئلا ييأَس من رحمة الله، وأَخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعين توسيط المقتصد. {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. أَي: ما تقدم من توريث الكتاب، والاصطفاء، هو الفضل الذي لا يعادله فضل في سموه، وعلو منزلته عند الله. وقيل: الإشارة إلى السبق في الخيرات، وهو الفضل الذي لا ينال إلاَّ بتوفيق الله وتأييده. 33 - {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}: يخبر الله أن مأْوى هؤلاء المصطفين من عباده الجنة، وهم الظالم لنفسه، والمقتصد،

والسابق؛ لأَن الدخول ميراث، والميراث يستحقه العاق والبار إذا كان نسبهم صحيحًا، وهؤلاء قد صح نسبهم إلى الإِسلام بالإيمان، غير أن الظالم يحبس يوم القيامة ويُردع ويقرع ثم يدخل هؤلاء جميعًا الجنة، يحلون فيها بعض أَساور هن ذهب، ويحلون لؤلؤا كذلك. {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أَي: حرير محض، وتغيير الأُسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريرا، للإِيذان بأَن ثبوت اللباس لهم أَمر محقق غنى عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج إلى البيان ماذا يلبسون؟ بخلاف الأَساور واللؤْلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان تحليتهم بها مقصودًا بالذات، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان صفة اللباس، وهذا الحرير محظور عليهم في الدنيا، فكان لهم في الآخرة، ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وقال: هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". 34 - {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}: المعنى: ويقول الذين ظلموا أنفسهم بعمل ما يؤاخذون به - بعد أَن يتلقاهم الله برحمته -: الحمد لله الذي أذهب عنا جنس الحزن المنتظم لجميع أَحزان الدين والدنيا والآخرة إن ربنا يغفر الجنايات وإن كثرت، شكور بقبول الطاعات وإن قلت. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال في ذلك: "غفر لنا العظيم من ذنوبنا، وشكر القليل من أَعمالنا". 35 - {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}: هذا من تتمة كلام الذين حمدوا الله وأثنوا عليه، أَي يقولون: الحمد لله الذي أَعطانا دار الإِقامة في الجنة التي لا انتقال بعدها من فضله ومنته وكرمه، فإن العمل وإن كان سببًا لدخول الجنة في الجملة، لكن سببيته بفضل الله، إذ ليس هناك استحقاق ذاتي، ومن علم أَن العمل متناه زائل، وثواب الله دائم لا يزول لم يشك في أَن الله ما أَحل من أَحل دار الإِقامة إلَّا بمحض فضله - سبحانه - كما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يدخل أحدًا منكم عملُه الجنةَ. قالوا: ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إلاَّ أَن يتغمدَنى اللهُ برحمةٍ منه وفضل".

{لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أَي: لا يمسنا في الجنة تعب ومشقة، ولا يلحقنا فيها كلال وفتور، واللغوب وإن كان نتيجة النصب إلَّا أَنه ضم إليه بالعطف، وتكرير الفعل للمبالغة في بيان انتفاءِ كل منهما، قاله جمع من الأَجلة. وفرق بعضهم بين النصَب واللغوب فقال: النصب: التعب الجسماني، واللغوب: التعب النفساني. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)} المفردات: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}: لا يحكم عليهم بموت ثان فتحصل لهم الاستراحة. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أَي: يستغيثون في النار بصوت عال، والصراخ: الصوت المرتفع. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أَي: أَو لم نعمركم عمرًا يتذكر فيه من أَراد التذكر والتفكر، وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأْنه. {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}: الرسول أَو المشيب، أَو العقل، أَو موت الأَقارب، أَو كل أُولئك.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: بخفاياها من النزوات والميول، وعبر عنها بذات الصدور لملازمتها لها. التفسير 36 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}: لما ذكر - سبحانه - أَهل الجنة وأَحوالهم ومقالتهم، ذكر أهل النار وأَحوالهم ومقالتهم. والمعنى: أَن أَهل النار يعذبون عذابًا مستمرًّا بحيث لا يقضى عليهم بموت ثان فيستريحوا بذلك من عذابها مثل قوله - تعالى -: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}. {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}. {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}، وهذا لا ينافى تعذيبهم بالزمهرير ونحوه، ومثل هذا الجزاء البالغ الشدة يجازى كل كفور مبالغ في الكفر، لا بجزاءِ أَخف منه وأَيسر. 37 - {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}: المعنى: أَن الكفار يستغيثون في النار بصوت عال؛ لأَن المستغيث يصيح عاليًا وبه فسره هنا قتادة. ويقولون تحسرا وألمًا على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، يقولون: ربنا أَخرجنا من النار إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر، ونطع بدل المعصية. وعن ابن عباس: أرادوا بالعمل الصالح: لاَ إِلهَ إِلاَّ الله {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} جواب من قبل الله - تعالى - وتوبيخ لهم. أَي: أَلم نمهلكم ونعمركم عمرًا يتمكن فيه المكلف من التذكر والتفكر وإن قصر؛ لأَن الحق واضح يستوى في إدراكه من طال عمره ومن قصر، إلاَّ أن التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد جاءَ فيه ما أخرجه الإِمام أحمد والبخارى والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله عليه وسلم -: "أَعذر الله تعالى إلى امرىءٍ أَخر عمره حتى بلغ ستين سنة". {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}: يحذركم،

والمراد به جنس النذير، فيشمل العقل والأنبياء وكتبهم، ويؤيده أنه قرئ: "وَجَاءَكُمُ النُّذُرُ" بصيغة الجمع. وعن ابن عباس، وعكرمة، وسفيان بن عيينة، ووكيع، والحسين بن الفضل، والفراء، والطبرى: هو الشيب، وفي الأَثر: "ما من شعرة تهيض إلَّا قالت لأُختها: استعدى فقد قرب الموت". {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الفاءُ في قوله: {فَذُوقُوا}، لترتيب الأَمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجىءِ النذير، أَي: فذوقوا العذاب؛ لأَنه معد للظالمين أَمثالكم وليس لكم ناصر ولا معين، والمراد بالظلم هنا الكفر، وأَفادت الجملة استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب. 38 - {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: أَي: أَنه - سبحانه - يعلم كل غيب في السموات والأَرض، فلا تخفى عليه أَحوالهم التي اقتضت الحكمة أَن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار، ولو أَجابهم وأَعادهم إلى الدنيا لعادوا لما نهاهم عنه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لما قبله؛ لأَنه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد علم - عَزَّ وَجَلَّ - كل غيب في العالم. {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} المفردات: {خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} أَي: جعلكم خلفًا بعد خلف، وقرنا بعد قرن، ترثون ما بأَيديهم من مال وجاه، والخلف: التالي للمتقدم، والخلائف: جمع خليفة، وهو مطرد في فعيلة.

{إِلَّا مَقْتًا}: بغضا وغضبًا. {إِلَّا خَسَارًا}: هلاكًا وضلَالًا. التفسير 39 - {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}: الخطاب في الآية قيل: عام، واستظهره في البحر، وقيل: لأهل مكة. والمعنى: أنه - سبحانه - أَلقى إِليكم مقاليد التصرف في الأَرض والانتفاع بما فيها من خيرات جمة، وأَباح لكم منافعها المتعددة، وجعلكم تخلفون من قبلكم من الأُمم، وأَورثكم ما بأَيديهم من متع الدنيا، لتشكروه بالتوحيد والطاعة، أَو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأُمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا، فلم تتعظوا بحالهم، وما حل بهم من الهلاك، فمنْ جحد منكم، وكفر بهذه النعمة العظيمة، وغمطها حقها، ولم يعتبر بما حل بالسابق من الأمم فعليه وبال كفره لا يتعداه إلى غيره، وكل نفس بما كسبت رهينة، ثم بين - سبحانه - وبال كفرهم بقوله: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} أَي: أن عاقبة كفرهم هي مقت الله الشديد، وخسار الآخرة الذي ما بعده شر ولا إذلال. وجملة {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ} إلى آخر الآية بيان وتفسير لقوله - تعالى -: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ولزيادة تفصيله نزل منزلة المغاير له فعطف عليه. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)}

المفردات: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} أَي: أخبروني عن آلهتكم الذين أشركتموهم في العبادة. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أَي: نصيب في خلقها. {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أَي: حجة ظاهرة. {بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أَي: أباطيل تغر، وهي قول الرؤساء للأَتباع: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ. التفسير 40 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}: الآية عند الكثير في عبدة الأَصنام، وقيل: في غير عبادة الله - عَزَّ وَجَلَّ - صنمًا كان أَو ملكا أَو غيرهما. والمعنى: قل - أَيها الرسول تبكيتًا للمشركين وإنكارًا عليهم -: أَخبروني عن شركائكم الذين أَشركتموهم في العبادة، ودعوتموهم آلهتكم من دون الله: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أَي: أَخبرونى عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة أَرونى أَي جزءٍ خلقوا من الأَرض، واستبدوا بخلقه دون الله حتى استحقوا الأُلوهية والشركة، ثم أَضرب عن ذلك فقال: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أَي: بل أَلهم شرك مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة في الأُلوهية {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا}: أَم بمعنى بل والهمزة، أَي: بل أآتيناهم كتابًا ينطق بأَنا اتخذناهم شركاءَ فهم على حجة واضحة من ذلك الكتاب المنزل عليهم بأن لهم شركة معه - سبحانه - خلقًا وبقاءً وتصرفا، حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم. وليس الأَمر كذلك فهم لا يملكون من قطمير، وفي هذا رد على من عبد غيره؛ لأَنهم لا يجدون في كتاب من الكتب السماوية أَن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أمر أَن يعبد غيره فهم لا يجدون تبريرا لما صنعوا، وفيه إيماءٌ إِلى أَن الشرك أَمر خطير سلكوه من غير دليل، ولا بد في إِثباته من تعاضد الدلائل، وهو ضرب من المستحيل.

وأُسندت الشركة إليهم في قوله - تعالى -: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} أَي: آلهتكم لأَنهم هم الذين جعلوهم شركاء لله - تعالى - واعتقدوهم كذلك من غير أَن يكون له أَصل ما قطعًا. وقيل: الإِضافة حقيقية؛ لأَنهم جعلوهم شركاءَ لأَنفسهم فيما يملكونه، أَو جعلهم الله شركاءَ لهم في النار كما قال - سبحانه -: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}. ولما تقرر نفى أَنواع الحجج فيما ذكر أضرب عنه بذكر ما حملهم على الشرك فقال - سبحانه -: {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أَي: إن الذي حملهم على الشرك هو تغرير الأَسلاف للأَخلاف، وإِضلال الرؤساء للأَتباع بأَنهم شفعاءُ لهم عند الله يشفعون لهم بالتقرب إليه، وما هو إلاَّ أباطيل اقترفوها للتغرير والتمويه. * {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} المفردات: {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: بحفظهما كراهة زوالهما، أو يمنعهما، فالإِمساك مجاز عن الحفظ أَو المنع. {أَنْ تَزُولَا}: أن تنهدَّا وتضمحلا. التفسير 41 - {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}: قررت الآية السابقة أن الآلهة التي اتخذها المشركون شركاءَ لله، أَو عبدوها من دونه، عاجزة عن خلق شيءٍ من الأَرض والسماء استقلالًا أَو مشاركة، وجاءَت هذه الآية بعدها

استئنافا يقرر قبح الشرك، ويصور قدرة الله - تعالى - الواضحة بذكر عظمته في حفظ السموات والأرض. والمعنى: إن من مظاهر قدرة الله - تعالى - الجلية التي لا تنكرها عين، ولا يجحدها عقل، إمساك الله السموات والأَرض وحفظهما ومنعهما أن تنهدًّا، أَو تغيرا مسيرتهما زمانًا أو مكانًا؛ فإِن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ يحفظه، ولا يكون ذلك إلاَّ دائم الوجود - سبحانه - {وَلَئِنْ زَالَتَا} أَي: ولئن أَشرفتا على الزوال بشرك هؤلاء المشركين - ما أَمسكهما من أَحد بعد الله كائنا من كان، أَو بعد زوالهما. وقوله - تعالى -: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} معناه: إن الله - تعالى - عظيم الحلم واسع العفو، ومن جملة ذلك حلمه - تعالى - على المشركين، وتوبته على من تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضى لتعجيل العقوبة لهم، وعدم إِمساك السموات والأَرض، وتخريب العالم الذي هم فيه، وكانتا جديرتين أن تهدا هدًّا؛ لشؤم معصيتهم كما في قوله - تعالى -: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (¬1). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال لرجل مقبل من الشام: "من لقيت؟ قال: كعبًا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السموات على منكب ملك قال: كذب كعبٌ، أَما ترك يهوديته بعد؟ ثم قرأَ هذه الآية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)} ¬

_ (¬1) سورة مريم الآية: 90.

المفردات: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}: حلفوا وبالغوا في الحلف واجتهدوا أَن يأْتوا به على أبلغ ما في وسعهم. {نَذِيرٌ}: نبي يبلغهم ويخوفهم. {أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}: أَهدى من كل واحدة من أُمة اليهود، والنصارى وغيرهم، فإحدى بمعنى واحدة، وأُريد بها العموم وإن كانت في الإِثبات لا تعم إلاَّ لاقتضاءِ المقام، أَو المعنى: أهدى من أُمة يقال فيها: إحدى الأُمم بمعنى واحدتها، تفضيلًا على غيرها من الأُمم، كما يقال: واحد قومه، وواحد عصره، وقيل المعنى: أهدى من بعض الأُمم والبعض المبهم قد يقصد به التعظيم، وإِحدى مثله. {نُفُورًا}: تباعدا عن الحق وهربًا منه. {اسْتِكْبَارًا}: تعاليًا وعتوا عن الإيمان. {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}: مكر العمل السىءِ وهو الشرك، وخداع الضعفاءِ، وردهم عن الإيمان والكيد لرسول الله، وأَصل التركيب: استكبارًا في الأَرض، وأَن مكروا المكر السيىء، ثم أُقيم المصدر مقام أَن والفعل وأضمر فيه الفاعل، وأضيف إلى ما كان صفته. {وَلَا يَحِيقُ}: ولا يحيط، من حاق بالشيء إِذا أَحاط به، من باب باع، وقال الراغب: أَي: لا يصيب ولا ينزل. {سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ}: طريقة الأَولين وسيرتهم، أَي: سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم. {تَبْدِيلًا}: وَضْع غير العذاب موضع العذاب. {تَحْوِيلًا}: نقل العذاب من المكذبين إلي غيرهم. التفسير 42 - {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}:

بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن أَهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أَتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أَتانا رسول لنكونن أَهدى من إِحدى الأُمم، ثم كان منهم بَعْدُ ما كان، فأَنزل الله هذه الآية. والمعنى: حلف مشركو مكة، وبالغوا في الحلف، واجتهدوا أَن يأْتوا به على أَبلغ ما في وسعهم من جهد، لئن جاءهم رسول كما جاءَ اليهود والنصارى يدعوهم إلى عبادة الله ليكونن في تصديقه واتباعه أَهدى من كل أُمة من اليهود ومن النصارى، ومن أَية أُمة بلغت من الطاعة والهداية وحسن الاتباع أَن يقال فيها واحدة الأُمم تفضيلا لها على غيرها، فلما جاءهم نذير أَكرم نذير، وهو أَشرف الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ما زادهم النذير أو مجيئه إلا نفورا وتباعدًا عن الحق، وهربًا من الإِيمان به. 43 - {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}: ترتبط هذه الآية بالآية التي قبلها وتُتِم معناها، والمعنى: ما زادهم الرسول أَو مجيئه إلا تباعدًا عن الحق استكبارًا منهم، وتجبرا في الأَرض واستعلاء وإمعانًا في الشرك، ومكر العمل السيىءِ الذي يتفننون في تبييته، ويدينون به، ويندفعون فيه من الخداع والصد عن الإيمان والكيد لرسول الله، وإلحاق الأَذى به وبأَصحابه؛ ظانين أَن ذلك سيرد الدعوة، ويضعف شوكة الرسول وصحبه، جاهلين أن وبال مكرهم سينزل بهم، ويذهب بكبريائهم، ويذل استعلاءَهم وعنادهم، ولا يحيط المكر السيءُ ولا ينزل عقابه إلا بأَهله الذين دبَّروه وبيتوه، ومن أَمثال العرب: "من حفر لأخيه جُبًّا وقع فيه منكبا" وعن كعب أنه قال لابن عباس: قرأْت في التوراة: "من حفر مَغْواةً وقع فيها" قال: وَجَدْتُ ذلك في كتاب الله، فقرأَ الآية. وفي الخبر: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإن الله - تعالى - يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}: ولَا تبغوا ولا تعينوا باغيا، فإن الله - تعالى - يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وقد حاق مكر هؤُلاء بهم يوم بدر، والأُمور بعواقبها ووراءَ الدنيا الآخرة، وصدق قول الله - تعالي -: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أَي: ما ينتظرون إلا سنة الله - تعالى - فيهم

بتعذيب مكذبيهم، فلن تجد لسنة الله تبديلا بأن يضع موضع العذاب غير العذاب، ولن تجد لسنة الله تحويلا بأن ينقل العذاب من المكذبين إلى غيرهم؛ فالله عادل لا يضع الشيء في غير موضعه. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} المفردات: {لِيُعْجِزَهُ}: ليمنعه بالقهر والغلبة. {كَسَبُوا}: فعلوا من السيئات {دَابَّةٍ}: حيوان يدب على الأرض، وقيل: المراد الإنس والجن. التفسير 44 - {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}: ذكرت الآية السابقة جريان سنة الله - تعالى - على المكذبين من الأمم السابقة بإنزال العذاب بهم وإهلاكهم. وجاءَت هذه الآية استشهادا وتأْكيدًا لهذا المعنى، وتنويعًا في المحاجَّة بما لا يستطيعون دفعه، ولا يتأَتى منهم إنكاره.

والمعنى: أقَعَد هؤُلاءِ المشركون في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض، ولم يتنقلوا بين ربوعها فينظروا نظر اعتبار وتأَمل بما يشاهدونه في مسايرهم، كيف كان عاقبة المكذبين من قبلهم من الأُمم السابقة من آثار الدمار، وعلامات الهلاك والخراب عقوبة لهم على معارضة أَنبيائهم وتكذيبهم، وقد كانت هذه الأُمم أَشد منهم قوة، وأَطول أَعمارًا، وأَوسع نعمة، فلم تغن عنهم قوة، ولم يمنعهم طول أَعمار، ولم تدفع عنهم نعمهم من عذاب الله شيئًا، وما كان الله ليمنعه عن مراده أَي شيءٍ في السموات ولا في الأَرض، إنه - جلت قدرته - عليم لا يغيب عن علمه شيءٌ، قدير لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب. 45 - {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}: كان المشركون من شدة عنادهم، وفساد عقائدهم يتعجلون العذاب الذي يتوعدهم الله به، فأخبر الله - تعالى - في هذه الآية وفي مثيلاتها من الآيات التي تعرض لذكر العذاب وتتوعد به، أَن للعذاب أَجلا مضروبا هو يوم القيامة. والمعنى: ولو يؤاخذ الله الناس جميعًا، ويعاقبهم بما كسبوا من السيئات، ويعجل لهم العذاب في الدنيا كما فعل بأَسلافهم، ما ترك ولا أَبقى على ظهر الأَرض من دابة تدب، أو نسمة تدرج من إنسان وجن وحيوان، قال - تعالى -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1). قال ابن مسعود: "كاد الجُعْل أَن يعذب في جحره بذنب ابن آدم" فالمراد بالدابة على هذا عموم المخلوقات، وقيل: إن المراد بالدابة المكلفون من الإِنس، ويؤَيده ذكر (الناس) وقوله - تعالى -: {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} بضمير العقلاءِ العائد إِلى الناس. ويوم القيامة هو الأَجل المضروب لبقاءِ نوعهم. {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أَي: فإذا حل يوم القيامة فإن الله - سبحانه وتعالى - بصير بأحوالهم فيجازيهم عند ذلك بأعمالهم، إن شرا فشر، وإن خيرا فخير، ولا يظلم ربك أَحدا. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية: 25.

سورة يس

سورة يس وهي مكية وآياتها ثلاث وثمانون المناسبة بينها وبين السورة التي قبلها أَن السورة التي قبلها ذكرت النذير في قوله تعالى: {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} وفسر النذير بأَشرف الرسل والأَنبياءِ محمد - صلى الله عليه وسلم - فافتتحت سورة "يس" بالقسم على صدق رسالته، واستقامة طريقه، تبكيتًا للمشركين على إعراضهم عنه، وتكذيبهم إياه. كما أَنها عرضت لبعض ما عرضت له السورة السابقة "فاطر" من حركات الشمس والقمر وغيرهما من الآيات الكونية. أهداف السورة وأغراضها ابتدأت سورة "يس" بالحديث عن صدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - مؤَكدة رسالته بالقسم: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} ثم انتقلت إلى الحديث عن أَحوال المشركين الذين حقت عليهم اللعنة بمعارضتهم الدعوة، فرزحوا في أَغلال الشرك عماه عن الحق، لا يجدى فيهم نصح، ولا يؤَثر معهم إِرشاد أَو توجيه، وخلصت من هذا إلى الإِشارة إلى البعث الذي يلقى فيه كل إنسان عمله في إمام مبين، وكتاب محفوظ. ثم عرضت الآيات بعد هذا إلى قصة أَصحاب القرية، وشدة مقاومتهم للرسل الذين أُرسلوا إليهم، وقوة لَدَدِهم، وسوء حوارهم معهم، وتطيرهم منهم. كما عرضت لحوار أَهل القرية مع الرجل الصالح الذي جاءهم من أَقصى المدينة مسرعًا، يدعوهم إلى تصديق الرسل واتباعهم فيما يدعونهم إليه من الهداية التي هم عليها، ولا يبتغون على ذلك نفعًا، ولا يسأَلون أَجرًا، فأوقعوا به ما أَوقعوا مما أَعقبه الجنة والنعيم، وأَوردهم موارد الهلاك والجحيم. {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}.

ثم انتقلت الآيات إلى عرض صور من مظاهر قدرة الله، ومشاهد حكمته، التي تصرف بها في ملكوت السموات والأرض، وتصنيف النبات، وتسخير الأَفلاك، وتفجير الأَنهار والبحار وتسيير الفلك لنقل الأَحمال والأَثقال، وغير هذا مما تتجلى فيه آيات القدرة، وبدائع الصنعة. وتنتهى الآيات من هذا إلى غرض يكاد يكون المقصود الأول في سياق السورة وهو البعث ومصائر الخلق بعده، فأَصحاب الجنة في شغل فاكهون، هم وأَزواجهم في ظلال على الأَرائك متكئون، وأَهل الشرك يدفعون إلى الجحيم {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ويختم الله على أفواههم. ثم تعود الآيات إلى مثل ما بدأت من صدق رسالة الرسول، وتنزه قوله عن اللغو لتخلص منه إلى تعداد أَلوان من القدرة تتمثل في خلق الأَنعام وتذليلها، والانتفاع بها وبخيراتها وإنتاجها، وبغير ذلك ممَّا لا يتأتَّى منه شىءٌ من آلهة المشركين المزعومة، وتأْتي في هذا على أَعظم ما تتجلى عنه قدرة الله من خلق الإِنسان من ماءٍ مهينٍ، ثم تسويته إنسانًا سويًّا، وخصمًا مبينا، وتنعى عليه نسيان أَصله، وغفلة عقله حين يستبعد العودة إلى الحياة بالبعث، وخلق العظام وهي رميم، وتقرر أَن الله الذي خلقها أَول مرة هو القادر على إحيائها، فقد عرفوا أَنه قادر على أن يجعله من الشجر الأخضر نارًا مضطرمة، وعلى خلق السموات والأرض، فلا يعجزه أَن يعيد خلق الإِنسان، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أَهون عليه؛ لأَن أَمره إذا أَراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه ترجعون. وهكذا تدور السورة في تجلية البعث في صور مختلفة تقطع على كل منكر حجته، وتؤَكد لكل عاقل حقيقته.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} المفردات: {الْحَكِيمِ}: المتضمن للحكمة، أَو الناطق بها. {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المراد بالصراط المستقيم: ما يعم العقائد والشرائع الحقة الشريفة بكمالها. التفسير 1 - {يس}: يصح أن تكون هذه الكلمة من قبيل الحروف المسرودة التي ابتدأَت بمثلها سور أُخرى، مثل: (الم) و (طَسم) وأَمثالها، فيكون الكلام عنها كالكلام الذي قيل في مثيلاتها وبخاصة في أَول سورتَي "البقرة، وآل عمران" وهي على هذا خالية من الإِعراب. ويصح أن تكون اسمًا للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه، وعليه الأَكثر، وإعرابها على هذا كإعراب سائر التراجم. فهي مرفوعة خبرًا لمبتدإِ محذوف، أَو منصوبة مفعولا به لفعل مضمر، والتقدير: هذه يس - أو اقرأ يس. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - معناه: يا إنسان في لغة "طىء" قالوا: والمراد به محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يشير إليه الخطاب بعده في قوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}. قال الزمخشري: إن صح هذا فوجهه أَن يكون أَصله: يا أليسين، فكثر النداءُ به على أَلسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما في القسم بـ "مُ الله" في "أيمن الله".

وقال الآلوسي: وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أَن "يس" بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام - وهو ظاهر قول السيد الحميرى: يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا ولتسميته - عليه الصلاة والسلام - بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف. 2، 3، 4 - {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: قوله - تعالى -: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ابتداءُ قسم، معناه: وأُقسم بالقرآن المحكم، أو المتضمن للحكمة والناطق بها، وقوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} جواب للقسم معناه: إنك يا مُحمد لمن المرسلين الذين أَرسلهم الله لهداية أقوامهم بدعوتهم إلى الحق، وتوجيههم إلى سبل الخير، والجملة لرد إنكار المشركين المنكرين لرسالته، المتمثل في كثير من كلامهم في مثل قولهم: {لَسْتَ مُرْسَلًا}. وفي مثل ما سبق في سورة "فاطر" مما يشعر بأَنهم في قمة العناد، من قوله - تعالى -: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ}. وفي القسم بالقرآن أَولا، ووصفه بالحكمة ثانيًا تنويه بقدره، وإشادة بشأْنه على أكمل وجه، وأَوفى بيان. وقوله - تعالى -: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر ثان داخل في حيز القسم، أَي: إنك يا محمد لمن المرسلين، وإنك على طريق مستقيم بالغ ذروة الكمال في الاستقامة، والبعد عن الزيغ والانحراف، قائم على العقائد الصحيحة، والشرائع الحقة الشريفة بكمالها، وتضمنها كل خير للإِنسان والإِنسانية كما يفهم من التنكير المفيد للتعظيم والتفخيم، والمقصود من هذه الآية التنويه بشأْنه - صلى الله عليه وسلم - وإعلاءُ قدره، وتقرير أَنه على السنة المثلى والطريق السوي، فإن أَحدا من أَهل النظر لا يجهل أَن المرسلين جميعًا على صراط مستقيم.

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} المفردات: {لِتُنْذِرَ}: لتخوف وتعظ. {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ}: لقد ثبت ووجب القول بالعذاب. التفسير 5، 6 - {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}: قوله - تعالى -: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}: استئناف لإظهار فخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بالقسم به، ووصفه بالحكمة. والمعنى: نزل هذا القرآن تنزيلا على محمد من الله العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه. ولهذا قال الله في شأْنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعبرين عن الغلبة الكاملة، والرحمة الشاملة مزيد من التنويه بفضل القرآن الكريم، وسمو مرتبته. وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}: تعليل للتنزيل متعلق به، أَي: نَزَّل هذا القرآن العظيم العزيزُ الرحيمُ؛ لتخوف به يا محمد قومًا لم ينذر ولم يخوف بمثله آباؤُهم الأَقربون، لتطاول مدة الفترة عليهم حتى تغشاهم الجهل. وران على قلوبهم الكدر فهم غافلون لا تستشعر قلوبهم رسالة، ولا تستشرف لرسل قبله حتى أصبحوا في الحاجة الملحة إلى من ينذرهم ويرشدهم تخويفًا من عذاب الله، وطمعًا في رحمته.

وقيل: إن المعنى لتنذر قومًا الإنذار الذي أنذر بمثله آباؤهم الأقدمون في عهد إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - فنسوه وغفلوا عنه، فـ (ما) هنا في قوله: {مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} مصدرية وليست نافية. وهناك وجه غفل عنه معظم المفسرين، وهو أن رسالة إسماعيل - عليه السلام - كانت للعرب العاربة، أَما العرب المستعربة الذين نشأُوا من ذرية إسماعيل فلم يأتهم رسول قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وقريش من ذريتهم. 7 - {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أَي: والله لقد ثبت القول بعدم الإيمان على أكثر هؤلاءِ المشركين بسبب إصرارهم على الشرك، وإعراضهم عن إِجابة الرسول، وعدم تأَثرهم بالإنذار، والتذكير، وغلوهم في العتو والعناد، حتى صح فيهم قول القرآن على لسان إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). وقوله تعالى: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} متفرع على إصرارهم على الشرك، وتماديهم في العناد والمعنى: فهؤُلاء مصرون على الشرك إلى الموت، مختارون له لا ينتظر منهم امتثال، ولا يرجى، لهم إِيمان باختيارهم، ولهذا هداهم الله إليه بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة. {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)} المفردات: {أَغْلَالًا}: جمع غل، وهو القيد الذي يوضع في العنق، تشد به اليد إلى العنق. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، من الآية: 39.

{مُقْمَحُونَ}: رافعو رءُوسهم، غاضُّو أَبصارهم، من: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. {سَدًّا}: حاجزًا ومانعًا. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ}: غطينا أَبصارهم وأَعميناهم. التفسير 8،9 - {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}: هاتان الآيتان وما بعدهما تأكيد لمعاني الآية السابقة، وتقرير لتصميم المشركين على شركهم، وعدم إذعانهم للحق بتمثيل حالهم بحال من جعلت الأَغلال في أَعناقهم منتهية إِلى أَذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أَعناقهم نحوه، ولا يطأْطئون رءُوسهم له فهم مقمحون رافعون رءُوسَهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق، أو يلتفتون إلى جهته. وقوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}: من تمام التمثيل وتكميله، أَي: وجعلنا مع ما ذكر من الأَغلال أَمامهم سدًّا عظيمًا، ووراءَهم سَدًّا مثله. فأَغشيناهم بذلك، وغطينا أَبصارهم فهم لا يقدرون على إبصار شيءٍ أَصلا لا من أَمامهم ولا من خلفهم. ويصح أَن يكون تمثيلا مستقلا، فإن جعلهم بين سدين هائلين يغطي أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا، ويعطي صورة جديدة تنم عن كمال فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغيّ والجهالات محرومين من النظر والانتفاع بالأَدلة والآيات. وقيل: الآيتان في بني مخزوم، وذلك أَن أَبا جهل حلف لئن رأَى محمدا - صلى الله عليه وسلم - يصلي ليرضخن رأسه، فأَتاه وهو يصلي، ومعه حجر ليدمغه، فلما رفع يده انثنت إِلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأَخبرهم.

والأولى أَن تبقى الآية على عمومها متممة لسياق الآيات قبلها وبعدها، ولا مانع أَن يكون أَبو جهل ضمن ما اشتملت عليهم من المشركين الذين حق القول على أَكثرهم، وتكون الآية من قوله - تعالى -: 10 - {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}: بيانًا لشأنهم بطريق التصريح إثر بيانه بطريق التمثيل، أَي: ويستوي عند هؤُلاء المشركين المصرين على الكفر إنذارك إياهم وعدم إنذارك فقد اختاروا لأَنفسهم، وحق عليهم العذاب والنكال. وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} استئناف مؤكد لما قبله، موضح لإجمال ما فيه الاستواءِ. {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} المفردات: {تُنْذِرُ}: تخوف وتبلغ. (الذِّكْرَ): القرآن. {خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أَي: خاف عقاب الله قبل حلوله، أَو من غير أَن يراه، أَو خافه في سريرته، ولم يغتر برحمته. {نُحْيِ الْمَوْتَى}: نبعثهم من موتهم يوم القيامة للحساب. {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}: ونكتب ما أَسلفوا من أَعمال صالحة وغير صالحة. {وَآثَارَهُمْ}: أعمالهم التي تبقى بعد موتهم. {أَحْصَيْنَاهُ}: بيناه وحفظناه، وأَصل الإحصاء العد للحفظ. {إِمَامٍ مُبِينٍ}: أَصل عظيم، مظهر لما كان وسيكون، وهو اللوح المحفوظ.

التفسير 11 - {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}: لما قررت الآية السابقة أَن إنذار الرسول وعدمه سواء فيمن أَصر على تنكب طريق الصواب ناسب أَن تجىءَ هذه الآية لتجلية حقيقة من ينتفع بأُسلوب التذكير من القلوب اللينة، والنفوس الخصبة التي تحسن اتباع القرآن خشية من الرحمن، وجاءت الآية بعدها لبيان أَن الله هو الذي يحيي موات القلوب، كما يحيي الموتى، وذلك حين يجىءُ أَوان الهداية، وقد حدث ذلك عند فتح مكة. والمعنى: إِنما يجدى الإِنذار، ويؤْتى ثماره، ويتحقق نفعه، وتظهر آثاره مع من اتبع القرآن وتدبره، وأَدام فكره ونظره فيه، وتأَمل معانيه، ولم يصر على اتباع خطوات الشيطان، وخشي الرحمن بالغيب، فخاف عقابه قبل حلوله ومعاينة أهواله، أَو خشى الرحمن وهو غائب عنه، أَو خشي الرحمن وتحاشى معصيته في سريرته، كما يتحاشاها في علانيته وجلوته، فمن كان هذا حاله، وذاك سلوكه، فهو حري أَن يبشره بمغفرة واسعة؛ وأَجر كريم عظيم، لا يقادر قدره، ولا يخضع للتقدير حَزْره. 12 - {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}: تنتهي الآيات السابقة كلها بهذه الآية تذييلا عامًا ينتظم المصممين على الكفر، والمنتفعين بالإنذار والتخويف ترهيبًا وترغيبا، ووعيدًا ووعدًا، وإيذانًا بأَن الله الذي سوف يحيى موتاهم عند البعث، سيحيى موات قلوبهم حينما يجىءُ أَوان هدايتهم، وقد تم ذلك في السنة الثامنة من الهجرة حيث أَسلموا جميعًا عند فتح مكة. والمعنى: إنا نحن - وحدنا دون غيرنا - القادرون على أَن نحيى الموتي جميعًا المؤْمنين منهم والكافرين، المصدقين بالبعث منهم والمكذبين، ونبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاءِ، ونكتب ونثبت ما قدموا وأَسلفوا من الأَعمال الصالحة وغير الصالحة، ونحفظها لهم، ونثبت آثارهم التي يبقى بعد موتهم ثوابها من الحسنات: من علم علَّموه،

أَو كتاب ألَّفوه، أَو نبع أَجروه، أَو أَرض وقفوا غلتها على الفقراء والمعوزين، أَو غير ذلك من نواحي البر ووجوه الخير، كما نثبت آثارهم السيئة التي يبقى بعد موتهم شرها وضرها من القوانين الظالمة التي سنوها، والعادات القبيحة التي اعتادوها واعتادها الناس تبعًا لهم، والمظالم التي ارتكبوها، وغير ذلك من ضروب الشر، وأَلوان الفساد والمنكر. أَخرح ابن أَبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سَنَّ سنة حسنة فله أَجْرُها وأَجرُ مَن عمل بها من بعده من غير أَن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ سنةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووزر مَن عمل بها من بعده لا ينقص من أَوزارهم شيئًا، ثم تلا: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}. وفسر بعضهم الآثار بالخُطى إِلى المساجد، مستظهرين على ذلك مما أَخرجه عبد الرزاق وابن جرير، وابن المنذر، والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدرى - قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأَرادوا أَن ينتقلوا إِلى قرب المسجد فأَنزل الله - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}: فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية فتركوا". والأَظهر أَن تحمل الآثار على ما يعم الخطى إِلى المساجد، وغير ذلك من الأَعمال الصالحة والطالحة ويترجح ذلك بأمور: 1 - أَن الآية تذييل عام لكل ما سبقها من آيات. 2 - أَن السورة مكية، واعتبار هذه الآية في بني سلمة يجعلها مدنية بين آيات السورة كلها. 3 - أَن قصارى ما يفيده الخبر اعتبار الخطى إِلى المساجد من الآثار التي يبقى ثوابها بعد موت صاحبها، وتعميم ذلك خير من تخصيصه. وقوله - تعالى -: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} معناه: وكل شيء من الأعمال كائنا ما كان قليلًا أَو كثيرًا، عظيمًا أَو صغيرًا، نافعًا أَو ضارًّا، بيناه وحفظناه في إمام مبين، وأَصل عظيم الشأْن مظهرًا لما كان وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ الذي يؤْتم به ويقتدى، ويتبع ولا يخالف.

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)} المفردات: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}: ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أُخرى مثلها كما في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ... } الآية، وتارة أخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إِلى تطبيقها بنظيرة لها. {الْقَرْيَةِ} قيل: إنها إنطاكية {فَعَزَّزْنَا}: قوينا ودعمنا. {الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: التبليغ الواضح. التفسير 13، 14 - {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}: انتقلت الآيات إلى قصة أصحاب القرية وحوارهم مع الرسل الذين أَرسلهم الله تأْييدًا لعيسى، كما أرسل هارون تأْييدًا لموسى - عليه السلام - وذلك تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتخويفا للمشركين من مغبة إصرارهم على العناد والكفر.

والمعنى: واجعل يا رسول الله أَصحاب قرية إِنطاكية مثلا لهؤُلاء المشركين، وطبق حال أُمتك وسلوكهم معك ومثِّلْه بحالهم من الغلو في الكفر، والإصرار على تكذيب الرسل، وما انتهى إِليه أَمرهم من الهلاك، طبق هذا وقِسْهُ حتى يدركوا عاقبة سوء فعلهم، ومآل كفرهم وعنادهم. ومعنى {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أَي: وقت أَن جاءَ أَهلها المرسلون الذين أَرسلهم الله تأييدًا لعيسى - عليه السلام - يدعون إِلى توحيد الله، واختصاصه بالعبادة، وترك عبادة غيره. وقوله - تعالى -: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}: تفصيل للإجمال في قوله: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}. ومعنى {إِذْ أَرْسَلْنَا} أَي: وقت أَن أرسلنا إليهم رسولين هما: "يحيى، وبولس" - على ما قيل - وقوله تعالى -: {فَكَذَّبُوهُمَا} يشير إِلى إيجاز في الأُسلوب مفاده: فأَتياهم فدعواهم إِلى الحق فكذبوهما فعززناهما وقويناهما برسول ثالث هو "شمعون" - على ما قيل - فقال ثلاثتهم لأَهل القرية: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ندعوكم لعبادة الله دون غيره من الآلهة العاجزة التي لا تنفع ولا تضر، وجاء قولهم: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}: مؤكدا يناسب حالهم وتكذيبهم للرسولين الأَولين. 15 - {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}: أَي: قال أَصحاب القرية إنكارًا لقول الرسل لهم: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}: ما أَنتم في أَية حال من أَحوالكم إلا بشر منا ومثلنا فأَنى لكم مزية موجبة لاختصاصكم بهذه الدعوة، والارتفاع إِلى مستوى القيادة علينا والدعوة لنا. ثم يتدرجون في الإِنكار عليهم وتكذيبَهم بإِثبات البشرية لهم، فينكرون أَن يكون الله - تعالى - قد أَنزل شيئًا مما يدعونهم إِليه من الوحي والرسالة، ثم يترقون من ذلك إِلى تكذيبهم تكذيبًا مباشرًا صريحًا بقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} بأُسلوب يحصرهم في إطار الكذب والاختلاق، ويسجل عليهم التمادي فيه.

16 - 17 - {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}: أَي: قال الرسل لأَهل القرية: ربنا وحده يعلم حقيقة رسالتنا، وصدق دعوتنا، ويعلم إنا إليكم لمرسلون لتبليغكم الرسالة، ودعوتكم إِلى التوحيد، يردون بذلك تكذيب أهل القرية ويسفهون قولهم بإشارات ثلاث: أَولا: بإِسناد علم الرسالة إِلى الله - تعالى - ردا على قولهم: {مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} وهو أسلوب جرى مجرى القسم مع ما فيه من تخويفهم، وتحذيرهم معارضة علم الله. ثانيا: بإعادة القول بتأْكيد إرسالم إليهم مع اختصاص الله بعلمه، وأَنهم لا ينكرونه إلا عنادا ومكابرة. ثالثا: ببيان أَن مهمتهم تبليغ الرسالة تبليغا واضحًا بالآيات الشاهدة على صدقه، وأنهم بهذا التبليغ قد خرجوا عن عهدته، فلا مؤَاخذة لهم من جهة الله - تعالى - سواءٌ صدقوا أَو كذبوا. {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)} المفردات: {تَطَيَّرْنَا}: تشاءَمنا، وأَصل التطير: التفاؤُل والتشاؤُم بالطير. {لَنَرْجُمَنَّكُمْ}: لنرمينكم بالحجارة حتى تموتوا.

{لَيَمَسَّنَّكُمْ}: ليصيبنكم. {أَلِيمٌ}: موجع. {طَائِرُكُمْ}: سبب شؤمكم. {مُسْرِفُونَ}: مجاوزون الحد في العصيان مستمرون عليه. التفسير 18 - 19 - {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}: تطور حوار أَهل القرية مع الرسل من مجرد التكذيب والإِنكار إِلى الشتم والتهديد، والتوعد المقترن بالقسم، قالوا لما ضاقت عليهم الحيل، وعييت بهم العلل، وانسدت أَمامهم أَساليب الجدل - قالوا - للرسل جريا على عادة الجهال: إنا تشاءَمنا بوجودكم، وضقنا من قولكم، ثم أَتبعوا ذلك قولهم توعدا مؤَكدا بالقسم، والله لئن لم ترجعوا عن دعوتكم، وتمسكوا عن مقالتكم، لنرمينكم بالحجارة وليصيبنكم منا عذاب أليم، وإيذاءٌ موجع لا يقادر قدره. قيل: إن سبب التطير انقطاع المطر عنهم، أَو انتشار الجذام فيهم - والله أَعلم بصحة ذلك - ورد عليهم الرسل، قالوا: طائركم وتشاؤُمكم ملازم لكم، نابع من قبح أعمالكم، وسوء عقيدتكم، وما فعلنا معكم ما يقتضي تشاؤُما، أَو يثير ضيقا، سوى أَن ذكرناكم وخوفناكم عذاب ربكم، ودعوناكم لما فيه سلامتكم وسعادتكم، وليس في ذلك ما يقتضي تشاؤُما، بل أنتم قوم مسرفون ومتجاوزون الحد في الظلم والعتو، ممعنون في الشرك تعيشون فيه وتقيمون عليه، والمصائب التي حاقت بكم من سوء أَعمالكم.

{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} المفردات: {أَقْصَى الْمَدِينَةِ}: أَبعد مكان فيها. {رَجُلٌ} قيل: هو حبيب النجار. {يَسْعَى}: يعدو مسرعا في عدوه ومشيه. التفسير 20 - 21 - {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: انتقلت الآيات من حوار أهل القرية مع الرسل إِلى حوار بين رجل من أَهل القرية وقومه تنويعا في أُسلوب التأْسية، وتوسيعا في صور التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابه. والمعنى: وجاءَ من أَبعد موضع في المدينة رجل من أَهلها يسرع في عدوه، ويجد في سيره إثر تورط قومه في تهديد الرسل، وارتفاع أصواتهم بتوعدهم، ينصحهم حرصا على هدايتهم، وخوفا على الرسل منهم، قال بنداء يتأَلف به قلوبهم: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أَي: صدقوا وأَجيبوا المرسلين الذين أَرسلهم الله لدعوتكم وهدايتكم، وتحريركم من الشرك، وعبادة الأَوثان.

{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أَي: أَجيبوا دعاء من لا يبتغون من وراء دعوتكم أَجرا ولا يطلبون على إجابتها نفعا ولا كسبا، وإنما يقومون بها امتثالا لأَمر الله، ورجاءً في هدايتكم وإرشادكم إِلى ما فيه استقامة دنياكم، وسعادة آخرتكم، وحسبكم في صدقهم وتصديقكم لهم أنهم يدعونكم لما هم مهتدون إليه، طامعون أَن يكون لكم من الخير والهداية ما يرجونه لأَنفسهم دون أَن يطلبوا على ذلك أَجرا، وذلك دليل على صدقهم. قال وهب: كان حبيب مجذوما ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة، وكان يدعوهم لعلهم يرحمونه، ويكشفون ضره، فما استجابوا له: فلما أَبصر الرسل دعوه إِلى عبادة الله، فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب!!! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟؟ فقالوا: نعم، ربنا على ما يشاءُ قدير!! وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر، ودعوا ربهم فكشف الله عنه كأن لم يكن به بأس، فآمن وأقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق من كسبه، فأَطعم عياله نصفا، وتصدق بنصف. فلما هم قومه بقتل الرسل جاءَ فنصحهم - والله أعلم بصحة هذا الخبر. {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}

المفردات: {فَطَرَنِي}: خلقني وابتدأ وجودي، من: فطر البئر إذا ابتدأَ حفرها. {تُرْجَعُونَ}: تردون من الموت إِلى الحياة بالبعث. التفسير 22 - 24 - {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: هذه الآيات وما بعدها استمرار من الرجل في حوار قومه مع التلطف والملاينة في إرشادهم بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، حيث أَراهم أَنه اختار لهم ما اختار لها مع التعريض بهم والتقريع لهم على ترك عبادة خالقهم إِلى عبادة غيره. والمعنى: وأَي شيء أَصابني؟ وأَي سفه خالط عقلي حتى أُمسك عن عبادة ربي الذي ابتدأ خلقي، وابتدع وجودي ووجودكم، وله مرجعي ومرجعكم نرجع إليه بالبعث فيجازينا بأعمالنا خيرا وثوابا أَو شرا وعقابا؟ ومعنى قوله - تعالى - حكايته عنه: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... } إِلى آخر الآية أيستقيم لي ويتأَتى في عقلى أَن أَتخذ من دون الله آلهة غيره، أَعبدهم وأَدين لهم، إن يردني - سبحانه وتعالى - بضر، ويقدره علي؛ لا تغني شفاعتهم عني شيئا من النفع، ولا تقدر أَن تخلصني

وتنقذني مما أَراده لي وقدره علي بالنصرة والمظاهرة، إني إذا فعلت ذلك لفي ضلال مبين وهلاك أَكيد؛ لأن إِشراك ما ليس من شأْنه جلب النفع، ولا دفع الضر، بالخالق القادر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره، سفه بين وضلال واضح. {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} التفسير 25 - {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}: الخطاب في هذه الآية يحتمل أَن يكون من الرجل للرسل بعد أَن نصح قومه بما نصحهم به، فهموا بقتله، فأسرع نحو الرسل قائلا: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} وأَكده لإظهار صدوره عنه بكمال الرغبة، وصادق اليقين، وأضاف الرب إِلى ضميرهم لزيادة التقدير كأنه قال: بربكم الذي أَرسلكم إِلينا والذي تدعوننا إِلى الإيمان به. ومعنى {فَاسْمَعُونِ}: فاسمعوا إيماني، وسجلوه علي، واشهدوا لي به عند ربكم وربي. ويحتمل أَن يكون الخطاب من الرجل لقومه شافههم به إظهارا للتصلب في الدين،

وعدم المبالاة بهم، وإضافة الرب إِلى ضميرهم لبطلان ما هم عليه من اتخاذ الأَصنام أَربابا، ويقال: إنهم قتلوه بعد أَن وقف في صف الرسل وقفة متينة. 26 - 27 - {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}: اشتملت الآيتان على جوابين عن سؤَالين مقدرين: الأَول: كيف كان لقاؤه ربه بعد هذا التمسك بالدين، وقتل قومه له؟؟. والجواب: قيل له: ادخل الجنة جزاءً موفورًا على صدق إِيمانك، وسخائك بروحك ويكون ذلك تبشيرًا له بدخولها، ووعدا له بها وأنه من أَهلها. الثاني: فماذا قال بعد نيله تلك الكرامة، وتلقيه هذه البشرى؟؟. والجواب: تمنى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالرجوع عن الكفر، والدخول في الإيمان إِشفاقًا على قومه أَو ليعلموا أَنهم كانوا على خطأ عظيم في أَمره وأَمرهم، وأَن عداوتهم له لم تكسبه إلا سعادة ونعيما. ومعنى {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي بإيماني به وتركي عبادة الأَصنام وأَنه أَعقبني بذلك هذا الفوز العظيم، والمراد تعظيم رحمته، وتفخيم مغفرته تعالى. وبالجملة فقد تمنى الرجل أَن يعلم قومه حاله، وعاقبة أمره لقاءَ إِيمانه، وصدق يقينه وتصلبه في دينه، وسخائه بروحه فداءً لعقيدته، وانتصارًا لرسله حتى استحق أَن يكون من جملة المكرمين من الله المبشرين بجنته، الموعودين بنعيمه في حظيرة قدسه، ودار أُنسه، ومستقر رحمته.

* {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} المفردات: {صَيْحَةً}: صوتا قويا. {خَامِدُونَ}: ميتون خامدون كما تخمد النار. التفسير 28 - {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ}: ذكر الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة أنه جاءَ رجل من أَقصى المدينة (مدينة أَنطاكية على ما ذكره كثير من المفسرين) - جاء - يسعى ليحث قومه على اتباع المرسلين الذين لا يطلبون أَجرا على إرشادهم ونصحهم وهم مهتدون، فلما نصحهم، وثَبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه فقيل له - من عند الله جزاءً على إيمانه، وحسن دعوته إِلى الله -: ادخل الجنة فدخلها، فلما شاهد ما شاهد من إكرام الله له قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ليؤْمنوا كما آمنت، وهكذا: نصح هذا الرجل المؤمن قومه في حياته بقوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وتمنى أَن يعرفوا حُسْنَ جزائه بعد مماته ليؤْمنوا وذلك بقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فما أعظم هذا الرجل، فقد كان حريصا على هداية قومه حيا وميتا.

وفي قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ}: يخبر الله - تعالى - أَنه انتقم من قومه بعد قتلهم إيّاه، غضبا منه عليهم، لأَنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه، ويذكر - عَزَّ وَجَلَّ - أَنه ما أَنزل على قومه ملائكة لإهلاكهم، بل كان الأمر أيسر من ذلك، ومعنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أَي: وما ينبغي في حكمتنا أَن ننزل في إهلاك قوم هذا الرجل - الذي يسميه كثير من المفسرين حبيبا - ما ينبغي في حكمتنا أَن ننزل جندا من السماء؛ لأَن الله - تعالى - أَجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض بناءً على ما اقتضته الحكمة، ألا ترى إِلى قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} (¬1) وكأنه أَشار بقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا}. {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} إِلى أَن إنزال الجنود من السماء من عظائم الأُمور ولا يليق إِنزالها إلا من أَجلك يا محمد، كما حدث في غزوتي بدر والخندق انتصارا لك من قومك، وما كان ينبغي أَن نفعل ذلك من أجل غيرك. 29 - {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}: أَي: ما كان إهلاكهم وعقوبتهم إلا بصيحة واحدة أَرسلناها عليهم فإذا هم ساكنون سكون الميت كالنار الخامدة، وفي ذلك تحقير لهم وتقليل لشأنهم، روى أَن الله - تعالي - بعث عليهم جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا، ذكره الآلوسي وغيره، وفي التعبير بإذا الفجائية في قوله - تعالى -: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} ما يشير إِلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة. ولقد ذكر بعض المفسرين أَن هذه القرية التي أَهلك الله أَهلها (أنطاكية) كما تقدم ذكره، ويرى ابن كثير أَنَّ أهل (أنطاكية) (¬2) كانوا أَول أَهل بلد آمن بالمسيح ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، من الآية: 40. (¬2) أنطاكية في القاموس بدون تشديد الياء وفي هامشه بتشديدها.

- عليه السلام - ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأَربعة التي فيها "بطارقة" وهي: 1 - القدس 2 - أنطاكية 3 - الإسكندرية 4 - روما فعلى هذا يتبين أَن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أُخرى غير أَنطاكية المعروفة كما قال بذلك غير واحد من السلف. اهـ ابن كثير. {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} المفردات: {يَا حَسْرَةً} الحسرة: الغم والندم. {الْقُرُونِ}: جمع قرن والمراد بهم: القوم المقترنون في زمن واحد. التفسير 30 - {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: نداء للحسرة تنزل بهم كأنما قيل لها: تَعالى يا حسرة فهذه من أَحوالك التي حقك أَن تحضري فيها، وهي حال استهزائِهم بالرسل الذين جاءُوهم ليخرجوهم من الظلمات إِلى النور. والمعنى: أنهم أَحقاءُ بأَن يتحسر عليهم المتحسرون عن الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ويجوز أَن يكون من الله على سبيل المجاز لتهويل ما جنوه على أنفسهم وفرط إِنكاره له؛ لأَنهم ما يأْتيهم رسول من الرسل إلا كانوا به يستهزئون، ومنه يسخرون، وبما جاءَهم

به من الحق يكذبون ويجحدون، والحسرة كما قال الراغب: الغم على ما فات والندم عليه، والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أَوَليا. 31 - {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ}: أَي: أَلم يعلموا فيتعظوا بمن أَهلك الله قبلهم من القرون الماضية والأُمم السابقة المكذبين للرسل وهم كثيرون، أَلم يروا كيف قضينا أَنهم إليهم لا يرجعون، وليس لهم في هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأَمر كما زعم كثير من جهلتهم من قولهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬1) وهم القائلون بالدور من الدهرية وغيرهم من الذين يعتقدون أَنهم يعودون إِلى الدنيا كما كانوا فيها، يحكى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنه قيل له يوما: إن قوما يزعمون أَن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن: نكحنا نساءَه وقسمنا ميراثه، أَما تقرءُون: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ}. 32 - {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}: بيان لرجوع الكل إِلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إِلى الدنيا، أَي: ما كل الأُمم السابقة واللاحقة إلا مجموعون لدينا مقهورون على الحضور إلينا يوم القيامة فنجازيهم بأَعمالهم كلها خيرها وشرها، وهذا كقوله - تعالى -: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (¬2)، وفي الآية دليل على أَن المهُلَك عقابا لا يترك بل يعذب في الآخرة على كفره فوق ما ناله من عقاب في الدنيا. ¬

_ (¬1) سورة (المؤمنون) الآية: 37. (¬2) سورة هود، من الآية: 111.

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} المفردات: {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}: المجْدبة. {فَجَّرْنَا}: شققنا. {الْأَزْوَاجَ}: الأَنواع والأَصناف، وقال قتادة: الذكر والأُنثى. التفسير 33 - {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}): أَي: ودلالة قوية لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه للموتى، الأَرض الجدباءُ تراها ميتة هامدة لا شيءَ فيها من النبات، فهذا أَنزلنا عليها الماءَ اهتزت وربت وأَنبتت وأَخرجنا منها حبا فمنه يأْكلون. وتقديم لفظ (منه) في قوله - تعالى -: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} للدلالة على أَن الحَبَّ هو الشيءُ الذي يرتبط به معظم العيش، فكأَنه لا مأْكول سواه، فإذا قلَّ الماءُ جاءَ القحط ووقع الضرر، وإذا فقد جاءَ الهلاك ونزل البلاءُ. 34 - {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ}: وأَنشأْنا في الأَرض جنات - حدائق - وبساتين من: نخيل وأعناب وغيرهما، وخصهما

بالذكر لأنهما غذاءٌ ودواءٌ وفاكهة، وشققنا فيها من عيون الماء ما ينبت الشجر، ويخرج الزهر وينضج الثمر. والجنات: جمع جنة - وهي كما قال الراغب - الجنة - كل بستان ذي شجر يستر بأَشجاره الأَرض، وقد تسمى الأَشجار الساترة جنة، من الجَنِّ وهو الستر. 35 - {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}: أَي: وجعلنا فيها جنات ليأكلوا مما خلق الله فيها من الثمر، وليأْكلوا من الذي عملوه وصنعوه بأَيديهم، والمراد به: ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما، وقال الزمخشري: وما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إِلى أَن بلغ الثمر منتهاه، وإِبَّان أَكله، يعني أَن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم. ويجوز أَن تكون (ما) نافية في قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} والمعنى: وما عملت الثمر أيديهم فهو من خلق الله، وأثر ذلك عن ابن عباس والضحاك وغيرهما. {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم الكثيرة، وحث ودعوة إِلى شكر المتفضل، ويكون الشكر بالتوحيد، والعبادة، وحسن الثناء على الله، والاعتراف بآلائه. 36 - {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ}: استئناف مسوق لاستعظام ما ذكر في الآيات الكريمة قبلها من بديع آثار قدرته، وأَسرار حكمته، وروائع نعمائه، الموجبة لشكره، والمقصود من قوله: {سُبْحَانَ ... } تنزيه الله - تعالى - عن كل نقص وتخصيصه بالعبادة، والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه. والمعنى: تنزيها وتقديسا لله الذي خلق الأَشياءَ كلها على سنن: الذكورة والأُنوثة من النبات والإِنسان ومما لا يعلم الناس، قال - تعالى -: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 49.

فهو - سبحانه - جعل قانون الذكورة والأُنوثة في مخلوقاته كلها، سواءٌ في ذلك النباتات والحيوانات والبشر، وفيما لا يعلمه الناس من الأَحياء غير المنظورة من أَزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إِلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أَن يخلق الله على هذا النحو من الخلائق ما لم يجعل للبشر طريقا إِلى العلم به، لأَنه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إِلى ذلك العلم، ولو كانت بهم إليه حاجة لأَعلمهم بما لا يعلمون قال - تعالى -: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). وفي الإِعلام بكثرة أنواع ما خلق - ما علموه وما جهلوه - ما يدل على عظم قدرته واتساع ملكه. وقال الراغب: (الأَزواج): جمع زوج، ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أَو مضادا، وكل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا أَو مماثلًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض. اهـ: آلوسي. {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} المفردات: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}: ننزع من مكانه الضوءَ ونزيله ونفصله فيظلم. ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 8.

{لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}: لحد معين من فلكها تنتهي إليه في آخر السنة، وسيأْتي تفصيل أكثر. {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}: قدرنا سيره في منازل ومسافات، والمنازل جمع منزل، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة. {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} العرجون القديم: أَصل شمراخ النخل القديم وهو اليابس الذي دق وانحنى واصفر. {ذَلِكَ} قال الراغب: مجرى الكواكب. {يَسْبَحُونَ}: يسيرون ويدورون. التفسير 37 - {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ}: بيان لقدرته - سبحانه وتعالى - الباهرة في الزمان بعد ما بينها في المكان، أَي: وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته: الليل ننزع ونفصل عنه النهار الساتر له، ونكشف ونزيل الضوءَ عن مكانه، فإِذا الناس داخلون في الظلام المشتمل عليهم من كل جانب، المحيط بهم من كل جهة. 38 - {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}: أَي: وآية أُخرى لهم الشمس تجرى لمستقر لها، أَي: لحد لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع سيره، أَو لمُنتهَى لها من المشارق والمغارب فذلك حدها، ومستقرها؛ لأَنها لا تعدوه، أَو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب، وقيل: مستقرها: أَجلها الذي أَقر الله عليه أمرها في جريها فتستقر وينقطع جريها وهو يوم القيامة. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ذلك الجري على هذا التقدير والحساب الدقيق الذي تَكل الفِطَنُ عن استخراجه وتتحير الأَفهام في استنباطه ما هو إلا تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علمه بكل معلوم.

39 - {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}: والقمر جعلناه بتدبير محكم وتنظيم دقيق منازل، يبدو أَول الشهر ضئيلا، ثم يزداد نوره حتى يكتمل بدرا، ثم يأْخذ في النقصان في أَواخر سيره حتى يعود في مرآه كأَصل الشمراخ إذا قدُم فدق وانحنى واصفر. 40 - {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}: إن الله - تعالى - قسم لكل واحد من الليل والنهار قسما من الزمان، وضرب لهما حدا معلومًا، ودبَّر أَمرهما على التعاقب، فلا ينبغي للشمس التي هي آية النهار أَي: لا يصح ولا يستقيم لها أَن تدرك القمر الذي هو آية الليل فتجتمع معه في وقت واحد، وتداخله في سلطانه، فتجعل الليل نهارًا، ولا الليل بظلامه غالب النهار فيجعله ليلًا. وكل واحد من الشمس والقمر في مجراه الذي حدده الله له يسيران فيه كالسابح في الماء، ويدوران حسب النظام الذي وضعه الله، ولا يزال الأَمر على هذا الترتيب إِلى نهاية العالم حيث تطلع الشمس من مغربها في آخر الزمان، وجعلت الشمس غير مدركة والقمر غير سابق؛ لأَن الشمس لا تقطع فلكها إلا في سنة، والقمر يقطع فلكه في شهر فكانت الشمس جديرة بأَن توصف بالإِدراك لتباطؤ سيرها عن سير القمر، والقمر خليقًا بأَن يوصف بالسبق لسرعة سيره في رأي العين. {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} المفردات: {ذُرِّيَّتَهُمْ}: أولادهم، وقال الطبري: من نجا من ذرية آدم، وسيأْتي بيان ذلك. {الْمَشْحُونِ}: المملوءِ. {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ}: فلا مغيث لهم من الغرق.

التفسير 41 - {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}: وآية أُخرى لهم أنا حملنا بني الإنسان في السفن المملوءَة بهم الموقرة بأَمتعتهم وبأَرزاقهم قيل: المراد بالفلك المشحون: سفينة نوح - عليه السلام - ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها أَنه حمل فيها آباءَهم الأَقدمين وفي أَصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم؛ لأَنه أَبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أَعقابهم إِلى يوم القيامة في سفينة نوح - عليه السلام - قال الإِمام: يحتمل عندي أَن تخصيص ذريتهم بالذكر لأَن الموجودين المخاطبين من أَهل مكة بهذا كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم، أَي: لم يكن العمل حملا لهم وإنَّما كان حملا لما في أَصلابهم من المؤمنين - ذكره الآلوسي - والآية تحتمل العبرة والنعمة والإِنذار. 42 - {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}: وخلقنا لهم من مثل الفلك ما يركبون عليه وهي الإبل فإِنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسيرة، وإطلاق السفائن عليها شائع معروف في اللغة كما قيل: "سفائن بَرٍّ والسرابُ بحارها"، وفسره مجاهد بكل ما يركب، وقيل: هي السفن والزوارق التي كانت بعد سفينة نوح - قال النحاس: وهو أصحها لأَنه متصل الإِسناد عن ابن عباس. اهـ: قرطبي. 43 - {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ}: وإن نشأْ إِغراقهم في الماءِ بما اكتسبت أَيديهم، وبما اجترحوا من سيئات، وعملوا من موبقات، مع ما حملناهم فيه من الفلك فلا مغيث لهم يحفظهم مما نزل بهم ولا هم ينجون من الغرق بعد وقوعه. 44 - {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}: أي: لا يغاثون ولا ينفذون لشيءٍ من الأَشياءِ إِلا لرحمة عظيمة من قبلنا، داعية إِلى

الإِغاثة والإِنقاذ وتمتيع بالحياة إِلى زمان قدر فيه انتهاء آجالهم، حسبما تقتضيه الحكمة ومن هنا أَخذ أَبو الطيب قوله: ولم أُسلم لكي أَبقى ولكن ... سلمت من الحِمام إِلى الحِمام (¬1). فنحن لا نغرقهم إلا رحمة منا بهم لنمتعهم إِلى أجل قدرناه لهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} المفردات: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: خافوا واحذروا مثل عذاب الأُمم التي قبلكم. {وَمَا خَلْفَكُمْ}: عذاب الآخرة، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: ما تقدم من ذنوبكم. {وَمَا خَلْفَكُمْ}: ما يأْتي منها. التفسير 45 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها ولا يتأَملون فيها، أَي: وإِذا قيل لأَهل مكة بطريق الإِنذار بما نزل فيهم من الآيات: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أَي: احذروا مثل عذاب الأُمم التي قبلكم {وَمَا خَلْفَكُمْ} أَي: عذاب الآخرة الذي أَعده الله لكم لسوء أَعمالكم وإصراركم على كفركم {لَعَلَّكُمْ ¬

_ (¬1) الحمام - بكسر الحاء -: الموت.

{تُرْحَمُونَ} أَي: لكي يرحمكم ربكم أن اتقيتموه فتنجوا من العذاب، وجواب (إذا قيل لهُمْ ... ) تقديره: أعرضوا، ويدل على هذا الجواب قوله - تعالى -: 46 - {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}: أَي: وما تأْتيهم من حجة وعلامة على التوحيد وصدق الرسل إلا كانوا عنها معرضين لا يتأَملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها لأن دأبهم الإِعراض عن كل آية وموعظة. والمراد بالآيات: إِما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنعه - تعالى - وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإِيمان بها، وإيتاؤها: نزول الوحي بها، أَي: ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء، وإمَّا ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغرائب المصنوعات، وإيتاؤها: ظهورها لهم، أَي: وما تظهر لهم من آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شئونه - تعالى - الشاهدة بوحدانيته - سبحانه - وتفرده بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إِلى الإيمان به - عَزَّ وَجَلَّ -. 47 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: الآية الكريمة لذمِّ الكفار على ترك الشفقة على خلق الله إثر ذمهم على ترك تعظيمه - عَزَّ وَجَلَّ - بترك التقوى، وفي ذلك إِشارة إِلى أَنهم أَخلوا بجميع التكاليف؛ لأَنها كلها ترجع إِلى أمرين: التعظيم لله، والشفقة على خلقه - سبحانه -. والمعنى: وإِذا أُمر الكفار بالإِنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحتاجين من المسلمين قال الذين كفروا لمن أَمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أَمروهم به: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أَي: هؤلاء الذين أَمرتمونا بالإِنفاق عليهم لو شاءَ الله لأَغناهم ولأَطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئَةَ الله - تعالى - فيهم فلا نطعمهم تحقيقًا لمشيئة الله، ما أَنتم في أَمركم لنا بإِطعامهم إلا في ضلال واضح، حيث تأْمروننا بما يخالف مشيئة الله، وقيل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: قول الله لهم وهو رأْي ابن جرير،

وقيل: كلام المؤمنين للرد على الكافرين وآرائهم الضالة وأقيستهم الفاسدة؛ لأَن الله يطعم بأَسباب: منها حث الأَغنياءِ على إِطعام الفقراءِ وتوفيقهم له، وذلك لحكمة غابت عن عقولهم، وهي نشر المودة والرحمة والتعاون والعدل الاجتماعي. ولقد نزلت الآية الكريمة في مشركي قريش حين قال فقراءُ أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَعطونا مما زعمتم من أَموالكم أَنها لله، يعنون قوله - تعالى -: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} (¬1) فحرموهم وقالوا: لو شاءَ الله لأَطعمكم. وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقرهم الله ونطعمهم نحن؟ وعن الحسن وأبي خالد أَن الآية نزلت في اليهود أُمروا بالإِنفاق فقالوا ذلك، والظاهر أَنها في كفار مكة كما يقدم. {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} المفردات: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}: يعنون وعد البعث. {صَيْحَةً وَاحِدَةً}: نفخة الموت بها يموت جميع الناس، يحدثها إسرافيل في الصور. {تَأْخُذُهُمْ}: تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون. {يَخِصِّمُونَ}: يختصمون ويتنازعون في أُمورهم غافلين عنها. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، أول الآية: 136.

التفسير 48 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: ويقول المشركون للرسول والمؤمنين - استبعادا للبعث وإنكارا له واستهزاءً بالمؤمنين -: متى يقع هذا الذي وعدتمونا به ويتحقق؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدوننا به فأَخبرونا بذلك، يقولون ذلك لأنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالَّة عليه والآمرة بالإيمان باللهِ وبالبعث. 49 - {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ}: جواب من الله - تعالى - أَي: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة عظيمة وهي النفخة الأُولى في الصور التي يموت بها الناس، ولأَن الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأَنهم منتظرون لها تهكما بهم {تَأْخُذُهُمْ} أَي: تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون وهم يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله - تعالى -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬1) أَخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لتَقُومَنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثَوْبَهُما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطْوِيانِه، ولتقومنَّ الساعةُ والرجل يليط (¬2) حوضه فلا يُسْقَى منه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطْعمُه، ولتقومن الساعة وقد رفع أُكلَتَهُ (¬3) إِلى فمه فلا يطعمها" إ هـ: آلوسى. 50 - {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}: فلا يستطيعون لسرعة ما نزل بهم توصية على ما يملكون ولا أَن يوصوا بشيءٍ في أمورهم لأَن الأَمر أَهم من ذلك، ولا إِلى أَهلهم ومنازلهم يرجعون إذا كانوا في خارج ديارهم، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ووجدوا، ويرجعون إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - لا إِلى غيره - سبحانه -. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 66. (¬2) يليط حوضه: يطينه واللياط - ككتاب -: الجص. (¬3) أكلته - بالضم -: اللقمة، - وبالفتح -: للمرة من الأكل.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)} المفردات: {الصُّورِ}: القرن، وحقيقة الصور وكيفية النفخ مما استأثر الله بعلمه. {الْأَجْدَاثِ}: القبور، جمع جدث. {يَنْسِلُونَ}: يسرعون. {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}: من أَيقظنا من منامنا؟ التفسير 51 - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}: ونفخ في الصور نفخة البعث فإِذا الأَموات من القبور إِلى ربهم ومالك أَمرهم يسرعون بطريق الإِجبار لقوله - تعالى -: {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (¬1) وذكر الرب للإِشارة إِلى إِسراعهم بعد الإِساءَة إِلى من أَحسن إِليهم وربَّاهم بنعمه على موائد كرمه. 52 - {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}: قال المبعوثون من القبور بعضهم لبعض: يا هلاكنا وعذابنا، أَو يا قومنا انظروا أَهوال ما ينتظرنا وتعجبوا منه {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟} أَي: من أَيقظنا من منامنا، وفيه تشبيه الموت بالرقاد لعدم ظهور الفعل في كل، وقيل: سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا ¬

_ (¬1) سورة يس من الآية: 32.

يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدوه، فكأن ذلك مرقدٌ بالنسبة لهم، فقد روى أنهم إذا عاينوا جهنم وشاهدوا ما فيها من ألوان العذاب وأنواع النكال الذي لا يخطر على بال، يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جنبها فيقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ فيأْتيهم جواب سؤالهم: هذا يومُ البعث الذي وعد الرحمن عباده وصدق المرسلون فيما أَخبروا به عنه، وروى عن ابن عباس: أَن الله - تعالى - يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإِذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا ذلك - ويقول ابن عباس: نقول، وهو - على ما قيل - جواب من قبل الله، وقيل: من جهة الملائكة، وقال قتادة ومجاهد: من قبل المؤمنين، وقال ابن زيد: هذا الجواب من قبل الكفار على أَنهم أَجابوا أَنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين - عليهم السلام - أَو أَجاب بعضهم بعضا به، وكان الظاهر أَن يجابوا بذكر الباعث؛ لأَنه هو الذي سألوا عنه، بأَن يقال: الرحمن، أَو الله بعثكم، لكن عدل عنه إِلى ما ذكر تذكيرًا بكفرهم وتقريعا لهم عنه، مع تضمنه الإِشارة إِلى الباعث، وذكر غير واحد: أَنه من الأُسلوب الحكيم، على أَن المعنى: لا تسأَلوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن، وإنما الذي يهمكم أَن تسأَلوا: ما هذا البعث ذو الأَهوال العظيمة والشدائد؟ وفيه من تقريعهم ما فيه. 53 - {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}: أَي: ما كانت النفخة التي حكيت آنفا لدعوتهم للخروج من قبورهم إلا صيحة واحدة حدثت من نفخ إسرافيل - عليه السلام - في الصور فإِذا هم مجموعون عندنا، وفي محل حكمنا محضرون لفصل الحساب من غير لبث طرفة عين، وفيه من تهوين أَمر البعث والحشر والإِيذان باستغنائهما عن الأَسباب ما لا يخفى. 54 - {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: فاليوم الحاضر أَو المعهود وهو يوم القيامة الدال عليه نفخ الصور، لا تنقص نفس من النفوس - برَّةً كانت أَو فاجرة - أَجر شيء مما عملته، ولا تلقون إلا جزاءَ ما كنتم تعملون من خير وشر، وهذا حكاية عما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعًا لهم.

واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين، إخبارا من الله - تعالى - عما لأهل المحشر على العموم، كما يشير إليه تنكير نفس، واختاره السكاكي. {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)} المفردات: {شُغُلٍ}: نعيم عظيم يلهيهم عما سواه. {فَاكِهُونَ}: متلذذون أو فرحون أو متعجبون مما هم فيه. {الْأَرَائِكِ}: جمع أريكة، وهي - كما في الصحاح -: سرير منجد مزين في قبة أو بيت. {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}: لهم ما يطلبون، أي: يتمنون. {وَامْتَازُوا}: تميزوا وانفردوا عن المؤمنين. التفسير 55 - {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}: إخبارٌ لنا بما يكون يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أُعد لهم من الثواب والعقاب، فأصحاب الجنة اليوم في شغل، والشغل هو الشأن الذي يشغل المرء ويصده عما سواه من شئون، لكونه أهم عنده من الكل، إما لإيجابه كمال المسرة أو كمال المساءَة،

والمراد هنا الأول، وتنكيره للتعظيم، كأَنه شغل لا يدرك كُنْهُه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما سواه، وما ظنك بشغل مَنْ سعد بدخول الجنة التي هي دار المتقين، ووصل إلى نيل تلك الغبطة وذلك الخير الكثير والنعيم المقيم، وتمتع بتلك الملاذ التي أعدها الله للمرتَضَيْنَ من عباده، ثوابا لهم على أَعمالهم مع كرامة وتعظيم. وعن ابن كيسان: الشغل: التزاور وضيافة الله. {فَاكِهُونَ} متلذذون فرحون معجبون بما أكرمهم الله به، والفاكِهُ والفَكِهُ: المتنعم المتلذذ، ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ بها، وكذلك الفكاهة التي هي المِزاحة. 56 - {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ في ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}: استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من مشاركة أزواجهم لهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاءِ على الأرائك تحت الظلال، فهم وأزواجهم في ظلال، جمع ظُلَّة أو ظِلّ، وفسر الإِمام الظل بالوقاية عن مظان الألم، ولأهل الجنة من ظل الله - تعالى - ما يقيهم كل سوء وألم، والجمع (في ظلال) باعتبار ما لكل واحد منهم من ذلك، أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاية. ويجوز حمل الظلال على القوة والمنعة، كما يجوز حمله على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوها، ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه , فقد جاء في الكتاب وصح في السنة: أَن فيها غرفًا، وجاءَ فيها أيضًا ما هو ظاهر في أَن فيها شجرًا يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة شجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلها مائة عام لا يقطعها، فاقرءُوا إن شئتم: (وظِلٍّ ممدودٍ) " (¬1). وابن الأثير يقول: في ظلها في ذراها وناحيتها، وهذا الرأي لدفع أنها تظلُّ من الشمس لأنه لا شمس في الجنة، والقول في الآراء السابقة كذلك في أنها لا تظل من الشمس، إذ لا شمس فيها. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية: 30.

{عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُون}: على السرر المنجدة المزينة بالستور متكئون، والظاهر أن المراد بالأزواج: أزواجهم المؤْمنات كن لهم في الدنيا، وقيل: أزواجهم اللاتي زوجهم الله - تعالى - إياهن من الحور العين، كما يجوز أن يكون المراد بأزواجهم أَشكالهم في الإحسان, وأَمثالهم في الإيمان. 57 - {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُون}: بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسمية والروحية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأُنس ومحافل المتعة تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة. والمعنى: لهم في الجنة فاكهة كثيرة من خير أنواعها , لا مقطوعة ولا ممنوعة، مذلَّلة لهم إن شاءُوا أكلوا، وإن شاءُوا أمسكوا, ولهم فيها كل ما يطلبونه ويتمنونه. 58 - {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}: أي: سلام يقال لهم قولًا من جهة رب رحيم، أي: يسلم عليهم الله - جل جلاله - بلا وسيط تعظيمًا لهم، فقد أخرج ابن ماجة وجماعة عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بينما أهلُ الجنةِ في نعيمٍ إذ سطع لهم نورُ فرفعوا رءُوسَهم فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهلَ الجنةِ وذلك قول الله - تعالى -: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم". وقيل: يسلم عليهم عن طريق الملائكة لقوله - تعالى -: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬1) .. وروى ذلك عن ابن عباس، يقول الآلوسي: وعلى الأَول الأكثرون، وأَقول: لا منافاة، فالله - سبحانه وتعالى - يسلم عليهم والملائكة كذلك. ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآيتين: 23، 24.

59 - {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}: يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - مخبرًا عما يؤُول إليه حال الكفار يوم القيامة من أَمره لهم أن يمتازوا بمعنى يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، يقول لهم: انفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة أَيها المجرمون الآثمون، فإنكم واردون غير موردهم، وذلك حين يحشر المؤْمنون ويسار بهم إلى الجنة، ونحوه قوله - تعالى -: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (¬1). * {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} المفردات: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ}: ألم أوصِكم. {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}: ألا تطيعوه في معصيتي. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: إنه لكم عدو واضح العداوة. {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}: هذا العهد طريق لا عوج فيه. {جِبِلًّا كَثِيرًا}: خلقًا كثيرًا، وقال الراغب: الجبل: الجماعة العظيمة، وقال غيره: الجبل: الأُمة، وهي مَعَان متقاربة. ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 14.

التفسير 60 - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: هذه الآية من جملة ما يقال لبني آدم الذين تركوا عبادة الله طاعة للشيطان، وذلك بطريق التقريع والتبكيت والإلزام بين الأمر بالامتياز {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُون} والأمر بمقاساة جهنم {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. والعهد بمعنى الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد به هنا: مختلف الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله - تعالى - الزاجرة عن عبادة غيره، التي أَبلغها الرسل إلى بني آدم، ومن ذلك قوله - تعالى -: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}. فكأَن العهد مستعار لإقامة البراهين والحجج. وفسره بعض المفسرين بالميثاق المأخوذ علي بني آدم في عالم الذر في قوله - سبحانه -: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. والمراد بعبادة الشيطان: طاعته فيما يوسوس به إليهم من معصية الله، عبر عنها بعبادته لزيادة التنفير منها، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها، فالتجوز في النسبة. ومعنى الآية: أَلم أوصكم يا بني آدم أن لا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من المعاصي , لأنه لكم عدو مبين واضح العداوة، فقد أَخرج أبويكم من الجنة، فلماذا أَطعتموه حتى أصبحتم بطاعته مجرمين كافرين مستحقين للخلود في النار. 61 - {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}: معطوف على (أن لا تعبدوا الشيطان) داخل معه في العهد، أي: أَلم أعهد إليكم بأَن لا تعبدوا الشيطان وبعبادتي وحدي، فهذا العهد صراط مستقيم لا عوج فيه، فلماذا تنكرتم لعهدي، وخالفتم وصيتي فاتبعتم الشيطان وأطعتموه، وتركتم عبادتي، وعبدتم آلهة أشركتموها معي؟.

62 - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}: استئناف مسُوق لتشديد التوبيخ والتقريع، ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم إثر بيان نقضهم للعهد، والخطاب لمتأَخريهم ومنهم كفار مكة. والمعنى: ولقد أضل الشيطان منكم - يا بني آدم - أُممًا كثيرة، أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم، أو أفلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلًا، فلذلك كفرتم ككفرهم واستحققتم العذاب مثلهم. {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} المفردات: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ}: ادخلوها اليوم وقاسوا سعيرها. {نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ}: نمنعها من الكلام. {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}: كلام دلالة أو نطق. التفسير 63 - {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}: هذا كلام مستأنفٌ تقوله خزنة جهنم لأهل النار عند إشرافهم على شفير جهنم بعد انتهاء التوبيخ والإلزام.

والمعنى: هذه - التي ترونها - جهنم التي كنتم في الدنيا توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلغين عنهم إن اتبعتم الشيطان فيما يزينه لكم من الكفر والمعاصي كقوله - تعالى -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}. 4 - {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون}: اصلوها: أمر تحقير وإهانة لأهل النار، والمعنى: ادخلوا جهنم في هذا اليوم وقاسوا ألوان العذاب فيها بسبب ما كنتم مستمرين عليه من الكفر والمعاصي في الدنيا. 65 - {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: الأفواه: جمع فوه، وهو الفم، والختم عليها كناية عن منعها من الكلام، وتوفيقًا بين هذه الآية وبين آية سورة النور {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) أن يوم القيامة مواقف، ففي موقف تخرس الألسنة، وفي آخر تتكلم. أخرج أحمد ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له أنس في قوله - تعالى -: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} قال: "كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مم ضَحِكْتُ"؟ قلنا: لا يا رسول الله، قال: "من مخاطبةِ العبدِ ربَّه يقول: يا رب أَلم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أُجيز عليَّ شاهدًا إلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بُعْدًا لكُنَّ، فعنكن كنت أناضل، وشهادة الأَيدي والأرجل عليهم دلالتها على أفعالها، وظهور آثار معاصيها عليها، وقيل: ذلك على الحقيقة، بأن ينطقها الله فتتكلم وتشهد، وهذا هو ظاهر الآية والحديث. ¬

_ (¬1) الآية، 24.

{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} المفردات: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}: لمحوناها وأزلنا معالمها. {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ}: فسارعوا إلى الطريق. {فَأَنَّى يُبْصِرُون}: فكيف يبصرون. {لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ}: لَغَيَّرنا صوَرتهم في مكانهم الذي يوجدون به. {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}: نرجعه فيه من القوة إلى الضعف ونحو ذلك. التفسير 66 - {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}: هذه الآية والتي بعدها مسوقتان لبيان أن الكافرين في هذه الدنيا تحت سلطان الله، وأنه لو شاءَ عقابهم فيها بطمس الأَعين والمسخ لفعل، لكنه لم يشأ إمهالًا لهم، وتوسيعًا لفرص التوبة. والطمس لغة: إزالة الأَثر، والمراد من طمس أعينهم: إزالة معالمها بحيث لا يكون لها فتحة تبصر منها، ويجوز أن يراد به: إذهاب البصر مع بقاء العين مفتوحة. والمعنى: ولو نشاء طمس أَعين الكافرين في الدنيا بأَن نُزيل معالمها فتصبغ ممسوحة، أَو نحبس ضوءَها فلا تبصر، فابتدروا بعد ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه قبل الطمس ليسلكوه فلا يستطيعون، فكيف يبصرون وقد طمست أَبصارهم، وأزيلت معالمها، أَو حبس

ضوءُها فلا تنكشف لهم المرئيات، لو نشاءُ ذلك لفعلناه، لكننا لم نفعل لنفسح لهم مجال التوبة. 67 - {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}: المراد بالمسخ تغيير الصورة على أي وجه يشاؤه الله - تعالى - مع - إبطال القوى، لقوله بعد ذلك: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُون}. وتحديد المسخ بقلبهم قردة وخَنازير أو حجارة - كما جاء في بعض الآراء - يعتبر تضييقًا للواسع لم يرد به دليل صحيح. والمعنى: ولو نشاء مسخهم بتغيير صورهم على أي وجه مع إبطال قواهم , لفعلنا ذلك فورًا بدون عناءٍ، بحيث يجمدون في أماكنهم، فلا يستطيعون بعد ما فعلناه بههم مضيًّا إلى الأمام إقبالا, ولا يرجعون إلى الخلف إدبارا، لكنه تعالى لم يفعل ذلك لعدم تعلق مشيئته به، توسعة لمجال التوبة أمامهم. والمقصود الأساسي من الآيتين بيان استحقاقهم طمس الأعين والمسخ في الدنيا بسبب كفرهم ونقضهم عهد الله، وعدم اتعاظهم بعقاب من سبقهم، ولولا أنه تعالى شاءَ استبقاءَهم وإمهالهم رحمة بهم - لعلهم يرجعون - لأَنجز فيهم ما يستحقونه، وعبر بقوله: "ولا يرجعون" بدل "ولا رجوعًا" المناسب لقوله (مضيا) مراعاة لفواصل الآيات. 68 - {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}: هذه الآية جاءَت للاستدلال بما تضمنته على قدرته - تعالى - على تنفيذ ما تهددهم به من الطمس والمسخ لو تعلقت بهما مشيئته. واعلم أن من سنن الله - سبحانه - أَنه جعل الإنسان في نشأته ينمو جسميًّا وعقليا نموًّا مطردًا، وتزداد بذلك معالم صورته حسنًا، وقوته اقتدارًا، حتى يصل إلى حد أراده الله لتمام خلقه، فيبدأ كل شيء فيه يتناقص، حتى يذبل بعد تفتح وازدهار، ويضعف بعد قوة واقتدار، ويخمد عقله بعد اتقاد وإضاءة، وتتضاءَل صورته بعد حسن وجمال، فذلك هو تنكيسه الذي استفيد من قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}.

قال الشاعر: من عاش أخلقت الأَيام جِدَّتَهُ ... وخانه ثقتاه السمع والبصر وعن سفيان أن التنكيس يبدأُ من سن الثمانين، والحق أنه يختلف باختلاف تكوين كل إنسان، والعوارض التي تمر عليه حسب مشيئة الله - تعالى - وقد يكون للوراثة بعض التأثير في ذلك. ومعنى الآية: ومن نطل عمره نَقْلِبْه في الخلق والصورة والقوة على عكس ما كان عليه في نشأَته، أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على تنكيس خلق الإنسان فهو قادر على طمس أعينهم ومسخهم في أماكنهم في هذه الدنيا، وأن الله - تعالى - لم يفعل ذلك لعدم تعلق مشيئته به. {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} المفردات: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}: ما يصح الشعر له ولا يصح منه. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ}: ما القرآن إلا تذكير ووعظ وإرشاد. {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}: وكتاب مقروء واضح يُقْرأ للاعتبار. {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ}: ويثبت القول بالعذاب ويجب على الكافرين. التفسير 69 - {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}: لما جاءَهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن زعموا أن محمد شاعر، وأَن القرآن الذي أَيده لله به شعر، فأنزل الله هذه الآية لإبطال ما زعموه من الأَمرين، فإن نفي تعليم الشعر لمحمد يستتبع نفي أن القرآن شعر, وأَن الذي جاء به شاعر.

والمعنى: وما علمنا محمدًا الشعر قبل أن يقول ما قال، حتى يصح زعمكم أن محمدًا شاعر وما جاء به شعر، وليس القرآن من قبيل الشعر لا وزنا ولا غرضًا ولا تكوينًا، فالشعر متكلف مصنوع، ومبني على خيالات وأَغراض واهية، وتصورات ومبالغات مخالفة للواقع، حتى قالوا: أَعذب للشعر أكذبه، وله أَوزان معينة وقواف ثابتة، أما القرآن فليس له أوزان الشعر ولا خيالاته الواهية، ولا أغراضه الهزيلة، ولا يعرف الأكاذيب التي تصور الباطل حقًّا والحق باطلا , ولا يعرف المبالغات التي تجعل من الحبة قبة، ومن القليل كثيرًا، بل نظم فريد لا عهد للبشر بمثله، ولا يستطيعون أن يحاكوه، اشتمل على العقائد النظيفة ذات البراهين العقلية، والأدلة الكونية, كما اشتمل على الأحكام المنظمة لشئون الخلق، المعلمة لحقوق الخالق، الموصلة إلى سعادة الدارين، وعلى الأخلاق العالية، والحكم السديدة، فأَين الثرى من الثريا، وإِذا انتفى أن يكون شعرًا انتفى أن يكون من جاء به شاعرا؛ لأنهم وصفوه بالشاعر من أجله {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي: وما ينبغي الشعر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق به، ولا يستقيم له عقلا؛ لأَنه كما قال ابن الحاجب: لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاءَ به من قبل نفسه، وأنه جاء من تلك القوة. وقال غيره في معنى {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}: وما يصح الشعر له؛ لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن , ولأن من أحسنه المبالغة والانحراف في الوصف , وغالبه يميل إلى الكذب، فلا يليق بمحمد والذي عرف بالصدق منذ صباه. وقد حدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعض عبارات قابلة لأوزان الشعر، مثل قوله يوم حنين: "أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب" وهذا لا يجعل صاحبه شاعرًا؛ لأنه كلام يرد على الخاطر من غير قصد إلى الشعر، كما يحدث لكثير من الناس. {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}: أي: ما القرآن إلا وعظ وتذكير من الله تعالى، لخلقه ليسيروا على المنهج المستقيم، وكتاب سماوي يقرأ ليعمل به، واضح أنه من عند الله - تعالى - بما يشتمل عليه من ألوان الإعجاز، فأين هو ممَّا افترى عليه من الوصف بكونه شعرًا ومن جاءَ به شاعرا.

70 - {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}: المراد بمن كان حيًّا: العاقل الفهم، فإن الغافل كالميت فلا ينفعه إنذاره، والمراد من القول: الوعيد بالعذاب، ومعنى قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أنه يجب ويثبت عليهم لكفرهم ومعنى الآية: لينذر القرآن أو الرسول بالقرآن من كان ذا عقل وفهم فإنه هو الذي ينفعه الإنذار، أما الغافل الجهول الذي يشبه الميت فهو بمعزل عن الاستفادة بإنذاره، ويثبت القول المتضمن للوعيد، ويجب على هؤلاء الغافلين المصرين على الكفر لعدم انتفاعهم بالإنذار والتخويف. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)} المفردات: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}: مما خلقنا ولم يخلقه غيرنا. {أَنْعَامًا}: هي الأزواج الثمانية: من الإبل اثنين الذكر والأُنثى، ومن كل من البقر والغنم والمعز اثنين كذلك. {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}: جعلناها مذللة منقادة لهم. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: فمنها مركوبهم، فعول بمعنى مفعول كحلوب بمعنى محلوب، وهو مما لا يقاس. التفسير 71 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُون}: هذه الآية استئناف مسوق لإنكار عدم اتعاظهم بما يرون من خلق الله للأنعام، وتسخيرها وخيراتها لهم، وبيان عدم شكرهم له على ذلك بالإيمان والعمل الصالح، مع التعجب من

هذا الكفر مع قيام الأَدلة على وجوب الإيمان, فالهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف , والتقدير: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يقينيًّا مشابهًا للرؤية البصرية. والمقصود من قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} مما حدثناه بذاتنا من غير مدخل فيه لغيرنا لا خلقا ولا كسبا، فالكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، فليس لله أيد على الحقيقة قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتعبير بذلك للإيذان بعظم خلقها ومنافعها، فإن صفة العظيم عظيمة، ومعنى الآية: أَغفلوا ولم يعلموا علمًا يشبه الرؤية بالبصر أن الله خلق لأجلهم مما أحدثه بنفسه بغير شريك أنعامًا ذات خلق بديع، ومنظر جميل، ومنافع عديدة يحتاجون إليها فهم لها مالكون بتمليكنا، مختصون بها لا يزاحمهم فيها مزاحم. ويجوز أن يكون المعنى: فهم للتصرف فيها مالكون، يسخرونها ويضبطونها وينتفعون بلحومها وألبانها وأصوافها وأوبارها، وهذا الوجه يناسب معنى الآيتين التاليتين فكأَنهما شرح لملكيتهم لها، والاقتصار على الأنعام لعظم منافعها خصوصًا للعرب الذين كانوا أول من خوطبوا بالدعوة. 72 - {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)}: أي: وجعلناها لهم مذللة منقادة لما يريدونه منها، فبعضها ركوبهم - أي: مركوبهم - كالإبل، وبعضها يأكلون منها، والأكل منها عام، يتناول الأكل من ذات لحومها، والأكل من أثمانها وأثمان ألبانها وأوبارها وأشعارها وجلودها إذا باعوها، كما يقال: فلان يأكل من كسب يده. وإنما قال: {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}، ولم يقل: ومنها مأكولهم على نحو سابقتها؛ ليفيد الاستمرار التجددي الذي يستفاد من الفعل المضارع، فإن الأكل يتجدد على الدوام، بخلاف الركوب فإنه في بعض الأحيان، ولأن بعضها هو الذي يركب، بخلاف الأكل فإنه عام لها, ولذا غير الأُسلوب، وقيل: إنه غُيِّر رعاية للفاصلة.

73 - {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}: ولهم في الأَنعام بقسميها منافع غير الركوب والأكل، فمن جلودها تصنع الحقائب والنعال والسروج وسائر المصالح المرتبطة بها , ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها يتخذ الناس اللباس والفراش والأَثاث وسائر المتاع، ومن عظامها يتخذ ما يُكَرَّر به الدبس ليكون سكرا أبيض، وعلاج لين العظام بما يستخلص منها، ومن ألبانها يشربون إلى غير ذلك من المنافع، أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون الله - تعالى - الذي أَنعم عليهم بها، بأَن يخصوه وحده بالعبادة؟. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)} المفردات: {مِنْ دُونِ اللَّهِ}: من غير الله. {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}: جند معدون لحفظهم، أو محضرون في النار. التفسير 74 - {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}: أي: واتخذ أُولئك المشركون من غير الله القادر المنعم آلهة يعبدونها معه - سبحانه - راجين أن ينصروا بها في دنياهم بإنقاذهم من الشدائد، وفي أخراهم بالشفاعة لهم عند الله، وهذا خطأٌ بيِّن، فإن من لا يستطيع دفع المكروه عن نفسه، لا يستطيع دفعه عن سواه، ولذا قال - سبحانه - مستأنفًا ردًّا عليهم: 75 - {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}: أي: لا تقدر آلهة المشركين علي نصرهم , والحال أن هؤلاء المشركين جند مهيأون لحفظها ووقايتها، فكيف يعبدونها ويستنصرون بها؟!.

ويجوز أَن يكون المعنى: والآلهة المزعومة جند محضرون لتعذيب المشركين يوم الدين، إذ تكون وقودا للنار التي يعذبون بها، أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارًا لعجزهم، وإقناطا للمشركين من شفاعتهم، وكلاهما معنى جيد. والتعبير عن الآلهة في المعنيين الأخيرين بالجند، وكذا ذكر اللام الدالة على المنفعة في "لهم" للتهكم بالمشركين الذين يستنصرون بهم، فإنهم وقود لعذابهم أو شهود عليهم، وكلاهما مباين لما أَملوه فيهم من أَن يكونوا جنود نصرة ومنفعة لهم. 76 - {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}: هذه الآية لتسلية الرسول وتسرية الحزن عنه بسبب إشراكهم باللهِ، وقولهم على الله وعلى رسوله ما لا يليق، وقد ختمت بإنذارهم على مقالتهم. ومعنى الآية: إذا كان حالهم مع ربهم - سبحانه - ما علمته يا محمد من الإشراك، فلا تحزن لقولهم في الله بالإلحاد، وفيك بالتكذيب والتهجين، فإننا نعلم ما يسرون وما يظهرون من الجرائم فنجازيهم عليها حتى لا يستوي المحسن والمسيءُ، والعلم بما ذكر مجاز أو كناية عن الجزاء عليه، فالجزاءُ على الذنب من مقتضيات علم العادل الحكيم. {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}

المفردات: {مِنْ نُطْفَةٍ}: من منِيٍّ، أُطلقت عليه لأنه ينطف، أي: يصب في الرحم، من النطف وهو الصب. {خَصِيمٌ مُبِينٌ}: شديد الخصومة واضحها. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} أي: جعل لنا مثلًا ونظيرًا من الخلق. {وَهِيَ رَمِيمٌ}: وهي بالنية أشد البلى، وهي فعيل بمعنى فاعل من رمَّ إذا بلى، ولم يؤنث مع المؤنث لأنه أُلحق بالأسماء الجامدة لغلبة استعماله دون موصوف، وقيل: هو اسم مفعول من رممته بمعنى أبليته، وهو إذا كان كذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث كقتيل. التفسير 77 - {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: بعد ما بين بطلان شركهم، وأقام الدليل على أنه - تعالى - هو المستحق للعبادة وحده، أتبع ذلك إقامة البرهان على أَن البعث حق ردا على إنكارهم له. والهمزة في {أَوَلَمْ} للإنكار والتعجب، والواو لعطف ما بعدها على جملة مقدرة أي: أغفل ولم ير الإنسان. والمعنى: أغفل الإنسان المنكر للبعث، ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة حقيرة ليس بينها وبين خلقه العظيم مناسبة تذكر، فإذا هو شديد الخصومة، واضح الجدال، إذ ينكر البعث مع أنه في قضايا العقل أيسر من الابتداء، وإن كان كلاهما في اليسر عند الله سواءٌ. واعلم أن الإنسان مخلوق من منيّ الرجل، وماء المرأة جميعًا، فإن للمرأة ماءً كماء الرجل مع فارق سنذكره بعده، سألت امرأَة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ " قال: "نعم إذا رأت الماء". وفي ماءِ الرجل حيوانات منوية لا تحصى لكثرتها, ولا ترى إلاَّ بالمجهر لصغرها، وفي ماء المرأة بويضة وحيدة تفرزها كل دورة طهر بعد الحيض، فإذا التقى الرجل بالمرأة لقاء جنسيًّا

في طهرها، وأخرجا ماءَهما عند اللقاء، وأراد الله الحمل، لقحت بويضة المرأَة بحيوان من مني الرجل في قناة واصلة من مبيضها إلى الرحم، يسميها الطب الحديث "القناة الفالوبية" نسبة إلى مكتشفها، ثم تنحدر البويضة بعد تلقيحها بأَربعة أيام إلى الرحم بعد انقسامها إلى عديد من الخلايا، فتستقر في قرار مكين من جدار الرحم حيث تتطور إلى إنسان سوي، فتبارك الله أحسن الخالقين. (انظر تفصيل ذلك في مثله في صدر سورتي الحج والمؤمنون). وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس قال: "جاءَ العاص بن وائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل، ففتَّه بيده فقال: يا محمد أيجمع الله هذا بعد ما رمَّ؟ قال: نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يتحييك ثم يدخلك نار جهنم"، فنزلت الآيات: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ .... } إلى آخر السورة. والقصة متفقة في جميع الروايات , وإن اختلفت فيمن خاصم الرسول، فعن مجاهد، والسدي, وعكرمة وغيرهم أنه أُبيّ بن خلف الذي قتله الرسول في أُحد بحربة، وقيل: هو أبو جهل، وقيل: غيرهما. 78 - {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}: هذه الآية معطوفة على الجملة المنفية في الآية قبلها، أي: أولم ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة، ففاجأ بالخصومة وضرب لنا مثلًا. والمعنى: وجعل لله نظيرا من الخلق، إذ قاس قدرته على قدرتهم، فنفى قدرته على أن يبعث الخلائق، ونسى خلق الله له من نطفة، إذ قال - وهو يضرب المثل لله بطريق الإنكار والنفي العام -: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}؟ أي: شديدة البلى، يريد أنه لا يستطيع أحد أن يحييها، فأدرج المولى مع الخلائق في هذا النفي العام، وبهذا سواه بالخلائق في العجز عن إعادة الحياة للعظم الرميم وجعله مثلهم، فهذا هو معنى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا}. ومن العلماء من فسر المثل بالأمر الغريب، والمعنى عليه: وأورد في شأننا أمرًا غريبًا يشبه المثل في غرابته، وهو إنكار إحيائنا للعظم الرميم، والمعنى السابق أظهر.

79 - {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ... } الآية: أمر من الله لرسوله أن يجيب على سؤال هذا المعاند، مرشدًا إلى سبيل معرفة الحق. والمعنى: قل له أيها الرسول: يحيي هذه العظام بعد أن تبلى أشد البلى - يحييها - الذي أبدعها أول مرة ورباها، وذلك بأن يحيي الجسد كله والعظام في جملته، فتجرى فيها الحياة لجريانها فيه، وتصبح صلبة مترابطة، بعد أن كانت هشة متفتتة، وذلك أيسر في القياس من بدء خلقها، فذلك من القياس الأولوي، وكان الفارابي يقول: وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله - تعالى -: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (وهو الله تعالى، أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ شيئًا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيًا، فيلزم أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيًا). إ هـ. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}: وهو بكل مخلوق واسع العلم، ولهذا يعلم من كل إنسان صفاته التي كان عليها في الدنيا، وتفاصيل أجزائه وأوضاعها بعضها من بعض، فيعيد كل ذلك على النمط الذي كان عليه، على حد قوله - تعالى -: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬1). 80 - {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ}: المراد من الشجر الأخضر على المشهور نوعان: (أحدهما) المرخُ، (والثاني) العَفَار (بفتح العين)، وإخراج النار منهما على ما قاله العلامة أبو السعود: بأن تقطع منهما عُصيَّتَين مثل السواكين، وهما خضراوان , يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أُنثى، فتقدح النار بإذن الله - تعالى - وقيل: المراد من الشجر العموم، لصلاحية كل الأشجار للاتقاد، وفي المثَل: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثرا من النار، من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير، وإرادة المرخ والعفار أَنسب بالمقام، ويقول صاحب المختار: واستمجد المرخ والعفار، أي: استكثرا منها كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما، ويقال: لأنهما يسرعان الوَرْىَ، فشُبِّهَا بمن يُكْثِر العطاء طلبًا للمجد. وأجاز بعضهم - جمعًا بين الرأيين - أن يكون المعنى: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا بالفعل بقدح المرخ بالعفار، فإذا أنتم من الشجر الأخضر المذكور توقدون النار في سواه. ¬

_ (¬1) الأعراف، من الآية: 29.

ووجه الاستدلال على البعث بذلك: أن من قدر على إخراج النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء المضاد لها، فهو أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضا طريًّا فبلى ويبس. {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} المفردات: {بَلَى}: حرف يجاب به بعد النفي لتحويل النفي إلى إثبات. {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} اليد: كناية عن القدرة، والملكوت مبالغة في الملك، كالرحموت في الرحمة، والرهبوت في الرهبة، ومعناه: الملك التام. التفسير 81 - {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}: هذه الآية استئناف من جهة الله - تعالى - لتأييد ما كلف الرسول بتبليغه، وهو: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} ... الآيتين. والهمزة للإنكار والنفي, والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والمعنى: أليس الذي أنشأها أول مرة، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا وليس الذي خلق السموات والأرض - مع كبرهما وعظم شأنهما - بقادر على أن يخلقهم ومثلهم ويبعثهم من قبورهم مع صغرهم، وحقارة شأنه، بل هو قادر وهو الخلاق الكثير الخلق , العليم الواسع العلم، فلا يعجز عن بعثهم.

82 - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: ذهب معظم السلف إلى أن الله حين يريد أن يخلق شيئًا يصدر في شأنه أمرًا كلاميا هو قوله: {كُنْ} حسب النص {فَيَكُونُ}. والمعنى على هذا الرأي: ما شأن الله تعالى، أو ما أمره إذا أراد إيجاد شيء إلا أن يقول له: كُن فيكون ويحدث استجابة لأمر الله. وذهب بعض المحققين إلى أنه لا قول أصلًا، المراد بما جاء في الآية تمثيل قدرة الله في تحقيق مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع، في سرعة حصول المراد من غير امتناع ولا توقف، ورجح هذا بأن الأمر الكلامي لا يوجه إلى معدوم، بل إلى موجود. والمعنى على هذا: ما شأْنه - تعالى - إذا أَراد إيجاد شيء إلاَّ أَن ينفذه فورا في الحين الذي حدده له. 83 - {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: المعنى: إذا كان قد تحقق ما تقدم بيانه من عظيم قدرة الله - تعالى - وأنه إذا أراد شيئًا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} فتنزيهًا للذي في قدرته الملك التام لكل شيء عمّا نسبوه إليه من عدم قدرته على بعث الخلائق، وإليه ترجعون جميعًا - مؤمنين وكافرين - لا إلى غيره، فيثيب المؤمنين، ويعاقب المنكرين. واعلم أن الرجوع يوم القيامة سيكون للأرواح والأَجسام على الوجه الذي كانت عليه في الدنيا، ليكون الحساب والجزاءُ لهما جميعًا. فإن قيل: إنَّ الأجساد تلاشت وتداخلت في تكوين غيرها بعد أن عادت إلى عناصرها الأُولى من تراب وهواءٍ وماءٍ، فقد دخلت في تكوين النبات والحيوان والإنسان، فكيف يمكن إرجاع الأَجساد بعد أن تداخلت في تكوين غيرها. فالجواب: أن المهم في البعث هو الروح، فهو المسئول الأول عن الأَعمال، وهو الذي يشعر بالنعيم والعذاب، ولولاه لما كان تكليف ولا جزاءٌ، والله تعالى يخلق عند البعث جسدًا

لكل روح يشبه صاحبه تمام الشبه، وينشئه من العدم أو من الكون على مثاله تمامًا، ليمكن التمايز بين الناس حتى يستطيع أصحاب الظلامات تمييز غرمائهم عن غيرهم، ولا يقال: إن الجسد الذي ينال الجزاءَ على هذا ليس هو الذي أطاع أَو عصى، بل غيره، لأَن الجزاءَ في الحقيقة للروح لا للجسد، والروح هو بعينه لم يتغير. وقيل: يجمع الله الأَجزاء المتفرقة، ويعيدها كما كانت قبل الموت، وينفخ فيها الروح، والنفس تميل إلى الرأْي الأول، لما قلناه من تداخل عناصره بعد تحلله في مخلوقات أخرى ومكلفين آخرين، ويشير إلى الرأيين المذكورين صاحب الجوهرة بقوله: وقل يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عدم وقيل عن تفريق

سورة الصافات

سورة الصافات مكية وآيها ثنتان وثمانون ومائة آية، وقد نزلت بعد الأنعام مناسبتها لما قبلها تناسب الصافات (يس) التي قبلها في أنها مثلها في الكلام على أحوال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة، والمبدأ والمعاد، وإثبات إمكان البعث، ووجوب توحيد الله ونبذ الشركاء إلى غير ذلك من المقاصد المتجانسة، فلذلك كانت تالية لها. خلاصة ما جاء فيها أقسم الله في صدرها بمخلوقات عظيمة وصفها بأَنها صافات وزاجرات وتاليات للذكر، على أنه - تعالى - واحد، وأنه رب المشارق والمغارب، وبين جمال السماء وزينتها، وأنها محفوظة من الشياطين، وأنهم يرجمون بالشهب إن حاولوا التسمع إلى الملأ الأعلى - وهم الملائكة - ثم أثبت إمكان البعث بقدرته - تعالى - فإنه خلق الخلق كله، فلا تصعب عليه إعادتهم، وذكر أنهم سيعودون بأَيسر سبيل، وذلك بأن ينفخ في الصور نفخة واحدة فإذا هم قيام ينظرون، ثم يحشرون ويسأَلون، وأن بعضهم يلقي على البعض الآخر تهمة التسبب في كفرهم، وأَن ذلك لا ينفعهم، فهم يومئذ في العذاب مشتركون؛ لأنهم {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ , وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوآلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}: وأن عباد الله على نقيضهم، فهم في جنات النعيم، على سرر متقابلين، يطوف عليهم الولدان بكئوس الشراب: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}. ثم قارنت بين هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون، وبين العذاب الذي يشقى به الكافرون فهم في نار جهنم، وإذا طعموا يطعمون من شجر الزقوم، ويشربون من الحميم، ومرجعهم إلى الجحيم، ثم ذكرت بعض القصص للأُمم السابقة وما جره كفرهم عليهم من العقاب في الدنيا، ثم كذبت المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله، وأن بينه وبين الجنة نسبا ثم بينت أنه - تعالى - سبقت كلمته لعباده المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جنده لهم الغالبون، وأوصت الرسول بالإعراض عنهم وعن سفاهتهم، وختمت بتنزيه الله - تعالى - عمَّا يصفونه به من أَن له شريكًا وأَن له بنات، وبالسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} المفردات:. {وَالصَّافَّاتِ} أي: وحق الملائكة الصافين أنفسهم، وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه. {فَالزَّاجِرَاتِ}: وصف ثان للملائكة المقسم بهم، مأخوذ من الزجر وهو المنع أو الحث أو السَّوْق. {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}: وصف ثالث لهم بأَنهم يتلون ذكر الله. {الْمَشَارِقِ} هي: مشارق الشمس والكواكب على امتداد خط المشرق. التفسير 1 - 4 - {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ}: الصافات والزاجرات والتاليات أوصاف لم يذكر القرآن الكريم معها موصوفها، وقد أقسم الله - تعالى - بها على أن إلهنا واحد، وإذا كان المقسم هو الله، والمقسم عليه وحدانيته، فلا بد أن يكون الموصوف المقسم بصفاته عظيما. لهذا اختلف المفسرون في الموصوف بهذه الصفات، فقيل: هم الملائكة، فهم يصفون أنفسهم حسب مراتبهم ومقاماتهم في طاعة الله، وانتظار لأمره، وقد جاءَ وصفهم بذلك في قوله - تعالى -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الفجر، الآية: 22.

والزجر يطلق لغة على المنع والنهي والحث والسَّوْق، ولا يكون الزاجر إلاَّ متسلطًا، وليس بلازم أَن يصحب الزجر صياح كما في أصل معناه، ووصف الملائكة به لزجرهم الأجرام العلوية والسفلية على وجه يناسب المزجور، من سوق كما في سوق السحاب إلى مواقع المطر، أو حث كما في أمر رئيسهم لمرءُوسهم، أو نهي كما في زجر العباد عن المعاصي بالتخويف من عواقبها، أو منع كما في كف الشياطين عن الإغواء واستراق السمع، وكما أن الملائكة صافات وزاجرات، فهم يتلون ذكر الله فيما بينهم في جملة ما يذكرونه من معارف وتلاوات، يعلمها الله، كما يتلونه عندما يبلغون الأنبياء وحيه سبحانه. وحمل هذه الأوصاف على الملائكة قال به ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة، وغيرهم. والملائكة ليسوا إناثًا لقوله - تعالى -: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (¬1) ووصفهم هنا بأوصاف الإناث مراعاة لتاء التأْنيث في لفظها؛ ولأن الجمع يجوز تأنيث وصفه أو ضميره على معنى الجماعة. وقيل: إنه - تعالى - أقسم بطوائف الأجرام السماوية المرئية كالصفوف المرصوصة، وبالأرواح الزاجرات، أي: السائقات لها في مداراتها، حيث ترعاها وتدبر أمرها، والمراد بها الملائكة الموكلة بها، وبالجواهر القدسية الذين يَتْلون ذكر الله، وهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، والمراد بها الملائكة الكروبيون، وقيلي: أقسم بنفوس العلماء التي لها هذه الصفات الثلاثة، وقيل: بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد، والزاجرين الخيل، أو العدو، التالين لذكر الله لا يشغلهم العدو عنه. ونحن نقول: لا مانع من إرادة من يتصف بهذه الصفات في طاعة الله ممن ذكروا ومن غيرهم، تعظيمًا لشأنهم، والعطف إما لتغاير الذات أو لتغاير الصفات، وإن اتحدت الذات وكان العطف بالفاء للإيذان بالترتيب الوجودي أو الشرفي. وقد يقال: ما فائدة القسم بأن الإله واحد عند المنكرين، والجواب: أن القسم لتعظيم المقسم به، وتأكيد المقسم عليه - كما هو المعروف عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم - ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 19.

أما تحقيق المقسم عليه فقد تكفل به قوله - تعالى - {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} كما سنبينه بعد. 5 - {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)}: أفادت هذه الآية أنه - تعالى - خالق السموات والأرض وما بينهما ورب مشارق الكواكب، وهذه دعوى تحمل في أعطافها الدليل عليها، فإن وجود السموات والأرض في الفضاء محفوظة من التلف مصونة من العيب، مع أداء كل كوكب ونجم وظيفته نحو غيره من الكواكب ونحو نفسه، مع عظمتها في نفسها، وعظمتها في أغراضها، وضرورة كل ذرة فيها لتحقيق أغراضها، وانطواء كل ذرة على أسرار عظيمة، كما كشفت عنه الكشوف المعاصرة، كل ذلك وغيره من أسرار السموات والأرض، يدل أوضح الدلالة على وحدة تدبيرها، ووحدة مدبرها ومنشئها، إذ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} والمشركون يقرون بذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وحيث انتهى التفكير في هذا الكون العجيب إلى أن منشئه واحد، ومدبره والقائم على حفظه وأداءِ وظائفه واحد، فإن ذلك يستتبع أن إلهنا الذي يجب أن نتجه بعبادتنا إليه واحد، وهذا هو جواب القسم السابق: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)}. وكثيرًا ما تتعرض الآيات القرآنية إلى ما بين إلى السموات والأرض كشاهد على وجود الله وربوبيته ووحدانيته كما هنا، ولا بد أنه شيء عظيم حتى يجعل القرآن الكريم وهذه الأهمية في عديد من الآيات، وقد كشف الناس منه الأشعة الكونية والجاذبية، والأَجرام الكثيرة الدائرة بسرعة رهيبة في الفضاء، والشهب والسحب والرعد والبرق والأمطار والرياح، وغير ذلك مما عرف، أَمَّا ما لم يعرف فلا ريب في أنه شيء عظيم، فسبحان من خلق ودبر، واحتجب عن العيون ذاته، وأظهرته آياته.

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} المفردات: {السَّمَاءَ الدُّنْيَا}: السماء القربى. {شَيْطَانٍ مَارِدٍ}: خارج عن الطاعة. {دُحُورًا} الدحور: الطرد. {عَذَابٌ وَاصِبٌ}: عذاب دائم أو شديد. {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ}: إلاَّ من اختلس من كلام الملائكة اختلاسة. {فَأَتْبَعَهُ} أي: تبعه , فهو رباعي بمعنى الثلاثي ويتعدى مثله. {شِهَابٌ}: هو ما يرى مضيئًا مارقًا بسرعة في الجو كأنه كوكب ساقط. {ثَاقِبٌ}: مضىء. التفسير 6 - {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}: السماء لغة: كل ما علاك، ولهذا تطلق على السحاب كما في قوله - تعالى -: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} (¬1) والمراد هنا ما جعل الله الكواكب زينة لها , ولا بد أن تكون شيئًا آخر غير الكواكب، فإن الزينة شيء وما تزينه شيء آخر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سووة (ق) من الآية: 9.

كان يستفتح ليلة الإسراء والمعراج، وكان استفتاحه على السموات لا على الكواكب، ولأن الكواكب لا حصر لها، وتتجاوز الأرقام الحسابية التي عرفها البشر، كما أن طبقاتها لا حصر لها أيضًا، فهي مجاميع سُدُمية (¬1)، لا يبلغها الحساب، وطبقاتها لا يبلغها العدد، وليست سبع طبقات، والله تعالى يقول: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (¬2). والقبة الزرقاءُ التي تراها العيون ليست هي السماء التي جعلت الكواكب زينة لها، فهي الغلاف الجوي المحيط بالأرض، فإذا تجاوزه فلا يراه، وهذا أمر تحقق علميًّا وكشفيًا. وعلى هذا تكون السموات السبع التي جعلت الكواكب زينة لها غير مرئية ولا معروفة لنا, ولكننا نرى الكواكب التي جعلها الله زينة للسماء الدنيا أي: القربى من أهل الأرض، وهي أول السموات السبع، فسبحان من لا يعلم سواه عظمته وعظمة الكون الذي أبدعه. وهذا التفسير هو الذي يساعد عليه ظاهر النص، ومن العلماء من جعل السموات هي نفس الكواكب وما حولها من أجوائها والأشعة الكونية، وقد انقسموا قسمين: فمنهم من يقول: إنها سبع طبقات كوكبية فعلًا، ومنهم من يقول: إن العدد لا مفهوم له سوى التكثير، فإن العرب تستعمل عدد السبع مفردًا أو جمعًا، كالسبعين لغرض التكثير، ويقولون: إنها طبقات كثيرة لا تقف عند عدد السبع. ونحن نقول لهؤلاء: إذا كانت السموات مجموعات من طبقات الكواكب، فلماذا جعلت الكواكب زينة للسماء الدنيا وحدها كما في هذه الآية وفي آية سورة الملك، وكيف تكون زينة لنفسها، والزينة شيء وما تزينه شيء آخر، وكيف يستفتح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج على كواكب، ثم نقول: علينا أن نؤمن بأن لله سموات سبعًا، وأن الكواكب زينة للسماء الدنيا منها، ونترك العلم بحقيقة ذلك إلى الخالق - جل وعلا -. والكواكب هي تلك الأجرام المتلأْلئة التي نشاهدها في الفضاء ليلًا، ومنها القمر أقربها إلى الأرض، وقد وصل الإنسان في عصرنا هذا إلى القمر داخل أجهزة علمية، وقد حصل ¬

_ (¬1) سدم: جمع سديم وهو مجموعة من الكواكب لا حصر لها. (¬2) سورة الملك، من الآية: 3.

العلماء على معلومات عنه أكثر وضوحا من ذي قبل، ومنها أن عناصر تكوينه تشابه عناصر تكوين الأرض، وأن جوه لا يصلح لحياة الإنسان فوقه. 7 - {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)}: وحفظنا السماءَ حفظًا بتلك الكواكب من كل عفريت من الجن شرير متمرد خارج عن الطاعة، حيث تنزل منها الشهب فتحرق من يحاول استراق السمع في جو السماء من أولئك الشياطين التمردين. 8 - {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}: الملأُ الأعلى: الملائكة أو رؤساؤهم، والمعنى: لا يتمكن مردة الشياطين أن يتسمعوا، ويصغوا إلى الملائكة وهم يتحدثون فيما عهد الله به إليهم من شئون الخلائق، فقد حفظت السماء منهم بشهب أصلها من الكواكب، فإن حاولوا الاستماع يقذفون بها من كل جانب من جوانب السماء. 9 - {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}: الدُّحُور: الطرد، والواصب: الدائم أو الشديد كما تقدم في المفردات. والمعنى: ويقذف أُولئك الشياطين بالشهب من كل جانب لأجل دحرهم عن مجتمع الملائكة في جو السماء، وهم يتحدثون فيما عهد الله به إليهم. ولأُولئك الشياطين عذابٌ شديد دائم في الآخرة، غير عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا. 10 - {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}: أي: لا يتسمع أولئك الشياطين إلى الملأ الأعلى، إلاَّ من اختلس منهم كلام الملائكة مسارقة، فتبعه شهاب ثاقب، أي: شعلة قوية الضوء والحرارة فتحرقه. والشهاب: واحد الشهب، وهي أحجار صغيرة منفصلة عن الكواكب، سابحة في فضاء الله - تعالى - فإذا وصلت في دورانها إلى جاذبية الأرض جذبتها، فمرت بسرعة متجهة

نحوها، فمن سرعتها تحترق بقوة احتكاكها المتتابع السريع بالهواء، ويكون لاحتراقها لمعان مستطيل. ثاقب: أي ساطع. {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} المفردات: {فَاسْتَفْتِهِمْ}: فاستخبرهم. {طِينٍ لَازِبٍ}: طين لاصق. {يَسْتَسْخِرُونَ}: يبالغون في السخرية. التفسير 11 - {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ}: المعنى: فاستخبر يا محمَّد مشركي مكة المنكرين للبعث، أهم أصعب خلقًا وإيجادًا، أو أقوى خلقة وبنيانًا، أم من خلقناه من السموات وما فيها من الملائكة والكواكب وروائع العجائب، والأرض وما فيها من جبال وتلال، ونجاد ووهاد، وزروع نضرة، وزهور عطرة، وجماد وحيوان، وماء وحيتان، وما بين الأرض والسماء من الرياح اللواقح، والشهب الثواقب، وغير ذلك من عجائب مبدعاته، وروائع مخلوقاته، إنا خلقنا بني آدم من طين لاصق بعضه ببعض، في ضمن خلق أبيهم آدم، أو خلقناهم أنفسهم من الطين، فإن أصلهم النطفة، والنطفة أصلها غذاء مخلوق من الطين، فهم باعتبار هذا التسلسل مخلوقون من الطين.

وإذا كانوا مخلوقين من الطين على أي وجه، فكيف يستبعدون بعثهم من التراب، إذ قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (¬1) مع أنهم خلقوا في أول أمرهم من تراب ممزوج بالماء فصار طينًا. 12 - {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)}: بل: هنا لابتداء كلام آخر، كما قاله صاحب المغني في قوله - تعالى -: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (¬2) وليست للعطف، نقله الخطيب معلقًا على البيضاوي، والخطاب للرسول وكل من يدافع عن الحق. والمعنى: بل عجبت يا منصف الحق من قدرة الله على ما خلقه من الكائنات العلوية أو السفلية، ومع هذا ينكر الكافرون البعث، ويسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث. 13 - {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)}: وإذا وعظوا ليؤمنوا بالبعث لا يتعظون، لقساوة قلوبهم، وقلة فطنتهم. 14 - {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}: السين والتاء في "يستسخرون" للمبالغة، والمعنى: وإذا شاهدوا معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، يبالغون في السخرية، ويجوز أن تكون السين والتاء للطلب، أي: يطلب بعضهم من بعض أَن يسخروا. 15 - {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أي: وقالوا في شأن الآية التي رأوها: ما هذا الذي نراه إلاَّ سحر واضح. 16، 17 - {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}: أي: أنُبعث نحن وآباؤنا الأولون إذا متنا جميعًا، وتحولت أجسادنا إلى تراب وعظام؟ يقولون ذلك منكرين نافين للبعث، والهمزة في "أئذا" وفي "أئنا" للإنكار والنفي. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون من الآية: 82. (¬2) سورة الأعلى، الآية: 6.

{قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)} المفردات: {دَاخِرُونَ}: صاغرون. {زَجْرَةٌ}: صَيْحَةً. {يَنْظُرُونَ} يبصرون، أو ينتظرون. {يَا وَيْلَنَا}: يا هلاكنا. {يَوْمُ الدِّينِ}: يوم الجزاء، تقول: دِنْتُه، أي: جازيته. {يَوْمُ الْفَصْلِ}: يوم القضاء بعد البعث. التفسير 18 - {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ}: قل - يا محمَّد لمنكري البعث -: نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون الذين ماتوا قبلكم، والحال أنكم جميعًا صاغرون أذلاء، غير معجزين لقدرة الله - تعالى -. وقد اكتفى هنا في إجابة منكري البعث بذلك من غير إقامة الدليل على إمكانه لأنه سبق قريبا, ولأنه تكرر في القرآن في مواضع شتى. 19 - {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ}: الزجرة: الصيحة، من: زجر غنمه: إذا صاح بها. والمعنى: لا تستصعبوا البعث من القبور، فما هو إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية في الصور فهذا هم قائمون من مراقدهم أحياءً ينظرون بأَبصارهم، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

20، 21 - {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}: الدِّين: الجزاء، تقول: أدانه القاضي، أي: جازاه، والفصل: القضاء والحكم، ففيه فصل، أي: فرق بين المحق والمبطل. والمعنى: وقال المنكرون للبعث حين بعثوا وتذكروا ما كانت الرسل تقول لهم في الدنيا عن هذا اليوم: هذا يوم الجزاء من الله لعباده، ويقول بعضهم لبعض: هذا يوم القضاء والحكم في نزاعنا مع رسل الله في شأن البعث وغيره مما جاءونا به، هذا هو اليوم الذي كنتم به تكذبون، فما أَشقانا فيه وقد كذبناهم، ويجوز أن يكون قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} حكايته لكلام الملائكة للمنكرين للبعث لما بعثوا وقالوا: {يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} وليس من كلام بعض المنكرين لبعض. وكان أبو حاتم يقف على قولهم: "يا ويلنا"، ويجعل ما بعده من كلام الملائكة جوابا للمنكرين وتوبيخا لهم وإيذانا بأن وَلْوَلَتَهم وتندمهم لا ينفعانهم. {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)} المفردات: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: اجمعوا الظالمين وأمثالهم من أصحاب المعاصي.

{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ}: من الأصنام والأوثان، فإنها تحشر معهم. {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي: فدلوهم ووجهوهم إلى طريق النار. {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} أي: لماذا لا ينصر بعضكم بعضا. {مُسْتَسْلِمُونَ}: منقادون، أو قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز، وأصل الاستسلام: طلب السلامة، والانقياد تابع لذلك عرفا. التفسير 22، 23 - {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}: خطاب من الله للملائكة، أو من الملائكة بعضهم لبعض. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - تقول الملائكة للزبانية: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ... } الآية ويراد بالظلم: الشرك؛ قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}: وهو أمر بحشر الظالمين يوم البعث من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب، وقيل: من الموقف إلى الجحيم، يحشرون هم وأمثالهم ونظراؤهم من الكفار، فيحشر الكافر مع الكافر. قاله قتادة وأبو العالية. وقال عمر بن الخطاب في معنى الآية: أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم. يحشر الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقيل في رواية عن ابن عباس: وأزواجهم أي: نساؤُهم الموافقات على الكفر، ورجَّحه الرُّمَّاني، وقيل: مع قرنائهم من الشياطين، وروى عن الضحاك وهو قول مقاتل - أيضًا -: فيحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة، كما يحشرون مع ما يعبدون من دون الله من الأصنام والأوثان ونحوها مما لا يعقل؛ لأن الحديث عن المشركين عبدة ذلك. وحشرهم معها لزيادة التحسير والتخجيل. {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي: فعرفوهم طريق النار، ودلوهم عليه، والجحيم: طبقة من طبقاتها شديدة الاشتعال. والتعبير بالهداية للتهكم.

24 - {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}: أي: احبسوهم في الموقف إنهم مسئولون عن شركهم وخطاياهم، وهذا الحبس يكون للحساب قبل السوق إلى الجحيم وبعده يساقون إلى النار، ونص الآية يؤذن لأن هذا الموقف ليس للعفو عنهم ولا ليستريحوا بتأخير العذاب، بل ليسألوا عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم. وظاهر الآية: أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى طريق الجحيم، بمعنى تعريفهم إياه، ودلالتهم عليه، لا بمعنى إدخالهم فيه. 25 - {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}: المعنى: يقال لهم - على جهة التقريع والتوبيخ -: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب الله كما كنتم تزعمون في الدنيا. وقيل: هذه الآية إشارة إلى قول أَبي جهل يوم بدر: نحن جميع منتصر. والسؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم، والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كما قيل: وتأخير السؤال إلى هذا الوقت , لأنه وقت تنجيز العذاب , وشدة الحاجة إلى النصرة، وحالة انقطاع الرَّجاء عنها بالكلية، والتوبيخ والتقريع حينئذ أشد وقعا وتأثيرا. والخطاب لهم ولآلهتهم أوْ لهم فحسب. 26 - {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي: منقادون، وقال قتادة: مستسلمون لعذاب الله - عَزَّ وَجَلَّ - بمعنى أن كلهم مستسلم غير منتصر.

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ (35)} المفردات: {يَتَسَاءَلُونَ}: يتخاصمون بطريق الجدال. {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي: تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، أو تأْتوننا من جهة الخير فتنهوننا عنه، وتمنعوننا منه - قاله قتادة. {مِنْ سُلْطَانٍ} أي: من حجة في ترك الحق. {قَوْمًا طَاغِينَ} أي: مجاوزين الحد في الضلال. {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} أي: زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر. {غَاوِينَ}: بالوسوسة لكم. {بِالْمُجْرِمِينَ}: بالمشركين. التفسير 27 - {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}: المعنى: وأَقبل الرؤساء المُضِلُّون والأتباع المُضَلُّون. أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم

من الجن - أقبلوا - يتخاصمون، أي: يسأَل بعضهم بعضا بطريق الخصومة والجدال، ويوبخه في أنه أصله وفتح له بابا واسعا من المعصية. 28 - {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}: استئناف بياني، كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا - أي الأتباع للرؤساء أو الكل للقرناء -: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}. والمعنى: إنكم كنتم تأْتوننا في الدنيا عن اليمين، أي: عن اليمن والخير، وتزعمون لنا أن ما أنتم عليه خيرٌ ودين حق، فترغبوننا فيه، وتهونون علينا أمر شريعة الحق، وتنفروننا منها، فتبعناكم فهلكنا, ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما، دنيا وأخرى، استعيرت لجهة الخير. أو: تأْئوننا عن اليمين بمعنى القوة والقهر، واليمين تستعمل مجازًا عن القوة؛ لأن بها يقع البطش، أي: إنكم تحملوننا على الضلال وتقسروننا عليه. أو: تأتوننا عن اليمين بمعنى الحلف. بمعنى أنهم كانوا يوالونهم مقسمين عليهم بأن ما هم عليه من الكفر هو الحق الذي يجب اتباعه. 29 - {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}: استئناف، أي: قال الرؤساء أو القرناء - في جوابهم بطريق الإضراب -: بل أبيتم أَنتم الإيمان وأعرضتم عنه، فأنتم لم تكونوا مستعدين للإيمان، حيث أعرضتم عنه مع تمكنكم منه، مختارين غير ملجئين. وآثرتم عليه الكفر, فلم تكونوا قابلين للايمان قط حتى ننقلكم من استعدادكم للإيمان إلى الكفر بل كنتم على الكفر فأَقمتم عليه متمسكين به للإلف والعادة. 30 - {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ}: أي: وما كان لنا عليكم مع قهر وتسلط، أو حجة على ترك الحق نسلبكم بهما اختياركم، وتمكنكم من الإيمان, بل كنتم وفق طبيعتكم قوما مجاوزين الحد في العصيان،

مختارين له، مصرين عليه دون إجبار، وإنما دعوناكم إلى الضلال فأجبتم لموافقة هواكم لما دعيتم إليه. 31 - {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)}: ذلك - أيضًا - من قول المتبوعين، وهو تفريع على ما تقدم من عدم إيمان المتخاصمين، وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم. أي: وجب علينا وعليكم قول ربنا: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} فكلنا ذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد. فكأنهم قالوا: ولأَجل أَننا جميعًا لم نكن مؤْمنين، وكنا قوما طاغين, وثبت علينا وعيد ربنا بأنا ذائقون لا محالة لعذابه - عَزَّ وَجَلَّ -. 32 - {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)}: أي: فدعوناكم إلى الغواية، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر , فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد. {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} جملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، أي: إنما أغويناكم لتكونوا مثلنا في الغواية - والمراد الكفر - وهذا كقولهم: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} (¬1). 33 - {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}: المعنى: أن الفريقين المتسائلين - المضِل والمضَل - يوم إذ يتساءلون. وهو يوم القيامة هم في العذاب الذي استحقوه مشتركون. كما كانوا مشتركين في الكفر والغواية، واستظهر أن المغوين أشد عذابا لإغوائهم لغيرهم مع ضلالهم، فالشركة لا تقتضي المساواة. ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 63.

34 - {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}: أي: إنا مثل ذلك الفعل الدال على الحكمة التشريعية نفعل بأولئك المتناهين في الإجرام وهم المشركون في عهد الإِسلام كما يشير إليه التعليل بقوله - تعالى -: 35 - {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُون}: أي: إنا مثلَ ذلك العذاب نفعل بالمشركين المتخاصمين من أُمتك يا محمَّد؛ لأَنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله - بطريق الدعوة والتلقين - يستكبرون عن القبول، ومن ذلك ما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لأَبي طالب - عند موته - واجتماع قريش حوله: قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب، وتدين لكم العجم، أبَوا وأنِفُوا من ذلك. وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنزل الله في كتابه. فذكر قوما استكبروا. فقال: إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون. وقد استكبر عنها المشركون يوم الحديبية، يوم كاتبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قضية المدة، ذكر هذا الخبر البيهقي. والذي قبله القشيرى (¬1). {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40)} المفردات: {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}: يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وقد كذبوا، فما هو بشاعر ولا مجنون. {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ}: جاءَ بالتوحيد. {إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ}: الذين أخلصهم الله لطاعته. ¬

_ (¬1) تفسير الإِمام القرطبي.

التفسير 36 - {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}: يعنون بذلك - قبحهم الله - النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وجحد الرسالة، أي: أنحن تاركو عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون؟ والاستفهام للاستبعاد، فرد الله - عَزَّ وَجَلَّ - عليهم بقوله: 37 - {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِين}: تكذيبًا لهم، ببيان أن ما جاءَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد هو الحق الذي قام عليه البرهان، وأجمع عليه كافة الرسل - عليه الصلاة والسلام، وصدقهم - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبروا عن الله من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر - عليه الصلاة والسلام - في شرعه وأَمره كما أخبروا قال الله - سبحانه -: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} (¬1). 38 - {إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ}: المعنى: إنكم لذائقو العذاب المؤلم بما كان منكم من الإشراك وتكذيب الرسل والاستكبار، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراث بهم وهو اللائق بالمستكبرين. 39 - {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: وما تجزون إلا بما عملتم من الضلال والشرك، لا يزاد عليه ولا ينقص منه، والآية تشير إلى أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلًا. 40 - {إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ}: أي: إنكم أيها المجرمون لذائقو العذاب الأَليم، لكن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله لطاعته، لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب، وإنما يجزون بالثواب أضعافا مضاعفة ¬

_ (¬1) سورة فصلت من الآية: 43.

بالنسبة لأعمالهم، فيجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله من التضعيف، ويراد بهم على قراءة المخلصين - بكسر اللام - عباد الله الذين أخلصوا له العبادة. {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) في جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)} المفردات: {رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي: عطية معلومة الخصائص. {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي: لا ينظر بعضهم في قفا بعض. وإنما ينظر في وجهه تواصلا وتحاببا. {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي: بخمر من نهر ظاهر للعيون. {لَا فِيهَا غَوْلٌ}: لا تغتال عقولهم وصحتهم. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أي: ولا هم بسببها يسكرون. يقال: نُزفَ الرجلُ ينزَف فهو منزوف ونزيف: إذا سكر. {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي: يقصرن أَبصارهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم. وعين: جمع عيناء , وهي شديدة بياض العين شديدة سوادها. وقال السُّديُّ ومجاهد: "عين": حسان العيون.

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} أي: بيض مصون عن الريح والغبار حيث تكنُّه النعامة أو الفرخة بريشها. التفسير 41 - {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي: لهم رزق معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع عن النظر، لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، أو معلوم الوقت لقوله - تعالى -: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. 42 - 44 - {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * في جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي: إن الرزق المعلوم مع تميزه بخصائصه - كله فواكه - والمراد بها: ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أَهل الجنة كذلك حتى اللحم، لكونهم مستغنين عن القوت؛ لأن خِلْقَتهُم محكمة محفوظة من التحلل المحوج إلى البدل، والمراد بالفواكه: الثمار كلها رطبها ويابسها: قاله ابن عباس، {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - برفع الدرجات وسماع كلامه لا يلحقهم هوان، وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأُولي الهمم، وهل في هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي يأَتي به الأكل. وقيل: مكرمون في نيل رزقهم حيث يصل إليهم بغير تعب وسؤال، بخلاف رزق الدنيا، ورزقهم هذا {في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وإضافة الجنات إلى النعيم على معنى لام الاختصاص المفيدة للحصر، أي: في جنات ليس فيها إلا النعيم، وهم على سرر يقابل بعضهم بعضا للاستئناس والمحادثة، والأسرة تدور بهم كيف شاءُوا تواصلا وتحاببا بالنظر إلى الوجوه. 45 - 47 - {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}: استئناف لبيان ما يكون في مجالس أُنسهم من شرابهم بعد ذكر مطاعمهم، والكأس في اللغة: الإناء وفيه شرابه، فإن كان فارغًا يقال: إناءٌ أو قدح، وتطلق - أيضًا - على

الخمر مجازا، وهو المراد هنا -، والمعين: الماء الجاري الظاهر للعيون، وكذلك تجري الخمر في الجنة كما قال - تعالى -: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}. ولم تعين هذه الآية من يطوف عليهم بالكأس، وقد بين الله الطائفين في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)} وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)} كما بينت السنة الصحيحة: أن أطفال المشركين ممن يطوف على أَهل الجنة، لخدمتهم. وقد وصفت بأنها بيضاء، وبأنها لذة لشاربيها, ولتمام لذتها وصفت بها فكأنها نفس اللذة وعينها مبالغة. وهي لا غائلة فيها، فلا تؤثر في شاربيها باغتيال عقولهم كما في خمر الدنيا، من غاله يغوله: إذا أفسده وأَهلكه. والمراد هنا: نفى أن يكون فيها ضرر أصلًا {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} أي: يسكرون، كما روى عن ابن عباس وغيره، من نُزِف (¬1) الشارب إذا سكر، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف، وعدى الفعل بعن بمعنى باء السببية، أي: ولا هم بسببها يسكرون، وأفرد هذا الفساد بالنفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَوْل عنها لأَنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وصرْفُ الله السُّكر عن أهل الجنة، لئلا ينقطع الالتذاذ عنهم. 48، 49 - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}: المعنى: وعندهم نساء عفيفات قد قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم: قاله ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن كعب وغيرهم، كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن، وعدم ميلهن إلى سواهم. وقيل: المعنى: ذابلات الجفن مِراضُه، وما أجمل ذبول الأجفان في النساء وقد كثر التغزل بذلك قديمًا وحديثًا ومنه قول ابن الأزدي: مَرضَت سَلْوتِي وَصَحَّ غرامي .... من لحاظ هُنَّ المِراضُ الصحاح ويجوز أن يكون المعنى: قاصرات طرف أَزواجهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن وهن "عين" جمع عيناء، وهي: الواسعة العين في جمال. وقال الحسن: العين: الشديدات بياض العين الشديدات سوادها, ولصونهن من كل أذى شبهن بالبيض المكنون، وحمله الجمهور ¬

_ (¬1) بضم النون وكسر الزاي - على صيغة المبني للمجهول.

على بيض النعام؛ لأنه أجمل أَنواع البيض لونًا وفيه صفرة قليلة تُحَب في النساء، ومعنى أنه بيض مكنون: أن النعام تكنه بريشها من الريح والغبار. وقيل المكنون: المصون عن الكسر, أي: أنهن عذارى. وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (¬1) أي المصون: في أصدافه قاله ابن عباس، إلى غير ذلك من أَقوال وكلها تدور حول الإشادة بحسنهن. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} المفردات: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}: يتفاوضون فيما بينهم بأحاديثهم في الدنيا وهو من تمام الأُنس في الجنة. {كَانَ لِي قَرِينٌ} أي صديق: ملازم. {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}: مجزيون محاسبون بعد الموت. {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}: في وسطها , وسمى الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآيتان: 22, 23.

{إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِين} أي: لتهلكني إن أَطعتك، والردى: الهلاك. {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي: لكنت مثلك من المحتضرين إلى سواء الجحيم حيث أنت. التفسير 50 - {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}: معطوف على {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} أي: يطاف عليهم بالشراب، فيقبل بعضهم على بعض، يتساءلون عن الفضائل والعارف وعما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وخلو البال. 51 - {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي: قال قائل من أهل الجنة في تضاعيف محاورتهم: إني كان لي ملازم ومصاحب من شأنه ما حكاه الله بقوله: 52 - {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ}: يقول لي في الدنيا على طريق التوبيخ: أَءنك لمن المصدقين، أي: بالبعث كما ينبىء عنه قوله سبحانه: 53 - {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}: أي: لمبعوثون ومجزيون؟ من الدِّين بمعنى الجزاء، وهذا منه إنكار واستبعاد لوقوع البعث والجزاء بعد الموت، وبعد أن صار الجسد ترابًا وعظامًا نخرة. قال أبو السعود: قيل: كان رجل تصدق بماله لوجه الله فاحتاج فاستجدى بعض إخوانه فقال له: أين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله - تعالى - في الآخرة خيرًا منه. فقال: أئِنَّك لمن المصدقين بيوم الدين؟ والله لا أعطيك شيئًا: فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابًا وعظامًا حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. 54 - {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}: هذا من قول الله لأهل الجنة، وقيل: القائل بعض الملائكة، وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة بعد ما حكى لهم مقالة قرينه في الدنيا يقول لهم: هل أنتم مطلعون إلى أهل النار، لأريكم ذلك القرين، يريد بذلك صدقه فيما حكاه، وعلى أن القائل هو الله أو بعض الملائكة يكون المعنى: هل تحبون أن تطلعوا على أَهل النار لأَريكم ذلك القرين، فتعلموا منزلتكم من منزلتهم؟

55 - {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}: فاطلع المسلم على أهل النار تلبية للعرض أو الأمر فرأى قرينه وسط الجحيم، قال كعب فيما ذكر ابن المبارك: إن بين الجنة والنار كُوًى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى. 56 - {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}: قال القائل لقرينه: إن كدت لتهلكني بالإغواء وبما تزينه لي من عدم تصديق الوعيد بالبعث والحساب والجزاء. 57 - {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}: أي: ولولا العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإِسلام لكنت من الذين أُحضروا العذاب كما أُحضرت أنت وأمثالك. 58، 59 - {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}: رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه ابتهاجًا بما آتاه الله من الفضل العظيم، وتقريعا للقرين بالتوبيخ. والمعنى: أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفرح، ويراد أن حال المؤمنين ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى فهم في الجنة أحياءٌ حياة دائمة لا يعتريها فناء، بخلاف الكفار فإنهم يتمنون في موقفهم الموت كل ساعة، وقيل لحكيم: ما شر من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت، وهذا قول يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله بمسمع من قرينه، ليكون تعذيبًا لهذا القرين، وزيادة في توبيخه، وقيل: هو قول يقوله أهل الجنة للملائكة يقولونه اغتباطًا وفرحًا. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} هذه الجملة تفيد استمرار نفي العذاب وتأكيده، واستمرار نفيه نعمة عظيمة مستوجبة للتحدث بها، وذلك مفض إلى نفي زوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)} الآيات، واختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم؛ لأن نفي العذاب أَسرع خطورا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب، وقيل: درءُ الضرر أهم من جلب المنفعة.

60 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: هذا من تتمة قول القائل: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} وجوز أَن يكون من كلامه - تعالى - قال سبحانه - تصديقًا لقول ذلك القائل، وتقريرا له مخبرا به - جلَّ وعلا - حبيبه - صلى الله عليه وسلم - وأمته، والتأْكيد للاعتناء بشأن الخبر. 61 - {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}: أي: لنيل مثل هذا الأمر الرفيع ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الزوال المشوبة بفنون الآلام، وهذا الكلام - من قول الله - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل الدنيا. أي: قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}. {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} المفردات: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} النزاع: ما يُقَدَّم للنازل من الرزق. {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} الزقوم: شجر مُرٌّ يكون بتهامة، سميت به الشجرة الموصوفة وهي صغيرة الورق كريهة الرائحة. {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}: محنة وعذابًا لهم في الآخرة. وابتلاءً لهم في الدنيا. {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي: ثمرها كأَنه في تناهي الكراهة وقبح المنظر رءُوس الشياطين، والعرب تشبه القبيح الصورة بالشيطان أو رأس الشيطان أو وجهه.

{لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} أي: لشرابًا ممزوجًا من ماء شديد الحرارة يقطع أَمعاءَهم، قال الفراء: شابَ طعامه وشرابه: إذا خلطهما بشيء يشوبهما. {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} أي: إن مرجعهم ومردهم إلى دركات جهنم بعد أن ذهب بهم من مقارهم فيها إلى شجرة الزقوم ليأكلوا منها ويملأوا بطونهم. التفسير 62 - {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}: ذلك من كلامه - عز وجل - عند الأكثرين لا من كلام القائل، وهو متعلق بقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)}: والمعنى: أذلك الرزق المعلوم الذي حاصلهُ اللذة والسرور، خير نزلا وطعاما أم شجرة الزقوم التي حاصلها الهم والغم، ويراد من التفاضل بين النزلين التوبيخ والتهكم، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم، ومعنى ذلك: أن الرزق المعلوم اللذيذ نزل أهل الجنة الذي يقدم لهم، وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم، فأيهما خير نزلًا؟. 63 - {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ}: أي: جعلنا شجرة الزقوم محنة وعذابًا لهم في الآخرة، وابتلاءً لهم في الدنيا، فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا: كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أن إبراهيم - عليه السلام - أُلقي في النار ولم تحرقه، فالله أقدر على خلق الشجر في النار، وحفظه من الاحتراق، فالنار لا تحرق إلا بإذنه ومشيئته. على أنه لا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرًا من جنسها لا تأكله النار، كما يخلق الله فيها الحيات والعقارب وخزنة النار. واختلف في شأنها على قولين: الأول: أنها معروفة من شجر الدنيا يعرفها العرب بتهامة من أخبث الشجر وأقبحه منظرا وطعمًا. والثاني: أنها لا تعرف في شجر الدنيا، فلما نزلت هذه الآية قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة.

64 - {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ}: أي: منبتها في قعرها، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. 65 - {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}: أي: ثمرها كأَنه لقبحه وهوْلِه شبيه برءُوس الشياطين، وهي وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين إلا أَنه قد استقر في النفوس أَن الشياطين شديدة القبح ومن ذلك قولهم لكل قبيح: هو كصورة الشيطان، ولكل حسن: هو كصورة ملك، كما يتصورون صورة للغول وإن كانت لا تعرف، ومنه قول امرئ القيس: أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأَنياب أَغوال وقيل: الشياطين: الحيات الهائلة القبيحة المنظر لها أَعراف، وقيل: أن شجرًا - يقال له: الأَستن - خشنا منتنا مرًّا منكر الصورة يسمى ثمره رءُرس الشياطين، ولا حرج على قدرة الله - تعالى - أن ينبت هذا النوع من الشجر في أصل الجحيم بأن يجعل في تركيبه (كيمياء خاصة) تمنع احتراقه بالنار، وتجعل النار غذاء له، وكم لله من عجائب منها: أن الله - تعالى - جعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا. - كما تقدم ذكره -. 66 - {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}: أي: فمن شجرة الزقوم طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة يأكلون منها أَو من ثمرها، فيملأون البطون لغلبة الجوع، أو لقهرهم على أكلها وإن كرهوها؛ لأنهم لا يجدون إلاَّ إياها أَو نحوها، كما قال - تعالى -: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}. 67 - {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}: أي: ثم إن لهم على أكلها لشرابا مزج بالحميم تعذيبًا لهم.

68 - {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ}: أي: إن مرجعهم لإلى مقرهم من النار؛ فإن في جهنم مواضع أُعد في كل موضع منها نوع من النبلاء، فالقوم يخرجون من مقارهم في النار، إلى موضع آخر فيه ذلك الشراب المشوب بالحميم، ثم يردون إلى دركاتهم، وهذا الحميم في موضع آخر من جهنم خارج عن مقرهم. وقيل: خارج عنها لقوله - تعالى -: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (¬1). وكأن بين خروج القوم للشراب وعودهم إلى مساكنهم زمانًا غير يسير يتجرعون فيه ذلك الشراب، ولذلك جيء بلفظ ثم، وهو في مقابلة ما لأَهل الجنة من شراب، وفيه يقول سبحانه: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} (¬2) والمدلول عليه بقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)} إلخ. كما أن الزقوم في مقابلة ما لهم من الفواكه. {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} المفردات: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} أي: وجدوهم وصادفوهم بعيدين عن الحق. {يُهْرَعُونَ} أي: يسرعون كهيئة الهرولة، وقيل: الإسراع الشديد. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} أي: رسلا أنذروهم العذاب فكفروا. {عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أي: نهاية الذين أُنذروا وحذِّروا وهي إهلاكهم لكفرهم. ¬

_ (¬1) الرحمن الآية 43، 44. (¬2) سورة المطففين 27، 28.

التفسير 69، 70 - {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ}: تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب، بتقليد الآباء في أصول الدين من غير أن يكون لهم ولا لآبائهم شيء يستمسك به أصلًا، أي: صادفوهم ضالين في نفس الأمر، ليس لهم ما يصلح شبهة، فضلا عن صلاحية كونه دليلًا، وكانوا في اتباعهم آباءَهم مسرعين إسراعًا شديدًا، كأنهم يُحَثُّون على ذلك حثًّا، وقد فعلوا ذلك من غير أن يثبت لديهم أن آباءَهم محقون في حين أنهم على الباطل بأَدنى تأمل. 71، 72 - {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ}: أي: ولقد ضل قبل هؤلاء الظالمين وهم قريش - ضل قبلهم - أكثر الأولين من الأمم السابقة، حيث جعلوا مع الله آلهة أخرى، وهو جواب قسم مقدر، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} أي: والله لقد أرسلنا في الضالين عددًا كثيرًا من الأنبياء بينوا لهم بطلان ما هم عليه. وأنذروهم، وحذروهم عاقبته الوخيمة التي يصيرون إليها وهي النكال الشديد والعذاب الأليم، وتكرير القسم في الآيتين لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونهما. 73 - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}: من الهول والفظاعة حيث لم يلتفتوا إلى الإنذار، ولم يتأَثروا به، ويرفعوا له رأسًا، فأَهلكهم الله ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم. والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل أَحد يتمكن من مشاهدة آثارهم، ولما كان المعنى أنهم أهلكوا هلاكًا فظيعًا استثنى منهم المخلصين بقوله - تعالى -: 74 - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}: وهم الذين استخلصهم الله من الكفر للإيمان والعمل الصالح، بموجب الإنذار أَو الذين أخلصوا لله دينهم على القراءتين بفتح اللام وكسرها، فهو استثناء من المنذرين في الآية السابقة، أو استثناء من قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}.

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)} المفردات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} من النداءِ: وهو الاستغاثة. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أَي: أَهل دينه. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أَي: الغرق، أو الغم الشديد: على ما قاله الراغب. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي: تركنا عليه ثناءً حسنًا في كل أمةٍ لأَنه محبب إلى جميع الأديان. التفسير 75 - {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}: لما ذكر - تعالى - عن أَكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة، شرع يبين ذلك مع نوع تفصيل لما أَجمل من قبل، ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم، مع بيان سوء عاقبة بعض المنذرين، كقوم نوح - عليه السلام - وحسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله لطاعته، كقوم يونس - عليه السلام -. والقصص التي شرع في بيانها هي: قصص نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وموسى وهارون، وإلياس، ولوط، ويونس - عليهم السلام - وفيها عبر بالغة , وإنذار وتهديد يقريش، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وقدم الحديث عن قصة نوح لسبقه المذكورين جميعًا. ومعنى الآية: أن نوحا - عليه السلام -: نادى ربه نداء استغاثة متضمنا الدعاء على كفار قومه، وسؤال النجاة، وطلب النصرة، حين أَيس من إيمانهم بعد أن دعاهم أحقابًا ودهورًا، فقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا فلم يؤمن معه إلا القليل،، وكان كلما دعاهم ازدادوا نفرة وتكذيبًا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)} (¬1) فغضب الله لغضبه عليهم، ولهذا قال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} أي: فوالله لنعم المجيبون نحن حيث أجبناه أحسن إجابة، ونصرناه على أعدائه، فانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، وفيه من تعظيم الإجابة ما فيه. وأخرج ابن مردويه: عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى في بيتي فمرَّ بهذه الآية {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} قال: صدقت ربنا أَنت أَقرب من دُعي، وأقرب من بُغى فنعم المدعو، ونعم المعطى، ونعم المسئول ونعم المولى أنت ربنا، ونعم النصير. 76 - {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: أي: ونجينا نوحًا وأهله وهم من آمن معه وأولاده - نجيناهم - من الغرق، والغمُّ الشديد. 77 - {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}: أَي: ضمنا لذريته وحدهم البقاء، فجميع البشر بعده من أحفاده. {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (¬2). قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)}. وقال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولده. فسام أبو العرب، وفارس، والروم، واليهود، والنصارى. وحام: أبو السودان من المشرق إلى المغرب، والسند، والهند، والزنج، والحبشة، والبربر وغيرهم. ¬

_ (¬1) سورة القمر، آية: 10. (¬2) سورة نوح، من الآية: 26.

ويافث: أبو الترك، ويأْجوج , والصقالبة. والأكثر على أن الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها من ذرية نوح - عليه السلام - ولذا قيل له: آدم الثاني، واستدل على ذلك بهذه الآية. وقال قوم: كان لغير ولد نوح - أيضًا - نسل بدليل قوله - تعالى -: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (¬1). وقوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} (¬2) فعلى هذا يكون معنى الآية: وجعلنا ذريته هم الباقين دون ذرية من كفر، فإنا أَغرقنا أَولئك، ذكر ذلك القرطبي، والراجح الأول لحصر البقاء في ذريته صراحة في قوله - تعالي -: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)}. 78 - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}: أي: تركنا عليه ثناءً حسنًا في الباقين من الأُمم إلى نهاية الدهر. وهذا الثناء أشار إليه قوله: - تعالى -: 79 - {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}: هذا الكلام وارد على الحكاية، وهو محكي بِتَرَك من قوله (وتركنا .. ) في موضع نصب بها على ما قاله الفراء وغيره من الكوفيين، أي تركنا عليه هذا الكلام بمعناه، والمراد أَبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أُمة بعد أُمة إلى أَن يرث الله الأرض ومن عليها، وقيل: هذا سلام من الله - عزّ وجل - لا من الآخرين، ومفعول تركنا مقدر، أَي: تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر، وجملة {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} مفعول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي، أي: وقلنا: سلام إلى آخره {فِي الْعَالَمِينَ}: من تتمة الجملة السابقة. جيء به للدلالة على الاعتناء التام بثبات هذا الدعاء واستمرار هذه التحية أبدًا في العالمين، من الملائكة والثقلين جميعًا. ¬

_ (¬1) الإسراء، من الآية: 3. (¬2) سورة هود , من الآية: 48.

وقيل: المراد من العالمين الأَنبياءُ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا أُمر بالاقتداء به، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}. (¬1) 80 - {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: تعليل لما فعل به - عليه الصلاة والسلام - من التكرمة السنية من إجابة دعائه أَحسن أجابة، وإبقاء ذريته، وذكره الجميل وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر، لكونه من المعروفين بالإحسان الراسخين فيه الذين نجزيهم أحسن الجزاء، ويكون ما وقع له من قبيل مجازاة الإِحسان بالإِحسان , وإحسانه مجاهدة أعداء الله تعالى - والدعوة إلى دينه، والصبر الطويل على أذاهم، أي: مثل هذا الجزء الكامل نجزي العاملين في الإحسان, أي: نجعل لهم لسان صدق يذكرون به بعدهم بحسب مراتبهم في ذلك. 81 - {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}: تعليل لكونه - عليه السلام - محسنا بخلوص عبوديته، وكمال إيمانه، للدلالة على جلالة الإيمان, وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم. 82 - {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ}: أي: المغايرين لنوح - عليه السلام - وأهله، وهم كفار قومه أجمعين. فلم يبق منهم أحد، ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفات القبيحة، وثم للتراخي في الذكر لا في الواقع، إذ بقاوُه - عليه السلام - ومن معه متأَخر عن الإِغراق. * {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 13.

المفردات: {مِنْ شِيعَتِهِ}: من أنصاره وأعوانه وأهل دينه الذين على منهاجه. {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: بقلب خالص من آفات القلوب. {أَئِفْكًا} الإفْكُ: أسوأُ الكذب والاختلاق. التفسير 83، 84 - {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: هذه الآيات شروع في جانب من قصة إبراهيم بعد الفراغ من قصة نوح - عليهما السلام - وقصة إبراهيم متعددة الجوانب، كثيرة الأحداث - وقد جاءت في سور كثيرة من سور القرآن وكلها تعتمد الجانب العقدي أولا ثم تنتقل إلى الغرض الذي اختص بسورته ما عدا ما جاءَ في سورة الأنعام، فقد اختص بالجانب العقدي والتفكير في ملكوت السموات والأرض وخالقهما ومسخّرهما حتى خلص بإبراهيم - عليه السلام - من هذا إلى توحيد الله، وتوجيه وجهه إلى الذي فطر السموات والأرض. أما السور الأُخرى التي جمعت بين الكلام على العقيدة والتوحيد وجوانب أُخرى فكثيرة في القرآن الكريم مع اختلاف في العرض والتصوير، والتطويل والتقصير. من ذلك ما جاء في سورة البقرة من رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، والاتجاه إلى الله أن يتقبل منهما وأن يباركه، ويبارك ذريتهما. وما جاء في سورة مريم من حواره مع أبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)}؟ (¬1) ومما انتهى إليه أمر أبيه من رفض الإيمان حتى اضطر إبراهيم - عليه السلام - إلى اعتزاله. وما جاء في سورة الأنبياء من تسفيه قومه على عبادة الأَصنام، وعلى الضلال الذي يعيشون فيه، وما انتهى إليه أمره من الكيد للأصنام، وتكسيرها، وكيد قومه له بإلقائه في النار التي جعلها الله عليه بردا وسلامًا، وردّ كيدهم عليهم فكانوا هم الأخسرين. ¬

_ (¬1) الآية 42 من سورة مريم.

ومن هذا أيضًا ما جاءَ في سورة الشعراء حول تبكيبت قومه على عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، ثم يخلص من هذا إلى تعداد نعم الله - تعالى - عليه وعلى عباده، وفضله فيهم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ... } (¬1). ثم تنتهي هذه الآيات بأَصدق دعاء وأخلص تضرع {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ في الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ... }. ثم تأْتي هذه السورة - سورة الصافات - فتوضح محنة الابتلاء وما كان من صِدق الأب في تنفيذ أمر الله، وما كان من طاعة الابن لأمر ربه، والرضا بالقضاء حتى تجلَّى عليهما بكشف البلاءِ، وإنزال الفداء. هذا وقد جاء أُسلوب قصة إبراهيم مرتبطًا بقصة نوح - عليهما السلام - لما قيل من أَن إبراهيم - عليه السلام - يعتبر آدم الثالث بالنسبة للأنبياء والمرسلين بعده لأَنهم من ذريته إلا لوطا، ومما يزيد في حسن هذا الارتباط اشتراكهما في المنحة ونجاتهما في المحنة: فنوح - عليه السلام - نجاه الله من الغرق، وإِبراهيم نجاه الله من الحرق. ومعنى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)} وإن من شيعة نوح وأنصاره - الذين تابعوه في أُصول الدين، وسلامة العقيدة. وإخلاص التوحيد لله - لإبراهيم - عليه السلام - فقد اتفقت شريعتهما على توحيد الله، واختصاصه بالعبادة، وإن اختمت فروع شريعتيهما. وقيل: شايعه في التصلب في الدين، ومصابرة المكذبين، ونقل هذا عن ابن عباس. وليس في الكلام ما يمنع من اجتماع المعنيين معا. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: توقيت وتوضيح للمشايعة، والمعنى: شايعه حين جاءَ ربَّهُ، أَي: أقبل على ربه الذي أحسنها خلقه وتربيته - جاءَه - بقلب سليم خالص من آفات القلوب نَقِيٍّ من العلائق الدنيوية الشاغلة عن العبادة، والتبتل لله تعالى. ¬

_ (¬1) الآيات من 69 - 89 من سورة الشعراء.

وسلامة القلب أهم ما ينبغي أن يتوافر في المسلم؛ لسلامة أعماله، وصلاح جميع أحواله. 85، 86، 87 - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *}: قوله - تعالى - {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ... } الآيات بيان وتفسير لقوله - تعالى -: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. والمعنى: إذ قال إبراهيم لأَبيه آزر - منكرًا عليه، ساخرًا من سلوكه - ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أتريدون - لأَسوأ الكذب، وأَقبح الافتراء والسفه - أن تتخذوا آلهة موهومة، وأصنامًا تصنعونها بأيديكم نؤمنون بها، وتخصونها من دون الله بالعبادة ولو فكَّرتم لرأيتم أنكم أشرف منها لأنكم الصانعون، وهي المصنوعة. {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: فما ظَنكُمْ إذ تفعلون هذا الفعل المنكر بمن هو حقيق بالعبادة، جدير بالتوحيد؛ لأنه ربُّ العالمين، وخالقهم، ومدبر أُمورهم حتى تركتم عبادته وحده، وأشركتم معه غيره من مخلوقاته. أو فما ظنكُم بما يفعل بكم رب العالمين، وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم من الإشراك به. {فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)} المفردات: {نَظَرَ}: تأَمل بعينه. {سَقِيمٌ}: مريض عليل. {فَتَوَلَّوْا}: أَعرضوا. {مُدْبِرِينَ}: راجعين.

التفسير 88 - {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ}: نظر فيها كما كانوا يفعلون في تعرف أَحوالهم، فأَوهمهم من تلك الجهة، وأَراهم من معتقداتهم عذرا لنفسه. والمعنى: فنظر إبراهيم - عليه السلام - حين دعاه قومه للخروج معهم في عيدهم للعب واللهو والسمر - نظر في النجوم - يوهم قومه أَنه يستنبئها - ويستطلع الرأْي من حركاتها ومطالعها ليريهم عذرا لنفسه في عدم خروجه معهم في عيدهم مأْخوذا من معتقداتهم. 89 - {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}: أَي: فقالَ إبراهيم حين نظر إلى النجم: إني مريض عليل، يقصد أَنه مريض القلب من عبادتهم لغير الله - تعالى -، وإن كان ظاهره الاعتذار عن عدم الخروج معهم لمرضه، وعلى هذا يكون قوله: إني سقيم من المعاريض على نحو ما ذكر في سورة الأَنبياءِ. وقيل: كانت له - عليه السلام - حُمَّى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة، فإِذا هي قد حضرت، وكان صادقًا في ذلك؛ لأَن نوبات الحمى لا تتخلف عادة، قال المتنبى في شأْن الحمى واعتياد أَوقاتها: وزائرتي كأَن بها حياء ... فليس تزور إِلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي 90 - {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أَي: فأَعرض قومه عنه وتركوه راجعين خائفين من عدوى المرض مسرعين إلى عيدهم حين أَخبرهم بأَنه سقيم، ولوح لهم بالمرض. وهكذا احتال في عدم خروجه معهم بما لم يقنعهم بعذره فحسب، بل بما حملهم على الفرار وإجلاء المكان منهم ليفعل بأصنامهم ما شاء.

{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)} المفردات: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}: مال إليها في خفية وحيلة. {بِالْيَمِينِ}: بالقوة والشدة. {يَزِفُّونَ}: يسرعون. من زف القوم زفيفًا إذا أسرعوا. ومنه زفيف النعام. التفسير 91 - {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ}: أَي: فمال إِبراهيم - عليه السلام - في خفية وحيلة وتسلل إِلى الأَصنام التي يتخذونها آلهة بعد أَن خلا المكان بخروج القوم إلى عيدهم، فقال للأَصنام - استهزاءً بهم، وسخرية منهم -: أَلا تأْكلون من هذا الطعام المتعدد الأَصناف، المختلف الأَنواع الذي نثره حولكم، ووضعه بينكم هؤُلاء السفهاء الجهال في يوم عيدهم، جاهلين أنكم أَحجار صمٌّ وتماثيل بُكمٌ. 92 - {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}: أَي: ما الذي دهاكم، وأَي شيء أصابكم وأَسكتكم فجعلكم لا تردون جوابًا, ولا تنطقون. وهو سؤَال يقصد به المبالغة في السخرية والاستهزاء. 93 - {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}: أَي: فمال إِبراهيم - عليه السلام - متسلطًا مستعليًا عليهم متمكنًا منهم يضربهم ضربًا

شديدًا أَليمًا بالغًا أقصى القوة والشدة؛ لأَن اليمين أَقوى الجارحتين وأَشدهما، وقوة الأَداة تقتضي قوة الفعل وشدته. وقيل: باليمين معناه بسبب اليمين ووفاءً به, وهو المذكور في - قوله - تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (¬1): والمعنى الأول أَولى وأَوفى بالمقام, ويتلاقى مع قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} (¬2). 94 - {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}: فأَقْبلوا إِلى إِبراهيم بعد أَن رجعوا من عيدهم فأَلْفوا أَصنامهم مهشَّمة محطَّمة، أَقبلوا يسرعون في طلبه والإمساك به ظنا منهم أَو يقينًا بأَنه هو الذي فعل هذا بها. {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} المفردات: {مَا تَنْحِتُونَ}: ما تَبْرونه وتصنعونه بأَيديكم. {الْجَحِيمِ}: النار الشديدة الاتقاد. من الجحمة وهي شدة التأَجج. {كَيْدًا}: مكرًا وسوءا. {الْأَسْفَلِينَ}: الأذلين المقهورين. ¬

_ (¬1) الآية 57 من سورة الأنبياء. (¬2) الآية 44، 45 من سورة الحاقة، وأخذه باليمين مجاز عن أخذه بالشدة والقوة.

التفسير 95 - {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}: قال إِبراهيم - عليه السلام - لقومه حين واجهوه بتهمة تحطيم أَصنامهم وقالوا له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (¬1) قال: أَيستقيم منكم ويصح في عقولكم أَن تعبدوا أَصنامًا نحتموها من الصخر، وصنعتموها بأَيديكم من الحجارة، ثم تتخذونها آلهة تدعونها رغبًا ورهبًا من دون الله، وإِنما سأَلهم ذلك تبكيتا لهم، وسخرية بهم، واستخفافًا بعقولهم. 96 - {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}: هذه الآية من جملة كلام إِبراهيم - عليه السلام - والمعنى: أَتعبدون ما تنحتون وتتركون عبادة الله الواحد القهار والحال أن الله خلقكم فأحسن خلقكم، وصوركم فأبدع صوركم، وخلق هذه الأَصنام التي تصنعونها لأَن جوهرها ومادتها من خلق الله - تعالى - وأَما صورها وأَشكالها - وإِن كانت من أَعمالهم - فهي من إِقداره لهم - جل شأَنه - وخلق ما يتوقف عليه فعلهم من العدد والأَسباب. خرّج البيهقي من حديث حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله - عز وجل - خلق كل صانع وصنعته، فهو الخالق، وهو الصانع سبحانه". 97 - {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}: أَي: قال قوم إِبراهيم حين انقطعت بهم الحجة، وأَعياهم الجواب المقنع - قالوا -: ابنوا له حائطًا ضخمًا، وبنيانا كبيرا وأجمعوا فيه الأَحطاب، وأَضرموا فيها النار، وأَلْقوه في لهيبها المتقد، وجحمتها المتأَججة عقوبة له على فعلته، وتخلصا من خطره وسطوته. ¬

_ (¬1) الآية 62 من سورة الأنبياء.

98 - {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}: أَي: وأَراد قومه بهذا العمل معه كيدا به وإِحراقًا له، فرد الله كيدهم إلى نحورهم , وجعل النار برهانًا على صدق دعوته وعلو قدره حيث جعلها عليه بردا وسلامًا، وجعلهم الأَذلين المقهورين الأسفلين. {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} المفردات: {ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}: مهاجر إلى حيث أَمرني. أَو ذاهب إلى حيث أَتجرد لعبادته. {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}: ارزقني الولد الصالح. التفسير 99 - {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}: أَي: وقال إِبراهيم - عليه السلام - بعد أن نجاه ربُّه من كيد قومه، وجعل النار بردا وسلامًا عليه، وبعد أَن يئس من إيمانهم، وكره المقام معهم - قال -: إِني مهاجر إلى حيث أَمرني ربِّي - يريد الهجرة إلى الشام - أَو إِني مهاجر إلى حيث أَتجرد لعبادته، وأَخلص لتقديسه وتسبيحه. ومعنى سيهدين: سيرشدني ويوفقني إلى ما فيه صلاح ديني وراحة نفسي. وَبَتَّ القول في الهداية لسبق الوعد، أَو لفرط توكله، أَو بناء على ما جرت به السوابق معه ولم يكن كذلك حال موسى - عليه السلام - حيث قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي

سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1) بصيغة الرجاء والتوقع لعدم سبق الوعد معه، أَو لأَنه كان بصدد أَمر دنيوي فناسبه عدم الجزم. 100 - {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}: هذه الآية اتجاه من إبراهيم - عليه السلام - إِلى ربه وتضرع إِليه أَن يرزقه من ذريته ما يعينه، ويجبر ضعفه، ويشد أَزره، والمعنى: ربِّ ارزقني بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة، ويؤنسني في الغربة ويواسيني في الكربة، يعني بهذا طلب الولد لأَن الهبة عند الإطلاق تخصه غالبًا. 101 - {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}: هذه الآية صريحة في أَن المبشر به عيْن ما استوهبه - عليه السلام - والمعنى: فاستجاب الله دعاءَ خليله وبشره بغلام حليم، وانطوت البشارة على بشارات ثلاث: 1 - أَنه ولد ذكر. 2 - أَنه يبلغ ويدرك مدارك الشباب. 3 - أَنه يكون غاية في الحلم، والخلق والرضا. وأَي حلم يعدل حلمه - عليه السلام - وقد عرض عليه أَبوه أمر ذبحه، وهو فتى في عنفوان شبابه وازدهار قوته، فيقول في إذعان ورضًا: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} ¬

_ (¬1) من الآية 22 من سورة القصص.

المفردات: {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}: وصل إلى رتبة أَن يسعى مع والده في أَعماله، ويعاونه في حوائجه. {تَرَى} أَي: تشير وتفكر، مأْخوذ من الرأْي. التفسير 102 - {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}: جرى الأُسلوب في هذه الآيات على نمط القصص القرآني بطيِّ ما يقتضيه السياق وحذف ما ترشد إليه أَحداث القصة، والمعنى: وهبنا له هذا الغلام الذي استوهبنا إياه وبشرناه به، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أَي: فلما اشتد عوده وبلغ رتبة أَن يسعى مع أَبيه ويعينه في أعماله، ويساعده على حوائجه كاشفه بواقع الأمر وصارحه بحقيقته فناداه بإِشفاق وتحنن {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} أَي: فتأَمل هذا الأَمر، وَأَدِرْ فيه رأْيك، وأَشر عليَّ بما يستقر عندك. وإنما شاوره - وهو حتم لا خيار فيه - ليعلم ما عنده ويهيئه لقبول ما نزل من بلاءِ الله - عز وجل - فيثبت قدمه إِن جزع، وليوطن نفسه فيهون الأَمر عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأَمر الله - تعالى - قبل نزوله خوفًا من المفاجأَة، ولتكون سنة في المشاورة. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أَي: فأَجاب الغلام أَباه في طمأْنينة وصدق امتثال: يا أَبت افعل ما تؤْمر به، ونفِّذ ما أَراكه الله، ستجدني إِن شاءَ الله من جملة الراضين بأَمر الله، الصابرين على قضائه، المذعنين لمشيئته وحكمه. قال بعض أَهل الإشارة: فلما استثنى (¬1) وفقه الله للصبر. قيل: إِن إبراهيم - عليه السلام - رأَى ليلة الثامن من ذي الحجة كأَن قائلا يقول له: إن الله يأْمرك بذبح ابنك هذا، فلما أَصبح روَّى في ذلك من الصباح إِلى الرواح، قائلا ¬

_ (¬1) المراد من الاستثناء: تعليق صبره على مشيئة الله - تعالى - في قوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.

في نفسه: أَمِنَ الله هذا الحلم أَم من الشيطان؟ فمن ثمة سُمِّي يوم التروية، فلما أَمسى رَأَى مثل ذلك فعرف أنه من الله. فمن ثمة سمى يوم عرفة، ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فهم بنحر ولده فسمى اليوم يوم النحر. واختلف العلماءُ في حقيقة الذبيح. هل هو إِسماعيل أَو إِسحق؟ والأَظهر الأَشهر أَن الذبيح المخاطب هو إِسماعيل - عليه السلام - إذ هو الذي وهب إثر المهاجرة؛ لأَن البشارة بإسحق بعده معطوفة على البشارة بهذا الغلام. ولقوله - عليه الصلاة والسلام -: "أَنا ابن الذبيحين" فأَحدهما جدّه إِسماعيل، والآخر أَبوه عبد الله؛ فإِن عبد المطلب نذر أَن يذبح ولدا إِن سهل الله - تعالى - له حفر بئر زمزم، أو بلغ بنوه عشرة، فلما حصل ذلك وأَسهم بين أولاده وخرج السهم على عبد الله فداه بمائة من الإبل، ولأن ذلك كان بمكة ولأَن بشارة إِسحق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه وذلك في قوله - تعالى -: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (¬1) فكيف يأْمره الله بذبحه وقد أَخبره بأَنه سيكون له منه يعقوب، وعن الأَصمعي قال: سأَلت أَبا عمرو بن العلاءِ عن الذبيح فقال: يا أَصمعي!!! أَين عزب عنك عقلك؟ ومتى كان إِسحق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أَبيه. ومما يقوى هذا الرأْي وينصره أن الله وصف إِسماعيل بالصبر دون أَخيه إسحق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬2) وهو صبره على الذبح. ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (¬3) لأَنه وعد أَباه بالصبر على الذبح فوفّى به. ¬

_ (¬1) من الآية 71 من سورة هود. (¬2) الآية 85 من سورة الأنبياء. (¬3) من الآية 54 من سورة مريم.

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} المفردات: {أَسْلَمَا} اسْتسْلما: لأَمر الله، وانقادا له. {تَلَّهُ}: أضجعه. {لِلْجَبِينِ}: يطلق الجبين على أَحد جانبي الجبهة، ويطلق أَيضًا على الوجه. {صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}: وفيتها حقها بالعزم على تنفيذ ما أَمر الله. {الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}: الاختبار البين الشدة. {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}: كبش سمين عظيم القدر. {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: موبق لها ومهلكها بالكفر والمعاصي. التفسير 103 - 106 - {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}:

المعنى: فلما استسلم إِبراهيم وولده لقضاءِ الله وانْقَادَا لإِنفاذ أَمره، وأَخلصا أَنفسهما له وفوضا أَمرهما إِليه أضجع إبراهيم ولده على شقه فوقع جبينه على الأَرض، وهو أَحد جانبي الجبهة، أَو: كبّه على وجهه بإِشارة الولد كي لا يرى منه ما يورث رقة تحول بينه وبين تنفيذ أَمر الله، وأَسلم الولد نفسه للذبح راضيًا بقضاءِ الله، صابرا محتسبا نفسه عند الله - لما فعلا ذلك - في صدق، وإخلاص أدركتهما رحمة الله ووافاهما النداء من قبل الله: يا إِبراهيم، قد صدقت الرؤْيا بالعزم على تنفيذ ما رأَيت في منامك وترتيب مقدماته، وإعداد مقتضياته، إنا كذلك نجزي المحسنين الذين ينزلون على قضاء الله، ولا يؤثرون شيئًا على طاعته وتحصيل رضاه. وهذا التذييل تعليل لتفريج تلك الكربة عنهما بإحسانهما، وصدق عزمهما. قال الآلوسي: أَخرج غير واحد أَنه قال لأَبيه: لا تذبحني وأَنت تنظر إِلى وجهي عسى أَن ترحمني فلا تجهز عليّ. اربط يديّ إلى رقبتي، ثم ضع وجهي للأَرض. وفي الآثار حكاية أقوال كثيرة غير ذلك, وكل هذه الأَقوال تدور حول امتثال الغلام لأَمر الله، وإِذعانه لقضائه. وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} تعقيب يجسد عظم البلاء, وقسوته، والمعنى: إِن هذا الأَمر الذي ابتلينا به إبراهيم وهذا الاختبار الذي سبرنا به غور إِيمانه وعمق يقينه، وتمحيص نبوته لهو الاختيار المتناهي في وضوح شدته، الذي يتميز فيه المخلصون، أَو لهو المحنة البينة الصعوبة البالغة أَقصى غايات القسوة والمرارة، إذ لا شيء أَصعب ولا أَقسى من أَن يذبح الإِنسان ولده بيده. 107 - {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}: كان حديث الآيات السابقة عن عظم البلاء تنويهًا بعظم الفداء، وترشيحًا لجلال قدره ليقع قوله - تعالى -: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} موقعه من قوة التصور، وسموّ التفخيم.

والمعنى: أَنجينا الغلام من الذبح، وعافيناه من محنته، وفديناه بما يذبح بدله - فديناه - بكبش عظيم الجثة مكتنزٍ لحمًا وشحمًا، أَو كبش عظيم القدر لأَنه عطاءُ الله، والعطاءُ يعظم بعظمة معطيه، ولأَنه يفدى به الله نبيًّا ابن نبي. 108، 109 - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}: أَي: لم ينته فضلنا على إبراهيم وولده عند كشف غمته، وإنزال الفداء، بل تجاوزنا هذا وزدناه حيث تركنا عليه، أَي: أَبقينا له وأعقبناه الثناء الحسن والذكر الجميل في الأُمم المتعاقبة بعده تتحرك به الشفاه وتنطلق به الأَلسن ترديدًا إلى آخر الزمان - تركنا عليه - {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. فكل أَهل الأَديان يحيونه بالسلام عليه بلغاتهم. 110 - {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}: أَي: مثل هذا الجزاء العظيم: من دوام الذكر، وخالد الثناء نجزي المحسنين في أعمالهم، الصادقين في نيّاتهم وإِخلاصهم. 111 - {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}: أَي: إِن إِبراهيم - عليه السلام - من جملة عبادنا المؤمنين الراسخين في الإيمان, الصادقين في العقيدة، ومن كان من جملة عبادنا المؤمنين لا يكون منه إلاَّ أَطيب الأَعمال، وأصدق الطاعات، ولا يكون له إلاَّ أَكرم الحسنات، وأَوفى المثوبات. 112 - {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}: أَي: وتوالى إِكرامنا لإِبراهيم، واستمرت منحتنا عليه حيث بشرناه بعد إِسماعيل بإِسحاق ولدًا آخر، وطويت في هذه البشارة بشارات حسن تنشئته وإِدراكه مدارك الرجال، ونبوَّته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوَّة تعظيم لشأْنه، وإيماءٌ إِلى أَنه الغاية للنبوة، وأَنه الثمرة المرجوة. 113 - {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}: أَي: وباركنا على إِبراهيم وإسحاق - عليهما السلام - بأَن أَفضنا عليهما بركات الدين

والدنيا، فأَكثرنا نسلهما وجعلنا منهما أَنبياءَ ورسلًا، واختلفت أَحوال ذريتهما فكان منها محسن بالإِيمان والطاعة لنفسه، وظالمٌ لنفسه بالكفر والمعاصي ظلمًا بيِّنًّا ظاهر القبح. وفي هذا تنبيه إِلى أَن الخبيث والطيب لا يجرى أَمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر فاجرًا، وقد يلد الفاجر بَرًّا، وهذا مما يهدم أَمر الطبائع والعناصر، وينبِّه إِلى أَن الظلم في أَعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وإِنما يعاب المرء بسوءِ فعله، ويعاقب على ما اجترحت يداه لا على ما وجد من أَصله وفرعه. {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)} المفردات: {مَنَنَّا}: أَحسنَّا وأَنعمنا عليهما بالنبوة والنجاة والنصرة. {الْكَرْبِ}: المكروه والشِّدة. {الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ}: الواضح. وهو التوراة. {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الذي لا عوج فيه؛ لأَنه الموصل إلى الحق والصواب.

التفسير 114 - {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}: شروع في قصة موسى وهارون بعد الفراغ من قصة إِبراهيم وما تضمنت من أَخبار غريبة، وأَحداث عجيبة، ومنح جزيلة، ومواقف جليلة. وصدّرت قصتهما بالمنَّة لإِبراز فضل الله - تعالى - عليهما في ظهورهما على قوم جبَّارين في أُمة عاتية، على رأْسها فرعون الغاشم المتأَله, لا يبالون بما يرتكبون من مظالم، ولا يخجلون مما يقترفون من مغاشم. والمعنى: ولقد أَحسنَّا وأَنعمنا على موسى وأَخيه هارون بالنبوَّة وغيرها من النعم الدينية والدنيوية، حيث بعثناهما في قوم جبارين، يستعبدون الأحرار، ويسخرونهم في مصالحهم، ويسومونهم سوء العذاب. 115 - {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}: أَي: ونجَّينا موسى وهارون ومن تبعهما من قومهما من تسلُّط فرعون وقومه وغشمهم، وخلَّصناهم من الكرب والشدة وأَلوان العذاب المتفاقم في العظم والقبح المتمثل في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (¬1): 116 - {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}: أَي: لم يقف أَمرنا معهما على الإِنجاءِ من كرب فرعون وقومه، وبطشهم بهم، بل تجاوز ذلك إِلى نصر موسى وهارون وقومهما على هذا الطاغوت، فكانوا هم الغالبين عليهم غلبة ليس وراءَها غاية، القاضين عليهم قضاء تركهم عبرة للعالمين وآية للمتأَملين. وقد بدىء في الآية بالتنجية، وإِن كانت مقارنة للنصر للإِشارة إِلى أَن مجرَّد التَّنجية من عذاب فرعون وقومه في ذاتها نعمة، فضلًا عمَّا صحبها من النصر والغلبة، لتوفية مقام الامتنان حقه بإِظهار كل مرتبة من المراتب الثلاث: التنجية، والنصر، والغلية نعمةً جليلة على حيالها. ¬

_ (¬1) من الآية 49 من سورة البقرة.

117 - {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ}: هذه الآية من جملة ما مَنَّ الله به على موسى وهارون، وهي في موقعها من تتابع المنن وتساوقها بعد التنجية والنصرة والغلبة ليتم الأَمن والاستقرار، ويتعبد الطريق إلى إنزال الكتاب. والمعنى: وآتينا موسى وهارون بعد تحقيق ما سبق - آتيناهما - الكتاب المستنير الواضح في تفصيل الشرائع، البين في توضيح الأَحكام، وهو التوراة. 118 - {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الهداية إِلى الصراط المستقيم أَثر لإِتيان الكتاب. والمعنى: وهديناهما بإِتيان الكتاب الصراطَ المستقيم، والطريق الممهد الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفصيل الشرائع، وتفاريع الأَحكام. 119، 120 - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}: أَي: وأَعقبناهما زيادة في المنَّة ووفرة في الإِحسان والفضل - أعقبناهما - الذكر الحسن والثناء الجميل في الأُمم التي تأْتي بعدهما إلى آخر الزمان بقولهم: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وما في معناه. 121، 122 - {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}: إِنا مثل هذا الجزاء الذي جازينا به موسى وهارون وقومهما من كل ما ذكرنا، وما شهدت به الأَحداث، وصار حديثًا عجبًا بين الناس - إنَّا كذلك نجزي المحسنين منهم ومن غيرهم جزاءً سخيًّا وافيًا, إِنهما من جملة عبادنا المؤمنين المخلصين في العبودية، وكمال الإيمان الذين لا يصدر عنهم إلاَّ العمل الصالح، والسلوك السوي. ولا يقع منهم إِلاَّ ما يقتضي جزيل الثواب وعظيم الجزاءِ.

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)} المفردات: {إِلْيَاسَ}: هو إلياس بن يس من سبط هارون أَخي موسى - عليهم السلام - بعث بعده، وقيل هو "إدريس". {بَعْلًا}: اسم صنم لأَهل بَكّ من الشام، وهو البلد المعروف اليوم باسم "بعلبك"، وقال عكرمة وقتادة: البعل: الرب بلغة اليمن. التفسير 123، 124 - {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ}: هذه الآيات دخول على قصة إِلياس ومن بلاغة التنزيل، وروعة إِعجازه اختلاف مداخل هذه القصص، ففي قصة نوح - عليه السلام - كان المدخل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ}. وفي قصة إِبراهيم: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}، وفي قصة موسى وهارون: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وهذا تفنن في الأُسلوب يزيده جمالًا، ويزيد القارئ إِقبالًا، حيث يتصدر كل قصة الحدث الجليل فيها. وقد صدرت قصة إِلياس ومن بعده بتكرار المؤكدات, لأَن أَخبارهم لم تبلغ في الاشتهار والتداول مبلغ نوح وإِبراهيم وموسى - عليهم السلام -. والمعنى: وإِن من أَنبياء الله - تعالى - ورسله الذين أَرسلهم إِلى أقوامهم لإِرشادهم وهدايتهم إِلياس من سبط هارون أَخي موسى وبعث بعده، فاذكر يا رسول الله إذ قال لقومه

حين بعث فيهم: أَلاَ تتَّقون الله وتخافون عذابه على كفركم به وجحدكم آلاءه ونعمه عليكم، وإِعراضكم عن توحيده وشكر عطائه، واتخاذكم آلهة زائفة، ومعبودات زائلة تالفة. 125، 126 - {أتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}: أَي: أَيستقيم منكم، ويصح في عقولكم وأَفهامكم أَن تعبدوا صنمًا أَصم، وحجرًا أَبكم تجثون حوله، وتقدمون له القرابين تدعونه لقضاءِ حوائجكم فتطلبون الخير ممَّا لا خير فيه، ولا يملك لكم ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًّا {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}، وتتركون عبادته وتوحيده وهو ربكم الذي خلقكم فأَحسن خلقكم، وصوركم فأَبدع صوركم، وخلق آباءَكم الأَولين السابقين عليكم من لدن آدم - عليه السلام - الذين عمرت بهم الدنيا، وامتد الوجود، وأَجرى عليكم وعليهم نعمه، وسخر لكم ما في السموات وما في الأَرض جميعًا منه. {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)} المفردات: {لَمُحْضَرُونَ}: لشاهدون العذاب مساقون إِليه, والإِطلاق في الحضور اكتفاء بالقرائن، أَو لأَن الإِحضار المطلق مخصوص بالشر عرفًا. {إِلْ يَاسِينَ}: لغة في إلياس كسيناءَ في سينين، وهو الأَولى، وقيل: هو جمع له أُريد به هو وأتباعه كالمُهلَّبيِّين والخُبَيْبِيِّين.

التفسير 127، 128 - {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}: أَي: فكذب قوم إِلياس رسولهم وعارضوا دعوته، وأَنكروا عليه رسالته فحق عليهم عذاب الله، وحقت فيهم كلمته فإِنهم لشاهدون هذا العذاب ومدفوعون إِليه، ومساقون له لا يفلت منهم أَحد إِلاَّ من آمن به وصدقه، واتبع هداه فكان من الناجين المخلصين في عقيدتهم وطاعتهم لله. 129 - 132 - {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}: تختتم قصة إلياس - عليه السلام - بما اختتمت به قصص الأَنبياء قبله. والمعنى: وتركنا على إِلياس - في الأُمم الآتية بعده - الذكر الحسن والثناء الجميل المتمثل في قول الآخرِين: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} وما في معناه، إنا مثل هذا الجزاءِ من الثناء نجزي كل محسن من عبادنا المؤمنين الذين لا يصدر عنهم إلاَّ القول الطيب والفعل الجميل. {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} المفردات: {الْغَابِرِينَ}: الباقين في العذاب, أَو الماضين الهالكين، من: غَبَر بمعنى بقى أَو مضى فهو من الأَضداد. {دَمَّرْنَا}: أَهلكنا. {مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ}: داخلين في الصباح والمساء، أي: نهارًا وليلًا.

التفسير 133 - 136 - {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)}: بدئت قصة لوط بما بدئت به قصة إلياس من تأْكيد رسالته، ثم ذكرت نجاته وأَهله إِلاَّ امرأَته من شناعة العذاب الذي لحق بقومه فهدَّم عليهم قراهم تنبيهًا إِلى أَن نجاته من هذا العذاب نعمة من أَجلّ النعم. والمعنى: وإِن لوطًا - عليه السلام - لمن جملة المرسلين الذين أَرسلهم الله لهداية أَقوامهم فدعاهم ونصحهم ووجههم إِلى ما يصلح دينهم ودنياهم فعارضوه، وكذَّبوه وأَمعنوا في الفاحشة النكراءِ من إتيان الرجال دون النساء، فاستوجبوا أَنكى عذاب وأَقسى عقاب حيث ائتفكت بهم قراهم، وتهدمت عليهم منازلهم فذهبوا فوق التراب أَثرًا، وبقوا للناس عبرا، فاعلم ذلك يا رسول الله، واذكر لقومك ترشيدًا ونصحًا إذ نجينا لوطًا وأهله من هذا العذاب الشديد والبطش العتيد إِلاَّ امرأَته العجوز التي انتصرت لقومها فكانت من الباقين في العذاب، أَو الماضين الهالكين في التراب. ثمَّ دمَّرْنَا الآخرين فلم يبق منهم باق فإن في ذلك شواهد على صدق دعوته وكونه من جملة المرسلين. 137، 138 - {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}: أَي: وإِنكم يا كفار قريش لتمرون على منازلهم المهدَّمة في سفركم إلى الشام للتجارة وأَنتم داخلون في الصباح وفي المساءِ، أَي: نهارًا وليلًا "وسدوم" من قراهم المؤتفكة في طريقكم ترونها، وتشاهدون ما حلَّ بأَهلها. وقوله - تعالى -: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} معناه: أَتشاهدون ذلك فلا تتدبرون ولا تعقلون حتى تعتبروا وتخافوا أَن يصيبكم مثل ما أَصابهم، وينزل بكم ما نزل بهم، فإِن منشأَ ذلك مخالفتهم رسولهم، وأنتم في مخالفتكم لرسولكم تفعلون مثل فعلهم.

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} المفردات: {أَبَقَ}: هرب، وأَصل الإِباق: هرب العبد من سيِّده بغير إِذنه. {الْمَشْحُونِ}: المملوء. {فَسَاهَمَ}: قارع. {الْمُدْحَضِينَ}: المغلوبين بالقرعة. {الْتَقَمَهُ}: ابتلعه. {وَهُوَ مُلِيمٌ}: داخل في الملامة مستحق لها. {الْمُسَبِّحِينَ}: الذاكرين. {لَلَبِثَ}: مكث. {يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: يوم القيامة. التفسير 139 - 142 - {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)}: بهذه الآيات الكريمة تنتهي قصص الأنبياء التي احتوتها هذه السورة من كتاب الله. وممَّا يثير النظر، ويسترعى الانتباه في هذا التنزيل البليغ أَن الفلك التي نجَّى الله بها نوحًا وأَهله في أَول هذه القصص تكرر ذكر مثلها في فلك آخر غرق منه يونس في اليم في آخر قصة منها.

ويونس - عليه السلام - هو يونس بن متَّى، قيل: إِنه نُبِّىءَ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكى في البحر أَنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس. وقال الآلوسي: "يروى أَنه أَوعد قومه العذاب، وأَخبرهم أَنه ينزل بهم إِلى ثلاثة أَيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أَن ينزل العذاب بهم، فعجُّوا إِلى الله وأَنابوا واستقالوا فأقالهم الله - تعالى - وصرف عنهم العذاب، فلمَّا لم ير يونس نزول العذاب استحيى أَن يرجع إِليهم وقال: لا أَرجع إِليهم كذَّابًا أَبدًا، ومضى على وجهه، فأَتى سفينة فركبها، فلما وصلت اللجّة وقفت فلم تسر، فقال صاحبها: ما يمنعها أَن تسير إلاَّ أَنَّ فيكم رجلًا مشئومًا فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء، فوقعت على يونس، ثم أَعادوها فوقعت عليه, ثم أَعادوها فوقعت عليه، فلما رأَى ذلك رمى بنفسه في الماء". ومعنى الآيات: وإِن يونس - عليه السلام - لمن جماعة المرسلين، فاذكر يا رسول الله قصته وخبره إِذ هرب قبل أَن يأْذن له ربُّه إِلى الفُلْك المملوء بالراكبين المزحوم بكثرتهم فرارًا من العذاب الذي أُخبر بنزوله على قومه. وعبَّر عن خروجه بالإِباق مع أَن الإِباق لا يكون إِلاَّ في هرب العبد من سيّده, لأَنه خرج قبل أَن يأْذن الله له بالخروج فاعتبر إباقًا كإباق العبد من سيِّده، وحسّنه أن كل مخلوق عبد الله تعالى. وقوله - تعالى -: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} معناه: فقارع مع من كانوا معه في السفينة ليلقوا من تصيبه القرعة في الماء فأَصابته القرعة, وكرروا ذلك ثلاثًا فلم تخطئه فكان من المدحضين بالقرعة المغلوبين فيها، فلما رأَى ذلك رمى بنفسه في اليم، فتلقاه الحوت وابتلعه، وهو آتٍ بما يلام عليه مستحق لذلك. 143، 144 - {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}: أَي: فلولا أَن يونس - عليه السلام - كان من الذاكرين الله كثيرًا الذين ديدنهُم التسبيح يعيشون فيه ويدومون عليه طوال حياتهم لا ينقطعون عن ذلك ولا يفترون لمكث في بطن الحوت حيًّا إلى يوم يبعثون: يوم القيامة.

والمراد بالتسبيح: مطلق الذكر كما حمله بعضهم، وحمله بعض آخر على العبادة، وقال آخرون: إن التسبيح هو ما ذكره الله - تعالى - في قوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1). وذهب جماعة منهم ابن عباس إِلى حمله على الصلاة، بل رُوى عنه أَنه قال: "كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة". وفي النص الكريم حثٌّ على إِكثار الذكر، ومداومة التسبيح، وتعظيم لشأْنه، وتنبيه إلى أَن من أَقبل على الله في السراء، أَخذ بيده عند الضراء. أَخرج ابن أَبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال: "اذكروا الله تعالى في الرخاءِ يذكركم في الشدة فإِن يونس - عليه السلام - كان عبدًا صالحًا ذاكرًا لله - تعالى - فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ... } الآية وإِن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله - تعالى - فلما أَدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬2). وكما اختلف المفسرون في كنه التسبيح اختلفوا في مقدار المكث، فقيل: أَربعون يومًا، وقيل: عشرون, وقيل: سبعة، وقيل: ثلاثة، وقيل: لم يلبث إلاَّ قليلًا ثم أُخرج من بطنه عقب الوقت الذي التُقم فيه. روى عطاء أَنه حين ابتلع الحوت يونس أَوحى الله - تعالى - إلى الحوت: "إني جعلت بطنك له سجنًا ولم أَجعله لك طعامًا". والمراد من الوحي إِلى الحوت إِلهامه، وحبس جهازه الهضمي عن هضمه، والله أَعلم. ¬

_ (¬1) من الآية 87 من سورة الأنبياء. (¬2) الآية 90، 91 من سورة يونس.

بيان للقراء الكرام

بيان للقراء الكرام بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد رسول الله، وعلى آله وصحبه أَجمعين وبعد: فقد بدأْنا - بتوفيق الله تعالى - تفسير النصف الثاني من القرآن الكريم، من قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ... } من الآية 79 من سورة الكهف - كما وعدنا القراءَ - ووصلنا إِلى نهاية الآيتين: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} من سورة الصافات الآيتين 143، 144 وبهما ينتهي الحزب الخامس والأَربعون من القرآن العظيم، وبذلك يكون قد تم تفسير ثلاثة أَرباع القرآن الكريم. وقد توفي في هذه الفترة فضيلة الأُستاذ الشيخ طه الساكت، والسيد الأُستاذ علي عبد العظيم، عضوا لجنة التفسير الوسيط - عليهما رحمة الله - وجزاهما أَحسن الجزاء على صالح أَعمالهما، وقد حل محلهما فضيلة الأُستاذ الشيخ محمَّد مرسي عامر، وفضيلة الأُستاذ الشيخ إبراهيم السويركي، وأَصبحت اللجنة مؤلفة كالآتي حسب ترتيب الحروف الهجائية: 1 - الشيخ إبراهيم السويركي. 2 - الشيخ سيد مصطفى شريف. 3 - الشيخ عبد المهيمن الفقي. 4 - الشيخ محمد مرسي عامر. 5 - الشيخ مصطفى محمَّد الحديدي الطير. ويقوم فضيلة الشيخ مصطفى محمَّد الحديدي الطير بتنسيق أَعمال هذه اللجنة ويتولى رياستها، وقد عرف القراء - ممَّا صدر من تفسيرها الأَحزاب التي طبعت - أَن اللجنة عند التزامها إِخراج التفسير خاليا من التعقيد والمصطلحات الفنية، إِلاَّ ما تدعو إليه شدة الضرورة،

كما عرفوا خلوه من الإسرائيليات والآراء الهابطة، كما أدركوا تقاربه بفضل التنسيق الدقيق والمراجعة اللذين يتولاهما رئيس اللجنة. ونحن لا ندعي الكمال فيما قدمناه للقراءِ الكرام.، كما لا ندعي خلوه من الخطأ، فالعصمة لله ولرسوله، وحسبنا أَننا بذلنا فيه الوسع، ورجونا فيه الأَجر من رب العالمين، وإننا لنشكر للقراءِ الكرام - في مصر والبلاد العربية - إِقبالهم على شراء ما يصدر منه من الطبعات. وقد فرغت اللجنة من تأليف وتنسيق أكثر من ذلك، وهو تحت الطبع. والله تعالى ولي التوفيق، رئيس اللجنة مصطفى محمَّد الحديدي الطير عضو مجمع البحوث الإِسلامية

* {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} المفردات: {فَنَبَذْنَاهُ}: فطرحنَاه وأَلقيناه. {بِالْعَرَاءِ}: بالأَرض الفضاءِ. {سَقِيمٌ}: مريض ضعيف البدن. {يَقْطِينٍ}: شجرة القرع وليس لها ساق تقوم عليه. التفسير 145 - {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ}: ذكر الله - سبحانه وتعالى - في الآيات السابقة أن يونس - عليه السلام - التقمه الحوت وهو مُلِيم لأَنه حين رأى العذاب لم ينزل بقومه، وكان قد توعدهم به تركهم وقال: لا أَرجع إِليهم كاذبًا, ولم يستأذن ربه في تركهم، ولولا أنه كان من المواظبين على تسبيح الله والدعاءِ لبقي في بطن الحوت إِلى يوم البعث، وفي هذه الآية الكريمة يقول - سبحان -: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} بأَن حملنا الحوت على لَفْظِه وطرحه في الفضاءِ الواسع من الأَرض لا شجر فيه، ولا شىءَ يُغَطِّيه ويواريه من بناءٍ أَو سقف، وهو عليل واهن البدن خائر القوى مما أصابه، قال ابن عباس: كبدن الصبي حين يولد، قيل: إنه نبذه كل شط دِجْلة قرب مدينة "نينوى" والله أعلم بمكان طرحه في العراء. 146 - {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}: أَي: وأَنبتناها عليه مُظِلَّة له كالخيمة، واليقطين: يفْعِيل من قَطَن بالمكان إِذا أَقام به، والمراد به على ما جاءَ عن ابن عباس في رواية: الدُّبَّاء، وهو الفرع

المعروف أَنبتها الله - تعالى - فَغَطَّته ووقَتْه غوائل الجو لأنها تجمع خِصالا عدَّة: برْد الظِّلِّ، ونعومة الملمس، وعظم الورق، وأَنَّ الذباب لا يقع عليها كما قيل، وكان - عليه السلام - لرقَّة جلده بمكثه في بطن الحوت يُؤْذيه الذباب، ومُماسَّة ما فيه خشونة، ويؤلمه حر الشمس، ويستطيب بارد الظل، فلطف الله - تعالى - به بذلك، وذكر الزمخشري أنه قيل لرسول الله: إنك لتحب القرع: قال: أجل هي شجرة أخي يونس. وذكر القرطبي عن أَنس - رضى الله عنه - قال: قُدِّم للنبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَقٌ فيه دُبَّاء وقَدِيد، فجعل يتَّبع الدُّبَّاءَ حول القصعة. قال أَنس: فلم أَزل أُحب الدُّبَّاءَ من يومئذ. أَخرجه الأَئمة - وقيل: اليقطين شجرة التين، وقيل: الموز، والأَكثر على أنه القرع، وعلى هذا يكون المولى - سبحانه - قد جعل لهذا القرع ساقًا عالية ليظلله ورقها، والله على كل شيءٍ قدير. 147 - {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}: بعد أَن أَبَلَّ يونس من مرضه، وعُوفي من ضعفه، وصح بدنه، أَرسلناه إلى عدد كبير يقول من يراه: إِنهم مائة ألف أَو يزيدون في مرأَى الناظر، والغرض الوصف بالكثرة، وقيل: لَفْظ {أَوْ} في قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} بمعنى الواو، أَي: ويزيدون مع استمرار التبليغ، والمراد بقوله - تعالى -: {وَأَرْسَلْنَاهُ} ما سبق من إِرساله إِلى قومه من أهل نينوى، حين كُفْرهم قبل أَن يؤمنوا، وقيل غير ذلك. 148 - {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}: فاستجابوا جميعًا لدعوته، وآمنوا برسالته، واتبعوا النور الذي أُنزل معه بعد أن رأوا أمارات العذاب، فأَبقيناهم مُمتَّعين بمالهم وأَملاكهم, آمنين في سربهم, وبسطنا عليهم نعمتنا إِلى الوقت المعلوم حين تنقضي آجالهم. وكان يونس لا يعلم بأَنهم آمنوا فرفع عنهم العذاب روى عن عبد الله بن مسعود أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن يونس وعد قومه بالعذاب، وأَخبرهم أن يأْتيهم إِلى ثلاثة أَيام، ففرقوا بين كل والدة وولدها وخرجوا، فجاروا إلى الله واستغفروا فكف عنهم العذاب، وغدا يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئًا، فخرج يونس مغاضبًا، فأَتى قومًا في سفينة فحملوه .. " انظر القرطبي.

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)} المفردات: {فَاسْتَفْتِهِمْ}: فاستخبر كفار مكة توبيخا لهم، وسلْهُم على سبيل الإِنكار عليهم. {إِفْكِهِمْ}: كذبهم. {أَصْطَفَى}: أَختار، وهو استفهام توبيخ. التفسير 149 - {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ}: أَمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه السورة الكريمة بتبكيت قريش وإِبطال مذهبهم في إِنكار البعث بطريق الاستفتاءِ في قوله - تعالى -: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (¬1) وساق البراهين الناطقة بأَنه سيتحقق لا محالة وبيَّن ما سوف يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين، وفصل - سبحانه - ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر - سبحانه - أَنه قد ضلَّ مِنْ قبلهم أَكثر الأَوَّلين، وأَنه - تعالى - أَرسل إِليهم منذرين على وجه الإجمال، ثم أَورد قصص بعض الأَنبياءِ - عليهم السلام - بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له - عز وجل - ثم أَمره - صلى الله عليه وسلم - بتبكيتهم بطريق الاستفتاءِ عن وجه ما زعموه من نسبة البنات إلى الله - تعالى - وقد قال بذلك ¬

_ (¬1) سورة الصافات: من الآية 11.

جهينة، وبنو سلمة، وخزاعة وغيرهم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فجعلوا لله الإِناث، ولأَنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهيتهم الشديدة لهنّ، ووأدهن، واستنكافهم من ذكرهنّ، وقد ارتكبوا في ذلك ثلاثة أَنواع من الكفر: أحدها: التَّجْسيم لأَن الولادة مختصة بالأَجسام، والثاني: تفضيل أَنفسهم على ربهم حيث جعلوا أَقل الجنسين في نظرهم له، وأَرفعها لهم كما قال - تعالى -: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (¬1). الثالث: أنهم استهانوا بالملائكة وهم أكرم خلق الله عليه، وأَقربهم إليه، حيث حكموا عليهم بالأُنوثة، ولو قيل لأَقلهم درجة وأَدناهم منزلة: فيك أُنوثة أَو نحوها لثار لكرامته، وللبس لقائله ثوب النمر. 150 - {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ}: إِضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاءِ السابق إلى التبكيت بهذا، أَي: بل أَخلقنا الملائكة إناثًا وهم معاينون لخلقهم حتى حكموا هذا الحكم الباطل، فهم من أشرف الخلائق عند ربهم، وأَعظمهم بعدا عن الأنوثة، وقوله - تعالى -: {وَهُمْ شَاهِدُونَ} استهزاء بهم، وتجهيل لهم، ومثله قوله - تعالى -: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} (¬2) فإن هذه الأمور لا تُعْلَم إلاَّ بالمشاهدة, إِذ لا سبيل إِلى معرفتها بطريق العقل ولا النقل، فلا بد أَن يكون القائل بأُنوثتهم شَاهد خَلقهم على هذه الصورة ليصح قوله، ولا سبيل لهم إلى ذلك. 151، 152 - {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)}: استئناف من جهته - تعالى - غير داخل تحت الاستفتاءِ, سِيق لإِبطال أَصل مذهبهم الفاسد ببيان أَن مبناه الإفك والافتراء القبيح, من غير أن يكون لهم دليل ولا شبهة، وإِنهم لكاذبون فيما يتدينون به مطلقًا أو في هذا القول، والمعنى: تنبَّه أَيها السامع: إِنهم من كذبهم واختلاقهم ليقولون: ولد الله، بقولهم: الملائكة بنات الله، وهو المنزه ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: الآية 17. (¬2) سورة الزخرف: من الآية 19.

عن الوالدية والولدية، وإِنهم لكاذبون في هذا الادعاءِ بشهادة الأدلة على وحدانيته - تعالى -، والولد يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. 153 - {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}: أَي: أَي شيءٍ يحمله على أن يختار البنات - المكروهات في زعمكم - على البنين المحبوبين لديكم وهو - سبحانه - الخالق للبنات والبنبن، مثل ذلك قوله - تعالى -: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} (¬1) والاستفهام للإنكار والتوبيخ, والمراد: إثبات إفكهم وتقرير كذبهم، ولهذا قال تبارك وتعالى: 154 - {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}: ماذا أَصابكم حين حكمتم بغير دليل, كيف تحكمون هذا الحكم الفاسد مع وضوح بطلانه؟ 155 - {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}: أنسيتم دلائل القدرة والتنزيه المرْكوزة في كل العقول، فلا تتذكرون أنه لا يجوز أَن يكون له ولد حتى وقعتم في هذا الضلال؟ {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)} ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآية 40.

المفردات: {سُلْطَانٌ مُبِينٌ}: حجَّةٌ واضحة وبرهان على أَن الملائكة بنات الله. {الْجِنَّةِ}: الملائكة لأَنهم يستجنُّون، أَي: يختفون ويستترون، أَو الجن. التفسير 156 - {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ}: إِضرابٌ وانتقال من توبيخهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أَصلًا، أَي: بل أَلكم حجة واضحة نزلت من السماء بأَن الملائكة بناته، ضرورة أَن الحكم بذلك لا بد له من دليل حسِّي أَو عقلي، وحيث انتفى كلاهما فلابد من سند نقلي له سلطان وقوة، ولا سبيل إلى ذلك. 157 - {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أَي: هاتوا برهانًا على ذلك يكون مستندًا إلى كتاب منزل من السماء عن الله - تعالى - أَنه اتخذ ما تقولونه، ويكون ناطقا بصحة دعواكم إن كنتم صادقين فيها، والأَمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إِليهم للتهكم، وفي الآيات السابقة من الإِنباءِ عن السخط العظيم، والإِنكار الشديد لأَقاويلهم، والاستبعاد لأَباطيلهم، وتسفيه أَحلامهم، مع استهزاءٍ بهم وتعجيب من قولهم ما لا يخفى على من تأَمَّل فيها. 158 - {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}: التفات للغيبة للإِيذان بانقطاعهم عن الجواب، وسقوطهم عن درجة الخطاب, واقتضاء حالهم أَن يُعْرض عنهم، وتُحْكى لآخرين جناياتهم. والمعنى: استمرأ المشركون غيَّهم، وتمادوا في باطلهم وضلالهم, وجعلوا بين الله - سبحانه وتعالى - وبين الجن المستورين عن العيون قرابة ومصاهرة، ووالله لقد علمت الجن إن الكفار لمحضرون إِلى الله - تعالى - لينالوا جزاءَ ما ارتكبوا من جرم، وما اجترحوا من إِثم، بسبب اعتقادهم الفاسد، أَخرج آدم بن أَبي إِياس، وعبد بن حميد، وابن جرير وغيرهم،

عن مجاهد قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أَبو بكر الصديق - على سبيل التبكيت -: فمن أُمهاتهن؟ فقالوا: بنات سروات الجِن، وروى هذا ابن أَبي حاتم: عن عطية، أَو أُريد وجعلوا بينه وبين الجِنَّة نسبًا حيث أَشركوهم به - تعالى - في استحقاق العبادة، وروى هذا عن الحسن حيث قال: أَشركوا الشيطان في عبادة الله، فهذا النسب الذي جعلوه. 159 - {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}: أَي: تعالى الله وتقدَّس وتنزَّه عن أَن يكون له ولد، وعمَّا يصفه به الظالمون الملحدون المفترون من صفات النقص التي لا تليق بمقامه الكريم. 160 - {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}: لكن عباد الله المخلصين وهم المتبعون للحق المنزَّل على كل نبي ورسول برآءُ ممَّا يصفه به الكافرون، وهم ناجون من النار. {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)} المفردات: {بِفَاتِنِينَ}: بمضلين أَو مفسدين. {صَالِ الْجَحِيمِ}: داخلها ومُقَاسٍ حرها.

{الصَّافُّونَ}: الواقفون في العبادة صفوفًا. {الْمُسَبِّحُونَ}: المنزِّهُون الله - تعالى - عمَّا لا يليق بجلاله. {ذِكْرًا}: كتابًا. أَو من يُذَكِّرُنا بأَمر الله أَو بكتابه. التفسير 161، 162، 163 - {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}: عود إِلى خطاب المشركين، والضمير في (عليه) للهِ - عز وجل -. والمعنى: فإِنكم ومعبوديكم من دون الله ما أَنتم وهم جميعًا على الله بفاتنين إلاَّ أَصحاب النار الذين سبق في علمه أَنهم لسوءِ اختيارهم يستوجبون أَن يصْلَوْها ويذوقوا حرَّها، ومعنى يفتنونهم على الله: يفسدونهم عليه بإِغوائهم واستهوائِهم، من قولك: فتن فلان على فلان امرأته أَي: أَفسدها. ويجوز أَن تكون الواو في قوله: (وما تعبدون) بمعنى مع كما في قولهم: كل رجل وضيعته. والمعنى: فإِنكم مع ما تعبدون، من دون الله {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أَي: على الله {بِفَاتِنِينَ} أَي: بمضلين مفسدين {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أَي: إلاَّ من هو ضال مثلكم معذب بالجحيم. قال النَّحَّاس: أَهل التفسير مجمعون فيما علمت على أَن المعنى: ما أَنتم بمضِلِّين أَحدًا إلاَّ من قدَّر الله - عز وجل - أن يَضلَّ. وفيها من المعاني أَن الشياطين لا يصِلُون إلى إضلال أَحد إلاَّ من كتب الله عليه أَنه لا يهتدى لسوءِ اختياره، ولو علم الله - جلَّ شأْنه - أَنه يهدي لحال بينه وبينهم. 164 - {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}: هذه الآية وما بعدها من قول الملائكة تعظيمًا لله - عَزَّ وَجَلَّ - وإِنكارًا منهم عبادة من عبدهم، أَي: وما مِنَّا إِلاَّ له مقام معلوم في العبادة والعلم والرُّتْبة، والرُّجوع إِلى أَمر الله - تعالى -

في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه، ولا يستطيع أَن ينزلَ عنه خضوعًا لعظمته - تعالى - وخشوعًا لهيبته - سبحانه - وتواضعًا لجلاله - جل شأْنه -. والآية تشير إِلى أَنَّ الملَك لا يتعدَّى مقامه إِلى ما فوقه، ولا يهبط عنه إِلى ما دونه، قال مقاتل: هذه الثلاث الآيات {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} وما بعدها، نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند سدرة المنتهى، فتأَخَّر جبريل، فقال النبي: أَهنا تفارقني؟ فقال: ما أَستطيع أَن أَتقدم من مكاني. وأَنزل الله - تعالى - حكاية عن قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ... } إلى آخر الآيات. 165 - {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}: أَي: وإِنَّا لنحن الصَّافون أَنفسنا في مواقف العبودية دائمًا، وقيل: الصافون أَقدامنا في الصلاة، وقيل: الصافون حول العرش ننتظر الأَمر الإِلهي، وأَخرج ابن أَبي حاتم عن الوليد ابن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لاَ يَصُفُّون في الصلاة حتى نزلت {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}، وأَخرج مسلم عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضِّلْنا على الناس بثلاث: جُعِلَت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجُعِلت لنا الأَرض مسجدًا، وجُعِلت لنا تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء، وليس يصطف أَحد من أَهل المِلل في صلاتهم غير المسلمين". وفي صحيح مسلم عن جابر بن سَمُرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في المسجد فقال: "أَلاَ تَصُفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله، كيف تَصُفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: يُتِمُّون الصفوف الأُوَل، ويتراصُّون في الصف". وقال أَبو نَضرة: كان عمر - رضي الله عنه - إذا أُقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: "أَقيموا صفوفكم، استووا قيامًا يريد الله بكم هَدْي الملائكة، ثم يقول: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} تأَخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبِّر".

166 - {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}: أَي: المنزِّهون الله عمَّا لا يليق به - سبحانه - ويدخل فيه ما نسبه الكفرة إلى الله - تعالى - وقيل: أَي القائلون: سبحان الله, وأخرج عبد بن حُميد وغيره عن قتادة أَنه قال: المُسبِّحون, أَي: المصلُّون، ويقتضيه ما روى عن ابن عباس: أَنَّ كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والأُسلوب يُفيد أَنهم المواظبون على ذلك من غير فُتور، وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعلَّ الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة. قال الزمخشري: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أَي: الْمُنَزِّهُن، أو المصَلُّون, والوجه أَن يكون وما قبله وهو قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} كأَنَّه قيل: وقد علمت الملائكة وشهدوا: أَن المشركين محضرون يوم القيامة لعقابهم، وقالوا: سبحان الله، فنزِّهوه عن ذلك، واستثنوْا عباد الله المخلصين، وبرَّءُوهم منه، وقالوا للكفرة: إنَّكم وآلهتكم لا تقدرون أنْ تفتنوا على الله أحدًا من خلقه وتضلوه، إِلاَّ من كان مثلكم ممن علم الله أَنهم من أَهل النار لكفرهم، وكيف نكون مناسبين لرب العزة ويجمعنا وإياه جنس واحد، وما نحن إلاَّ عبيد أَذلاَّء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أَن يزلّ عنه خشوعًا لعظمته وتواضعًا لجلاله، ونحن الصَّافُّون أَقدامنا وأجنحتنا لعبادته، مذعنين خاضعين مسبِّحين مُمَجِّدِين كما يجب على العباد لربهم. 167، 168، 169 - {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)}: عود إِلى الإِخبار عن المشركين: بأَنهم كانوا قبل بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لو أَنَّ عندنا ذكرًا، أَي: كتابا من كتب الأَولين الذين أُنزل عليهم التوراة والإِنجيل؛ لأَخلصنا

العبادة لله، ولما كذَّبنا كما كذبوا، وخالفنا كما خالفوا، وقيل: كانوا يتمنون قبل أَن تُبعث يا محمد لو كان عندهم من يذكِّرهم بأَمر الله، وما كان من أَخبار القرون الأُولى، ويأْتيهم بكتاب من عند الله، إذا لاتَّبعوه، ولما حاربوه، فجاءَهم نبي هو خير الأَنبياءِ، وسيد المرسلين، ومعه كتاب مُعجز مهيمن على سائر الكتب والأَخبار، وهو القرآن الكريم، كتاب الله الذي لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، حوى الخير والسعادة للبشرية كلها. 170 - {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: فجاءَهم الكتاب الذي تمنوه وطلبوه فكفروا به، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وما يجعل بهم من الانتقام، وهو وعيد أَكيد، وتهديد شديد على كفرهم بربهم، وتكذيبهم لكتابه ورسوله. {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)} المفردات: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}: فأَعرض عن كفار مكة. {حَتَّى حِينٍ}: إلى الوقت الذي أمهلوا فيه، أَو إِلى بدر أَو فتح مكة. {بِسَاحَتِهِمْ}: بفنائِهم، والمراد: بهم. {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أَي: فبئس الصباح صباحهم.

التفسير 171، 172، 173 - {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}: استئناف مُقرِّر للوعيد، وتصديره بالقسم لتمام العناية بتحقيق مضمونه، أَي: وبالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالنصرة والغلبة على الكافرين، والكلمة هي قوله - تعالى -: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} وإِنما سماها كلمة وهي كلمات عدة؛ لأَنَّها لمَّا انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة. وقُرئ: كلماتنا، والمراد: الوعد بعلوِّهم على عدوهم في مقام الحِجاج، وملاحم القتال في الدنيا، وعلوهم على غيرهم في الآخرة، كما قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1) ولا يلزم انهزامهم في بعض المشاهد، وما جرى على بعضهم من القتل؛ لأَن قاعدة أَمرهم وأساسه والغالب منه الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شَوْبٌ من البلاءِ والمحنة، فالحكم للغالب، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إن لم يُنْصروا في الدنيا نصروا في الآخرة". 174 - {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}: أَي: فأَعرض عن كفار مكة، واصبر على أَذاهم لك، وانتظر إِلى وقت مؤَجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة عليهم، والظفر بهم، وذلك يوم بدر، أَو فتح مكة، والأَخير هو الظاهر، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد نصر عليهم نهائيا في فتح مكة؛ ودخلوا في دين الله أَفواجا، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ونميت} فقد أَحياهم الله بالإِسلام. 175 - {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}: وأَبصر ما يكونون عليه يوم القيامة من العذاب فسوف يُبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، أَو المراد: وأَبصرهم يوم القيامة وهم يعذبون، فسوف يبصرون ويندمون حين لا ينفعهم ذلك، وفي ذكر ذلك تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنفيس عنه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: من الآية 212.

176 - {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}: استفهام توبيخ: والمعنى: أَسلبوا عقولهم فبعذابنا يستعجلون؟ فكأَنه يقول: لا تستعجلوه فإِنه واقع بكم، إِن استمررتم على كفركم وتكذيبكم لرسولكم، ورُوى أَنه لَمَّا نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قالوا: متى ذلك؟ فنزلت. 177 - {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}: أَي: فإِذا نزل العذاب الموعود بساحتهم وحل بهم وهم مصرون على الكفر فبئس صباح المنذرين صباحُهم، رُوى في الصحيحين: عن أَنس - رضي الله عنه - قال: لما أَتَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبرَ وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم الْمسَاحِي قالوا: محمَّد والخميس، ورجعوا إِلى حصنهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - "الله أَكبر خربت خيبر، إِنَّا إِذا نزلنا بساحة قوم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}. قال الزمخشري: مَثَّل العذاب النازل بهم بعد ما أُنْذِرُوه فأَنكروه بجيش أَنذر بعضُ النصحاءِ قومه بهجومه عليهم فلم يلتفتوا إِلى إِنذارهم، ولا أَخذوا أهبتهم، ولا دبَّروا أَمرهم تدبيرًا ينجيهم حتى أَناخ بفنائهم بغتة، فشنَّ عليهم الغارة، وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم أَن يغيروا صباحًا فسميت الغارة صباحًا وإِن وقعت في وقت آخر، وما فَصُحَتْ هذه الآية ولا كانت لها الرَّوْعة التي تحسُّ بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريق التمثيل. اهـ: كشاف بتصرف. 178 - {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ}: أَي: أَعرض عنهم إلى وقت ينتهي فيه أَمرهم ولا تهتم بمعارضتهم وتكذيبهم إِياك. 179 - {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}: أَي: أَبصر ما يستقبلك ويستقبلهم، فسوف يرون ما به يستعجلون، إِن استمروا على كفرهم.

والآية تسلية لرسول الله إثر تسلية، وتأْكيد لوقوع ما أُنذروا به عقب تأْكيد، مع ما في إِطلاق الفعلين عن المفعول من الإِيذان بأَن ما يبصره - عليه السلام - حينئذ من فنون المسرَّات وما يبصرونه من أنواع المضار لا يحيط به الوصف والبيان، ويجوز أن يراد بقوله - تعالى -: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} المفردات: {سُبْحَانَ رَبِّكَ}: تنزيهًا لربِّك يا محمَّد عما يصفه به المشركون. {الْعِزَّةِ}: الغلبة والقدرة. التفسير 180 - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}: أَي: تنزيهًا لله - تعالى - عن كل ما يصفه به المشركون مما لا يليق بكبريائه وجبروته, مما حكى عنهم في السورة الكريمة "كاتِّخَاذ الصَّاحبة والولد" وزعمهم أن الله لن ينصره عليهم وكأَنه قيل: سبحان من هو مربِّيك ومكمِّلك ومن له العِزةُ والغلبة والبطش على الإِطلاق عما يصفه به المشركون، وما يلحقونه به من الأُمور التي منها: ترك نصرتك عليهم، كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب والمقصود من قوله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} أَنَّهَا لَهُ - تعالى - وحده، وما من عزة لأَحد من الملوك وغيرهم إلا وهو - عَزَّ وَجَلَّ - ربُّهَا ومالكها.

قال الزمخشري: أُضيف الرب إلى العزة لاختصاصه - تعالى - بها، كأَنَّه قيل: ذي العزة، كما تقول: صاحب صدق لاختصاصه بالصدق. 181 - {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ}: تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه - تعالى - لنفسه عمَّا ذُكر، وتنويه بشأْنهم وإِيذان بأَنهم سالمون من كل المكاره، فائزون بكل المآرب، لهم أَمن الله - عَزَّ وَجَلَّ - في الدنيا ويوم الفزع الأَكبر؛ لأَنهم الذين بلَّغوا عن الله الشرائع، ونشروا رسالة السماءِ إِلى الأَرض، وكانوا رواد الناس إلى الصراط المستقيم، والطريق القويم. 182 - {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: إشارة إِلى وصفه - تعالى - بصفاته الكريمة الثبوتية, بعد التنبيه على اتصافه - عَزَّ وَجَلَّ - بجميع صفاته السلبية, والمعنى: والثناء لله وحده. خالق العالمين ومربيهم على موائد كرمه، القائم على الخلق أَجمعين, وقال القرطبي: (الحمد لله رب العالمين) أَي: على إِرسال الرسل مبشرين ومنذرين, وقيل: على هلاك المشركين, ودليله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). قلت: والكل مراد، والحمد يعمُّ. اهـ "بتصرف يسير". والمراد من هذه الآيات: تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه - سبحانه - وتحميده والتسليم على رسله - عليه السلام - ولعلَّ توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه - تعالى - وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده - تعالى - على ما فيه من الإشعار بأَن توفيقه - تعالى - للتسليم على المرسلين من جملة نعمه الموجبة للحمد. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: الآية 45.

وهذه الآيات من الجوامع والكوامل، ووقوعها في موقعها هذا ينادي بأَنه كلام من له الكبرياءُ ومنه العزة - جل جلاله - وعمَّ نواله, وقد أَخرج الخطيب: عن أَبي سعيد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد أَن يسلم: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} وأَخرج ابن أَبي حاتم: عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سرَّه أَن يُكْتَال له بالمكيال الأَوفى من الأَجْرِ يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أَن يقوم: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}.

سورة ص

سورة "ص" وجه مناسبتها لما قبلها 1 - سورة "ص" هي كالمتمِّمة لسورة "الصافات" التي قبلها لأَنه - سبحانه وتعالى - ذكر فيها بعض الأَنبياءِ الذين لم يذكرهم في السورة السابقة كداود وسليمان - عليهما السلام -. 2 - كذلك لما ذكر - سبحانه وتعالى - في سورة "الصافات" عن الكفار أَنهم قالوا: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} وأَنهم كفروا بالذكر لما جاءَهم بدأَ - عزَّ وجلَّ - في سورة "ص" بالقسم بالقرآن ذي الذكر، وفَصَّل فيها ما أَجمله هناك من أَحوال كفرهم. ومن دَقَّق النَّظر في السورتين لاحت له مناسبات أُخرى كذكر قصص الأَنبياءِ والمرسلين مع أُممهم, وكيف نصر الله الحق وأَعزَّ سلطانه, ودمر الباطل وقوَّض صولجانه. مقدمة: سورة "ص" مكيَّة وآياتها ثمان وثمانون آية, وهي السورة الثامنة والثلاثون من سور القرآن الكريم. بدئت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن ذي الشَّرَف على أَنه الحقُّ لا ريب فيه، ثم ذكرت أَنَّ الَّذين كفروا ما منعهم عن الإيمان بالله, والتَّصديق برسوله إلاَّ الأَنفة والتكبُّر على الحقِّ وحب الجدل والمشاقَّة والمعاندة لرسوله. ثم قصَّ الله فيها أخبار الأَنبياء والرسل السابقين ليكون ذلك زجرًا للكافرين والمكذبين، وتثبيتًا للرَّسول وللمؤمنين، وليصبر الرسول على تبليغ الدعوة مهما لاقى في سبيلها من أَهوال وأَذى.

وذكر الله في هذه السورة ما لم يذكره في سورة "الصَّافَّات" ذكر قِصَّة داود ذي القوَّة في الدين والدُّنيا، الأَوَّاب الذي ذَلَّل الله الجبال تسبِّح معه عند إِشراق الشمس وآخر النهار، وذلَّل له الطَّيرْ تُرَجِّعُ معه التسبيح، وقَوَّى الله ملكه وآتاه النُّبوة والفضاء في الخصومات، ثم تحدَّثت السورة عن خبر الخصم الذين تَسوَّرُوا المحراب على داود، وقضى بينهم دون تثبُّت ومراجعة لأَقوال الخصم الآخر حتى يتَّضِح له وجه الحق جليًّا، وعلم داود أن الله امتحنه بهذه القصة، فاستغفر رَبَّه، وخَرَّ راكعًا وأَناب، فغفر الله له ذلك، وله عنده زلفى وحسن مآب، ووَصَّى الله نبيَّه داود - وهي وصيَّة من الله كذلك لكل الولاة، والحكام - أن يحكموا بين الناس بالحقِّ المنزَّل من عنده، ولا يعدلوا عن ذلك فيضلُّوا عن سبيل الله؛ لأَنَّ العدل أَساس الملك، وقِوام الأمم، وأَمان الشعوب، ولقد تَوعَّد الله من ضلَّ عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الشديد، والعذاب الأَليم. ثم بينت السورة أَنَّ مِن حكمة الله وعدله ألاَّ يُسوَّى بين المؤمنين والكافرين، وذكرت السورة أَن الله وهب لداود سليمان الكثير العبادة والإنابة، ومن أَخباره أَنه عُرض عليه بالعَشِيِّ الخيلُ فقال: إِنِّي آثرت حب الخير - أَي: الخيل - لأَنَّها عدَّة الخير، وهو الجهاد في سبيل الله، وظلَّ مشغولًا بعرضها عليه حتى غابت عن ناظريه، ثم أمر بردها عليه ليتعرف أَحوالها وأَخذ يمسح سوقها وأَعناقها رفقًا بها وحبًّا لها، وحدبًا عليها, ولقد امتحن الله سليمان لئلا يغترّ بأبَّهة الملك وعظمته فأَلقاه على كرسيِّه جسدًا بلا قُوَّة يستطيع بها تدبير الملك، فتنبَّه لهذا الامتحان فرجع إلى الله وأناب، وطلب من الله ملكًا لا ينبغي لأَحد من بعده، فسخَّر له الوهَّاب الرِّياح تجري بأَمره، كما سخَّر الشياطين وجعلها طوع مشيئته. وعقَّبت السورة على ذلك ببيان ما أَعدَّه الله للطائعين والمتقين من ثواب وحسن مآب، وللعاصين والطاغين من عذاب وعقاب وشر مآب. ثم صوَّرت السورة تخاصم أَهل النار وتحسرهم حينما يقولون: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}.

وفي السورة يأْمر الله رسوله أَن يقول للكافرين المشركين به: إِنَّما أَنا منذر ولست إِلهًا، وما من إله إلاَّ الله الواحد القهَّار، رب السَّموات والأرض وما بينهما, مالك جميع ذلك، ومتصرف فيه، العزيز الغفار يغفر مع عظمته وعزته. قل لهم يا محمد: إِرسال الله إِيَّاي لكم خير عظيم وشأن بليغ هام أَنتم عنه مُعْرضون غافلون، لا تفكِّرون فيه، ولولا الوحي ما كنت أَدري باختلاف الملأ الأَعلى في شأن آدم - عليه السلام - وخلقه وخلافته، وامتناع إبليس عن السجود له، ومحاجَّته ربه في تفضيله عليه. وهذه القصة ذكرها الله في سورة "البَقَرة"، وفي أَول سورة "الأَعْرَافِ"، وفي سورة "الْحِجْر" وسورة "سبحان" "والكَهْف" وذكرها القرآن هنا ليذكِّر الناس بما كان بين أَبيهم آدم وعدوِّه وعدُو الله إِبليس عليه اللَّعنة، وليعلموا أَن تكبُّره كان سببًا في طرده من رحمة الله إلى يوم القيامة. وفي ختام السورة يقول الله - تعالى -: قل يا محمد لهؤُلاءِ المشركين: ما أَسأَلكم على هذا الإِبلاغ وهذا النصح أجرًا من عرض الحياة الدنيا، وما أنا من المتكلِّفين المتصنِّعين المدَّعين للنبوَّة، وما القرآن الذي نزل عليَّ إلاَّ تذكير وموعظة للعالمين، ولتعلمنَّ صحة خبره وصدق ما جاء به من وعد ووعيد، وبعث وجزاءٍ، وعلوم وآيات كونية بعد حين، عندما تُكشف الأَستار، وتُذاع الأَسرار أمام من لا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء. {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

المفردات: {ص}: اختلف في تفسيره اختلافهم في نظيره من فواتح السُّور، فارجع إِلى ما كتبناه في صدر سورة "البقرة". {ذِي الذِّكْرِ}: ذي الشَّرف، أَو الذكر: الموعظة. {عِزَّةٍ}: حمية واستكبار عن الحق. {وَشِقَاقٍ}: ومعاندة ومخالفة. {قَرْنٍ}: يطلق مجازًا على الأمة. {فَنَادَوْا}: فاستغاثوا وجأَروا، والنداءُ والجؤار: رفع الصوت. {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}: وليس الوقت وقت فِرارٍ وخلاص. والمناص: التأخر والْفَوْت. التفسير 1 - {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}: {ص}: بالسكون على الوقف عند الجمهور؛ لأنها حرف من حروف الهجاء مسرودة على منهاج التعداد، ويقول في مثله السلف: الله أَعلم بمراده، وقد فصلنا آراءَ العلماء في مثله أَول "البقرة" وغيرها فارجع إليه، وقرأَ أُبي والحسن وغيرهما "صادِ" بكسر الدال، وأخرج ابن جرير عن الحسن: أنَّ صاد - بكسر الدال منونا - أَمْر من صَادى، أَي: عارض، ومنه الصَّدى وهو ما يعارض الصوت الأَول، ويقابله بمثله في الأَماكن الخالية. والمعنى: عَارضِ القرآن بعملك، أَي: اعمل بأَوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أَي: اعرضه على عملك فانظر أَين عملك من القرآن. {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر}: قسم أَقسم به ربنا - عز وجل - أَي: أُقسم بالقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد، وقيل: ذي الذكر: ذي الشرف والمكانة، ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإنذار، وجواب القسم

يدل عليه المقام، أَي: وحق القرآن إِنه لمُعجز، أَو إنه ليجب العمل به، وقيل: الجواب قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. 2 - {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}: معنى الآية مع ما قبلها كما يلي: وحق القرآن المشتمل على التذكير والعبرة إِنه ليجب الإيمان به، لكن الكافرين لم يؤمنوا، لا لخَلَل وجدوة فيه، بل لأَنَّهم في استكبار شديد عن أتباع الحق، وشقاق أَي: مخالفة لله ومعاندة ومشاقَّة لرسوله، ولذلك كفروا به. وأَصل الشِّقاق: إِظهار المخالفة على وجه المساواة للمُخالِف، أو على وجه الفضيلة عليه، وهو مأخوذ من الشِّق أَي: كأَنه في شِق غير شِق صاحبه, فهو يترفَّع عليه بأَن يكون معه في شِق واحد، ومثله المعاداة، وهو أَن يكون أَحدهما في عُدْوَة والآخر في عُدْوَة، والتعبير بفِي في قوله تعالى: {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} للدلالة على استغراقهم فيهما، والتنكير في (عزة وشقاق) لشدتهما. 3 - {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}: وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أَصاب أَضْرابهم، لتخويفهم بما أهلك به الأمم المكذِّبة المستكبرة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل، وتكذيبهم الكتب المنزَّلة من السماء، وتماديهم في الشقاق والعناد والْكِبْر. والمعنى: كثيرًا ما أَهلكنا قبلهم من أُمَّة مكذَّبة، وحين جاءهم العذاب وحلَّ بهم العقاب استغاثوا وجأَروا إلى الله بالدعاءِ والتوبة، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئًا، فليس الوقت وقت فرار من العقاب، ولا وقت هرب ونجاة من العذاب بالتَّوبة والدعاء، وما اعتبر كفار مكة بهؤُلاء، بل تمادوا في غيِّهم وفرارهم من الإيمان, وأَخرج الطَّسْتي عن ابن عباس: أَنَّ نافع بن الأزرق قال له: أَخبرني عن قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقال: ليس بحين فِرار. وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا تقاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص، أَي: عليكم بالفرار، فلما أَتاهم العذاب قالوا: مناص, فقال تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) وقال الفراء: النوص: التأخر، يقال: ناص عن قرته ينوص نوصا ومناصا فر وزاغ، ويقال: ناص ينوص إذا تقدم. أَضداد.

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)} المفردات: {عُجَابٌ}: بالغ الغاية في العجب. {الْمَلَأُ} الأَشراف والوجوه. {امْشُوا}: سيروا على طريقتكم وامضوا على دينكم. {الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}: دين النصرانية. {اخْتِلَاقٌ}: كذب وافتراء من غير سبْق مِثْل له. {الْأَسْبَابِ}: المعارج إلى السماءِ. التفسير 4 - {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}:

حكاية لأَباطيلهم المتفرعة على ما حكى من استكبارهم وشقاقهم، أَي: عجب مشركو مكَّةَ من أَنْ جاءَهم رسول بشر من جنسهم أُميّ من نوعهم، والمراد: أَنهم عدُّوا ذلك أَمرا عجيبًا خارجًا عن احتمال الوقوع، وأَنكروه أشد الإِنكار، لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه، وأعجب العجب أَن ينكروا أن يكون الرسول من البشر، ولا ينكروا أَن يكون الإله المعبود لهم من الحجر. وقال الكافرون: هذا ساحر يجيءُ بالكلام المموه الذي يخدع به الناس، شديد الكذب فيما يسنده إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - من الإرسال والإنزال، وهل ترى كفرًا أَعظم، وجهلا أبلغ من أن يسمُّوا من صدَّقه الله بوحيه، وأَيَّده بالمعجزة الدالة على صدقه ساحرًا كذابا. وقوله - تعالى -: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} فيه وضع الظَّاهر موضع الضمير غضبًا عليهم وذمًّا لهم، وإِيذانًا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلاَّ المتوغِّلون في الكفر. 5 - {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}: أَي: أَزعم أَن المعبود واحد لا إله إلا هو، أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى - وتعجَّبوا من ترك الشرك بالله لأنهم كانوا قد تلقَّوا عن آبائهم حُبَّ عبادة الأَوثان، وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خلع ذلك من قلوبهم وإِفراد الإله بالوحدانية. أَعظموا ذلك, وتعجَّبوا غاية العجب وأَشده, وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. وقيل: مدار تعجبهم عدم وفاءِ علم الإِله الواحد قدرته بالأَشياءِ الكثيرة الموجودة في هذا الكون الكبير، أَخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إنَّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إِليه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أَرقَّ عليه فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا قرب عمه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أَي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أَنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول, قال: وأَكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:

يا عم، إِنى أُريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: ما هي؟ وأَبيك لَنُعْطِينَّها وعشرا، قال: لاَ إله إلاَّ الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أَجعل الآلهة إِلها واحدًا إن هذا لشيءٌ عجاب، وفي رواية: أَنهم قالوا: سلْنا غير هذا. فقال - عليه الصلاة والسلام -: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سأَلتكم غيرها، فغضبوا وقاموا غِضابًا وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأْمرك بهذا. 6 - {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}: أَي: وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعد ما قاله لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوا صموده في تبليغ الرسالة، ونشر عقيدة التوحيد ويئسوا مما كانوا يرجونه منه - عليه السلام - وكان فيهم: أبو جهل، والعاص بن وائل، والأَسود بن عبد المطلب ابن عبد يغوث، وعقبة بن أبي مُعيط يوصي بعضهم بعضًا - انطلقوا - وهم يتحاورون ويتفاوضون - أن سيروا على طريقتكم، وداوموا على مسيرتكم، واثبتوا على عبادة آلهتكم متحمِّلين لما تسمعونه في حقِّها من القدح. والإشارة في {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} إلى ما وقع وشاهدوه من أَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة تمسُّكه بعقيدته من التوحيد، ونفى ألوهية آلهتهم، أَي: إِنَّ هذا لشىء يراد من جهته، إمضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يُقَال من طرف اللسان أو أَمر يُرجَى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطوا أطماعكم بنزوله على إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم، وقال القفال: هذه عبارة تذكر للتحذير والتخويف. وقيل في معنى الآية: إِنَّ هذا الذي يدَّعيه من أَمر التوحيد أو يقصده من أَمر الرِّياسة والترفُّع على العرب والعجم لشىء يُتَمنَّى أَو يريده كل أَحد، ولكن لا يكون لكلٍّ ما يتمناه أو يريده فاصبروا. والمعنى: ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين، وإنما غرضه أن يستولي علينا، ونكون له أَتباعًا، فيتحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فاحذروا أن تطيعوه.

7 - {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}: أَي: ما سمعنا بهذا التوحيد الذي يدعونا إليه محمد في ملَّة النصارى آخر الْمِلَل، بل سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد من أَفواه النصارى؛ لأنهم كانوا يدينون بالتَّثْلِيث ويزعمون أنه الدَّين الَّذي جاء به عيسى - عليه السلام -، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} أَي: ما هذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد وترك عبادة الأصنام إلاَّ افتراء من غير سبق مِثْلٍ له، وكذب مصنوع اختلقه محمَّد وابتدعه. 8 - {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}: استفهام إنكار، أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم وقالوا: أَخُصَّ محمَّد بنزول القرآن عليه من بيننا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم؟ وهذا كقولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬1) وأمثال هذه المقالات الباطلة ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد لرسول الله والحقد عليه أن خُصَّ دونهم بالرسالة، وفاز من بينهم بالنبوة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أَي: ليس كفرهم بالقرآن عن يقين بل هم في حيرة وتردُّد وتخبُّط في شأْن ذِكْرى وهو القرآن الذي أنزلته على رسولي لميلهم إلى التَّقليد، وإِعراضهم عن الأَدلة المؤَدِّية إلى العلم بحقِّيَّته، وليس عندهم بالنسبة للقرآن ما يقطعون به من التهم، فلذا تراهم ينسبونه إلى السِّحر تارة، وإلي الاختلاق مرة أخرى {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} أَي: بل إنهم لم يتحيروا ويتخبطوا إلاَّ لأَنهُمْ لم يذوقوا عذابي بعد، فاغتروا بطول الإمهال، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك، يعنى: أنهم لا يصدقون إلاَّ أَن يمسهم العذاب، فيضطروا إلى التصديق، ولن ينفعهم ذلك في حينئذ. وفي التعبير بلمَّا دلالة على أن ذوقهم العذاب محقق وقريب الوقوع إن لم يؤمنوا. 9 - {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}: يعني: أنهم ليسوا بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءُوا ويصرفوها عمن شاءُوا، ويتخيروا للنبوَّة بعض صناديدهم وأشرافهم، ويترفعوا بها عن محمد - عليه الصلاة ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 31.

والسلام - وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه، الوهاب الكثير العطايا المصيب بها مواقعها. الذي يقسِّمها على ما تقتضيه حكمته، يعطي - سبحانه - ما يريد لمن يريد، وفي هذا إشارة إلى أن النبوّة هبة ربَّانيَّة ومنحة إِلهيَّة ليس لأَحد من خلقه شأْن فيها. 10 - {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}: أَي: بل ألَهم ملك هذه الأَجرام العلويَّة، والأَجسام السفليَّة حتى يتكلموا في الأُمور الربانية، ويتحكَّموا في التدابير الإلهية التي يستأْثر بها رب العزة والكبرياء، فإن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج، وليتدرَّجوا في المراقي والمناهج التي يُتَّصل بها إلى السموات، فليدبَّروها وليتصرَّفوا فيها ويعطوا النبوة لمن شاءوا. وقال الزمخشري ومتابعوه: أَي: فليصعدوا في المعارج والطرق التي يُتوصَّل بها إلى العرش حتى يستولوا عليه، ويدبِّروا أمر العالم وملكوت الله - تعالى - وينزلوا الوحي على محمَّد، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. ثم وعد نبيَّه النصر عليهم فقال: 11 - {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}: أَي: هم جند حقير مقْمُوع (¬1) ذليل قد انقطعت حُجَّتهم فقالوا ما قالوا، والكلام مرتبط بما قبل {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَي: هم جند حقير من الأحزاب الذين تحزَّبوا على المرسلين فاستأَصلناهم، فلا تهمنك عزتهم وشقاقهم فإني أهزم جمعهم وأسلب عزَّهم، وهذا إِيناس للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد فعل بهم هذا في يوم بدر، قال قتادة: وعدهم الله أنَّه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأْويلها يوم بدر. ¬

_ (¬1) قمعه - كمنعه -: ضربه وقهره وذلّله، والمقموع: المقهور. اهـ: الغاموس.

و {هُنَالِكَ}: إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال الرسول، والأحزاب: الجند، كما يقال: جند من قبائل شتَّى، وقال الفرَّاء: المعنى: هم جند مغلوب، أَي: ممنوع من أن يصعد إلى السماء. وأصل الْهَزْم: غمز الشَّيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القِثَّاء والبَطَّيخ، ومنه الهزيمة، كما يعبر عنه بالحطْم والكسر. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُوالْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} المفردات: {الْأَوْتَادِ}: جمع وتِد وهو معروف. {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} الأَيكة: الشجر الكثيف الملتف، وأصحابها هم قوم شعيب. التفسير 12، 13 - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُوالْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)}: استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال الطغاة العتاة، وما فعلوا من الكفر والتكذيب لرسلهم وما فُعِل بهم من العقاب تعزية للرسول وتسلية. والمعنى: كذَّبت قبل هؤلاءِ قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأَوتاد، أَي: صاحب الملك المستقر والعرش الثابت، وأصل ذلك: أنَّ البيت من بيوت الشَّعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد، وقال الأَسْوَد بن يعْفُر: ولقد غَنَوْا فيها بأَنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأَوتاد أو: ذو الأبنية العظيمة والجنود الكثيرة، وقيل: ذو الأوتاد المعروفة، كان المذنبون يُعَذَّبُون عليها في عهد فرعون.

وقوم لوط وقوم شعيب أَصحاب الشجر الكثيف الملتف أُولئك الكفار المتحزِّبون على الرسل - عليهم السلام - كما تحزَّب عليك قومك يا محمد، ولقد كانوا أَعظم من قومك مكانة وأشدّ قوّة وأكثر أموالًا وأولادًا، فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيءٍ لمَّا جاءَ أمر ربِّك. وفي ذلك يقول سبحانه: 14 - {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}: استئناف جىءَ به تقرير لتكذيب الأَحزاب على أبلغ وجه، وتمهيدا لما يعقبه، ولقد ذكر القرآن تكذيبهم على وجه الإجمال في الجملة الخبرية {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ثم جاءَ بالجملة الاستثنائية وفصله فيها بأنَّ كل واحد من الأحزاب كذَّب الرسل، لأَنهم إِذا كذَّبوا واحدا منهم فقد كذبوهم جميعا؛ لأن دعوتهم واحدة، وفي تكرير التكذيب وإِيضاحه بعد إبهامه والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا والاستثنائية ثانيا وما فيها من التوكيد أنواع من المبالغة المسجّلة عليهم استحقاق أشدِّ العقاب وأبلغه، ولذا قال: {فَحَقَّ عِقَابِ} أَي: ثبت ووقع على كلٍّ منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم، فأغرق قوم نوح، وأهلك فرعون وقومه بالغرق أيضًا، وقوم هود بالرِّيح العقيم، وثمود بالصَّيحة، وقوم لوط بالحاصب, وأَصحاب الأيكة بعذاب الظُّلة. {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} المفردات: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ}: وما ينتظرون. {فَوَاقٍ} الفَوَاقُ: الوقْتُ بين الحلبتين. التفسير 15 - {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}: شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم، فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه، والنظر بمعنى الانتظار، وبما أَن القوم لا ينتظرون وقوع

العقاب بهم لكفرهم برسلهم جعلوا منتظرين له لتحقق وقوعه إن بقوا على كفرهم، وذلك على سبيل المجاز، والإشارة بهؤلاء إلى كفار مكة للتَّحقير، والمراد بالصيحة الواحدة: نفخة البعث والقيامة. والمعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار المجرمون من قومك الذين هم أمثال أولئك الطوائف المُهلكة في الكفر والتكذيب - ما ينتظرون - شيئا إلاَّ صيحة واحدة لا تحتاج إلى تَكْرير وترْديد، أَو مالها توقُّف مقدار فواق ناقة، والفواق: الزمن الذي بين حلبتي الحالب، ورضعتي الرَّاضع، وقيل: هل النفخة الأُولى رُوي عن أبي هريرة قال: حدَّثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في طائفة من أصحابه، وذكر حديثا مطولًا جاء فيه: "يأمر الله - عز وجل - إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلاَّ من شاء الله، ويأمره فيمدُّها ويديمها ويُطوِّلها يقول الله - تعالى -: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} اهـ: ملخصا من القرطبي. وليس المراد أن النفخة نفسها عقاب لهم لعمومها للبرِّ والفاجر من جميع الأمم, بل المراد: أنه ليس بينهم وبين العذاب الذي يستحقونه إلاَّ هذه النفخة إن بقوا واستمروا على كفرهم، وقد لطف الله بهم ولم يستأصلهم كما فعل بكفار الأُمم السابقة إكرامًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك يقول الله تعالى -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬1) ولأنه سبق في علم الله أَنهم سوف يسلمون, وقد مَنَّ الله عليهم بالإِسلام بعد فتح مكة. {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} المفردات: {قِطَّنَا}: قسطنا ونصيبنا. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 33.

التفسير 16 - {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}: حكاية لما قالوه عند سماعهم تأخير عقابهم إلى الآخرة، أَي: قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية: يا ربَّنا عجِّل لنا قِطَّنا ونصيبنا من العذاب الذي تتوعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة. وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء، كأَنهم يدعون إلى ذلك بكمال الرغبة والابتهال، والقائل - على ما رُوي عن عطاء -: النَّضر بن الحارث وهو الذي قال الله فيه: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (¬1) وأبو جهل - على ما رُوي عن قتادة - وعلى القولين فالباقون راضون عن هذه السخرية، فلذا جىءَ بضمير الجمع. والقِط: القطعة من الشيء، من قَطَّه: إذا قطعه، ويقال لصحيفة الجائزة (¬2): قِطٌّ؛ لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسَّره بها أبو العالية والكلبي، أَي: عجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، وجاء في رواية أخرى: أَنهم أرادوا نصيبهم من الجنَّة، وروى ذلك عن قتادة وابن جبير, وذلك أَنهم سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر وعد الله - تعالى - المؤْمنين الجنة فقالوا على سبيل الاستهزاء: عجل لنا نصيبنا منها, لنتنعم به في الدنيا. قال الفراءُ: القِطُّ في كلام العرب: الحظ والنصيب. {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} ¬

_ (¬1) سورة المعارج: الآية 1. (¬2) أَي: صحيفة العطاء.

المفردات: {الْأَيْدِ}: القوَّة والبطش. {أَوَّابٌ}: رجَّاع إلى الله، أَو مُسبِّح. {الْعَشِيِّ}: من زوال الشمس إلى غروبها، وقال الراغب: إلى الصباح. {الْإِشْرَاقِ}: وقت الضحى، قال ثعلب: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءَت وصَفَت، فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأُفق ولذا يقال: شَرِقت الشمس ولما تُشْرِق. {مَحْشُورَةً}: مجموعة، أو محبوسة في الهواء. {شَدَدْنَا مُلْكَهُ}: قوَّيناه بكل أسباب القوة. {الْحِكْمَةَ}: النبوّة، أَو كمال العلم والعمل. {فَصْلَ الْخِطَابِ} الخطاب هنا: بمعنى الخصام؛ لاشتماله عليه، أو لأَنه أحد أنواعه، وفصل الخطاب: التمييز بين حقه وباطله. التفسير 17 - {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}: أَي: اصبر يا محمَّد على ما يقوله فيك المشركون من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية الَّتي حكى القرآن عنهم بعضها فيما سبق، كقولهم: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ... إلخ واذكر لهم قصَّة عبدنا داود - عليه السلام - تعظيما لأمر المعصية في نفوسهم وتنبيها لهم على قبح ما اجترءوا عليه ممَّا رموا به الرسول، فإن داود - عليه السلام - مع علو شأْنه وإيتائه النبوّة والملك لما ألم بما هو خلاف الأُولى رجع إلى الله واستغفره مع أنه لم يفعل معصية، فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلِّين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين. قيل: إنَّ داود قضى بين الخصمين بسماع دعوى أحدهما دون سماع الآخر.

وقيل: المعنى اصبر على قولهم واذكر لهم قصص الأنبياءِ لتكون برهانا على صحة نبوتك. ذكره القرطبي. {ذَا الْأَيْدِ} أَي: ذا القوة في الدين والدنيا، شديد البطش في مخالفة الله، كثير الصبر على عبادته وطاعته، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}: إنه كان رجَّاعا إلى الله وطاعته في جميع أَحواله وكل أموره وشئونه، أخرج الدَّيْلمي: عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأَواب فقال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى" قال ابن كثير: ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه, وينام سدسه, وكان يصوم يوما ويفطر يوما, ولا يَفر إذا لاَقَى، وأنه كان أَوَّابا" والتعبير بعبدنا إظهار لشرفه بهذه الإضافة. 18 - {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}: استئناف لبيان قصته - عليه السلام - ويجوز أن يكون تعليلا لقوته في الدين وأوَّابيته إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - وإيثار ذكر لفظ "معه"، على "اللاَّم" في الآية الكريمة لأن تسخير الجبال له لم يكن بطريق التَّفويض بالتصرف المطلق فيها كتسخير الرِّيح لسليمان بل بطريق الاقتداء في عبادة الله - تعالى - أَي: إنَّا ذلَّلنا له الجبال وسخرناها تسبح معه آخر النهار ووقت الضحى، رُوى عن أَم هانئ بنت أبي طالب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاة الضحى وقال: "هذه صلاة الإشراق" وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد: عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيءٌ حتى قرأْت هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وفي رواية عنه أَيضا: ما عرفت صلاة الضحى إلاَّ بهذه الآية، وللعلماء في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنِّيتها، وقد ورد فيها - كما قال الشيخ ولي الدين بن العراقي - أحاديث كثيرة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري: بلغت مبلغ التواتر، وذكر الشافعية: أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي قدَّم عليها صلاة التَّراويح، وأقلها ركعتان، لخبر البخاري: عن أبي هريرة

أنه - عليه الصلاة والسلام - أوصاه بهما وأَلاَّ يدعهما. وأدنى كمالها: أَرْبَع، فسِتٌّ, فثمانٍ. 19 - {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}: وذلَّلنا لداود الطير وسخَّرناها مجموعة من كل صنف ومكان {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أَي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجّاع إلى التسبيح، قال ابن عباس: كان داود إذا سبَّح جاوبته الجبال، واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، فاجتماعها إليه: حشرها. فالمعنى: وسخَّرنا الطير مجموعة إليه لتسبِّح الله معه، ويجوز أَن يكون الضمير في {كُلٌّ لَهُ} عائدا على الله - تعالى - لا على داود، والمعنى: كل من داود والجبال والطير: أَوّاب لله - تعالى -، أَي: مسبِّح مرجِّع للتسبيح. 20 - {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}: وقوينا ملك داود بالهيبة، والنّصرة، وكثرة الجنود، ومزيد النِّعمة. قال ابن كثير: ذكر ابن جرير: عن عكرمة: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن نَفَرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود - عليه السلام - أَنَّه اغتصبه بقرا، فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعى بيِّنة، فأَرجأ أمرهما، فلما كان الليل أُمِر داود - عليه السلام - في المنام بقتل المدَّعِي، فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدَّعِي، فقال: يا نبى الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقرى؟ فقال له: إنَّ الله - تعالى - أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة، فقال: والله يا نبى الله إن الله لم يأْمرك بقتلى لأجل هذا الذي ادعيت عليه، وإنَّى لصادق فما ادَّعيت، ولكنى كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد، فأمر داود - عليه السلام - بقتله فقُتِل، قال ابن عباس: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل، وهو الذي يقول الله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ولقد ذكر هذا الخبر الزمخشرى والآلوسى. {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}: النبوّة، أو كمال العلم وإتقان العمل، وتطلق الحكمة على إتقان الأُمور، وصاحبها حكيم {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أَي: الفصل في الخصومات وعلم القضاء، ورُوى عن علي والشَّعبى: أنه البيِّنة على من ادعى واليمين علي من أنكر، ورُوى عن أبي موسى الأشعرى أنه: أمَّا بعد، ويقول الآلوسي: والذي يترجح عندي أنَّ المراد بفصل الخطاب: علم القضاء

والفصل في الخصومات، وهو يتوقَّف على مزيد علم، ودقَّة فهم وتفهيم، وفيه تمييز بين الحق والباطل، وإيتاء الحقوق أَربابها، وهو العدل الذي هو أساس الملك. ويلائمه أتمَّ ملاءَمة قوله - تعالى - بعد ذلك: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} والله أعلم. {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)}. المفردات: {وَهَلْ أَتَاكَ}: استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده. {نَبَأُ}: خبر. {الْخَصْمِ}: هو في الأصل مصدر خصمه، بمعنى خاصمه أَي: جادله، أو غلبه، ويطلق على المفرد والمثنى والجمع، والمراد به في هذه الآية: الجمع. {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}: تصعدوا سوره وعلوه لينزلوا إلى داود. {الْمِحْرَابَ} في الأصل: صدر المجلس، ومنه محراب المسجد؛ لأنه في صدره، ويطلق على مكان العبادة. {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} الفزع: انقباض يعترى الإنسان من الشيء المخيف. {بَغَى بَعْضُنَا}: جار وظلم. {وَلَا تُشْطِطْ}: ولا تتجاوز العدل وتتخط الحق.

(وَاهْدِنَا) دُلَّنا وأرشدنا وأرشدنا. (سَوَاء الصِّراطٍ) وانراد: الطريق السوى، وهو من إضافة الصفة للموصوف. التفسير ذكر - سبحانه - في الآيات السابقة أن نبى الله داود كان عبدا لله، قويا في دينه، توابا ورجاعا إلى ربه، وأنه - جل ثناؤه - سخر الجبال معه تسبح في العشى والإشراق وكذلك جمع له الطير كل يقدس الله ويعظمه، وأنه - تعالى - قوى ملكه وأعطاه القول الحق والمنطق الفصل. ثم أتى - عز علاه - بعد ذلك بتلك القصة العجيبة، وساقها في كتابه الكريم المنزل لتدل على أن الكمال المطلق لله وحده، وقدم لها بما يشوق إليها ويجذب إلى الاستماع والإصغاء لها فقال: 21 - {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}: أي: وهل جاءك يا محمد: نبأُ هؤلاء الخصماء الذين تسلقوا سور محراب داود وعلوه، ودخلوا عليه وهو متبتل لربه منقطع لعبادة مولاه؟ 22 - {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: فما إن دخلوا عليه حتى خاف وفزع منهم، إذ لم يأتوا البيت من بابه، ولم يمنعهم حراسه وخدمه من الدخول عليه، فظن - عليه السلام - أنهم يريدون به شرا، ويقصدونه بسوءٍ، ولكنهم بادروه وقالوا له: لا تخف منا فما أردنا لك كيدا، ولا أضمرنا لك شرا فشأننا وأمرنا أن أحدنا قد بغى وظلم صاجه، فجئناك ابتغاء أن تحكم بيننا بالحق والعدل، ولا تتجاوز الحد فتحيد في حكمك وتجور في قضائك، ونطلب أن ترشدنا وتدلنا على الصراط المستقيم في تلك القضية التي اختلفنا فيها. ويبدو أن الذي كلم سيدنا داود وطلب منه الحكم بالعدل والبعد عن الجور والظلم هو ذلك الخصم الذي شعر بمرارة الظلم وفداحته، فأخرجه ذلك مَرْضيِّ القول وجميل النطق.

وكان نبى الله داود - عليه السلام - في احتمال خطأ الخصوم مثالا، وقدوة حسنة لكل من يحكم بين الناس عن حاكم أو محكم، فلم يبدر منه - عليه السلام - ما يدل على غضبه من القائل أو استهجانه لما يقول. {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} المفردات (نعجة): هي أنثى الضأن، وتطلق على المرأة مجازا، لما هي عليه من السكون، والضعف. (أكفِلْنيِهَا): أي: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، والمراد ملكنيها، أو اجعلها كِفلى، أي: نصيبى. (وعَزَّنِي): غلبنى. (فيِ الخْطَابِ): في المجادلة والمحاجة. (الْخُلَطَآءٍ): الشركاء. (فَتَنَّاه): امنحناه وابتليناه. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ): سأَله المغفرة، وهي الصفح.

{وَخَرَّ رَاكِعًا} سقط وهوى ساجدا. {وَأَنَابَ} ورجع إلى الله - تعالى - بالتوبة. {لَزُلْفَى} لَقُربةً ومَكَانَةً. {مَآبٍ} مرجع في الآخرة. التفسير 23 - 24) {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ .. } الآية: في الآية السابقة طوى ذلك المظلوم شكايته وأجملها، وفي هذه الآية بسطها وفصلها فقال: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} اختلف في المراد من قوله: (أخِى) أيريد أخاه في النسب، أم صاحبه وأخاه في الإنسانية أم شريكه وخليطه. وعقب ذلك بأن سجل على أخيه تجاوزه تلك الأخوة فلم يقنع هذا الأخ بما أفاء الله عليه من نعمة اتسعت وجلت وعظمت حيث كان {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} بل ينفس على أخيه ما لديه من تلك النعمة في أدنى صورها وهي (نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) يريد أن يستأثر لنفسه ويضمها إلى ملكه بعد أن تملكته الأثَرة واستلم لضراوة حب الذات، وصدق رسولنا - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: (لو أن لابن آدم ودايا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولا يملأُ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب) طلب صاحب التسع والتسعين من أخيه الذي ليس له إلا واحدة أن ينزل له عنها، وأن يعطيه إياها، وكان صاحب التسع والتسعين أقوى في سوق حجته والإدلاء بها في فطانة وبلاغة فغلب شريكه وأخاه وأفحمه في الجدال والمخاصمة فواساه نبي الله داود - عليه السلام - وسلاه بما جاء في قوله - تعالى -: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} بين نبى الله داود وأكد له أن كثيرا من الشركاء والخلطاءِ يبغى ويظلم بعضهم بعضا ولا ينجو من هذا الخلق الجائر والحيف القاسط إلا الذين آمنوا بربهم وعلموا أنه يحاسبهم

على أعمالهم ويجازيهم عليها، وهم مع إيمانهم هنا قد عملوا الأعمال المرضية والأفعال الصالحة التي تحفظ عليهم إيمانهم من أن يتسرب إليه وهن، أو يصيبه ضعف، وزيادة في مواساة هذا المظلوم بين له - عليه الصلاة والسلام - أن هؤلاء المؤمنين الصالحين في قلة قليلة {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي: ليس شأنك مع خليطك بالأمر الذي لا يماثله أمر، بل أنه جرى على أكثر ما يفعله الخلطاء من غبن وجور. {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} علم داود - عليه السلام - بدلائل لاحت له أن الله قد امتحنه وابتلاه وظهر له أنه فعل أمرا كان أولى به وأجدر ألا يفعله؛ فهو نبي ورسول، فطلب من الله أن يغفر ذنبه ويصفح عنه وهوى ساجدًا وخاشعًا لعظمة ربه معترفًا بذنبه منيبًا لبارئه وخالقه {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} فقبل الله منه - عليه السلام - توبته وإن له عند ربه لمنزلة ومكانة يزلفه بها ويدنيه من رحمته، وإن له مآبا حسنًا ومرجعًا كريما في الآخرة عند مليك مقتدر. وقد مضت الآيات السابقة دون ما إشارة إلى الذنب الذي وقع فيه داود فاستغفر ربه منه، وقد كثر الكلام حول هذا الموضوع، وتعددت الآثار الواردة فيه، ومنها: ما قيل من أن نبي الله داود رأى امرأة أحد جنوده فوقعت من نفسه فأرسل إلى قائده أن يقع هذا الجندي على التابوت، وكان من يقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد ففتح الله على يدي هذا الجندى وسلم من القتل فرده مرة أخرى وثالثة حتى قتل، فم يحزن عليه، وتزوج امرأته. وهذه الرواية عليها مسحة اليهود النين دأبوا على النيل من الأنبياء والحط من شأْنهم فإن ما ينسب إلى نبى الله داود يقبح أن ينسب إلى بعض المعروفين بالصلاح من آحاد الناس وعامتهم، فكيف يسوغ أن ينسب إلى أحد الأَنبياء كداود - عليه السلام - فعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وكرم الله وجهه - قال: "من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة" وهو حد القذف في حق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كما روى أنه حُدِّث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة

على ما في كتاب الله فالتماس خلافها كذب واختلاق، فقال عمر - رضي الله عنه -: لَسَمَاعى هذا الكلام أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس. وقيل: أن نبى الله داود خطب على خِطْبة أخيه فآثره أولياءُ المرأة على الآخر، وكان ذلك جائزا في شرعه، وهذا أيضًا غير لانق بإنسان صاحب مروءَة فما بالك بالأنبياء صلى الله عليهم وسلم -؟. وقيل: إن داود - عليه السلام - احتجب عن رعيته متبتلا منقطعا لعبادة ربه فعوتب في ذلك لأنه ترك أمر رعيته دون القيام على شأْنهم. قال الإِمام ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن داود - عليه السلام - جزأ زمانه أربعة أجزاء: يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء، ويومًا للاشتغال بخواص أموره، ويومًا يجمع فيه بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، ففاجئوه في غير يوم القضاء ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه. وقيل: إن داود - عليه السلام - تعجل ورمى بالظلم ذلك الذي سأل نعجة أخيه إلى نعاجه دون تثبت أو شهادة شهود، ودون أن يسمع قول المدعى عليه. ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله - تعالى - عقبها وصية لداود - عليه السلام -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. ونحن نرى صحة هذا الرأى. والله أعلم. وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - داود وغيره منزهون عن الوقوع في صغائر الذنوب مبرأون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، كالذى قيل في الرأى الأخير أو الذي قبله. وهذا هو الحق الأبلج والسبيل المستقيم .. وما ذهب إليه هؤلاء المحققون من الأئمة - رضي الله عنهم - هو ما تطمئن إليه القلوب وتنشرح له الصدور، لأن أقصى ما يتصور حدوثه من الأنبياء هو أن يفعلوا خلاف الأولى بمقامهم - عليهم الصلاة والسلام.

{دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} المفردات: {جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}: استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة لمن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. {سَبِيلِ اللَّهِ}: طريق الله الحق وصراطه المستقيم. {نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}: من النسيان، وهو إما أن يكون ضد الذكر والحفظ، أو يكون بمعنى الترك العمد. التفسير 26 - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ... الآية: نبه الله - سبحانه وتعالى - نبيه داود - عليه السلام - إلى شرف مسئوليته وخطر وعظم رسالته فقال له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، أي: إنا أقمناك خليفة عنا في الأرض، أو جعلناك خليفة فيها لمن كان قبلك من الأنبياء والرسل تسوس وترعى عباد الله فيها، وتبلغهم ما أنزل إليك من ربك وتقوم على شأنهم، فاقض بينهم بالحق والعدل ولا تمل أو تحد عن ذلك فتتبع هوى نفسك، فإن اتباع الهوى والميل إلى شهوة النفس يبعدك عن طريق الله السوى وسبيله المستقيم. وللتنبيه على شناعة الضلال عن سبيل الله وتناهيه في القبح قال له عقب ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.

أي: أن الدين يزلون عن السبيل الحق وصراطه ويعدلون عنه لهم عذاب شديد الإيلام؛ لأنهم نسوا يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة، فعصوا الله وتركوا طاعته فكان لهم هذا العذاب الأليم والعقاب الشديد. هذا، وتوجيه الله - تعالى - أنبياءه ورسله بالأمر والنهي والإرشاد والنصح لا يقدح أبدا في عصمتهم ولا ينال من رسالتهم، فإن النبوة والرسالة لا تنافى دوام التذكير من الله - تعالى -. ثم بين - سبحانه - أن الحساب والجزاء حق وعدل ونظام يقوم عليه أمر الدنيا وصلاحها واستقامة حالها فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} المفردات (بَاطِلًا) عبثا ولعبا دون حكمة. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي: فعذاب يأْتيهم من النار. (كَالْفُجَّارِ): جمع فاجر، وهو من ينبعث وينطلق في المعاصي. التفسير 27 - (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا) أي: أنشأْنا السماء والأرض وما فيهما من مخلوقات لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله - ما خلقنا ذلك - خلقًا باطلا خاليا

من الغرض الصحيح والحكمة البالغة، ولكن خلقناها جميعًا للحق المبين، وذلك بأن أنشأْنا فيها نفوسا وأودعناها العقل والتمييز، ومنحناها التمكين، وأبعدنا عنها العلل، وعرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف بعد أن أرسلنا إليها الرسل حتى لا تكون لهم حجة على الله، وأعددنا لها عاقبة وجزاء، حسب أعمالها. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: خلقها باطلا وعبثا هو ما يظنه هؤلاء الكفار. في حين أنهم يقرون ويعترفون أن الله هو خالق السموات والأرض مصداقًا لقوله - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لأن إنكارهم البعث والثواب والعقاب يؤدى إلى أنهما خلقت عبثًا، وأن هذا الخلق قد خلا من الحكمة، ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفَّه الخالق وظهر منه أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره، فكأنه غير مقر بذلك {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي: فعذاب شديد وهلاك يأتيهم من قبل النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت لهم بسبب كفرهم. 28 - {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ}: بعد أن قرر - جل شأنه - أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم عبثًا انتقل - سبحانه - إلى تقرير ذلك وتحقيقه بإنكار التسوية بين الصالحين والمفسدين، أي: بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة الذين يعيشون في الأرض فسادا؟ أنقصر وجودهم جميعًا على الحياة الدنيا دون بعث أو حساب؟ إن التسوية بينهما تنافى الحكمة وتخالف العدل .... فيتعين إذًا البعث، والجزاء لرفع المصلحين إلى الدرجات العلى ورد المفسدين المضلين إلى الدركات السفلى في جهنم وساءَت مصيرا. ثم جاء قوله - تعالى -: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} انتقالا إلى ما هو أظهر وأوضح في استحالة التسوية بين الفريقين المذكورين، أي: بل أنجعل المتقين كأولئك الذين انبعثوا وانطلقوا في المعاصي لا يردهم وازع من نفوسهم ولا خوف من ربهم؟ أيسوى الله بينهم دون جزاء حسن لمن اتقى، وعذاب مقيم لمن كفر وفجر، إن التسوية بين الفريقين أمر تأْباه الحكمة وينافى العدل. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. 29 - {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}: أي: هذا القرآن الكريم كتاب أنزلناه إليك كثير الخير عظيم المنافع الدينية

والدنيوية لا تنفك عنه البركة ولا يزايله الخير، أنزلناه إليك ليتفكر هؤُلاء وغيرهم في آياته، وما تشتمل عليه من أمر ونهي، وإرشاد وهداية، وقصص حق، ووعد ووعيد إنهم لو تدبروا لوقفوا على ما فيها من المعانى الفائقة، والتأويلات اللائقة، والدلالات الواضحة، ويتعظ ذوو العقول الزاكية الخالصة من شوائب الزيغ والضلال. فلو تفكر هؤلاء وتذكروا أو استحضروا ما هو مغروس في فطرهم لعلموا أن البعث والحساب والجزاء حق، ولكنهم غفلوا وعموا وصموا. وفي الآية تعريض بأن هؤلاء الكفرة ليسوا من أهل التدبير ولا من أهل العقول. {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} المفرادات: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}: أعطيناه ومنحناه إياه. {نِعْمَ الْعَبْدُ}: كلمة {نِعْمَ} تدل على المدح والثناء. {أَوَّابٌ}: رجَّاع، أي: كثير الرجوج بالتوبة إلى الله، أو كثير الرجوع إلى تسبيح الله. {بِالْعَشِيِّ} العشي: من زوال الشمس عن كبد السماء إلى آخر النهار، وقيل إلى آخر الليل.

{الصَّافِنَاتُ} جمع صافن، وهو الذي يرفع إحدى يديه ويقف على مقدم حافرها، وقيل: هو الذي يجمع ببن يديه ويسويهما. {الْجِيَادُ}: جمع جواد، وهو الذي يسرع في مشيه إسراعا جيدا. {حُبَّ الْخَيْرِ} أي: حب الخيل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". {فَطَفِقَ مَسْحًا}: فجعل يمسح مسحا. التفسير 30 - {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ... }: تشير هذه الآية إلى قصة سليمان بن داود - عليه السلام -. ومعنى الآية: وأعطينا داود ابنه سليمان وورثناه إياه، وكان سليمان حقيقًا بتلك المنزلة وجديرا بهذه الوراثة المباركة، فقد أثنى عليه ربه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ}، فوصَفَةُ بالْعُبُودِيَّة، والعبودية من أشرف الصفات وأسمى النعوت، فقد نعت بها سيد الخلق رسولنا - صلى الله عليه وسلم - قال - تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "أفلا أكون عبدًا شكورًا" كما وصف سيلمان بأنه - عليه السلام - كان كثير الرجوع إلى ربه يتوب إليه ممَّا عساه أن يكون قد بدر منه من فعل غير الأولى، أو أنه كان يكثر الرجوع إلى تسبيح الله وتنزيهه. 31 - {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}: أي: اذكر يا محمد ما كان من أمر سلمان في استعراضه الخيل في منتصف النهار، تلك الخيل التي وصفت بالصفون والجودة فجمعت بين وصفين محمودين، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في موقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها. ¬

_ (¬1) سور الإسراء: من الآية 1.

وقد عرضت على سليمان - عليه السلام - ليعلم ويقف على مدى قدرتها وقوتها وحسن تدريبها على خوض المعارك التي يتطلبها صاحب رسالة وملك، فيغزو بها أعداءه ويؤمن حدوده ويبعث الرعب في قلوب من تحدثهم أنفسهم أن يعتدوا على ملكه. 32 - {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي: فقال: إني آثرت حب الخير بسبب ما هو مذكور ومسطر في كتاب ربِّي وهو التوراة من مدح ربط الخيل وإمساكها على الثغور والحدود في مواجهة الأعداء فذكر - عليه السلام - أنه لا يحبها لأجل زينة الدنيا وزخرفها ونصيب النفس وحظها وشهواتها، وإنما أحبها لأمر الله - تعالى - وإعزاز دينه. {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: حتى غابت عن بصره - عليه السلام -. 33 - {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}: أمر سليمان - عليه السلام - الرائضين للخيل والقائمين على شأنها أن يردوها ويعيدوها إليه، فلما عدت جعل يمسح سوقها وأعناقها تشريفًا وإعزازًا لها وشفقة عليها وإظهارًا لمكانتها، إذ هي من أعظم ما يساعد المجاهد ويعاونه في دفع عدوه والانتصار عليه، وقد أبدى - عليه السلام - كمال التواضع في مباشرة ذلك الأمر بنفسه. وهكذا يضرب الأنبياء الأمثال لأقوامهم وأتباعم ليتأَسوا بهم. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} المفردات: {فَتَنَّا}: ابتلينا وامتحنا. {جَسَدًا}: جسد إنسان. {أَنَابَ}: رجع إلى ربه.

التفسير 34 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ... } الآية: خير ما ورد في تفسير هذه القصة ما قاله رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأْتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة جاءت بشقِّ رجل، والذي نفس محمَّد بيده لوقال: إن شاءَ الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" فكانت هذه فتنة سليمان إذ أنه لم يقل: إن شاء الله. وهذا هو الصحيح الذي جاء به الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام -: أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة. أما ما ورد من أنه ولد له ابن فقالت الجن والشياطين: أن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق سليمان - عليه السلام - منهم، فجعل ابنه وظئره (حاضنته) في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقى هذا الابن علي كرسيه ميتا، تنبيها إلى أن الحذر لا ينجى من القدر، وعوقب على ترك التوكل على الله، فهذا خبر غير موثوق به ولا تطمئن إليه النفس؛ لأن تسخير الريح كان بعد الفتنة. {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}: أي: وقدم هذا الشق إلى سليمان وطرح على كرسيه فألقى الله في روعه وقذف في قلبه أنه قد فتن وامتحن وابتلى ووقف على سبب ذلك فكان أن أناب إلى الله ورجع إلى ربه تائبا مستغفرا عن هذه الزلة التي فرطت منه، وهي أنه قد نسى أن يتجه إلى ربه في منحه تلك الذرية التي تعينه على الجهاد في سبيل الله "بأن يقول: إن شاء الله". وجاء العطف (بثم) في قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَنَابَ} التي تدل على التراخي والبعد لأنه لم يقع الاستغفار عقب حدوث الزلة، فإن سليمان - عليه السلام - لم يعلم الداعى إلى الاستغفار والإنابة عقب ما وقع منه من ترك قوله: إن شاء الله إلا بعد أن وضعت له إحدى نسائه شق رجل، وكان بين طوافه على نسائه وتركه ذكر المشيئة وبين إلقاء الشق على كرسيه زمن طويل، فناسب أن يعطف بثم، وهذا بخلاف قصة - داود عليه السلام -

فقد جاء العطف فيها بالفاء التي تدل على الفورية وسرعة المبادرة؛ لأنه علم أن الله قد فتنه وابتلاه، ومن فور علمه استغفر وأناب لأن اللائق في هذا المقام المسارعة إلى الإنابة. {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} المفردات: {لَا يَنْبَغِي} لا يتيسر. {مِنْ بَعْدِي}: من دونى. التفسير بين - سبحانه - إنابة سليمان ورجوعه إلى ربه بقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} دعا سليمان ربه أن يغفر له ويصفح عنه ولا يعاقبه أو يحاسبه على ما بدر منه من ترك ما هو أولى به أن يفعله، وقدم - عليه السلام - الاستغفار - وإن كان مقصودًا لذاته - ليكون وسيلة إلى طلب الملك، فمن كمال العبودية أن يقدم الإنسان الاعتراف بالذنب والاستغفار منه ليمحى أثره ويكون دعاؤه أرجى للقبول، ثم طلب - عليه السلام - من ربه أن يمنحه ملكا عظيما لا يدانيه ملك أحد غيره، ولا يسلب منه ويعطى لسواه، وقد طلب سليمان ذلك عن ربه واستوهبه إياه، لتكون استجابة الله له أمارة على قبول إنابته وعلامة على غفران الله ما تركه من النطق بقوله: إن شاءَ الله عندما أحب أن تأتى نساؤه بفرسان يجاهدون في سبيل الله كما مر بيانه. وقيل: إن سليمان عليه السلام - لم يطلب من ربه هذا الطلب إلا بعد أن أمره الله بطلبه لأنه - سبحانه - علم أنه لا يستطيع أن يضطلع بهذا الملك ويقوم على تصريف

أمره وسياسته وتدبير شأنه أحد غير سليمان، فكان أن امتثل سليمان وطلبه من ربه فاستجاب له ومنحه إياه. وجاء قوله - تعالى -: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} اعترافا مؤكدا من سليمان بأن الله - جل علاه - هو وحده صاحب العطاء الواسع الكثير وليس ذلك لأحد سواه. {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} المفردات: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ}: فذللناها ويسرناها له. {رُخَاءً}: لينَة طيبة لا تتزعزع ولا تضطرب، وقيل: طيعة له لا تمتنع عليه. {حَيْثُ أَصَابَ}: حيث قصد وأراد. {الْأَصْفَادِ}: جمع صفد، وهو ما يُوثق به الأسير من قيد أو غل. {مُقَرَّنِينَ}: مجموعين في قيد واحد يضمهم. {فَامْنُنْ}: فانعم على من شئت. {أَمْسِكْ}: احبس وامنع من شئت. التفسير 36 - {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}: في هذه الآية الكريمة دلالة على أنه - سبحانه - استجاب لسليمان فور الفراغ من

دعائه فجاء قوله - تعالى -: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب، أي أن الله - تعالى - ذلل ويسر له الريح فور دعائه تطيع أمره ولا تتأبى عليه فتسير وتجرى بأمره حيث يريد ويقصد سيرا لينا لا اضطراب فيه ولا اهتزاز وذلك مع شدة سرعتها، وعصفها في جريها، ففد جمع الله له فيها بين اللين وسرعة الجرح، وهما لا يجتمعان غالبا؛ لأن السير الشديد يكون معه الاضطراب والتزعزع عادة. 37، 38 - {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}: وسخر الله له الشياطين وهم مردة الجن وعتاتهم سخر له بعضهم في أعماله، فبنوا له ما شاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وسخر له بعضا آخر يغوص في البحار يجلبون له ما استتر فيها من كريم ما تحتويه من اللؤلؤ والمرجان، وسلطه الله على من يرى أنه مدمِّر ومؤذ فقرن وجمع بعضهم ببعض في أصفاد وقيود، أو أحكم قيد كل واحد منهم على حدة اتقاءَ شرهم ومنعا لضررهم. 39 - {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}: وقال له ربه - عقب تسخير الشياطين له تفضلا عليه -: هذا عطاؤنا ومنحتنا إليك أطلقنا فيه يديك، فامنح من شئت وامنع من أردت، فلا نسألك عن ذلك ولا نحاسبك عليه، أنت في خيار من أمر هؤلاء الشياطين فأمسك من شئت في خدمتك، وقيد من أردت من المردة في أصفادك، وأطلق سراح من تحب، فلا عتاب ولا تثريب عليك، يقول الله ذلك وهو يعلم حسن تصرفه فيما فوضه إليه. 40 - {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}: أي: وإن لسليمان عندنا لقربى، وكرامة عظيمة مع ما أنعمنا به عليه من الملك العظيم، وله حسن مرجع ومأوى في الجنة، فله عز الدنيا وسعادة الآخرة؛ لاستحقاقه ذلك عند ربه.

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} المفردات: {بِنُصْبٍ}: بمشقة وتعب. {وَعَذَابٍ}: وضر وألم. {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} الركض: الدفع القوي، أي: ادفع واضرب برجلك الأرض ضريا شديدا قويا. {وَذِكْرَى}: وتنبيها وتذكيرا. {لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: لأصحاب العقول الرشيدة. {ضِغْثًا}: حزمة من حشيش أو نحوه. {وَلَا تَحْنَثْ} الحنث: الخلف في الحلف وعدم الوفاء به. التفسير 41 - {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}: أي: واذكر - يا محمد - قصة أيوب وابتلاء الله له بالمرض والمشقة والألم، ليكون - عليه السلام - مثالا كريما يحتذيه ويتأسى به كل من تصيبه مصيبة في نفسه أو ولده أو ماله لينال جزاء الصابرين الذين وعدهم الله بالجزاء العظيم بقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ

صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬1). أو اذكر قصته - عليه السلام - في نفسك لتكون عونا لك على الصبر على مما تلاقيه وتكابده من هؤلاء الضالين المعاندين المشركين - اذكر - أن الشيطان قد وسوس له ليثنيه عن يقينه وينال من طمأنينة قلبه بما يلح في الوسوسة ودعوة أيوب إلى القنوط واليأس من رحمة وبه، وكان هذا الأمر قاسيا وشديدا على أيوب مع مرضه وعلته، فضلا عن تسلط الشيطان على أتباعه حتى فتن بعضهم في دينه، ورده إلى الكفر بعد أن غرس في نفوسهم أن الأنبياء لا يبتلون ولا يمرضون، وأن أيوب ما دام قد أصابه المرض ومسه الضر فليس بني ولا رسول، كما تسلط ذلك اللعين على آخرين حتى قالوا: ما ابتلى الله أيوب إلا لذنب أصاب أو جريمة اقترف، فكان أيوب يعاني من مشقة تسلط الشيطان عليه بالوسوسة بالقنوط من رحمة الله، كما يعاني ويتألم لفتنة أتباعه وتفرقهم عنه وتشككهم في رسالته. وكان أيوب - عليه السلام - في قمة الأدب مع ربه فجاء هنا حكاية عنه قوله - تعالى -: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وجاء فى سورة الأنبياء قوله - تعالى - {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬2) فلم يزد - عليه السلام - أن نادى ربه وبسط شكاته فحسب، وفوض أمره إلى ربه راضيا بما يقضيه فيه، وما يقَدَّر عليه، فلطف به - سبحانه - واستجاب إلى ما تتوق إليه نفسه ويطمئن به قلبه من أن يذهب مرضه الذي أتعبه ونال من جسمه وحط من قوته، وأن يصرف الشيطان عنه وإن كان لا ينال من عقيدة الأنبياء ولا من عباد الله الصالحين. 42 - {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}: أمره - تعالى - أن يضرب الأرض برجله ضربا قويا بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فامتثل وضربها فنبعت عين، فقال له - سبحانه -: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فاغتسل - عليه السلام - فذهب سقمه وصح بدنه وشرب فأطفأَ ظمأَه. ¬

_ (¬1) سورة: البقرة، الآية: 157. (¬2) سورة الأنبياء، من الآية: 83.

43 - {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: وبعد أن اكتملت له العافية من الله عليه وهب له ما كان قد تفرق عنه من ولده، وبارك له فيهم فضاعفهم له وأعطاه كثير المال وجليل الخير، وكل ذلك كان من رحمة الله وفضله عليه إذ سلط الله عليه البلاء فصبر، ثم أزال عنه ما نزل به ووصله بالآلاء والنعماء، وذلك تنبيها لذوى العقول الرشيدة والبصائر النافذة والقلوب السليمة على أن من صبر ظفر ونال الجزاء الحسن. 44 - {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}: أبطأت امرأة أيوب - عليه السلام - وهو في مسيس الحاجة إليها، فقد أنهكته العلة وقعد به المرض وألح عليه الشيطان في نفسه وتابعيه، فأَقسم إن شفاه الله وأبرأه ليضربنَّها مائة جلدة، وكان البرْءُ والشفاء والمنة العظيمة بالعافية والرضا من ربه، فكيف يضربها وهي التي رافقته في رحلة مرضه وقاست ما قاست من حزنها عليه، واعتصار قلبها لما كان يكابده من العلة وعانت من تفرق الولد والأهل وذهاب المال، وأيوب - عليه السلام - يعرف لها ما قامت به نحوه وما عانت من أجله، ولهذا كان يود ويرجو مخرجا من هذه اليمين التي التزم أمام ربه أن يبر ولا يحنث فيها، فكان أن جعل الله له مخرجا منه يرضى ربه ولا يضر زوجه، فقال له: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} أمره - جل جلاله - أن يتحلل من قسمه بأهون شيءٍ عليه وعليها، وذلك بأن يعمد إلى حزمة من حشيش أو ريحان أو نحوهما تضم مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة، ويكون بذلك قد وفى بقسمه ولم يؤْذ زوجه الوفية له في مرضه. {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}:

إنا علمنا أيوب صابرا محتسبا حابسا نفسه على إرادة ربه، لم يستطع الشيطان أن يزعزع ثقته بربه أو يقلل من اعتماده عليه - سبحانه. وقد يقال: كيف يوصف أيوب بالصبر وقد شكا؟ والجواب: أن أيوب شكا إلى الله ولم يشك لأحد سواه، وأن أيوب لجأ إلى الحبيب من العدو، فضلا على أن الشكوى إلى الله ليست منقصة ولا نزولا بالهمة، فإن الله - سبحانه - يحب أن يُدعى ويُسأَل، ونبى الله يعقوب خاطب ربه وشكا إليه: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوبَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬1) وهذا لا يقدح في الصبر. {نِعْمَ الْعَبْدُ}: أيوب فقد تناهى في الكمالات وتسامى في الدرجات {إِنَّهُ أَوَّابٌ}: أي: إنه رجاع إلى ربه منيب إليه، لسانه رطب بذكره، وقلبه عامر بالتفكر فيه والتعظيم له والخوف منه. {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} للمفردات: {أُولِي الْأَيْدِي}: أصحاب الأعمال العظيمة في طاعة الله. {وَالْأَبْصَارِ} أي: والبصائر النافذة في معرفته. {أَخْلَصْنَاهُمْ}: جعلناهم خالصين. ¬

_ (¬1) سورة يوسف من الآية: 86.

{بِخَالِصَةٍ}: بخصلة وصفة خالصة لا شوب فيها ولا كدورة هي: {ذِكْرَى الدَّارِ}: تذكر الدار الآخرة، أو التذكير بها، أو الثناء الجميل عليه في الدنيا. {الْمُصْطَفَيْنَ}: جمع مصطفى، وهو المختار من بنى جنسه. التفسير 45 - {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}: أضافهم إليه - سبحانه - بالعبودية - فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} وذلك تشريف لهم وإعلاءٌ لشأْنهم. واذكر أيها - الرسول - لقومك أو تذكر أنت إبراهيم وإسحاق ويعقوب - اذكر هؤلاء. {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} أي: أصحاب الأعمال الطيبة والبصائر النيرة، فقد استعمل - سبحانه - حواسهم في طاعته: فألسنتهم رطبة بذكره، وجوارحهم مشغولة بعبادته، فكان الله سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، وذلك مع أفئدة بصيرة، وعقول رشيدة، وقلوب سليمة يملؤُها ويعمرها التفكير في الله - سبحانه وتعالى - فقد جمع الله لهم كمال العمل له، مع عظيم معرفته. وجاء التعبير عن الأعمال الظاهرة بالأيدى؛ لأن أكثر الأعمال تباشر بها فيقال: هذا مما عملت أيديهم، أو هذا ما قدمت يداه، وإن كان هذا العمل لا يتأتى فيه الباشرة بالأيدى. 46 - {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}: أي: إن الله قد أخلصهم له ونقاهم من كل شوب وكدورة تنال من مكانتهم، وجملهم بتلك الخصلة الطيبة والخلة الحسنة، وهي تذكرهم الدار الآخرة، يعملون لها ويسعون من أجلها، وكان نصيبهم من الدنيا هو عمل الخير وخير العمل الذي يقدمون به على ربهم،

ويقبلون بصحبته إلى مولاهم، أو أخلصهم وميزهم بتذكرهم الدار الآخرة، أو أنه - تعالى - أبقى لهم الثناء الحميد في الدنيا، وتقبل دعاء إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1). أو أنهم يذكِّرون الناس بالآخرة ويحثونهم على التجافى عن الدنيا والبعد عن الإغراق في طلبها. 47 - {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}: أي: وإن هؤلاء الأنبياء - عليهم السلام - عند الله لمن الذين اجتباهم واختارهم - سبحانه - فكانوا من صفوة وخيار رسله وأفضل أنبيائه. {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} المفردات: {هَذَا ذِكْرٌ}: شرف عظيم وذكر جميل يذكرون به دائمًا. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: بساتين إقامة دائمة. {مُتَّكِئِينَ}: مسندين ظهورهم أو جنوبهم إلى شيء معتمدين عليه في حال قعودهم. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 84.

التفسير 48 - {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ}: واذكر - يا محمَّد - أو تذكر أنت هؤلاء الرسل الذين صبروا وصابروا وأبلوا بلاءً حسنًا في أداء رسالة ربهم، وتحملوا سفه قومهم وجهلهم حتى يُهتدى ويكونوا مثلا صالحة يتأسى بهم سواهم. وكلهم من الصفوة الكرام البررة الذين انتخبهم ربهم واختارهم. وقد أفرد - سبحانه - إسماعيل وفصل ذكره عن ذكر أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق للإشعار بعراقته وأصالته في الصبر الذي هو المراد فقد صبر إسماعيل على الذبح لولا أن الله فداه بذِبْحٍ عظيم. والحكمة من ذكر أو تذكر هؤلاءٍ تبدو فيما يأْتي: أ - أما إبراهيم - عليه السلام - فقد صبر وصابر على إيذاء قومه له فلم يداهنهم على كفرهم، أو تلن قناته أو تضعف عزيمته عندما عزموا على تحريقه وإلقائه في النار ثم ألقوه فيها فكانت عليه بردا وسلامًا. 2 - وأما إسحاق - عليه السلام - فقد صبر على طمع قومه وجشعهم فكان يحفر الآبار ليسقى دوابه ويروى زرعه، فيأْتى هؤُلاء العصاة أكلة السحت والحرام فيأْخذونها منه فيتركها لهم ويحفر غيرها وهكذا، ثم ما عاناه من تقدم السنن ووهن العظم وفقد البصر. 3 - وأما يعقوب - عليه السلام - فقد تأسى عن فقد أحب أبنائه إليه وأدناهم إلى قلبه، فكان منه الصبر الجميل، والاستعانة بالله على ما أصابه قال - تعالى -: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1) ثم ابتلى بأخذ ابنه الثاني شقيق يوسف بدعوى أنه سرق فاشتعل حزنه وتضاعف ألمه على يوسف، ولكنه كان كبير الرَّجاء عظيم الأمل في رحمة ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 18.

ربه أن يرد الله إليه ابنيه قال - تعالى -: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (¬1) ولم يتسرب اليأس والقنوط إلى قلبه بل كان ينهى أولاده عنه، قال - تعالى -: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ)} (¬2). هذه المكابدة أذهبت بصر يعقوب {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} (¬3) إلى أن جمع الله بينه وبين أولاده ورد عليه بصره. 4 - وأما إسماعيل - عليه السلام - فقد صبر على الذبح وقال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬4) كما كان مثالا للطاعة والبر بأبيه. 5 - وأما اليسع - عليه السلام - فقد استخلفه إلياس - علية السلام - على بني إسرائيل فصبر على جهلهم وسفاهتهم وظلمهم وكفرهم، ثم كان جزاء الله له أن اصطفاه رسولًا. 6 - وأما ذو الكفل - عليه السلام - فهو عند الجمهور نبى مرسل وكان من شأْنه أنه جابه الظلم وتصدى لهؤلاء الفجرة الذين طاردوا عددًا كبيرًا من أنبياء بني إسرائيل وتعقبوهم ليقتلوهم فكفلهم ذو الكفل وآواهم غير مبال بعسف الظالمين وكيدهم، كذا قيل، ولعله اسم له والأسماء لا تعلل. 49 - {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}: {هَذَا}: إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسن هؤلاء الأنبياء والدالة على مناقبهم العظيمة {ذِكْرٌ} أي: شرف لهم وذكر جميل يذكرون به أبدًا، أو هو إشارة إلى القرآن لقوله تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (¬5) وهو مشتمل على أنباء الأنبياء - عليهم السلام - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هذا ذكر من مضى من الأنبياء. {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}: ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 83. (¬2) سورة، يوسف، من الآية: 87. (¬3) سورة يوسف، من الآية: 84. (¬4) سورة الصافات، من الآية: 102. (¬5) سورة الحجر: من الآية: 9.

بعد أن بين - سبحانه - في الآيات السابقة أن الحكمة تقتضى عدم التسوية بين المتقين والفجار، جاءت هذه الجملة موضحة نعيم المتقين في الآخرة، وسيأتي في الآية التالية بيان هذا النعيم. 50 - {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} أي: بساتين إقامة فتحت لهم فيها الأبواب تهيئة وإعدادًا وإكرامًا لهم يدخلونها على أعز حال وأجمل هيئة {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (¬1). 51 - {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}: أي: معتمدين فيها على أرائك، أو وسائد من ديباج وإستبرق والأرائك: السور المنجدة المزينة، وهذه هي جلسة المطمئن الآمن والفرح المسرور، وهم في هذه الحالة من الحبور يطلبون من ربهم أن يمدهم ويعطيهم من ألوان الفاكهة وأصناف الشراب فيستجيب لهم الله ويعطيهم ما طلبوا {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} (¬2). {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} المفردات: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} الطرف: العين، ولا يجمع كما هنا لأنه في الأصل مصدر، ومن استعماله مفردًا مع الجمع قوله - تعالى -: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}. والقصر: الحبس، أي: حابسات عيونهن على أزواجهن، وسيأتى مزيد بيان له في التفسير. ¬

_ (¬1) سورة الزمر، من الآية: 73. (¬2) سورة يس، الآية: 57.

{أَتْرَابٌ} أي: لِدَات على سِنٍّ واحدة، تشبيهًا لهن في التساوى والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر، وهي جمع ترب، وسيأتى لذلك مزيد بيان. {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي: ليس له انقطاع أبدا. التفسير 52 - {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}: لا يزال الكلام متصلًا في نعيم المتقين، فهذه الآية تبين أن لهؤلاء المتقين في الجنة زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى سواهم، أو قاصرات أبصار أزواجهن عليهن، فلا ينظرون إلى سواهن لجمالهن الفائق، وهؤلاء الزوجات أتراب أي: متساويات في السن، فكلهن شباب وليس بينهن عجوز، وذلك يستدعى محبة بعضهن لبعض، وفي ذلك راحة لأزواجهن، فإن تباغض الضرائر بسبب الفوارق في الحسن بينهن ينغص عيش الأزواج، فلذا تشابهن في الحسن والطباع، حتى تصفو الحياة في الجنة، وقيل: إن التساوى بينهن وبين أزواجهن، وذلك أشمل وأكمل، وأبعث على قصر الزوجات أبصارهن على أزواجهن. وجاء في وصفهن في سورة الصافات قوله - تعالى -: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (¬1). ومعنى (عين): واسعات العيون حسانها، ومفرده عيناء، وقد شبهن ببيض النعامة تكنها النعامة بريشها من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء (¬2)، وجاء في وصفهن أنهن في سن ثلاث وثلاثين سنة، والآية في الزوجات الآدميات كما قال ابن عباس: ¬

_ (¬1) سورة الصفات، الآيتان: 48 - 49. (¬2) وقال ابن عباس وغيره: شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي.

53 - {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}: أي: هذا الجزاءُ الذي وعدتم به - أيها المتقون - في يوم الحساب، فاللام في قوله: {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} بمعنى في، ويصح أن تكون للتعليل، أي: هذا ما وعدتم به لأجل يوم الحساب. 54 - {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}: إن هذا الذي ذكر من ألوان النعم وأصناف الكرم لرزقنا الذي أعطيناكموه ماله من انقطاع أبدًا، وفيه دليل على أن نعيم الجنة أبدى لا نهاية له. {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوالنَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} المفردات: {لِلطَّاغِينَ}: المراد بهم الكفار. {لَشَرَّ مَآبٍ}: لقبح مرجع. {الْمِهَادُ}: الفراش وزنا ومعنى. {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}: الحميم: الماءُ الشديد الحرارة، والغساق: عصارة أهل النار، وعن ابن عباس أنه الزمهرير، أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر.

{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}: وعذاب آخر من مثله أصناف. {فَوْجٌ}: جمع كثير. {مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} أي: داخل معكم. {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ}: دعاءٌ من المتبوعين على أتباعهم. {صَالُوا النَّارِ} أي: داخلون فيها. {فَبِئْسَ الْقَرَارُ}: فبئس المقر جهنم. التفسير 55، 56 - {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}: لما ذكر الله فيما تقدم نعيم المتقين في الجنة، عقبه بذكر ما للطاغين من سوء المصير، ولفظ {هَذَا} خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر هذا، أو مبتدأ خبره محذوف أي: هذا كما ذكر. قال ابن الأنبارى: "هذا" وقف حسن، ثم تبتدئ: وإن للطاغين، وهم الذين كذبوا الرسل، وقال الجبائي - من المعتزلة: المراد بهم أصحاب الكبائر، سواء أكانوا كفارًا أم لا، وأهل السنة على أن هذه الآيات في الكفار، وهو رأى ابن عباس. ومعنى الآيتين: الأمر هذا الذي ذكر في جزاء المتقين، وإن للطغاة الذين كذبوا الرسل لَشَرَّ مرجع يئوبون إليه: جهنم يدخلونها ويقاسون لهيبها، فبئس الفراش جهنم. 57، 58 - {هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}: الحميم: الماء الشديد الحرارة، قال - تعالى -: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1) والغساق: صديد أهل النار يسيل من أجسادهم، وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلاَّ الله، وقيل: هو البارد المنتن والمقصود من لفظ: "آخَرُ" عذاب الزمهرير كما فسره ابن مسعود. ولكن ابن عباس يفسر الغساق بالزمهرير، وعليه يكون معنى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}: وعذاب آخر من شكل الغساق أو من شكل ما ذكر أصناف. ¬

_ (¬1) سورة محمَّد: من آية 15.

والمعنى: العذاب هذا فليذوقوه، منه حميم شديد الحرارة، ومنه غساق صديد أهل النار، أو الزمهرير ولهم عذاب آخَر من شكل هذا العذاب في الشدة والفظاعة أصناف وأجناس. 59، 60 - {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوالنَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}: الاقتحام: الدخول في شدة، والآيتان حكايته لما يقوله أهل النار بعضهم لبعض، من التلاعن والتكذيب. كما قال - تعالى - {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (¬1). تقول طائفة الرؤساء التي تدخل قبل طائفة الأتباع - نقول - إذا لحقوا بهم مع الخزنة من الزبانية: هذا فوج داخل معكم لا مرحبًا (¬2) بهم، إنهم داخلون النار معنا لأنهم كفروا مثلنا، فيرد الأتباع قائلين لرؤسائهم: بل أنتم أحق بما قلتم فلا مرحبًا بكم، لأنكم ضالون مضلون، فأنتم قدمتم العذاب لنا بإغوائنا وإغرائنا على العقائد الزائغة، والأعمال القبيحة، فبئس المقر والمنزل جهنم التي نصلاها سويا. 61 - {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ}: أي: يقول الأتباع أيضًا: يا ربنا من تسبب في عذابنا وقدمه إلينا فزده في النار عذابًا مضاعفًا، وقد جاء مثل ذلك في سورة الأعراف، وذلك في قوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: من الآية 38. (¬2) لا سعة لهم ولا نريد لقاءهم، والرحب - بضم الراء وفتحها: السعة، كمرحبا، تقول: مرحبا أو رحبا وأهلا، أي: أتيت سعة وأهلا فاستأنس ولا تستوحش، بخلاف (لا مرحبا) فإنها على العكس، وهي تشير إلى أنهم لا يريدون لقاءهم فصدورهم لا تتسع لهم؛ لأنهم صالوا النار مثلهم فلا منفعة في لقائهم تقتضى الترحيب بهم. (¬3) سورة الأعراف، من الآية: 38.

{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} المفردات {سِخْرِيًّا}: مسخورًا ومُسْتهزَأً بهم. {زَاغَتْ}: مالت. {تَخَاصُمُ} أي: تنازع. التفسير 62 - {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ}: أي: وقال الطاغون الكافرون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر: ماذا جرى لنا، حيث لا نرى معنا في النار رجالًا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار الأراذل الذين لا خير فيهم ولا منفعة لهم، يعنون بذلك فقراء المؤمنين، وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم لهم في الدين. واستظهر بعضهم أن الضمير في "قَالُوا" عائد على أتباع الرؤساء، فإن الكلام متصل بمقالهم عن الرؤساء، وكانوا - أيضًا - يسخرون من فقراء المؤمنين تبعًا لرؤسائهم. وقيل: إن الضمير راجع إلى صناديد قريش: كأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهما، والرجال الذين كانوا يسخرون منهم، هم عمار بن ياسر، وصهيب، وسلمان الفارسي، وخبَّاب بن الأرت، وبلال ونحوهم - رضي الله عنهم - على ما روى عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، والصواب: أن ذلك التحسر والتندم عام في جميع الكفار، السابقين، واللاحقين، فهم يتندمون على ما حدث منهم في فقراء جميع الأديان، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

63 - {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}: الهمزة في {أَتَّخَذْنَاهُمْ} للاستفهام الإنكارى المصحوب بالتعجب، والكلام في هذه الآية موصول بتعجبهم في الآية السابقة بقولهم: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} أي: ماذا جرى لنا حيث لا نرى معنا في النار رجالا كنا نعدهم من الأشرار لفقرهم ومخالفتهم لنا في الدين، أتخذناهم مسخورًا بهم في دنيانا وهم على حق فلذلك لا نراهم معنا في النار؟ أم مالت عنهم أبصارنا وهم في النار فلا نراهم فيها؟. 64 - {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ (¬1) أَهْلِ النَّارِ}: أي: أن ذلك الذي حُكِي عن الكفار - متبوعين وتابعين - لحق تخاصم أهل النار وتنازعهم، فلابد من حصوله يوم القيامة في جهنم. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} المفردات {الْقَهَّارُ}: الغالب. {الْعَزِيزُ}: الغالب. ¬

_ (¬1) تخاصم أهل النار: خبر ثان للفظ (إن) أما الخبر الأول فهو لفظ (لحق).

{نَبَأٌ عَظِيمٌ}: خبر عظيم. {بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى}: جماعة الملائكة اختصموا مع إبليس في شأن آدم، وسنبين الآراء في ذلك. التفسير 65، 66 - : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} بعد أن بين الله حظوة المتقين عند ربهم يوم الدين، وشقاء الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين، أمر الله نبيه أن يبين للمشركين أن مهمته فيهم هي الإنذار والبلاغ، وأنه لا ينبغي مغنمًا منهم ولا أجرًا، وأنه لا يوجد إله لهم سوى الله الواحد القهّار، فلا وجه لعبادتهم سواه، فالله هو الغالب الذي لا يقهر، وهو رب السموات السبع والأرض، وما بينهما من الكواكب التي هي زينة للسماء الدنيا، ومن الشهب والهواء والقوى الكونية التي بين السماء والأرض، وهو العزيز الغالب لمن ناوأه في أُلوهيته، الغفار لمن تاب من كفره، وأناب إلى ربه، مع عزته وقهره. وفي هذه الأوصاف التي وُصِفَ الله بها في الآيتين تقرير لتوحيده - تعالى - ووعد للمؤمنين ووعيد للمشركين على نحو ما بيناه. 67 - 69 - {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}: قل - أيها الرسول - للمشركين: ما أخبرتكم به من أنني نذير لكم مِنْ عقوبة من هذه صفاته من أنه - تعالى - إله واحد قهار، رب السموات والأرض عزيز - قل لهم -: ما أخبرتكم به من ذلك خبر عظيم أنتم عنه معرضون لا يحرك همتكم، لتمادى غفلتكم وجهالتكم، فإن اليقظ العاقل لا يعرض عن مثله، وقد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على توحيد الله فما مرَّ من صفاته التي لا تمارون فيها وهو وحيد في الاتصاف بها، وأما على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -

فهو ما أخبرهم به من أن الملأ الأعلى اختصموا في شأن آدم، وما كان له من علم بذلك إلاَّ بطريق الوحى لأنه أُمي لا يقرأ ولا يكتب وهو من أمة أمية، فلولا أنه نبي ما كان له أن يعرف ذلك، وسيأتى بيان اختصام الملأ الأعلى. وروى عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، أن الضمير في قوله: {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} راجع إلى القرآن، ويدخل فيه ما ذكر في الرأى السابق دخولًا أوليًّا، واختار هذا الرأى بعض الأجلة، ويرشحه ما جاء في أول السورة من قوله - تعالى -: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. وعلى أي حال فالكلام بجملته تحسير للمشركين، وتنبيه على مكان الخطأ منهم، وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة. والمراد بالملأ الأعلى: الملائكة وآدم وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، فالعلو حِسِّيٌّ، وكان اختصامهم وتقاولهم في شأن السجود لآدم، وسيأتي بيان ذلك قريبًا في قصة آدم. 70 - {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: إن: نافية بمعنى ما، أي: ما يوحى إليَّ حال الملأِ الأعلى، وما يوحى إليَّ من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم - ما يوحى إليَّ ذلك - إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى. ويصح أن يعود الضمير في (يوحى) إلى القرآن الكريم الذي اشتمل على ما تقدم وأعجز البُلغاء ببلاغَتِه وغيرها من فنون إعجازه. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)}

المفردات: {لِلْمَلَائِكَةِ}: هم أجسام نورانية قادرة على التشكل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {بَشَرًا مِنْ طِينٍ}: هو آدم - عليه السلام -. {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}: هذا في البلاغة يسمى تمثيلًا، فلم يكن هناك نفخ، ولا منفوخ، والمقصود: منحته الحياة ببث الروح فيه، وإضافة الروح إلى الله من إضافة المملوك إلى مالكه، كقلمى وكتابى، وليس من إضافة الجزء إلى الكل، وسيأتى إيضاح أكثر في التفسير. {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي: فاسقطوا له ساجدين تحية له. التفسير 71 - 74 - {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: شروع في بيان الاختصام والتقاول الذي جرى بين الملأ الأعلى، فهو بدل من "إذ يختصمون" بدل كل من كل، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة لأنه بمعنى القول الذي قالوه بشأن خلقه آدم، وهو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (¬1). وقد قالوا ذلك بعد قوله - تعالى - لهم: {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}: راجع القصة في تفسيرنا لها في سورة البقرة. والاختصام وقع بينهم، وبين إبليس وآدم - عليه السلام - وهم الذين عُبِّر عنهم بالملإ الأعلى في الآية السابقة؛ لأنهم كانوا في الجنة وقت الاختصام، فالمقصود من العلو علو المكان لا علو المكانة والمنزلة، وقد يقال: إن إبليس كانت له منزلة عليا لعبادته قبل أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 30.

يطرده الله من الجنة لكبريائه وإبائه تنفيذ أمر الله بالسجود لآدم، فقد كان يعبد الله - تعالى - مع الملائكة قبل غضب الله عليه، والاختصام الذي وقع من إبليس قوله لله تعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (¬1). وما ترتب على طرده من الجنة، من وعيده لآدم وذريته بالإغواء فيما حكاه الله - تعالى - في سورة الأعراف بقوله: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} إلى غير ذلك من سائر قصته. والاختصام الذي وقع من آدم هو إنباء الملائكة بأسماء المسميات المختلفة التي علمه الله إياها، بعد أن عجزت الملائكة عن معرفتها بقولهم: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2). ويلخص ابن كثير قصة آدم مع الملائكة وإبليس تعليقا على ما جاء في هذه الآيات بشأنها فيقول ما يلي: هذه القصة ذكرها الله - تعالى - في سورة "البقرة" وفي أول "الأعراف"، وفي سورة "الحجر، وسبحان، والكهف" وها هنا، وهي أن الله - سبحانه - أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه - سبحانه - سيخلق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته أن يسجدوا له إكرامًا له وإعظامًا واحترامًا لأمر الله - عز وجل - فامتثل الملائكة سوى إبليس، ولم يكن منهم جنسًا، بل كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته، فاستنكف عن السجود لآم، وخاصم ربه - عز وجل - فيه، وادعى أنه خير منه، فإنه مخلوق من نار، وآدم خلق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله وكفر بذلك، فأبعده الله وأرغم أنفه، وطرده عن باب رحمته ومحلِّ أنسه وحضرةِ قدسه، وسماه إبليس إعلامًا له بأنه قد أبلس - أي: يئس - من ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 61. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 32.

الرحمة، وأنزله من السماء مذمومًا مدحورًا إلى الأرض، فسأل الله النَّظِرَةَ إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} كما قال {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1) وهؤلاء المستثنون في الآية الأخرى، وهي قوله - تعالى -: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (¬2). انتهى مع تصرف يسير. وقال البيضاوى: أن قصة آدم اختصرت في هذه السورة اكتفاء بما مر في سورة البقرة، واقتصارًا على ما هو المقصود منها، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم - عليه السلام - ومن - الجائز أن تكون مقاولة الله - تعالى - إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر الملأ الأعلى بما يعم الله والملائكة. انتهى بتصرف يسير. وإضافة الروح إلى الله - تعالى - في قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} من إضافة المملوك إلى مالكه، وليس المقصود أنه جزء من روح الله تعالى، بل المقصود تشريف الروح التي أفاضها الله على آدم وخلقها له، وقد كفر النصارى في تفسير إضافة روح عيسى إلى الله - تعالى - في كتبهم، بأنه جزء من روح الله، فوصفوه بأنه ابن الله لذلك، ثم تمادوا وتطاودوا فجعلوه هو الله - تعالى - وهم يجادلون المسلمين فيما جاء بالقرآن من نحو قوله - تعالى -: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} (¬3). وقد ضلوا بذلك سواء السبيل، فإن معنى الآية: فنفخنا فيها مبتدئين النفخ من روحنا وهو جبريل - عليه السلام - بدليل قوله - تعالى -: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (¬4)، وهو الذي سماه الله في القرآن الروح الأمين في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 62. (¬2) سورة الإسراء: آية: 65. (¬3) سورة الأنبياء، من الآية: 91. (¬4) سورة مريم، من الآية: 17. (¬5) سورة الشعراء، الآيتان: 193 - 194.

ثم يقال لهم: لو كان الأمر كما زعمتم في الآية لوجب عليكم اعتقاد أن آدم جزء من روح الله، حيث جاء فيه هنا: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. ووجب أن لا تقصروا بنوة الله على عيسى وحده، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. واعلم أن كل شيء في هذا الكون مضاف إلى الله، فالسماء سماء الله والأرض أرض الله، وروح الإنسان روح الله، أي: مملوكة له، وداخلة تحت أمره، فمتى يعقل هؤلاء الكافرون؟. ومعنى هذه الآيات إجمالًا مع ما قبلها: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون في شأن آدم، إذ قال ربك - أيها الرسول - للملائكة: إني خالق بشرًا من طين، فإذا عدلت خلقته وصورته، وأحييته بخلق الروح فيه فخروا له ساجدين تحية وتبجيلًا وامتثالًا لأمر الله - تعالى -. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلاَّ إبليس تعاظم وصار من الكافرين، باستنكاره أمْر الله - تعالى - واستكباره على المطاوعة. قد يقول قائل: إن الأمر بالسجود لآدم كان موجهًا إلى الملائكة، فكيف يعاقب إبليس على عدم السجود له وهو غير مأمور به؟. والجواب من وجهين: أحدهما: أنه كان موجودًا بين الملائكة وليس منهم فإذا كان أشرف منه قد أُمر بالسجود لآدم فإن عليه أن يسجد له مثلهم من باب أولى. وثانيهما: أن من ينزل على قوم فلابد أن يخضع لتكاليفهم وقوانينهم، وإلَّا فإنه يستحق الطرد؛ لأنه مستوطن غير صالح للاستيطان.

{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} المفردات: {إمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أي: لمن خلقته بنفسي من غير توسط أب ولا أم. {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}: أتكبرت من غير استحقاق أم كنت ممن علا واستحق التفوق، وللكلام بقية في التفسير. {رَجِيمٌ}: مطرودٌ من الرحمة. التفسير 75 - {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ}: معلوم أنه - تعالى - لا يشبهه شيء لقوله - تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فالتعبير باليدين في خلق آدم ليس مرادًا الحقيقة عند أهل التأويل من الخلف، فهو عندهم كما قال الآلوسي: تمثيل لكون آدم - عليه السلام - معتنى بخلقه، فإن من شأن المعتنى به أن يُعْمل باليدين، والمقصود أنه خلقه بنفسه من غير توسط أب ولا أم، وجعله جسمًا صغيرًا انطوى فيه العالم الأكبر، وكونه أهلًا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره من مزايا الآدمية، وعند بعض آخر من أهل التأويل: أن اليد مجاز عن القدرة، والتثنية للتأكيد على مزيد عناية الله بخلفه، حيث طوى فيه العالم الأكبر. انتهى بتصرف يسير.

وقال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريمًا له، وإن كان خالق كل شيء، وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئًا بيده إلاَّ على سبيل الإعظام والتكريم، فذكر اليد هنا بمعنى هذا. قال مجاهد: اليد ها هنا بمعنى التأْكيد والصلة أي: لما خلقت أنا (¬1)، ثم قال القرطبي: وقيل: أراد باليد القدرة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي بالحمل الثقيل يدان، ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلاَّ بالقدرة بالإجماع، وقال الشاعر: تحملت مِن عفراء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان وقيل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: لما خلقت بغير واسطة. انتهى كلام القرطبي بتصرف يسير. ومعنى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} أتكبرت من غير استحاق، أم كنت مستحقًّا للعلو فائقًا فيه؟ وقيل معناه: أحدث لك الاستكبار، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، فالتقابل على الأول باعتبار الاستحقاق وعدمه، وعلى الثاني باعتبار الحدوث والعدم، ولذا قيل: أم كنت دون أم أنت (¬2). والمعنى الإجمالي للآية: قال الله - تعالى - لإبليس على لسان ملك: أي شيء منعك من أن تسجد لمن خلقته بنفسي بغير توسط أب وأم، عناية بخلق من طويت فيه العالم الأكبر، أتكبرت من غير استحقاق؟ أم كنت مستحقا للعلو فائفًا فيه؟. 76 - {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}: هذا جواب الاستفهام الأخير {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (¬3) يعني أنه من العالمين حقيقة، وليس متصنعًا للعلو، فهو مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار - في نظره - أشرف من الطين وأعلى منه، فكيف يسجد الأعلى للأدنى. ¬

_ (¬1) ومثل له بقوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) أي ويبقى ربك. (¬2) انظر الألوسي. (¬3) وهو في نفس الوقت متضمن للجواب على الاستفهام الأول "ما منعك أن تسجد".

78، 77 - {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}: قال الله لإبليس ردًّا على كبريائه على آدم، وتكبره على تنفيذ أمر خالقه: اخرج من الجنة التي أنت فيها، أو من صورة المتقين التي كنت فيها إلى صورة العصاة الممقوتين، فإنك مطرود من كل خير، فالرجم كناية عن الطرد؛ لأن المطرود يرجم بالحجارة، أو: اخرج منها فإنك شيطان يرجم بالشهب، أو: الرجم كناية عن الذلة، وهذا وجه حسن، ليوافق قوله - تعالى - في سورة الأعراف: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}: (¬1) وإن عليك إبعادى عن الرحمة إلى يوم الجزاء والعقوبة حيث تلقى يومئذ عاقبة طردك من رحمتى. ويرى ابن عباس: أن الجنة التي كان فيها روضة في عدن وليست جنة الخلد، وبهذا الرأي أخذ كثير من العلماء (¬2). وعلى هذا يكون المراد من إخراجه منها: إخراجه من صورة المتقين إلى صورة المردة العصاة، ويدل على ذلك أنه وسوس لآدم فيها حتى حمله على الأكل من الشجرة، والله أعلم. {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} المفردات: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي}: رب فأمهلنى. {يُبْعَثُونَ}: آدم وذريته. {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}: إلى يوم الوقت الذي عينته لفناءِ الخلق. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 13. (¬2) حيث قالوا: إنها جنة في الأرض، بدليل أن آدم لما خلق من تراب الأرض لم يرد أنه رفع إلى جنة السماء.

التفسير 79 - 81 - {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}: أراد إبليس اللعين أن لا يموت؛ بأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث، فلم يجبه الله إلى ذلك، وأخره إلى الوقت المعلوم لله - تعالى - وحده، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخر إليه تهاونا به، وإمهالًا له. والمعنى: قال إبليس: رب فأخرنى إلى يوم يبعث فيه الخلائق للحساب والجزاء، يريد بذلك الحصول على وعد ببقائه دون أن يلحقه الموت الذي قضى به على سواه، قال الله له: إنك من جملة المؤخرين الذين قضيت أزلا بتأخير موتهم إلى يوم الوقت المعلوم لي وحدى، لحكمة أردتها، وهذا اليوم هو يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها الخلائق. {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} المفردات: {فَبِعِزَّتِكَ}: فبسلطانك وقهرك {لَأُغْوِيَنَّهُمْ}: لأغرينهم بالمعاصى. التفسير 82، 83 - {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}: قال إبليس لما سمع وعيده باللعنة إلى يوم الدين: إذا كان عقابي ما ذكر فبسلطانك وقهرك لأُزينن المعاصي لآدم وذريته أجمعين، إلاَّ عبادك منهم الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الغواية، فلن يتأثروا بغوايتي.

84 - 85 {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}: قال الله متوعدًا إبليس: فالأمر الثابت ولا أقول سوى الحق. والله لأملأن جهنم من جنسك وممن تبعك من ذرية آدم أجمعين. {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} المفردات: {مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}: من المتصنعين. {ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}: تذكير ووعظ لهم. التفسير 86 - 88 - {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}: قل أيها الرسول لأمتك: ما أسألكم على تبليغ القرآن والوحى أي أجر حتى تكذبونى من أجله، فلم أطلب الملك، ولا الزعامة، ولا المال حتى تبتعدوا عني، وتناوئونى، وما أنا من المتصنعين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالى فأنتحل النبوة وأتقول القرآن، فما عرفتموه من سيرتى قبل النبوة يشهد لي بالصدق فيما دعوتكم إليه، ما القرآن إلا تذكير ووعظ للعالمين من الإنس والجن، والله لتعلمن نبأه من الصدق بعد حين، حين ينتشر الإسلام ويدخل الناس فيه أفواجًا، وعندما تموتون وحين تبعثون، حيث تندمون ولات ساعة مندم.

سورة الزمر

سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون وتسمى سورة الغرف لقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهي مكية كلها، أخبرني ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل: عن ابن عباس: أنها نزلت بمكة ولم يستثن. ووجه اتصال أولها بآخر (ص) أنه - تعالى - قال في آخر (ص) {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} قال الآلوسي: وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام، ثم إنه ذكر آخر (ص) قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أُمهاتهم خلقًا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر - سبحانه - القيامة والحساب، والجنة والنار، وختم بقوله - سبحانه - {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فذكر - جل شأنه - أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد، متصلًا بخلق آدم المذكور في السورة قبلها، وبين السورتين أوجه أخرى من الربط تظهر بالتأمل: انتهى كلام الآلوسي. مقاصد السورة بين الله - تعالى - في هذه السورة أنه هو الذي أنزل الكتاب بالحق وطلب إلى عباده أن يخلصوا له العبادة ولا يشركوا به أحدًا، وبين أنه لو أراد أن يتخذ ولدًا لاصطفى مما يخلق ما يشاء - سبحانه - هو الله الواحد القهار، وأتبع ذلك ببيان خلقه للسموات والأرض .. وما فيهما من الآيات الشاهدة بوحدانيته، وأنه خلق عباده كلهم من نفس واحدة، وبين أنه لا يرضى لعباده الكفر، ولكنه يرضى منهم الشكر، وفرق بين العلماء وغيرهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ثم خوف المشركين من سوء المصير بقوله: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} وبشر الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وكانوا يستمعون

القول فيتبعون أحسنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ثم بين أنه تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وأنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، وأنه لا يوجد أظلم ممن كذب على الله، وكذب بالصدق إذ جاءه، ثم بين أنهم يعترفون بخلق الله للسموات والأرض، فلا وجه لعبادته غيره ممن لا يرفع ضرًّا ولا يجلب نفعًا، ثم بين أنه - تعالى - هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها، وأنه {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ثم فتح الله - تعالى - أبواب الرحمة لجميع التائبين من الكفار والعصاة فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا .. } ثم قال: {وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} ثم بين أن الذين كذبوا على الله تسود وجوههم يوم القيامة، ومصيرهم جنهم ففيها مثوى المتكبرين، وأنه - تعالى - ينجى الذين اتقوا بمفازتهم من العذاب {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ثم بين أن الأرض يومئذ تشرق بنور ربها {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. ثم ذكر أن خزنة النار يوبِّخون أهلها قائلين: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وأن الذين اتقوا يساقون إلى الجنة زمرا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثم قال: {وتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}.

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} المفردات: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} خبر لمبتدأ مقدر، أي هذا تنزيل الكتاب، أو مبتدأ خبره {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وهو على الأول متعلق بتنزيل، والظاهر أن الكتاب علي الأول مراد به السورة، وعلى الثاني القرآن كله. {زُلْفَى} أي: قربة ومنزلة، وهي اسم مصدر من أزلفه إزلافًا أي: قربه تقريبًا. {كَفَّارٌ}: مبالغ في الكفر. {لَاصْطَفَى}: لاختار. {الْقَهَّارُ}: الشديد القهر، يَغْلِب ولا يُغْلَب.

التفسير 1 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: هذه الآية نزلت لإحقاق الحق، والرد على مزاعم قريش من أن القرآن من تأليف محمَّد وأنه يعلمه بشر. والمعنى: تنزيل القرآن كائن من الله الغالب الحكيم فيما يقول، وأثر الغلبة والحكمة واضح في القرآن العظيم، فقد أعجز البشر أن يأتوا بمثله، وغلبت أحكامه وتشريعاته سواه، لما اشتمل عليه من الدقة والصدق، ومراعاة مصلحة البشر دنيا وأخرى، وكل ذلك شاهد بأنه من الله العزيز الحكيم، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثله، وقد أكد الله نزوله من العزيز الحكيم بقوله: 2 - {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}: إنا أنزلنا إليك - أيها الرسول - القرآن ملتبسًا بالحق أو بسبب إظهار الحق وتفصيله، فاعبد الله أنت ومن آمن معك: اعبده مخلصًا له الدين، فلا تشرك معه في العبادة أحدًا، فإنه لا رب سواه. وقد دَلَّ الأمر بإخلاص الدين لله على وجوب تجريد العبادة من كل شرك، ففي الحديث القدسى: "من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشريكه". وروى الحسن: عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمَّد بيده لا يقبل الله شيئًا شورك فيه، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. ونقل القرطبي عن ابن العربى: أن هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبى حنيفة، والوليد بن مسلم، فإنهما يقولان: أن الوضوء يكفى من غير نية. قال ابن العرب: وما كان ليكون من الإيمان شطرًا، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.

3 - {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}: قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم وخالقكم، ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى، قال الكلبي: جوابه في سورة الأحقاف: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} (¬1). وجملة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مقول لقول مقدر، أي: قالوا: ما نعبدهم وبه قرأ ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد. ومعنى الآية: ألا لله الطاعة الخالصة من شوائب الشرك، فإنه المنفرد بصفات الأُلوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر، والذين اتخذوا من دون الله أربابًا ونصراء، قالوا في تبرير عبادتم لهم: ما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله تقريبًا، يقولون ذلك مع أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، إن الله يحكم بينهم وحده يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون مع أهل الحق، فيقضى بإدخال أهل الحق الجنة، وأهل الباطل النار. وقيل المعنى: يحكم بينهم وبين معبوديهم، فإنهم يرجون شفاعتهم وهم يلعنونهم؛ أن الله لا يوفق من هو كاذب كفار إلى الاهتداء للحق، لإصراره على الكذب، ومبالغته في الكفر. 4 - {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}: هذه الآية للرد على من زعم أن الملائكة بنات الله وأن عيسى ابن الله. وحاصل معنى الآية: لو أراد الله أن يتخذ ولدا ويسميه بهذا الاسم ما جعل هذه التسمية لهم، وكان يصطفى مما يخلق ما يشاء ويسميه بهذا الاسم، لكنه لا يصطفى من المخلوق الحادث ولدًا لاستحالة الولدية عليه - تعالى - ولأن الحادث لا يصلح ولدا للقديم، وحيث بطلت الولدية للحادث، فيستحيل على الله أن يريد اتخاذ الولد، وهذا معنى ما يقوله علماء المنطق: إذا بطل التالى بطل المقدم. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف من الآية: 28.

ونحو هذا المعنى قال الآلوسي: وجوز أن يكون المعنى في الآية: لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لجعل المخلوق ولدًا، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له - تعالى - والتالى محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق، والولدية تأبى هذه المباينة (¬1) فالمقدم مثله، ويكون معنى {لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لاتخذه ابنًا على سبيل تقدير المستحيل ... انتهى بتصرف. ثم ختم الله الآية بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيهًا له - تعالى - عن أن يتخذ ولدًا أو شريكًا في الألوهية، هو الواحد القهار الذي لا يشركه في الأُلوهية شريك، فلا يصلح ما سواه أن يكون له ولدًا فإنه مخلوق لله، والمخلوق لا يسمى ولدًا لخالقه، ولا يصلح لذلك، فضلا عن أن يكون له شريكًا، والقهارية المطلقة تنافى قبول الزوال المحوج إلى الولد أو الشريك. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} ¬

_ (¬1) لأن الولد صنو أبيه وشريكه في صفاته.

المفردات {بِالْحَقِّ}: بالحكمة والصواب. {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} أي: يلفُّه فيخفِيه، من: كار العمامة وكَوَّرها على رأسه إذا لفها (¬1). {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}: وذلَّلَهُما لمراده. {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}: كل يسير لمنتهى دوره، أو لمنقطع حركته. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}: حواء، وسيأتي الكلام في هذا الجعل. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الأنعام: الإبل والبقر والغنم والمعز، وكانت ثمانية أصناف، لأن كلا منها ذكر وأنثى، وإنزالها قضاؤها. {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} ظُلُمات البطن، والرحم، والمشيمة. التفسير 5 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}: هذه الآية مسوقة ثبات وحدانية الله وقهره لما سواه، والمراد من تكويره الليل على النهار وعكسه: أن يُذْهِب أحدهما ويأتي بالآخر ليحل محله، وقد عبر عن ذلك بالصورة البلاغية الموجودة في الآية على سبيل الاستعارة، فاطلب شرح ذلك من المطولات إن أردت. ومعنى الآية: خلق الله هذا العالم المشاهد وغير المشاهد، ملتبسًا بالحق والحكمة والصواب، يغشى الليل مكان النهار، فتحل به الظلمة، فيسكن الناس وينامون ويستريحون من كدِّ النهار، ويغشى النهار مكان الليل، فيحل به النور، فينشط الخلائق ويعملون لما خلقوا من أجله، وسخر الشمس والقمر حيث جعلهما يجريان في مداريهما، فيترتب على تذليلهما وجود النهار تارة، والليل تارة أخرى، والفصول الأربعة: الربيع، ¬

_ (¬1) أو من كور المتاع: ألقى بعضه على بعض.

فالصيف، فالخريف، فالشتاء، لمصلحة الإنسان والحيوان والنبات، وهذا الجريان لأجل سماه الله - تعالى - لانتهاء دورة كل منهما في مداره، أو لانقطاع حركته عند فناء العالم، ألا هو العزيز القادر على عقاب المصرين على الكفر والمعاصي، الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا. 6 - {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}: وهذا دليل آخر على وحدانية الله وقهره لسواه، وترك عطفه على خلق السموات والأرض، للإيذان باستقلاله في الدلالة على وجود الله وسائر كمالاته. والمراد بالنفس الواحدة التي خلقنا منها: نفس آدم - عليه السلام - فقد خلقت منه زوجه، ثم حدث التوالد بعد ذلك على النحو المعلوم، وبدأ بخلق الإنسان؛ لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره، باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل فيه: وتزعم أنك جسم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر واختلف في معنى خلق حواء من آدم، فمعظم العلماء على أنها خلقت من قصيرى ضلعه اليسرى وهي أسفل الأضلاع، وقيل: إنه بمعنى أنها خلقت من جنسه ليسكن إليها، وقيل: إنها خلقت من بقية طينته، والله أعلم. وأما قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} فهو استدلال بنوع آخر من العالم السفلى، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، وكانت ثمانية أزواج أي: أصناف، باعتبار الذكر والأُنثى في كل منها، وفي ذلك يقول الله في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} ثم قال: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (¬1)، ومعنى إنزال هذه الأنعام الثمانية قضاؤها، وإنزال الملائكة لتنفيذه، فالكلام على سبيل المجاز. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآيتين: 143 - 144.

وأما قوله - تعالى -: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ .. } فهو بيان لخلق من ذكر من بني آدم والأنعام. والمعنى الإجمالي للآية: خلفكم من نفس واحدة هي نفس آدم، خلقها أولًا ثم جعل من جنسها زوجها ليسكن إليها، وقضى لكم من الأنعام ثمانية أصناف: الإبل، والبقر، والغنم، والمعز، ذكورها وإناثها، يخلقكم، ويخلق الأنعام خلقا مدرجا، خلقا من بعد خلق، حيوانا سويًّا مِنْ بعْدِ عظام مكسوة باللحم مصورة داخل الرحم، منْ بعْد مُضغٍ، من بعد علق، من بعد نُطَف، ويتم كل ذلك في ظلمات ثلاث، ظلمة البطن، وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، أو الصلب، والرحم، والبطن، ذلكم الذي أباع هذه العظائم هو الله ربكم المستحق وحده لعبادتكم، له الملك على الإطلاق في الدنيا والآخرة، ليس لغيره شريك في ذلك كله، لا إله إلاَّ هو، فكيف تصرفون عن عبادته مع وفور موجباتها ودواعيها، وانتفاء الصارف عنها - كيف تصرفون - إلى عبادة غيره مع كثرة الصوارف عن هذا الغير. {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} المفردات: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}: ولا تحمل نفس حاملة إثمها ذنب نفس أخرى، وقال الأخفش: لا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى: اهـ. في معناه قوله - تعالى -: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (¬1): ¬

_ (¬1) سورة الطور من الآية: 21.

التفسير 7 - {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: يخاطب الله عباده المصرين على الكفر بقوله: إن تظلوا على كفركم، فإن الله غنى عنكم وعن إيمانكم، وقد جاء في الحديث القدسى أنه - تعالى - قال: "يا عِبادِى لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئًا" أخرجه الإِمام مسلم. ومع كونه - تعالى - غنيًّا عن إيمان عباده، وغير محتاج إليه، ولا إليهم، فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحبه لهم لسوء عاقبته، وما قدره عليهم إلا لسوء اختيارهم وإصرارهم عليه، وإن تشكروا نعمه عليكم بالإيمان والعمل الصالح فإنه - تعالى - يرضاه ويحبه لكم لحسن عاقبته. ولا تحمل نفس آثمة بعملها إثم نفس أخرى، فكل امرىء بما كسب رهين، ما لم يتسبب في إثم النفس الأخرى، كالآباء الذين يسيئون تربية أولادهم، فينشئون على المعاصى مثل آبائهم، فإنهم يتحملون إثم إضلالهم منضما إلى إثم ضلالهم، من غير أن ينقص ذلك من إثم الأولاد المكلفين شيئًا، فكلٌّ مسئول عن ضلاله، وفي وجوب وقاية الأولاد من المعاصي التي تدخلهم النار، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1). ويختم الله الآية منذًرا ومتوعدًا بقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}) أي: ثم إلى الله - تعالى - رجوعكم بالبعث والنشور، فيخبركم بما كنتم تعملون في دنياكم من خير فيثيبكم عليه، أو شر فيعاقبكم عليه إنه عليمٌ بما انطوت عليه الصدور من النوايا والأسرار من طاعة أو معصية فلا تخفى عليه خافية. ¬

_ (¬1) سورة التحريم الآية: 6.

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُورَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} المفردات: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} أي: شدة من البلاء والفقر. {مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي: راجعا إلى الله منصرفا عما كان يدعوه من دون الله - عَزَّ وَجَلَّ -. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي: أعطاه وملكه نعمة عظيمة من لدنه يقال: خولك الله الشيء، أي: أعطاك إياه. والأصل أعطاك خولا - بفتحتين - أي: عبيدا وخدما. أو أعطاك ما تحتاج إلى تعهده والقيام عليه. ثم عُمِّم لمطلق العطاء. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} القانت: المطيع، قاله ابن مسعود. وفي القاموس: أقنت: دعا على عدوه، أو أطال القيام في صلاته. {آنَاءَ اللَّيْلِ}: ساعاته أوله ووسطه وآخره، وعن ابن عباس: آناء الليل: جوفه. التفسير 8 - {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوإِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}:

الآية وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬1). واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر. وقيل: المراد به معين وهو عتبة ابن ربيعة، وأبو جهل، أي: وإذا مس الكافر بلاءٌ ونزلت به شدة دعا ربه راجعا إليه، منصرفا عما كان يدعوه من دون الله في حال الرخاء لعلمه أنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي: إذا أعطاه نعمة عظيمة من لدنه أذهبت عنه شدته، وأعادت إليه رخاءه، نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى إزالته وكشفه. أو نسى الدعاء الذي كان يتضرع به من قبل التخويل والإعطاء. (فما) واقعة على الضر أو على الدعاء الذي كان يتضرع به. ويجوز أن يراد من لفظ (ما) في قوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أن يراد بها الله - تعالى - كما في قول - سبحانه وتعالى -: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: نسى ربه الذي كان يدعوه متضرعا إلى كشفه. {وجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}: وجعل لله أمثالا وشركاء في العبادة في حال العافية. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} أي: قل يا محمَّد تهديدا لذلك الذي جعل لله أندادا: تمتع بكفرك تمتعًا قليلًا أو زمانا قليلًا في الدنيا {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي: ملازميها والمعذبين فيها على الدوام. والجملة تعليل لقلة التمتع. وفيه من الإقناط من النجاة وذم الكفر ما لا يخفى. كأنه قيل: قد أبيت ما أُمرت به من الإيمان والطاعة. فاستمتع بهذا الكفر الذي أنت فيه تمتعًا قليلًا لا ينجيك من عذاب الآخرة فمتاع الدنيا قليل. 9 - {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُورَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}: ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم من الآية: 34.

بين - سبحانه - بهذه الآية أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره فلا يستويان عند الله "وأم" المدغمة إما متصلة قد حذف قبلها ما يقابل ما بعدها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه. كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به: أأنت أيها الكافر الذي تدعو ربك في الضراء وتنساه في السراء أحسن حالا ومآبا، أم الذي هو قانت يقوم بمواجب الطاعات، ويداوم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادات أقرب إلى القبول، وأبعد عن الرياء، ويدعو في حالتى السراء والضراء {سَاجِدًا وَقَائِمًا}) أي: جامعا بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام لأنه أدخل في العبادة لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}: استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكايته حاله، فكأنه قيل: ما باله يفعل هذا؟ فقيل: يحذر الآخرة. أي: عذاب الآخرة {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} فينجو بذلك مما يحذر، ويفوز بما يرجوه وهو الجنة كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية. مع الإضافة إلى ضمير الراجى. وجواب هذا الاستفهام أن المطيع هو الأحسن حالا ومآلا. وإما أن تكون (أم) منقطعة وما فيها من الإضراب الانتقالي من التهديد بقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}) إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل الذى قانت من أصحاب الجنة. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أي: قل لهم يا محمَّد - بيانا للحق وتنبيها على شرف العلم والعمل -: هل يستوي الذين يعلمون حقائق الأحوال فيعملون بمقتضى علمهم كالقانت المذكور، والذين لا يعلمون ما ذكر فلا يعلمون؟ كلا لا يستوون والاستفهام للتنبيه على كون الأولين في أعلى مدارج الكمال. وكون الآخرين في أقصى مدارج البشر.

قال الزجاج: كما لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوى المطيع والعاصى فهو وارد على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوى العالمون والجاهلون لا يستوى القانتون والعاصون {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} كلام مستقل غير داخل في الكلام المأمور به، وارد من جهته - تعالى - بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي بيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم ولا يتعظ بوعظ الله وبياناته الواضحة إلا أصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل من المؤمنين. وهؤلاء بمعزل عن ذلك. {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} {اتَّقُوا رَبَّكُمْ}: احذروا معاصيه وامتثلوا أوامره. {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}: فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل المعاصي. {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال الأوزاعى: لا يوزن لهم ولا يكال وإنما يغرف لهم غرفًا لصبرهم على كل بلاءٍ. ويشمل الصبر على الهجرة شمولا أوليا. التفسير 10 - {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ... } الآية: أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولى الألباب. أي: قل لهم هذا بعينه وهو {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، هو التقوى فإنَّ نقل عبارة أمر الله - تعالى - أدخل في إيجاب الامتثال به.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} تعليل للأمر بالتقوى، أو لوجوب الامتثال به أي: قل للمحسنين في هذه الدنيا على وجه الإخلاص، وهو الذى عبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الإحسان بقوله - عليه السلام -: أنْ تعْبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". لهؤلاء المحسنين حسنة في الآخرة عظيمة لا يدرك كنهها وهي الجنة، وقيل المعنى: للذين أحسنوا في الدنيا. حسنة في الدنيا زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة، قال القشيرى: والأول أصح لأن الكافر قد نال نعم الدنيا. ويقول القرطبي تعليقًا على ذلك: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء الحسن. {وأرض الله واسعةٌ} أي: فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل المعاصي. وقيل المراد: أرض الجنة رغهم في سعتها، وسعة نعيمها، والجنة قد تسمى أرضًا، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (¬1) والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ترغيب في التقوى المأمور بها، أي: إنما يوفى الذين صبروا على دينهم، وحافظوا على حدوده، ولم يفرطوا في مراعاة حقوقه حين امتحنوا بالآلام والبلايا التي من جملتها مهاجرة الأهل، ومفارقة الأوطان. هؤلاء يوفون أجرهم بمقابلة ما كابدوا من الصبر، يوفونه بغير حساب، والمراد المبالغة في الكثرة وهو المقصود بقول ابن عباس: "لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يُعرف" أي: بغير تقدير. ولأهل البلايا نصيب أوفر ففي الحديث أنه "تنصب الموازين لأهل الصلاة والصدقة والحج فيؤتون بها أجورهم ولا تنصب لأهل البلايا، بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل النبلاء من الفضل". ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية: 74.

وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر كحيازتهم لفضيلة التقوى مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق المهاجرة ومتاعبها واحتمال البلايا في طاعة الله. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} المفردات: {مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي: من كل ما ينافيه من الشرك والرياء وغير ذلك. {أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي: أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وأسلم لله، وآمن به. {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: طاعتى وعبادتى. {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}: أمر تهديد وتوبيخ، أي: ستلقون حتما جزاء كفركم. {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} عن ابن عباس: ليس من أحد إلا خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.

{ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الواضح الظاهر. {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} أي: لأُولئك الخاسرين طبقات كثيرة من النار فوقهم كهيئة الظلل: جمع ظلة، وأصلها: السحابة تظل ما تحتها. {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}: وسمى ما تحتهم ظللا لأنها تظل من تحتهم (¬1) والمراد أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجوانب. التفسير 11 - {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيان ما أُمر به من الإخلاص في عبادة الله - عز وجل - الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون. وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله - تعالى -. 12 - {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}: أي: وأمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة. وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى عبادته، وكأن له إحراز السبق في الدين بالإخلاص فيه، وإخلاصه - عليه الصلاة والسلام - أتم من إخلاص كل مخلص، فلم تكن له صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون. 13 - {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: أي: قل يا محمد لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك، وذلك أن كفار قريش قالوا له - عليه الصلاة والسلام -: ألا تنظر إلى أبيك وجدك، وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت ¬

_ (¬1) أو هو من قبيل المشاكلة.

ردا عليهم. أي: قل إني أخاف ترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، أو الميل إلى أي شيءٍ من المعاصي؛ لأني أخاف (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأَهوال. والمقصود تهديدهم والتعريض لهم بأَنه - عليه الصلاة والسلام - مع عظمته لو عصى الله - تعالى - ما أمن العذاب فكيف بهم. 14 - {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}: أي قل لهم: أعبد الله لا غيره - سبحانه - لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصًا له دينى عن الشرك الظاهر والخفى، أو مخلصا له دينى بعبادته - سبحانه - لذاته من غير طلب شيء منه - تعالى - كقول رابعة: سبحانك ما عبدتك خوفًا من عقابك ولا رجاء ثوابك. أُمر - عليه الصلاة والسلام - أولًا ببيان كونه مأْمورا بعبادة الله - تعالى - بإخلاص الدين له، ثم الإِخبار بخوفه من العذاب على تقدير عصيانه. ثم الإِخبار بامتثاله الأَمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلبه - صلى الله عليه وسلم - في الدين، وحسما لأَطماعهم الفارغة في الرجوع إلى دينهم، وتمهيدا لتهديدهم بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: 15 - {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}: بدأت الآية بأمر تهديد ووعيد وتوبيخ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي: فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دون الله، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأَنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كى يحل بهم العقاب. ولكونه أمر تهديد عقبه بقوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ}: أي: قل لهم أيها الرسول: إن الخاسرين الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه الذي هو عبارة عن إضاعة ما يهمهم، وإتلاف ما لا بد منه هم الذين خسروا أنفسهم وأَهليهم باختيارم الكفر لهما فأضاعوهما وأتلفوهما يوم القيامة حين يدخلون النار، حيث عرضوهما للعذاب السرمدي، وأوقعوهما في هلكة ما بعدها هلكة، والمراد بالأهل الأَتباع الذين أضلوهم وقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وقيل المراد بالأهل: من أعده الله - تعالى - لمن

يدخل الجنة من الحور العين أي: خسروا أهليهم الذين يكونون لهم في الجنة لو آمنوا فبعدم إيمانهم ذهبوا عنهم ذهابًا لا إياب بعده. أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد: عن قتادة قال: ليس أحد إلا قد أَعد الله - تعالى. له أهلا في الجنة إن أطاعه. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس أنه قال في الآية: خسروا أهليهم من أهل الجنة وكانوا قد أُعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله. {أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}: جملة مستأنفة. وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة تنبيه إلى بعد منزلة المشار إليه في التفسير، وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس، وفي توسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته، وأنه لا خسران وراءه ما لا يخفى، حيث استبدلوا بالجنة نارا وبالدرجات دركات. 16 - {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}: الآية: بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام، أي: لهم من فوقهم أطباق بعضها فوق بعض من النار، ومن تحتهم أطباق كثيرة بعضها تحت بعض وتسميتها ظللا للمشاركة والمراد: أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجهات، والتعبير جار بظلل مجرى التهكم، ولذلك قيل لهم: من فوقهم ظلل ... إلخ. {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} أي: ذلك العذاب الفظيع الذي يخوف الله به عباده ويحذرهم إياه بآيات الوعيد ليبتعدوا عما يكون سببًا في إيقاعهم فيه. ثم وعظهم - تعالى - عظة بالغة منطوية على غاية اللطف والرحمة فقال مناديا لهم: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي عليكم، وغضبي منكم حتى تتحقق عبوديتكم لي التي هي عنوان الرضا عنكم، والتشريف لكم، والمراد في الآية المؤمنون لأنهم المنتفعون بالتخويف، وعممه آخرون في المؤمن والكافر. وقيل: هو خاص بالكافر.

{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} المفردات: {اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} الطاغوت: هو البالغ أقصى غاية الطغيان، ويطلق على الواحد والجمع، والمراد به: الشيطان. وقال الضحاك والسدى: هو الأوثان، ويجمع الطاغوت على طواغيت وطواغ. {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي: رجعوا إليه وتابوا. {لَهُمُ الْبُشْرَى}: الثواب على ألسنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت، وحين يحشرون والبشرى: اسم لما يعطاه المبشِّر. {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}: هم الذين يسمعون الحسن والقبيح فيتحدثون بالحسن، ويكفون عن القبيح فلا يتحدثون به. {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ}: أصحاب العقول السليمة. التفسير 17 - {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ}: قال ابن إسحاق: نزلت في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة، والزبير - رضي الله عنهم - سألوا أبا بكر - رضي الله عنه - فأخبرهم بإيمانه وذكرهم بالله فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر، وغيرهما ممن وحدوا الله - تعالى - قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمراد بالطاغوت هنا: ما يعبد من دون الله. وقال الزمخشرى: لا يطلق لفظ الطاغوت في هذه السورة على غير الشيطان، وكل

من عبد غير الله - تعالى - فهو يعبد الطاغوت، أي: الشيطان؛ لأن عبادة غير الله عبادة له فهو الآمر بها، والداعى إليها. والمعنى: والذين باعدوا أنفسهم، ونزهوها عن عبادة الطاغوت البالغ الغاية في الطغيان. {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي: أقبلوا إليه إقبالا كليا معرضين عما سواه {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب، وحسن العاقبة عند حضور الموت، وحين يحشرون {فَبَشِّرْ عِبَادِ} أي: فبشر - أيها الرسول - عبادي الذين هم أهل للبشرى بالثواب، وهم المعنيون بقوله - سبحانه -: 18 - {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}: أي: هم الموصوفون باجتناب الطاغوت والإنابة إلى الله بأعيانهم. على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقَّادًا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، فهذا اعترضهم أمران حرصوا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا. وقيل: هم الذين يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء. والإبداء والإخفاء لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬1) {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2). وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، إلى غير ذلك مما قيل في: القرطبي وغيره. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} لدينه ولما يرضاه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: وهؤلاء هم أصحاب العقول السليمة عن منازعة الهوى، ومعارضة الوهم لا غيرهم. وفيه دلالة على أن الهداية تحصل بفعل الله، وقبول النفس لها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 237. (¬2) سورة البقرة من الآية: 271.

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} المفردات: {كَلِمَةُ الْعَذَابِ}: إشارة إلى نحو قوله - تعالى -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أي: طبقات قد أعد بناؤها قبل يوم القيامة. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: مبنية على صورة يتأتى معها جرى الأنهار من تحتها لتكمل المتعة بها. التفسير 19 - {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}: بيان لأحوال أضداد السابقين على طريق الإجمال. وهؤُلاء هم عبدة الطاغوت ومتبعو كهنتها. والآية كما قيل: نزلت في أبي جهل وأضرابه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرص كل الحرص على إيمانهم، وأعلمه الله أن من سبقت له الشقاوة، وحق عليه القضاء بأنه من أهل النار، لا يستطيع - صلى الله عليه وسلم - أن ينقذه منها ويجعله مؤمنا. والمعنى: أأنت مالك أمر الناس فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه؟ أَي: لا يستطيع أحد أن ينقذ من أضله الله، وسبق في علمه أنه من أهل النار، لسوء اختياره؛ لأنه لا يقدر على الإنفاذ إلا المالك القادر، والهمزة للإنكار. أي: النفي. ¬

_ (¬1) سورة ص الآية: 85.

والهمزة الثانية في الآية هي الأولى كررت مع الجزاء لتوكيد معنى الإنكار. ثم وضع من في النار موضع ضميرهم لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، وقد جعل اجتهاده - عليه الصلاة والسلام - في دعائهم إلى الإيمان وحرصه على إيمانهم - جعل - سعيا في إنقاذهم من النار، والآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن حزنه على كفرهم وإصرارهم عليه. 20 - {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}: لما بيَّن - سبحانه - أن للكفار ظللا من النار فوقهم، ومن تحتهم، بيَّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا. ولفظ (لكن) الانتقال من قصة إلى قصة أخرى مخالفة للأولى وليست للاستدراك: ذكر ذلك القرطبي. والمعنى: أن الذين اتقوا ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهم الذين خوطبوا بقوله تعالى: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة، وبأن لهم درجات عالية في جنات النعيم، بمقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم، أي: لهم علالي بعضها فوق بعض مبنيات محكمات عاليات. وحسبك إشارة إلى رفعة شأْنها أن الله جل شأنه - بانيها، وماذا يقال في بناءٍ هو من صنع مبدع السموات والأرض دون غيره، تلك الغرف تجرى من تحتها الأنهار فتزيدها رونقا وبهاءً من غير تفاوت في العلو والسفل. وهي مهيأة ومعدة لهم، قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة. وفي ذلك من تعظيم المتقين وعلو شأنهم ما فيه. روى الإِمام أحمد بسنده: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في الجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّها لمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ وألانَ الكَلام، وصَلَّى والنَّاسُ نِيَام". {وَعْدَ اللَّهِ} مصدر مؤكد لقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ ... إلخ} فإنه وعد وأي وعد {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} مع الفريقين لاستحالته عليه - سبحانه - لما في خلفه من النقص المستحيل عليه - عَزَّ وَجَلَّ -.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} المفردات: {اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} المراد بها: السحاب. {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ} أي: فأدخله في عيون وأنهار من الأرض. يقال: سلكت الشيء في الشيء أنفذته. والينبوع: عين الأرض ومجرى الماء، جمعه ينابيع، وفعله من باب قعد أو نفع. والمراد: أن الماءَ بعد هبوطه في الأرض يخرج من العيون والأنهار. {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يَصْفَرُّ. يقال: هاج البقل يهيج: اصفَرَّ. اهـ: مصباح. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: متكسرا، يقال: حطم حطما من باب تعب فهو حَطِم إذا تكسر. اهـ: مصباح. {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} الشرح في الأصل: البسط والمد للحم ونحوه، ويكنى به عن التوسيع. قال ابن عباس: وسَّع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: فهو على هدى منه - سبحانه -. {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} قال المبرد: يقال: قسا القلب إذا صلب. وقلب قاس. أي: صلب لا يرق ولا يلين. {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: من أجل ذكره - سبحانه - الذي حقه أن تلين منه القلوب.

التفسير 21 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: الآية استئناف وارد: إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بها، وتنفيرا من التشبث بأذيالها، بعد أن وصفت الجنة بما يرغب فيها، ويشوق إليها، وإما للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته - سبحانه - وآيات حكمته ورحمته. والمعنى: ألم تر أيها المخاطب أن الله أنزل بعظيم قدرته من السحاب ماء المطر أنزله بأسباب أرادها الله. فإن تصعيد الأبخرة من البحار بسبب حرارة الشمس وتكوين الغيوم ونحو ذلك من الأسباب الجوية التي أنشأها الله - جل وعلا - لإنزال المطر على الجبال والسهول والأودية، وسائر الأنحاء؛ أنزله - سبحانه - فأدخله في مسارب وينابيع في الأرض كالعروق في الأجساد {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} ثم يخرج الله بالمطر {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي: أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو مختلفا ألوانه المُدْرَكَةُ بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما، ويشمل الزرع المقتات للبشر وغيره {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي: يتم جفافه بعد أن انتقل في أطواره نموا ونضارة فتراه بعد خضرته مصفرا {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي: فتاتا متكسرا. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} إن فيما ذكر تفصيلا من إنزال الماء، وإخراج الزرع لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الخلل، وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال، يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون

بفتنتها، أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في ينابيع الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة. 22 - {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب. فالصدر محل للقلب الذي هو منبع الروح، وانشراحه مستدع لاتساع القلب واستضاءته بنور الله. والمعنى: أكلُّ الناس سواء؟ فمن شرح الله صدره واهتدى. أي: خلقه متسع الصدر مستعدا للإسلام فبقى على الفطرة الأصلية، ولم يتغير بالعوارض السيئة المكتسبة {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي: فهو بموجب ذلك مستقر على نور عظيم من ربه، وهو اللطيف الإلهي الفائض عليه عند مشاهده الآيات الكونية والتنزيلية والتوفيق بها إلى الاهتداء إلى الحق. وسئل رسول الله عن الشرح فقال: (إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح. فقيل: هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت). أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قسا قلبه وحرج صدره بسبب تبديل فطرة الله بسوء اختياره، وقد استولت عليه ظلمات الغي والضلالة فأعرض عن الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها. {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي: من أجل ذكر الله الذي حقه أن تلين منه القلوب بمعنى: أنهم إذا ذكر الله عندهم أو آياته - عَزَّ وَجَلَّ - اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} وكانوا أهلا للويل وسوء المصير. وأسند الشرح إلى الله - تعالى - إيذانا بأنه على أتم الوجوه؛ لأنه فعل قادر حكيم، وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يقابل بالضيق؛ لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضى عدم قبول شيء بخلاف الضيق فإنه يشعر بقبول شيء قليل، وذلك غير مقصود.

وإسناد القساوة إلى القلوب دون الصدور للتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله. {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في بعد عن الحق ظاهر لا يخفى كونه ضلالا على أحد. والآية قيل: نزلت في علي وحمزة - رضي الله عنهما - وأبي لهب وابنه. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل وذويه، والمراد منها العموم في كل من شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه، وكل من زادته الآيات رجسا وقساوة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} المفردات: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} المراد به: القرآن الكريم. {مُتَشَابِهًا}: يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة وغير ذلك. {مَثَانِيَ}: جمع مُثَنَّى (¬1) بمعنى مُرَدَّد ومكرَّر من التكرير والإعادة لما كرر من قصصه وأنبائه وأحكامه ويثنى للتلاوة فلا يمل. {تَقْشَعِرُّ} أي: تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} المراد بذكر الله: الإِسلام وآية الرحمة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) بضم الميم وتشديد النون مفتوحا، وهو جمع له على غير قياس، وقيامه مثنيات.

التفسير 23 - {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}: عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حدثنا بأحاديث حِسَان، وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود: أن الصحابة ملُّوا ملَّة فقالوا له - عليه الصلاة والسلام -: حدثنا فنزلت إرشادا لهم إلى ما يزيل ملَلَهُم وهو تلاوة القرآن الكريم واستماعه منه - صلى الله عليه وسلم - غضا نضيرا. والمعنى: أن الله نزَّل أحسن الحديث، وهو القرآن العظيم - نزله كتابًا متشابهًا -، يشبه بعضه بعضا في الصدق والحق والوعظ والحكمة والإعجاز واستتباع منافع العباد في المعاش والمعاد وجعله مثاني (¬1) أي: مرددًا ومكررا وكرر من قصصه وأنبائه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: هو مثاني لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل، ووقوع مثاني وهو جمع صفة لكتاب وهو مفرد باعتبار تفاصيله، وتفاصيل الشيء هي جملته ألا تراك تقول: إن القرآن سور وآيات، وأسباع وأخماس. فكذلك تقول: هو أحكام ومواعظ وأقاصيص {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه، ولتقرير كونه أحسن الحديث، ومن هيبته تقشعر منه جلود الذين يخشون الله حقّ خشيته، بمعنى تتقبض تقبضا شديدا. والمراد: إما بيان خشيتهم بطريق التمثيل والتصوير، أو بيان حصول تلك الحالة وعروضها بطريق التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله - تعالى - تبدلت خشيتهم رجاء، ورهبتهم رغبة ¬

_ (¬1) جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}. بمعنى كرة بعد كرة. وهذا رأي آخر غير الذي سبق.

وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: تلين ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته - تعالى - وإنما لم يصرح بها لأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره - تعالى - لأصالته كما يرشد إليه خبر (سبقت رحمتى غضبي) وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى ذكر رحمته - عَزَّ وَجَلَّ - ولم ينعتهم الله بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وهو من الشيطان. عن أسماءَ بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - قالت: (كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرئَ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ القرآن عليهم خرَّ أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحى: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق. فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقتهم وضرب رءُوسهم بالأرض عند سماع القرآن. {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: ذلك الكتاب الذي شرحت أحواله هو هدى الله الذي يهدى به من يشاء من عباده، الذين علم منهم اختيار الاهتداء بتأمُّلِه، والاتعاظ بما في تضاعيفه من شواهد الحقية، ودلائل كونه من عند الله - تعالى -. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: ومن يخلق - سبحانه - فيه الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء اختياره، فليس له من أحد يهديه إلى الحق ليخلصه من ورطة الضلال.

وقيل: الإشارة في قوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} إلى المذكور من الاقشعرار واللين أي: ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه - تعالى - يهدى بذلك الأثر من يشاء من عباده، ومن لم يؤثر فيه الهدى لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره، فما له من هاد يؤثر فيه حتى يهتدى. {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)} المفردات: {يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}: وهو الذي يرمي به مكتوفًا في النار، فيتقي بوجهه العذاب الشديد، لأنه أول شيء تمسه النار. {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أي: وتقول الخزنة للكفار: ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي وهو العذاب والنكال. {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} أي: فأصابهم العذاب الدنيوى. {مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أي: من الجهة التي لا يخطر ببالهم إتيان الشر منها. {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} يقال كل ما نال الجارحة: قد ذاقته. أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال المبرد: والخِزْي من المكروه والخزاية من الاستحياء. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كان من شأْنهم أن يعلموا شيئًا لعلموا ذلك.

التفسير 24 - {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}: استئناف جارٍ مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدى والضال. وقد نزلت - كما قيل - في أبي جهل. والمعنى: أَكُلُّ الناس سواء؟ فمن شأْنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه - يتقي - به - العذاب السيء الشديد. كمن هو آمِن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى اتقائه بوجهه، فالوجه على حقيقته. ويشير هذا إلى أن الإنسان إذا لقى مكروهًا من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يتقي بها وجهه؛ لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلاَّ بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه. قال عطاء، وابن زيد: يرمى به مكتوفًا في النار، فأول شيء تمس منه النار وجهه، وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار، وجوز أن يراد من الوجه الجسم كله. ويقال للظالمين من جهة الخزنة: ذوقوا وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي، ووضع المظهر في مكان المضمر - فقيل للظالمين، ولم يقل لهم - لتسجيل الظلم عليهم والإشعار بعلية الأمر في قوله تعالى: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وصيغة الماضي مع أن قول الخزنة مستقبل للدلالة على تحقق الوقوع. 25 - {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}: استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوى إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأُخروي. والمعنى: كذب الذين من قبل قريش من الأمم السابقة عليهم، فأتاهم العذاب المقدر لكل أمة منهم من الجهة التي لا يحتسبون ولا يدور بخلدهم إتيان الشر منها؛ لأن ذلك أقسى على النفس وأشد إيلامًا لها.

26 - {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: أي: فأَذاقهم الله الذل والصغار بمعنى أنهما وصلا إليهم كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما، ولعذاب الآخرة المعد لهم أكبر وأنكى ممَّا أصابهم في الدنيا لشدته وسرمديته. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئًا لعلموا ذلك واعتبروا به. {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} المفردات: {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}: يحتاج إليه الناظر في أمور دينه. {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي: غير مختلف وهو قول ابن عباس. والعوج - بكسر العين وفتحها - مصدر عوج كتعب. قال ابن الأثير: إن مكسور العين مختص بما ليس مرئيًّا كالرأى، والقول. والمفتوح مختص بما هو مرئي كالأجساد. وعن ابن السكيت: أن المكسور أعم من المفتوح، واختار المرزوقى أنه لا فرق بينهما. التفسير 27 - {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: أي: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن الرفيع الشأن من كل مثل يحتاجون إليه، للنظر في شئون دينهم، بمعنى بينا لهم ذلك بضرب الأمثال كى يتذكروا بها ويتعظوا. 28 - {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: أي: وأنزلناه قرآنًا عربيًا سلم مبناه ومعناه لا اختلال فيه بوجه من الوجوه ولا انحراف. ونفى مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من {غَيْرَ عِوَجٍ}

ولما كان العوج (بالكسر) يقال فيما يدرك بالعقل والبصيرة والعوج (بالفتح) يقال فيما يدرك بالحس، عبر بالأول ليدل على أنه أبلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجًا فضلا عن الحس. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}: الكفر والكذب بترك الاختلاق عليه والشك فيه. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} المفردات: {مُتَشَاكِسُونَ} أي: شرسو الطباع. {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} أي: خالصًا لسيد واحد. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: الحق فيتبعونه. التفسير 29 - {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: هذا مَثَلٌ من الأمثلة القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضرب الأمثال هو التذكر والاتعاظ بها، وتحصيل التقوى. والمراد هنا بضرب المثل تشبيه حالة عجيبة بأُخرى مثلها. والمعنى: ضرب الله للمشرك الذي يعبد آلهة كثيرة - ضرب له - مثلًا عبدا مملوكًا لجماعة

متشاحنين يتجاذبونه ويتعاورونه لا يلقاه رجل منهم إلاَّ جرَّه واستخدمه، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يُرضى واحدًا منهم بخدمته، ولا يدري على أيهم يعتمد في حاجاته ولا أيهم يرضي بخدمته، فهمُّه شعاع، وقلبه أوزاع. وضرب لمن يعبد الله وحده مثلا رجلا خالصا لفرد واحد، وليس لغيره سبيل عليه، وذلك الفرد يَعُولُهُ ويعرف له صدق بلائه، فهو في راحة من الحيرة وتوزع القلب. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي: هل تستوي صفتاهما وحالاهما، وهو إنكار واستبعاد لاستوائهما، ونفي له على أبعد وجه وآكده. وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما، أو يتلعثم في الحكم بتباينهما، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد مع الله آلهة، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له. والسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: تقرير لما قبله من نفي الاستواء بين المثلين، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله - تعالى - وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده وعبادته أو الحمد لله على إقامة الحجة عليهم. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجة المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره فيقعون في ورطة الشرك والضلال.

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} المفردات: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} مع التشديد: من لم يمت وسيموت، ومع التسكين: من فارقته الروح. {تَخْتَصِمُونَ} أي: يتخاصم فيه الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم، قاله ابن عباس وغيره. يقال: اختصم القوم: خاصم بعضهم بعضًا. اهـ: مصباح. التفسير 30 - {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}: تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة، وهو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر فيه - سبحانه - بموته. ويدخل معه مؤمنو أمته. والمقصود من الضمير في "إنهم ميتون" الكفار. وقد احتمل خطابه كما قال القرطبي خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرًا من الآخرة. الثاني: أنه ذكره حثًّا على العمل. الثالث: أنه توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى أن عمر - رضي الله عنه - لما أنكر موته احتج أبو بكر - رضي الله عنه - بهذه الآية مع قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ... الآية.

الخامس: ليعلمه أن الله - تعالى - سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة. وفي البحر: لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر - سبحانه - بأن مصير الجميع بالموت إلى الله - تعالى - وأنهم يختصمون يوم القيامة ببن يديه وهو - عز وجل - الحكم العدل فيميز هناك المحق من المبطل. وقيل: كانوا يتربصون موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروا بأنهم جميعًا سواء بصدد الموت، فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني. وتأكيد الحملة في {إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة عن الموت، وتأكيد الأُولى دفعًا لاستبعاد موته - صلى الله عليه وسلم -. 31 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}: يعني تخاصم الكافر والمؤمن، والظالم والمظلوم قاله: ابن عباس وغيره. وقيل: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد، أي: ثم إنك وإياهم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: عند مالك أمركم (تخَتَصِمُونَ) فنحتج عليهم بأنك بلغت ما أُرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات فكذبوا ولجوا في المكابرة والعناد معتذرين بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، ويقول السادة: أغوتنا الشياطين وآباؤُنا الأقدمون وغلبت علينا شقوتنا.

وقال جَمْعٌ: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه - عليه الصلاة والسلام - وبين الكفرة الطغام. أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن عساكر: عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآية {إِنَّكَ مَيِّتٌ ... } الخ، فقالوا: وما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان بن عفان قالوا: هذه خصومة ما بيننا. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه. فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد، وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد حتى رأيت بعضا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدرى: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم "صفين" وشد بعضنا على بعض بالسيوف. قلنا: نعم هو هذا. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانت له مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألاَّ يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه ثم طرح في النار".

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} المفردات: {بِالصِّدْقِ}: الذي هو عين الحق، وهو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذروته القرآن الكريم. {مَثْوًى}: مقام ومسكن، من: ثوى بالمكان يثوي ثواءً وثُويًّا إذا أقام به. التفسير 32 - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}: ذكرت الآية السابقة تخاصم المشركين عند الله يوم القيامة، إذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إني بلَّغت فكذبتم، واجتهدت في الدعوة فلججتم في الخصومة والعناد، فيعتذرون بما لا طائل تحته، وجاءت هذه الآية بعدها بيانًا لحكم الله عليهم وعلى غيرهم من سائر المكذبين للرسل. والمعنى: لا أحد أشد ظلمًا، ولا أقبح افتراءً واختلافًا ممن اجترأ على مقام الأُلوهية، وكذب كل الله فادَّعى معه الشريك أو نسب له الولد، أو غير ذلك من أنواع الشرك، وَغَلاَ في هذا وتجاوز مفاجئًا من غير رويَّة ولا تأَمُّل فكذَّب بالأمر الذي هو عين الحق،

وذات الصدق واليقين، ممَّا جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدعوة إلى توحيد الله، والقرآن الكريم الذي هو أقوى برهان، وأصدق بيان، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} بأسلوب الاستفهام الداخل على النَّفي لينفيه تقريرٌ وتأكيدٌ للجزاء الذي ينتظر هؤلاء المكذِّين، أي: أن في جهنم مثوى لهم أي: مقامًا متسعًا ومسكنًا دائمًا خالدًا جزاء ما افتروا على الله - سبحانه - وما سارعوا إليه من تكذيب رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ووضع الظاهر في قوله: {لِلْكَافِرِينَ} موضع الضمير أي: (لهم) لتسجيل الكفر عليهم وتأكيد استحقاقهم للخلود فيها لا ينفكُّون عنها ولا تنفكُّ عنهم. 33 - {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}: الذي جاء بالصدق وصدق به هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس، والمؤمنون داخلون بحكم التبعية له فهو إمامهم، ولذلك أخبر عنه بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. ومثل ذلك مثل دخول الجند في الأمير بالتبعية في قولك: نزل الأمير بموضع كذا، أي: نزل وتبعه جنوده، وقيل: هو على تقدير: والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، وحمل بعضهم الموصول على الجنس، والمراد به حينئذ الرسول والمؤمنون، وأُيد هذا الرأى بقراءَة ابن مسعود. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}: والمعنى: ومحمد الذي جاء بالقرآن الحق، وصدق به هو ومن آمن معه - أولئك الموصوفون بما ذكر - هم المتقون أي: الذين وقوا أنفسهم من الشرك ومن مثوى المشركين.

34 - {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}: هذه الآية بيان لما يستحقه المصدقون المتقون من الكرامة والمنزلة، أي: لهؤلاء المتقين المصدِّقين لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم ما يشاءون عند ربهم - من تكفير السيئات، والأمن من الفزع أكبر وسائر أهوال يوم القيامة، ومن خيرات الجنَّة ونعيمها، وطيب المقام فيها بعد دخولها، إلى جانب ما نالوه في الدنيا من مختلف أنواع النعم. {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي: ذلك الذي ذكر من حصول ما يشاءُون في الدنيا والآخرة جزاءُ المحسنين الذين أخلصوا إيمانهم وأحسنوا أعمالهم. ووضع المحسنين موضع ضميرهم للإشادة بحسن أعمالهم، وإبراز فضلهم. 35 - {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}: قول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ ... الآية} متعلق بمضمون ما قبله. والمعنى: وعدهم الله ما يشاءُونه من دفع المضار، وقيل المسارِّ، وحسن العاقبة، ليكفِّر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الأعمال التي عملوها وخافوا عقابها (¬1) وليجزيهم أَكرم جزاء، ويثيبهم أوفى ثواب بأحسن ما كانوا يعملون من الطاعات، حيث يرفع درجة الحسن من أعمالهم إلى درجة أحسنها، ويثيبهم عليه ثواب أحسنها. {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)} المفردات: {بِكَافٍ عَبْدَهُ}: بحافظ ومانع رسوله مِمَّا يخَوِّفُونَهُ به. ¬

_ (¬1) وإذا كفر الله عنهم أسوأ الذي عملوه، فإنه - تعالى - يكفر عنهم ما دونه من باب أولى.

{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}: يحذرونك ويهددونك بضرر الأصنام. {عَزِيزٍ}: غالب لا يغالب، منيع لا يمانَع ولا ينازَع. {انْتِقَامٍ}: عقوبة. التفسير: 36 - {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}: دخول همزة الاستفهام على النفى يقتضي التقرير والإثبات، وقد جاءت هذه الآية لتؤكد مضمون الآيات السابقة من توعُّد الظالمين الكذَّابين والمكذِّبين، وصدق الوعد للصادقين والمصدِّقين. والمعنى: الله - تعالى - بقوته وقدرته حافظ رسوله، ومانعه من كل أذى يصيبه، ومن كل مؤذ يريده بسوء. وقوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} تسفيه لما كان المشركون يُهدِّدُون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ضرر أصنامهم. ويتوعدونه به. روى أنَّهم كانوا يقولون له: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وتصيبك مضرتها لعيبك إياها، فنزلت الآية. وفي رواية أُخرى قالوا: "لتكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل أو جنون كما قال قوم هود له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}. وقال قتادة: مضى خالد بن الوليد إلى العُزَّى ليكسرها بالفأس، فقال له سادنها: أُحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم رأسها بالفاس". وتخويفهم لخالد تخويف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه الذي وجهه إليها. ولما كان اتخاذهم الأصنام آلهة، وتخويفهم بها وهي أحجار لا تدفع ضرًّا ولا تجلب نفعًا لنفسها فضلًا عن أن تنفع أو تضرُّ غيرها - لما كان هذا - ضلًالا منهم وإضلالًا من الله لهم لإصرارهم على الباطل، جاء قول الله - تعالى -: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}

أي: ومن يصرفه الله عن الهداية، ويعمى قلبه عن اتباع الحق لسوء اختياره، فهو ضال وما له من هادٍ أبدًا يهديه إلى الخير، أو يوجهه إلى الحق ونور الإيمان. 37 - {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي: ومن يوفِّقه الله إلى الهداية ويرشده إلى الحق ونور الإيمان فليس له من مضل يصرفه عن مقصده السَّويِّ، ويدفعه إلى الغواية ومسالك السوء، إذ لا راد لقضائه - تعالى - ولا معارض لإرادته. كما ينطق بذلك قوله - تعالى -: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} أي: أليس الله بغالب لا يغالب، منيع لا يمانع ولا ينازع، ذي انتقام وعقوبة بالغة لمن يتمرد على أمره وينهيه. وفي هذا تسلية للرسول، وتثبيت للمؤمنين، وتأمين لهم على مسالكهم في الطاعة، ومسيرتهم في الاهتداء. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)} المفردات: {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}: دافعات ضره ورافعاته. {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}: مانعات رحمته وحابسات لها. {حَسْبِيَ اللهُ}: كافيني في جميع أموري.

{مَكَانَتِكُمْ}: حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتم فيها. {يُخْزِيهِ}: يذله ويهينه. {مُقِيمٌ}: دائم لا ينقطع. التفسير 38 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}: كان المشركون مع إشراكهم، وعبادتهم الأصنام، وادعائهم قدرتها وتأثيرها يعترفون أن خالق السموات والأرض هو الله لا يمارون في ذلك، ولا يجادلون فيه، وجاءت هذه الآية توجِّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى سؤالهم عن ذلك لينتزع هذا الاعتراف فيكون حجة عليهم تبهتهم وتسفه أحلامهم. والمعنى: ولئن سألت هؤلاء المشركين المعاندين مَنْ خلق السموات والأرض، وأبدع صنعتهما وأحكم نظامهما، وسخر في السماء كواكبها، وأجرى في الأرض أنهارها، وأرسى جبالها، وأنبت أشجارها، وبثَّ فيها من كل دابَّة ليقولن: خلقهن الله لوضوح الدليل، وسنوح السبيل، وما وجدوا سوى ذلك ردًّا ولا حاروا جوابًا. قل لهم يا محمد بعد هذا الاعتراف منهنم تسفيهًا وتبكيتًا: أفكَّرتم بعد هذا الاعتراف والإقرار فرأيتم أن آلهتكم التي تدعونها من دون الله، وتزعمون لها التسلُّط والتأثير - إن أرادني الله بضرٍّ وأذى هل هنَّ قادرات على أن تدفعه عنِّي، وتحول بينه وبينى، أو أرادني برحمة ونعمة هل هنَّ قادرات أن تمنعها مني أو تحبسها عنِّي، وعبر عن آلهتهم بصيغ المؤنث في (كَاشِفَاتُ، مُمْسِكَاتُ) لأنها مؤنثات الأسماء وهي اللاَّت والعزى ومناة. روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سألهم سكتوا فنزل قوله - تعالى -: {قُلْ حَسْبَيَ الله} أي: قل لهم أيها الصادق الأمين: حسبى الله وكافيني في جميع أموري من إصابة الخير، ودفع الشر، عليه وحده لا على أحد غيره يتوكل المتوكلون في كل أمورهم، ويعتمدون على حوله وقوته في جميع شئونهم، لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته - تعالى -.

39، 40 - {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}: أي: قل لهم أيها الصادق الأمين بعد أن سجَّلوا على أنفسهم باعترافهم بقدرة الله - تعالى - السفه والعناد - قل لهم -: اعملوا على مكانتكم وحالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنت منكم، إني عامل على منهجى وطريقى التي لا تزال تزداد قوة تروع أمنكم، بنصر الله لي وتأييده إياي، إحقاقا للحق وإعلاءً لكلمته، وإذا كنتم الآن من هذا في شك فسوف تعلمون في مستقبل الأيام وعلى امتداد الزمن، وتتابع الأحداث من يأتيه عذاب يخزيه ويذلُّه في الدنيا ويهينه، ويحلُّ عليه في الآخرة عذابٌ مقيم دائم لا ينقطع، وقد صدق فيهم عذاب الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر، والذُّل والهوان يوم فتح مكَّة، وينتظرهم في الآخرة عذابٌ أفظع، ونكال أبشع لمن بقى منهم على كفره. {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} المفردات: {بِالْحَقِّ}: متلبسًا بالصدق. {بِوَكِيلٍ}: مسلَّط تجبرهم على الهداية. التفسير: 41 - {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}: تتجه هذه الآية إلى تقرير أمر الرسالة، وإنزال القرآن الكريم، وما يحتويه من

إرشادات وعظات، يُسَلي بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويهون عليه عناد قومه ومعارضتهم فيقول - الله تعالى مخاطبا نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أي: إنا أنزلنا عليك أيها الرسول العظيم القرآن الكريم بالحق والصدق لأجل الناس فإنه مناط مصالحهم في المعاش وفي المعاد، وإن مهمتك فيه إبلاغه للناس بأمانة وصدق، كما أنزلناه إليك ليهتدى به من يريد الله له الهداية ومجانبة الشرك والضلال، فمن أجابك إليه واهتدى به، وعمل بما فيه فلنفسه؛ لأن نفعه عائد عليها، وحسن عاقبته لها، ومن أعرض، وضل عن الانتفاع بهديه، ولم يعمل بما فيه، فإنما ضلاله على نفسه؛ لأن وبال ذلك، وسوء عاقبته حائق بها، وما أنت على الناس بوكيل ولا مسلَّط تجبرهم على الإيمان والتصديق، وتلجئهم إلى الهداية والتوفيق، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء. {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} المفردات: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} أي: يستوفيها ويسيطر عليها. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}: يحفظها ولا يردُّها إلى البدن. {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى}: يرد النفس النائمة إلى البدن عند اليقظة.

{أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: وقت سمَّاها الله ينتهى به عمرها. {لَآيَاتٍ}: لَعِظِاتٍ بالغات. التفسير: 42 - {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "إن في ابن آدم نفسا وروحًا، بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز، والروح هي التي بها التنفُّس، والتحرك، فيتوفَّيان معا عند الموت، ونتوفى النفس وحدها عند النوم". هكذا روي عن ابن عباس، ولكن الظاهر أن هذه الآية الكريمة تمثل صورتين عجيبتين من صور قدرة الله - تعالى - على الخلائق، صورة تحدث لكل حي مرة واحدة ولا تتكرر، وهي الموت عند انتهاء الأجل، وصورة تتكرر مع الحياة وتلازمها، وهي النوم في جميع حالاته وأوقاته: فهذا هو مضمون قوله - تعالى -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... الآية}. والمعنى: الله يستوفي الأرواح ويسيطر عليها حين موتها وحين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويقطع صلتها بالبدن، ويرد النفس الأخرى النائمة التي منعها عن التصرف وقت نومها ولم يحن أجلها - يرد تصرفها إلى بدنها فتحصل اليقظة بسبب ذلك، ويجرى ذلك عليها إلى أجل مسمى هو انتهاء عمرها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إن في ذلك التصرف العجيب، والنمط الغريب الذي يجرى على نفوس الخلائق، ويتكرر في حاليه بينهم، وتحت أبصارهم، وأسماعهم، لآيات بالغات، وشواهد بيِّنات دالات على بليغ قدرة الله - تعالى - ودقة حكمه، القوم يتفكرون في كيفية تعلق النفس بالأبدان، وتوفِّيها عنها تارة بالكلية عند الموت، واستبقائها عند الله بين السعادة والشقاوة، وتوفِّيها تارة أخرى توفيا ظاهرا عند النوم، وإرسالها إلى البدن ليعود إلى نشاطه، حتى يحين أجلها.

43، 44 - {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي: بل أتخذوا: فأم هنا منقطعة تتضمن معنى بل وهمزة الاستفهام. والمعنى: بل أتخذ المشركون آلهة من دون الله، ومن غير إذن منه شفعاء تشفع عنده - تعالى - لهم في أمورهم الدنيوية والأُخروية. قل لهم أيها الرسول (أولًا) تسفيهًا وتبكيتًا: أيستقيم في تفكيركم، ويصح في عقولكم أن تتخذوا أصنامكم شفعاء يشفعون لكم عند الله، وترجون عندهم ذلك، ولو كانوا لا يملكون شيئًا أصلًا، فضلًا عن أن يملكوا الشفاعة التي هي المنزلة العليا، والغاية القصوي، التي لا يرقى إليها إلاَّ الأنبياء والمرتضون. وكذلك لا يعقلون أمرا من الأمور، ولا يرجو أحد منهم الشفاعة إلاَّ المغرقون في الجهل والضلال. وقيل لهم (ثانيًا) إثباتًا للحق وتأكيدًا: لله وحده الشفاعة جميعًا بكل صورها، وكافة أغراضها هو الذي يملكها ويملك الإذن بها إذا كان الشفيع مرتضى مأذونًا له، وأصامكم تفقد أساسًا كل مقوماتها فضلًا عن الارتضاء لها والإذن لها. وقوله - تعالى -: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تأكيد لمضمون ما قبله وتقرير له. والمعنى: لله وحدد ملك السموات والأرض وملك ما بث فيهما من دابة، ومن حق المالك ألا يتكلم أحد في أمر من أمور ملكه إلاَّ بإذنه، ثم إليه وحده وليس لغيره استقلالًا أو اشتراكًا ترجعون يوم القيامة، فتعلمون الأُمور على حقيقتها، وتتبينون ضلالكم وجهلكم باتخاذكم هذه الأصنام آلهة، ورجائكم في نفعها وشفاعتها فتندمون، ولات ساعة مندم.

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)} المفردات: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ}: دون ذكر الأصنام. {اشْمَأَزَّتْ}: انقبضت ونفرت. {مِنْ دُونِهِ}: من دون الله. {يَسْتَبْشِرُونَ}: يفرحون ويسرون. {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق. {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: عالم السر والعلن. {لَافْتَدَوْا بِهِ}: لقدموه فداءً لهم من العذاب. {بَدَا}: ظهر. {يَحْتَسِبُونَ}: يدخل في تقديرهم وحسابهم.

التفسير: 45 - {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}: تصور هذه الآية تصرفًا من تصرفات هؤلاء المشركين ناشئًا عن تماديهم في الشرك، وإيغالهم في تأليه أصنامهم، وتمثل حالين من أحوالهم القبيحة تنعكسان على وجوههم انقباضا وعبوسًا إذا سمعوا ذكر الله، وبشْرا وفرحا إذا سمعوا ذكر آلهتهم، وذلك من إيغالهم في الجهل وانحطاطهم في سفاهة العقل وسوء التفكير. والمعنى: قد كان من حالهم في الدنيا أنه إذا ذكر الله وحده دون ذكر الأصنام انقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين، وظهر ذلك على وجوههم إنكارًا واشمئزازا، وإذا ذكر الذين من دونه من أصنامهم وآلهتهم فرادى أو مع ذكر الله - تعالى - أسرع الفرح والسرور إليهم، وظهر البشر على وجوههم، لفرط افتتانهم بآلهتهم، وتعصبهم لها، ونسيان حق الله - تعالى -. 46 - {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: هذا أمر وتوجيه من الله لرسوله بالدعاء والالتجاء إلى الله - تعالى - لما قاساه في أمر دعوة هؤلاء المشركين، ولما ناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد، فإنه - تعالى - هو المبدع للسموات والأرض بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها، والفاصل بين المحقين والمبطلين، وفيه تعليم للعباد أن يلجؤا إلى الله عند الشدائد. والمعنى: قل أيها الرسول: اللهم يا فاطر السموات والأرض ومبدع صنعتهما على غير مثال سبق، يا عالم كل سر وعلانية، وكل غائب وشاهد، لا يخفى عليك شأن من الشئون أنت وحدك تحكم بين عبادك، وتقضي بينهم فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا قضاءً يحسم كل خلاف، ويخضع له كل مكابر، ويستسلم له كل عات متجبر، فيبهت بذلك كل ظالم، وينصف كل مظلوم.

هذا، وأصل الفطر: ابتداء الخلق وابتداعه، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كنت لا أدرى ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا (فطرتها) أي: ابتدأتها". 47 - {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}: ولو كان للذين ظلموا أنفسهم بالشرك، والإسراف في العناد والمعارضة - لو كان لهم - ما في الأرض جميعًا من الخيرات، والكنوز والأموال ومثله معه، لهان عليهم أن يبذلوه افتداء لهم وخلاصًا من سوء العذاب يوم القيامة، لهول ما يشاهدون، وفظاعة - ما يلاقون - وهيهات - وفي هذا قمة الوعيد، وغاية الإقناط لهم من الخلاص والنجاة ما داموا به كافرين. وفي قوله - تعالى -: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}: ارتفاع بالوعيد إلى أقصى ما يتمثله متمثل، أو يدخل تحت حِذْرٍ وتقدير. أي: وظهر لهم من الله من ضروب العذاب، وصور العقاب والانتقام، ما لم يخطر على بالهم، ولم يدخل في تقديرهم وحسابهم. وهذا الوعيد غاية في التخويف والتحذير يقابلها في الترغيب والتبشير قول الله - تعالى -: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). 48 - {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: تمضى الآيات في ترديد الوعيد وتبديء فيه وتعيد، لتقطع الحجة على كل مكابر، وتعقد لسان كل عنيد، فيقول الله - تعالى -: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي: وظهر - للمشركين يوم القيامة حين عرضت عليهم صحائف أعمالهم، وأخذوا كتبهم بشمائلهم، وقالوا وفي عيونهم عبرة، وقلوبهم في غمرة: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ... الآية} (¬2) - بدا لهم يومئذ - سيئات ما عملوا في دنياهم ¬

_ (¬1) سورة السجدة - الآية: 17. (¬2) سورة الكهف من الآية: 49.

وما اكتسبوا من فرطات وآثام، {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: نزل وأحاط بهم من صنوف العداب وضروب العقاب ما كانوا به يستهزئون ويسخرون عند توعدهم به في الدنيا، ويستعجلون نزوله سخرية وإنكارًا، وعتوا واستكبارًا، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)} المفردات: {مَسَّ}: أصاب وتمكن. {خَوَّلْنَاهُ}: أعطيناه وملكناه تفضلًا. {عَلَى عِلْمٍ}: على معرفة بوجوه الكسب، أو على استحقاق وجدارة بما عندي من العلم. {فِتْنَةٌ}: محنة وابتلاء. {بِمُعْجِزِينَ}: بغائبين من العذاب ناجين منه. ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 33.

{يَبْسُطُ}: يوسع ويزيد. {وَيَقْدِرُ}: يضيِّق وينقص. التفسير 49 - {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: تحكى هذه الآية لونًا من سلوك الإنسان الذي لم يتمكن من قلبه دين يهديه، ولم يتوفَّر فيه عقل يرشده، ولا تحكمه قيم أو تقيده، فتضطرب أحواله، وتختلف نزعاته، وينعكس ذلك على سلوكه. ويتمثل سلوكه تارة في عقيدته، وتارة في أحواله وتصرفاته، فإذا أصابته ضراء أو نزل به مكروب عرف الله ولجأ إليه بالدعاء، ثم إذا كشف الله ضره، ورفع كربه نسى ما كان يدعو إليه، وعاد لما كان عليه من الزعم بأنه أوتيه على علم. وهذه الآية التي بين أيدينا تحكى كفر الإنسان بالنعمة طغيانًا واستعلاء. والمعنى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} أي: إذا أصاب الإنسان ضر في مال أو أهل أو عافية أو غير ذلك من الكوارث - إذا أصابه شيءٌ من ذلك - دعانا وحدنا ولجأ إلينا ولم يدع لكشف ضره، ودفع شره سوانا، ملحًّا في الدعاء، مستمرًّا في الرَّجاء، ثم إذا تجلَّينا عليه بالإجابة، وأعطيناه سؤله، وملكناه وخوَّلناه منَّا نعمة تعاظم وتعالى، وادعى لنفسه القدرة والجدارة وقال: إنما أوتت ما أوتيته على علم عندي بوجوه الكسب ومهارة في التصرف واستحقاق للنعمة، ناسيًا فضل الله عليه، وتضرعه إليه، ولم تكن مقالته هذه عن حق أو عقل (بل هي فتنةٌ) وابتلاء ومحنة، وكفر بالنعمة، ولكن هؤلاء المذكورين لا يعلمون أن ما يجري عليهم من النعم اختبار من الله يتمحص به الشاكر والكافر، والحامد والجاحد، أوْ لا يعلمون سبل الإخلاص، ووسائل النجاة. وفي قوله تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ} بصيغة الجمع، مع الإفراد قبله - فيه - دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس، وأن أكثره يسلك هذا السبيل.

وصدرت هذه الآية بالفاء دون الواو لترتبها على حال سابقة من مناقضتهم، وتعكيسهم في التسبب حيث يشمئزون إذا ذكر الله وحده، ويستبشرون بذكر آلهتهم مع الله أو فرادى فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره وضاقوا باسمه دون من استبشروا بذكره وهشُّوا له. 50 - {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أي: قد قال هذه المقالة وهي: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} الذين تقدموهم، وسبقوا أيامهم وأزمانهم، فلم تكن مقالتهم بدعًا، ولا كفرهم حدثًا - قال هذه المقالة: قارون موسى الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، فلما طلب منه أن يبتغى الدار الآخرة مع دنياه اعترافًا للمنعم، وشكرًا للنعمة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (¬1). وقالها فرعون تألُّهًا وتجبُّرًا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} (¬2) وتطاول على مقام النبوَّة فقال في شأن موسى - عليه السلام -: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (¬3). وقال النمرود في محاجة إبراهيم - عليه السلام -: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (¬4). وهكذا كانت النعم على طول الزمن سبيلًا للإنسان إلى التجبر والطغيان. وصدق الله العظيم إذ يقول: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬5)، وقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} معناه: فما دفع عنهم ولا أفادهم ما كانوا يجمعونه في الدنيا، ويحرصون على كسبه، ما أغنى عنهم ذلك ولا دفع ما نزل بهم من العذاب، مما ينبىء عنه قوله تعالى: 51 - {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}: والمعنى: فأصاب هؤلاء جزاء سيئات ما كسبوه، فأغرق الله فرعون وجنوده، وخسف بقارون وبداره الأرض، والذين أفرطوا في الظلم من هؤلاء المشركين، وأسرفوا في العباد ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآية: 78. (¬2)، (¬3) سورة الزخرف الآيتان: 51، 52. (¬4) سورة البقرة من الآية: 258. (¬5) سورة العلق الآيتان: 6، 7.

سيصيبهم في الآخرة جزاء سيئاتهم، وعقاب ظلمهم وإشراكهم، فوق ما أصابهم أشد إصابة في الدنيا من القحط والقتل والذل والهوان، فقد قحطوا عدة سنين، ولقوا ما لقوا من القتل والأسر يوم بدر، ومن الذُّل والهوان يوم فتح مكة، حيث دانوا للإسلام، وتحطمت كبرياؤهم. {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين ولا ناجين من العذاب في الآخرة كما وقع بهم في الدنيا. 52 - {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: المعنى: أغفل هؤلاء وأولئك من المشركين والذين سبقوهم ممن أبطرتهم النعم، وأفسدهم الترف والغنى، فراحوا يتطاولون، ويتكاثرون - أغفلوا - ولم يعلموا أن المنعم على جميع خلقه مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم هو الله - تعالى - وأنه يبسط الرِّزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويضيِّق الرِّزق على من يشاء منهم، لحكمة لا يعلمها إلاَّ هو - سبحانه وتعالى -. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في ذلك الذي ذكر لآيات بينات وشواهد واضحات لقوم يستعدون للإيمان بالتفكر في حكمته وبديع صنعته، وكمال قدرته، فيهتدون بهديها، ويسلكون سبيل الخلاص والنجاة، وما أروع معنى، ولا أبدع نسقًا أن ينزل بعد هذه الآيات قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ... الآية}.

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)} المفردات: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: تجاوزوا الحد في المعاصي فجنوا عليها. {لَا تَقْنَطُوا}: لا تيئسوا. {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}: ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة. {وَأَسْلِمُوا لَهُ}: أخلصوا له العمل والعبادة. {أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}: القرآن. {بَغْتَةً}: فجأة. {يَا حَسْرَتَا}: يا ندامتي ويا حزني.

{فَرَّطْتُ}: ضيعت وقصرت. {جَنْبِ اللَّهِ}: حقه. {السَّاخِرِينَ}: المستهزئين بدين الله. {كَرَّةً}: رجعة إلى الدنيا. التفسير 53 - {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: ذكر القرآن في الآيات السابقة ما أعد الله للظالمين والمشركين من العذاب الأليم، وجاءت هذه الآية للمؤمنين المفرطين في المعاصي لبعث الأمل في نفوسهم حتى لا يقنطوا من رحمة الله. والمراد بمغفرة الذنوب: التجاوز عنها وعدم المؤاخذة بها، وهو المراد بسترها، وقيل: المراد بها محوها من الصحائف، كأن لم كن فضلًا منه - تعالى - وكرمًا. واستظهر بعضُ المفسرين إطلاق المغفرة للتائبين وغيرهم، بدليل قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1) فهو ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك، ويشهد للإطلاق أمور: الأول: نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلَّة وهي أنسب بحال المعاصي إذا لم يتب، واقتضاؤها لرحمة ظاهر. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية: 48.

الثاني: الاختصاص الذي تُشعر به الإضافة إلى ضميره - تعالى - فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه. الثالث: إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوى على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها، وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره. الرابع: وضع الاسم الجليل في موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا شىء آخر من توبة وغيرها. الخامس: تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فشمل الذنب الذي تعقبه التوبة والذي لا تعقبه التوبة. السادس: التأكيد بلفظ (جميعًا). السابع: التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب، أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة. الثامن: حذف معمول الغفور فإن حذف المعمول يفيد العموم، إلى غير ذلك مما قالوه. وقال آخرون: إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مُقَيَّدَة بالتوبة، فإطلاقها هنا يحمل على التقييد بها، لأن المطلق يحمل على المقيد ما لم ينسخ، ولا نسخ في عقاب المؤمن المذنب، وأيدوا ذلك بقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} فإنه عطف على {لَا تَقْنَطُوا} كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه - تعالى - وأخلصوا له - عَزَّ وَجَلَّ -. وقال بعض أجلة المحققين: إن قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأول: الكفار لمكان القرب وسبب النزول. فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمَّد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهًا آخر، وقتل النَّفس التي حرم الله، لم يُغْفَرْ له، فكيف نُهَاجر ونسلم؟ وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك؟ فأنزل الله - تعالى - {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... الآية}.

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نزلت الآيات في عياش ابن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا (¬1) فكنا نقول: لا يقبل الله - تعالى - من هؤلاء صرفًا ولا عدلًا أبدًا: أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه!! فنزلت هذه الآيات، وكان عمر - رضي الله عنه - كاتبًا فكتبها بيده، ثم كتب بها إلى عياش، وإلى الوليد، وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآيات الثلاث: {قُلْ يَا عِبَادِيَ} إلى {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} بالمدينة في وحشيٍّ قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه. وقد فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بنزول هذه الآية، أخرج الإِمام أحمد في سنده وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم عن ثوبان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية". وأصل الإسراف: الإفراط في صرف المال، ثم استعمل فيما ذكر مجازًا، وقال الراغب: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وهو ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا. 54 - {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}: حث الله - تبارك وتعالى - عباده على المسارعة إلى التوبة فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلى آخر الآية - أي: وارجعوا أيها المسرفون على أنفسهم إلى ربكم ومالك أمركم بالإعراض عن معاصيه، والندم عليها، وأسلموا له بالإخلاص في طاعته، والامتثال لأمره، والخضوع له بالعبادة، والإقرار بوحدانيته، قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا ينصركم أحد من الله ويدفع عنكم عذابه. ولقد فرق بعض العلماء بين الإنابة والتوبة: بأن التائب قد يرجع من خوف العقوبة، والمنيب يرجع استحياء لكرمه - تعالى - وذكر الإخلاص بعد الإنابة ليعلم العبد أن نجاته بفضل الإخلاص لله في توبته. ¬

_ (¬1) أي: رجعوا عن الإسلام.

55 - {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}: أي: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وهو القرآن، أو العزائم دون الرخص، وقال ابن زيد: يعني المحكمات وكِلُوا المتشابه إلى علمه. ولعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة من قبل أن يجيئكم العذاب فجأة وعلى غير استعداد، وأنتم لا تشعرون، أي: لا تعلمون أصلًا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه عنكم. 56 - {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}: أي: أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم كراهة أن تقول نفس آثمة مذنبة: يا ندامتى ويا حسرتي وأسفى على ما ضيعت وتصرف في جنب الله أي: في حق الله - تعالى - حال أن كنت من المستهزئين بكتابه ودينه ورسله. قال الراغب: أصل الجنب الجارحة، ثم استعير للناحية والجهة - والمراد هنا: الجهة مجازًا، والكلام على تقدير مضاف أي: في جنب طاعة - الله أو في حقه - تعالى - أي: ما يحق له - سبحانه - ويلزم وهو طاعته - عز رجل - والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها؛ لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى. وتنكير (نفس) في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} للتكثير بقرينة المقام، ويجوز أن يكون تنكيرها للتبغيض؛ لأن القائل بعض الأنفس، واستظهره أبو حيان. 57 - {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}: أو تقول تلك النفس المذنبة: لو أن الله هداني بالإرشاد والدلائل المؤصلة، لكنت من الذين وقوا أنفسهم من عذاب الله وعقابه بالإيمان والعمل الصالح، وفسر أبو حيان الهداية بخلق الاهتداء. 58 - {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: أو تقول تلك النفس المذنبة حين تشاهد العذاب وتعاين أهواله وشدائده: ليت لي رجعة إلى الحياة الدنيا فأكون من المحسنين في العقيدة والعمل، المؤمنين العاملين بما نزل، وهكذا

يتمنون في الآخرة الرجوع إلى الدنيا مرة ثانية ليحسنوا، ولقد كانوا فيها فما أحسنوا، بل أساءوا إلى خالقهم بعبادة غيره وعدم طاعته. ولذا جاء قوله - تعالى -: 59 - {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}: جوابًا من الله - عَزَّ وَجَلَّ - لما تضمنه قول القائل: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} من نفي أن يكون الله قد هداه - أي: بلى أيها النادم على ما كان منه في الحياة الدنيا المتمني الرجوع إليها لتكون من المحسنين فيها - بلى - قد جاءتك آياتي وتعاليمى على لسان رسلى، وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها، وكنت من الكافرين بها والجاحدين لها، وآثرت الكفر على الإيمان والضلالة على الهدى. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)} المفردات: {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ}: وصفوه بما لا يليق به. {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}: حقيقة أو لما يعلوها من الكآبة. {مَثْوًى}: مأوى ومقامًا. {بِمَفَازَتِهِمْ}: بفوزهم وظفرهم ببغيتهم. التفسير: 60 - {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}: المراد بالذين كذبوا على الله: كل من افترى على الله ووصفه بما لا يليق به - سبحانه -

نفيًا أو إثباتًا، بأن نزهه - سبحانه - عمَّا يجب أن يضاف إليه، أو نسب إليه ما يجب تنزيهه - سبحانه وتعالى - عنه {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة، ويجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لما يعلو وجوههم من الكآبة، ويلحقها من الهم والحزن، ويظهر عليها من آثار الجهل بالله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذا اليوم العصيب. والظاهر أن الرؤية بصرية؛ لأن ذلك أبلغ في التشهير بهم وبيان قبح حالهم، والخطاب للرسول، أو لكل من تتأتى منه الرؤية {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} أي: أن في جهنم مقرًّا ومقامًا للمتكبرين الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها، والانقياد لها. 61 - {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: أي: وينجي لله الذين جعلوا لهم وقاية من عذاب الله بالتوحيد وفعل الطاعات - ينجيهم - بمفازتهم من العذاب لاختيارهم الهدى على الضلال {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أي: لا ينالهم من أذى جهنم شيءٌ، وهذا وما بعده بيان للمفازة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: ولا يحزنهم الفزع الأكبر، بل هم آمنون من كل فزع، ناجون من كل شر، نائلون كل خير، أو المعنى: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من متاع الدنيا أو ذهاب نعيم كانوا يؤملونه في الآخرة. والمفازة مَفْعَلَةٌ من الفوز مصدر ميمي، أو اسم مكان من فاز به: ظفر، أو من فاز منه: نجا. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح، فكلما كان رعب أو خوف قال له: لا تُرَعْ فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنى به، فإذا كثر ذلك عليه قال: فما أحسنك فمن أنت؟ فيقول: أما تعرفنى؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعنَّ عنك فهي التي قال الله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ذكره القرطبي.

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} المفردات: {مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: مفاتيحها، وهو كناية عن ملكه لهما وتصرفه فيهما. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}: القرآن أو حجج الله وبراهينه. {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} أي: على سبيل الفرض. {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}: ليبطلن وليفسدن. التفسير 62 - {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: الله خالق كل شيءٍ من خير وشر وإيمان وكفر، لكن لا بالجبر، بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما. فالآية رادة على المعتزلة (¬1) ردًّا ظاهرًا {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يتولى التصرف ¬

_ (¬1) فإنهم يقولون: إن العبد يخلق أفعاله الاختيارية بقوة أودعها الله فيه، مستندين إلى نحو قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}. وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ولذا يكون الثواب والعقاب على عمل العبد الذي كسبه باختياره، وخلقه بإرادته مستعملا القوة الربانية التي أودعها الله فيه صالحة للخير والشر، فأحسن استعمالها في الخير وأساء استعمالها في الشر.

فيهما كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة، ولك أن تقول: إنه - تعالى - يتولى حفظ كل شيءٍ خلقه، فيكون ذلك إشارة إلى احتياج الأشياء إليه - تعالى - في بقائها، كما أنها محتاجة إليه - عَزَّ وَجَلَّ - في وجودها؛ فهو ربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره، وقهره وكلاءته. 63 - {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: مفاتيحها كما قال ابن عباس، والحسن، وقتادة وغيرهم و (مَقَالِيدُ) قيل: جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع مقليد أو مقلاد، أي: مفتاح. ومقاليد السموات والأرض مجاز عن كونه مالك أمرهما ومتصرفًا فيهما لعلاقة اللزوم، أو كناية عن القدرة والحفظ، قال البيضاوى: كناية عن قدرته - تعالى - وحفظه لها، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والقهر لمكان اللام والتقديم، ولم يقل: ويهلك الذين كفروا بخسرانهم كما قال سبحانه: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ ... } الآية للإشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله - تعالى - فلذا جعل نجاتهم مسندة إليه - تعالى - حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال، بخلاف هلاك الكفرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال. ولذا لم يسند له - تعالى - على طريقة القرآن من إسناد الخير لله؛ لأنه أصل كل خير، ومنبع كل فضل، وإسناد الشر للناس بما كسبت أيديهم. 64 - {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}: أي: أبعد هذه الآيات الواضحات القاضية بعبادته - تعالى - وحده، تأمروننى أن أعبد غير الله - تعالى - فقد قالوا له - صلى الله عليه وسلم -: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وذلك لفرط جهالتهم، ولذا نودوا بعنوان الجهل.

65 - {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: ولقد أُوحِيَ إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لئن أشركت بالله شيئًا على سبيل الفرض ليحبطن عملك ويبطلن ويفسدن ولتكونن من الخاسرين. وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} على التوحيد مع أن الموحى إليهم جماعة؛ لأنه على تأويل أُوحى إليك وإلى كل واحد من الرسل قبلك {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... } الآية. وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} عبر بهذا الكلام مع علمه - تعالى - بأن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؛ لأنه كلام على سبيل الفرض لبيان شناعة الشرك بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه. ومذهب الشافعي: أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت، وترك التقييد هنا اعتمادًا على التصريح به في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بسبب حبوط العمل. 66 - {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}: رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت فاعلًا فاعبد الله وأخلص له العبادة وحده لا شريك له، وكن من الشاكرين إنعام الله عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر، ومنه أن جعلك سيد ولد آدم، وبما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إمام أُمته، فأمره بعبادة الله وشكره - تعالى - وحده أمر لأُمته تبعا له. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية رقم: 217.

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} المفردات: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حين أشركوا به غيره. {قَبْضَتُهُ} القَبْضَةُ: المرَّةُ من القبض، وتطلق على المقدار المقبوض، كالقُبْضَةِ بضم القاف أي: أنها ملكه وفي مقدوره. {مَطْوِيَّاتٌ}: مجموعات. {بِيَمِينِهِ}: بقدرته. التفسير 67 - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه والقادر على كل شيءٍ، والمالك لكل شيءٍ، وكل شيءٍ تحت قبضته وقدرته. ويقول الزمخشرى في كتابه (الكشاف) في معنى هذه الآية وهو يمثل رأى الخلف: "لما كان العظيم إذا عرفه الإنسان حق معرفته، وقدره في نفسه حق قدره، وعظمه حق تعظيمه، قيل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} على معنى وما عظموه حق تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل والتمثيل فقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} والغرض من هذا الكلام إذا

أخذته كما هو بجملته وموضوعه تصوير عظمته لا غير، وكذلك حكم ما يروي مثل ذلك من الأحاديث .. ثم قال: والخلاصة هي الدلالة على القوة الباهرة: وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكنهها الأوهام هيئة عليه هوانًا لا يوصل السامع إلى - الوقوف عليه إلَّا إجراء العبادة في مثل هذه الطريقة من التخييل والتمثيل، ولا ترى بابًا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله - تعالى - في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} المراد بالأرض: الأرضون السبع يشهد لذلك شاهدان قوله: {جَمِيعًا}، وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ}، ولأن الموضع موضع تفخيم وتعظيم فهو مقتض للمبالغة. {قَبْضَتُهُ} القبضة: المرة من القبض، والقبضة - بالضم - المقدار المقبوض بالكف، ويقال - أيضًا -: أعطنى قَبْضَةً من كذا، يريد معنى (القُبْضَة) تسمية بالمصدر، وكلا المعنيين محتمل، والمعنى: أن الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلاَّ قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضةً بكف واحدة (¬1)، وإذا أريد معنى القُبْضة - بضم القاف - فظاهر؛ لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} من الطى الذي هو ضد النشر، أي: مجموعات. كما قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} وَعَادَة طاوي السجل أن يطوي بيمينه، والمراد من قبضته ملكه بلا ممانع ولا منازع، وبيمينه بقدرته {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: ما أبرأ من هذه قدرته وعظمتُه ومما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء، فسبحان للتعجب. اهـ كشاف بتصرف (ج 3 ص 356،355). وقال الآلوسي في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أصل القدر: اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة، قيل المعنى: وما وصفوه تعالى حق صفاته، بل وصفوه بأنه خلق الخلق عبثًا، وأنه لا يبعث الخلق؛ لأنه لا يقدر على ذلك، وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصُّور الآتي، وضمير الجمع في {وَمَا قَدَرُوا} لكفار قريش كما روى عن ابن عباس، وقيل: الضمير لليهود فقد تكلموا في صفات الله وجلاله فألحدوا وجسَّموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت الآية ردًّا عليهم. ¬

_ (¬1) هذا إذا أريد بلفظ قبضة - بفتح القاف - المعنى المصدري.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} المفردات: {الصُّورِ} لغة: البوق، والمراد به القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وهو من عالم الغيب لا يعلم كنهه إلاَّ الله. {فَصَعِقَ}: مات. {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ}: أضاءت. {بِنُورِ رَبِّهَا}: نوره سبحانه حين يتجلى لفصل القضاء، وقيل: بما يقيمه في الأرض من الحق والعدل. {الْكِتَابُ}: صحائف الأعمال. {بِالْحَقِّ}: بالعدل. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي: أعطيت جزاء ذلك كاملًا. التفسير 68 - {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}: يقول الله - تبارك وتعالى - مخبرا عن شدائد يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات

العظيمة والأهوال الجسيمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} وهي نفخة الصعق، والمشهور أن النافخ فيه ملك واحد، وأنه إسرافيل، بل حكى القرطبي الإجماع على ذلك، وهذه النفخة هي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلاَّ من شاء الله، قال الإمام الآلوسي: لم يرد في تعيين المستثنى - إلاَّ من شاء الله - خبر صحيح. انتهى. ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولًا وهو الباقي آخرًا بالديمومة والبقاء، ويقول: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ (1) ثم يجيب نفسه فيقول: {لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء وحكمت بالفناء على كل شيء، ثم يحيى أول من يحيى إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور نفخة أُخرى، وهي نفخة البعث، قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي: فإذا هم قائمون من قبورهم أحياء بعد أن كانوا عظامًا ورفاتًا ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، وقيل: ينظرون، أي: ينتظرون ما يؤمرون به أو ينظرون ماذا يفعل بهم. قال - جل شأنه -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (¬3). 69 - {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: أضاءت الأرض بنور خالقها ومالكها، والمراد بالأرض: أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة، وذلك يوم القيامة إذا تجلى الحق - جل جلاله - لفصل القضاء، وعن الحسن والسدى: تفسير نور الرب بالعدل وهو من باب الاستعارة، وقد استعير لذلك بالقرآن في مواضع متعددة منه، أي: وأشرقت الأرض بما يقيمه ربها فيها من الحق والعدل ويبسطه - سبحانه - من القسطاس في الحساب، ووزن الحسنات والسيئات، واختار الزمخشرى هذا الرأى وحقق "أَوَّلًا" تلك الاستعارة. بتكررها في القرآن العظيم، وحققها ثانيًا، بإضافة النور إلى اسمه - تعالى - لأنه - سبحانه - ¬

_ (1، 2) سورة غافر من الآية: 16. (¬3) سورة الروم الآية: 25.

الحق العدل، "وعيَّنها ثالثًا" بإضافة اسمه - تعالى - (رَبٌّ) إلى الأرض "ربها" لأن العدل هو الذي تزين به الأرض، "ورابعًا" بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجئ بالنبيبين والشهداء والقضاء بالحق؛ لأنه كله تفصيل الحق، "وأيدها خامسًا" بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، "وسادسًا" بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الظلم ظلمات يوم القيامة" فإنه يقتضي أن يكون العدل نورًا، "وسابعًا" بأنه ختم الآية بنفي الظلم. وقال الآلوسي: ولعل الأوفق ما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} إشارة إلى تجليه - عَزَّ وَجَلَّ - على خلقه يوم القيامة لفصل القضاء، وقد يعبر عنه بالإتيان، وقد صرح به في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬1). ولا يبعد أن يكون هذا النور الوارد في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام يخفض قِسْطَهُ ويرفعه، ويُرْفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور". {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: وضعت صحائف الأعمال بأيدى الملائكة للحساب، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} لِيُسألوا هل بلغوا أممهم، وقيل: ليحضروا حسابهم، {وَالشُّهَدَاءِ} أي: جميع الشهداء من الملائكة. وأمة محمَّد والجوارح والمكان. وأيًّا ما كان فالشهداء جمع شاهد {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: وقضى بين العباد بالعدل {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب أو زيادة عقاب، على ما جرى به وعده - تعالى - لعباده، على أن الظلم لا يتصور في حقه تعالى، فإن الأمر كله له - عَزَّ وَجَلَّ - وهو أحكم الحاكمين قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا (¬2) ... } الآية. 70 - {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}: أي: وأعطيت كل نفس جزاء عملها من خير أو شر كاملًا غير منقوص، وهو - سبحانه - أعلم بفعلهم فلا يفوته شيءٌ من أعمالهم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 210. (¬2) سورة الأنبياء من الآية: 47.

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} المفردات: {زُمَرًا}: جماعات متفرقة متتابعة. {حَقَّتْ}: وجبت وثبتت. {مَثْوًى}: مأوى ومسكن. التفسير 71 - {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}: بدأت الآية الكريمة تفصيل توفية كل نفس ما عملت بيانًا لكيفيتها، ويخبر الله فيها عن حال الكفار وكيف يساقون إلى النار، والسُّوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج، وهو الغالب، ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا، أي: سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجًا متفرقة متتابعة بعضها في أثَر بعض مرتبة حسب ترتيب طبقاتهم في الضلال والكفر والفساد: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ليدخلوها، وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة، فهي كسائر أبواب السجون، لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها،

فتفتح ليدخلوها، فإذا دخلوها أغلقت عليهم {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي: وقال لهم حراسها وزبانيتها الغلاظ الشداد على سبيل التقريع والتوبيخ والتنكيل: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}؟ سفراء عن الله من نوعكم تفهمون ما ينبئونكم به، ويسهل عليكم مراجعتهم والأخذ عنهم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} أي: يقرءون عليكم آيات ربكم المنزلة لمصلحتكم في القرآن وغيره، ويقيمون عليكم الحجج والبراهين الدالة على صحة ما دعوكم إليه وأمروكم به ونهوكم عنه {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ويخوفونكم ويحذرونكم لقاء عذاب يومكم هذا، وهو وقت دخولكم النار؛ لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته. وقد شاع استعمال اليوم والأيام في أوقات الشدة والمحنة، وقيل: المراد يه يوم القيامة لاشتماله على هذا الوقت. واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع؛ لأنهم وبّخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم، ولو كان قبح الكفر معلومًا بالعقل دون الشرع لقيل: ألم تعلموا بما أودع الله فيكم من العقل قبح كفركم، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المسندة إليها عن ذلك. ولمن قال بوجوب الإيمان عقلًا أن يقول: إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ؛ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والأنكار، ولأن معرفة الله تجب أولًا بالعقل، ثم يتلوها الإيمان برسله {قَالُوا بَلَى} أي: قال الكافرون مقرين معترفين: قد أتانا رسل ربنا، وتلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: وجبت وثبتت كلمة الله - تعالى - المقتضية للعذاب على الكافرين. وهذا الكلام منهم اعتراف لا اعتذار، والمراد بكلمة العذاب: كلام الله الذي حكم عليهم بالشقاوة، وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم، أو قوله تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). ووضع الكافرين موضع ضميرهم للايماء إلى عِلِّيَّة استحقاقهم العذاب، والزُّمَر جمع زمرة وهي الجماعة كما تقدم في المفردات. 72 - {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: أي: قيل لهم يوم القيامة: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، أي: ماكثين فيها لا خروج ¬

_ (¬1) سورة ص من الآية: 85.

لكم منها ولا زوال لكم عنها، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة، وترك ذكرهم للعلم بهم ممَّا قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم، ولم يذكر، لأن المقصود ذكر هذا القول الذي يبعث في النفوس الخوف والرعب من غير نظر إلى قائله، وقال بعض الأجلة: أبهم القائل لتهويل المقول {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: قَبُحَ وساء مكان الكافرين جهنم لتكبرهم، وفي التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين لهم - عليهم الصلاة والسلام - وهو في معنى التعليل بالكفر، لأنه سبب كفرهم، ولا ينافى التعليل قبل ذلك بثبوت كلمة العذاب عليهم؛ لأن حكمه وقضاءه عليهم بدخول النار بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له - سبحانه - في الأزل، وكذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ... الآية}. فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافى التعليل بآخر. {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} المفردات: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}: أمان عظيم عليكم. {طِبْتُمْ}: طهرتم من دنس المعاصي وطاب مثواكم. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: كُلُّ الثناء لله وحده. {صَدَقَنَا وَعْدَهُ}: حققه بالبعث والجنة. {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ}: ملَّكنا أرض الجنة.

التفسير 73 - {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}: هذا إخبار من الله عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون بلطف وتكريم إلى الجنة زمرًا، أي: جماعة بعد جماعة متتابعة، المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع من يناسبهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أمثالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف يناسبه. والمراد بالسوق هنا: الحث على السير بالإسراع إلى الإكرام، بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام، كما أنه للمشاكلة أيضًا. وقوله - سبحانه -: {إِلَى الْجَنَّةِ} يدفع إيهام الإهانة، على أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله أحب الله لقاءهم، فلذا حثوا على دخول دار الكرامة. واختار الزمخشرى أن المراد بسوقهم سوق مراكبهم؛ لأنهم لا يذهب بهم إلاَّ راكبين، وتعقب بأن كون جميع المتقين لا يذهب بهم إلاَّ راكبين يحتاج إلى دليل، بل ورد العكس، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويركب أخرى وتَسْفَعُهُ النار مرة (¬1) فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله - تعالى شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة فيقول: أي رب أَدْنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، فأشرب من مائها، فيقول الله تعالى: يا بن آدم لعلى إن أعطيتكها سألتنى غيرها، فيقول: لا يا رب ويعاهده أَلاَّ يسأَله غيرها, وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه). اهـ: آلوسى. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} حتى إذا بلغوها وقد فتحت لهم أبوابها كما قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (¬2). ويدل ذلك على تقديم الفتح، كأَن ¬

_ (¬1) أي: تلفحه وتصيبه إصابة يسيرة إذا مر بها. (¬2) سورة ص الآية: 50.

حراس الجنة فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم، كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} أي: قال لهم حفظتها وحراسها: أمان عظيم عليكم طهرتم في الدنيا من فعل المعاصي وكرمتم في الآخرة بما نلتم من النعيم والكرامة، وقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} عطف على فتحت أبوابها وجواب إذا مقدر أي: حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب وتلقى الملائكة لهم بالسلام - حتى إذا كان هذا - سعدوا وفرحوا بقدر ما يلقون من نعيم وإكرام، وإذا حذف الجواب في مقام التكريم والإنعام ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل. واستدل المعتزلة بقوله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي، على أن أحدًا لا يدخل الجنة إلاَّ وهو طيب طاهر من المعاصي، إما لأَنه لم يفعل شيئًا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا، أما من لم يتب عن معاصيه فلاحظ له في دخولها. ورد بأنه وإن دل على أن أحدًا لا يدخلها إلاَّ وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة، وقد يكون بالعفو عن أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة. 74 - {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} عطف على: {قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} أو على الجواب المقدر أي: دخلوها، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}. والمعنى: يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر، والعطاء العظيم، والنعيم المقيم، والملك الكبير، يفولون عند ذلك: الثناء لله وحده الذي حقق لنا ما سبق إن وعدنا به على ألسنة رسله الكرام، {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أرض الجنة التي أقاموا فيها واتخذوها مقرًّا ومتبوأ، وإيراثُها تمليكها وتمكينهم من التمتع فيها تمكين الوارث فيما يرثه، وقيل: ورثوها من أهل النار، فإن كل منهم مكانًا في الجنة كتب له بشرط الإيمان، {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء}

أي: ينزل ويسكن كلٌّ منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} من كلام الداخلين عند الأكثر، والمخصوص بالمدح مقدر، أي: فنعم أجر العاملين هذا الأَجر أو الجنة، ولم يقولوا: فنعم أجرنا، بل قالوا: فنعم أجر العاملين للتعريض بأَهل النار أنهم غير عاملين، وقال مقاتل: هو من كلام الله، أي: قال الله: فنعم أجر العاملين هذا الأجر العظيم الذي نلتموه. {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} المفردات: {حَافِّينَ}: محيطين محدقين. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}: فصل بين الخلائق بالعدل. التفسير 75 - {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: لما ذكر الله حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه أنزل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد محيطون به من كل جانب، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه , ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل في قضايا الخلق وقضى الأمر وحكم بالعدل، ولهذا قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: حكم بين الخلائق بالعمل، ثم قال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: نطق الكون جميعه: الحمد لله رب العالمين الذي عدل في

حكمه، قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬1) واختتم بالحمد في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. قيل: إنهم يحمدونه إظهارًا للرضا والتسليم، وقال ابن عطية: هذا الحمد خَتْمٌ للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء، أي: إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد الله عند تمام حكمه وكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خاتمة المجلس في العلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 1.

سورة غافر

سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون تسمى هذه السورة أيضًا سورة المؤمن؛ لأن الله - تعالى - ذكر فيها قصة رجل مؤمن من آل فرعون، وتسمى سورة الطَّوْل لقوله تعالى: {ذِي الطَّوْلِ}. وهي أُولي الحواميم السبع التي قال فيها ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إن لكل شىءٍ لبابًا ولباب القرآن آل حم أو قال: الحواميم". وكان يقال لهن: (العرائس) كما قال مِسْعَر بن كِدَام، رواه القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن. وروى عن عبيد الله قال: "إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا , فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير ويتعجب منه، إذ هبط على روضات دَمِثَاتٍ (¬1) فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب وأعجب، إن مثل الغيث الأول مثل عُظْم (¬2) القرآن. وإن مثل هؤلاءِ الروضات الدَّمثات , مثل آل حم في القرآن" أورده البغوي (¬3). مقاصد السورة بدأت هذة السورة بوصف القرآن العظيم بأنه منزل من عند الله العزيز العليم، وأنه لا يجادل في آيات الله إلاَّ الذين كفروا. ثم بينت أن تكذيب نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليس أمرًا خاصا به، بل هو أمر عام لكل الأنبياء والمرسلين، وأن الله عاقب كل أولئك المكذبين. ثم بينت أن الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للمؤمنين، وأنه - تعالى - يُرى عباده آياته، ويرزقهم من السماء، وأنه رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذرهم يوم التلاقى والحساب. ¬

_ (¬1) جمع دمثة بفتح فكسر، وهي الأرض السهلة الرخوة. (¬2) بوزن قفل، أي: أكثره. (¬3) انظر ابن كثير.

وبينت أنه - تعالى - أمر رسوله أن ينذر قومه: {يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وأنه - تعالى - يقضى بين عباده بالحق. ثم بينت أن الله - تعالى - أهلك من قبل قريش من القرون المكذبة من هم أشد منهم قوة وآثارًا في الأرض، وأن عليهم أن يمروا بأرضهم ليتعظوا بما أصابهم، ثم حكى قصة فرعون مع موسى - عليه السلام - وتكذيبه له , وقصة مؤمن آل فرعون ووعظه لقومه، وطلب فرعون من هامان أن يبنى له صرحًا، لعله يبلغ أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} حيث وقى الله - تعالى - موسى سيئات ما مكر فرعون وقومه، وحاق بآل فرعون سوءُ العذاب. ثم ذكرت أن الله - تعالى - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ووعده النصر فقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. وبينت أنه لا يستوى الكافر والمؤمن، كما لا يستوى الأعمى والبصير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله تعالى قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وذكرت بعض آيات الله في كونه، حيث جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا، وجعل الأرض قرارًا. والسماء بناءً، وصوَّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، وأنه خلق عباده من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم أطفالًا ثم ليبلغوا أشدهم؛ ثم ليكونوا شيوخًا، ومنهم من يتوفى - من قبل. ثم توعدت المكذبين والمجادلين في آيات الله بالأغلال في أعناقهم , والسلاسل يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون. ثم ذكرت أن الله أرسل رسلًا من قبل نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - منهم من قصه الله عليه ومنهم من لم يقصصه عليه، وما كان لرسول أن يأتى بآية إلاَّ بإذن الله. ثم بينت في ختامها أن الله عاقب مكذبي الرسل من قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنهم لما رأوا بأس الله آمنوا بالله وحده، وكفروا بما كانوا به مشركين: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُون}.

بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} المفردات: {قَابِلِ التَّوْبِ}: قابل التوبة والرجوع عن المعاصي إلى الطاعة. {ذِي الطَّوْلِ}: صاحب الغنى والسعة - كما قال مجاهد -. التفسير 1، 2 - {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}: تقدم الكلام على مثل {حم} من الحروف المقطعة التي بدئ بها بعض السور كالبقرة، وآل عمران، فارجع إليه إن شئت. ووجه مناسبة أولها لآخر الزُّمر، أنه - تعالى - لمَّا ذكر هناك ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين، ذكر جل جلاله هنا أنه غافر الذنب وقابل التوب، ليكون ذلك استدعاءً للكافرين إلى الإيمان وترك ما هم فيه. وبَيْنَ السورتين أوجهٌ عديدة من المناسبة، وحسبك في ذلك أنه ذُكِرَ في كلتيهما أهوال يوم القيامة، وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار، وقد فُصِّل في هذه ما لم يفصل في تلك. وفي تناسق الدرر: وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر, تآخى المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب - انظر الآلوسي.

3 - {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}: هذه كلها صفات للفظ للجلالة في الآية التي قبلها. ومعني الآيتين: تنزيل القرآن كائن من الله الغالب فلا يقهر، العليم بكل شيء فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، غافر الذنب الذي سلف، وقابل التوبة في الحاضر والمستقبل، من كل من تاب عنه معاصيه من عباده، شديد العقاب لمن طغى وآثر الحياة الدنيا على مرضاة ربه، صاحب الخير الكثير, فلا يليق بعاقل أن ينصرف عن مرضاته، لا إله إلا هو إليه المرجع والمآب، فيحاسب كل امرئ على ما قدمت يداه. وهذه الآية تفتح باب المتاب للتائبين مهما كانت ذنوبهم، وفي سعة رحمة الله يقول - سبحانه -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1) فليبادر كل عبد بالتوبة من ذنبه قبل أن يلتحق بربه بمعاصيه وآثامه؛ ليفوز بغفرانه ويتقى سوء عذابه. وينبغى أن ينصح المؤمن التقى غيره حتى ينصلح حاله، أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذا بأس، وكان يَفِد إلى عمر بن الخطاب، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن نلان، فقالوا، يا أمير المؤمنين يتابع في الشراب - قال: فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاَّ هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه، وأن يتوب الله عليه. فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرؤه ويردده ويقول: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} قد حذرنى الله عقوبته، ووعدنى أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد: "فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النَّزْع (¬2)، فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زلّ زلّة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه". ¬

_ (¬1) سورة الزمر الآية: 53. (¬2) أي: ثم تاب فأحسن التوبة.

{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)} المفردات: {مَا يُجَادِلُ}: ما يخاصم. {فَلَا يَغْرُرْكَ}: فلا يخدعك. {تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}: تنقلهم فيها للتجارة. {وَالْأَحْزَابُ}: الذين تحزبوا على الرسل في كل أمة. {لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي: ليبطلوه ويزيلوه به. التفسير 4 - {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}: الجدال: الخصام والنقاش، وهو نوعان: جدال بالباطل، وجدال بالحق، وقد سجل الله في هذه الآية الكفر على الذين يجادلون في آيات الله بالباطل، بالطعن فيها، يريدون إدحاضها، وإبطالها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}. أما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحلِّ مشكلها، واستنباط معانيها وأحكامها، ورد أهل الزيغ عنها فهو جهاد عظيم في سبيل الله.

وعندما نجادل أهل الكتاب في عقائدهم ونصوص كتبهم، نجادلهم بدون اعتداءٍ، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). وقد كانت قريش تجادل في القرآن غرورًا بما هم فيه من السعة والتجارة، من مكة إلى الشام وإلى اليمن وبالعكس، فأوصى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغره ولا يخدعه تقلبهم في تجارتهم في البلاد، وسلامتهم من العقاب مع كفرهم، فإنه متاع في الدنيا قليل، عاقبته الهلاك في الدنيا، ثم العذاب يوم القيامة عقوبة لهم إن بقوا على كفرهم، "إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته". والمعنى الإجمالي للآية: ما يجادل في آياتنا الواضحة البيان، المؤيدة بالبرهان، إلاَّ الذين كفروا بالحق مع وضوحه، فلا يغررك أيها الرسول ولا يخدعك تقلبهم في التجارة من بلد إلى بلد، وما هم فيه من الغنى والسعة، فإن ذلك متاع قليل بعده الهلاك وسوء العقاب، كما قال تعالى في سورة آل عمران: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬2). وكما قال في سورة لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} (¬3). ثم سلى الله نبيه بما حدث للرسل قبله من أقوامهم فقال: 5 - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}: القوم قد يؤنث بتأويل الجماعة، وهو هنا كذلك، ولذا أُنث له الفعل في كذبت والأخذ يستعمل بمعنى الحبس والمنع تارة، وبمعنى الإهلاك تارة أُخرى. والمعنى: كذبت قبل قريش قوم نوح والأحزاب من بعدهم - كذب هؤلاء جميعًا - رسلهم الذين دَعَوْهم إلى نبذ الأوثان، وعبادة الواحد الديان، وحاولت كل منهم حبس رسولهم ليقتلوه، وهموا بذلك، ومنهم من قتلوه، وخاصموا بالباطل من القول ليقضوا ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت من الآية: 46. (¬2) الآيتان: 196 - 197. (¬3) الآية: 24.

به على الحق، فأهلكتهم واستأصلتهم، فكيف كان عقابى لهولاء؟ كان عقابًا مستأصلا رادعًا لسواهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يَغْرُرْكَ تقلب قومك في البلاد وما هم فيه من الحرية والسعة، فهم أهون على الله من أولئك. 6 - {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}: أي: ومثل قضائه على الذين تحزبوا على رسلهم من قبلك يا محمد - مثل قضائه ذلك - حقت كلمة ربك وقضاؤه بالإهلاك للمشركين من قومك - إن بقوا على كفرهم وشركهم، لأنهم أصحاب النار مثل سابقيهم، فالعلة واحدة، وهي أنهم أصحاب النار وأهلها مثلهم، لكونهم كفارًا معاندين، مهتمين بقتل نبيهم اهتمام أولئك بقتل أنبيائهم. {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} المفردات: {الْعَرْشَ} العرش في اللغة: بمعنى سرير الملك، وسيأتي الكلام عليه في التفسير. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: بساتين إقامة، من عَدَن بالمكان أقام به.

التفسير 7 - {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... الآية}: يقول القرطبي: وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتًا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. ويقول الآلوسي: هو جسم عظيم له قوائم الكرسى، وما تحته بالنسبة له كحلقة ملقاة في فلاة: اهـ. وقد جاء في وصفه ووصف أجسمام حملة العرش آثار متعارضة، لا نرى داعيا لذكرها في تفسيرنا هذا. والذي ينبغي أن نؤمن به هو أن لله عرشا عظيما هو مصدر أوامره لملائكته، ليقوموا بما يكلفون به في كون الله - تعالى -. وإذا كان العرش هو الكرسي فإنه أكبر من السموات والأرض، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. ولابد أن يكون تكوينه أعجب وأعظم من السموات والأرض، وأن تكون فيه الهيمنة عليها والارتباط بها، وهو حادث أوجده الله بعد أن لم يكن، فقد جاء في الحديث الصحيح: "كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء". ويجب الإيمان بأن العرش ليس موضعا لجلوس الله - تعالى - فإنه - تعالى - ليس كالأجسام حتى يحتاج إلى مكان {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). ولم أر حديثا صحيحا في كون العرش له قوائم، فإذا كان العرش يسع السموات، والأرض فما حاجته إلى القوائم، وعلى أي شيء يرتكز والسموات دونه كحلقة ملقاة في فلاة، إنه حينئذ يكون شأنه كشأن السموات في أنها بغير عمد ترونها، فهو مرفوع مثلها ¬

_ (¬1) سورة الشورى من الآية: 11.

في الفضاء الكوني بقدرة الله التي ربطت بين الكون برابطة الجاذبية، وبما هو فوق مستوى العقول، فسبحان العزيز الحكيم القدير العليم. ومن العلماء من قال: إنه غير الكرسي وإنه أعظم منه، استنادا إلى حديث أخرجه ابن مردويه بسنده عن أبي ذر قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسى بيده ما السموات السبع عند الكرسى إلاَّ كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسى، كفضل الفلاة على تلك الحلقة". وظاهر الآية أن الملائكة يحملون العرش حقيقة، ونحن نقول: ما المانع من أن يكون المراد من حملهم إياه كونهم الرؤساء الذين يحملون مسئولية تبليغ أوامر الله لسائر ملائكته في كونه. والله تعالى أعلم. والملائكة الذين حول العرش كثيرون لا يحصى عددهم سوى الله - تعالى - وقيل: هم سبعون ألف صف يطوفون مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صفٍّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتكبير والتهليل، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم واحد إلاَّ وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر، وقيل غير ذلك. ولكننا نقول: إن محاولة ضبط أعدادهم من الرجم بالغيب، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (¬1). والمعنى الإجمالي للآية: الملائكة الذين يحملون عرش الرحمن ويبلغون أوامر ربهم منه، والملائكة المنبثون حول العرش، ينزهون الله - تعالى - عن كل ما لا يليق به، قائمين بحمد ربهم على نعمه التي لا غاية لها، ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا قائلين في استغفارهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} فرحمتك تتسع لذنوبهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم، فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عن معاصيهم وآثامهم، واتبعوا ما أمرتهم به من الطاعات، واحفظهم من عذاب الجحيم. ¬

_ (¬1) سورة المدثر من الآية: 31.

8، 9 - {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: ومن دعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة قولهم: ربنا وأدخل الذين رجعوا عن ذنوبهم واتبعوا سبيلك، جنات عَدْن يقيمون بها هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وتجاوز عن تقصير بعضهم حتى يلحقوا في الدرجة من هم أعلى منهم من آل بيتهم، لتقر أعينهم وتستريح نفوسهم، إنك أنت العزيز الذي تنفذ مشيئته ولا ترد كلمته، الحكيم في أقواله وأفعاله، وحكمه وقضائه، وجَنِّبهم جزاء السيئات ووبالها، وما تجنبه جزاءها يوم القيامة فقد رحمته، حيث لطفت به فنجيته من عقوبتها وذلك هو الفوز العظيم الذي لا غاية وراءه. قال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)} شروع في بيان أحوال الكفرة أهل النار، إثر بيان أحوال المؤمنين أهل الجنة، فالأمور تتميز بضدها فضل يتميز. وقد دلت الآية على أن الكافرين يمقتون أنفسهم ويبغضونها، وذلك حينما يعلمون أنهم أصحاب النار.

وقيل: إنهم يمقتونها حين يقول لهم الشيطان: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1)، وقيل: حين دخولهم النار. ونحن نقول: إنه لا مانع من أن يمقتوا أنفسهم في ذلك كله. والذين ينادونهم هم خزنة النار، وقيل: هم المؤمنون ليضاعفوا حسرتهم. ومعنى الآية: إن الذين كفروا بالله ورسله، ينادون حين يمقتون أنفسهم لتسببها في عذابهم - ينادون - حينئذ من الملائكة أو من المؤمنين: لَبُغْضُ الله لكم أشد من بغضكم لأنفسكم، حين تدعون من أنبيائكم إلى الإيمان فتكفرون، مع وضوح الحجة وسطوع البرهان، فحق عقابكم لبغض الله لكم بسبب كفركم. {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)} أفادت هذه الآية أن الكفار يسترحمون ويطلبون من الله الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا من الصالحات ما فاتهم، ويتوسلون إلى ذلك، بأنه قادر على تحقيق ما يطلبون فقد أماتهم مرتين، وأحياهم مرتين، فهم يرجون الإحياء مرة ثالثة. والمقصود من إماتة المرة الأولى: أنه جعلهم ترابًا لا حياة فيه قبل خلق آدم منه، قال ابن مسعود: هذه الآية كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). وبهذا قال ابن عباس والضحاك وغيرهما. وقال السدى: أميتوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة وقيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم من الآية: 22. (¬2) سورة البقرة الآية: 28.

ويرجح ابن كثير الرأى الأول ثم يقول: بل هو الصواب الذي لا شك فيه. واستعمال الإماتة في ذلك على سبيل التجوز، والمراد: جعل الشيء لا حياة فيه، وليس على معنى صرف الحياة عنه بعد أن كانت موجودة فيه، كما تقول: ضَيَّقَ فَمَ القربة، أي جعله ضيقا, وليس على معنى أنه كان واسعًا فضيقه. ويلخص ابن كثير مواقف الكفار في يوم القيامة فيقول: والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله في عَرَصات القيامة كما قال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (¬1). فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها , ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬2) فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (¬3)، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (¬4) وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة، وهي قولهم: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي: قدرتك عظيمة, فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وأننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا للدار الدنيا، فإنك قادر على ذلك، لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا: أن لا سبيل إلى رجوعكم إلى الدنيا، وهذا الجواب ملحوظ غير ملفوظ، وقد دلت عليه الإشارة في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة السجدة الآية: 12. (¬2) سورة الأنعام الآيتان: 27 , 28. (¬3) سورة فاطر الآية: 37. (¬4) سورة المؤمنون الآيتان: 107 - 108.

{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} فهذه الآية تعليل للمنع من إجابتهم، المطوى بين الآيتين، أي: ذلكم المنع بسبب أن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه، بل تجحده وتنفيه، فأنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. انتهى بتصرف. {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}: فهو الحكم العدل في خلقه، ولا حُكم يوم القيامة لسواه، وقد حكم للمؤمنين بالجنة هم فيها خالدون، وحكم على الكافرين بالنار هم فيها لا يخرجون. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)} الخطاب هنا لجميع البشر، فآيات الله مرئية لعباده جميعا، وحجته قائمة عليهم. والمعنى: الله هو الذي يريكم آياته الدالة عليه في السموات والأرض، من الذرة إلى المجرة، وهو الذي يطعمكم ويسقيكم، حيث ينزل لكم من السماء أمطارا هي السبب الأول في أرزاقكم، فمنها تشربون، وبها تروون زروعكم وبساتينكم، فيخرج لكم بفضله أنواعا مختلفة من الطعام والفاكهة العجيبة الشأن، الكثيرة الألوان - صيفا وشتاءً: - وكلها تستقى بماء واحد، ويفضل الله بعضها على بعض في المذاق والغذاء والدواء، وما يتذكر ويتعظ إلا من يرجع إلى الله عن طاعة نفسه الأمارة بالسوء، والشيطان الذي يفسد على الناس عقولهم، وأفكارهم، ويرجع عن تقليد الآباء في عقائدهم، فهذا هو المنيب إلى الله، الراجع إليه من الصوارف عن الهدى.

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} الخطاب هنا للمؤمنين، والمراد من دعاء الله: عبادته. والمعنى: فاعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فهو الذي يستحق العبادة وحده، ولو كره الكافرون. أخرج الإِمام أحمد بسنده إلى أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن مِدْرسى المكى قال: "كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شى قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". قال: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهلل بهن دُبُرَ كل صلاة" أي: يرفع صوته بهن عقب كل صلاة. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُوالْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} المفردات: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}: عَلِيّ القدر جليل الشأن في ذاته وفي صفاته.

{ذُو الْعَرْشِ}: صاحبه وخالقه لا عن حاجة إليه. {يُلْقِي الرُّوحَ}: ينزل الوحى. {يَوْمَ التَّلَاقِ}: يوم يلتقى الخلق بالخالق، والمخلوقون بعضهم ببعض في زحام القيامة. {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ}: ظاهرون لا يخفى على الله منهم شيء. التفسير 15 - {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُوالْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ}: أمر الله في الآية السابقة أن يدعو المؤمنون ربهم مخلصين له الدين، وجاءت هذه الآية لتبين رفعة قدر الله تعالى في ذاته وفي صفاته وفي سماواته وفي عرشه, وأنه تعالى هو صاحب الشأن في الوحى، يلقيه على من يشاء من عباده الخيرة. وإطلاق اسم الروح على الوحى, لأنه للأرواح بمنزلة الروح للأبدان، فكما تحيى الأبدان بالروح، تحيى الأرواح بالوحى، فهي بدونه في حكم الميتة. ومن العلماء من فسر الروح بالقرآن، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (¬1) ومنهم من فسره بجبريل، لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} (¬2) وكلها معان متقاربة، بل متلازمة. ويوم التلاقى هو يوم القيامة، حيث يلتقى المخلوق بخالقه للحساب والجزاء، ويلتقى جميع البشر بعضهم ببعض في موقف الحساب والقضاء، وهو يوم عصيب على العصاة والكافرين، فلهذا كان من أهم أغراض الوحى لجميع الأنبياء إنذار أممهم أهوال هذا اليوم ليجتنبوها بالإيمان والطاعة. والمعنى الإجمالي للآية: هو الله رفيع القدر في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي سماواته، وجميع كائناته، صاحب العرش المحيط بهذا الكون، ينزل الوحى من أمره على ¬

_ (¬1) سورة الشورى من الآية: 52. (¬2) سورة الشعراء الآية: 193 ومن الآية: 194.

من يختاره من عباده الأكرمين , ليخوف الناس من يوم قيام الناس لرب العالمين، وتلاقيهم معه للحساب والجزاء، حتى يجتنبوا الموبقات، ويفعلوا المنجيات من الطاعات. 16 - {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}: هذه الآية لزيادة توضيح المخاوف في يوم "التَّلاق" ولفظ "يوم" هنا بدل من {يَوْمَ التَّلَاقِ} في الآية السابقة، وقد بينت هذه الآية أن الخلائق يومئذ ظاهرون لله، فلا يخفى على الله منهم شيء مما عملوه في الدنيا، فقد أحاط بكل شيء علمًا، كما أنهم ظاهرون بعضهم لبعض، حيث زالت الجبال والتلال، واستوت الأرض فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتا, ولا يوجد ملجأ يختفى فيه أحد عن الله أو عن غريمه. وقد كان في الدنيا ملوك ملكهم الله على عباده، وجعل لهم الحكم في رعاياهم، وقد زال سلطانهم في الآخرة، وأصبحوا مسئولين كسائر رعاياهم، بل أشد منهم، فإن الملك يومئذ لله الواحد القهار. وفي هذا اليوم العصيب يسأل من قتل الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجاب من جهة الخلائق: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. قال القرطبي نقلًا عن النحاس: وأصح ما قيل فيه، ما رواه أبو وائل عن ابن مسعود قال: يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله - عَزَّ وَجَلَّ - عليها، فيؤمر منادٍ ينادى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فيقول المؤمنون هذا الجواب سرورًا وتلذذًا، ويقوله الكافرون غمًّا وانقيادا، وخضوعًا"، ثم قال: والقول صحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل. والمعنى الإجمالي للآية مَعَ ما قبلها مما يرتبط بها: يلقى الله الوحى من أمره على من يختاره من عباده لتبليغ رسالته، لينذر يوم التلاقى، يوم جميع الناس ظاهرون لعلم الله، لا يغيب عنه شيء من أفعالهم وذواتهم وصفاتهم، ظاهرون بعضهم لبعض، أولهم وآخرهم لا يحجب بعضهم عن بعض حجاب، فقد سويت الأرض، وأزيل منها الجبال والهضاب، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وحينئذ يسأل الملائكة في هذا اليوم العصيب والمحشر الرهيب: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيجيب الخلائق مؤمنهم وكافرهم: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار}.

17 - {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}: بعد ما يقر الخلائق بأن الملك يوم القيامة لله الواحد القهار، يجابون من قبل الله على ألسنة الملائكة: اليوم تجزى كل نفس بما كسبته في دنياها، الحسنة بعشر أمثالها إلى ما شاء الله, والسيئة بمثلها, لا ظلم اليوم في محكمة العدل الإلهى، ولا بطء في صدور الأحكام، إن الله سريع الحساب، لا يشغله حساب أحد عن حساب آخر، ولا حساب أمة عن حساب أخرى، فإنه - تعالى - ليس محتاجا إلى تذكر أعمال العباد أو الاطلاع عليها في كتب أعمالهم , فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وكما يرزقهم في ساعة واحدة يحاسبهم في ساعة واحدة، فكل واحد منهم يتلقى كتاب عمله، ويرى فيه حسناته وسيئاته والحكم الذي صدر له أو عليه , قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (¬1) كما أنه تعالى ليس محتاجا إلى شهود {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). نسأل الله الأمان في ذلك اليوم الرهيب. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)} المفردات: {يَوْمَ الْآزِفَةِ}: يوم القيامة، سمى بالآزفة لقربه، من أزف الشيء يأزَفُ أزَفًا إذا قرب، فهو من باب تعب. {كَاظِمِينَ}: كاتمين مع الضيق. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء الآيتان: 13، 14. (¬2) سورة النور الآية: 24.

{حَمِيمٍ}: قريب يهتم لأمرهم. {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: هي النظرة الخفية إلى ما يعاب في العلانية. التفسير 18 - {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}): يأمر الله نبيه في هذه الآية بأن ينذر قومه المشركين ويخوفهم من يوم القيامة المسمى: بالآزفة لقربه، فإن ما بقى من عمر الدنيا بالنسبة إلى ما مضى منه قليل جدًا، وقد ظهرت أشراطها وعلاماتها فضلا عن أن كل آت قريب. ونظير هذه الآية: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} (¬1) أي: قربت الساعة، وقد وصف الله يوم الآزفة بأن القلوب تصل فيه إلى الحناجر , وهذا على سبيل المجاز، مثل قوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (¬2). وتراهم في هذه الشدة كاظمين كاتمين لغمهم وكربهم، لا يتكلمون إلاَّ بإذن الله، وليس لهم شفيع يطاع، فقد منع الله الشفاعة للكفار , قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (¬3) فلا شفيع لهم في هذا اليوم حتى يطاع. والمعنى الإجمالي للآية: وخوِّف المشركين - أيها الرسول - من يوم الساعة القريبة. حيث يشتد فيه الأمر حتى كأن القلوب تبلغ الحناجر كاظمين كاتمين لهمومهم وأحزانهم وكروبهم، ليس للظالمين في ذلك اليوم صديق يشفق عليهم، ولا شفيع مأذون له حتى يطاع وتقبل شفاعته. ¬

_ (¬1) سورة النجم الآية: 57. (¬2) سورة الأحزاب من الآية: 10. (¬3) سورة الأنبياء من الآية: 28.

19 - {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}: أي: يعلم الأعين الخائنة، قال ابن عباس: هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسَّس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، وقد علم الله - عز وجل - منه أنه يود لو نظر إلى عورتها. وقال مجاهد: "هي مسارقة الأعين إلى ما نهى الله عنه" وهذا أشمل، وكما يعلم الله خائنة الأعين، يعلم ما تخفيه صدور الناظرين: هل يزنون لو خلوا بها أو لا. 20 - {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: والله يجازى من نظر إلى المحارم ومن لم ينطر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش ومن عزف قلبه عنها. والأوثان التي يعبدونها من دون الله لا تقضى بشى؛ لأنها لا تعلم شيئا ولا تملك، إن الله هو السميع لأقوال خلقه البصير بأعمالهم، فيجازيهم حسب أعمالهم. {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)} المفردات: {عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: آخر أمرهم، وعاقبة كل شيء آخره.

{وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} أي: ما يبقى بعدهم كالقلاع والحصون. والمفرد: أثر مثل: سبب وأسباب. {مِنْ وَاقٍ}: من مانع يمنع عنهم عذاب الله. {بِالْبَيِّنَاتِ} أي: المعجزات الواضحات. التفسير 21 - {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}: المعنى: أقعد الكفرة المكذبون برسالتك ولم يسيروا في الأرض فينظروا ما آل إليه حال من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم كعاد وثمود وأمثالهم. كانوا هم أشد منهم قوة وتمكنا في التصرفات، وأقوى آثارًا في الأرض مثل: القلاع الحصينة، والمدائن القوية، وقد حكى الله عن قوم منهم: أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا مما لا يقدر عليه هؤلاء كما قال تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (¬1) ومع هذه القوة العظيمة، والبأس الشديد لم يتركوا يمرحون، بل حقت عليهم كلمة الله، فأخذهم أخذا وبيلًا. تركهم أثرًا بعد عين، وما كان لهم واق من الله يمنع عنهم العذاب الذي حل بهم، ويقيهم منه، وأريد بذلك التنبيه على عجز شركائهم عن إنقاذهم من الهلاك. 22 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}: أي: سبب ذلك الأخذ البالغ الغاية في الشدة أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات البينة، والأحكام الواضحة التي تنير لهم طريق الحق. فقابلوهم ريثما أتوهم بالإعراض والكفر. فأهلكهم الله، ودمَّر عليهم بسبب ما صنعوا؛ لأنه - سبحانه - متمكن مما يريده غاية التمكن قادر عليه. {شَدِيدُ الْعِقَابِ}: لمن كذب برسله وآياته. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، جزء من الآية 26.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} المفردات: {بِآيَاتِنَا}: جمع آية وهي للعجزة. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} المراد بالسلطان هنا: الحجة الواضحة والبرهان البيِّن. {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: وما مكرهم إلاَّ في خسران. {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي: أن يغير عبادتكم لي بعبادتكم لغيرى. {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: جعلته معاذًا لي ولكم، بمعنى: اعتصمت به، يقال: استعذت بالله وعذت به معاذا وعياذًا: اعتصمت. التفسير 23 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: في ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى. تسلية لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب من كذبه من قومه. وبشارة له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى

لموسى بن عمران. فإن الله أرسله بالمعجزات البينة والدلائل الواضحة، والحجج القاهرة فكذبوه فأغرقهم الله. والمراد بالسلطان المبين: ما أريد بالآيات، ونُزِّل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين. وحكى الطبرسى أن المراد بالآيات: حجج التوحيد. وبالسلطان المبين: المعجزات الدالة على نبوته - عليه السلام - التي أرسل بها. 24 - {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}: فرعون ملك القبط بالديار المصرية وهامان وزيره في مملكته، وقارون قيل: هو الذي كان من قوم موسى. وقيل: غيره، وكان مقدم جيوش فرعون. وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع. {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}: يعنون أن موسى - عليه السلام - ساحر فيما أظهره من المعجزات التي حملوها على السحر. كذاب في دعواه أن الله أرسله، قالوا ذلك لما عجزوا عن معارضته. 25 - {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}: لم يكترث موسى - عليه السلام - بقولهم عنه: ساحر كذاب، ومضى في تبليغ رسالة ربه بالبرهان القاطع الدال على أن الله - تعالى - أرسله إليهم، وحينما عجزوا عن معارضته دفعهم العجز عن المعارضة والغيظ الذي تمتليء به قلوبهم إلى الانتقام ممن آمن به، حيث قالوا: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} أي: اصنعوا بهم ما كنتم تفعلونه من قتل أبنائهم وترك نسائهم أحياء كي تصدوهم عن مظاهرة موسى - عليه السلام - وتأييده، فالأمر بالقتل والاستحياء حدث من فرعون مرتين، المرة الأولى كانت قبل ميلاد موسى - عليه السلام - لأجل الاحتراز من وجود من يقتل فرعون بعد أن أخبره الكهنة والمنجمون بأن أحد بني إسرائيل سوف يسلبه ملكه، أو كان غرضه إذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الأمرين، والمرة الثانية كانت بعد إرسال موسى - عليه السلام - إليه وإيمان من آمن معه كما يقول

قتادة؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى - عليه السلام - فلما بعث الله موسى أعاد القتل علي بني إسرائيل غيظًا وحنقا، وزعمًا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته ظنًّا منه أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكه على يده، وقد شغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر، فأغرق الله فرعون وجنوده وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: إلا في خسران وهلاك لا يغنى عنهم شيئًا، وهذه الجملة جىء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بطلان ما أظهروه من الوعيد، واضمحلاله بالمرة، والإظهار في موضع الإضمار حيث لم يقل وما كيدهم لذمهم بالكفر، والإشعار بعلة الحكم. 26 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}: وقال فرعون لقومه: اتركونى أقتل موسى، وكان فرعون إذا هَمَّ بقتل موسى - عليه السلام - كَفُّوه بقولهم: ليس هذا مما تخافه فهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله. وإنك لو قتلته أدخلت على الناس الشبهة، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، وعدلت إلى المقارعة بالسيف، ولكنه كان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء. فكيف لا يقتل من أحسّ أنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه. ولكنه مع ذلك كان يخشى إذا همَّ بقتله أن يعاجل بالهلاك، فقوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ... الآية} كان تمويهًا على قومه، وإيهاما بأنهم هم الذين يكفونه - وماكان يكفه في واقع الأمر إلاَّ ما تمتلىء به نفسه من هول وفزع وقوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} تجلد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه أي: لا يهولنكم ما يذكر عن ربه فإنه لا حقيقة له، وأنا ربكم الأعلى .. قال ذلك استهانة بموسى حسب ظاهره .. كما يقال: ادع ناصرك فإنى منتقم منك. أما بحسب باطنه فكانت ترتعد فرائصه. ويضيق صدره. وتتلاحق أنفاسه خوفًا من دعاء موسى لربه، ثم يقول تبريرًا لما زعم أنه يريد قتله، للتمويه على أتباعه:

{إِنِّي أَخَافُ} إن لم أقتله {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي: أن يغير ما أنتم عليه - وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام التي أمرهم بنحتها وعبادتها لتكون لهم شفعاء عنده كما كان كفار مكة يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} كما أنى أخاف أن يظهر في أرضكم الفساد إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية، بأن يُحيل أمنكم إلى اضطراب وتناحر، فتتعطل المزارع والمكاسب، ويهلك الناس قتلًا وضياعًا، وقال قتادة: عنى بالفساد طاعة الله - تعالى - فأراد أن الفساد في الأرض بظهور طاعة الله. 27 - {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}: أي: وقال موسى - عليه السلام - لقومه بعد ما تردد على لسان فرعون من حديث قتله: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ}. والخطاب في قوله: {وَرَبِّكُمْ} لمن آمن بموسى أي: اعتصمت بالله ربي وربكم واستعذت به ويؤيده قوله تعالى في سورة الأعراف: {قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (¬1) وليس الخطاب لفرعون وقومه، فإن فرعون ومن معه لا يعترفون بربوبيته - تعالى - وفي قوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه. ويعتصموا به اعتصامه، فإن في تظاهر النفوس تأثيرًا قويًا في استجلاب الإجابة وصدّر - عليه السلام - كلامه بإن تأكيدا , وتنبيها على أن السبب المؤكد في دفع الشدة هو العياذ بالله - تعالى - ولم يُسَمِّ موسى فرعون حين استعاذ بالله , بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة بقوله: {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} لتعميم الاستعاذة والإشعار بعدة الجرأة على الله - تعالى - , وأراد بالتكبر الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة صاحبه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم بالجزاء، ليكون أدل وأدل على أنه بلغ الغاية في الطغيان، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة. فقد استكمل القسوة والجرأة على الله - تيعالى - ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 128.

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} المفردات: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي: من أهله وأقاربه. {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} أي: يخفيه ويستره عن فرعون وقومه. {جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالآيات التسع الدالة على صدقه. {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: إن لم ينزل بكم كل الذي يعدكم به، بل بعضه هلكتم. ووعد يستعمل في الخير والشر وهو في الخير أكثر، ويتعدى بنفسه وبالباء. وقالوا: أوعده خيرا وشرا بالألف أيضًا وهو في الشر أكثر. {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}: وهو الذي جاوز القصد وجانب الاعتدال في أموره. التفسير 28 - {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}: ذكر بعض المفسرين أن اسم هذا الرجل حبيب، وقيل: شمعان قاله السهيلى، وهو أصح ما قيل فيه، وهو قبطى من أهل فرعون وأقاربه آمن بموسى سرًّا. قال السدى: وهو

الذي نجا مع موسى - عليه السلام - وهذا الرجل هو المراد بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى ... الآية} (¬1) وهو قول مقاتل، وقال ابن عباس: لم يكن مؤمن من آل فرعون غيره وغير امرأة فرعون، ولم يتعرض له فرعون بسوءٍ؛ لأنه كان ابن عمه وصاحب شرطته كما قال الآلوسي، أو لأنه كان يكتم إيمانه عن فرعون وملئه دون موسى - عليه السلام - ومن اتبعه - قال هذا الرجل المؤمن لقومه -: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: أتقصدون قتله كراهة أن يقول: ربي الله وحده من غير رَوِيَّة منكم في أمره، وقد جاءكم بالمعجزات الظاهرة الشاهدة على صدقه، والأدلة الكثيرة، وهذا استنكار من ذلك الرجل عظيم، وتبكيت لهم شديد، كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة. وما لكم من شيء تأخذونه عليه إلاَّ كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: {رَبِّيَ اللَّهُ} والحال أنه قد جاءكم بالبينات التي عاينتموها وشاهدتموها لا بينة واحدة جاءكم بها من عند ربكم الإله الحق. وهذا استدراج لهم إلى الاعتراف واستنزال لهم عن رتبة المكابرة. ثم أخذهم بالاحتجاج فقال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولم يكن ذلك لشك في رسالته وصدقه، ولكن تلطفًا في كفِّهم أي: لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: وإن يكن موسى رسولًا صادقًا، يصبكم بعض العذاب الذي يتوعدكم به إن لم يصبكم كله إلاَّ إذا تعرضتم له بسوءٍ وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة بعض ما يتوعدهم به أفاد أنه مهلك مخوف، فما بالهم إذا أصابهم كله، وهذا كلام صادر عن غاية الإنصاف وعدم التعصب، ولهذا قدَّم احتمال كونه كاذبًا، وقيل: المراد بصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا. وهو بعض ما يعدهم، كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالًا عندهم. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}: استئناف قصد به احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما: أنه لو كان مسرفًا كذابا لما هداه الله إلى البينات، ولما أيده بتلك المعجزات. وثانيها: أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به ¬

_ (¬1) سورة القصص، من الآية: 20.

المعنى الأول، وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم. وفيه تعريض بفرعون بأنه مسرف في القتل والفساد، كذاب في ادعائه الربوبية لا يهديه الله سبيل الصواب ومنهاج الحياة. {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} المفردات: {ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين فيها. {مِنْ بَأْسِ اللَّهِ}: من عذابه. {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلاَّ بما أرى لنفسى. {إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: طريق الصلاح والصواب، وهو خلاف سبيل الغى والضلال. {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ}: يطلق القوم على الرجال ليس فيهم امرأة. والواحد: رجل أو امرؤ من غير لفظه. {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}: يعني أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على الأنبياءِ.

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي: مثل جزاء ما دأبوا عليه واعتادوه من الكفر وإيذاء الرسل. {يَوْمَ التَّنَادِ} أي: يوم القيامة وسمى بذلك؛ لأنه ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة، أو يتصايحون فيه بالويل والثبور. التفسير 29 - {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}: هذا من قول مؤمن آل فرعون، وفي قوله: {يَا قَوْمِ} دليل على أنه قبطى، ولذلك أضافهم إلى نفسه ليكون أقرب إلى قبول وعظه حيث قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: غالبين على بني إسرائيل في أرض مصر لا يستطيع أحد أن يقاومكم فيها في هذا الوقت. فاشكروا الله على ذلك وآمنوا. وكون المراد بالأرض: أرض مصر قول السدى وغيره. {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} قال ذلك تحذيرًا لهم من نقم الله إن كان موسى صادقًا، أي: فلا تفسدوا أمركم، ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتله، فإن العذاب إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، والاستفهام إنكارى. وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه معهم فيما يسوءهم من مجىء بأس الله - تعالى - تطييبا لنفوسهم، وإيذانًا بأنه مُناصح لهم ساع في تحصيل ما يُجْدِيهم، ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه، وعندما سمع فرعون ذلك الذي نصحهم به قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي: ما أشير عليكم إلاَّ بالذي أراه وأسْتَصْوبه لنفسي من قتله، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: وما أهديكم بهذا الرأى من قتل موسى والإيمان بي إلا سبيل الصلاح والصواب. وما أُعلمكم إلا ما أعلم. ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر. يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول. ولقد كذب حيث كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى، ولكنه كان يتجلد , ولولاه ما استشار أحدا أبدا.

30 - {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}: زادهم من الوعظ والتخويف وقد قوى الله - تعالى - نفسه , وثبت قلبه، فلم يرهب فرعون، ولم يعبأ به، وأتى بنوع آخر من التهديد والتحذير فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ .. } الآية. أي: إني أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بالسوء أن يحل بكم مثل ما حلّ بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية في أيامهم بمعنى وقائعهم التي أُذيقوا فيها وبال أمرهم، والظاهر جمع اليوم؛ لأن كل حزب يومًا ولكنه أغنى عنه إضافته إلى الأحزاب مع التفسير بما بعده في قوله تعالى: 31 - {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}: أي: إني أخاف أن يحل بكم مثل جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي: عادتهم الدائمة من الكفر وتكذيب الرسل وسائر المعاصي. {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} المراد بهم قوم لوط {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} فلا يعاقب بغير ذنب ولا يخلى الظالم منهم بغير انتقام, يعنى أن عذابهم وتدميرهم كان عدلا؛ لأنهم استحقوا ذلك بأعمالهم، وهو أسلوب بلغ الغاية في البلاغة لنفى الظلم عنه - تعالى - حيث جعل المنفى فيه إرادة الظلم، ومن كان بعيدًا عن إرادة الظلم لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد. 32 - {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}: خوفهم العذاب الأخروي بعد تحويفهم بالعذاب الدنيوى. وأفصح عن إيمانه إما مستسلما موطنا نفسه على القتل، أو واثقا بأنهم لا يقصدونه بسوء، وقد وقاه الله شرهم بقوله الحق، ويوم التناد هو: يوم القيامة. سمى بذلك؛ لأنه ينادى فيه بعضهم بعضًا للاستغاثة، أو يتصايحون فيه بالويل والثبور، أو لتنادى أهل الجنة وأهل النار فينادى أصحاب النار أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة أصحاب النار، كما جاء في سورة الأعراف، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة.

وقرئ: {يَوْمَ التَّنَادِ} بتشديد الدال، من ندَّ البعير: إذا هرب، أي: يوم الهرب والفرار قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ .. الآيات} (¬1)، وفي الحديث: "إن للناس جولة يوم القيامة يندّون (¬2) يظنون أنهم يجدون مهربا" وعن الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هربًا فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلاَّ وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديًا: أقبلوا إلى الحساب. 33 - {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}: أي: أن يوم التناد هو اليوم الذي تولون فيه عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، أو فارين - منها إذا سمعوا زفيرها ولا ينفعهم الهرب - كما روى عن الضحاك آنفا - ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطًا بقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي: من دافع ومانع يعصمكم في فراركم من عذاب الله. وقال قتادة: ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: ومن خلق الله في قلبه الضلالة وفق اختياره فما له أحد يهديه طريق النجاة أصلًا، وكأن الرجل المؤمن يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك، ووبخهم على تكذيب الرسل السابقين فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} ¬

_ (¬1) سورة عبس الآيات: 34 , 35. (¬2) أي: يهربون.

المفردات: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} أي: مات، يقال: هلك الشيء هلكًا وهلاكًا وهلوكًا ومهلكًا، بفتح الميم، وأما لامها فمثلثة، والاسم: الهُلْكُ مثل قُفْل. {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: مشرك مرتاب بمعنى: شاك في وحدانيته - تعالى -. {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ}: أي: بغير حجة وبرهان. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} أي: عظم جدالهم بغضًا عند الله. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله وختم على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك يختم على كل قلب متكبر جبار حتى لا يعقل الرشاد ولا يقبل الحق. التفسير 34 - {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}: قيل: إن هذا من قول موسى - عليه السلام - وقيل: هو من تمام ونمط مؤمن آل فرعون. ذكَّرهم قديم عتوهم على نبيهم: يوسف بن يعقوب (¬1) بعثه الله رسولًا إلى القبط من قبل موسى. وأيده بالآيات الظاهرة الدالة على صدقه، وقال ابن جريج: أيده بالبينات وهي: الرؤيا، كذلك قال، والله أعلم بهذه البينات التي أيده الله بها. {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} من الدين أي: أسلافكم كانوا في شك، فنسب ما للآباء إليهم، لاشتراكهم في الضلال والتكذيب، وقد دعاهم إلى عبادة الله وحده فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2). واستمر يدعوهم إلى دين التوحيد حتى {إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} ضموا إلى الشك في رسالته تكذيب رسالة من بعده. {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: مثل هذا الإضلال الشديد يضل الله من هو مسرف في العصيان شاك فيما تشهد به البينات، لتعصبهم لدينهم، والإمعان في التقليد. ¬

_ (¬1) وقيل: غيره. (¬2) سورة يوسف من الآية: 39.

35 - {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}: قال الزجاج: المراد بالذين يجادلون: كل مسرف مرتاب وهم يجادلون في الله بغير حجة صالحة للتمسك بها لا نقلية أتتهم من جهته - تعالى - على أيدى الرسل - عليهم السلام - ولا عقلية استنبطوها من الكون. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا من كلام مؤمن آل فرعون، وقيل: ابتداءُ خطاب من الله - تعالى - وهو تقرير لما أشعر به الكلام السابق من ذمهم، وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، أي: كبر بُغْضًا جدالهم في آيات الله بغير حجة - كبر بغضًا عند الله وعند المؤمنين. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين، فكذلك يطبع على قلب كل متكبر جبار، فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق، وقرئ بتنوين قلب، فما بعده صِفته. ووصف القلب بالتكبر والتجبر؛ لأنه منبعهما. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)} المفردات: {ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: بناءً عاليًا كالقصر، من صَرَحَ الشيءُ: إذا ظهر. {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي: طرقها وأبوابها جمع سبب وهو كل ما يتوصل به إلى الشيء. {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: وما مكره واحتياله في إبطال آيات الله لموسى إلاَّ في خسران وهلاك، يقال: تبَّ الله فلانا أي: أهلكه، وتبت يداه أي: هلكت أو خسرت.

التفسير 36 - {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه لم يُخفه عنهم، وإن لم يصح ثبَّتهم على دينهم، لذلك أمر وزيره هامان ببناء الصرح فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي: قصرًا عاليًا مكشوفا لا يخفى على الناظر وإن بَعُد {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} رجاء أن أبلغ الأسباب أي: الطرق كما روى عن السدى، وقال قتادة: هي الأبواب وهي: جمع سبب ويطلق على ما يتوصل به، والمراد بها كما قال - سبحانه -: 37 - {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}: أي: لعلى أبلغ طرقها وأبوابها. وفي إبهام الأسباب ثم بيانها تفخيم لشأنها, وتشويق للسامع إلى معرفتها. {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي: فأنظر إليه. وأراد بذلك أن يعلم الناس بفساد رأى موسى وقوله: إني رسول من رب السموات - أن يعلم الناس - أنه إذا كان رسولًا منه فهو ممن يصل إليه. وذلك بالصعود إلى السماء وهو محال لا يقوى عليه الإنسان، ومنشأ ذلك جهله بالله - تعالى - وكيفية استنبائه، وزعمه أنه - سبحانه - مستقر في السماء، وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره وهو - عَزَّ وَجَلَّ - منزه عن صفات المحدثين والأجسام ولا يحتاج رسله الكرام إلى ما يحتاج إليه رسل الملوك، وهذا منه نفى لرسالة موسى من الله - تعالى - ولا تعرض فيه لنفى الصانع المرسِل له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يحتمل أن يكون عنى به أن موسى كاذب في دعوي الرسالة أو أن يكون عنى به أنه كاذب في ادعاء أن له إلها غيره كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وهذا يوجب شك فرعون في أمر الله. {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي: ومثل ذلك التزيين البليغ زين لفرعون عمله السىء فانهمك فيه انهماكا قويًّا لا يرعوى عنه بأى حال، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي: عن سبيل الهدى والرشاد، والفاعل في الحقيقة هو الله - تعالى - ولم يفعل - سبحانه - كلا من التزيين والصد إلاَّ لأن فرعون طلبه بلسان استعداده، واقتضى ذلك سوء اختياره:

الحجازيان , والشامى، وأبو عمر وصَدَّ: بالبناء للفاعل وهو: ضمير فرعون. على أن المعنى، وصد فرعونُ الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات ويؤيده: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: وما مكره في إبطال آيات موسى إلاَّ في خسارة وهلاك. {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} المفردات: {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: أدلكم على طريق الهدى وهي الجنة. {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي: يُمتع فيها قليلًا ثم تنقطع وتزول. {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي: دار الاستقرار والخلود. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أي: من عمل خطيئة في الدنيا فلا يجزى في الآخرة إلاَّ بما يعادلها. {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير وموازنة، بل أضعافا مضاعفة. التفسير 38 - {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}: هذا من تمام ما قاله مؤمن أهل فرعون أي: اقتدوا بي في الدين أهدكم سبيلًا يبلغكم المقصود وهو دخول الجنة، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي والضلال.

39 - {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}: أي: إن هذه الحياة الدنيا تَمتُّعٌ أو مُتمَتَّعٌ به يسيرٌ لسرعة زوالها، أجْمل لهم القول أولًا حيث قال: {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ثم فصل فافتتح بذم الدنيا، وتصغير شأنها؛ لأن الإخلاد إليها رأس كل شر، ومنه تتشعب فنون ما يؤدى إلى سخط الله - تعالى - ثم ثنى بتعظيم الآخرة فقال: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} لأنها الحياة الباقية وهي دار الاستقرار والخلود ودوام ما فيها. 40 - {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}: ذكر الله في الآية الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عمَّا يتلف وينشط لما يُزلف فقال - سبحانه -: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أي: من عمل خطيئة في الدنيا تعدى بها حدود الله فلا يجزئ في الآخرة إلاَّ بما يماثلها عدلًا من الله - جل شأنه -. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن مصدق بالله - جل شأنه - بقلبه، ومؤمن بالأنبياء - عليهم السلام - فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير تقدير وموازنة بالعمل. بل أضعافًا مضاعفة. تفضلًا منه - تعالي - ورحمة، وفي تقسيم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والإشعار بالشمول، والآية تفيد أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه. وبعد أن قدم هذا المؤمن حديثه لقومه ناصحًا وموجهًا بذكر الدنيا وبيان أنها دار متاع وأنها لا تغنى عن المرء شيئًا يوم الجزاء , لما تدعو إليه من شر وفساد, ثم بين أن التعلق بالآخرة، والتفانى في الإقبال عليها سبب السعادة والنعيم، لأنها دار الخلود والدوام - بعد هذا الحديث - كرر نداء قومه إيقاظًا لهم من سنة الغفلة واعتناء بالمنادى إليه ومبالغة في توبيخهم على تثاقلهم عن الاستماع لنصحه، كما تبين ذلك الآيات القادمة.

* {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} المفردات: {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}: أدعوكم إلى السلامة من العذاب بإيمانكم. {النَّارِ}: العذاب بالنار، والمراد أسبابه من الشرك والغيّ والمعاصي. {الْعَزِيزِ}: الغالب القاهر. {الْغَفَّارِ}: واسع المغفرة. {لَا جَرَمَ}: لا رد وإبطال لدعوتهم الرسول إلى عبادة الأوثان، وجرم فعل ماض بمعنى حقَّ وثبت، كما في قول الشاعر: ولقد طعنتُ أبا عبيدَة طعنةً ... جَرَمتْ فزارةُ بعدها أنْ يغضبوا أي: حَقَّ لفزارة أن يغضبوا بعد هذه الطعنة. وفاعل جرم في الآية مصدر مؤول من أن وما دخلت عليه، أي: حقَّ وثبت كون ما تدعوننى إلى عبادته لا يصح أن يدعى لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقال الفراء: معنى {لَا جَرَمَ} في الآية: لا بد ولا محالة، وعلى هذا تكون "بُدّ" اسم لا النافية للجنس، وخبرها مصدر مؤول مما بعدها , وهذا هو معناها الأصلى، فلمَّا كثر

استعمالها صارت بمنزلة "حقًّا" فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب عن القسم، ألا ترى أنهم يقولون: لاَ جَرَم لآتيتك. انتهى كلام الفراء بتصرف. {مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ}: مرجعنا إلى الله بالموت. {الْمُسْرِفِينَ}: المشركين، وكل من غلب شره خيره فهو مسرف. التفسير 41 - {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}: هذه الآية الكريمة من كتاب الله نداء من جملة النداءات التي تكررت في هذه السورة، وهيمنت على جوها، وتنوعت بها أساليب التنبيه، وألوان التحذير والتخويف، تذكر بالنعم وتحذر من وقوع النقم. كما في قوله - تعالى -: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}. كنا تحذر من الفتن المهلكة والعقوبات المدمرة التي وقعت بالأمم السابقة فأبادتها كما في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}. أو تذكر بيوم القيامة وما يحتويه من أهوال وشدائد، كما في قوله: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} أو تنبه الي أن الدنيا متاع سريع الزوال، وأن الآخرة هي دار الدوام والاستقرار. كما في قوله: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}. كما تنعى على الكافرين والمشركين انتكاس الطبع، وسوء السلوك. إيقاظا لهم من سنة الغفلة، واهتمامًا بالمنادى، ومبالغة في توبيخهم على ما قابلوا به دعوته. واقترن النداء في الآية بالعطف لأنه للموازنة بين الدعوتين: دعوته لهم إلى دين الله الذي ثمرته النجاة، ودعوتهم له إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وذلك لتحقيق أنه هاد وأنهم مضلون، وأن ما عليه هو الهدى، وما هم عليه هو الضلال.

والمعنى: ويا قوم إني لأعجب من أمركم، فأخبرونى كيف هذه الحال التي أنتم معى عليها؟ أدعوكم إلى الخير، ومسالك النجاة ونعيم الجنة، وتدعوننى إلى الهلاك، ومهاوى الجحيم. وفي ندائهم بيا قوم وتكرار ذلك مع كل نداء مزيد من التلطف معهم. والإشفاق عليهم، والتحنن في دعوتهم إلى ما فيه خيرهم ونجاتهم، لانتزاع شفقتهم وطاعتهم حتى ينزلوا على نصحه، ويستجيبوا لدعوته، ولا يتهموه كما فعل إبراهيم - عليه السلام - في نصح أبيه، حيث ناداه متلطفًا بقوله: {يَا أَبَتِ}. 42 - {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}: هذه الآية تفسير وبيان للآية السابقة , أي: تدعوننى لأُنكر وحدانية ربي، وأشرك به آلهة أخرى باطلة زائفة لم يقم دليل على ألوهيتها. {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} معناه: وأنا أدعوكم إلى عبادة الإله القادر الغالب على أمره, الغفار لذنوب التائبين. وخص هذان الوصفان: {الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} لاقتضائهما جميع الصفات , لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء من الله، فإنهما مناسبان لحالهم. 43 - {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}: لفظ (لا) في قوله: {لَا جَرَمَ} رد لما دعاه إليه قومه، وجرم بمعنى حق، وتقدم باقى الكلام عليها في المفردات. والمعنى: حقَّ وثبت بطلان ما تدعوننى إلى عبادته من الأصنام، فليس لها دعوة ترجى في الدنيا ولا في الآخرة، فهي لا تضر ولا تنفع، وأن مرجعنا إلى الله الذي أدعوكم إلى عبادته وأن المسرفين بعبادة غيره هم أصحاب النار لا ينفكون عنها, ولا يخفف عنهم من عذابها.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} المفردات: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي}: أردّ أمرى وأسلمه إلى الله ليعصمنى. {فَوَقَاهُ}: حفظه ونجاه. {حَاقَ}: نزل ولزم وأحاط. {سُوءُ الْعَذَابِ}: العذاب السىء من الغرق والنار، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. {السَّاعَةُ}: القيامة. التفسير 44 - {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: هذا آخر ما يقوله الناصح بعد أن يستكمل كل أساليب النصح، ويستجمع جميع عبارات التحذير والتخويف، يقول ذلك إعذارًا لنفسه، وتهديدًا مُغَلَّفًا بأسلوب النصح والإشفاق. والمعنى: فسيذكر بعضكم لبعض عند مواجهة العذاب ومجابهة الحساب يوم القيامة ما دعوتكم إليه ونصحتكم به , وحذرتكم مخالفته، فلم يكن منكم إلا الإسراف في العناد، والإصرار على الكفر، والإفحاش في التهديد، ولم يكن لي بعد هذا إلاَّ أن أرد أمرى إلى الله،

وأسلم نفسى إليه، يحفظنى من كيدكم، ويقينى من سيئاتكم، إنَّه بصيرٌ بالعباد مطلع على أحوالهم التي من جملتها حالى وحالكم، لا يغيب عنه شأن، ولا تخفى عليه خافية. 45 - {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}: الضمير في قوله - تعالى -: {فَوَقَاهُ} لموسى - عليه السلام -. والمعنى: فَوَقَى الله موسى ومن معه، وحفظه من فرعون وبطشه، وردّ كيده ومكره إلى نحره، وأنزل به وبقومه العذاب البالغ أقصى درجات السوء في الدنيا بالموت غرقا، وفي الآخرة بالنار إحراقا، وتلك عقبى الظالمين، ومثوى المتكبرين المتجبرين، ولم يصرح باسم فرعون امتهانا له، وإشعارًا بأصالته في المسئولية. 46 - {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}: هذا كلام مستأنف مرتب على سؤال تقديره: كيف حال آل فرعون بعد غرقهم؟ فقيل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا. . .} الآية. وفي هذه العبارة غاية التهكم بهم وامتهانهم، حيث بدَّلهم الله باسترواحهم بأنفاس الصباح الندية، وأنْسَام العِشاء الرخية - بدلهم بذلك - العَرْضَ على النار غدوًّا وعشيًّا في قبورهم ما دامت الدنيا حتى إذا قامت القيامة قال الله لخزنة جهنم: أدخلوا فرعون وآله المتجبرين أشد العذاب في جهنم في مقابل شدة جبروتهم. وتحديد الوقتين لأنهما الوقتان المعتادان للاسترواح والراحة عند أهل الترف، فيكون ذلك أنكى في التهكم والسخرية، وأجلى في تصوير العذاب والامتهان، ويكون ما بين الوقتين متروكًا لأمر الله - تعالى - يجرى عليهم عذابًا آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يراد بذكر الوقت التأبيد ما دامت الدنيا جريًا على الأُسلوب العربي في التعبير أحيانًا عن جميع الوقت بذكر الطرفين كما في قول الخنساء: يذكِّرُنى طُلُوع الشَّمس صَخْرًا ... وأذكُرُه بِكُلّ مَغِيبِ شَمْس

ومثل هذا في القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} أي: دائما في كل وقت. والظاهر هو المعنى الأول، وهو عرضهم على النار في وقتى الصباح والمساء، فهو المناسب لحديث الصحيحين البخاري ومسلم عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ, إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة". ومن أجل ذلك قيل بعذاب البرزخ. {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} المفردات: {يَتَحَاجُّونَ}: يحاجّ بعضهم بعضا ويتخاصمون. {الضُّعَفَاءُ}: الأتباع. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}: للمتبوعين والسادة. {تَبَعًا}: جمع تابع كخدم وخادم - أو على تقدير: ذوى تبع. {مُغْنُونَ}: حاملون أو دافعون. {حَكَمَ}: قضى وفصل.

التفسير 47 - {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ}: المعنى: واذكر يأيها الرسول لقومك فيما تذكر لهم من أحوال هؤلاء المشركين، وما يجرى عليهم من أجل شركهم وعنادهم - اذكر - إذ يتخاصمون في النار ويحاج بعضهم بعضًا بعد دخولها واصطلاء جحيمها، فيقول الأتباع الضعفاء المغلوبون للسادة القادة الذين استكبروا عليهم وسخروهم لمصالحهم وفتنوهم في دينهم - يقولون لهم - متهكمين شامتين: إنكم كنتم تستعلون علينا في الدنيا وتزعمون لأنفسكم السلطان، والغلبة والقهر، وإنا كنا لكم تبعًا فيما تدعوننا إليه، وتأمروننا به، فهل أنتم حاملون عنَّا الآن أو دافعون بعض ما نعانيه من هول النار وعذابها بسبب طاعتنا لكم واتباع أمركم؟ 48 - {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}: أي: قال السادة الذين استكبروا جوابًا للضعفاء الأتباع الذين سألوهم تهكمًا أن يحملوا عنهم أو يدفعوا بعضًا من العذاب الذي هم فيه فيه - قال الذين استكبروا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي: نحن وأنتم في النار سواء، فكيف نغنى عنكم ونحن لا نقدر أن ندفع عن أنفسنا شيئا من العذاب. {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أي: إن الله القادر على الحكم المالك لكل شيء قد قضى وفصل بين العباد، فأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وقدَّر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه، ولا يتحمله عنه غيره.

{وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا في ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} المفردات: {خَزَنَةِ جَهَنَّمَ}: القُوام على تعذيب أهلها. {بِالْبَيِّنَاتِ}: بالمعجزات والآيات. {بَلَى}: نعم جاءونا. {ضَلَالٍ}: بطلان وضياع. {الْأَشْهَادُ}: جمع شاهد , كصاحب وأصحاب , والمراد: الأنبياء والحفظة. {اللَّعْنَةُ}: الإبعاد والطرد من رحمة الله. التفسير 49 - {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ}: المعنى: وقال الذين انتهى أمرهم بدخول النار من الضعفاء والمستكبرين جميعا حين استقروا في الجحيم , ولفَّهم اليأس , وضاقت بهم الحيل , وأعيتهم العلل - قالوا - لخزنة

جهنم القُوام بتعذيب أهل النار: ادعوا ربكم يخفف عنَّا شيئًا من هذا العذاب الذي نعانيه، أو يدفع عنًا يومًا من أيام العذاب لعلنا نسترد به قوتنا، ونجمع فيه طاقتنا، فيقوى احتمالنا له، وصبرنا عليه. وهو قول يمثل أقصى درجات المهانة والذل، فإنه ليس أذل على النفس، ولا أشد وقعًا من أن تبتغى الرحمة من القائم على تعذيبها، أو ترجو الإشفاق من جلادها، ولهذا اقتصروا في طلبهم على تخفيف قدر يسير، أو وقت قصير. 50 - {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}: المعنى: قال خزنة جهنم لأهل النار الذين طلبوا منهم الدعاة بتخفيف العذاب عنهم - قالوا لهم - إلزاما وتوبيخًا على إضاعة أوقات الدعاء، وتعطيل أسباب الإجابة: ألم تُنَبَّهوا إلى هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة، والآيات البينة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما ينطق بذلك - قوله تعالى -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} (¬1) أي: قال أهل النار لخزنة جهنم: نعم جاءونا ودعونا ونصحونا وأعذروا بالحجج والبراهين فعارضناهم وكذبناهم. {قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} أي: قال خزنة جهنم لهم إمعانا في التوبيخ والتيئيس: إذ كان هذا شأنكم فادعوا أنتم؛ فإن الدعاء مِنَّا مستحيل لمن يفعل فعلكم وما دعاؤكم مهما تضرعتم وطال دعاؤكم إلا في بطلان وضياع. ووضع الكافرين موضع ضميرهم بيانًا لمقتضيات البطلان، وقصد التوبيخ والامتهان، وقوله - تعالى -: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}: يحتمل أن يكون من جملة الكلام القول على لسان الخزنة، وأن يكون من كلام الله - تعالى - إخبارًا منه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية: 71.

51 - {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}: هذه الآية استئناف كلام مسوق من جهة الله - تعالى - لبيان ما أصاب الكفرة من العذاب المحكى، وهو فرع من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم الذين يؤمنون بهم، ويصدقون دعوتهم في الحياة الدنيا وننتقم لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبى. {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}: ويوم القيامة عند جمع الأولين والآخرين، وشهادة الأشهاد للرسل بالتبليغ، وأداءِ الأمانة على وجهها، وعلى الكفرة بالتكذيب والجحود والعناد. ونصرهم في الدنيا واقع لا شك فيه ولا سبيل إلى تخلفه، وقد يتأخر حدوثه بعض الوقت لحكمة يعلمها الله - تعالى -. 52 - {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}: المعنى: أنَّ يوم يقوم الأشهاد هو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، أي: يوم لا يكون للظالمين معذرة أصلا يعتذرون بها لانقطاع حجتهم، ونفاد حيلتهم، أو يوم يعتذر الظالمون فلا تقبل منهم معذرة ولا تدفع عنهم من العذاب قليلًا أو كثيرًا، وتكون لهم اللَّعنة، والطرد من رحمة الله، ولهم الدار التي يسوؤهم عذابها ويشقيهم المقام فيها. وهي جهنم. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)}

المفردات: {الْهُدَى}: ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع. {الْكِتَابَ}: التوراة. {الْأَلْبَابِ}: العقول، جمع لُبّ. {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ}: يخاصمون فيها بالباطل ويجحدون. {سُلْطَانٍ}: برهان وحجة. التفسير 53 - 54: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}: جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة بمثابة تمثيل لنصرة الله - تعالى - لأنبيائه؛ لأن تأييدهم بالمعجزات وإنزال الكتب عليهم نوع من نصر الله لهم، بجانب كونه هدى وذكرى لأقوامهم. والمعنى: ولقد كان من جملة نصرنا لرسلنا وصدق وعدنا لهم أن آتينا موسى ما يهتدى به من المعجزات الهادية إلى الحق، وأورثنا قومه بني إسرائيل التوراة هداية وتذكرة أو هاديًا ومذكرًا لذوى العقول السليمة والأفهام الخالصة من شوائب الوهم، والصافية من غيوم الشكوك والأهواء. 55 - {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}: المراد من ذنبه - صل الله عليه وسلم - ما خافه به الأولى بالنسبة لمقامه، وإن لم يكن ذنبًا في حقه وحق غيره في الواقع (¬1). والمعنى: إذا علمت ذلك - أيها الرسول - وسمعت ما قصصناه عليك من أن نصرة الرسل تكفل بها الله ووعد بها، فأخْلِدْ إلى الصبر على أذى قومك فإن العاقبة لك، وما سبق به ¬

_ (¬1) وقيل: أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار تعبدى لرفع درجاته وهضم نفسه، وليصير الاستغفار سنة أمته.

الوعد من نصرتك، وإعلاء كلمتك حق وصدق فانتظره ولا تستعجله، وأقبل على التقوى، واستدرك ما حدث منك مما يخالف الأولى بالنسبة لك - استدركه - بالاستغفار ودم على عبادة ربك تسبيحًا وتحميدا وثناء عليه بالعشى "آخر النهار"، والإبكار "الدخول في الصباح" بخاصة، أو في جميع الأوقات، والمراد من التسبيح والتحميد معناهما المعروف، وقيل: المراد بهما الصلاة، فعن قتادة: ركعتان بكرة - صبحا - وركعتان عشيًّا - عصرًا - لأن الواجب بمكة كان ذلك. وبنحوه قال الحسن: ركعتان بكرة وركعتان عشيًا، وحكى في البحر عن ابن عباس أن المراد الصلوات الخمس. 56 - {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: المعنى: إن الذين من شأنهم أن يخاصموا في آيات الله البينات، وبراهينه الواضحات ويجحدونها من غير أن يقوم جدلهم فيها على علم، أو يستند إلى برهان ودليل، لا يفعلون ذلك عن رأى سديد، وليس في صدورهم من ذلك إلا كبرٌ على الحق، وتعظُّم عن التعلُّم، ما هم ببالغى هذا الكِبْر الذي يُدْفَعُ به الحق، أو ما هم ببالغى ما أرادوه من جدلهم من إبطال آيات الله, لأن الله - تعالى - أذلهم، وجعل لك الغلبة عليهم فاستسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا. قوله - تعالى -: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} توجيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر له أن يلتجىء إلى الله من كيد من يحسده، ودفع من يبغى عليه. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي: إن الله - تعالى - هو عظيم السمع لأقوالهم وجدالهم، واسع العلم بأحوالهم وأفعالهم.

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} المفردات: {الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}: الغافل والمستبصر. {السَّاعَةَ}: القيامة. {لَا رَيْبَ فِيهَا}: لا شك في وقوعها وحدوثها. {دَاخِرِينَ}: صاغرين أذلاء. التفسير 57 - {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: لما كان البعث من مواضع جدلهم الواسع , ومكابرتهم الزائفة ناسب أن تأتى هذه الآية بعد آية الجدل تحقيقًا للحق , وتبيينًا لأشهر ما يجادلون فيه جهلًا وعنادًا من غير اعتماد على علم أو استنادٍ إلى برهان , على منهاج قوله - تعالى - {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة يس من الآية 81.

والمعنى: لخلق السموات والأرض على اتساعهما، وامتداد طولهما وعرضهما، وحكمة نظامهما وما يحتويان من كائنات عظيمة، وما يختلف عليهما من تغاير أطوار، وتباين أحوال، وما يقع فيهما أو عنهما من أحداث - لخلق هذا كله - أكبر وأعظم من خلقه - تعالى - الناس, لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة والأحداث الهائلة كلا شيء، والمراد: أن من قدر على خلق ذلك فهو - سبحانه - على خلق ما لا يعد شيئًا بالنسبة إليه بدءًا وإعادة أقدر وأقدر، وقوله - تعالى -: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ولكن أكثر الناس من الكفرة والمشركين لا يعلمون شيئًا من هذا, ولا يتدبرونه تدبرًا يهديهم إلى الحق، ويردهم إلى الإيمان والتصديق، فهو الذي تقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرًا ولكنهم لا يفقهون. 58 - {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}: نفت الآية السابقة العلم عمّن عطل عقله، وجمد فكره فلم ينظر في آيات الله نظرة تأمل، ولم يعمق التفكير في قدرته الظاهرة في مخلوقاته، وجاءت هذه الآية تبرز هذا المعنى بالقياس بين الأعمى والبصير، وبين المحسن والمسىء، ليستبين الحق من الباطل. والمعنى: وما يستوى الأعمى الذي لا يبصر مباهج الحياة ووشيها وجمالها, ولا يعرف عدوه من صديقه، ما يستوى هذا الأعمى مع البصير الذي له عينان تجولان في أرجاء الكون، وتنطبع على ناظريهما آياته، ويشاهد بهما البساتين وزهورها وثمارها، ويتمتع بصفحات الجمال في كل الكائنات علويها وسفليها، ويرى صديقه فيلاقيه, ويبصر عدوه فيتقيه، وإذا كان هذان لا يستويان في الاستفادة من آيات الحياة الدنيا والشعور بجمالها وجلالها، والاستمتاع بها، فالأعمى محروم والبصير يتقلب في النعيم، وإذا كان هذان لا يستويان فمثلهما المؤمن الذي يعمل الصالحات في دنياه، فينعم في الدنيا بحياته ويخلد في الجنة بعد مماته، فلا يستوى مطلقًا مع الكافر المسىء إلى نفسه وإلي ربه في حياته، الخالد في النار بعد مماته {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} فلا تدركون الحقائق على وجهها.

وفي الآية لمحات: 1 - عدل عن التقابل الظاهر في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} فلم يقل: والمحسن والمسئ كما في قوله: الأعمى والبصير، إشارة إلى أن المؤمن أصل في الإحسان وعَلَمٌ له. 2 - قدم الأعمى لمناسبة العمى ما قبله من نفى العلم، وقدم الذين آمنوا بعد عكس ما قبله لمجاورة البصير وشرفه، على أن الافتنان في الأسلوب قد يقتضي طرقًا أخرى، فيقدم ما يناسب الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله - تعالى -: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (¬1) أو يؤخر المتقابلان كما في قوله - تعالى -: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} (¬2). 3 - وأعيدت (لا) مع المسيء تذكيرا للنفى، لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولإظهار المقصود بالنفى من الفرق بين المحسن والمسىء. 59 - {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ}: أي: إن القيامة آتية واقعة لا شك في حدوثها, ولا ريب في وقوعها البتة، لوضوح ظواهرها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها ولكن أكثر الناس من الكفار والمعاندين لا يؤمنون بحدوثها, ولا يصدقون بوقوعها لقصور أنظارهم، واستيلاء الأوهام على عقولهم. 60 - {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}: هذه الآية الكريمة توجيه من الله - عَزَّ وَجَلَّ - لخلقه أن يضرعوا إليه بالدعاء، ويجأروا له بالرجاء، تعظيما لقدرته واعترافا بعجزهم وحاجتهم إلى عطائه وفضله. ¬

_ (¬1) سورة فاطر الآيات: 19، 20، 21. (¬2) سورة هود من الآية: 24.

والمعنى: وقال ربكم ادعونى، أي: أعبدونى، والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن الكريم، ويدل عليه قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} والاستجابة: الإثابة، وفي تفسير مجاهد: "اعبدونى أثبكم" وعن الحسن وقد سئل عنها: "اعملوا وأبشروا فإنه حقٌّ على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله "وعن الثورى أنه قيل له: ادع الله - تعالى - فقال: "ترك الذنوب هو الدعاء" وفي الحديث: "إذا شَغَل عبدي طاعتى عن الدعاء أعطيته أفضل ما أعطى السائلين". وروى النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاء هو العبادة" وقرأ هذه الآية. ويجوز أن يراد الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويراد بعبادتى دعائى لأن الدعاء باب من أبواب العبادة، ومن أفضل أبوابها، يصدق ذلك قول ابن عباس - رضي الله عنه -: "أفضل العبادة الدعاء". وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاث خلال لم يعطهن إلاَّ نبيًّا مرسلًا, كان يقول كل نبى: "أنت شاهدى على خلقى" وقال لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1) وكان يقول: "ما عليك من حرج" وقال لنا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (¬2) وكان يقول: "ادعنى أستجب لك" وقال لنا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬3). وعن ابن عباس: "وحدونى أغفر لكم" وهذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثم للعبادة بالتوحيد. وقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي. . .} الآية، معناه: إن الذين يستعلون عن عبادتى ويتعاظمون على توحيدى وطاعتى أو على دعائى والتضرع إليّ سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين لا يغنى عنهم تكبرهم من دخولها ولا يدفع عنهم من عذابها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 143. (¬2) سورة المائدة من الآية: 6. (¬3) سورة غافر من الآية: 60.

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُوفَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)} المفردات: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}: لتخلدوا فيه إلى السكون والراحة. {مُبْصِرًا}: مضيئًا صالحا للحركة والعمل. {تُؤْفَكُونَ}: تصرفون عن عبادة الله. {يَجْحَدُونَ}: ينكرون ويكذبون. التفسير 61 - {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُوفَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}: تنتقل الآيات إلى بيان فضل الله على عباده بتنظيم أوقاتهم بين الراحة والسكون، وبين العمل والحركة. والمعنى: الله - سبحانه - هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتخلدوا فيه إلى الراحة والسكون استجماما من مشاق العمل والسعى، وجعل النهار مبصرا مضيئا، ليعين على السعى والعمل في تحصيل الأرزاق وإنجاز الأعمال، وتوفير أسباب الحياة والعيش، إن الله لذو فضل على الناس جميعًا: مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، بتدبير أحوالهم، وتنظيم أوقاتهم، ولكن أكثر الناس لا يؤدون حق الشكر لهذه النعم لجهلهم بالمنعم وإغفالهم النظر في نعمه.

62 - {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}: أي: ذلكم المتصف بالصفات المذكورة: هو الله وهو وبكم وهو خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فهذه جملة من الأخبار مترادفة تعزِّز اللاحقة منها السابقة عليها وتقررها, وتؤكد اتصافه - تعالى - بها واستحقاقه لها, ليحسن بعدها موقع {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون عن عبادة من هذا شأنه، وتلك صفاته، وهذه أياديه وفضائله. 63 - {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}: أي: مثل ذلك الإفك العجيب والصرف الغريب عن الحق يصرف كل من جحد بآيات الله وأنكرها مع آثارها الظاهرة وشواهدها الباهرة. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} المفردات {قَرَارًا}: مسكنًا ومستقرا تستقرون فيه. {بِنَاءً}: سقفا وقبة مضروبة عليكم. {الطَّيِّبَاتِ}: الحلائل أو المستلذات من المطعم والمشرب والملبس وغيرها. التفسير 64 - {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: تمضى هذه الآية في تعداد آيات الله - تعالى - وبيان فضله المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان في الآيات السابقة.

والمعنى: الله - سبحانه وتعالى - الخالق البارئ الذي لا يعجزه نظام، ولا يشغله شأن عن شأن: واسع القدرة، بديع الصنعة، ومن مظاهر قدرته , وبدائع صنعته أن جعل لكم الأرض مستقرا تستقرون فيها، وتعيشون عليها، وتسعون في مناكبها، وجعل السماء لكم سقفا محفوظًا وقبةً مضروبة تدفئكم شمسها، وتهديكم نجومها، ويمطركم سحابها، وصوركم فأحسن صوركم حيث خلق كل واحد منكم منتصب القامة متناسب الأعضاء مهيأً لمزاولة الصنائع، واكتساب المعارف والكمالات، وزاد فضله فيكم وتضاعفت نعمه عليكم فرزقكم من الحلال الطيب ما تستلذون به مطعما ومشربا فاستحق بهذا كله التنزيه والتأليه، فتنزه الله - تعالى - رب العالمين، ومالك جميع الخلائق والمخلوقين، فالكل في ملكوته مفتقر إليه في وجوده وسائر أحواله. 65 - {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أي: هو المتفرد بالحياة الذاتية لا إله إلا هو، إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته - عز وجل - فادعوه واعبدوه وحده لاختصاصه بما يوجب ذلك - ادعوه - مخلصين والدين من الشرك الخفى والجلى، حامدين له معترفين بربوبيته الكاملة المستأهلة لدوام الحمد والثناء. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من الكلام المقول على لسان المأمورين بالعبادة. أخرج ابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه , والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: "من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين" وذلك قوله - تعالى -: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .... }.

* {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} المفردات: (الْبَيِّنَاتُ): البراهين والآيات الواضحات التي تدل على التوحيد. (أُسْلِمَ): أنقاد وأخلص (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ): خلق أباكم آدم منه. (نُطْفَة): مَنِيٍّ. (عَلَقَةٍ): دم غليظ. (أَشُدَّكُمْ): كمال عقلكم وقوتكم. (أَجَلًا مُسَمًّى): يوم القيامة, أو يوم الموت. (قَضَى أَمْرًا): أراد إبراز أمر إلى الوجود. (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): يوجد عقب الأمر بالتكوين. التفسير 66 - {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}:

هذه الآية مرتبطة بما قبلها، فقد ذكر القرآن في الآيات السابقة أن الله خالق كل شيء، ثم بين بعض آلائه ونعمه على خلقه حيث جعل لهم الأرض قرارا، والسماء بناء، وصورهم فأحسن صورهم، ورزقهم من الطيبات، ثم ذكر بعض صفاته الجليلة وأنه حى لا إله إلا هو، فتوجهوا إليه وحده بالعبادة والحمد، فالحمد كله حق ثابت ومقرر لله رب العالمين. وجاءت هذه الآية لتبين أن الله المتصف بهذه الكمالات أمر رسوله أن يبلِّغ الناس أنه نهى عن عبادة غير الله الذي سبقت صفاته وأمرَ أن ينقادوا ويخلصوا لله رب العالمين فقال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. } إلخ: أي: قل يا محمد لهؤلاء الشركين وكانوا قد دعوه إلى دين آبائه - قل لهم يا محمد -: نهانى الله الحى القيوم الذي لا إله غيره عن أن أعبُدَ غير الله، وأمرت أن أَذل وأخضع وأنقاد له - تعالى - وأُخلص له - عَزَّ وَجَلَّ - دينى لأنه رب العوالم كلها المستحق وحده للعبادة دون سواه. 67 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: الله وحده الذي خلقكم من تراب، ثم من مَنِيٍّ، ثم من قطعة عالقة بجدار الرحم فيها الخطوط الأُولى للتخليق، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم ينسأ أعماركم ويؤخرها لتبلغوا أشدكم من الكمال والقوة، ثم يمد في آجالكم لتكونوا شيوخا، هو وحده الذي يقلبكم في هذه الأطوار، وعن أمره وتدبيره يكون ذلك كله. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأَشد أو قبله. جعلكم الله على هذا النظام وخلقكم على هذا النمط لتبلغوا، وقتا مسمى عنده وهو يوم البعث، وقيل: يوم الموت ولكى تعقلوا ما في هذا التنقل في الأطوار المختلفة من فنون الحِكَم والعِبر والدلالة على أنه - تعالى - قادر على بعثكم، وقال القرطبي: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ذلك فتعلموا أنه لا إله غيره.

68 - {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: هو الذي يحيى الأموات ويميت الأَحياء، أو الذي يفعل الإحياءَ والإماتة المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أَحد سواه، فإذا أراد إبراز أَمر من الأمور إلى الوجود فإنما يقول له: كن فيكون، من غير توقف على شيءٍ من الأَشباه أصلا، فهو - سبحانه - لا يُخَالَف ولا يُمانَع ولا يُعجزه شىءٌ، ما شاء كان لا محالة من غير كلفة ولا معاناة. ويقول الزمخشرى - في موقع جملة: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} مما قبلها - يقول: جعل هذا نتيجة لقدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من أَفعاله الدالة على أَن مقدورا لا يمتنع عليه كأَنه قال: فلذلك الاقتدار إذا قضى أمرا كان أَهون عليه وأيسره. وقال العلامة الآلوسي: وهذا عند الْخَلَف تمثيل لتأْثير قدرته - تعالى - في المقدورات عند تعلق إرادته - سبحانه - بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور [الآلوسي ص 84]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُومِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)}

المفردات: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}: كيف تصرف عقولهم عن النظر في الآيات. {بِالْكِتَابِ}: بالقرآن. {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا}: من الكتب أو الشرائع. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}: عقوبة تكذيبهم. وهذا وعيد لهم. {الْأَغْلَالُ}: القيود تجمع الأَيدى إلى الأَعناق. {يسحبون}: يجرون. {الْحَمِيمِ}: الماء الذي بلغ الغاية في الحرارة. {يُسْجَرُونَ}: توقد بهم النار أو تمُلأ. {ضَلُّوا عَنَّا}: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم. {تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ}: تبطرون ودون تفكير في الآخرة. {تَمْرَحُونَ}: تتوسعون في الفرح والبطر، وقيل المرح: الفخر والخيلاء. {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: فَقَبُح مقر المتكبرين جهنم. التفسير 69 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}: تعجيبٌ من أَحوالهم القبيحة وآرائهم الفاسده , وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وبسائر الكتب والشرائع , وترتيب الوعيد على ذلك. والمعنى: انظر يا محمد إلى هؤُلاء المجادلين في آيات الله الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها إلى الضلال مع صدقها ووضوحها مما يدعو إلى الإقبال عليها، والإعراض عما سواها.

70، 71، 72، 73، 74 - {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُومِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)}: الذين كذبوا بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب والشرائع وجادلوا فيها فسوف يعلمون عاقبة ما ارتكبوا من الجدال، ووبال ما اجترحوا من التكذيب عند مشاهدة عقوبة ذلك، وجزاءَه حيث تكون الأَغلال والسلاسل في أعناقهم والزبانية يجرونهم بها في الماء الشديد الحرارة، ثم بعد ذلك في النار يسجرون، أي: يطرحون فيها فيكونون وقودا لها. قال مجاهد: يقال: سجرت التنور أي: أوقدته، وسجرته: ملأْته. والمراد بهذا وما قبله ردع المجادلين في آيات الله، والمكذبين برسله وكتبه وتخويفهم، برسم هذه الصورة الرهيبة المفزعة التي تقشعر من سماع وصفها الأَبدان، وتذوب لفائف القلوب. {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: ثم يقال لهم - تقريعا وتوبيخا -: أين معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله؟! {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي: قال الكافرون: غابوا عنا، من ضلَّت دابتُه: إذا لم يعرف مكانها. وهذا لا ينافى ما يشعر بأَن آلهتهم مقرونون بهم في النار كما ورد في مواضع أُخري من القرآن, لأَن للنار طبقات ولهم فيها مواقف، فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم. {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} قال الكافرون: بل تبين لنا اليوم أنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئًا يعتد به، وهو إضراب منهم عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم، أو ليست بنافعة، إلى أنها ليست شيئًا يعتد به، وفي ذلك اعتراف بخطئهم

وندم على قبح فعلهم حيث لا ينفع ذلك قال الآلوسي: وجعل الجلبى هذه الآية كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}: (¬1) يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم. وهكذا لا يكتفى بهذا العذاب الجسدى الذي سبقت صورته البشعة، بل يضم إليه عذاب نفسى وهو سؤالهم على سبيل التقريع والتأنيب: أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل نفعكم هؤلاء الشركاء؟ فأجابوا: {ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُومِنْ قَبْلُ شَيْئًا}. {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي: مثل ذلك الإضلال يضل الله - تعالى - في الدنيا الكافرين حتى إنهم يدعون فيها ما يتبين لهم في الآخرة أنهم ليسوا بشىء. 75 - {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}: تقول الملائكة للكافرين: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه - المذكور فيما سبق من سحبهم بالسلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار، وتوبيخهم بالسؤال - ذلكم - جزاء ما كنتم تفرحرن في الأرض بغير ما يستحق الفرح، وتظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأَتباع والصحة وتنكرون البعث والتوحيد، وبما كنتم تبطرون وتأشرون (¬2) حتى نسيتم لذلك الآخرة، واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث: "الله تعالى يبغض البَذِخِينَ الفَرحين، ويحب كل قلب حزين" ذكره الآلوسي والقرطبى. والعدول في الآية إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ؛ لأن ذم المرء في وجهه أبلغ في التوبيخ. 76 - {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}: أي: ادخلوا أبواب جهنم مُقدَّرا لكم الخلود فيها، فبئس المنزل والمأْوى الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه. وكان مقتضى النظم الجليل حيث صُدِّر بلفظ (ادخلوا) أن يقال: فبئس مدخَلُ المتكبرين، ليتجاوب الصدر والعجز كما تقول: زرت بيت الله فنعم المزار، وصلِّ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية: 23. (¬2) البطر والأشر: قلة احتمال النعمة وعدم الشكر عليها.

في المسجد الحرام فنعم المصلى، وأجاب عن ذلك الآلوسي فقال: لما كان الدخول القيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى. وأجاب عن ذلك الزمخشرى في كشافه فقال: الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} المفردات: {حَقٌّ}: كائن لا محالة. {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}: أَي بعض الذي نعدهم من العذاب بالقتل أَو الأَسر لهم في حياتك، وجواب الشرط في (فإمَّا) تقديره: فذاك. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَي: نميتنك قبل ذلك، أي: قبل تعذيبهم. {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}: فإلينا وحدنا يرجعون يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم. {بِآيَةٍ}: بمعجزة. {أَمْرُ اللَّهِ} قال الطبرى: قضاؤه، وقال الزمخشرى: أمْر الله القيامة، وهما متقاربان. {بِالْحَقِّ}: بالعدل. {الْمُبْطِلُونَ}: أهل الباطل.

التفسير 77 - {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}: يأْمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه: فإن الله سينجز له ما وعده به من النصر والظفر على قومه، وجعل العاقبة له ولمن اتبعه في الدنيا والآخرة. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} به من العذاب في الدنيا فذاك، وذلك وقع, فإن الله قد أقر عينه من كبرائهم وعظمائهم، أبيد بعضهم يوم بدر، وأسر بعض آخر ثم فتح الله عليه مكة، سائر جزيرة العرب في حياته. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} (¬1) أَي: أَو نميتنَّك قبل ذلك، أَي: قبل أن تنتصر عليهم وننتقم منهم. {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أَي: فإلينا لا إلى غيرنا يرجعون يوم القيامة فنجازيهم على أعمالهم ونعذبهم أشد العذاب. فإن قيل: إن الله - تعالى - يعلم أَنه سينصره في حياته، فلماذا لم يصرح بنصره على القطع؟ فالجواب: أَن أهل مكة كانوا يتمنون موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسعون فيه، فالله رد عليهم بذلك مجاراة لهم ليفهمهم أن موت محمد لا يعفيهم من العذاب الموعود. 78 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}: في هذه الآية رد على قريش في طلبهم من الرسول آيات غير التي أَتاهم بها، فبينت أن مجىء الآيات في عهد جميع الرسل لله وحده، وخسر المعاندون. والمعنى: وقد أرسلنا رسلا كثيرين، ذوى شأن عظيم من قبل إرسالك، منهم من جئناك بأَخبارهم وأوحينا إليك قصصهم مع قومهم كيف كذبوهم، ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة وذلك كنوح وبراهيم وموسى - عليهم السلام -. ¬

_ (¬1) معطوف على نرينك داخل معه في حيز الشرط, ومؤكد مثله بنون التوكيد، وهو شبيه بالواجب، لوقوعه بعد إن الشرطية المدغمة في (ما) الزائدة، تقوية التأكيد، وليست نافية.

ومنهم من لم نقصصهم عليك وهم كثيرون , أخرج الإِمام أحمد عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم عدة الأنبياء؟ قال: "مائة أَلف وأَربعة وعشرون ألفًا، الرسل عن ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جما غفيرا". {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أن يأْتي بمعجزة إلا أَن يأْذن الله، فالمعجزات: وهي الآيات الدالات على صدق الرسل: على تشعب فنونها واختلاف أنواعا عطايا من الله - تعالى - قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم، ليس لهم اختيار في الإتيان بها، أو تحقيق المقترح منها؛ لأَن الرسل عباد مربوبون له - تعالى - لا يأْتون بشىء من تلقاء أنفسهم، أو خضوعًا لاقتراح قومهم. {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}: وهو قضاؤه بالعذاب في الدنيا أو الآخرة يوم القيامة {قُضِيَ بِالْحَقِّ} أَي: فصل بينهم بالعدل بإنجاء المحق وإِثابته وإِهلاك المبطل. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي: خسر المبطلون في هذا الوقت - وهو وقت مجىء أمر الله - والمراد بالمبطلين: أهل الباطل على الإطلاق المتمسكون به، فيدخل فيهم المفترون على الله والمعاندون والمقترحون للآيات دخولا أَوليا. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)} المفردات: {الْأَنْعَامَ}: الإِبل خاصة، وقيل: الإِبل والبقر والغنم والمعز. {حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}: أَمْرًا ذا بال تهتمون به.

{آيَاتِهِ}: دلائل قدرته ووحدانيته في الآفاق وفي أنفسكم. {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}: لا تقدرون على إنكار شيء منها إلا أن تعاندوا وتكابروا. التفسير 79 - {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}: المراد بالأنعام الإِبل خاصة , وعممها بعضهم لتشمل الإِبل والبقر، والغنم، والمعز. يقول الله - سبحانه - مُمتنًّا على عباده بما خلق لهم: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} أي: خلقها {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}: تفصيل لما دل عليه الكلام السابق إجمالا , وتعليل لجعلها وخلقها، أي: خلق لكم - سبحانه - الإبل وسائر الأنعام لتركبوا بعضها وتأْكلوا بعضها. 80 - {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}: ولكم فيها منافع كثيرة غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والأشعار والجلود. {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي: ولتبلغوا عليها أمرا ذا بال تهتمون به، وذلك كجر الأَثقال وحملها من بلد إلى بلد، وعلى الإبل التي هي نوع من الأَنعام في البر، وعلى السفن في البحر تُحْملون أنتم وأمتعتكم، والمراد من ركوبها والأكل منها والحمل عليها والمنافع الأُخرى تعلقها بالمجموع لا بالجميع، فليس كل واحد من الأنعام يجتمع فيه الركوب والأَكل والحمل وغيرها؛ لأن المراد أن هذه المنافع موزعة بينها، فمنها ما يجمع فيه المنافع كلها كالإبل ومنها ما يكون فيه بعضها كالغنم. 81 - {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}: ويريكم الله حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم، ودلائله على كمال شئونه وقدرته ووحدانيته، فأي آية من هذه الآيات الباهرات تنكرون حتى أشركتم به؟ فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكاره من له عقل، وأنتم لا تنكرون أن ذلك من فضل الله كل عباده، ولكنكم مع ذلك تعبدون غيره، وهو لا يقدر على خلق ذبابة. {فَأَيَّ} للاستفهام

التوبيخي، وإِضافة الآيات إلى الاسم الجليل بدل ضميره في قوله - تعالى -: {آيَاتِ اللَّهِ} لتربية المهابة، وتهويل إنكار آياته في صورة عبادتكم لغيره. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} المفردات: {آثَارًا فِي الْأَرْضِ}: قصورهم ومصانعهم فيها. {الْبَيِّنَاتِ}: المعجزات والشرائع الواضحات. {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا. {أحَاقَ}: أحاط أونزل. {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}: فلما عاينوا شدة عذابنا. {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنون {بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}: الأصنام وسائر آلهتهم الباطلة. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}: وهلك في مكان نزول العذاب الكافرون.

التفسير 82 - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: أَي: أقَعدوا فلم يسيروا في الأرض، فيروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ممن سبقهم من الأمم المكذبة للرسل منذ الأزمنة الماضية، وماذا حل بهم من العذاب الشديد والهلاك والتدمير، ولقد كانوا أكثر منهم عددا ومالا وأشد منهم قوة وبأْسًا وآثارًا في الأرض من قصور ومصانع فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، ولا رد عنهم من بأْسه وعذابه ما كسبوه من قوة وسلطان وما جمعوه من أموال. 83 - {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: فحين جاءَت هذه الأُمَم رسلُهُم بالشرائع والمعجزات والآيات الواضحات لم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا عليهم، بل فرحت هذه الأمم بما عندهم من علوم الدنيا واستهزأوا بعلم الله الذي جاء به الأنبياءُ، كما قال - تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬1) فنزل بهم من بأس الله ما لا قبل لهم به، وأحاط بهم العذاب الذي أَخبرهم به المرسلون وكانوا يستهزئون ويسخرون منه ويستبعدون وقوعه. وقيل: المراد بما عندهم من العلم: علم الفلاسفة الذي فرحوا به وأقبلوا عليه، وتركوا من أجله هدى السماء الذي جاء به الأنبياءُ، والزمان متشابه، فقد رأَينا في هذا الزمان من ترك وحى الله وشريعته فرحا بما أصاب من فضلات هؤُلاء الفلاسفة. 84 - {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}: فلما رأَت تلك الأُمم عقابنا الذي أوعدتهم به الرسل، وعاينوا عذابنا الشديد الذي نزل بهم قالوا: صدقنا بالله وحده، وأنكرنا الأصنام، وجحدنا الآلهة الباطلة التي كنا ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 7.

مشركين بسبب عبادتنا لها، وهكذا وحدوا الله - عز وجل - وأفردوه بالعبادة وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تُقَال العثرات ولا تنفع المعذرة. 85 - {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}: أَي: فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا الشديد، وخسر الكافرون وهلكوا وقت وقوع العذاب، والحكمة الإلهية قضت ألاَّ يقبل ذلك الإيمان؛ لأن الله سن سنة قد سبقت في عباده، ألا يقبل الإيمان حين نزول العذاب، ومثل هذا ما حدث لفرعون، فلقد حكى القرآن عنه أنه قال - حين أدركه الغرق -: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1) فرد الله عليه فقال: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (¬2) ولم يقبل الله من فرعون هذا الإيمان الذي اضطر إليه حين أَدركه الغرق، وتلك التوبة التي كانت حين حضره الموت, ومات كافرا مهانا، وأمضى الله فيه سنته، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ¬

_ (¬1) سورة يونس، من الآية 90. (¬2) سورة يونس الآية، 91 وبعض الآية 92.

سورة فصلت

سورة فصِّلت مكية، وآياتها أربع وخمسون، نزلت بعد غافر، وتسمى سورة السجدة، وسورة حم السجدة، وسورة الأَقوات. مناسبتها لما قبلها: ذكر - سبحانه وتعالى - في سورة (غافر): {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... } الآية 82 وكان ذلك متضمنًا تهديدًا وتقريعًا لقريش، وذكر - جل شأْنه - هنا في سورة فصلت تهديدًا وتقريعًا لهم، وخصهم بالخطاب في قوله تعالى -: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ... } الآية 13 ثم بين - سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله - تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا ... } إلخ الآية. وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر كذكر قصص بعض الأنبياء، والدعوة إلى التوحيد، وبيان عاقبة المخالفين. مقاصد السورة: بدئت السورة الكريمة ببعض حروف المعجم كما في بعض سور القرآن الكريم، ولقد أشادت السورة في أكثر من موضع بسمو القرآن: ورفعة شأْنه, وما جاءَ به من تبشير وإِنذار، ثم ذكرت موقف المشركين من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما أظهروه من تعنت معه وشدة إعراضهم عنه، واستهزائهم به، ومحاربة دعوته، ومجابهته بالزور والأَباطيل، وموقف الرسول منهم، وثقته بالله، وثباته على دعوتهم إلى التوحيد والاستقامه، ثم تمضى السورة في تذكير المشركين بآيات الله في خلق السموات والأرض، وتنذرهم بما حدث لأَقرب الأُمم إلى منازلهم وهم عاد وثمود، وما نزل بهم من عذاب، وتخوفهم بذكر بعض مشاهد يوم القيامة، يوم تشهد عليهم أعضاؤهم بما اقترفوا من سيئات، وما يكون بينهم وبين هذه الأعضاء من مجادلة ومحاجة، وما يدعو به الأتباع ربهم في هذا اليوم العظيم:

{رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (¬1) ثم تتحدث عن المؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وما أُعد لهم، وتعقد الموازنة بين الخير والشر, وتبين أثر الكلمة الطيبة والأخلاق الحسنة في النفوس: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬2). ثم تمضى السورة الكريمة تلفت الأَنظار إلى قدرة الله على البعث وإحياء الموتى، وتنذر الملحدين في آيات الله وهم لا يخفون عليه فقد وسع علمه كل شيءٍ، وتبين أن الذين كفروا بالقرآن من غير تدبر لآياته سيكون لهم العذاب الشديد والعقاب الأليم. والسورة تذكر الرسول بأن ما يقال له من أعدائه قد قيل للرسل من قبله من أعدائهم، فصبروا وصمدوا، وبلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، وتبين أن ربك لذو مغفرة لمن يجيب، داعى الله، وذو عقاب شديد لمن تمرد ولم يلب النداء، ثم يبين الحق - جل جلاله - أنه لو جعل القرآن أعجمِيا، كما اقترح ذلك بعض المتعنتين والمكابرين، لقالوا معترضين منكرين: هلا نزل بلغة نفهمها ولسان نعرفه؟ ويأمر الرسول بأن يقول ردا عليهم: {هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}. ثم تذكر السورة صورًا من طبائع الإنسان وأُسلوب سلوكه. {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُودُعَاءٍ عَرِيضٍ} وتختم السورة بمثل ما بدئت به من التنويه بالقرآن الكريم، وأن الله سَيُظْهِر بحججه وآياته في الآفاق وفي أنفس الناس - سيظهر - أنه الحق الذي لا ريب فيه. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} وتوضح أن ما حدث من الكافرين من إنكارهم للرسالات سببه أنهم في شك من لقاءِ ربهم. {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}. ¬

_ (¬1) سورة فصلت, من الآية: 29. (¬2) سورة فصلت, الآية: 34.

بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} المفردات: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}: بُيِّنت ومُيَّزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}: مقروءًا باللسان العربى. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: يعلمون ما فيه، لكونه بلسانهم. {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ}: انصرف واستكبر أكثرهم على الإصغاء إليه وهم كفار قريش. {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: سماع قبول. {أَكِنَّةٍ}: أغطية متكاثفة، جمع كِنَان كَغِطاء وزْنًا ومعْنًى. {وَقْرٌ}: صمم، وأصله: الثقل. {حِجَابٌ}: ساتر مانع عن الإجابة. التفسير 1 - (حم). قال السلف: في مثل هذه الحروف: الله أعلم بمراده، وقيل: اسم للسورة أو للقرآن، وقيل: حرفان مسرودان من حروف المعجم بُدِئَت بهما السورة كنهج القرآن وطريقته في

افتتاح بعض سوره بذلك, لبثِّ الانتباه، وللتدليل على إعجاز القرآن بأنه مؤلف من كلمات ذات حروف مما تنظمون منه كلامكم، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله، ومحمد مثلكم، وذلك دليل على أنه من عند الله , وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحروف موسعًا في أول سورتي البقرة وآل عمران فارجع إليه إن شئت. 2 - {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: أَي: هذا القرآن الكريم منزل من الله الرحمن الرحيم، وإضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم من بين أَسمائه - تعالى - الإيذان بأن ما فيه من تشريع وخير للبشرية ومصالح دينية ودنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية. 3 - {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: أي: القرآن كتاب ميزت آياته، لفظًا بفواصلها ومقاطعها، وأوائل السور وخواتمها، ومُيِّزتْ معنًى بما فيها من وعد ووعيد، وشرائع وعقائد، وقصص وأخلاق وعلوم. ومن أنصف عَلِمَ أنه ليسَ في الكتب كتاب اجتمع فيه من العلوم والمعارف المتنوعة مثل ما في القرآن وقال سفيان: فصلت بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أَولا أعم، ولعل ما ذكره من باب التمثيل لا الحصر وقيل: {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} في التنزيل، أَي: لم ينزل جملة واحدة، وقرىءَ (فَصَلَتْ) بفتح الفاء والصاد مخففة، أَي: فرقت بين الحق والباطل. وقال ابن زيد: فصلت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من خالفه. {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَي: مقرؤًا باللسان العربي، وفيه امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم. {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَي: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه، ولو كان غير عربي لما علموه. 4 - {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} صفتان لقوله: {قُرْآنًا} أَي: تارة يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أَن لهم أَجرًا حسنًا، وتارة ينذر الكافرين والمخالفين بما أعد لهم من عذاب أليم وعقاب شديد،

{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} أَي: انصرفوا عن تدبره وقبوله، والإصغاء إليه واتباعه، فلم ينتفعوا به {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} القرآن سماع تدبر وإمعان، وقد جُعلوا لإعراضهم عنه غير سامعين له على سبيل المجاز. 5 - {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}: وقال الكافرون لرسول الله: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أَي: قلوبنا في أغطية متكاثفة لا ينفذ إِليها شيء مما تدعوننا إليه من الإيمان باللهِ وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأَوثان {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أَي: وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تعرضه علينا. {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أَي: ومن بيننا وبينك حجاب منيع وساتر غليظ، يمنعنا من قبول ما جئتنا به، ومن التواصل بيننا وبينك، وهو الخلاف في الدين , لأنهم يعبدون الأصنام، وهو يعبد الله - عز وجل -. و (مِنْ) في قوله - تعالى -: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} للدلالة على أن الحجاب مبتدىء من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق فراغ أَصلا. قال الآلوسي: وما حكاه الله عنهم في الجمل الثلاث: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله , وطرد أسماعهم له، وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وذكر أبو حيان: أنه لما كان القلب محل المعرفة، والسمع والبصر معينين على تحصيل المعارف، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها شيء مما يدعو إليه الرسول {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أَي: فَاعمل على دينك، أو في إِبطال أَمرنا، إِننا عاملون على ديننا , أو عاملون في إبطال أَمرك، والكلام على الأَول متاركة وتقنيط عن اتباعه، وعلى الثاني مبارزة بالخلاف والتحدِّى.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)} المفردات: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ}: فاسلكوا إليه الطريق المستقيم بالتوحيد. {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}: لا يؤدون الزكاة المفروضة إلى مستحقيها، وقيل: المراد بالزكاة: المعنى اللغوى، أَي: لا يفعلون ما يزكى أنفسهم ويطهرها وهو الإيمان والطاعة. {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: غير مقطوع ولا منقوص. التفسير 6 - {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}: أَي: قل - يا محمَّد - لهؤلاءِ المشركين المكذبين: ما أنا إلا بشر مثلكم، لست ملكًا ولا جنيا لا يمكن التلقى منه، والفهم عنه، ومعرفة ما يدعو إليه، ولا أَدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول السليمة، وترفضه النفوس القويمة، وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي جاءت به كل الأديان , ودعت إليه كل رسالات السماء، ودلت عليه دلائل العقل، فاستقيموا إليه بالتوحيد وإِخلاص العبادة, ولا تتمسكوا بِعُرَى الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} بل اسلكوا في الوصول إليه الطريق القويم، واطلبوا منه المغفرة لما سلف

منكم من القول والعمل، كالشرك بالله - عز وجل - {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: وعذاب أليم وهلاك شديد للمشركين لشركهم وعدم استقامتهم وتوبتهم. 7 - {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}: قال ابن كثير: قال علي بن أَبي طلحة: عن ابن عباس: يعني الذين لا يشهدون أَن لا إِله إلاَّ الله، وكذا قال عكرمة، وهذا كقوله - تعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬1) وكقوله - سبحانه -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬2) والمراد بالزكاة هنا: طهارة النفس من الشرك والأخلاق الذميمة. وقال السدى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَي: لا يؤدون الزكاة المعروفة، وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير، وإن اعترض على هذا الرأى بأَن إيجاب الزكاه كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة - كما ذكره غير واحد - وهذه الآية مكية، فقد أجيب عن ذلك بأَن إطلاق اسم الزكاة على طائفة مُخْرَجَةٍ من المال على وجه مخصوص كان شائعًا ومأمورًا به في ابتداء البعثة, قال - تعالى -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3) فأَما الزكاة المعروفة ذات النصاب والمقادير المخصوصة فإِنما بُيِّن أمرها بالمدينة. اهـ: ابن كثير بتصرف. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} الجملة حال مشعرة بأَن امتناعهم عن الزكاة وبخلهم بها، لإنكارهم للآخرة واستغراقهم في الدنيا، وإنما خُص منع الزكاة مقرونًا بالكفر بالآخرة من بين أوصاف المشركين، لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته، وصدق نيته وصفاء طويته، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (¬4). أي: يثبتون ويدللون على ثباتها على الإيمان بإنفاق الأموال، وفي هذا حث للمسلمين على إخراج الزكاة، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين، وقرن بالكفر بالآخرة. ¬

_ (¬1) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10. (¬2) سورة الأعلى، الآيتان: 14، 15. (¬3) سورة الأنعام - وهي مكية - من الآية: 141. (¬4) سورة البقرة، من الآية: 265.

8 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}: لما ذكر ما ينال المشركين بقوله - تعالى -: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} إلخ. ذكر ما ينال المؤمنين المخلصين ومعناه: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاء حسن, وأجر غير مقطوع ولا منقوص، قال ابن عباس: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير مقطوع , مأْخوذ من: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته، وعنه أيضا وعن مقاتل: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غير منقوص وهذان الرأَيان متقاربان في المعنى المراد. ولذ اخترناهما في تفسير قوله - تعالى - {غَيْرُ مَمْنُونٍ}. والآية الكريمة - كما روى عن السدى - نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأَجر - في المرض والهرم - مثل الذي يكتب لهم وهم أَصحاء شبان ولا تنتقص أُجورهم، وذلك من عظم كرم الله ورحمته، نسأَله - سبحانه - أَن يتغمدنا برحمته إِنه نعم المولى ونعم النصير. {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} المفردات: {فِي يَوْمَيْنِ}: من أيام الله، لا من أيامنا. {أَنْدَادًا}: جمع نِدّ، وهو الكفء والنظير. {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} وجعل فيها جبالا ثوابت. {وَبَارَكَ فِيهَا}: أكثر خيرها وزاده.

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}: قسم فيها أَرزاق أَهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقيل غير ذلك، وسيأْتى لذلك مزيد بيان في الشرح. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}: في أربعة أيام كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة. التفسير تمهيد: بين الله - سبحانه - في الآيات السابقة أَن رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا بشرًا كسائر البشر. أُوحى إِليهِ من ربه: أَن إلههم إله واحد، وأَمرهم أَن يستقيموا في عبادته ويستغفروه عما فرط منهم من المعاصي والسيئات، وهدد بالويل والثبور أولئك المشركين الضالين الذين لا يزكون أنفسهم, ولا يطهرونها بالإيمان بشريعة الله، وهم يكفرون بالآخرة وما فيها من جنة ونار وثواب وعقاب، كما بين - جل شأْنه - أَن للمؤمنين الصالحين أَجرًا دائمًا، وثوابًا عظيمًا غير مقطوع، وبعد أَن بين ذلك قال - سبحانه - في تخطئة من كفر به: 9 - {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ... }: قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن المراد من اليوم في الآية ما تعارف عليه الناس, من أنه من الفجر إلى غروب الشمس , أو من شروقها إلى غروبها، أو مجموع النهار والليل. ولكن هذا الذي يتبادر إلى بعض الأَذهان غير صحيح , فقبل خلق الأَرض لم يكن الليل والنهار موجودين، فإنهما نشآ بعد وجود الأَرض ودورانها حول محورها وحول الشمس, على أَن النهار والليل بنظامهما في أرضنا ليس موجودا في كوكب آخر، فلو أنك ذهبت إلى القمر أو إلى أَي كوكب غيره لوجدت الليل والنهار يختلفان عن نظامهما في أَرضنا هذه. إذا عرفت هذا فاعلم أَن اليومين اللذين خلق الله فيهما ذات الأَرض وجسمها من أيام الله - تعالى - وأيامه - جل وعلا - تختلف في شئونه، فمرة يكون اليوم ألف سنة، قال - تعالى -: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ

سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬1) وكقوله - تعالى -: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬2) ومرة يكون قداره خمسين ألف سنة، كقوله تعالى -: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (¬3) وقد يكون أكثر من ذلك. وحيث كان الأَمر كذلك فالأيام التي خلق الله فيها الأَرض والسموات لا نستطيع تقدير اليوم فيها بألف سنة، أو بخمسين ألف سنة، أو بأَكثر من ذلك حسب سنة التطوير التي أرادها الله في تكوينها، وحيث أَمسك القرآن والسنة عن بيان مقدار اليوم في خلقهما، فعلينا أَن نمسك عن الحدس والتخمين فيه. ولفظ (إنَّ) في (أَئِنَّكُمْ) لتأْكيد الإِنكار، وقدمت عليها همزة الاستفهام الإِنكارى لأَن لها الصدارة، أو الإِشعار بأَن كفرهم المؤكد من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه مع وجود هذه الآيات المقتضية لعميق الإيمان. والمعنى: قل أَيها الرسول منكرا على المشركين أشد الإِنكار، ومشعرا بأَن كفرهم مع هذه الآيات لا يعقل، قل لهم: لماذا تكفرون بالذي خلق الأَرض في يومين، وتلحدون في ذاته وصفاته، حيث جعلتم له أندادا وشركاء عبدتموهم معه - تعالى - مع أنهم لا شأْن لهم في خلقها؟! واعلم أَن المراد بالأرض الأرضون السبع، كما جاء في قوله - تعالى -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (¬4) {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَي: ذلك العظيم الذي فعل كل ذكر هو رب العالمين، وخالق ما كان وما يكون، إنه هو الذي يَمُدُّ كل مخلوق بأسباب حياته وبقائه، ويمنحه مقومات وجوده بيسر وسهولة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة السجدة، الآية: 5. (¬2) سورة الحج، من الآية: 47. (¬3) سورة المعارج، الآية: 4. (¬4) سورة الطلاق، من الآية: 12. (¬5) سورة يس الآية: 82. وكان ابن عباس يرى أَن الأرضين الست الأخرى فيها مكلفون مثلنا في أرضنا هذه.

10 - {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ... } الآية: أَي: أنه - جل شأْنه - أَوجد في الأَرض جبالا ثوابت حتى لا تضطرب ولا تميد، ليمشى الناس فيها ويترددوا في أمر معاشهم، ويحصلوا أَرزاقهم، ويعمروا تلك الأَرض تحقيقًا لقوله - تعالى -: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (¬1) {وَبَارَكَ فِيهَا} أَي: وكَثَّر في الأرض خبرها، فأجرى فيها عذب الماء، فتنبت الزرع والأشجار، قال - تعالى -: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (¬2). ويسقى الله منه أَنعامًا وأَناسىَّ كثيرا، وأَوجد فيها - سبحانه - البحار نأْكل منها لحما طريا: السمك بأَنواعه وأَشكاله وطعومه، ونستخرج منها حلية نلبسها ونتزين بها: كاللآلئ والمرجان، ونمخر عبابها بالسفن الجوارى التي تنقل الناس من بلد إلى آخر يبتغون من فضل الله رزقا حلالًا طيبا، فيتبادل الناس المنافع والخيرات {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أَي: قدر - سبحانه - أَن يوجد من الأنواع المختلفة ما يناسب كل إقليم وبلد، وخص أماكن بأنواع من النبات والثمرات والمعادن التي تدخل في الصناعات، وجعل بعضا آخر من تلد النعم في بقاع أُخرى ليكون كلٌّ في حاجة إلى غيره فتعمر الأرض، ويتعارف الناس، ولله در القائل: الناسُ للناس من بَدْوٍ وحاضرة ... بعضٌ لبعض وإن لم يَشْعُرُوا خَدَمٌ {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} قد يخطر على الذهن أنه - تعالى - جعل في الأرض رواسى وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في زمن مقداره أربعة أَيام، وهذا خطأٌ لأَنه يترتب عليه أَن الله خلق الأرض وما عليها في ستة أيام: يومين لخلق ذات الأرض وأَربعة أَيام لخلق ما عليها. ووجه الخطأ في ذلك أن الله - تعالى - خلق السموات والأَرض وما بينهما في ستة أيام، (¬3) فوجب تأْويل الآية ليبقى يومان من السِّتَّة لخلق السموات، وذلك بتقدير مضاف، أَي: ¬

_ (¬1) سورة هود من الآية: 61. (¬2) سورة النحل من الآية: 11. (¬3) قال - تعالى - في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... } الخ الآية الرابعة.

في تتمة أَربعة أَيام، بأن جعلها في يومين آخرين غير اليومين الأولين، فتم أَربعة أَيام، وأولها الزمخشرى تأْويلا جميلا، فجعل {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} خبرا لمبتدأ مقدر، أَي: كل ذلك من خلق الأَرض وما بعده كائن في أَربعة أَيام. وجاء قوله - تعالى -: {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} بعد ما تقدم ليفيد أَن الأيام الأربعة متساوية وكاملة لا نقص فيها، وأن هذا جواب للسائلين عن الأَيام التي خلقت فيها الأَرض، وجعلت صالحة للمعاش، وقوله: {لِلسَّائِلِين} خبر لمبتدأ تقديره: هذا الحصر في الأَيام الأربعة كائن للسائلين. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} المفردات: {ثُمَّ اسْتَوَى}: ثم قصد. {فَقَضَاهُنَّ}: فخلقهن وأَتقن أَمرهن. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}: وخلق في كل منها ما أعد لها. التفسير 11 - {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}:

أَي: ثم اقتضت حكمته أَن يخلق السماء بعد خلق الأَرض وهو - سبحانه - لا يشغله شأن عن شأن فعمد إلى خلقها وقصد تسويتها ونقلها من الدخان إلى الكثافة. وهذا الدخان هو الذي يعبر عنه العلمانيون بالغاز، وكان الله قد خلقه ليكون أساسا لخلقها. {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَي: جيئا بعد أَن خلقتكما بما خلقت فيكما من النافع والصالح وأظهراه وأخرجاه لخلقى كى ينتفعوا به. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال الله - تعالى - للسماء: أطلعى شَمْسَك وقمرَك وكواكبك، وأجرى رياحك وسحابك، وقال للأرض: شقى أنهارك وأخرجى شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين. {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَي: امتثلنا أمرك طائعين. وجمهور المفسرين يرى أَن أمر الله صدر للسماء والأرض بعد خلقهما، وفي قوله - تعالى -: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وجهان، أحدهما: أنه قول تكلم به الله - سبحانه وتعالى - والثانى: أنه تمثيل لتحتم تأْثير قدرته - تعالى - فيهما، واستحالة امتناعهما عن ذلك، لا إثبات الطوع والكره لهما. وقيل في قوله - تعالى - حكايته عن إجابة الأَرض والسماء: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} إن الله - تعالى - خلق الكلام في الأَرض والسماء فتكلمتا كما أراد الله، وقيل: لم يحدث منهما كلام، وإنما هذا كناية عن الطاعة والإذعان والامتثال وهو الظاهر. وقال - سبحانه -: {طَائِعِينَ} بجمع المذكر العاقل, ولم يقل: طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى باعتبار أنهما سموات وأرضون؛ لأن الله أخبر عنهما وعمن فيهما من الذكور العقلاء فغلَّب جانبهم، وقيل: لما وصفهن بالقول والإجابة، وذلك من صفات من يعقل أجراهما مجرى العقلاء في التعبير عنهما، ومثله قوله - تعالى - حكايته عن رؤيا يوسف - عليه السلام - لسجود الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر له {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (¬1) مع أَن الضمير في {رَأَيْتُهُمْ} ضمير جماعة العقلاء، وقد عاد إلى الشمس والقمر والكواكب وهي غير عاقلة. ¬

_ (¬1) سورة يوسف من الآية: 4.

وقيل: معنى الأمر في قوله - تعالى -: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} هو الإيجاد، أو كونا كما أردنا وقدرنا فكانتا، وعلى هذا الرأى يكون الأمر للسموات والأرض قبل خلقهما. 12 - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}: أَي: خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في يومين من أَيام الله {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أَي: خلق - سبحانه - في كل منها ما اقتضت حكمته أَن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما يعرفه البشر وما لا يعرفونه، وقال قتادة والسدى: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وخلق في كل سماء خَلْقها من الملائكة والخلق الذي فيها .. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} أَي: جمَّل السماء الأُولى القريبة منا وحسنها بكواكب تضىء وهي النيرات التي خلقها الله زينة لها، وخص كل واحد منها بضوء معين وسر مصون وطبيعة خاصة لا يعرفها ولا يعلمها إلا الله. {وَحِفْظًا}: أَي وحفظنا السماء حفظا من أَن ينالها تلف أو يصيبها ضعف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أَي: ما تقدم من خلق الأَرض وما فيها في الأيام الأربعة، وخلق السماء وما حوت وضمت في يومين هو صنع العظيم القدرة الكامل العلم. وما أحسن هذه الخاتمة وهذا التذييل لتلك الآيات فهذه الأعمال العظيمة لا تحصل ولا تتم إلا بقدرة كاملة وعلم محيط. وللآثار التي ظاهرها التعارض اختلف في أَمر التقدم والتأخر في خلق كل من السموات وما فيها والأرض وما فيها - أيهما أسبق خلقا - فذهب بعض العلماء إلى تقدم خلق السموات وما فيها على خلق الأَرض وما فيها مستدلين بظاهر قوله - تعالى -: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} (¬1) أَي: دحا الأَرض بعد أَن سمك السماء ورفعها وسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. وذهب فريق آخر: ¬

_ (¬1) سورة النازعات الآيات: من 27 إلى 33.

إلى أَن الأَرض وما فيها خلقت قبل السماء وما فيها مستدلا بهذه الآيات التي نحن بصددها وبقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬1): والظاهر - والله أعلم - أَن الله - جلت قدرته - خاق ذات الأَرض أولًا قبل خلق السماء، ثم خلق السموات بعد ذلك، ثم أوجد الأشياء التي على الأَرض من جبال وغيرها، إذ لا يتصور حدوث العمران والحياة بصورها وأشكالها قبل خلق السموات وهذا واضح من قوله - تعالى -: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)} إلخ, وهذا هو الجواب الذي أجاب به ابن عباس، فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد ابن جبير قال: "جاء رجل إلى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فقال: رأيت أَشياء تختلف علي في القرآن، قال: هات ما اختلف عليك من ذلك، فقال: الله - تعالى - يقول: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} حتى بلغ {طَائِعِينَ} فبدأ بخلق الأَرض في هذه الآية قبل خلق السماء، ثم قال - سبحانه - في الآية الأُخرى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فبدأ - جل شأْنه - بخلق السماء قبل خلق الأَرض، فقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أما خلق الأَرض في يومين، فإن الأَرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا، فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأَرض، وأما قوله - تعالى -: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فيقول: جعل فيها جبالا وجعل فيها أنهارا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا، قال الخفاجى تعليقًا على ذلك: يعنى أَن قوله - تعالى -: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه، فيكون تأَخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأَخر ذاتها، بل بمعنى تأَخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه لينتفع به أهلها .. اهـ: بتصرف يسير. والواقع أَن السموات والأرض كانتا دخانا "وهو ما يعبر عنه العلم الحديث بالغاز" وأن الله - تعالى - خلق الأَرض والسماء من هذا الدخان بالكيفية الحكيمة التي أتقنها تدبيره وفي ذلك يقول الله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 29. (¬2) سورة الأنبياء من الآية: 30.

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)} المفردات: {أَعْرَضُوا}: ولَّوا وانصرفوا. {صَاعِقَةِ}: كتلة نارية محرقة. التفسير 13 - {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬1): أَي: فإن تولوا وانصرفوا عن الإيمان بوحدانية الله، وبما جئت به بعد ما تلوت وقرأت عليهم من الأَدلة والحجج الناطقة بوحدانية الله وقدرته، - إن أَعرضوا بعد ذلك - فحذرهم وخوفهم صاعقة تصعقهم وتهلكهم كصاعقة عاد قوم هود, وثمود قوم صالح، وخص هؤُلاء بالذكر لأن قريشا كانت تعلم أحوالهم، وتعرف بلادهم في اليمن والحِجْر, مصداق ذلك قوله - تعالى -: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} (¬2). 14 - {إذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أَي: أخذتهم الصاعقة والعذاب الشديد وقت مجىء الرسل لهم وتكذيبم إياهم، والرسل - عليهم السلام - لم يأْلوا جهدا ويقصروا في هدايتهم وإِرشادهم، بل بذلوا غاية الوسع ¬

_ (¬1) أي: أنذرتكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوع المنذر به. (¬2) سورة العنكبوت من الآية: 38.

وأتوهم {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أَي: من كل جانب واتخذوا فيهم كل حيلة ليثنوهم عن غيهم وضلالهم، ويدلوهم على الصراط المستقيم، ويدعوهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أَي يفردوه بالعبادة والطاعة، ولا يشركوا به أحدا، ومع ذلك لم ير الرسل منهم إلا العتو والإعراض. وعن الحسن: أَنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأُمم وعذاب الآخرة؛ لأَنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاءوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي، وما جرى فيه على الكفار، ومن جهه المستقبل وما سيجرى فيه عليهم. {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} أَي: قال الكفار: لو أَراد ربنا إرسال الرسل لأَنزل ملائكه تدعونا إلى عبادته، لذا {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أَي: فإذا كنتم بشرا مثلنا ولستم ملائكة فإنا لا نؤمن بكم ولا بما جئتم يه، ونسى هؤُلاء الكفار أَن الله لو أنزل ملائكة لجعلهم على صورة البشر حتى يأْلفهم الناس، إذ لا يطيقون رؤية الملائكة في صورهم الحقيقية، وحينئذ يلتبس الأمر عليهم، قال - تعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (¬1). وقولهم {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}) ليس إقرارا ولا اعترافًا منهم بإرسال الرسل وإنما هو من قبيل السخرية والتهكم, نظيره ما قاله فرعون في شأْن موسى - عليه السلام -: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (¬2). أَخرج البيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمَّد فلولا التمستم رجلًا عالما بالسحر والكهانة والشعر فَكَلَّمهُ ثم أَتانا ببيان عن أمره؟ قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علمًا، ولا يخفى عليّ إن كان كذلك. فأتاه فقال له يا محمد: أَأَنت خير أَم هاشم؟ أَأَنت خير أَم عبد المطلب؟ فلم يجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فيم تشتم آلهتنا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام الآية: 9. (¬2) سورة الشعراء الآية: 27.

وتضلل آبائنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا أَلويتنَا لك، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغنى به أنت وعقبك من بعدك، وإِن كان بك الباءة (¬1) زوجناك عشر نسوة تختارهُنَّ من أَي بنات قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال - صلى الله عليه وسلم - بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فقرأ حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسك عقبة على فيه - صلى الله عليه وسلم - فأنشده الرحم أَن يكف عنه، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش، ما أرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذلك إلا من حاجة أَصابته، انتقلوا بنا إليه، فأَتوه فقال أبو جهل: ما حسبنا إلا أَنك صبوت إلى محمَّد وأَعجبك أَمره، فإن كنت في حاجة جمعنا لك ما يغنيك عن محمد، فغضب وأَقسم بالله - تعالى - لا يكلم محمدا أَبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالًا، ولكنى أتيتيه وقص عليهم القصة: فأصابنى بشىء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة قرأ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حتى {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف، وقد علمتم أَن محمدا إذا قال شيئًا لم يكذب فخفت أَن ينزل بكم العذاب. {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} ¬

_ (¬1) الرغبة في النكاح والتزوج.

المفردات: {فَاسْتَكْبَرُوا}: فتعظموا وتعالوا. {يَجْحَدُونَ}: ينكرون مع علمهم أَنه الحق: {رِيحًا صَرْصَرًا}: شديدة الحرارة من الصَّر - بفتح الصاد - بمعنى الحر، وقيل غير ذلك: وسيأْتى مزيد بيان في التفسير. {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ}: في أَيام مشئومات عليهم؛ لأَنهم عذبوا فيها. التفسير 15 - {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .... } الآية: شروع في تفصيل ما أَعده الله - تعالى - لكل واحدة من الطائفتين من النكال والعذاب بعد أَن أجمله - سبحانه - في قوله تعالى: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} وبدأ الله - جل شأنه - بقصة عاد لأَنهم أَقدم زمانا، أَي: فأَما عاد فتعالوا على من سواهم وتعظموا في الأَرض التي لا ينبغي لأحد أَن يتعظم فيها، "فكلكم لآدم وآدم من تراب" كما أَن نعم الدنيا لا تدوم ولا تثبت على حال {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) بالإضافة إلى أَن ما لدى الناس من صحة ومال وقوة إنما هو منحة الله وعطاوُه يؤْتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فتعظُّمهم واستكبارُهم حقيق أَن يقول الله عنه: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقيل: تعظموا عن امتثال أَمر الله - جل شأْنه - وعن قبول ماجاءتهم به الرسل ولم يقفوا عند هذا الحد، بل دفعهم غرورهم بقوتهم وزَهْوهم بها إلى ما يوحى وينبىء بتماديهم في صلفهم {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} استنكروا بقولهم هذا، ورأوا أَن ما هم عليه من شدة جدير أَن يجعلهم يتعظمون على من سواهم. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}: أَي: أَغفل هؤلاء ولم يعلموا أَن الله الذي خلقهم وبرأَهم من العدم هو - سبحانه - أَشد منهم قوة، إذ ليس لديهم قدرة ذاتية من أَنفسهم، وأما ما لديهم من قدرة فإِنما هو بإقدار الله لهم يمنحهم إياها أَو يمنعهم، فالله أَقدر منهم ومن كل من عداهم، وانتهى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية: 140.

الأَمر بهؤلاء أَنهم أَنكروا دلائل قدرة الله ومعجزاته في كونه، والتي أَظهرها - سبحانه - على أَيدي رسله. 16 - {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}: أَي: سلطنا عليهم ريحا شديدة الحرارة، من الصَّر - بفتح الصاد - بمعنى الحر، وقال ابن عباس وغيره: باردة تهلك بشدة بزدها، من الصِّرِّ - بكسرها - وهو البرد الذي يَصِرُّ أَي: يجمع ظاهر الجلد ويقبضه، وقال السدى وغيره: مُصَوِّتةً، من صر يصِر إذا صوَّت. وروى أنها كانت تحمل العير بأَثْقالها وأحمالها فترميهم بالبحر. {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} وهي التي جاء ذكرها وبيانها في قوله - تعالى -: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} (¬1) أَي: في أَيام مشئومات لأنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصه، فيقال له: يوم سعد بالنسبة لمن تناله النعماء. ويقال له: يوم نحس بالنظر لمن تصيبه الضراء. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - الأيام كلها لله - تعالى - خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ليجرعهم فيها غصص هذا العذاب الذي يصيبهم بالخزى والذل والندم والهلاك، فيجمع الله عليهم عذاب البدن مع آلام النفس وتحسرها وندمها، ولات ساعة مندم {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} أَي: وللعذاب الذي ينالونه ويحيق بهم في الآخرة أشد خِزْيا وذلًّا، إذ يكون على رءوس الأَشهاد، مع كونه شديد الإيلام. {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} ¬

_ (¬1) سورة الحاقة الآيتان: 6، 7.

المفردات: {فَهَدَيْنَاهُمْ}: فدللناهم وبينا لهم طريق الضلالة والرشد. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}: فآثروا ومالوا إلي الضلال وتركوا الطريق المستقيم. {صَاعِقَةُ}: نار تنزل من السحاب في رعد شديد ولا تصيب شيئًا إِلا أَحرقته. {الْهُونِ}: الهوان المخزى المذل المهين. التفسير بعد أَن فصل عذاب عاد قوم هود أتى ببيان عذاب بعض الذين شاركوهم في العصيان وتكذيب الرسل، وهم ثمود قوم صالح فقال: 17 - {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ... } الآية: أَي: وأَما ثمود فقد أوضحنا لهم على لسان رسولهم طريق الرشاد ودعوناهم إليه، وأَظهرنا لهم الآيات الكونية، وأَزلنا عن طريقهم كل ما يمنعهم من التبصر والإدراك، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أَي: فآثروا واختاروا الضلالة على الهداية بمحض إرادتهم دون إكراه منه - سبحانه - على فعل ما يفعلون، {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فأَخذتهم واستأْصلتهم داهية العذاب الذي يضيف إلى إيلامه الخزى والذل والمهانة لهم، وقد عاقبهم الله بهذا العذاب جزاء ما اقترفوه من عقر الناقة التي أُمروا بتركها تأْكل في أَرض الله ونهوا عن أَن يمسوها بسوءٍ، فضلا عما اكتسبوه من قبيح الذنب وفاحش الاعتقاد. 18 - {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: أَي: أنقذنا الذين آمنوا بربهم وبما جاء به رسولهم صالح - عليه السلام -، واتقوا الله فأطاعوه، وابتعدوا عن المعاصي فلم يقترفوها، نَجَّاهم وميزهم عن الكفار، فلم يُنِزل بهم ما أَنزله بهؤلاء الذين أَجرموا من عذاب وعقاب، بل جعلهم ربهم في نجوة ومكانة رفيعة لا ينالهم فيها هوان.

وهذه الآية تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعد له بأَن الله سيفعل بمؤمنى قومه وكافريهم ما فعله بهؤلاء، فينجى مؤمنيهم ويهلك كافريهم إن ظلوا على كفرهم. {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} المفردات: {يُوزَعُونَ}: يحبس أَولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وقيل: يساقون ويدفعون إلى جهنم. التفسير 19 - {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ ... } الآية: هذا شروع في بيان عقوبة عاد وثمود في الدار الآخرة بعد أَن بين - سبحانه - عقوبتهم في الدنيا، أَي: واذكر يا - محمَّد - يوم يجمع الله من القبور أَعداءَه الذين جحدوا به، وأشركوا معه سواه، وكذبوا رسله، وآذوهم واضطهدوا من آمن بهم، ونالوهم بأَلوان العذاب، اذكر لقومك أيها الرسول - يوم يجمع الله أعداءَه هؤلاء للجزاء. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَي: يحبس ويمنع أَولهم عن السير والمشى، فيبقى في مكانه لا يغادره حتى يأْتي آخرهم، فيجتمعوا في صعيد واحد، ليدخلوا جهنم مجتمعين، أو معناه: أنه - سبحانه - يسوقهم ويدفعهم إلى النار في إذلال وإهانة لهم بعد حسابهم.

والقائمون بذلك هم الملائكة بأمر الله كما يظهر من قوله - تعالى -: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬1). 20 - {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أَي: حتى إذا ما قربوا منها في ساحة الحساب وسئلوا عن آثامهم وذنوبهم فأنكروا حصول ذلك منهم، عندئذ تشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بالذي كانوا يعملونه ويحدثونه من الجرائم والآثام في الدنيا، والمراد من الجلود هنا هو ظاهر البشرة , ولفظ (مَا) في قوله - تعالى -: {إِذَا مَا جَاءُوهَا} لتوكيد مجيئهم (¬2) وأنه لا بد أَن تحصل تلك بشهادة من الأَسماع والأبصار والجلود عليهم. 21 - {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا .... } الآية: وسأَلوا جلودهم سؤال إنكار وتقريع وتوبيخ: ما حملكم على أَن تشهدوا علينا؟ وعنكم كنا نناضل {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أَي قالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ لا ينطق ولا يتكلم - أنطقنا - لنشهد عليكم بالحق، فهو قادر على ذلك، فقد خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفه، وإليه ترجعون، فهذه الشهادة حق الله. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَضحِك، فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحكُ؟ "فقلنا -: اللهُ ورسولُه أَعلمُ، قال: من مخاطبة العبد ربَّهُ، يقول: ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقولُ: بلى، قال فيقولُ: فإنى لا أُجيزُ على نفْسِى إلا شاهدًا مِنِّى، قال يقولُ: كفى بنفسِك اليومَ شهيدا، وبالكرامِ الكاتبِين شُهودا، قال: فيختْم على فِيهِ فَيُقال لأَركانه: انطِقى، فتنطق بأَعمالِه، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بُعْدًا لكُنَّ وسُحْقًا؛ فَعنْكُنَّ كُنتُ أُناضِل". ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآيتان: 22 , 23. (¬2) فليست بنافية.

واختلف في كيفية الشهادة من الجوارح والجلود على ثلاثة أَقوال، أحدها: أَن الله يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه. الثاني: أَن الله - تعالى - يخلق في تلك الأَعضاء الأَصوات والحروف الدالة على تلك المعانى كما خلق الكلام في الشجرة التي نودي منها موسى - عليه السلام -. الثالث: أن يظهر الله - تعالى - في الأَعضاء أَحوالا تدل على صدور تلك الأَعمال من ذلك الإِنسان، وتلك الأَمارات تسمى شهودا. {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} المفردات: {تَسْتَتِرُونَ}: تستخفون. {أَرْدَاكُمْ}: أَهلككم. {مَثْوًى}: إِقامة دائمة. {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا}: وإِن يسأَلوا الرضا من الله - تعالى -، أو: وإن يعتذروا. {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}: فما هم من المجابين إلى ما يسأَلون.

التفسير 22 - {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}: أَي: ما كان استتارهم واستخفاؤهم عندما كانوا يقارفون الموبقات والأَعمال القبيحة خوفا من أَن يشهد عليهم سمعهم وأَبصارهم وجلودهم، وذلك لأَنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، ولكن كان هذا التستر والاختفاءُ لأجل أَنهم كانوا يظنون أَن الله لا يعلم كثيرا من الأَعمال التي يقدمون عليها في خفية واستتار. وعن ابن مسعود - رضى الله عنه - قال: كنت مستترا بأَستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر عليَّ: ثقفيان وقرشى، فقال أَحدهم: أَترون الله يسمع ما تقولون، فقال الرجلان: إِذا سمعنا أَصواتنا سمع وإِلَّا لم يسمع، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} أَخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. 23 - {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: هذا نص صريح في أَن من ظن بالله - تعالى - أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه - سبحانه - فإنه يكون من الهالكين الخاسرين {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬1). قيل: والظن - قسمان: ظن حسن باللهِ - تعالى - وظن فاسد، وأَما الظن الحسن فهو أَن يظن به - سبحانه - الرحمة والفضل، قال - صلى الله عليه وسلم - حكاية عن الله - عز وجل -: "أَنا عندَ ظنِّ عبدى بِي" وقال - عليه الصلاة والسلام -: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسنُ الظنَّ بالله" والظن الفاسد: هو أَن يظن بِاللهِ أَنه يَعْزُبُ ويغيب عن علمه بعض هذه الأَحوال، وقال قتادة: الظن نوعان: ظنٌّ مُنْجٍ، وظن مُرْدٍ. فالمنجى قوله: ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية: 15.

{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (¬1)، وأما الظن المردى فهو قوله - تعالى -: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}. 24 - {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ... } الآية: أَي: فإن يمسكوا عن الاستغاثة فرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك، وتكون النار لهم محل ثواء وإقامة دائمة لا انفكاك لهم منها، فلا يجدى صبرهم. {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} وإن يطلبوا الرضا من الله فما هم من المجابين إليه. وقال الضحاك: المراد وإن يعتذروا فما هم من المعذورين. {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} المفردات: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أَي: وأَتَحْنَاهم لهم، وجئناهم بهم، يقال: قيض الله له رزقا، أَي: جاءه به وأَتاحه له كما كان يطلب، والقرناء: الأَصحاب، مِنْ قرن الشيءَ بالشيء: وصله به وأَصحبه إياه، وهو من بابيْ: نصر، وضرب. {فَزَيَّنُوا لَهُمْ}: فحسنوا لهم. {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: من أُمور الدنيا. {وَمَا خَلْفَهُمْ}: من أُمور الآخرة، حيث حسنوا لهم التكذيب بها. {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}: وجب عليهم الوعيد بالعذاب. {خَلَتْ}: مضت. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة الآية: 20.

التفسير 25 - {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}: بعد أَن بينت الآيات السابقة سوء مصير الكافرين في الآخرة، جاءَت هذه الآية لتبين السبب فيما وصلوا إليه. والله - تعالى - جعل للناس في الدنيا قرناء من الجن والإنس يصحبونهم في حياتهم، وهؤُلاء القرناءُ قد يكونون مؤمنين صالحين فيحضونهم على الخير، وقد يكونون غير ذلك فيحملونهم على الشر. وقد رزق الله الإنسان عقلا يميز به بين الخبيث والطيب، وأَعانه على هذا التمييز بشرع أَنزله إليه على لسان نبى من الأنبياء، فمن واجبه أَن يستعمل عقله في حاضره ومستقبله، وأن يميز بين الخبيث والطيب، والنافع والضار، فإِذا زيَّن له قرينه الخير قبله، وإذا زين له قرينه الشر رفضه. ومن الناس من فسدت طباعهم لسوء تربيتهم، فاختاروا قرناءَهم من الإنس على منهجهم من السوء والشر، فزينوا لهم الباطل والشر، وترك الحق والخير، فأَطاعوهم فكانوا من الخاسرين. وقد جاءَت هذه الآية الكريمة للتوعية من القرناء والأَصحاب، فلا يقبلون منهم سوى الدعاء إلى الخير، ويرفضون منهم غيره حتى لا يكونوا من الخاسرين، في جملة من حقت عليهم كلمة العذاب، وهي قوله - تعالى - لإِبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). والمعنى الإجمالي للآية: وأَتحنا للكافرين وأَصحبناهم بقرناءِ السوء من الجن والإِنس لسوء نشأَتهم، فزينوا لهم ما بين أيديهم من الحياة الدنيا، وما فيها من حلال وحرام ¬

_ (¬1) سورة ص, من الآية: 84، والآية: 85.

وزينوا لم ما خلفهم من إهمال شئون الآخرة، حيث دعوهم إلى التكذيب بها - كما قال مجاهد - ووجب عليهم الوعيد بعذاب الكافرين، في جملة أمم كافرة قد مضت من قبلهم، إنهم كانوا خاسرين، حيث اشتروا العذاب الدائم، وباعوا النعيم المقيم. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} المفردات: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: مشركو مكة. {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}: لا تأْخذوا بهذا القرآن، وافعلوا الباطل فيه، مِنْ لَغَا: قال باطلا، وبابه: عَدَا وصَدِيَ - أَي: عَطِش. (يَجْحَدُونَ) يكفرون وينكرون. التفسير 26 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}: بعد أَن تحدثت الآية السابقة عن مصير مَن زين له قرينه الدنيا وترك الآخرة، جاءَت هذه الآية وما بعدها للحديث عن حال مشركى مكة ومآلهم، وقد أَشارت الآية إلى أَن القرآن كان عدوهم اللدود, لأَنه شديد التأْثير على النفوس؛ فلهذا تواصوا

باللغو فيه ليحولوا بينه وبين أَسماع الناس، خشية أَن يحملهم على الإيمان بما فيه من الآيات البينات، والعظات المؤَثرات، والأُسلوب الفريد. والمعنى: وقال الذين كفروا من أَهل مكة: لا تسمعوا لهذا القرآن وافعلوا الباطل فيه من الصفير والتصفيق والتخليط في المنطق حتى يصير لغوا, ولا يستفيد به أَحد، وقال الضحاك: أَكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول: اهـ. {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} محمدا على قراءته، فلا يظهر ما يقوله، ولا يستميل القلوب. قال ابن عباس: قال أَبو جهل: إِذا قرأَ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدرى ما يقول: اهـ. كذلك كانوا يفعلون، ولكن الله أَتم دينه ومكَّن لنبيه، وبدل المؤْمنين من بعد خوفهم أَمنا {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). 27 - {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)}: وعيد لأولئك الكافرين اللاغين في القرآن ومن حملوهم على اللغو. والمعنى: فوالله لنذيقن الذين كفروا وَلَغوْا في القرآن وحرضوا عليه عذابا شديدا في الدنيا بنصرك عليهم، ولنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي أَسوأَ الأَعمال. أَما الأعمال الحسنة: من إغاثة الملهوف وصله الرحم وقِرَى الأَضياف ونحوها، فلا يجزون عليها في الآخرة، لأَنهم أَحبطوها بالكفر، لقوله - تعالى -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬2). 28 - {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}: أَي: ما ذكر من الجزاء الأُخروى السيء، جزاءٌ أَعده الله لأَعدائه، هو النار لهم فيها دار الخلد، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون، جزاءً بما كانوا بآياتنا يكفرون. ¬

_ (¬1) سورة يوسف، من الآية: 21. (¬2) سورة الفرقان، من الآية: 23.

29 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ}: وقال الكافرون وهم في النار: يا ربنا أَرنا الَّلذين أَضلانا وحملانا على الكفر والمعاصي من جنسى الجن والإنس، ندسهما بأَقدامنا انتقاما منهما، ليكونا من الأسفلين ذُلًّا ومهانة، وفي الدرك الأسفل من النار مكانا ومُقَامًا. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} المفردات: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}: أقروا بربوبيته وحده. {ثُمَّ اسْتَقَامُوا}: عملوا الصالحات. {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}: عند الموت، وقيل غير ذلك، وسيأتى بيانه. {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَي: نحن الذين توليناكم فيها. {وَفِي الْآخِرَةِ}: ونحن الذين نواليكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}: ولكم فيها ما تطلبون - مأْخوذ من الدعاء بمعنى الطلب.

التفسير 30 - {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}: هذه الآية شروع في بيان حسن أَحوال المؤْمنين في الدنيا والآخرة، بعد بيان سوء أحوال الكافرين فيهما. والمعنى: إن الذين اعترفوا بربوبية الله رحمه فقالوا: ربنا الله ليس لنا إله سواه، ثم استقاموا على هذا الاعتراف، فلم يروغوا رَوغَان الثعالب، وأَتبعوا هذا الاعتراف بالعمل الصالح، فلازموا الطاعات، وتجنبوا السيئات، حتى لا تزل أقدامهم عن طريق مربوبيتهم وعبوديتهم لربهم - إن هؤلاء الصالحين - تتنزل عليهم الملائكة وهم لا يرونهم، يلهمونهم الخير، وينفرونهم من الشر: ويمدونهم فيما يعن لهم من أُمور الدنيا والآخرة بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم الخوف والحزن، في مقابل ما يفعله قرناء السوء مع الكفرة من إغوائهم ودفعهم للمعاصى. وهؤلاء الملائكة يصحبونهم في حياتهم وعند مماتهم وبعثهم، قائلين لهم: لا تخافوا من مكروه يقع بكم، ولا تحزنوا على شيء فاتكم، أَو لا تخافوا ردَّ حسناتكم فهي مقبولة، ولا تحزنوا على ذنوبكم فهي مغفورة. والمقصود إخبارهم بأَن الله كتب لهم الأمن من كل غم بسبب صلاحهم , ولا يقتصرون على ذلك، بل يقولون لهم: أَبشروا بالجنة التي كنتم توعدونها على ألسنة المرسلين ولعل هذه البشارة عند الموت أو البعث من القبور، ولا مانع من أَن يكون إلهاما في الحياة الدنيا، وفقا لقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (¬1). روى الإِمام أَحمد بسنده، عن سفيان بن عبد الله الثقفى قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأَمر أَعتصم به، قال: "قل ربي الله ثم استقِمْ" قلت يا رسول الله: ما أَكْثَر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسان نفسه ثم قال: "هذا" أَي: عليك لسانَك. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 112.

31 - {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}: هذه الآية من تتمة بشارتهم في الدنيا، يقولون لهم: نحن أَعوانكم في أموركم في الحياة الدنيا، نلهمكم الحق، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، وأولياؤكم في الآخرة نمدكم بالشفاعة، ونتلقاكم بالكرامة، يقولون لهم ذلك في مقابل ما بين الكفرة وقرنائهم، من الإغواء في الدنيا والجدل والخصام في الآخرة - وقد مر بيانه - ويقولون لهم أيضًا: لكم في الآخرة ما تشتهى أَنفسكم من أنواع المتع والملذات ولكم ما تطلبون وتتمنون من الأُمور الروحانية وسواها. وقيل المراد بما تدعون: ما تقولون إنه لكم فهو لكم بحكم ربكم. 32 - {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}: المشهور أَن النُّزُلَ ما يُهَيَّأُ للنزيل - أَي: الضيف - ليأْكله حين نزوله، والمعنى: أَن هذا النعيم جعله الله ثوابا لهم من غفور لما فرط من ذنوبهم، رحيم بعباده حيث يعطى الجزيل في مقابل العمل القليل. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُوحَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}

المفردات: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}: في الجزاء، و (لاَ): الثانية تأْكيد للأُولى. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: ادفع السيئة بالخصلة التي هي أَحسن في دفعها. {وَلِيٌّ حَمِيمٌ}: صديق مشفق. {وَمَا يُلَقَّاهَا}: وما يتخلق بها. {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ}: وإمَّا يأْتينك منه وسوسة بالشر. {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}: فلا تطعه معتمدا على الله. التفسير 33 - {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: ولا يوجد أحسن قولًا ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته، وعمل عملا صالحًا وقال: إننى من المسلمين, ليكون قوله مطابقًا لفعله، حتى يكون قدوة لغيره، وقد نهانا الله - تعالى - عن المخالفة بين القول والعمل فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1). وكان زيد بن علي - رضي الله عنهما - يفسر الدعاء إلى الله باللسان وباليد. فكان يدعو إلى الإِسلام ويجاهد، قال الآلوسي: ولعل هذا - والله تعالى أَعلم - هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أُمية، وكان زيد هذا عالمًا بكتاب الله - تعالى - وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه، وهو في حبس هشام بن عبد الملك , وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر, ويقال: إنه كان إذا تناظر مع أَخيه محمد الباقر، اجتمع الناس بالمحابر، يكتبون ما يصدر عنهما من العلم - رحمهما الله تعالى، ورضى عنهما -: اهـ. ¬

_ (¬1) سورة الصف، الآيتان: 2، 3.

34 - {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}: استئناف لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأَعمال الجارية بين العبد وربه - عَزَّ وَجَلَّ -. وفي الآية ترغيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبر على أَذية المشركين، ومقابلة إساءَتهم بالإحسان. ومعنى الآية: ولا تستوى الخصلة الحسنة والخصلة السيئة في الآثار والأَحكام، فإذا أَساءَ إليك مسىء فلا تقابله بمثل ما صنع، بل قابله بما هو خير وأفضل من سواه من أَساليب المعروف، فالفحش تقابله بالحلم والصبر، أَو تقول له: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإِن كنت كاذبًا غفر الله لك، والغلظة تقابلها بالمداراة، والإيذاء تقابله بالإحسان, إلى غير ذلك من المتقابلات، فإن فعلت ذلك صار عدوك المُشاقُّ مثل الصديق المشفق، بل قد تزول العداوة وتحل محلها الصداقة، وفي ذلك يقول الشاعر: إن العداوة تستحيل مودَّة ... بتدارك الهفوات بالحسنات والآية - على ما قيل - نزلت في أَبي سفيان بن حرب، كان عدوًّا مبينًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار عند أهل السنة وليا مصافيا - ذكره الآلوسي - وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة عفا عنه، وقال: "من دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمن". ومن الناس من لا تصلح معه الملاينة إذ يحسبها ضعفًا ويتمادى في سيئاته، فمثل هذا تستعمل معه المخاشنة بعد فشل استعمال الملاينة، وذلك في حدود الضوابط الشرعية. 35 - {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}: وما يُؤتى خَصْلةَ دفع السيئة بالحسنة إلا الذين شأْنهم الصبر والحلم، وما يؤتاها إلا ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس - كما روى عن ابن عباس - أو ذو حظ عظيم من الثواب - كما قال قتادة -. 36 - {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}:

النزغُ: النخس بطرف قضيب أو نحوه بقوة، استعير لوسوسة الشيطان الباعثة على الشر، ولفظ "ما" في "إِما" صلة للتأكيد, والأصل: وإِن ينزغنك فزيدت (ما) وأُدغمت في النون. والمعنى: وإمَّا يصرفنك الشيطان عن دفع السيئة بالحسنة، حاملًا لك على مقابلة السيئة بمثلها أو بأكثر منها، فاستعذ بالله من شره ولا تطعه، إنه - تعالى - سميع لاستعاذتك، عليم بحسن نيتك فيعصمك ويعينك على صبرك. وقيل إن المعنى: سميع لقول من آذاك، عليم بفعله, فينتقم منه مغنيا إياك عن هذا الانتقام. {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} المفردات: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}: المراد بهم الملائكة. {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} المقصود بهما: الدوام، فإن الملائكة ليس عندهم ليل ونهار. {لَا يَسْأَمُونَ}: لا يملُّون. {خَاشِعَةً}: يابسة متطامنة، مستعار من الخشوع، بمعنى التذلل، وقال القرطبى: الأَرض الخاشعة الغبراء التي تنبت.

{اهْتَزَّتْ}: تحركت بالنبات. {وَرَبَتْ}: انتفخت. التفسير 37 - {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: ومن دلائل وجود الله - تعالى - وقدرته، ووحدانيته وحكمته، وكمال صفاته، أنك ترى الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وتعاقبهما بانتظام من غير فتور، وتداخل بعضهما في بعض، فيزيد النهار وينقص الليل، أو يزيد الليل وينقص النهار، ويترتب على ذلك وجود الفصول الأربعة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، ومعرفة عدد السنين والحساب. ومن دلائله - تعالى - الشمس بنورها وأشعتها الساخنة الساطعة، والقمر بضوئه وأَشعته الخافتة وتنقلهما في مداراتهما ومنازلهما بانتظام، فينشأُ عن تنقل الشمس فيها الفصول الأَربعة وحساباتها الفلكية، وينشأُ عن تنقل القمر فيها زيادة ضوئه ونقصانه، ومعرفة مبدأ شهره ونهايته، كما أَن لكليهما أثرا بالغًا في نمو الزرع وحياة الحيوان، ومعرفة أَوقات العبادات والمعاملات. ولما كانت الشمس والقمر أَظهر الكواكب بالنسبة لأَهل الأَرض، وكان بعض الناس يسجدون لهما تقرُّبا إلى الله بعبادتهما، أو إيمانًا بأُلوهيتهما - لما كان الأمر كذلك - نهى الله عباده عن السجود لهما، لأَن الله - تعالى - خالقهما، وهما من دلائل وجوده وكمال صفاته، فقال - سبحانه -: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. فالله لا يحتاج إلى وسيط في عبادته، وهذا الوسيط يبعدهم عن الله ولا يقربهم منه، وينسيهم الله، فينسبون له النفع والضر، والخير والشر، فمن كان يعبد الله فلا يشرك معه أحدًا في عبادته، فهو أَقرب إليه من حبل الوريد، ولا يغفر أَن يشرك به.

ويلاحظ أَن في المجرات ملايين الشموس والأَقمار وسائر الكواكب، وفيها أَكبر من شمسنا وقمرنا وأَرضنا، ولكن الله خاطب عباده بما تقع علية عيونهم وبما يعبدونه. والضمير في "خلقهن" يرجع إلى الليل والنهار والشمس والقمر، وتأْنيث الضمير الراجع عليها مع أَن غالبها مذكر، باعتبار أَنها آيات، ولأَن كل جمع يصح تأْنيث ضميره، قال الناظم: لا أُبالى بجمعهم ... كل جمع مؤنث وهذه الآية موضع سجدة بلا خلاف, واختلفوا في موضع السجود منها, فقال مالك: موضعه {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} لأَنه متصل بالأَمر، وقال ابن وهب والشافعى: موضعه {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} في الآية التالية , لأَنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال، وبه قال أَبو حنيفة. واختلف النقل عن الصحابة على هذا النحو، قال ابن العربى: والأَمر قريب: انتهى بتصرف يسير من القرطبي. 38 - {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}: فإن تَعَاظَمَ الكفار عن أَن يسجدوا لله وحده، فلا تعبأْ بهم، فإن الملائكة الذين هم في حضرة القدس الإلهى يسبحون له دائمًا، وهم لا يملون التسبيح. 39 - {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الخطاب هنا لكل عاقل. ومعنى الآية: ومن دلائل قدرة الله - تعالى - على إحياء الموتى أَنك ترى الأَرض هامدة يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزل الله الماء عليها تحركت بالنبات حين يبدو من بذوره، وارتفعت به بعد خروجه حيث يزداد طولا وعرضًا، ويصير أَشجارا وزروعا تسر الناظرين، وتطعم الآكلين، وتفكه المتفكهين، بعد أَن كانت ميتة هامدة، إِن الذي أَحياها على هذا النحو العجيب لمحيى الموتى، وباعث من في القبور؛ كما أَحياها بعد أَن كانت ميتة، إنه على كل شيء قدير، فآمنوا بالبعث والنشور للإنسان، فما ترونه في النبات والأَشجار بعث ونشور لهما.

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ وَذُوعِقَابٍ أَلِيمٍ (43)} المفردات: {يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا}: يميلون عن الحق فيها, والإلحاد: الميل والعدول، والمراد بالآيات هنا القرآن. {كَفَرُوا بِالذِّكْرِ}: كفروا بالقرآن، فإن فيه ذكر ما يحتاج إليه من الأَحكام، ويطلق الذكر على الشرف أيضًا، والقرآن شرف للعرب , حيث جاءَت المعجزة المحمدية من لغتهم، وحيث بدأَ به عموم الرسالة من بينهم. {كِتَابٌ عَزِيزٌ}: ليس له نظير، أو: منيع لا تتأنى معارضته، وأصل العز: حالة مانعة للإنسان عن أَن يُغلب، أو غالب للكتب حيث نسخ ما قبله، وقال ابن عباس: كريم على الله تعالى. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}: المراد: أنه لا يأْتيه الباطل من جميع جهاته. {حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الحكيم: من يضع الشيء في موضعه، والحميد: المحمود، وخبر إن الذين كفروا هو جملة {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} أَي: لا يأْتيه الباطل منهم - أَي: من الذين كفروا. قاله أَبو حيان، أَو هو مقدر، وتقديره خاسرون، والخبر يحذف إذا دل عليه المقام، وقدره

عمرو بن عبيد بقوله: كفروا به، بعد قوله لما جاءَهم، أَي: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءَهم كفروا به في حال أنه كتاب عزيز ... إلخ. التفسير 40 - {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: إن الذين يميلون عن الحق في شأْن آياتنا، فيكذبون القرآن، ويصفرون ويصفقون عند قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ويصفونه بالكذب وبالسحر وبالشعر وبأَساطير الأولين إِن هؤُلاء الملحدين - لا يخفون علينا، فنحن نعلمهم ونعم إلحادهم، وسوف نجازيهم بالنار على هذا الإلحاد. {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّار} جزاء له على إلحاده خَيْرٌ {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا} منها يوم القيامة، جزاء له على إيمانه، ولا يقتصر أَمرهم على ذلك، بل يدخلون الجنة خالدين فيها أبدا. ثم هدد الله الملحدين فقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخفون عليه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬1). 41، 42 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}: إن الذين كفروا بالقرآن حين جاءَهم من غير مُهلة يفكرون فيها في أَمره - إن هؤلاء - كفروا به وإِنه لكتاب عزيز منيع لا تتأَتى معارضته، ولا يأْتية الباطل من جميع جهاته لغة، وعقيدة، وتشريعًا، وقصصًا, وانسجامًا, وترتيلا، فهو في هذه قمة لا ترام ولا تنال، منزَّل من إله {حَكِيمٍ} يأتي بالمعجزات التي لا يمكن معارضتها تأييدًا لرسله، ويضع الشيء في موضعه {حَمِيدٍ} محمود على ما أسدى من مختلف أنواع النعم، التي منها تنزيل هذا الكتاب - محمود على ذلك - بلسان القال أو بلسان الحال، من كل مخلوق نالته نعمه - سبحانه -، وإذا كان القرآن بهذه المثابة، فكيف يكفر به الكافرون ويجحده الجاحدون؟ 43 - {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ وَذُوعِقَابٍ أَلِيمٍ}: (¬2) ¬

_ (¬1) سورة الشعراء, من الآية: 227. (¬2) {إن ربك لذو مغفرة} تعليل لما فهم من السياق من الأَمر بالصبر, وقيل: هي مقول القول الثاني، مقصود لفظها لتكون نائب فاعل لقيل.

في هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عما يصيبه من أذية كفار مكة، من طعنهم في القرآن ووصفه - صلى الله عليه وسلم - بالسحر، والشعر، والكذب، والجنون. والمعنى: ما يقال لك - أَيها الرسول - من الكفار، إلا مثل ما قيل للرسل قبلك من أَقوامهم كما قال - تعالى -: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (¬1). فاصبر على مقالاتهم كما صبر الرسل من قبلك على مقالات قومهم، فلا عليك من تكذيبهم، {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} لأوليائه، {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائهم، فينصر أولياءَه وينتقم من أَعدائهم. ويصح أَن يكون المعنى: إن ربك لذو مغفرة لمن آمن من قومك، وذو عقاب أليم لمن بقى منهم على كفره. ويصح أَن يكون المعنى: ما يقال لك من الله إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، وهو: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} فتلك المقاله لله لمواساتك ومواساة المرسلين قبلك، فاصبر كما صبروا فسينصرك الله كما نصرهم، ويعاقب أعداءَك كما عاقب أَعداءَهم. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 52.

المفردات: {أَعْجَمِيًّا}: بلغة العجم. {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}: هلاَّ بينت بلسان نفقهه. {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}: أَيصح أَن يأْتينا كتاب أَعجمى والمخاطب به عربي؟ والعرب يقولون عمن يخالف لغتهم: أعجمى (¬1). {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ}: صمم فلا يسمعونه. {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}: فلا يبصرون هداه. {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: هؤلاء كأَنما ينادون من مكان بعيد فلا يسمعون لبعده، فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}: لفى شك يقتضي الاضطراب والقلق. التفسير 44 - {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ... } الآية: لما ذكر الله - تعالى - القرآن وبلاغته وفصاحته، وأنه لا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ومع هذا لم يؤمن به المشركون - لمَّا ذكر ذلك - نبه بهذه الآية على أَن كفرهم به كفر عناد. ومعنى الآية: ولو جعلنا القرآن بلغة غير لغة العرب، فنزلناه على بعض الأَعجمين بلغته، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين، ولقالوا: لولا بينت آياته بلغتنا حتى نفهمه أيصح أَن يكون قرآننا أو رسولنا أعجميا، والمرسل إليه عربى؟ فلهذا أَنزله الله بلغتهم العربية ليفهموه ويعقلوه ويتدبروا آياته. وعقب ذلك ببيان أَن الناس بالنسبة للقرآن قسمان: مؤمنون يهتدون به، وكافرون ¬

_ (¬1) وقال القرطبى: والعجمى الذي ليس من العرب - فصيحًا كان أو غير فصيح - والأعجمى: الذي لا يفصح أو من المعجم.

يعرضون عنه، وذلك في قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}: ومعناه: قل - أيها الرسول - لهؤلاه المعاندين: القرآن للذين آمنوا به هدى وشفاء من الشك والعلل، لصفاء قلوبهم، ونقاء عقولهم، وبعد نظرهم، وهو للذين كفروا بعيد عن قلوبهم، فهم لذلك لا يسمعونه، كأنهم صم لا يسمعونه، فلهذا تواصوا بعدم سماعه واللغو فيه، كما قال - تعالى - في هذه السورة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. وهم بعيدون عن النظر فيه , كأَنهم عمى لا يبصرون، كأَن من يدعوهم إلى الحق يناديهم من مكان بعيد، لا يصل منه صوته إليهم، لصممهم المصنوع، ولا يرونه لتعاميهم عن رؤيته. 45 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}: في هذه الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن حزنه لاختلاف قريش على القرآن ما بين مكذب ومصدق له. والمعنى: وبالله لقد آتينا موسي كتاب التوراة، فاختلف فيه قومه ما بين مكذب، ومصدق، فلا تحزن على اختلاف قومك على القرآن، فتلك عادة قديمة في الأمم، ولولا كلمة سبقت من ربك في حق أُمتك، وهي العدة بتأْخير عذاب المكذبين منهم إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة - لولا ذلك - لاستأْصلهم بالعذاب كما استأَصل المكذبين قبلهم وإن كفار قومك لفي شك من القرآن موقع في القلق والاضطراب. 46 - {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}: من عمل صالحًا بالإيمان بالكتب السماوية والعمل بموجبها فلنفسه نفعه لا لغيره، ومن أَساءَ بالكفر والعصيان فعلى نفسه ضره لا على غيره، وما ربك بظلام للعبيد، فلا يعذب أَحدًا بغير ذنب.

* {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)} المفردات: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} أَي: من أوعيتها. {أَكْمَامِهَا}: واحدها كِمْ - بالكسر فالسكون - وهو وعاء الثمرة قبل أَن ينشق عنها، وتسمى الثمرة حينئذ الكُفُرَّى. {قَالُوا آذَنَّاكَ} أَي: أَخبرناك وأَسمعناك. {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أَي: ليس مِنَّا مَن يشهد بأَن لك شريكا. {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَي: أَيقنوا وعلموا بأَنه لا فرار لهم من النار. التفسير 47 - {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ}: أَي: إذا سئل أَحد عن الساعة قال الله - تعالى - يعلم، أو لا يعلمها إلا الله - عَزَّ وَجَلَّ - وقد سئل عنها الرسول وهو سيد البشر من جبريل وهو من سادات الملائكة، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. كما قال - تعالى -: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} (¬1) وكما أنه - سبحانه - اختص ¬

_ (¬1) سورة النازعات الآية رقم 44.

بعلم وقت قيام الساعة فقد اختص كذلك بعلم ما يخرج من ثمرات من أوعيتها قبل أَن تنشق عنها، وقرء (من ثمرة) على إرادة الجنس. أَما الجمع فلاختلاف الأنواع. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} أَي: وما يحدث من شيء من خروج ثمرة، ولا تحمل من حامل ولا وضع واضع، أَي: ما يحدث شيء من ذلك إلا ملابسا بعلمه - تعالى - واقعا حسب تعلقه به من عدد أَيام العمل وساعاته وأَحواله من النقص والتمام والذكورة والأُنوثة، والحسن والقبح، والسعادة والشقاء، وذكرت هذه الأُمور لمناسبتها لعلم الساعة فإِنه لا يعلم هذا كله إلا الله - تعالى -. {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} أَي: واذكر يوم ينادى الله المشركين على رءُوس الأَشهاد قائلا: أين شركائي بزعمكم الذين عبدتموهم في الدنيا. وفيه تهكم بهم، وتقريع لهم. {قَالُوا آذَنَّاكَ} أَي: قال الذين نودوا: أَسمعناك وأَخبرناك. {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أَي: ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة إذ تبرأنا منهم لما عاينَّا الحال، أَو ما منا من أحد يشاهدهم لأَنهم ضلوا عنهم حينئذ. 48 - {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}: أَي: وغاب عنهم ما كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا للعبادة، ويرجون نفعهم، على أَن الضلال بمعناه الحقيقى وهو الذي يقابل الوجدان، أَي: لم يجدوهم حينما طلبوهم للاستنصار بهم أَو ظهر لهم عدم نفع شركائهم، وكان حضورهم كغيبتهم، على أَن الضلال مجاز عن عدم النفع، وأيقنوا ما لهم من مهرب من عذاب الله ونكاله كما قال السدى وغيره. فالمراد بالظن ضد العلم، وكونه بمعنى العلم يقع كثيرا، وقد جاء به القرآن في مواطن، كقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُواللَّهِ .... } (¬1) أَي: يعلمون ويوقنون. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية رقم 249.

{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُودُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} المفردات: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} أي: لا يمل ولا يفتر من طلب الخير كالمال والصحة والولد. {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ}: كالفقر والمرض وعدم الإنجاب. {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}: من فضل الله ورحمته، واليأس: صفة القلب، والقنوط: يأس مفرط يظهر أثره على المرء فَينَكَسِرُ ويتضاءَل. {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أي: الجنة. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: بالغ الغاية في الشدة كأنه مُحَسٌّ مشاهد على صورة غليظة. {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي: تباعد عن ذكر الله ودعائه، أو هو جانبه كناية عن الانحراف والتكبر والصلف. {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي: كثير مستمر، مستعار مما له عرض متسع، وذلك للإشارة إلى كثرته.

التفسير 49 - {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}: الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل: في عتبة بن ربيعة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومعناها: لا يسأم الإنسان - أي: الكافر - من دعاء أنواع الخير كالصحة والمال وكل مقاصد النعيم، وإن نزل به شر من مرض أو عسر فهو يئوس من فضل الله قنوط من رحمته، وقد بولغ في يأْسه من جهتين: من جهة الصيغة لأن (فعولا) من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوى فإن القنوط أتى يظهر عليه أثر اليأْس فيتضائل وينكسر، ولما كان أثر اليأْس ظاهرا عليه لا يفارقه كان في ذكر القنوط ذكرٌ لليأس ثانيًا بطريق أبلغ في قطع الرَّجاء من فضل الله ورحمته. وهذه الآية تعيب على الإنسان يأسه وقنوطه من رحمة الله، وتحمله على الرجاء وعلى الدعاء بدفع الضُّر عنه. وقدم اليأس لأَنه صفة القلب التي تدعو اليائس إلى أن يقطع رجاءَه من الخير، وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤُل والانكسار، ثم يجىء القنوط بعد اليأس ليزيد أثره على الوجه , فهو من باب التدرج من الأَدنى إلى الأَعلى. 50 - {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: المعنى: أن هذا الإنسان إذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أَو سعة بعد ضيق ليقولن بصفة التأْكيد والوثوق: هذا شيءٌ أستحقه على الله لرضاه بعملى، أي: هذا حقى وصل إليّ لأنى أستوجبته بما عندي من فضل وخير وأعمال بر، فيرى النعمة حقًّا واجبًا على الله له، ولم يعلم أنه ابتلاء بالنعمة والمحنة. ليتبين شكره وصبره. وقال ابن عباس: معنى (هذا لي) أي: هذا من عندي بمعنى لا يزول عني أبدًا.

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} فيما سيأْتى {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} - كما يقول المصدقون بالبعث - إن لي عنده لَلْجنة أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة بقياس أمر الآخرة على أمر الدنيا. {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا}: يتهدد الله - تعالى - من كان هذا عمله واعتقاده بكشف مستور أمره، أي: فلنعلمنهم بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا. فيظهر أنهم مستحقون فيها للإهانة لا للكرامة التي توهموها وأشادوا بها, ولنذيقنهم من عذاب شديد لا يقادَرُ قدرُه ولا يُحَدُّ مداه، فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه ولا يتسنى لهم التقَصِّى منه. 51 - {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُودُعَاءٍ عَرِيضٍ}: ضرب آخر من طغيان الإنسان، أي: وإذا أنعمنا عليه أعرض عن الشكر وذهب بنفسه وتباعد بكليته صلفًا وغرورًا. والجانب مجاز عن النفس كقوله - تعالى -: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (¬1) ويجوز أن يكون المراد بجانبه عطفه ويقصد الانحراف والازورار كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه. {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ}: أي الضرر أو الفقر. {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي: كثير مستمر، بمعنى أنه أقبل على الدعاء الدائم، وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد استعير العَرْض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، كما استعير الغلظ لشدة العذاب، ولا منافاة بين قوله {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} وبين قوله: {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} مع أن كلا عند مس الشر؛ لأن الأول في قوم، والثاني في قوم آخرين، أو يئوس قنوط بالقلب، وذو دعاء عريض باللسان. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: الآية 56.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} المفردات: (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) أي: في خلاف بعيد عن الحق كل البعد. (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ) أي: سنريهم علامات وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاقِ جمع أُفق - بضمتين أو بفتحتين - وهي: النواحى عمومًا من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها. (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، أو بما يحدث لهم من البلايا والأمراض وحوادث الأَرض. (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ) أي: في شك من أَمر البعث. (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي: بكل شيءٍ في الدنيا والآخرة محيط، فلا يفوته شيء. التفسير 52 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: هذه الآية وما بعدها رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين، وختم للسورة. والمعنى: قل يا محمد لهؤُلاء المشركين المكذبين بالقرآن: إن كان من عند الله ثم جحدتم به مع تعاضد الأَدلة والبراهين التي هي من موجبات الإيمان به - قل للمشركين المكذبين - إن كان هذا شأْنه فأَخبرونى.

{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي: من أضل منكم؟ فوضع الموصول موضع الضمير شرحًا لحالهم وتعليلا لمزيد ضلالهم، حيث إنهم في خلاف بعيد غاية البعد عن الحق. 53 - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}: المعنى: سنريهم في الآفاق آياتنا الدالة على حقية القرآن وكونه من عند الله. وفسرت الآيات بما أُخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحوادث الآنية، وآثار النوازل الماضية وما يسَّر الله له ولخلفائه من الفتوح والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب على وجه خارق للعادة. كما سنريهم آياتنا في أنفسم فيما ظهر بين أهل مكة خصوصًا وما حل بهم وقيل في الآفاق، أي: في أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار. والأَضواء. والظلال والظلمات، ومن النبات والأَشجار والأَنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، نفعل ذلك معهم حتى يظهر لهم أن القرآن هو الحقُّ الذي لا شك فيه فلا يأْتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلُّه من عند الله المطلع على كل غيب وشهادة، ولهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي تعريف الحق من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرًا، والتعبير بقوله: (سَنُرِيهِمْ) إشارة إلى أَنه تعالى لا يزال ينشىءُ لهم فتحًا بعد فتح وآية غبَّ آية إلى أن يظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): استئناف وارد لتوبيخهم على ترددهم في شأن القرآن وعنادهم المحوج إلى إراءَة الآيات الموعودة المبينة لحقِّية القرآن، أو لم يكفهم في ذلك أنه - تعالى - شهيد على جميع الأشياء وقد أُخبر بأَنه من عنده. {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة "النساء" من الآية 166.

54 - {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}: أي: ألا إنهم في شك عظيم من لقاء ربهم بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تحليل أجزائهم وتفرق أعضائهم مع أن الله على كل شيءٍ قدير، فهو واقع لا ريب فيه وكائن لا محالة لتجزى كل نفس بما كسبت {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي: إلا إن ربهم عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا تخفى عليه - عَزَّ وَجَلَّ - خافية فيجازيهم على كفرهم ومربتهم في لقاءِ ربهم، وفي الآية دفع لشكهم في إعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه، أي: أنه عالم بمجمل الأَشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها، مقتدر عليها لا يفوته شىءٌ منها فهو - سبحانه - يعلم الأجزاءَ ويجمعها بعد أن تفرقت وصارت عظامًا ورفاتًا {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬1). وعلماء التوحيد في ذلك على رأيين، أحدهما: ما ذكر هنا، والآخر: أنه - تعالى - يعيد الخلائق بخلق جديد؛ لأن أجزاءَهم دخَلتْ بعد تحللها في تكوين خلائق أُخرى، جيلا بعد جيل. ويقولون: إن النعيم والعذاب للروح، وأما الجسد فهو وعاؤُها، والكسب إنما هو بها لا بوعائها، فلولا الروح لما استطاع الجسد أن يعمل شيئا, وفي ذلك يقول صاحب الجوهرة: وقل: يُعاد الجسم بالتحقيق ... عن عدم، وقيل: عن تفريق ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية 29.

سورة الشورى

" سورة الشورى" هذه السورة: مكية وآياتها ثلاث وخمسون، وسميت الشورى لوجودها في آياتها لإرشاد المؤمنين إلى السير في تصريف مجتمعهم على أَساسها، ومناسبة هذه السورة للتى قبلها: اشتمال كل منهما على ذكر القرآن ودفع طعن الكفرة فيه، وتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر فيهما من آيات تبين نصر المؤمنيين وخذلان الكافرين والجاحدين. أهم مقاصد السورة: 1 - افتتحت بالتنويه بشأْن القرآن بأَنه وحى من عند الله، وكذلك كانت كتب الأَنبياء السابقين. 2 - أشادت بقدرة الله، وأَنه - سبحانه - لا يخرج عن سلطانه شىءٌ في الأرض ولا في السماء. 3 - بينت أن السموات تكاد أن يتشققن من فوقهن لعظمة الله، وكمال الخشية منه. 4 - هددت الذين اتخذوا من دونه أولياءَ بأن الله حفيظ عليهم ليجازيهم بما اقترفوا. 5 - أشارت إلى أنه - تعالى - لو شاء أن يجمع الناس على ملة واحدة لجمعهم، ولكن الحكمة اقتضت أن يكون منهم المهتدى والضال. 6 - أرشدت إلى ما يفعله المؤمنون مع المشركين إذا خالفوهم في الدين. 7 - أشارت إلى القدرة البالغة في أنه جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجا. 8 - أكدت وحدة الشرائع. 9 - نددت بشرك المشركين واختلافهم في الحق ظلمًا بعد أن أُمروا بإقامة الدين وعدم التفرق فيه. 10 - بينت أن الذين ورثوا الكتاب من أسلافهم وأدركوا عهد الرسول لفى شك من كتابهم موقع في الريب، وسيأتى تفسيره.

11 - أرشدت إلى ما يجب اتباعه في دعوة الناس للحق. 12 - بينت بطلان حجة الذين يجادلون في الدين من بعد ما استجاب الناس لدعوته. 13 - ذكرت أن الذين يستعجلون الساعة هم الذين لا يصدقون بها، أما الذين صدقوا بها فهم خائفون من وقوعها. 14 - أبرزت لطف الله بعباده حيث يرزق من يشاءُ كما يشاء بدون معقب له. 15 - حذرت من الانهماك في طلب الدنيا حيث تكون عاقبته الحرمان من الآخرة. 16 - بينت سوء حال الجاحدين يوم القيامة، وأنهم مشفقون مما كسبوا وهو واقع بهم. كما بينت حال المؤمنين، وأن لهم ما يشاءُون عند ربهم. 17 - نددت بادعاء المكذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه افترى على الله كذبًا وردت ذلك الافتراء. 18 - بددت يأس اليائسين حيث أبانت أن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. 19 - ذكرت الحكمة في توزيع الرزق بين الناس بتدبير محكم، فلم يكونوا جميعًا أغنياء، ولم يكونوا فقراءَ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا. 20 - أشارت إلى عظم بركات الغيث، ودلائل قدرة الله على خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة. 21 - ذكرت أن من آيات القدرة السفن الجوارى في البحر كالأَعلام إن يشأْ تهب الرياح فتسيرها، وإن يشأْ يجعلها ساكنة، فتظل ثوابت على وجه الماء، أو يهلكهن بذنوب ركابها. 22 - أعادت تهديد المجادلين، فذكرت أنهم في علم الله، ليس لهم من عقابه مهرب. 23 - عددت أوصاف المؤمنين، ومن بينهم الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقهم الله ينفقون، وذكرت أن لهم ما هو خير وأبقى عند ربهم.

24 - دعت إلى عدم قبول الذلة، ودلَّت على أن الانتصار - بعد الظلم - أمر مشروع: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (¬1). 25 - دعت إلى الصبر والمغفرة {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} (¬2). 26 - بينت حال الظالمين حين يرون العذاب، كما بينت حالهم حين يعرضون على النار، وسجلت قول المؤمنين في الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} (¬3). 27 - حثت على الاستجابة قبل فوات وقتها {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} (¬4) وهددت من لا يستجيبون لله ورسوله {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)} (¬5). 28 - دعت الرسول إلى عدم الحزن على المعرضين لإعراضهم عن الاستجابة: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬6). 29 - عنيت بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببيان أن الحق لله في هبة الإناث لمن يشاءُ والذكور لفريق آخر، والجمع بينهما لفريق ثالث، وحرمان فريق رابع منهما. 30 - ذكرت طرق خطاب الله تعالى لأنبيائه وعباده. 31 - ختمت السورة ببيان أن مثل ما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك هذا القرآن، وهو روح من أمر الله جعله نورًا يهدى به من يشاءُ من عباده {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الشورى الآية 41. (¬2) سورة الشورى الآية 43. (¬3) سورة الشورى من الآية 45. (¬4) سورة الشورى الآية 47. (¬5) سورة الشورى من الآية 47. (¬6) سورة الشورى من الآية 48. (¬7) سورة الشورى من الآية: 52 والآية: 53.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} المفردات: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي: يتشققن من عظمة الله وجلاله وقيل: من ادعاء الولد له. (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي: يبتدئ التشقق من أعلاهن. (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي: يسألون الله أن يغفر للمقصرين في الأرض من المؤمنين. (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي: بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار. التفسير 1، 2 - (حم (1) عسق): هما اسمان للسورة ولذلك فصلا في الخط وعدا آيتين. قيل: هما اسم واحد وآية واحدة والفصل بينهما ليناسب مفتتح سائر الحواميم قبلها وبعدها حيث

رسم مستقلا في السور المفتتحة بحروف الهجاء وقبل: إن أجزاءهما أَسماء لحروف هجائية، والمراد بها تحدى العرب أَن يأْتوا بسورة مثله لأنه مؤلف من كلمات ذات حروف هجائية مثلما يتكلمون وينطقون، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقين، وقيل: غير ذلك. والكلام في إعرابها وفي معناها قد مضى في مثله من سورة البقرة وغيرها، وحسبك هنا ما تقدم. 3 - {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: كلام مستأْنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق، أَي: مثل ما في هذه السورة من المقاصد أُوحى إليك في سائر السور وأوحى إلى من قبلك من الرسل في كتبهم وصحفهم، من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وإلى ما فيه صلاح العباد، أو مثل إيحاء هذه السورة أُوحى إليك سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاءِ كتبهم إليهم كما في قوله - تعالى -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} (¬1) .. الآية، ومناط المثلية كونه بطريق الملك، وفي جعل هذه السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها والتنويه بها ما لا يخفى، وخلاصة ما تشير إليه الآية: أن الله ذكر معانى هذه السورة في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من الإرشاد إلى الحق، وهو العزيز في انتقامه الحكيم في أقواله وأفعاله. 4 - {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}: استئناف مقرر لعزته - تعالى - وحكمته - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله - سبحانه -: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) من الآية السابقة أي: لله وحده ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا وتدبيرا وهو العلى شأْنه العظيم برهانه. 5 - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}: الآية واردة للتنزيه بعد إثبات الملكية والعظمة لله - تعالى - في الآية السابقة أي: تقرب السموات أن يتشققن من أعلاهن مع عظمتهن وتماسكهن خشية من الله وتأَثرا بعظمته وعلو شأْنه وروى ذلك عن قتادة، وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: تكاد السموات يتشققن من الثقل لكثرة ما على السماء من الملائكة. قال - عليه السلام -: "أطَّتِ ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 163.

السماء أطًّا وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد" والتشقق يحصل من أعلاهن بسبب ذلك، وقيل: من ادعاء الشريك والولد لله - سبحانه - كما في سورة مريم {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} (¬1). وأيد هذا بقوله - تعالى - بعد: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ} وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن، أي: من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر؛ لأنها جاءت من الذين تحت السماء, ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق. كأنه قيل: تكاد السموات يتفطرن من فوقهن، أما الجهة التي تحتهن فحصوله بطريق الأولى. {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} خضوعًا لما يرون من عظمته، وتنزيها عما لا يليق به ملتبسين بحمده. وقيل: يتعجبون من جرأَة المشركين، فذكر التسبيح موضع التعجب وعن علي - رضي الله عنه - أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرض المشركين لسخط الله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} بالسعى فيما يستدعى مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة، واستدعاء تأْخير العقوبة طمعًا في إيمان الكافر. وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر، وقال السدى وقتادة: المراد بقوله: (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) المؤمنون لقوله - تعالى - في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش، وقيل المراد جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي، وحيث خص من في الأرض بالمؤمنين فيكون المراد من الاستغفار الشفاعة، أو حقيقة الدعاء. (أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته - تعالى - وإنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم , وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة - عليه السلام - وأَنه - سبحانه - يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة والرحمة مع زيادة تقرير لعظمته تعالى، وبيان لكمال تقدسه عما نسب إليه بترك معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء بسبب استغفار الملائكة وفرط غفرانه. ¬

_ (¬1) سورة مريم الآيات 90، 91، 92. (¬2) سورة غافر من الآية 7.

6 - {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي: والمشركون الذين جعلوا لله أندادا وشركاءَ يعبدونهم من دون الله - سبحانه - رقيب على أحوالهم وأعمالهم يحصيها عليهم، وبعدها عدا ليجزيهم عليها. وما أنت - أيها الرسول - بموكل بهم، أو بموكول ومفوض إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار والبلاغ فحسب. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} المفردات: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أَي: أَنزلناه عربيا بلسان قومك. (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى): وهي مكة، والإنذار يتعدى إلى مفعولين، وقد يستعمل ثانيهما بالباء. (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ):. وهو يوم القيامة. (لَا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا شك فيه. (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي: في النار ولهيبها. التفسير 7 - {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} أي: مثل هذا الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا إبهام عليك ولا على قومك.

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) أَي: لتنذر أهل أم القرى وهي مكة، وتنذر من حولها من سائر الخلق شرقا وغربا. وسميت مكة أم القرى لأن فيها البيت الحرام الذي يحج إليه أهل القرى العربية، ولهذا كان فراق الرسول حين هاجر منها صعبًا على نفسه، روى الإِمام أحمد بسنده: أن عبد الله بن عدى بن الحمراء أخبره أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "والله إنك خيرُ أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله ولولا أنى أُخرجتُ مِنكِ ما خَرَجْت" وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن صحيح. لهذا الفضل استحقت أن نسمى أمًّا (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد كقوله - تعالى -: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (¬1) وفي العبارتين: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) احتباك فقد حذف من الأولى ما أثبت في الثانية، وحذف من الثانية ما أثبت في الأولى، أي: لتنذر أُم القرى ومن حولها يوم الجمع تنذر يوم الجمع أم القرى ومن حولها، ثم قرر ذلك بقوله: (لَا رَيْبَ فِيهِ) أَي: لا شك فيه. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أَي: هذا التفريق بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولًا ثم يفرقون بعد الحساب، منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في النار المستعرة. والجملة استئناف في جواب سؤال تقديره: ثم كيف يكون حالهم؟ فيجاب مما ذكر. 8 - {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: أي: ولو شاءَ الله لجعلهم في الدنيا أهل دين واحد، ولكنه - سبحانه - أراد أن يدخل في رحمته - وهي الإِسلام - من يشاءُ أن يدخله فيه ويدخل في عذابه من يشاءُ أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته - تعالى - لكل من الإدخالين لاستحقاق كل من الفريقين أن يدخل مدخله تبعًا لاختيار ¬

_ (¬1) سورة هود من الآية 103.

الداخلين فيهما قطعا، فلم يشأْ جعل الكل أُمة واحدة بل جعلهم فريقين تبعًا لاختيارهم بعد ما أرسل إليهم رسله مبشرين ومنذرين فيتأَثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله - تعالى - إلى الإيمان والطاعات، ويدخلهم في رحمته - عز وجل - ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادون في غيهم، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر، فينتهون في الآخرة إلى السعير من غير ولى يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب , قال مقاتل: ولو شاءَ الله لجمعهم على الهدى، أي: مؤمنين كلهم على دين الإِسلام كما في قوله - تعالى -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: ولو شاء الله لجعلهم أُمة واحدة. لقسرهم على الإيمان, ولكن الله - تعالى - بنى أمرهم على أن يختاروا ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله - تعالى -: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ويعذب الكافرين الذين ظلموا أنفسهم وقيل في ختام الآية: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ولم يقل: ويدخل من يشاء في عذابه للإيذان بأَن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته تعالى، كما في الإدخال في الرحمة، على أن ذلك أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأَن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه إنما الكلام في - أنه بعد تحتمه - هل من يخلصهم بالدفع أو بالرفع، فإذا انتقى ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه حيث لا ولى يتكفل بحمايتهم ولا نصير ينقذهم. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)} المفردات: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) أي: بل اتخذوا أصناما وأوثانا يلون أمورهم. (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) أي: عند البعث. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: أن غيره من الأولياء لا يقدر على شيءٍ.

التفسير 9 - {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: جملة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولى أو نصير. أي: بل أتخذوا - مجاوزين الله - أولياءَ من الأصنام وغيرها، و (أَم) منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكارى، وهي لاستنكار اتخاذهم الأولياءَ واستقباحه ونفيه على أبلغ وجه وآكده، إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء، وهو أظهر الممتنعات (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا أولياءَ بحق، فالله هو الولى. لا غيره - عز وجل - (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) عند البعث (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق لذلك بأن يتخذ وليا. فليخصوه بالاتخاذ دون غيره. {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}

المفردات: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: وما خالفكم الكفار والمشركون في الدين أو ما حدث بينكم فيه خلاف. (إِلَيْهِ أُنِيبُ): أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأُمور. (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خالقها ومبدعها على غير مثال، يقال: فطره من - باب نصر - ابتدأَه واخترعه. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يكثركم بسبب هذا التزاوج بين الذكور والإناث، يقال: ذرأ الشيءَ كثَّره وفرقه. (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَي: له مفاتيح خزائنهما، ومن يملك المفاتيح يملك الخزائن، والمقاليد: جمع مِقلاد أَو مقليد. (وَيَقْدِرُ) أَي: يضيق ويقتر على من يشاء. التفسير 10 - (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ): حكاية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين، أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب، والمشركون في شيءٍ من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم فيه كاتخاذ الله وحده وليًّا. فقولوا لهم: حكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله لا إليكم، قد حكم بأن الدين هو الإِسلام لا غيره، وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله - سبحانه - الذي تكفل بإثابة المحقين من المؤمنين ومعاقبة المبطلين (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي) الإشارة إليه - تعالى - من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قال الطيبى: من كونه - تعالى - يحيى الموتى، وكونه على كل شيء قدير, وكونه - عَزَّ وَجَلَّ - ما اختلفوا فيه فحكمه إليه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أَي: عليه لا على غيره توكلت في كل أُمورى، وإليه أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأُمور لا إلى أحد سواه. وقيل: المعنى: وما اختلفتم وتنازعتم في شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيث كان التوكل على الله أمرا: أحدا مستمرًا والإنابة إليه متعددة متجددة حسب تجدد موادها. أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع. فقيل: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). 11 - {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: أي: ذلكم الله ربي هو خالق السموات والأرض ومبدعهما خلق لكم من جنسكم أزواجًا, وخلق للأنعام أيضا من جنسها أزواجا، أَي: كما خلق لكم في أنفسكم أزواجا وخلق لكم من الأنعام أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي: يكثركم ويزيدكم فيما ذكر من التدبير، وهو أن جعل - سبحانه - للناس والأنعام أزواجًا يكون بينهم توالد وتناسل. أو جعل التكثير في هذا الجعل لوقوعه بسببه، والضمير في (يَذْرَؤُكُمْ) يرجع للمخاطبين والأَنعام بتغليب المخاطبين العقلاء على الغُيَّب مما لا يعقل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفى للمشاركة في كل شأن من الشئون التي من جملتها هذا التدبير البديع السابق، والمراد نفى أن يكون مثله - سبحانه - شيء يزاوجه - عز وجل - وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. والمعنى: ليس كذاته شيء بإرادة الذات من (المثل) كما قيل، وعلى هذا لا فرق بين (ليس كذاته شيء) وبين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في المعنى، إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة هي أن المماثلة منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الغرض كاف في المبالغة، ومثل هذا شائع في كلام العرب كما يقولون: مثلك لا يبخل، يريدون به نفى البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يماثله فرضا فقد نفوه عنه بطريق أولى. وقيل: يراد بالمثل الصفة، أي: ليس كصفته صفة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: المدرك إدراكا تاما لجميع المسموعات ولجميع المبصرات أو الموجودات. 12 - {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}: أي: له - سبحانه وتعالى - مفاتيح خزائنهما، ومن يملك المفاتيح يملك الخزائن حفظًا وتدبيرا، وهو - عَزَّ وَجَلَّ - يوسع الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاءُ حسبما تقتضية الحكمة العالية، والعدل التام.

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مبالغ في الإحاطة به كما في قوله - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (¬1) فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه. والجملة تعليل لما قبلها، وتمهيد لما بعدها من قوله - تعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ). * {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} المفردات: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ): سن لكم من الدين وبين وأظهر وقضى، والمشرعة والشريعة: مورد الماء. (وَصَّى): أمر أمرًا لازما جازما. (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ): اجعلوا الدين قائما بالمحافظة عليه، وتقويم أركانه، والحرص عليه من أن يقع فيه زيغ أو تفريط. (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ): عظم واشتد. (يَجْتَبِي): يجتلب ويصطفى. (يُنِيبُ): يرجع عن الكفر ويختار طريق التوحيد والهداية. (بَغْيًا): ظلما وحقدا وعداوة. (مُرِيبٍ): مقلق موغل في الشك. ¬

_ (¬1) سورة يونس من الآية 61.

التفسير 13 - {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}: ختم الله الآية السابقة بقوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليلا لما قبلها، وتمهيدا لهذه الآية وما بعدها، وإيذانا بأَن ما شرع الله من الأحكام صادر عن كمال العم والحكمة، وقد حكت الآيات السابقة صورا كثيرة من ألوان القدرة، ومظاهر التفرد بالوحدانية والملك، وقررت أن الله وحده هو الولى لخلقه، القادر على كل شيء، فاطر السموات والأرض , وأنه - تعالى - جعل من الإنسان أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا ينتظم بها أمر الدنيا، بيده مقاليد السموات والأرض يتصرف فيها خلقًا وملكًا وإحياء وإماتة وبسطا وتضييقًا، وهو العليم بكل ما فيها ومن فيها, لا يعزب عن علمه شيء من أحوالها, ولا يعجزه أمر من أُمورها. ثم جاءَت هذه الآية لتبين أنه - تعالى - شرع لعباده ما ينظم سلوكهم. ويقوم مسيرتهم بما جاء على لسان أنبيائه ورسله على تتابع الزمان، فقال - تعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ... ) الآية، والشارع هو الله - تعالى - المفهوم بالنص من الآيات السابقة، والمخاطب أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى: سنَّ الله - تعالى - لكم يا أُمة محمَّد وأظهر وبين من أُمور الدين وأحكامه ما سبق أَن وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى نبيكم، وما وصى به من جاء بعد نوح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وأمرهم به أمرًا مؤكدًا لازما هو قوله - تعالى -: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) والمقصود به دين الإِسلام، والاستسلام لله وذلك بتوحيده وطاعته، والإيمان بكتبه ووسله ويوم الجزاء، وسائر ما يكون العبد به مؤمنًا، وإقامة الدين: معناها تعديل أركانه، والمواظبة عليه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو تحريف، والإِسلام بهذا المعنى لا يختلف فيه أَحد من الأنبياءِ في أي عصر من العصور، والبدء بذكر نوح - عليه السلام - لأنه أبو البشر بعد آدم - عليهما السلام - ولأَنه - على ما قيل - أول الأنبياء بعد آدم. وفي تقدم ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من قبله من الأنبياء إشعار بأن شريعته - صلى الله عليه وسلم - هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء، وأنه النبي الخاتم، وأن رسالته أعم الرسالات.

والمراد بالإيحاء إليه - صلى الله عليه وسلم - إما الإشارة إلى ما ذكر في خصوص هذه السورة من مثل قوله - تعالى - في صدرها: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ومن قوله - تعالى - في ختامها: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وإما ما يعمها وغيرها من مثل ما وقع في سائر المواقع من القرآن الكريم التي من جملتها: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وغير ذلك كثير في القرآن الكريم. وتخصيص الرسول بذكر الإيحاء، وإيثاره على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة وغيرها من مثل قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} مما جاء في هذه السورة بخصوصها, ولما في الإيحاء من التصريح برسالته - صلى الله عليه وسلم - والالتفات إلى "نون" العظمة في قوله - تعالى -: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لإظهار كمال العناية بإيحائه. وقوله - تعالى -: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} معناه - على ما اختاره غير واحد من الأجلَّة عَام شامل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه وللأنبياء والأُمم قبلهم، أي: لا تختلفوا في أصل من أُصول الدين وقوله - جل شأْنه -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (¬1). ولا يشمل هذا النهي الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا, ولم يجمع النبيون على الاتفاق فيها، أو يتحتم دينًا الاتفاق عليها كما يؤذن بذلك قوله - تعالى -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬2). قال مجاهد: لم يبعث نبى إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار باللهِ - تعالى - وطاعته - سبحانه - وذلك إقامة الدين. ومعنى الآية: شرعنا لكم ما وصينا به نوحا، وما أوحيناه إلى نبيكم، وما وصينا به الأَنياء قبلكم - شرعنا - لهم دينا واحدا في الأصول، وهي: التوحيد، والصلاة , والزكاة ¬

_ (¬1) سورة النساء الآيتان 150، 151. (¬2) سورة المائدة من الآية 48.

والصيام، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والوفاء بالعهد، وأَداء الأَمانات، وصلة الرحم، وتحريم الكبر والزنى والإيذاء للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءَات، وما ينافى المروءَات، ونحو ذلك من الكمالات فهذا كله مشروع دينا واحد، وملة متحدة، لم يختلف علي ألسنة الأنبياء في الأصل ولا في الصورة، فأقيموا هذا الدين ولا تتفرقوا فيه، واجعلوه قائما مستمرا من غير خلاف فيه، لا اضطراب. (الآلوسي بتصرف). والذي ينبغي اعتباره - ولا مجال للشك فيه - أن رسالات الأنبياء جميعًا متفقة في أُصول العقائد ومطلق العبادات، والأمر بإتيان الفضائل، واجتناب الرذائل. وقد تختلف في الفروع أو في بعضها تبعًا لتقادم الأَزمان، ولمقتضيات الأطوار, وتطور أحوال الإنسان , كما تختلف في أسلوب الأَداء في رسالة عن رسالة أُخرى. وقوله - تعالى -: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) معناه: شق على المشركين وعظم في نفوسهم ما تدعوهم إليه من توحيد الله - تعالى - ورفض عبادة الأصنام، وضاقوا بدعوتك ولجوا في عنادك تقليدا لآبائهم. وقوله - تعالى -: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) فيه تسلية - للنبي - صلى الله عليه وسلم - يمحو القلق من نفسه، ويضفى على قلبه الراحة والاطمئنان إذا علم أن قلوب العباد ونواصيهم بيده - سبحانه وتعالى - يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب. والمعنى: الله - تبارك وتعالى - يصطفى إليه من يشاء من عباده الباحثين عن الحق ويهديه إلى الاستجابة ويرشده إلى التوحيد والطاعة، ويختاره لحظيرة أُنسه، ودار قدسه، ويهدى بالإرشاد والتوفيق من يترك المعاصي ويقبل عليه، ويرجع إليه، فلا تبال يا رسول الله بخلاف من خالفك، ولا يشق ذلك على نفسك. 14 - {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}:

هذه الآية شروع في بيان أحوال أهل الكتاب بعد الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هم اليهود والنصارى لقوله - تعالى -: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬1). والمعنى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه في حال من الأحوال أَو في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءَهم العلم بحقيته بما شاهدوا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه في كتبهم - وهذا ما ذهب إليه العلامة أبو السعود - وقال الآلوسي: وما تفرق أُمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم منذ بعث نوح - عليه السلام - في الدين الذي دعوا إليه - ما تفرقوا في وقت من الأوقات - إلا من بعد ما جاءَ العلم من أنبيائهم بأن الفُرْقة ضلال وفساد وأمر متوعَّد عليه، وهذا يؤيد ما دل عليه سابقًا من أن الأُمم القديمة والحديثة أُمروا باتفاق الكلمة، وإقامة الدين. ويضعف هذا الرأى أن مشاهير الأُمم السابقة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال، وأن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأُمة، وإنما ذكر من ذكر من الأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء المكذبين دين قديم أَجمع عليه أولئك الأعلام تأْكيدا لوجوب إقامته، وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه، ومهما يكن القول في التفرق فإنه لم يكن صادرا منهم عن حقيقة، ولا قائما على رأْى، وإنما كان بغيا وظلما وعداوة وحسدا نابعًا من طلب الدنيا والحرص على الرياسة {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: ولولا قضاء قضى به الله , وَعِدَة سبقت منه - جل شأْنه - بتأخير العقوبة (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لوقع العقاب باستئصال المبطلين منهم، لعظم ما اقترفوه واستيجاب جناياتهم لذلك. (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي: وإن المشركين الذين أُورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتبهم لفى شك من القرآن مدخل ¬

_ (¬1) سورة البينة الآية: 4.

في القلق والحيرة. ولذلك لا يؤمنون به لمحض البغى والمكابرة بعد ما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين. {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} المفردات: (وَاسْتَقِمْ): واستمر على المنهج المستقيم ودم عليه. (أَهْوَاءَهُمْ): ميولهم الفاسدة. (مِنْ كِتَابٍ) أَي: أي كتاب منزل من الله. (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ): لا محاجة ولا خصومة. (يُحَاجُّونَ): يجادلون ويخاصمون. (فِي اللَّهِ): في دين الله. (دَاحِضَةٌ): زائلة باطلة.

التفسير 15 - {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}: تناولت الآيات السابقة تفرق الأُمم فيما جاءَهم به أنبياؤهم، والشك المريب الذي عاشوا فيه، ثم جاءت هذه الآية ترشد إلى رفض هذا السلوك السيء وتحث علي مدافعته واستئصاله، فالإشارة في قوله - تعالى -: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) أي: فمن أجل ما ذكر من التفرق فادع إلى دين الحق الذي أنت عليه. والمعنى: إذا كان الأَمر كما ذكر فلأَجل ذلك التفرق وما جر إليه من تشعب في الكفر، وشك مريب في مقدسات الدين فادع يا محمد إلى الاتفاق على الملة الحنيفية القديمة، والعقيدة السمحة القويمة (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) واثبت على هذه الدعوة، والزم منهجها المستقيم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) الباطلة ولا تطاوع ميولهم الفاسدة، واحمل الناس كافة على إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه، فإن تفرقهم في الدين وكونهم في شك مريب يحتمان الدعوة إليه والأَمر به. (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) يعنى: دُمْ على الإيمان بكل كتاب من الكتب المنزلة من الله، لا تفرق بين كتاب وكتاب منها, ولا تقل: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وفي هذا القول تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أَهل الكتابين، وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها. (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أَي: وأمرني ربي أن أَعدل بينكم في فصل القضايا والخصومات، وفي تبليغ الشرائع والأحكام، فلا أَخص بشىء منها شخصًا دون آخر، وقيل: لأسوى بيني وبينكم. فلا آمركم بما لا أعمله، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أَي: خالقنا وخالقكم، ومتولى أُمورنا وأُموركم، لا ندين إلا به ولا نخضع إلا لأَمره.

(لَنَا أَعْمَالُنَا) لا يتخطانا جزاؤها ثوابًا أو عقابًا (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) لا تتجاوزكم آثارها، فنحن لا نستفيد بحسناتكم أو نتضرر بسيئاتكم. (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي: لا خصومة ولا محاجّة بيننا وبينكم؛ لأَن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للخصومة موقع أو مجال، ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة. (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي: الله يجمع بيننا جميعًا يوم القيامة للحساب والجزاء وإليه وحده مصيرنا ومصيركم فيظهر هناك حالنا وحالكم، ويفصل بيننا وبينكم، ويلاقى كل واحد منا جزاءه من الثواب أو العقاب في هذا المصير المحتوم. هذا, وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسًا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وبهذا يقول أبو السعود، وهذا - كما ترى - محاجزة في موقف المجاوبة، لا متاركة في موطن المحاربة حتى يصار إلى النسخ بآية القتال. 160 - {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}: لما ذكرت الآية السابقة ظهور الحجة وانقطاع المحجة، جاءت هذه الآية تنعى على أهل الكتاب الجدل بالباطل واللدد في الخصومة، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإِسلام، ومحاولة إضلالهم فقالوا: "كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم" وفي رواية بدل - فديننا - "فنحن أولى به - تعالى - منكم". والمعنى: والذين يحاجون من أهل الكتاب في دين الله بعد أن استجاب الناس لله أو لهذا الدين، وأذعنوا له، ودخلوا فيه أفواجًا لظهرر حجته، ووضوح محجته، وعدالة أحكامه، وسلامة قواعده - الذين يفعلون ذلك - (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَي: باطلة وزائلة لا تقبل عند الله، ولا تصح في منطق ولا عقل، بل لا يقام لهم حجة أصلا، لأن الحجة إنما تصح فيما يقبل فيه الرأْى ويستقيم الترجيح، والتعبير عن أباطيلهم بالحجة - وهي الدليل هنا - مجاراة لهم على زعمهم الباطل.

وقوله - تعالى -: (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ): بيان لما يستحقون وما يجرى عليهم في الدنيا من الغضب الذي يتغشاهم، والكآبة التي تعلو وجوهم فتفقدهم الطلاقة والبشر، وبيان لما ينتظرهم في الآخرة من العذاب البالغ الحد في القسوة والشدة ولا يدرك تصوره فيجتمع، عليهم - إلى بطلان الحجة - غضب الله، والعذاب الشديد. {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} المفردات: (الْكِتَابَ): جنس الكتاب، ويراد به الكتب السماوية المنزلة من الله تعالى. (وَالْمِيزَانَ): الشرع الذي يتحقق به العدل، أو نفس العدل، أو آلة الوزن. (وَمَا يُدْرِيكَ): وأى شيء يجعلك عالمًا داريًا؟. (مُشْفِقُونَ مِنْهَا): خائفون منها. (يُمَارُونَ): يجادلون ويشككون، من المرية والشك، أو من: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة لإدرار اللبن، لأن كُلًّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة.

(لَطِيفٌ): بليغ البرّ. (حَرْثَ) الحرث: كسب المال، وجمعه: أحراث، والحرث: البذر الذي يوضع في الأرض لينبت، ويطلق على الزرع الحاصل منها، وعلى ثمرة الأعمال. التفسير 17 - {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}: هذه الآيات من جملة تسفيه المشركين الذين يجادلون في دين الله من بعد ما استجيب له، وتمكنت دعوته، ورسخت حجته، وإمعان في تهديدهم وتخويفهم وتحذيرهم مغبة ما يفعلون بتقرير صدق الكتب السماوية المنزلة من الله - - تعالى - على أنبيائه المتمثلة في قوله - تعالى -: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). والمعنى: الله - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب ملتبسا بالحق بعيدا عن الباطل في أحكامه وأخباره، قائما على الصدق في كل ما جاء به من العقائد والعبادات والفضائل لا مجال فيه لجدل، ولا سبيل إلى محاجة أو مكابرة في شأنه. والمراد بالميزان - والله أعلم -: الشرع الذي تحدد به الحقوق، ويسوى به بين الناس، أو العدل، والمقصود بإنزاله الأمر به - وقيل: المراد خصوص آله الوزن. والمقصود من الساعة القيامة في قوله - تعالى -: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي: لعك القيامة قريب، والاستفهام للتنبيه والإعذار، والمعنى: وأى شيء يجعلك عالمًا داريا بما يغيب عنك من الأمور التي من جملتها قيام الساعة؟ إن قيام الساعة قريب وشيك الإتيان فاتبع الكتاب، وواظب على العدل، واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال، ويوفى جزاؤها. 18 - {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}:

قررت الآية السابقة أن القيامة على وشك الإتيان ثم جاءَت هذه الآية بعدها توضح موقع الناس من أمرها، وحقيقة إيمانهم بها، وأبانت أنهم منها بين جاحد منكر يستعجل وقوعها سخرية واستبعادا، وبين مؤمن مصدق بها مشفق من وقوعها مع عمله لها أو تقصيره في شأنها. والمعنى: يستعجل وقوع الساعة وينادى بحصولها المشركون المنكرون لها سخرية واستبعادا، كانوا يقولون: متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر حال ما نحن عليه، وما عليه محمَّد وأصحابه. أَما الذين آمنوا وصدقوا فدائمون على الخوف منها والإشفاق من وقوعها مع عملهم الصالح، وطاعتهم المرضية استقلالا لأعمالهم واستصغارا لحسناتهم، مع يقينهم أن حصولها هو الأمر المحقق الكائن لا محالة، وأشدهم خوفا منها هم المؤمنون المقصرون في العمل لها. ولعل من حلية الأُسلوب، وجمال تنسيقه ما قاله الجلبى من أن الآية من الاحتباك، والأَصل: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلونها، وفي التعبير بالفعل المضارع في الجملة الأولى، وبالجملة الاسمية في الجملة الثانية ما يلمح إلى تجدد القلق والاضطراب في نفوس الذين لا يؤمنون بها وتمكن الاستقرار والاطمئنان في قلوب المشفقين منها. وفي قوله - تعالى -: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) تنبيه على غفلة هؤلاء المشركين، واستعظام لإنكار الساعة، واستقباح لمماراتهم فيها، وتشككهم وتشكيكهم في حصولها، وهي أقرب الغائبات إلى المحسوسات، وذلك مما يقتضيه العقل الراجح، والفطنة السليمة. 19 - (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ): هذه الآية من كتاب الله يدق فيها الفهم بقدر ما يرق فيها اللطف، فإن عباد الله منهم البرّ والفاجر، وفيهم المؤمن والكافر، وإن أرزاق الله التي تجرى على خلقه تتعدد حسا ومعنى، ويختلف جريها على الناس سعة وضيقًا، وإعطاء لشىء وحرمانا من آخر، وهي في جملتها لا تنقطع عن مخلوق - إنسانًا، أو حيوانا - قال - تعالى -: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} (¬1) ولهذا تقدم في الآية اللطف على إجراء الرزق، وتعقب إجراء الرزق بالقوة والعزة. ¬

_ (¬1) سورة هود: الآية 6.

والمعنى: الله لطيف بعباده، أي: برٌّ بليغ البر بعباده رفيق بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه، وصنوف آلائه ما لا تبلغه الأفهام. قال حجة الإِسلام - عليه الرحمة: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل، واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف، ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله - تعالى - والقصود بالعباد جميع خلقه لإضافة العباد - وهو جمع - إلى ضميره - تعالى - فيفيد الشمول والعموم، ومعنى قوله - تعالى -: (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ): يجرى رزقه على من يشاءُ بما شاء من أنواع الرزق فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته وحكمته، وهو القوى القادر الذي لا يعجز، العزيز المنيع الغالب الذي لا يقهر. والتذييل بالاسمين الجليلين مؤذن بالتعليل، كأَنه قيل: لطيف بعباده عظيم الإحسان بهم؛ لأنه - تعالى - القوى الباهر القدرة الذي غلبت قدرته جميع القدر، يرزق من يشاءُ؛ لأنه العزيز الذي لا يغلب. 20 - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}: أي: من كان طلب من المكلفين بأعماله ثواب الآخرة، ويرجو رحمة الله وحسن جزائه يوم القيامة يضاعف الله له ثوابه بالواحد عشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر من ذلك لمن يشاء، ومن كان يطلب بأعماله الدنيا ويجرى وراء متاعها وزخرفها لا يريد غير ذلك يؤته من ذلك حسبما قسم الله له وقدر في الدنيا ولا حَظَّ له في الآخرة، وما له فيها من أجر ولا ثواب؛ لأنه أفرغ همه، وقصر جهده على طلب الدنيا، وفي هذا التوجيه حث على إخلاص النوايا , إذ الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى. ولم تشر الآية إلى أَن لطالب الآخرة نصيبا في الدنيا على نحو ما ذكر لطالب الدنيا للتنويه بعظم أجره في الآخرة والاستهانة بما يناله في الدنيا مهما عظم بجانب ثواب الآخرة.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} المفردات: (شُرَكَاءُ): شياطين أو أصنام. (شَرَعُوا): سوّلوا وزينوا. (مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي: ما لم يأْمر به كالشرك ونحوه. (كَلِمَةُ الْفَصْلِ): القضاء السابق بتأْجيل عذابهم. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): فصل بين المشركين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم. (مُشْفِقِينَ): خائفين. (رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ): أطيب بقاعها، وأعلى منازلها وأنزهها. (يَقْتَرِفْ): يكتسب. التفسير 21 - {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هذه الآية تنعى على المشركين كفرهم الذي دعاهم إلى إيثار متاع الدنيا على العمل للآخرة، وتنكر عليهم في أُسلوب توبيخى تقريعى ما هم عليه من العقائد الفاسدة، والإخلاد

إلى الدنيا، وهي في مقابلة قوله - تعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) لتدلَّ على أَنهم في شرع يخالف ما شرعه الله - تعالى - من كل وجه: حيث قابلوا إقامة الدين في قوله - تعالى -: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) بالشرك، والإشفاق من يوم القيامة باستعجال الساعة، وطلب الآخرة بالعمل للدنيا. والمعنى: بل ألهؤلاء الكفار والمشركين من أهل مكة شركاء من الشياطين سوَّلوا لهم من الدين وسنوا ما لم يأْذن ويأْمر به الله - تعالى - كالشرك وإنكار البعث فاتخذوه دينا لهم ومنهجا {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: ولولا أَن الله قضى وحكم بتأْخير العذاب في هذه الأُمة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة لوقع العذاب في الدنيا على الذين يكذبونك , ولفصل الله بين المشركين والمؤمنين فهلك من هلك عن بيَّنة وحيّ من حىَّ عن بيَّنة، أو لفصل بين المشركين وشركائهم من الشياطين والأصنام بما يقضى به الله فيهم. وبما أن شركاءهم من الشياطين حرضوهم على الشرك وشرعوه لهم ولم يأْذن به الله، فيكون الاستفهام الإنكارى الذي تضمنه لفظ (أَم) مرادًا منه إنكار هذا الواقع وتوبيخهم عليه. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَي: وإن لهؤلاء المشركين الذين يستوحون دينهم من شياطينهم، لهم عذاب موجع بالغ غاية الإيلام والإيجاع في الآخرة. هذا، وإسناد الشرع إلى الشركاءِ لأَنهم سبب ضلالهم وفتنتهم كقوله - تعالى -: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (¬1). وتسمية ما شرعوه دينا للتهكم والسخرية، والتعبير بالظالمين عن ضميرهم للإشارة إلى أنهم - بشركهم - تجاوزوا حدّ الاعتدال فظلموا أنفسهم بالشرك، ظلموا المؤمنين بمعارضتهم، وظلموا دين الله بالافتراء عليه - وإنكار أحكامه العادلة , ومنهجه القويم، وإن الشرك لظلم عظيم. 22 - {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}: ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: من الآية 36.

هذه الآية كلام مستأنف يعرض مشهدا من أحوال الناس يوم القيامة، والخطاب فيه لكل أحد يصلح لتلقى الخطاب، قصدا إلى المبالغة في عرض سوءِ حال الظالمين، وجمال نعيم المؤمنين. والمعنى: ترى يا من يصح منه أن يرى. ترى الظالمين الذين كانوا متجبِّرين في الدنيا يرفلون في الترف والنعيم - تراهم - يوم القيامة أذلاء صاغرين مشفقين أشد الإشفاق خائفين غاية الخوف من جزاء وعذاب ما كسبوا من المعاصي واقترفوا من المظالم والمآثم وهو واقع بهم لا محالة لا ينجيهم منه خوف ولا يعفيهم إشفاق فإن يوم الجزاء لا يُنجى منه خوف، ولا إشفاق من الكافرين الظالمين. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ}: آمنون مستقرون في أطيب بقاع الجنات، وأعْلى منازلها وأنزه ملاذها دانية عليهم ظلالها، مُذَلَّلَة قطوفها، لهم ما يشتهون من فنون الملذات عند ربهم، فلا ينتهى فيها نعيم، ولا ينقصه وافر العطاء. (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ): أي ذلك الشأن الذي يعيشون، والنعيم الذي يتنعمه أَهل الجنة البالغ أعلى الدرجات في السموِّ والراحة، هو الفضل الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ أحد وصفه. 23 - {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}: الكلام في هذه الآية موصول بالكلام عن الفضل الكبير المذكور في الآية قبلها. والمعنى: ذلك الفضل المتناهى في الكبر المتعاظم في العلو هو الذي يبشر الله به عباده الذين أخلصوا الإيمان, وأكثروا عمل الصالحات وداوموا عليها، يبشرهم بذلك الفضل استعجالا لسرورهم في الدنيا. روى أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟، فنزل قوله - تعالى -: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}: والمعنى: قل لهم يا أيها الرسول الكريم ردًّا على ما تساءَلوا به: لا أطلب منكم على ما أنا فيه من تبليغ الرسالة - وتعليم الشريعة - لا أطلب منكم نفعا ولا أبتغى عليه أجرا إلاَّ أن تودوا أهل قرابتى وتحفظوا حقهم وواجبهم وليس ذلك أجرا لأن قرابتكم قرابتى فهي صلة يفرضها الدم، وتقتضيها حق قرابتى ورحمى، وقد ذكر الطبرى في هذه الآية آراءً لعل من تمام الإيضاح أن نذكرها كما أشار إليها غيره من المفسرين - قال - رحمه الله - عند ذكر هذه الآية: اختلف في معناه على أقوال: (أَحدها): لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجرا إلَّا التواد والتَّحاب فيما يقرب إلى الله - تعالى - من العمل الصالح - عن الحسن والجبائى وأبى مسلم: قالوا: هو التقرب إلى الله - تعالى - والتودد إليه بالطاعة. (ثانيها): معناه إلاَّ أن تودونى في قرابتى منكم، وتحفظوني لها - عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة قالوا: وكل قرشِيّ كانت بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة، وهذا لقريش خاصَّة، والمعنى إن لم تودونى لأجل النبوّة فودونى لأجل القرابة التي بيني وبينكم. (ثالثها): أن معناها إلاَّ أن تودوا قرابتى وعترتى وتحفظونى فيهم. عن ابن عباس - مرفوعًا إليه بكثير من الرواة قال: لما نزلت: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ... ) الآية قالوا: يا رسول الله، من هؤلاءِ الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: عليّ، وفاطمة، وولدهما. وأخرج الترمذي - وحسنه. والطبرانى. والحاكم - والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: "أحبوا الله - تعالى - لما يغذوكم به من نعمة، وأحبّونى لحبّ الله - تعالى - وأحبوا أهل بيتى لحبِّى". وأخرج أحمد والترمذي,، وصححه، والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّا لنخرج فنرى قريشًا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا

فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرَّ عِرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبَّكم لله - تعالى - ولقرابتى" وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم. (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أي: ومن يكتسب عملا صالحا: ويصطنع طاعة خالصة من الطاعات التي من جملتها المودة في القربى (نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أي: نضاعف له في جزاء هذه الحسنة بمقدار ما أحسن فيها وأضعافه بمضاعفة الثواب عليها - روى أن الآية نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - لشدة محبته لأَهل البيت. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ): واسع المغفرة يستر عيوب عباده يغفر ذنوبهم إذا تابوا (شَكُورٌ): عظم الشكر لمن أطاعه يوفِّيه حقه من الثواب: ويتفضل عليه بالمزيد من غير حساب. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوعَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)} المفردات: (افْتَرَى): اختلق. (يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ): يطمس عليه وينسبه فلا يعى. (يَمْحُ): يزيل.

(ذَاتِ الصُّدُورِ): حقائقها ودخائلها. (التَّوْبَةَ): الرجوع عن المعاصي بالندم عليها، والعزم على تركها أبدا. التفسير 24 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: الاستفهام المفهوم من لفظ (أَم) لتوبيخهم على مقالتهم. والمعنى: أيجترئ هؤلاء السفهاء، وتطاوعهم ألسنتهم بنسبة مثله - عليه الصلاة والسلام - إلى الافتراء والكذب والاختلاق وهو من هو الذي لم يعرف عنه في جاهلية ولا في إسلام أنه ألمَّ بكذبة قط، ثم كيف يستقيم افتراؤه على الله والإفتراء على الله - عز وجل - أقبح الفرى وأفحشها، وما عرف عنه - صلى الله عليه وسلم - كذب على أحد مطلقًا مشرك أو مؤمن, فالافتراء منه - صلى الله عليه وسلم - مستبعد، وعلى الله مستحيل وقوله - تعالى -: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) استبعاد للافتراء عن مثله، أي فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفترى عليه الكذب، فإنه لا يفترى الكذب على الله إلاَّ من كان في مثل حالهم مختومًا على قلبه. والأمر لم يكن على ذلك فقد تواتر الوحى، وتكامل إنزال القرآن حتى أَكمل الله دينه وأتم نعمته. (وَيَمْحُ (¬1) اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ): كلام مستأنف غير معطوف على يختم مقرر لنفى الافتراء عنه - صلى الله عليه وسلم -، مسوق لبيان شأن من شئون الله - تعالى - وتقرير سننه بمحو الباطل ¬

_ (¬1) وسقوط الواو من كلمة (يمح) ليس للعطف على (يختم) بل لمجرد التخفيف، كما حذفت في قوله - تعالى -: {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير}.

وإزهاقه، وتأْكيد الحق وإحقاقه كما ينطق بذلك قوله - تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (¬1). والمعنى: ومن سنن الله - تعالى - أنه يمحو الباطل بقدرته وحكمته، ويثبت الحق ويحققه ببرهانه وآياته. ويجوز أن يكون الكلام مسوقا مسوق الوعد والبشارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه - تعالى - يمحو الباطل من البهتان والتكذيب، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مردّ له بنصرته عليهم. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: إنه مطلع على دخائل القلوب بصير بحقائقها، لا تخفى عليه خافية من أُمورها ثم يجرى عليها أحكامه المناسبة لأَحوالها. 25، 26 - {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوعَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}: لوّحت الآيات السابقة بالوعيد لمن غوى وضل سبيل الهدى واتبع الهوى فابتدع شرعًا لم يأذن به الله أو ادعى افتراءً على الله، وجاءَت هذه الآيات تهبّ بنسائم الرحمة وتفتح مغاليق الخير والبرّ، حتى لا ييئس عاص من رحمة الله، ولا ينقطع طمع مذنب من رجاء الله، فقال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ... } الآية: والمعنى: وهو الله - تعالى - الذي يتفضل بواسع فضله ووافر برّه ورحمته بقبول التوبة عن عباده يتجاوز عما تابوا عنه وأقلعوا عن فعله في ندم وحسرة، فإن التوبة الصادقة هي الرجوع عن المعاصي والندم عليها، والعزم على عدم معاودتها أبدا، روى جابر - رضي الله عنه - أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر فلما فرغ من صلاته قال له على - رضي الله عنه -: "يا هذا، إن سرعة اللسان ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء من الآية 18.

بالاستغفار توبة الكذّابين، وتوبتك هذه تحتاج إلى توبة، فقال: يا أَمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاءُ بدل كل ضحك ضَحِكته. (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي: يتجاوز عن جميع السيئات الكبائر والصغائر، وقيل: يعفو عن الكبائر، وعن الصغائر باجتناب الكبائر (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: ويعلم كل ما تفعلونه كائنا ما كان، سرا أَو جهرا كبيرا أَو صغيرا خيرا أو شرا فيجازى بما شاءَ ويتجاوز عما يشاءُ حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة. (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): يختص الله - تعالى - في هذه الآية الذين آمنوا وعملوا الصالحات بمزيد من الفضل تقديرا لأعمالهم، وبعثا لهممهم، واستجلابا لغيرهم في استباق الخيرات، والمبادرة إلى الصلوات، والكلام في قوله - تعالى -: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على حذف اللام، أَي: يستجيب لهم كما في قوله - تعالى -: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} (¬1) أي: كالوا لهم. والمعنى: ويستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات دعاءَهم ويثبتهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، فإن الطاعة لا يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاءَ والطلب، وشابهت الإثابةُ والجزاءُ عليها الإجابة. وجعلوا من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الدعاء الحمدُ"، وسئل سفيان عن قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث: "أكبرُ دعائى ودعاءِ الأنبياء قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ" فقال: هذا قوله - تعالى - في الحديث القدسى: "مَنْ شغلهُ ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضلَ ما أُعطِى السائلين" وقيل الاستجابة فعلهم أَي: يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها، وعن إبراهيم بن أدهم - لما قيل له: ما بالُنا ندعُو فلا نُجَاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تُجيبوه، ثم قرأ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة المطففين من الآية 3. (¬2) سورة يونس، الآية: 25.

ومعنى (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ): يضاعف لهم أجرهم ويزيد ثوابهم على ما استحقوا من الثواب بموجب الوعد والعدل، وذلك من واسع فضله ووافر عطائه وكرمه، وإذا كان للذين آمنوا وعملوا الصالحات ثواب أعمالهم ومضاعفة أجورهم فضلا من الله - تعالى - فإن الكافرين الذين عاشوا حياتهم في الكفر والمعاصي لهم في الآخرة - جزاء كفرهم وعصيانهم - عذاب بالغ الحد في المهانة والشدة والتهديد. مقابل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد. * {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} المفردات: (بَسَطَ): وَسَّع وكَثَّر. (لَبَغَوْا): لطغوا وتكبروا. (بِقَدَرٍ): بتقدير حكيم. (الْغَيْثَ): المطر النافع الذي يُغيث النَّاس بعد الجدب. (قَنَطُوا): يئسوا من نزوله. (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ): يبسطها ويُعمّها. التفسير 27 - {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}: فيما سبق من الآيات يمتن الله على عباده بقبول توبتهم إذا تابوا ورجعوا إليه، فيعفو ويصفح، ويستر ويغفر، وبأَنه يجيب دُعَاء المؤمنين إلى ما طلبوا ويزيدهم خيرا، وفي هذه الآية

يمنّ عليهم أيضًا - سبحانه وتعالى - بأَنه مُحيط علمًا بما خفى وظهر من أُمورهم، فيقدِّر بحكمته لكلِّ ما يصلحُ شأنه فيقول: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ... ) الآية. سبب النزول: قيل: نزلت هذه الآية في قوم من أهل الصُّفة تمنُّوا سَعَةَ الرِّزق والغنى، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت، وذلك أننا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبنى النضير وبنى قينقاع فتمنيناها فنزلت. (ذكره الزمخشرى والآلوسى). والمعنى: ولو وسع الله الرزق على جميع عباده، وكَثَّره عندهم وأعطاهم فوق حاجتهم لطغوا وظلموا، وتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يستتبعه الكبر من العلو والفساد "فإن الغنى مبطرة مأْشرة" وكفى بحال قارون عبرة (¬1) وفي الحديث: "أخوفُ ما أخاف على أُمتي زهرة الدنيا وكثرتها". ولكن يُنزِّل الله الرزق بتقدير مُحكم، فيوسعه على من يشاء، ويضيِّقه على من يشاء تبعًا لما اقتضته حكمته وفي الحديث: "إن من عبادى من لا يُصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأَفسدتُ عليه دينَهُ، وإنَّ من عبادى من لا يُصلحه إلاَّ الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دِينَهُ". وهو - سبحانه - محيط علما بما خفى وظهر من أُمور النَّاس، يعلم ما تصير إليه أحوالهم فيقدر بحكمته لكلٍّ ما يُصلح شأنه، ولو أغناهم جميعًا لبغوا، ولو أفقرهم جميعًا لهلكوا ولله درّ الغزالي حيث يقول: "ليس في الإمكان أبدع مما كان". وقد يبْغِى الفقير ولكن ذلك قليل، والبغى مع الغنى أكثر وقوعًا. 28 - {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}: ومن نعم الله وآلائه على عباده أنه هو الذي ينزل المطر في وقت حاجتهم وفقرهم إليه فيغيثهم به بعد يأس من نزوله، وينشر رحمة الغيث بتكثير منافعه وآثاره في كل شيء، وفي كلِّ مكان في السَّهل والجبل والنباب والحيوان - أو يعم الكائنات برحمته الواسعة المشتملة على ما ذكر من المطر وغيره , وهو وحده - الذي يتولى أمور عباده بالإحسان ونشر الرحمة، (الْحَمِيدُ): المستحق للحمد على ذلك - لا غيره -. ¬

_ (¬1) أي موقع في الأثر وهو البطر.

ذكر ابن كثير، والزمخشرى: أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: اشتدّ القحط وقنط الناس فقال عمر: مُطِرتم (¬1) ثم قرأ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ). {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)} المفردات: (وَمَا بَثَّ فِيهِمَا): وما فرّق ونشر فيهما. (دَابَّةٍ): هي كل ما يدبّ (¬2) على الأرض من إنسان وغيره. (جَمْعِهِمْ): حشرهم بعد البعث للمُحاسبة. (مِنْ مُصِيبَةٍ): من بلية وشدّة. (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ): فيما ارتكبتم من الآثام. (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ): وما أنتم بجاعلين الله عاجزا عن عقابكم في الأرض. التفسير 29 - {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}: بعد أن ذكر الله آلاءه ونعمه على عباده ذكر - سبحانه - مظاهر قدرته ودلائل عظمته وقوَّته فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... ) إلخ أَي: ومن آياته الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه القاهر خلق السموات والأرض على ما هما عليه من الصنع البديع، والنظام ¬

_ (¬1) يعنى: جاء أوان إمطاركم بعد ما قنطتم. (¬2) أي: يمشى ويسير.

المُتقن، فإنهما بذاتهما وصفاتهما العجيبة تدلان على قدرته وعظمته وبديع صنعه، وَمَنْ له أدنى عقل وإنصاف يجزم باستحالة صدورهما من الطبيعة التي لا عقل لها ولا إرادة ومن آياته - أيضًا - خَلْقُ ما نشر وفرَّق في السموات والأرض من دابة وهي تشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات على اخنلاف أشكالها وألوانها ولغاتها وطباعها وأجناسها وأنواعها، وقد فرّقهم في أرجاء السموات، ونشرهم في أنحاء الأرض، وهو - مع هذا - على جمعهم وحشرهم بعد البعث للمحاسبة - إذا يشاء - تَامُّ القدرة كاملها. وظاهر الآية: وجود الدَّابة في السَّموات والأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالنّاس والملائكة. ويرى الزَّمخشرىّ: أنَّ ما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما على الجملة فالآية على أسلوب {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (¬1) وإنما يخرجان من الملح. ويجوز أن يكون للملائكة مشى مع الطيران فيوصفوا بالدبيب كما يُوصف به الأناسى، ولا يبعد أن يخلق الله في السموات حيوانا يمشي فيها مشى الأناسى على الأرض، وسبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. (انتهى كلام الزمخشرى ملخصًا). وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). 30 - {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}: أي: وما أصابكم ونالكم - أيها الناس - من مصيبة من مصائب الدنيا أو مكروه من مكارهها كالمرض والفقر والضيق وسائر النَّكبات فبسبب معاصيكم وما ارتكبتم من موبقات، واجترحتم من سيئات في الدنيا، ويعفو الله - سبحانه - عن كثير من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا أو آجلا، ويجوز أن يكون المراد: ويعفو عن كثير من الناس فلا يعاقبهم، والظاهر: المعنى الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن: الآية (22). (¬2) سورة النحل: من الآية (8).

فقد روى الترمذي عن أبي موسى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُصيب عبدًا نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله - تعالى - عنه أكثر، وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1) ومن لا ذنب له كالأنبياء - عليهم السلام - قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل" ويكون ذلك لرفع درجاتهم، أو لحكم أخرى يعلمها الله ثم إنَّ المصائب قد تكون عقوبة على الذّنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه في الآخرة إذا تقبل العقوبة بنفس راضية، وعلى ذلك يحمل ما رُوى عن عليّ - كرم الله وجهه - وقد رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عُفِى عنهُ في الدُّنيا عُفِىَ عنه في الآخِرة، ومن عُوقِب في الدَّنيا لم تُثَنّ عليه العقوبة في الآخرة" وعنه - أيضًا - كرَّم الله وجهه: هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن. 31 - {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: أي: ولستم بقادرين على أن تجعلوا الله عاجزا عن إنزال المصائب بكم في الدُّنيا عقابا لكم على ما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مَهْرَب، وما لكم من دونه من مُتَولٍّ بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب، ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذابه إذا وقع بكم. {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)} ¬

_ (¬1) سنن الترمذي: كتاب التفسير - سورة الشورى - ج 5/ 377 رقم 3252 ط/الحلبى وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

المفردات: (الْجَوَارِ): جمع جارية وهي السُّفن. (كَالْأَعْلَامِ): كالجبال أو كالقصور العالية. (فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ): فَيَصِرْنَ ثوابت سواكن لا تتحرك. (أَوْ يُوبِقْهُنَّ): أو يُهلكهنّ بالغرق. (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ): ما لهم من مَهْرب ولا مَخْلص من العذاب. التفسير 32 - : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}: أي: ومن آيات الله ودلالته الدّالة على قدرته الباهرة وسلطانه القاهر - السُّفن الجارية في البحر، كالجبال الشّاهقة في عظمها، سخرها الله - تعالى - في البحر بأمره لخدمة الإنسان وقضاء مصالحه، وأجراها بقدرته ليسهل انتقال الناس من مكان إلى آخر، فتروج التِّجارة، وترتقى الصِّناعة، ويتبادل النَّاس المنافع، وتزدهر العلوم والمعارف. 33 - {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: أي: إن يشأ الله يسكن الرِّيح ويمنع حركتها فتظل السُّفن ثوابت على ظهر الماء لا تتحرك ولا تجرى بالنّاس إلى مقاصدهم وقضاء مآربهم. إن في ذلك الذي ذُكر من السفن المسخّرة في البحر تحت أمره وحسب مشيئته وسيرها ووقوفها بأمره - إن في ذلك - لدلالات عظيمة واضحة على قدرة الله ليعتبر بها المؤمنون الصابرون في الضراء، الشاكرون في السَّراءِ، لأَنَّ الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر. 34 - {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ}: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) معطوف على (يُسْكِن) في الآية السابقة.

لأنَّ المعنى: إن يشأ الله يبتلِ المسافرين في البحر بإحدى بليَّتين: إمَّا أن يُسْكن الرِّيح فتبقى السفن على متن البحر ويمتنعنَ من الجرى، وإما أن يُرْسل الرِّيح عاصفة فتهلك أهلها إغراقا بسبب ما كسب أهلها من الذّنوب، ويعف عن كثير فلا يُعاقبهم بما سبق "كشاف بتصرف" وقال بعض علماء التفسير في قوله - تعالى -: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا): إنَّ المعنى: وإن يشأ الله يُرسل الريح قَويّة عاتية فتأْخذ السّفن وتُمِيلها عن سيرها المستقيم وتُصرفها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة، فيهلك من فيها إغراقًا بسبب ما كسبوا من الذّنوب، وهكذا لو شاء الله لسكّن الريح فوقفت السفن، أو أثارها وأهاجها فشردت السفن وأَبقت وأههلكت مَنْ فيها ولكن من لطفه ورحمته أن يرسل الرّياح بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية. (ابن كثير بتصرف). وهو قريب مما قاله صاحب الكشاف. 35 - {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}: المعنى: إن يشأ الله إمساك الريح أو إرسالها عاصفة، فيهلك من في السفن لينتقم من العصاة وليعتبر المؤمنون ويعلم الذين يجادلون في آيات الله بالباطل ويُشَكِّكون النَّاس فيها أنهم في قبضته مقهورون برُبوُبيّته، ما لهم من مَهْرب من عذابه، ولا مَحِيد لهم عن عقابه، ولا مَخْلَص لهم من بأسه، ولا مَلْجَأ لهم من بطشه.

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} المفردات: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ): فما أُعطيتم مِنْ أثاث الدنيا وزينتها. (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): يُتَمتَّع به فيها ثم يزول. (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): وعلى الله وحده يعتمدون. (كَبَائِرَ الْإِثْمِ): أي الفواحش وكبائر الذنوب وقُرِئ كبير الإثم وعن ابن عبّاس هو الشِّرك. (الْفَوَاحِشَ): ما عَظُم قُبْحهُ من الذنوب كالزِّنى. (اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ): أجَابُوهُ إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة. (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ): شأنهم التَّشاور ومراجعة الآراء في أُمورهم. (الْبَغْيُ): الظُّلم والعدوان. (يَنْتَصِرُونَ): ينتقمون بمثل ما عُوقِبُوا بِه.

التفسير 36 - {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}: عن علي - كرّم الله وجهه - أنه قال: اجتمع لأبي بكر - رضي الله عنه - مالٌ فتصدق به كلّه في سبيل الله فَلَاَمَهُ المُسلمون وخطَّأه الكافرون فنزلت. والمعنى: يقول الله - تعالى - مُحَقِّرا شأن الدُّنيا وزينتها وما فيها من المتاع والنّعيم (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) إلخ، أي: وما أُعطيتم ونلتم من زخارف الدنيا، وجمعتم من أموال، ورزقتم من بنين فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدُّنيا، وهي دار فانية ومتاع زائل. وما عند الله من ثواب الآخرة ونعيمها خير في ذاته لخلوص نفعه، وأبقى زمانا، حيث لا يزول ويفنى، وقد أعدّه الله - سبحانه - للذين آمنوا وصبروا على ترك اللّذات في الدُّنيا، وعلى خالقهم ومربيهم - لا على غيره - يعتمدون في كل الأمور ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحذورات. 37 - {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ ... ) إلخ عطف على (الذين آمنوا) في الآية السابقة، وكذلك ما بعده من الآيات والمعنى: ومن صفات المؤمنين أنهم الذين يبتعدون عن كبائر ما نهى الله عنه كالشِّرك وعن كل ما عَظُمَ قُبْحه وفَحُشَ أمره كالزِّنى، وإذا ما تعرض لهم أحد بالإساءَة إليهم في الدُّنيا كانت سجيّتهم الصَّفح وسَلِيقتُهم الغفران والعفو. والتعبير بقوله - تعالى -: (هُمْ يَغْفِرُونَ) إشارة إلى أنهم المختصون بالغفران في حال الغضب، لا يُذْهِب الغَضَبُ أخلاقهم، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حُرماتُ الله". 38 - {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}:

سبب النزول: قيل: نزلت في الأنصار دعاهم الله - تعالى - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - للإيمان به وطاعته - سبحانه - فاستجابوا له فأثنى عليهم - جل وعلا - بما أثنى هنا. والمعنى: والذين أجابوا دعوة خالقهم ومُرَبِّيهم إلى ما دعاهم إليه من التَّوحيد والعبادة وأجابوا رسله، واتبعوا أمره، وخافوا زجره، وأقاموا الصلاة بالمواظبة عليها والإتيان بها كاملة، والاحتفاء بها, وكان شأنهم التَّشَاوُر في شئونهم , ولا يُبرمون أمرا حتى يتدارسوا طلبا للعدل، وابتغاء الوصول إلى الحقّ، فلا ينفرد أحدهم برأى، ولا يستبدّ بهم فرد أو قِلَّة من النَّاس، ومما رزقهم الله وأنعم به عليهم ينفقون ويبذلون في وجوه الخير المتعدّدة وفي الآية حث على الشورى، أخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: "ما تشاور قوم قطّ إلاَّ هُدُوا لأرْشد أمرهم: ثم تلا (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ولقد كانت الشورى بين النبي وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذلك بين الصحابة، وكانت - أيضًا - بينهم في الأحكام كقتال أهل الرِّدة، وميراث الجدّ، وعدد حدّ الخمر وغير ذلك، والمراد بالأحكام: ما لم يرد فيه نص شرعى، وإلَّا فالشورى لا معنى لها مع النص، وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله - عزّ وجلّ - إلى آراء الرِّجال، والله - سبحانه - هو العليم الخبير، ويُؤيد ما قُلنَاهُ ما أَخرجه الخطيب عن علي - كرَّم الله وجهه - قال: "قلتُ يا رسولَ الله: الأمرُ ينزل بِنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يُسْمَعْ منك فيه شىءٌ قال: اجمَعُوا العابد من أُمَّتى واجعلوه بينَكُم شُورَى ولا تقضوهُ بِرأْى واحِد". وينبغى أن يكون المستشار عاقلا عابدا - أخرج الخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا "اسْتَرشِدُوا العاقل ترشدوا, ولا تعصوه فتندموا". هذه صورة الإِسلام المشرقة، وتلك تعاليمه الخالدة، يجعل من أوصاف المؤمنين وأخلاقهم التَّشاور في الأمر وجمع الرأي إلى الرأى. 39 - {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}: المعنى: ومن جملة أوصافهم أنهم الذين يغضبون إذا بغى عليهم أحد، وينتقمون ممن اعتدى عليهم وظلمهم، ويقتصرون في الانتصار على ما جعل الله

لهم ولا يعتدون، ومعنى القصر المفهوم من قوله تعالى: (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أنهم هم الذين لا يتجاوزون الحد في أخذ حقوقهم، وغيرهم يعدو ويتجاوز، وهذا لا ينافى أنهم يعفون ويصفحون فلكل محله ومجاله. فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه وذنبه محمود، ولفظ المغفرة مشعر به، كما أَن الانتصار من المخاصم المُصِرّ المعاند محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو جاءَ أحدهما موضع الآخر لكان مذموما كما يشير إلى ذلك قول الشاعر: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللَّئيم تمرَّدا فوضع النَّدى في موضع السيف بالعلا ... مُضِرّ كوضع السَّيف في موضع النَّدى وعن النخعى أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: كانوا يكرهون أن يُذِلُّوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} المفردات: (سَيِّئَةٍ): الخطيئة والذنب. (سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا): سُمِّيت مقابلة السيئة سيئة لمشابهتها لها في الصورة, وقال الزمخشرى: لأنها تسوء من تنزل به. (عَفَا): صفح عمن أَساء إليه.

(وَأَصْلَحَ) أي: وأصلح بينه وبين من يُعَاديه بالعفو والإغضاء. (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ): فثوابه على الله. (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): يكره ويبغض المعتدين. (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ): ولمَنْ عَاقَبَ بمثل ما عُوقِب به. (سَبِيلٍ): مؤاخذة ولوم وحرج. (وَلَمَنْ صَبَرَ): سكت وحبس نفسه عن الانتصار لنفسه. (وغفر): تجاوز عن ظالمه. (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: لمن الأُمور الجادة المطلوبة شرعًا. التفسير 40 - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: المعنى: شرع الله الانتصار من الظالم بأخذ الحق منه ومقابلة السيئة بمثلها من غير زيادة، وندب إلى الفضل وهو العفو والإصلاح، وهذا أَسمى مما وصلت إليه البشرية قديما وحديثا من تقنين وتشريع، فقد شرع القصاص؛ لأن الطبيعة البشرية تميل إلى أن يأخذ الإنسان حقَّه لنفسه وينتقم ممن يعتدى عليه، وبخاصة مع النفوس المريضة التي لا يُقَوِّمها ويُصْلح شأنها إلا ردْعُها والانتقام منها. ولكنه مع هذا ندب ودعا إلى الفضل وهو العفو والإحسان، ليرتقى بالبشرية إلى أعظم درجاتها، ليرتفع بها إلى الذروة في السَّماحة والمروءة، وفي قوله - تعالى -: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) بيان لفضيلة العفو والتسامح لأن الفاعل لذلك لن يضيع حقه ولن يذهب أجره وفضله، بل أجره على الله، وناهيك بمن كان أجره على الله. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من كان له على الله أجرٌ فَلْيَقُم: قال: فيقُوم خَلْقٌ فَيُقالُ لهم: ما أجْرُكُم على اللهِ؟، فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا: فيقال لهم: ادْخلوا الجنة بإذن الله" الكشاف.

ومعنى قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أنه يمقت ويبغض البادئين بالظلم، والذين تجاوزوا الحد في الانتقام وفيه إشارة إلى أن الانتصار مظنة التجاوز وعدم الاعتدال عند أخذ الحق وبخاصة في حالة الغضب والتهاب الحمية فربما يجاوز المنتصر لنفسه حقه وهو لا يشعر وفي ذلك حَثٌّ على العفو والصفح: 41 - {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}: المعنى: ولَمَنْ عاقبوا المعتدين بمثل ما اعتدوا به عليهم دون زيادة فهؤلاء ما عليهم من لوم ولا مؤاخذة ولا جُناح. 42 - {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: في هذه الآية تعيين لمن عليهم السبيل بعد نفيه عن المنتصرين بعد ظلمهم، والمعنى: إنما الحرج واللَّوم على الذين يبدءُون الناس بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون حقهم ويتكبرون في الأرض بغير الحق، فهؤلاء لهم عذاب مُوجع شديد الإيلام. 43 - {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: المعنى: وأقسم لَمَن صبر على الظُّلم والأَذى وغفر ولم ينتصر لنفسه وتجاوز عن ظالمه وفوّض أمره إلى الله إنّ ذلك المذكور من الصبر والمغفرة لمن عزم الأُمور أي لمن الأمور الجادة العظيمة التي ينبغي للعاقل أن يُوجبها على نفسه ويلتزم بها؛ لأنها مطلوبة شرعًا وهي من الصفات الحميدة التي رغّب الشّارع فيها وأجزل لصاحبها العطاء، روى أحمد عن أَبي هريرة قال: "أن رجلًا شتم أبا بكر - رضي الله عنه - والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس فجعل النبي يعجب ويبتسم فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلحقه أبو بكر، فقال يا رسول الله: إنّه كان يشتمنى وأنت جالس فلما ردَدْتَ عليه بعضَ قولِه غَضِبتَ وقمْتَ قال: إنهُ كان معكَ مَلَكٌ يردُّ عنك فلما رَدَدْتَ عليهِ بعض قولِه حضَرَ الشيطانُ فلم أكن لأَقعُدَ مع الشَّيطان".

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)} المفردات: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ): ومن يَخْذُلْه الله لأَنَّه ضَلَّ الطَّريق لسوء اختياره. (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: فما له من ناصر يتولاه بعد خذلان الله إيّاه. (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ): هل إلى رجوع إلى الدنيا. (مِنْ سَبِيلٍ): من طريق. (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ): خاضعين متضائلين بسبب الذلّ. (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ): ينظرون إلى النار مُسَارَقة خوفًا منها. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) أي: خسروا أنفسهم بالتَّعرض للعذاب الخالد وخسروا أهليهم بالتفريق بينهم. (مُقِيمٍ): سرمدى دائم. (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ): ليس لهم غير الله يدفع عنهم عذابه.

التفسير 44 - {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}: والمعنى: ومن يبعده الله عن طريق الحق والهدى لسوء اختياره، فما له من ناصر يتولَّى هدايته بعد خذلان الله إياه، وترى الكافرين حين يشاهدون عذاب الآخرة ويعاينون أهوالها يسألُون ربَّهُم وهم في ذِلة وإنكسار: هل من طريق إلى الحياة الدنيا حتى نؤمن ونعمل صالحا غير الذي كُنَّا نعمل. يتمنون ذلك ولكن أنَّى لهم ذلك؟ فليس إلى مردّ من سبيل، هكذا قضى الله ولا رادَّ لقضائه. 45 - {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ}: وترى الظالمين - كذلك - يعرضون على النار خاضعين متضائلين بسبب الذل الذي اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله - تعالى -، وبما يلاقون من الأهوال عقابا لهم - يراهم - يسارقُون النَّظر إلى النَّار خوفًا من مكارهها كما ترى المُهيأ للقتل ينظر إلى السيف، وهكذا شأن الناظر إلى الشدائد لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها أو يملأ عينيه منها كما يفعل إذا نظر إلى الأشياء المحبوبة. ويقول الذين آمنوا يوم القيامة: إن الخاسرين خسارة عظيمة هم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر فأُلقِى بهم في النَّار، وفقدوا مُتْعَتهم وحُرِموا نعيمهم فخسروا بذلك أنفسهم وحيل بينهم وبين أزواجهم وأحبابهم وأقاربهم فخسروهم. وينبه الله - تعالى - في ختام الآية إلى أن الكافرين في عذاب دائم أبدى لا خروج لهم منه ولا محيد لهم عنه. 46 - {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ}:

المعنى: وما كان للظالمين أولياء يَلُون أمرهم، ولا نصراء مما عبدوهم من دون الله وممن أطاعوهم في معصيته يدفعون عنهم عذابه وينقذونهم منه، ومن يضلّه الله عن الهدى وقد اختار الكفر السلوك السيء وأصَرَّ عليه فما له من طريق موصّل إلى الحق في الدّنيا، ولا إلى الجنّة في الآخرة، لينجيه من سوء المصير وعذاب السّعير. {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} المفردات: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ): سارعوا إلى إجابته بالتوحيد والعبادة. (لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ): لا يردّه الله بعد إذ أتى به. (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ): وما لكم من إنكار لذنوبكم أو منكر لعذابكم. (حَفِيظًا): رقيبًا ومُسيطرا. التفسير 47 - {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ}: أي: سارعوا إلى إجابة خالقكم ومربيكم وذلك بالتوحيد والعبادة مِن قبل أن تنتهى الحياة التي هي فرصة للعمل، ويأتى يوم القيامة والحساب الذي لا يرده الله بعد إذ قضى

به، ليس لكم يومئذ من ملاذ تلجئون إليه وتتحصنون به من العذاب، وما لكم من مُنكِر لعذابكم ومُخَلِّص لكم منه، أو لن تقدروا أن تنكروا شيئًا مما اقترفتموه ودوِّن في صحائف أعمالكم، وتشهد به أعضاؤكم. 48 - {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ}: فإن أعرض المشركون وامتنعوا عن إجابتك والإيمان بدعوتك فلا تحزن عليهم أيها الرسول، فما أرسلناك عليهم رقيبا ومُسيطرا، إنما كلفت بالبلاغ وتأدية الرسالة وقد بلغت وأديت وإن شأن الناس وطبيعتهم إذا منحناهم من لدنا نعمة كالصحة والغنى والأَمن فرحوا واستبشروا، وإن تصبهم سيئة من بلاء ومرض وفقر بسبب معاصيهم وما صدر منهم من السيئات فإنهم ينسون النِّعْمة ويجزعون لنزول البلاء كُفرا وجُحُودا، إلاَّ مَنْ هداه الله وألهم رشده وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالمؤمن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ أَصابتْهُ سرَّاءُ فشكَرَ فكانَ خيرا له وإنْ أصابَتْهُ ضراءُ فصبَر فكان خيرا له وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن". {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} المفردات: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا): يتفضل على من يشاء بالجمع بين الذكران والإناث في ذريته. (عَقِيمًا): لا ولد له.

التفسير 49, 50 - {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}: لما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك أنَّ له - لا لغيره - ملك السموات والأرض فهو خالقهما والمتصرف فيهما يخْلُق ما يشاءُ فيهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته فيخص بعضًا بالإناث لا غير، وبعضا بالذكور دون الإناث ويتفضل - سبحانه وتعالى - على من يشاءُ من عباده بالجمع بين الذكور والإناث على التعاقب أو في حمل واحد، ويجعل من يشاء عقيمًا لا ولد له. وتقديم الإناث على المذكور في الآية: قيل إنه لبيان أن الله يُعطى ما يُريدُه لا ما يُريده الناس؛ لأن الناس تهوى الذكور وخصوصا العرب، وقيل: التقديم توصية برعايتهن لضعفهن ولا سيما أنهم قد كانوا قريبي عهد بالوأد وفي الحديث "مَنْ ابتُلى بِشىءٍ من هذه البناتِ فأَحْسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِتْرا من النار" وقال الثَّعالبى: إشارة إلى ما تقدم في ولادتهن من اليُمْن، وعن قتادة: من يُمْنِ المرأَة تبكيرها بأُنثى. جاءَ لفظ المذكور مُعَرَّفا ولفظ الإناث مُنَكَّرا، للتنويه بما للذكور - عادة - من مكانة في نفوس الآباءِ والرغبة فيهم، لأن التعريف تنويه وإشادة. * {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}: يجمل بنا قبل الدخول في تفسير هذه الآية الكريمة أن نتعرض لتعريف الوحى ونبيّن أقسامه، حتى يتضح المقام ويكمل البيان فنقول وبالله التوفيق:

- الوحى وأقسامه: يطلق الوحى ويراد منه الإيحاء، كما يطلق ويراد منه الموحى به، حسب مقتضيات الأحوال. (أ) فالوحى بمعنى الإيحاء: في الشرع، وفي اصطلاح علماء الكلام (¬1) هو إعلام الله أنبياءَه ما يريد إبلاغه إليهم بما يفيد العم اليقينى القطعى بأن ذلك من عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأنواعه ثلاثة: 1 - إعلام بطريق الإلقاء في القلب والنفث في الروع ويكون في اليقظة كما يكون في المنام. 2 - الكلام من وراء حجاب، أي بدون رؤية النبي لرَّبه - عَزَّ وَجَلَّ - بحيث يسمع كلامه ولا يراه. 3 - إعلام الله نبيَّه ما يريد أن يبلغه إياه بوساطة الملك. (ب) الوحى بمعنى الموحى به: ينقسم هذا النوع من الوحى إلى متلوّ وغير متلوّ: 1 - فمن الوحى المتلو: القرآن الكريم الذي جعله الله آية باهرة، ومعجزة قاهرة وحجة باقية على صحة نبوة سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وتكفل - سبحانه - بحفظه من التبديل والتحريف إلى قيام الساعة فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). نزل به الأمين جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه يقظة من غير أن يكون لواحد منهما دخل فيه بوجه من الوجوه، وإنما هو تنزيل من الله العزيز الحكيم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (¬3) كما أن من الوحى المقروء الكتب السماويةَ المنزلة من الله على الأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كالزبور على نبى الله داود، والتوراة على رسول الله موسى، والإنجيل على رسوله عيسى - عليه السلام - وقد أصاب هذه الكتب التغيير والتحريف ¬

_ (¬1) أي علماء التوحيد. (¬2) سورة الحجر الآية 9. (¬3) سورة الشعراء الآيات من: 192 - 195.

بعد وفاة الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم، إذ لم يتكفل الله بحفظها لأنها ليست نهاية التشريع ولا خاتمته، فالتشريع الخاتم جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأَنبياء والمرسلين، ومن هنا كان القرآن الكريم مهيمنا ورقيبا على ما جاء فيها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (¬1). 2 - الوحي غير المتلو وهو ما يلي: (1) السنة النبوية المطهرة لقوله - تعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬2) والسنة الشريفة منزلة من عند الله بالمعنى، أَما لفظها فهو من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست معجزة بألفاظها وأسلوبها ولا متعبدا بتلاوتها كالقرآن الكريم، ولا تصح الصلاة بها بخلاف القرآن العطيم، فإنه معجزة في ألفاظه، متعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة بدونه. هذا، ومن الوحى: اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله - جل شأنه - يقره عليه إذا أصاب، وينبهه ويرشده إلى الخطأ إن أخطأ، ولا يقره عليه بل يدله على الصواب. وفي عصرنا الحديث - ظهر بعض المسلمين الذين ينكرون العمل بالسنة وقد أخبر الرسول عنهم بذلك فقد روى أبو داود والترمذى وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألَا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألَا يوشك رجل شبعان على أريكته فيقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتُم فيه من حلالٍ فأحِلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه، ألَا إنّ ما حرَّم رسول الله كما حرم الله". (ب) الحديث القدسى: وهو ما كان مضافا إلى الله - تعالى - كقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: "يا عبادى إنِّى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" وهو كالحديث النبوى معناه من عند الله، أما لفظه فقيل: إنه من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونسب إلى الله - سبحانه - لأنه موجه منه - جل شأنه - إلى عباده ولزيادة الاهتمام بمضمونه، وحث النفوس ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية 48. (¬2) سورة النجم، الآيتان 3، 4.

على العمل بما اشتمل عليه من المعاني والآداب. وقيل: غير ذلك من الأقوال التي لا تخرجه عن كونه وحيًا، وقد يطلق الوحى على غير ما جاء من عند الله إلى رسله، كأن يُطلق ويراد منه الإلهام، مثل قوله - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬1) كما يطلق ويراد منه التسخير مثل قوله - تعالى - {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (¬2) وبعد هذه المقدمة نعود إلى شرح الآية ومفرداتها كما يلي: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}: المفردات: {وَحْيًا}: إلقاء في القلب. {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}: أو يكلمه من وراه حجاب دون أن يراه. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}: أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به. {عَلِيٌّ}: متعال عن صفات المخلوقين. {حَكِيمٌ}: يجرى - سبحانه - أفعاله على سَنَن الحكمة. روى في سبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيًّا كما كلمه موسى، ونظر إليه، فإنا لا نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لم ينظر موسى إلى الله فنزل قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا .... } إلخ. التفسير 51 - {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}: ¬

_ (¬1) سورة القصص الآية 7. (¬2) سورة النحل الآية 68.

أي: وما صح وما استقام لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلاَّ نفثا وإلقاء في قلبه مناما - كما حصل لإبراهيم - عليه السلام - حينما أمر بذبح ولده قال - تعالى - حكايته عن ذلك: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (¬1). وقد حصل الوحى بالنفث والإلقاء في القلب لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد أنه قال: "أن روح القدس نفث في رُوعِي أن نفْسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ". {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي: أن يسمع الرسول الكلام من غير أن يبصر من يكلمه والمراد أن السامع محجوب عن رؤية ربه - جلت قدرته - في الدنيا أما في الآخرة فيمنحها الله للذين قال في حقهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2). وقد حصل الوحى من وراه حجاب لموسى - عليه السلام - في بدء رسالته وقد رأى نارا فطلب من أهله المكث والبقاء في مكانهم حتى يستطلع الأمر قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬3) وقد حدث ذلك له أيضًا عند مجيئه لميقات ربه قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} (¬4) الآية أما رسولنا فقد كلمه ربه من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج عند فرض الصلاة ومراجعته ربّه - عَزَّ وَجَلَّ - في التخفيف عن أمته في عدد الصلوات. كما كلم الله - سبحانه وتعالى - ملائكته من وراء حجاب في أمر خلق آدم - عليه السلام - وجعله خليفة في الأرض، قال تعالي: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الصافات، من الآية 102. (¬2) سورة القيامة الآيتان 22، 23. (¬3) سورة طه الآية 11 وجزء من الآية 12. (¬4) سورة الأعراف من الآية 143. (¬5) سورة البقرة من الآية 30.

{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي: أو يبعث الله - تعالى - ملكا رسولًا كجبريل - عليه السلام - إلى أنبيائه فيسمع الأنبياء صوت الملك، وتارة يرونه عيانًا في صورة بشر كما كان يتمثل جبريل - عليه السلام - لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي أو في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبى وتارة أخرى كان يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صورته الحقيقية. وقد يأتى الوحى دون رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للملك وإنما يسمع عند قدومه دويًا أو صلصلة شديدة لا يعلم إلا الله كنهها وحقيقتها فيعتريه - صلى الله عليه وسلم - حالة روحية لا يدرك الحاضرون منها إلا أماراتها الظاهرة مثل ثقل البدن وتفصُّد جبينه الشريف عرقا. روى البخاري - رضي الله عنه - عن عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - عن أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن الحارث بن هشام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملكُ رجلًا فيكلمنى فأعِى ما يقول، قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينَهُ ليتفصَّدُ عَرقًا". وتارة يسمع الحاضرون عند وجهه الكريم دويًّا كدوىّ النحل عند مجىء الوحى أخرج الترمذي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل الوحى يسمع عند وجهه كدوىّ النحل" {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي: فيخاطب الملكُ الأنبياء بإذن الله وأمره ما أراد الله أن يبلغه لهم. {إِنَّهُ عَلِيٌّ} أي: إن الله - جلت قدرته - متعال عن مشابهة الخلق أجمعين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). {حَكِيمٌ}: يجرى أفعاله على الحكمة وهي إصابة الحق على أكمل وجه، وخلاصة معنى الآية الكريمة: وما صح ولا استقام أن يكلم الله أحدا من خلقه إلاَّ على صورة من الصور ¬

_ (¬1) سورة الشورى من الآية 11.

التي بينتها الآية الكريمة بأن يلقى الله في قلب رسوله وينفث في روعه - منامًا أو يقظة - بما يريده منه، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الرسول الكلام دون أن يرى شيئًا، أو يرسل الله للأنبياء ملكًا يبلغهم ما أمر به من لدن ربه وديس فوق ذلك ولا دونه وحى ولا تبليغ من الله. فما يدعيه المنجمون إنما هو الرجم بالغيب، وكذلك ما يخبر به الجن، والله - سبحانه - متعال ومنزه عن مماثلة ومشابهة الخلق أجمعين، يجرى أفعاله على مقتضى حكمته الرشيدة. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} المفردات: {رُوحًا}: قرآنًا وقيل: غير ذلك. {مِنْ أَمْرِنَا}: من لدنا. {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}: نخلق ونوجد الهداية بإرادتنا إلى من نختاره من عبادنا الذين آثروا الحق على الباطل. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي}: وإنك لترشد وتدل. {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: إلى طريق معتدل موصل إلى المطلوب لا يضل من يسلكه. {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}: إلا إلى الله وحده لا إلي غيره يرجع شأن الخلق وأمورهم كلها يوم القيامة.

التفسير 52 - {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ... } الخ الآية: أي: ومثل إيحائنا إلى الأنبياء من قبلك، أوحينا إليك يا محمد القرآن العظيم الذي هو من أمرنا ومن شأننا، - أوحيناه - كما شئنا على من شئنا بهذا النظم المعجز والتأليف المحكم. وسمى القرآن الكريم روحًا لأن الله يحيى به القلوب والنفوس من موت الجهل والغفلة والضلال. وقال ابن عباس روحًا: نبوة. وقال الحسن وقتادة: رحمة من عندنا، وقال الربيع: جبريل والأول أولى وأظهر. {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أي: ما كنت يا محمد تعلم ما هي الكتابة لأنك من قوم أُميين لا يعرفونها، ولا تعرف ما هو الإيمان حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك أهل الكتاب، وهو كقوله تعالي: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬1) - روى هذا المعنى عن ابن عباس فإنه لم يكن قبل بعثته وتنبيئه يعلم أنه سيكون رسولًا، وكذلك لم يكن على دراية ومعرفة بالملائكة والعالم العلوى: وما أطلعه الله عليه وعلمه إياه بعد النبوة من الشرائع والأحكام، وهذا لا ينفى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مؤمنًا بربه قبل النبوة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعبد في الغار كما روى أنه قال للراهب بحيرا في أثناء رحلته إلى الشام حين استحلفه الراهب باللات والعزى، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألنى بهما فوالله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما". وقد ثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يسجد لصنم ولا أشرك باللهِ. ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد ما كانوا يجتمعون عليه ويسمرون فيه، ويأتون ما يباح وما يحرم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لما نشأت بُغضت إليّ الأوثان وبُغض إلي الشعر ولم أهم بشىء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمنى الله منهما ثم لم أَعُد". وهذا شأن كل الأنبياء فقد اصطفاهم ربهم واختارهم وما عرفوا بشرك أو كفر قبل النبوة وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: الآية 48.

{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي: ولكن جعلنا القرآن الكريم وأنزلناه نورًا ونبراسًا نضىءُ به الطريق لعبادنا ليكونوا على بينة من أمرهم، ونوجد ونخلق به الهداية فيمن نريد هدايته من عبادنا فنجعله راشدًا مهديًا وذلك وفق اختيار العبد وصرف نفسه نحو الاهتداء بكتاب ربه والاهتداء بما جاء به. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مستقيمٍ} أي: وإنك يا محمَّد لتدل وترشد إلى صراط سوى وسبيل قويم وحقيقة سمحاء ودين خالص، فهدايتك هداية إرشاد وتبليغ فحسب، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1) وقال - جل ثناؤه -: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬2) وتفخيمًا لشأن هذا الصراط المستقيم وتقريرًا لاستقامته واعتداله وتأكيدًا لوجوب سلوكه نسبه - سبحانه - وأضافه إلى نفسه فقال: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَوَصَفَ - عز وجل - ذاته بأنه له - وحده - ما فيهما خلقًا وملكًا وتصرفًا فيما نعلم منهما وما لا نعلم فكل شيء تحت قبضته وقهر عظمته. {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أي: أَلَا إلى الله وحده دون سواه ترجع أمور المخلوقات جميعًا يوم القيامة ليحكم فيها - سبحانه - بحكمه العادل وقضائه المبرم فالوسائط قد ارتفعت والناس كلهم قد جُردوا من حولهم وقوتهم فقد سلبوا الأسباب التي كانت لهم في الدنيا. وفي هذا من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم بالثواب المقيم والفوز العظيم، كما فيه من التهديد والوعيد بالعذاب الشديد للضالين المكذبين. ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآية 56. (¬2) سورة المائدة من الآية 99.

سورة الزخرف

" سورة الزخرف" هذه السورة مكية وآياتها تسع وثمانون آية. وسميت بهذا الاسم لورود كلمة (وزخرفًا)، وصلتها بسورة الشورى التي قبلها: أن كلا منهما أشادت بالقرآن الكريم فختمت الشورى بالآيتين: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} إلى قوله تعالى: {ألَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، وافتتحت سورة الزخرف بالقسم بالقرآن الكريم على أنه محفوظ في أم الكتاب (وهو اللوح المحفوظ)، وأنه من عند الله عظيم القدر رفيع الشأن منزل على مقتضى حكمة الله - جل وعلا -. بعض مقاصد السورة: 1 - أَبانت السورة كون القرآن الكريم موصى به من عند الله - تعالى - وأنه نزل بلسان عربى مبين ليفهمه العرب وليتدبروا آياته عساهم يعقلون ما اشتمل عليه من الأحكام ومكارم الأخلاق فيحملهم بذلك ويدفعهم إلى الإيمان به. وإيثار العرب بتحمل مسئولية الرسالة المحمدية العالمية؛ لأن لهم أخلاقًا كريمة وصلابة في الدين، وشجاعة في الحق، وصدقًا في الوعد، وهمة في الوفاء. 2 - أن السورة جاءت بتهديد المشركين بإهلاكهم كما فعل بمن قبلهم، وذلك إذا استمروا على كفرهم وعنادهم {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}. 3 - وضحت هذه السورة الكريمة بعض الآيات الكونية التي تظهر قدرة الله وتفرده بالجلال وأنه - سبحانه - حقيق بالوحدانية، وذلك عن طريق لفت نظر المخاطبين إلى ما هو واضح وبيّن في ملكه من أرض مهدها وبسطها لهم إلى سماء أنزل منها ماء بمقدار معلوم فأحيا به الأرض بعد موتها وأنبت فيها الزرع والزيتون والنخيل ومن كل الثمرات، وأنه - سبحانه - سيخرج الناس ويبعثهم من قبورهم يوم القيامة، كما يحيى الأرض

وينبت فيها النبات، وأنه - جل شأنه - خلق للناس جميع الأصناف التي تنفعهم في معاشهم، وسخر لهم السفن والأنعام ليركبوها ويستقروا على ظهورها {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}. 4 - تناولت السورة ما كان عليه المجتمع الجاهلى من معتقدات قبيحة، كنسبه الولد إلى الله {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} كما نَعَتْ عليهم سفههم في دعواهم أن الله جعل لنفسه البنات وآثرهم واصطفاهم بالبنين، كما عابت عليهم أنهم جعلوا الملائكة إناثا وتوعدتهم {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}. 5 - أثبتت السورة وأكدت أن إبراهيم - عليه السلام - الذي كان المشركون يدَّعون أنهم في شركهم على دينه وطريقته - أثبتت - أنه برئ مما يعبدون {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}. 6 - أبانت السورة أن المشركين يقيمون أمر اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مقاييس فاسدة ومغايير خاطئة باطلة {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد الله عليهم مسفها رأُيهم وموبخا لهم على سوء فهمهم {أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}. 7 - وضح الله لهؤلاء المشركين أن الاستعلاء في الأرض لا ينجى من عذاب الله، فقد أهلك الله فرعون ومن معه لتسلطهم وكفرهم واغترارهم بما لديهم من الدنيا وزخرفها {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وأنهى - سبحانه - هذه السورة الكريمة بعرض بعض مشاهد يوم القيامة، كالنعيم الذي يسعد به المؤمنون {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} كما أبانت ما يناله المجرمون من نكال وعذاب أليم {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} وفي آخر آياتها يسلى الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويأمره بالإعراض عن الكافرين، كما يهددهم ويتوعدهم {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُون}.

بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} المفردات: {جَعَلْنَاهُ}: أنزلناه. {فِي أُمِّ الْكِتَابِ}: في اللوح المحفوظ. {لَدَيْنَا}: عندنا. {لَعَلِيٌّ}: لرفيع المنزلة عظيم القدر. {حَكِيمٌ}: محكم لا ينسخه غيره، وقيل: غير ذلك. التفسير 1، 2 - {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}: 1 - {حم}: هذه الحروف وما يماثلها من الحروف الواردة في أوائل بعض سور القرآن الكريم قد سبق الكلام فيها مطولًا في أول سورة البقرة، وفي الحق أنه لم يأت القرآن الكريم بشيء في معنى هذه الكلمات، كما لم يرد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر في ذلك، والأولى أن نترك أمر المراد منها إلى الله - تبارك وتعالى - وقد كان بعض السلف يقولون فيها: الله أعلم بمراده. 2 - {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}: هذا قسم بالقرآن الكريم، أي أقسم بالكتاب الواضح البين، الظاهر الدلالة فهو من أبان اللازم بمعنى اتضح، أو الموضح لأُصول ما يحتاج إليه من أمور الدين فهو حينئذ يكون من أبان المتعدى إلى المفعول.

3 - {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: هذا هو جواب القسم، فالله ربنا يقسم بكتابه المبين على أنه أنزله قرآنا عربيا بلغتكم يا معشر العرب، وذلك لتتدبروا آياته وتقفوا على معجزاته وأسرار بلاغته، ليدفعكم ذلك ويدعوكم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه، وفي القسم والحلف بالكتاب المبين على أن القرآن الكريم منزل من عند الله دليل على شرف هذا الكتاب وعلو مكانته وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه. 4 - {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}: أي: وإن القرآن الكريم مثبت عند الله في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ كما يدل على ذلك قوله - تعالى -: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (¬1) ووصف القرآن بأنه في أُم الكتاب للإشارة إلى كمال الحفظ، وعظيم الرعاية، وتمام العناية به، ويؤكد ذلك ويعززه قوله - سبحانه -: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} أي: أنه عندنا في مكان قدسى محاط بكمال التقدير والتعظيم والحفظ، كما أنه رفيع الشأن، جليل القدر، تسمو منزلته بين سائر الكتب المنزلة، لإعجازه واشتماله على عظيم الأسرار ومحكم التشريعات، وجميل السجايا، وكريم الشمائل والأخلاق {حَكِيمٌ} أي: أن القرآن ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره، بل هو باق كتاب حُكم وتشريع، وخاتم للكتب، فهو صالح لكل زمان ومكان، كما أنه هو حاكم وشاهدٌ على غيره من الكتب المنزلة بين الصحيح فيها والموضوع، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البروج الآيتان 21، 22. (¬2) سورة المائدة من الآية 48.

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} المفردات: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ}: أفننحى ونبعد عنكم، وهو مأخوذ من قولهم: ضرب غرائب الإبل، إذا نحاها وأبعدها إذا دخلت على إبله عند الورد والشرب. {الذِّكْرَ}: القرآن الكريم. والذكر في اللغة بمعنى الشرف، وكذلك القرآن، فهو شرف للعرب. {صَفْحًا} أي: إعراضًا عنكم، وأصل الصفح أن تولى الشيء صفحة عنقك أو جانبك إعراضًا عنه. {مُسْرِفِينَ}: متجاوزين الحد في الكفر والضلال. {وَكَمْ أَرْسَلْنَا}: كم: يراد بها هنا التكثير أي: كثيرًا أرسلنا. {بَطْشًا}: شدة وعنفا. {مَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}: سبق في غير موضع من القرآن الكريم قصتهم العجيبة. التفسير 5 - {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}: بيّن الله - سبحانه - أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب لكي يعقلوه ويتدبروا آياته، ولكنهم مع هذا كله ظل أكثرهم على الإسراف في العناد والضلال، فقال لهم الله: {أَفَنَضْرِبُ

عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} أي: أنهملكم فننحِّى عنكم إنزال القرآن الكريم الذي فيه شرفكم ورفعتكم، أنصرفه عنكم لأنكم لا زلتم مستمرين ومنهمكين وغارقين في الإسراف والضلال متجاوزين الحد في الكفر مصرين عليه أنفعل ذلك بكم؟ ولكن حكمتنا تقتضى أن نُذَكركم وننزل القرآن الكريم عليكم، ولا نترك ذلك بسبب أنكم تعرضون عنه ولا تلتفتون إليه، بل نفعل ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة: وقيل - المعنى - إن حالكم من الإعراض والغلو في الإسراف والكفر وإن اقتضى ترككم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر وتمكثوا في العذاب الدائم، لكننا لسعة رحمتنا ومزيد فضلنا لا نفعل ذلك بكم بل نرشدكم وندلكم على الحق والصراط المستقيم. وهذا الرأى موافق في المراد لما سبقه. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّته أوائل هذه الأُمة لهلكوا، ولكن الله ردّده وكرّره عليهم برحمته. 6، 7 - {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: أي: وكثيرًا ما أرسلنا وبعثنا أنبياء ورسلا قبلك في أُمم سبقت وأقوام سلفت كانت تأتيهم رسلهم بالبينات والذكر، فقابلوهم بالسخرية والاستهزاء وشتى ضروب الأذى. ولكن أنّى لهم أن يفلتوا من عقابنا أو يسبقونا ويعجزونا عن أن ننكل بهم، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: 8 - {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}: أي: فأنزلنا عذابنا الشديد المهلك المستأصل بهؤلاء القوم الذين كانوا أقوى وأشد من قومك بأسًا وأكثر عنفًا وبطشًا وأصلب عودًا وأوفر جمعًا وعددًا، ولم يغنهم ذلك أو يمنعهم من عذابنا شيئًا، فمنهم من أرسل الله عليه الحصى والحجارة ومنهم من أخذه الله بالزلزال والصيحة وصاعقة العذاب الهون، ومنهم من خسف الله به وبداره الأرض، ومنهم من أغرقه الله وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون. وفي هذا مزيد من إدخال السرور والطمأنينة على قلبه - صلى الله عليه وسلم - ووعد له بأن الله ناصره على قومه، كما فيه من الوعد بالويل والهلاك لهؤلاء الذين عاندوا رسول الله وكذبوه واستهزءوا به وسخروا منه.

{وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي: سبق وسلف في القرآن الكريم في غير موضع منه قصصهم العجيبة في التكذيب والعقوبة التي أنزلها الله بهم، والتي من حقها أن تسير سير المثل شهرة وذيوعًا. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} المفردات: {الْعَزِيزُ}: الذي لا يقهر ولا يغلب، وقيل: الذي لا نظير له. {مَهْدًا}: مكانًا مبسوطًا موطأ. {سُبُلًا}: جمع سبيل أي: طرقًا تسلكونها. {بِقَدَرٍ}: بمقدار تقتضيه حكمته. {فَأَنْشَرْنَا}: أحيينا. {مَيْتًا}: خالية من النبات فهن كالميت.

{تُخْرَجُونَ}: تبعثون وتنشرون من قبوركم. {الْأَزْوَاجَ}: جمع زوج وهو الصنف والنوع. {الْفُلْكِ}: السفينة ويستعمل مع المفرد والجمع، وهو في الجمع بمعنى السفن. {لِتَسْتَوُوا}: لتستقروا. {سَخَّرَ}: ذلل وطوع. {مُقْرِنِينَ}: مطيقين. {لَمُنْقَلِبُونَ}: لراجعون إلي الله في الآخرة. التفسير 9 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}: أي: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض؟ ليقولن دون تردد ولا تشكك: خلقهن وبدأهن {الْعَزِيزُ}: الذي لا يقهر ولا يغلب ولا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه {الْعَلِيمُ}: الواسع العلم المحيط بكل شيء، فهو قيوم السموات والأرض، فألسنتهم ناطقة وفطرتهم شاهدة وقلوبهم موقنة بأنه - سبحانه - خالق السموات والأرض وأنه هو العزيز العليم، ولكنهم مع هذا الإقرار يشركون معه في الربوبية، ما لا يستطيع جلب الخير ولا دفع الشر، وليزيدهم الله - سبحانه - تذكيرًا وعلمًا به وتبيانًا لبعض نعمه وآلائه عليهم قال: 10 - {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: أي: أنه - سبحان - مع كونه قد خلقكم وبرأكم لم يترككم سدى دون عناية أو رعاية بل هو - جل شأنه - قائم على كل أسباب حياتكم عظيمها ودقيقها {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}. أي: بسط لكم الأرض ووطَّأها لكم تستقرون عليها وتترددون فوقها بيسر وسهولة {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي: خلق لكم فيها سبلا وطرقا لتمشوا فيها وتسلكوها في ظعنكم وإقامتكم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: لكي تهتدوا وترشدوا إلى ما تقصدون من أماكن، وما تريدون من متاع.

أو لتتفكروا في ذلك فيرشدكم ويهديكم تفكركم إلى توحيد الله وتمجيده. 11 - {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}: هذه الآية الكريمة استمرار وامتداد لبيان أنعم الله وآلائه عليهم فبين لهم أنه - تعالت عظمته - نزَّل من السحاب ماءً بمقدار معلوم حسب إرادته ومشيئته الحكيمة، لا هو بالماء القليل الذي تشق أو تستحيل معه الحياة، ولا هو بالكثير الذي يتلف ويؤذى، بل قد يقتل ويفنى، وإنما هو بحسب ما يحتاجه الناس لهم ولدوابّهم واستنبات الزرع من أرضهم، ولذا قال تعالى: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: فأحيينا به أرضًا قحلاء جرداء حيث جعلناها تنبت الزرع والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (¬1) {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: مثل إحياء الأرض الجرز التي لم يكن فيها كلأ ولا نبات ثم أنبتت من كل زوج بهيج أي مثل هذا الإخراج والإحياء نخرجكم من قبوركم أحياء وننشركم بعد موتكم، وما ذلك على الله بعزيز فهو - سبحانه - خلقكم بدءًا، وكما بدأكم تعودون. 12 - {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}: أي: وهو الذي - جل شأنه - خلق الأصناف كلها من جبال متنوعة الألوان والأحوال والأحجام، إلى أناس يختلفون في ألوانهم وألسنتهم، إلي حيوان تتباين أنواعه، إلي عوالم في البر والبحر وفي السموات وفي الأرض، لا يعلم حقيقتها إلا هو - سبحانه - {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} ومنّ عليكم وسخر وأجرى لكم من السفن ما يحملكم في جوفها، وذَلل لكم الأنعام من الإبل وغيرها ما تركبونه وتعلون ظهره. 13 - {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}: أي: لتستقروا على ظهورها وتتمكنوا منها ثم تذكروا بقلوبكم وألسنتكم نعمة ربكم وعطاءه لكم وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، أي: تجعلون ألسنتكم ترجمانا على ما ملأَ ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 63.

قلوبكم معلنا ما انطوت عليه جوانحكم، فتقولون بلسان ذاكر عن قلب شاكر: تنزهت وتقدست يا ربنا عن أي وصف لا يليق بك، أنت الذي ذللت لنا هذه المخلوقات التي تفوق قدرتنا ويستعصى علينا قيادها، فلو أردت لمنعت حركة السفن فلا تغادر مكانها ولا تبرح موضعها كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (¬1) ولو شئت ألا تمكننا من هذه الدواب والأنعام التي لا حول لنا معها ولا قوة إلا بك - لو شئت - لفعلت ولكنك يسَّرتها لنا وملكتنا أمرها، أخرج أحمد وأبو داود والترمذى وصححه، والنسائى وجماعة عن علي - كرم الله وجهه - أنه أُتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله - ثلاثًا، والله أكبر - ثلاثًا {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} سبحانك لا إلله إلاَّ أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبى إنه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت، ثم ضحك فقيل له: عمَّ تضحك يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلتُ ثم ضحك فقلت: يا رسول الله ممَّ ضحكت؟ فقال "يتعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي فيقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيرى" كما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول أيضًا: "اللهم إلى أسألك في سفرى هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر، واطْوِ لنا البعيد، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا" وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع إلى أهله قال: "آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون": كما روى الإمام أحمد وغيره أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله - تعالى - عليه إذا ركبتموه كما أمركم" وظاهر النظم الكريم أن تَذَكُّر النعمة والقولَ المذكور لا يخصان الأنعام بل يشملان الأنعام والفلك، وذكر عن بعضهم أنه يقال عند ركوب السفينة: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2) ويقال عند النزول منها: "اللهم أنزلنا منزلا مباركًا وأنت خير المنزلين". ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 33. (¬2) سورة هود، من الآية 41.

وقيل المراد من النعمة في قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ}: هو الهداية للإسلام وتفضله - سبحانه - علينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلنا خير أمة أخرجت للناس. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مِجّلز قال: رأى الحسين بن عليّ - رضي الله عنهما وكرم وجهيهما - رجلًا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال الحسين: أو بذلك أُمِرْتَ. فقال الرجل فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي مَنَّ علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَي: وما كنا أبدًا مطيقين ذلك ولا قادرين عليه، فأَنت يا ربنا بيدك نواصى الأمور. 14 - {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}: أي: وإنا لراجعون وصائرون إلى الله ربنا بعد مماتنا، وفي ذلك تنبيه للعاقل الأريب أن يتخذ من أُمور الدنيا عبرة يعتبر بها وينظر من خلالها إلى الآخرة، فإذا ركب الأنعام والفلك ذكر ركوبه ورحيله إلى الآخرة، وإذا تزود للدنيا تنبه إلى زاد الآخرة، وهو التقوى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬1) وإذا تزين بلباس الدنيا دفعه ذلك إلى أن يتحلى ويتجمل بالتقوى لباس الآخرة {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬2). {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 197. (¬2) سورة الأعراف من الآية 26.

المفردات: {جُزْءًا}: أي ولدًا. {لَكَفُورٌ}: لشديد الكفر. {مُبِينٌ}: ظاهر الكفران أو مظهر له. {وَأَصْفَاكُمْ}: وآثركم واختار لكم. {بُشِّرَ}: أخبر. {مَثَلًا}: مماثلا وشبيها. {كَظِيمٌ}: مملوءٌ بالكرب والغم. {يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ}: يربي ويَشِبّ في الزينة. {فِي الْخِصَامِ}: في الجدال. {غَيْرُ مُبِينٍ}: غير قادر على إظهار حجته. التفسير 15 - {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}: أي نسب هؤلاء الكافرون إلى الله الولد وجعلوا هذا الولد من خلقه وعباده، وهذا دليل على عنادهم وأنهم مناقضون لما يقولون، حيث اعترفوا بأن الله - جلت قدرته - خالق السموات والأرض، ثم وصفوه - سبحانه - بصفات المخلوقين التي تناقض كونه خالقا للسموات والأرض وخالقًا لما فيهما، وهذا يدل على فرط جهلهم وسخافة عقولهم، فربنا - سبحانه - لا تناله الوحشة فيحتاج إلى أنيس، ولا يصيبه الذل فيتعزز ويتقوى بولى أو نصير، ولا يعتريه الضعف فيفتقر إلى معين، ولا يموت فيحتاج إلى من يرثه بل إنه - جل شأنه - الغنى فلا يفتقر، العزيز فلا يذل، القوى فلا يضعف، الباقي فلا يعتريه فناء وصدق ربنا القائل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} (¬1) وعبر عن الولد بالجزء لأنه بضعة ممن هو ولد له كما قيل: اولادنا أكبادنا تمشى على الأرض، والمقصود من الجزء هنا البنات، ولهذا عقبه الله بقوله: ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: من الآية 111.

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} أي: إن هذا الصنف والنوع من المخلوقات المنكر لأنعم ربه أشد الإنكار مبالغ في ذلك، يبدو ذلك الإنكار منه واضحًا جليا أو يعلنه ويجاهر ويذيع به. 16 - {أمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}: أي: بل اتخذ لنفسه - سبحانه - ممن خلقه أخسَّ النوعين شأنًا وأدناهما منزلة، وهو البنات وآثركم واختار لكم أفضلا وهو الذكور مع أنكم أشد خلق الله نفورا من الإناث وأمقتكم لهن حتى بلغ بكم المقت أشده، واستبد بكم البغض فاقترفتم في حقهن أبشع أنواع التنكيل، إنكيم وأدتموهن ودفنتموهن أحياء ولم تتحرك في قلوبكم رحمة الأبوة ولم تتردد في جوانحكم عواطف الإنسانية إنكم بزعمكم هذا وافترائكم قد فقدتم الحياء كله فلم تخجلوا من الشطط والجور في القسمة التي صورها فكركم السقيم وعقلكم المريض. 17 - {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}: في هذه الآية يصور الله حالهم وشأنهم أنهم إذا ما أُخْبِرَ أحدهم أنه قد ولد له أنثى، إذا أُخبر بذلك ارْبَدّ واغتم واسودّ وجهه من سوء ما بشر به إن بعض هؤلاء السفهاء كان يغاضب زوجه إذا ولدت أنثى. روى أن بعضهم هجر لذلك البيت الذي فيه امرأته فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... ليس لنا من أمرنا ما شينا وإنما نأخذ ما أُعطينا 18 - {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}: في هذه الآية تكرير لإنكار الله عليهم زعمهم أنه - تعالى - اتخذ لنفسه بنات وأصطفاهم بالبنين أي: أو جعلوا لله - تعالى - من شأنه أن يتربى في الزينة من الذهب والفضة والحرير ونحوها مع أنه في الجدال غير قادر على تقرير دعواه بالحجة والبرهان، ولذا يلجأ إلى البكاء إذا عجز عن الدفاع، أيليق أن ينسب هذا الصنف إلى الله تعالى؟ ألا ساء ما يحكمون إن زعمهم هذا يدل على خفة أحلامهم وسفاهة عقولهم.

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} المفردات: {وَجَعَلُوا}: سَمَّوا. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}: أحضروا خلق الله الملائكة فشاهدوهن إناثا. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ}: ستسجل في ديوان أعمالهم. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: ما هم إلا يظنون ويكذبون. {أُمَّةٍ}: دين وملة وطريقة. {مُتْرَفُوهَا}: المنعمون المنغمسون في الشهوات. التفسير 19 - {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}: أي: إن هؤلاء المشركين سَمُّوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وقد أنكر عليهم ذلك السفه والجهل ووبخهم على افترائهم فقال - جل شأنه -: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}:

أي: أحضروا خلق الله إياهم فشاهدوهم إناثا؟ إنهم لم يشهدوا خلقهم، ولم يقفوا على أمرهم حتى يحكموا هذا الحكم، إذ لا سبيل إلى معرفة أنوثة الملائكة إلا عن طريق المشاهدة ولم يشاهدوا خلقهم، فلم يبق إلا طريق العقل أو النقل. والعقل بدوره عاجز وقاصر عن معرفة ذلك قطعا، لأن هذا الأمر ليس من الأمور التي يحكم فيها العقل ولم يأت بها النقل فدعواهم هذه لا سند لها من رؤية أو عقل أو نقل وقد هددهم الله وتوعدهم - سبحانه - بقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ}: أي: أنها ستسجل وترصد في صحائف أعمالهم قال - تعالى - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1) {وَيُسْأَلُونَ}: عن دعواهم سؤال تقريع وإهانة، ويحاسبون على ذلك حسابا ينتهى بالعذاب الأليم؛ لأن هذه الدعوى ما هي إلا افتراء على الله وفحش في حق - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. 20 - {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: وقال الكفار: لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناهم، ولكننا عبدناهم بمشيئته وإرادته، ويبنون على ذلك أنهم ما داموا قد عبدوا الملائكة بإرادة الله ومشيئته فلا يعاقبهم الله على ذلك لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا على مقتضى مشيئة الله فرد الله عليهم بقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}: أي ما هم إلا يتوهمون ويتقولون على الله زورا وبهتانا بدعوى أنه - تعالي - راض عن عبادتهم للملائكة فإنه - تعالى - واحد أحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، وقد بين لهم ذلك بآياته الكونية، وبرسالات رسله، ولذا عقبه بقوله: 21 - {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}: أنكر الله - سبحانه - على المشركين عبادتهم للملائكة بلا دليل ولا برهان وأبطل دعواهم أي: بل أنزلنا عليهم وجئناهم بكتاب من قبل القرآن أو من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - نطق بصحة ما يدعون من هذا الباطل فهم بهذا الكتاب متمسكون وعليه يعولون؟ لم يثبت أن لديهم كتابا بذلك يستمسكون به. 22 - {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}: ¬

_ (¬1) سورة "ق" الآية 18.

هذا إبطال لما يزعمون، أي أنهم لم يأتوا بحجة أو دليل من النفل أو العقل يؤيد ما ذهبوا إليه وزعموه، بل إنهم اعترفوا بأنه لا سند لهم ولا حجة لديهم ولا أثارة من علم عندهم سوى أنهم قلدوا آباءهم وأسلافهم فيما اعتقدوه، وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على ملة وطريقة وإنا تابعناهم وسايرناهم على نهجهم وطريقتهم، وهؤلاء بهذا التقليد قد تركوا التبصر والتدبر فيما يحيط بهم من آيات بينات وحجج واضحات تملأ السموات والأرض بل إنها في أنفسهم أفلا يبصرون! ولو تأملوا لهداهم ذلك إلى أن الله - جلت قدرته - هو الحقيق أن يعبد وحده دون سواه، وأن ينزه عن الأولاد ذكورًا أو إناثا. 23 - {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}: أي: وكما سار هؤلاء الكفار على نهج آبائهم وطريقتهم في عبادة غير الله ولم يأتوا بدليل ولا حجة تؤيد ما زعموا، كذلك كان الشأن بالنسبة للأمم السابقة، أي إن هؤلاء ليسوا بدعًا في هذا الزعم الكاذب، فما بعثنا قبلك من نذير يحذر قومه مغبة كفرهم وضلالهم، ويدعوهم إلى توحيد ربهم إلا قال مترفو هذه الأُمم الذين أبطرتهم النعمة وأعمتهم الشهوات عن النظرة فيما جاء به المرسلون وأنفوا أن يكونوا تبعًا لغير شهواتهم قالوا: إنا وجدنا أباءنا وأسلافنا على دين وطريقة وإنا مقتدون ومتأسون بهم، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في طلب الحق والوقوف عنده بل آثروا الدعة والنعيم في الدنيا، ولم يتفكروا فيما يصيبهم من خزى الآخرة وعذابها. وتخصيص المترفين بالذكر مع أن غيرهم مثلهم في عبادتهم وتقليدهم لآبائهم - تخصيصهم بالذكر - لأنه يفيد بطريق الأولى أن غيرهم ممن هم دونهم تبع لهم.

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} المفردات: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}: قال: أتقلدون آباءكم ولو جئتكم بأكثر هدى مما وجدتموهم عليه؟! وسيأتى في الشرح مزيد إيضاح. {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: فتأمل كيف كانت عاقبتهم. التفسير 24 - {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}: حكى الله قبل هذه الآية أنه - تعالى - ما أرسل في قرية من نذير إلاَّ قال مترفوها: إنا بما أُرسلتم به كافرون، وجاءت هذه الآية وما بعدها لحكاية بقية ما جرى بين الرسل المنذرين السابقين وبين أممهم، تسلية لنبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن قول قريش في آية سبقت هذه القصة مباشرة: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). ومعنى الآية: قال كل نذير من الرسل السابقين لقومه: أتهتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة؟ قالوا لرسلهم: إنا ثابتون على دين آبائنا {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، من الآية: 22.

وعبر بقوله: {بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} مع أنهم ليسوا على شيء من الهدى مجاراة لقولهم: إنهم على هدى، أو أفعل التفضيل هنا على غير بابه، والمراد أن ما جاءهم به هو الهدى دون ما عليه الآباء. 25 - {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}: فانتقمنا من الأُمم المكذبة لرسلها بعذاب الاستئصال، فتأمل - أيها الرسول - كيف كانت عاقبة المكذبين لرسلهم، وسوف يلاقى قومك مثل جزائهم إن أصروا على كفرهم فلا تحزن عليهم. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} المفردات: {بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}: براء: مصدر بَرِئ، بمعنى تباعد، والوصف منه: برىء، ويستعمل براء بدلًا من برىء للمبالغة في البراءة، ولا يثنى ولا يجمع كشأن المصادر، فيقال: رجلان براء ورجالٌ بَرَاء، أما بَرِيء فيثنى ويجمع فيقال: بريئان وبريئون وبرآءُ. {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (¬1) أي: ابتدأنى واخترعنى، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كنت لا أدرى ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها. ولفظ "إلاَّ" في قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} بمعني لكن. {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}: وجعل الله، أو جعل إبراهيم كلمة التوحيد المفهومة من قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} - جعلها - كلمة باقية في ذرية إبراهيم. ¬

_ (¬1) فطر: من باب نصر.

التفسير 27،26 - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}: الكلام في قصة إبراهيم - عليه السلام - مع أبيه وقومه، تمهيد لما فيه أهل مكة من العناد والحسد والابتعاد عن تدبر الآيات، وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى بالتقليد الأفضل الأعلم الذي يفتخرون بالانتماء إليه، وهو إبراهيم - عليه السلام - فكأنه بعد لومهم على التقليد لغيرهم يلومهم على تخصيص آبائهم الوثنيين بالتقليد، وترك تقليد أبيهم إبراهيم الذي ترك فيهم كلمة التوحيد. ومعنى الآيتين: واذكر أيها الرسول - لقومك وقت قول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه آزر وقومه: إنني بريء أشد البراءة مما تعبدونه من دون الله، لكن الذي خلقني وابتدعني فإنه سيهدينى بعد توحيده إلى سواه من المعارف الإلهية. 28 - {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: وجعل الله - أو إبراهيم - كلمة التوحيد التي دان بها إبراهيم بين أبيه وقومه الوثنيين - جعلها - باقية في ذريته، حيث أوصى به بنيه ويعقوب، وفي ذلك يقول الله - تعالى - في سورة البقرة: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية 132. وقد قامت ذريته من الأنبياءِ والصالحين والمتأملين في آيات الله في الجاهلية - قامت ذريته - بالدعوة إلى التوحيد، لكي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد الله - تعالى - ومن هؤلاء الموحدين في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل، فقد دان بالتوحيد مخالفًا قومه، وفي ذلك يقول: أربًّا واحدًا أم ألفَ رب ... أَدِينُ إذا تقسمت الأُمور

تركت اللَّات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير فَلَا العُزَّى أدين ولا ابْنَتَيهَا ... كذلك يفعل الرجل الخبير وَلَا هُبَلًا أَزور وكان ربًّا ... لنا في الدهر إذ حُلمِي (¬1) صغير وقال أُمية بن أبي الصَّلت: إله العَالَمِين وكل أَرض ... وربُّ الرَّاسيات من الجبال بناها وابتنى سبعا شِدَادا ... بلا عمد يُرَينَ ولا رجال وسواها وزينها بنور ... من الشمس المضيئة والهلال ومن شُهُب تلألأُ في دجاها ... مراميها أشد من النصال وشق الأرض فانبجست عيونًا ... وأنهارًا من العذب الزلال وبارك في نواحيها وزكَّى ... بها ما كان من حَرْث ومال وكل مُعَمَّر لا بد يومًا ... وذى دنيا يصير إلى زوال وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال وحل المتقون بدار صدق ... وعيش ناعم تحت الظلال لهم ما يشتهون وما تمنوا ... من الأفراح فيها والكمال ... ¬

_ (¬1) حملى صغير - بضم الحاء - أي: عقل صغير.

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} المفردات: {جَاءَهُمُ الْحَقُّ}: القرآن. {وَرَسُولٌ مُبِينٌ}: ورسوله ظاهر الرسالة، من أبان، بمعنى: اتضح وظهر، ويستعمل لازمًا كما جاء هنا، ومتعديا كقولك: أبنت الكلام، أي: أوضحته. {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ}: على رجل من إحدى القريتين عظيم بالمال والجاه، والمراد بالقريتين مكة والطائف. {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}: أهم يعطون النبوة التي هي نعمة ربك - أهم يعطونها - لمن يشاءُون، فأي شأن لهم بها؟! {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}: ليسخر بعضهم بعضًا في مصالحهم، فيكون بعضهم سببًا لمعاش بعض.

التفسير 29 - {بَلْ (¬1) مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ}: أي: بل متعت أهل مكة المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وآباءهم بالإمهال في الدنيا والنعمة، وهم على ما هم عليه من الوثنية، حتى جاءهم القرآن بالتوحيد وهو الحق من ربهم، وجاءهم رسول ظاهر الرسالة من عند الله تعالى، بما أيدناه به من المعجزات الباهرات، وكان عليهم أن يتركوا ما هم عليه من الوثنية والاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، بعد أن جاءهم الحق الذي كان عليه إبراهيم - عليه السلام - على لسان الصادق الأمين، ولكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للطهر من أدران الماضى والرجوع عنه - جعلوه - سببًا للتوغل فيما كانوا عليه من ضلال مبين، ووصف هذا الحق بأنه سحر مبين، وكفروا به، كما حكاه الله بقوله: 30 - {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}: وحين جاء قريشًا القرآن الذي هو حق من ربهم ليخلصهم من ضلالهم، ويرشدهم إلى التوحيد ازدادوا شرًّا، وضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به، فسموا القرآن سحرا وكفروا به، واحتقروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك ما حكاه الله بقوله: 31 - {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}: مكة والطائف. {عَظِيمٍ}: في قومه بالرياسة والجاه والمال، يعنون بهذا الرجل الوليد بن المغيرة المخزومى من مكة، وحبيب بن عَمرو بن عُمَيْر الثقفى من الطائف. وقال قتادة: الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد رجلًا ثريًّا له رياسة وجاه في قومه بمكة، وكانوا لذلك يسمونه ريحانة قريش، وكان يقول: لو كان ما يقوله محمَّد حقًّا لنزل عليَّ أو على أبي مسعود - يقصد بأبي مسعود عروة بن مسعود الثقفى، وكان يكنَّى بأبى مسعود. ¬

_ (¬1) بل للإضراب الانتقالى من قوله - جل شأنه -: "لعلهما يرجعون" إلى مجئ الحق وكفرهم به، فكأنه قيل: بل لم يرجعوا إلى الحق بل كفروا به، كما سيتضح من الشرح التالى.

وهذا لون آخر من إنكارهم للنبوة، وذلك أنهم أنكروا أولًا أن يكون النبي بشرًا، ثم لما بُكِّتوا بتكرير الحجج على أن النبوة لا يصح أن تكون من الملائكة، بل يجب أن تكون من البشر، ولم تعد لهم حجة على دعواهم أن يكون الرسول مَلَكًا - لمَّا حدث ذلك - جاءُوا بالإنكار من وجه آخر، فتحكموا على الله أن يكون الرسول أحد هذين الرجلين. وتعبيرهم عمَّا جاء به الرسول بكونه قرآنًا، ليس من باب اعترافهم به، بل هو من باب الاستهانة، وكأنهم قالوا: لو كان هذا الذي يدعيه محمَّد قرآنًا حقًّا من عند الله لنزل على أحد هذين الرجلين. وما كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بأقل منهم شرفًا، فهو من أعظمهم حسبًا، ولا ينقص من قدره أنه كان قليل المال، وقد غفل هؤلاء المنكرون عن أن الرسالة إنما تستدعى عظيم النفس، بالتخلى عن الرذائل والتحلي بالفضائل وعلو الهمة، دون التزخرف بالزخارف الدنيوية، ولذا دانت لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الجزيرة العربية في حياته، ومكن الله لدينه في أنحاء الأرض، واستخلف أُمته على كثير من بقاعها، وفاءً بوعده تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لهم ... } (¬1). 32 - {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}: في هذه الآية استنكار وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد منها عمومها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يراد منها النبوة، وعلى هذا يكون المراد من قسم الرحمة إعطاءها لا تقسيمها، أَما على المعنى الأول فالمراد من قسمها تقسيمها وهو الظاهر. والمعنى: ألَهُمْ حَقُّ في تقسيم رحمة ربك فيجعلوا قسمًا منها وهو النبوة لمن أرادوا؟ نحن قسمنا من رحمتنا أسباب معيشتهم في الحياة الدنيا، قسمة تقتضيها الحكمة، ولم نفوض ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية: 55.

أمرها إليهم، لعجزهم عن تدبيرها، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات متفاوتة في الرزق وغيره من مظاهر الحياة، فمنهم ضعيف وقويٌّ، وغنيٌّ وفقير، ورئيس ومرءُوس، وحاكم ومحكوم، ليسخر بعضهم بعضًا في مصالحهم، ويستخدموهم في مهنهم حتى يتعايشوا، لا لكمال في الموسع عليه، ولا لنقص في المقتر عليه، فنحن الذين نقسم رحمتنا لا هم، ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا. فإذا كانوا في تدبير خاصة أمرهم بهذا العجز، فما ظنهم بتدبير أمر الدين؟! ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة التي هي من رحمة الله، واختيار مَنْ يصلح لها ويقوم بأمرها، ورحمة ربك بالنبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، أو رحمته بالهداية إلى الإيمان خير ممَّا يجمعون من حطام الدنيا، فالعظيم من رُزق تلك الرحمة دون حطام الدنيا، فلا وجه لتعاليكم على محمد بمال أو بجاه. {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} المفردات: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}: ومصاعد عليها يصعدون إلي عوالى قصورهم. {وَسُرُرًا}: جمع سرير، ويطلق على مكان النوم المعروف، وعلى الكرسى الذي يجلس عليه، وهو المراد هنا، ولذا جاءَ بعد السرر. قوله - سبحانه -: {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}.

{عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي: يتربعون، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا لا آكل متَّكئًا" أي: متربعًا على الهيئة التي تدعو إلى كثرة الأكل، وكان يأكل مستوفزًا غير متربع ولا متمكن، وليس المراد به الميل على شق كما يظنه بعض عوام الطلبة. انتهى من القاموس. ويطلق السرير أيضًا على الملك والنعمة وخفض العيش، إلى غير ذلك من المعانى التي ذكرها صاحب القاموس. {وَزُخْرُفًا} أي: نقوشًا وتزاويق، أو ذهبًا، وسيأتي في الشرح ما قيل في ذلك. {لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: لمَّا هنا بمعنى إلاَّ. التفسير 33 - {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}: الآية استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا عند الله، ودناءة قدره عنده جل وعلا. ومعنى الآية: ولولا أن يكون الناس أُمة واحدة مجتمعة على الكفر، لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفًا من فضة، ومصاعد عن فضة عليها يصعدون إلى طبقات قصورهم؛ لأنهم يحبون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، وما ذلك إلَّا متاع الحياة الدنيا وهو مع كونه نعمة حقير عند الله فيمنحه الحقير عنده وهو الكافر، وإن كان لا يستحق النعمة، ولكننا لم نفعل ذلك حتى لا يكون الناس أمة واحدة مجتمعة على الكفر، حيث يفتن المؤمنون الفقراء بغناهم فيكفرون كما كفر هؤلاء، لهذا جعلنا في كل من الكفار والمؤمنين أغنياء وفقراء، حتى يعلم الناس أن الغنى ليس دليلًا على رضوان الله وحبه، وإن الفقر ليس دليلًا على سخط الله وكراهيته، وحتى يكون الناس طبقات ليتخذ بعضهم بعضًا سُخْريًّا. 34 - {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}: أي: ولجعلنا لبيوت الكفار أبوابًا من فضة وسررا من فضة عليها ينامون أو يجلسون (¬1)، لهوان متاع الدنيا عندنا فلا نعبأُ بأَن نعطيه من لا يستحقه، لينالوا عذابهم في الآخرة. ¬

_ (¬1) راجع المفردات.

35 - {وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}: قال الحسن: الزخرف: النقوش والتزاويق، وقال ابن زيد: هو أثاث البيت وتجملاته وقال ابن عباس: الزخرف: الذهب، وقال الراغب: الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، وقال صاحب المختار: الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مُمَوَّه مزوق. والمعنى: ولجعلنا لبيوت الكفار نقوشًا وزينة من ذهب وغيره، وما كل ذلك من البيوت وزخارفها إلاَّ متاع الحياة الدنيا، والآخرة بما فيها من نعيم يعجز الواصفون عن وصفه، خالصة للمتقين الذين اجتنبوا الكفر وسائر المعاصى. وفي الآية تزهيد في متاع الدنيا وزخارفها، والحث على التقوى، وقد أخرج الترمذي وصححه وابن ماجة عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانت الدنيا تساوِى عندَ اللهِ جناح بعوضةٍ ما سقَى منها كافرا شَربةَ ماءٍ". وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا سجن المؤمن وجنّةُ الكافِر". وعن علي - كرم الله وجهه -: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم. وقال بعض الشعراء: فلو كانت الدنيا جزاءً لمحسن ... إذًا لم يكن فيها معاش لظالم قد جاع فيها الأنبياءُ كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم وقال آخر: إذا أبقت الدنيا على المرءِ دينه ... فما فاته منها فليس بضائر فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن رَقِّ من جناح لطائر فلم يرض بالدنيا ثوابًا لمحسن ... ولا رضى الدنيا عقابًا لكافر

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} المفردات: {وَمَنْ يَعْشُ} - بضم الشين - أصله: يعشو مضارع عشا فجزم بحذف واوه (¬1)، ومعناه ومن يَتَعَامَ ويعرض وليس بأَعمى، وقرىء {وَمَنْ يَعْشُ} (بفتع الشين) وماضيه غَشِىَ كرضى يرضى، ومعناه يعمى لفقد بصره، انظر الآلوسي. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}: نُتِحْ ونسبب له شيطانًا جزاءً على كفره. {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}: مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإنهما متباعدان، كما قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (¬2) وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب، فغلب اسم أحدهما كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعُمَران لأَبى بكر وعمر. {فَبِئْسَ الْقَرِينُ}: فبئس الصاحب. التفسير 36 - {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}: المراد بالذكر هنا إما القرآن، وإضافته إلى الرحمن، للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، ¬

_ (¬1) لأنه فعل الشرط. (¬2) سورة الرحمن، الآية: 17.

وإما مصدر ذكر، أي: ومن يَتَعَامَ عن أن يذكر الرحمن نُتِحْ ونسبب له شيطانًا يستولى عليه استيلاء القَيْضِ على البيض، والقيض: قشر البيضة الخارجى. ومعنى الآية: ومن يَتَعَامَ ويعرض عن القرآن الذي أنزله الرحمن، أو عن أن يذكر الرَّحمن وألوهيته ونعمه، فانغمس في كفرهم ومعاصيه، نجعل له شيطانًا جزاءً له على كفرهم، فهو قرين له في الدنيا، يمنعه من الواجب والحلال، وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية، فهو مصاحب له في الدنيا لإغوائه، وفي الآخرة حتى يدخل معه النار، جزاءً له عن تعاميه أو عماه عن ذكر الرحمن. وقد جاء في الخبر: "إن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار، وإن المؤمن يشفع بملك حتى يقضى الله بين خلقه". 37 - {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}: ذكر ضمير الكافر هنا بلفظ الجمع؛ لأن (من) في قوله: {وَمَنْ يَعْشُ} جَمعٌ في المعنى وإن كان مفردًا في اللفظ. والمعنى: وإن الشياطين ليصدون في الدنيا قرناءهم من كفرة الإنس، ويحسب هؤلاء الكفار أنفسهم أنهم مهتدون، وقيل: ويحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم. 38 - {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}: أي: ويستمر هؤلاء الكفار معرضين عن ذكر الله، حتى إذا جاءَنا كل واحد منهم مع قرينه قال الكافر للشيطان المقارن له: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين (¬1)، حتى لا أستمع إغواءك فبئس الصاحب أنت. 39 - {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}: هذه الآية حكاية ما يقال لهم من جهة الله تعالى. ¬

_ (¬1) تقدم في المفردات بيان المراد من المشرقين فارجع إليه.

والمعنى: ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم بُعْدَ الشياطين عنكم في الدنيا بُعدَ المشرقين، - لن ينفعكم ذلك - حين تبين لكم أنكم ظلمتم أنفسكم باتباعكم إياهم، لأنكم في العذاب مشتركون كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. وقال سيبويه: (إذ) في قوله: {إِذْ ظَلَمْتُمْ} حرف جىء به للتعليل وليست ظرفًا، والمعنى عليه: ولن ينفعكم تمنيكم بُعْدَ الشياطين المقارنين لكم - لن ينفعكم - يوم القيامة في أنكم وإياهم في العذاب مشتركون، لأنكم جميعًا ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالكفر والمعاصي. والكلام في هذا الموضوع طويل، وحسب القارئ ما تقدم. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} المفردات: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ}: فَدُمْ على العمل بالقرآن الذي أُوحى إليك. {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: فإنك على طريق لا عوج فيه. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}: وإن القرآن لشرف لك ولقومك.

التفسير 40 - {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوة قومه إلى الحق ويبذل في ذلك جهده، وهم لا ينفكون عن شركهم، بل يتوغلون في غيهم وتعاميهم عمَّا يشاهدونه من شواهد النبوة، ويَتَصامون ويتعامون عن بينات القرآن، فهم كالصم العمى، فنزلت هذه الآية لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن همه وضيقه لعدم استجابتهم. ومعنى الآية: أفي قدرتك هداية هؤلاء المعاندين، فأنت تسمع الصم الذين لا يسمعون أو تهدى العمى الذين لا يبصرون ومن كان في بعد عن الطريق المستقيم، أن ذلك ليس لك أيها النبي، بل هو لله العلى القدير، فهو الذي يرد السمع للصم الذين لا يسمعون ويرد البصر للعمى الذين لا يبصرون، ويهدى أهلَ الضلال إلى الصراط المستقيم، فلا يضق صدرك بتصاممهم وتعاميهم وضلالهم، فقد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة على أتم وجه، فما عليك إلا البلاغ المبين، وقد فعلت. 41، 42 - {فَإِمَّا (¬1) نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}: أي: فإما أن نقبضك إلينا - كما تمنوا - قبل أن نُبَصِّرك عذابهم، ونشفى بذلك صدرك وصدور المؤمنين فإنا لا محالة منهم منتقمون في الدنيا والآخرة، أو نتركك حيًّا نُبَصِّرك بالعذاب الذي وعدناهم فإنا عليهم من مقتدرون، بحيث لا مناص لهم من تنفيذ وعدنا ولا ملجأ يقيهم من قدرتنا وقهرنا. وهكذا كان، فإنه لم يفلت أحد من صناديدهم في غزوة بدر وغيرها إلاَّ من اعتصم بالإيمان. ¬

_ (¬1) أصلها فإن ما فأدغمت النون في الميم، ولفظ (ما) للتوكيد، وهي تقتضى توكيد الفعل بعده ابن بنون التوكيد مثل لام القسم، نحو: لأصومن، وما يعطف على فعلها يؤكد مثله، ولذا أكد نتوفى في قوله تعالى: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} من الآية: 77 من سورة غافر.

44،43 - {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}: خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأُمته تبعًا له، لأَنه إِمامهم، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى من عناد قومه، وتقوية لما هو عليه من الاستمساك بوحى ربه. والمعنى: إذا كان أحد هذين الأَمرين واقعًا بقريش المعاندين لك، فدم على الاستمساك بالقرآن الذى أوحى إليك من ربك، لأنك على صراط مستقيم يوصلك إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، ولا تهتم بمعارضتهم، واستمر على دعوتهم. وإن القرآن لشرف لك ولقومك وللعرب جميعًا، فقد نزل بلغتهم على نبى منهم، وكل من آمن من الشعوب غير العربية تعلموا لغة العرب لكى يفهموا لغة القرآن والمرادَ منه أَمرًا ونهيًا، وجميع ما فيه من الأنباءِ، فشرفوا بذلك. وكما أنه شرف للعرب فهو شرف لكل من آمن به، فإِنه دستور الحق الإِلهى، أَخرج الطبرى عن ابن عباس قال: أَقبل النبى - صلى الله عليه وسلم - من سرية أَو غزاة، فدعا فاطمة فقال: "يا فاطمة اشترى نفسك من الله، فإني لا أُغنى عنك من الله شيئًا" وقال مثل ذلك لنسوته، وقال مثل ذلك لعترته، ثم قال نبى الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بنو هاشم بأَولى الناس بأُمتى، إِن أَولى الناس بأُمتى المتقون، ولا قريش بأَولى الناس بأُمتى، إن أَولى الناس بأُمتى المتقون، ولا الأنصار بأَولى الناس بأُمتى، إن أَولى الناس بأُمتى المتقون، ولا الموالى بأَولى الناس بأُمتى، إن أولى الناس بأُمتى المتقون، إنما أَنتم من رجل وامرأة (¬1) وأَنتم كجِمام (¬2) الصاع، ليس لأَحد فضل على أَحد إلَّا بالتقوى". وأَخرج الطبري أَيضًا عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لينتهينَّ أَقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم، أَو يكونون شرًّا عند الله من الجعْلان (¬3) التى تدفع النتن ¬

_ (¬1) أى: من آدم وحواء. (¬2) الجمام: ما فوق المكيال من الطفاف. (¬3) الجعلان -بكسر الجيم- جمع جعل -بفتحها- وهو دويبة حقيرة.

بأنفها، كلكم بنوآدم، وآدم من تراب، إن الله أذهب عنكم عَيْبةَ الجاهلية (¬1) وفخرها بالآباء، الناس مؤمن تقى وفاجر شقى". وفسر بعضهم الذّكر بالتذكير، أي: وإن القرآن لتذكير لك ولقومك. ثم ختم الله الآيتين بقوله: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي: وسوفَ تسألون يوم القيامة عن القرآن الذي شرف الله به قومك، أي: تُسأَلون عن القيام بحقوقه. 45 - {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}: كانت قريش تعبد الأوثان زاعمة أنهم يتقربون بعبادتها إلي الله، وذلك ما حكاه الله بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬2). وقد كذبوا، فأى صله بين أحجار لا تضر ولا تنفع وبين الله الخالق الرازق، حتى يتقربوا بعبادتها إليه سبحانه: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3) والله أقرب إلى عباده من حبل الوريد. ولما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتركوا عبادتها إلى عبادة الله تعالى وحده، عجبوا من ذلك وقالوا ما حكاه الله عنهم في سورة {ص} بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (¬4). ولما أفهمهم أن الله لا يرضى عن ذلك وأن الكتب السماوية مجمعة على تحريم عبادتها وتكفير من يعبدها قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (¬5) وقصدوا بالملة الآخرة النصرانية، وأهلُها يتعبدون بالعهد القديم الشامل للتوراة، والعهد الجديد الذي هو الإنجيل، وقد كذبوا فالتوراة والإنجيل حرما عبادة غير الله تعالى، وقد أمر موسى قومه بمحاربة الوثنيين في الأرض المقدسة، فامتنعوا لجبروت هؤلاء الوثنيين، وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (¬6) فحبسهم الله في التيه ¬

_ (¬1) أي: العيب الذي كان في الجاهلية في الأحساب، بأن يحط المفتخر ممن افتخر عليه بالطعن في حسبه. (¬2) سورة الزمر، من الآية: 3. (¬3) سورة ص، من الآية: 65. (¬4) الآية رقم: 5. (¬5) سورة ص - الآية رقم: 7. (¬6) سورة المائدة، من الآية: 24.

أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى نشأ جيل جديد أقوى إيمانًا وإقدامًا من آبائهم، ففتح بهم أريحا وسائر البلاد المقدسة. والأمر في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} موجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعنى على هذا: واسأل أيها الرسول أُمم من أرسلنا قبلك من رسلنا، أو على جعل سؤَال الأُمم لكم بمنزلة سؤَال المرسلين، قال الفراءُ: إنما يخبرون عن كتب الرسل، فإذا سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه سأل المرسلين - عليه السلام - وعلى الوجهين السؤال موجه إلى الأمم، ولكنه بمنزلة سؤَال الرسل؛ لأنهم يحكون ما جاء في كتبهم. وروى ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة والسدى وعطاء، وهو إحدى روايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا}، وروى أن في قراءة عبد الله بن مسعود {واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا} والقراءتان المذكورتان شارحتان للمراد من هذه القراءة. ومعنى الآية على هذا الوجه: واسأل أيها الرسول المرسلين قبلك في شخص أُممهم لتسمع قريشًا إجابتهم - اسألهم - أجعلنا في كتبهم من غير الرحمن آلهة يعبدون، فسيقولون: لا معبود في كتبنا سواه، فأنت لم تأت قومك حين دعوتهم إلى التوحيد - لم تأتهم - بأمر ابتدعته أنت، بل هو أمر مجمع عليه من سائر المرسلين. وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسؤالهم، كناية عن أمر قريش بسؤالهم، فهو من باب قولهم: إياك أعنى واسمعى يا جارة. ويصح أن يكون الأمر بالسؤال موجهًا إلى كل واحد من قريش وليس موجهًا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكأنه قيل: وليسأل كل واحد منكم أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ليعلموا الحقيقة حتى لا يقولوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}.

وعلى هذا يكون أسلوب القرآن مع قريش في هذا الموضوع له طريقتان: (إحداهما) أن يكون الخطاب موجهًا إلي جماعتهم، وذلك في قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). (وثانيهما) أن يكون موجهًا إلى كل واحد منهم، وذلك في قوله تعالى هنا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا}. وفي كلا الوجهين من البلاغة ما فيه، فقد جعل سؤال أمم الرسل سؤالًا لنفس الرسل، لأنهم سيجيبون من كتبهم، والله تعالى هو الموفق. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)} المفردات: {وَمَلَئِهِ} أي: وأشراف قومه، وخصوا بالذكر؛ لأنهم بطانته وجلساؤه، وغيرهم تبع لهم، وقد يطلق الملأ على الجماعة كما في المختار. {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}: بعهده عندك أننا إن آمنا كشف عنا العذاب. {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: في المستقبل. {يَنْكُثُونَ}: ينقضون العهد. ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 43.

التفسير 46، 47 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ}: لمَّا أعلم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منتقم له من أعدائه، وأقام لهم الحجة باستشهاد الأنبياء السابقين واتفاق الكل على التوحيد، أكد ذلك بقصة موسى وفرعون، وأنه دعاه وقومه إلى التوحيد، فلما كذبوه أغرقهم الله - تعالى -، كما فيه إبطال قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} لأن موسى لم يكن لديه من زخارف الدنيا شيء ومع ذلك بعثه الله إلى فرعون وهو ملك جبار، وإلى قومه وهم أيضًا جبابرة - بعثه الله إليهم - ليدعوهم إلى التوحيد كما يدعو محمَّد قومه إليه، فليس الفقر بمانع من إرسال أصحاب النفوس الزكية برسالات ربهم. والمعنى: ولقد أرسلنا موسى - عليه السلام - مع أنه كان فقيرًا - أرسلناه - إلى ملك جبار هو فرعون، وإلى قومه: ولم تبلغوا أنتم يا أهل مكة شيئًا يذكر مما كانوا فيه من العظمة، فقال لهم: إني رسول رب العالمين إليكم، فلما جاءهم بآياتنا التسع (¬1) المؤيدة له، فاجئوا أول ما رأوها بالضحك استهزاء وسخرية ولم يتأملوا فيها، يوهمون أتباعهم أنها سحر وتخييل، وأنهم قادرون على إبطالها. ولعلهم كانوا يضحكون من الآية الأُولى قبل أن يروا آثارها ويعلموا جديتها، فلما ابتلعت عصاه سحرهم لم يكن هناك سبب لضحكهم، وبخاصة بعد أن غمرهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واتضح لهم أَنه حينما ينذرهم يقع إنذاره أن لم يسلموا، ولذا كانوا يتضرعون إليه ليزيل عنهم ما نزل بهم، كما سيجيءُ. 48 - {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}: ¬

_ (¬1) وهي: عصاه ويده والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ونقص الزروع والأنفس والثمرات.

السابقة عليها، وقيل: معناه أن الأُولى تقتضى علمًا والثانية تقتضى علمًا، فبضم الثانية إلى الأُولى يزداد الوضوح، ومعنى أُخوة الآية للأُخرى أنها قريبة منها في المعنى، ومشاكلة لها فيه. وقد ختم الله الآية بقوله: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: وأَخذناهم بالعذاب المتدرج المتكرر الذي تشتمل عليه تلك الآيات، لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر، ولم نعاجلهم بالعذاب المستأصل. 49 - {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}: نادوا موسى في الأعراف باسمه، كما حكاه الله تعالى فيها بقوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬1) ونادوه هنا بقولهم: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} ويحمل ذلك على أنهم نادوه مرة باسمه، ونادوه مرة أُخرى بـ {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} أو أَن فريقًا منهم ناداه بغير ما ناداه به فريق آخر. وكان علم السحر هو العلم العظيم عندهم، وكانوا يعظمون السحرة لذلك، فنادوه بـ {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} تعظيمًا له، فكأنهم قالوا: يأيها العالم، قال ابن عباس: {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} يا أيها العالم، وهذا هو رأى الجمهور. وقيل: هو من قولهم: ساحَرْتُه فسحرتُه، أي: غلبته بالسحر، كما يقال: خاصمته فخصمته، أَي: غلبته في الخصومة، وعلى هذا يكون معنى الآية: يا أيها الذي غلبنا بسحره، وقيل: خاطبوه بما كانوا يخاطبونه من قبل، وكان مقتضى طلبهم منه رفع الرِّجز عنهم بدعاء ربه أن لا يخاطبوه بذلك، إلَّا أنهم سبق لسانهم إلى ما تعودوه في خطابهم له، وقيل غير ذلك، والمعنى الأول أرجح. ومعنى الآية: يأيُّهَا العالم: ادع لنا ربك بما أخبرتنا عن عهده إليك أننا إن آمنا يكشف عنا العذاب - ادعه - لينفذ وعده؛ إننا لمهتدون مستقبلا بعد زوال العذاب. ¬

_ (¬1) الآية: 134.

وقد فسر هنا اهتداؤهم بأنه يكون في المستقبل، بعد زوال العذاب، ليطابق ما جاءَ في سورة الأعراف: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} أي: إننا لمؤمنون لك مستقبلا على سبيل الاستمرار الذي يقتضيه التعبير بالاسم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}. 50 - {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}: أي: فدعا موسى ربه فكشف العذاب عنهم، فلما كشفه فاجئوا بنقض العهد الذي قطعوه على أنفسهم فلم يؤمنوا. {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)} المفردات: {مِنْ تَحْتِي}: من تحت قصرى، وسيأتى لذلك مزيد بيان. {مَهِينٌ}: ضعيف حقير، أو مبتذل ذليل، فهو من المهانة بمعنى الذلة والحقارة، والابتذال. {يَكَادُ يُبِينُ}: ولا يكاد يفصح عمَّا في فؤاده. {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}: جمع سوار، وهو كالحلقة من ذهب أو فضة تزين به الأيدى. التفسير 51 - {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}:

نداءُ فرعون في قومه إن كان على الحقيقة فيكون قد جمع أشراف قومه، ورفع صوته بما قاله، والأشراف يبلغون نداءه إلى أتباعهم، وإن كان على المجاز كان المعنى: نادى رجاله في قومه بأمره، وذلك كقولهم: هزم الأمير أعداءه - وهو في قصره - يعنون أن جنوده هم الذين هزموا الأعداء، ولكونه هو الآمر للجنود أُسند الفعل إليه. ومعنى قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} أن بيده تصريف أُمورها، ويعنى بمصر القطر كله، من الإسكندرية إلى أُسوان - كما في البحر - والأنهار كنهر الملك ونهر دمياط ونهر تنيس ونهر طولون، وهو نهر قديم كان قد اندرس، فجدده أحمد بن طولون، وكان قصره عند مبدأ هذه الخلجان، فلذلك قال: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي: من تحت قصرى وقال قتادة: كانت له جنان وبساتين بين يديه تجرى فيها الأنهار. وفسر الأنهار بعضهم بالأموال، يريد أن أمواله تشببه الأنهار في كثرتها، وجريانُها من تحته كناية عن خروجها وانتشارها من تحت أَمره، أو من خزائنه التي وضعها في قصره تحت سكنه. ولا يخفى ما بين افتخار هذا اللَّعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد. ومعنى الآية: نادى فرعون في قومه أهل القطر المصري متباهيًا ومفتخرًا: أليس لي ملك مصر بأقاليمها وهذه الأنهار تجرى من تحتى، أتغفلون فلا تبصرون عظمتى وقوتى وضعف موسى وفقره، فلا يغرنَّكم ما يأتي به من السحر. 52 - {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}: بل أنا في عظمة ملكى خير من هذا الذي هو ضعيف حقير ولا يكاد يفصح عما في فؤاده، وكان موسى - عليه السلام - به عقدة في لسانه منذ طفولته، ولازمته إلى ما قبل النبوة، فلما جاءته الرسالة طلب من ربه حلها بقوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬1) فاستجاب الله له وحلَّ عقدته، فعيره اللعين بالحبسة التي كانت في لسانه أيَّام كان عنده، ¬

_ (¬1) سورة طه: 27 - 28.

ولمَّا حلت عقدته كان يناظر فرعون ويقيم عليه الحجة، وكان أخوه هارون - عليهما السلام - يصدقه ويؤازره في مناظرته ودعوته. 53 - {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}: قال القرطبي: إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزى أهل الشرف، ثم نقل عن مجاهد وله: كانوا إذا سوَّدوا رجلًا (¬1) سوروه بسوارين، وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلَّا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان صادقًا. والمعنى: هلَّا جعل رب موسى لموسى أسورة من ذهب ليستحق السيادة والشرف الذي يدعيه، أو ضمّ إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه، حتى يتكثر بهم ويصرفهم علي أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في القلوب وأدعى إلى تصديقه، يريد فرعون بهذا الكلام أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك، تبدو عليهم مظاهر الرياسة وتكون معهم حاشية تقوى رسالتهم وتعظم شأنها، ولم يعلم أن رسل الله إنما أُيدوا بالجنود السماوية، وكل عاقل يعلم أن حفظ الله لموسى مع تفرده ووحدته - حِفْظَه - من فرعون مع كثرة أتباعه وقوتهم، وأن إمداد موسى بالعصا واليد البيضاء من غير سوء وغيرهما من المعجزات، كان أبلغ من أن يكون له أسورة من ذهب أو ملائكة تكون له حاشية وأعوانًا دليلًا على صدقه. وليس يلزم للرسل ما ذكره فرعون؛ لأن الإعجاز كاف، وقد كان من الجائز أن يُكذِّب موسى مع وجود الأسورة الذهبية وحضور الملائكة، كما كذبه مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى بأن لله ملائكة، وليس عن عقيدة، لأن من لم يعرف خالقه لا يؤمن بأن له ملائكة. ¬

_ (¬1) أي: جعلوه سيدًا.

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} المفردات: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي: طلب منهم الخفة في مطاوعتهم فأطاعوه، ومعنى الخفة السرعة في إجابتهم ومطاوعتهم، كما يقال: هم خفاف إذا دُعُوا، أومعناه: وجد عقولهم خفيفة، أو استجهلهم، يقال: استخفه: حمله على الجهل، ومنه {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}. {آسَفُونَا}: أغضبونا. {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}: وعبرة لمن يكفر بعدهم. التفسير 54 - {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}: فحمل فرعون قومه على الجهل لخفة عقولهم، فطلب منهم الكفر بموسى، فأطاعوه ولم يخالفوه لأنهم كانوا قومًا خارجين عن الحق. والمراد من قوم جنوده؛ لأن الانتقام كان منهم، كما جاء في قوله - تعالى -: 55 - {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}: أي: فلما أَغَضَبَنَا فرعونُ وجنوده انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين؛ لأنهم تبعوه وأيدوه في كفرهم، وخرجوا معه لإجبار بني إسرائيل على العودة إلى خدمتهم.

56 - {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} أي: فجعلنا فرعون وقومه المغرقين متقدمين إلى النار - كما قاله ابن عباس وزيد ابن أسلم وقتادة - أو متقدمين إلى العقاب، وجعلناهم عبرة للكفار المتأخرين عنهم، يتعظون بما أصابهم، أو مثلًا يضرب لمن كفر بعدهم. {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)} المفردات: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}: ترتفع لهم جلبة وضجيج فرحًا وسرورًا. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي: شداد الخصومة مجبولون على اللجاج، يقال: خصم الرجل من باب تعب: إذا أحكم الخصومة فهو خصيم. {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أمرًا عجيبًا، كالمثل في غرابته حيث كان من غير أب. {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}: علامة لها، بنزوله من السماء يُعلم قرب وقوعها.

{فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي: فلا تشكّن في قيامها. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: ظاهر العداوة لكم. التفسير 57 - {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}: نزلت هذه الآية والتي بعدها بيانًا لعناد قريش بالباطل والرد عليهم. وقد روى أن الضارب لهذا المثل عبد الله بن الزِّبعرى السلمى قبل إسلامه، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعه يقرأ قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (¬1) ... الآية. أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأُمم؟ فقال - عليه السلام - هو لكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة، أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول عنه: كان نبيًّا وعبدًا صالحًا من عباد الله؟ فإن كان في النار فقد رضينا أَن نكون وآلهتنا معه، فعجبت قريش من مقالته وظنوا أن الرسول - عليه السلام - قد ألزم الحجة فضجوا وارتفعت أصواتهم فرحًا وبهجة، وذلك معنى قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} فأنزل سبحانه عندئذ قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬2) ردا عليهم وتقبيحًا لقولهم. وحاصل المعنى: ولما ضرب ابن الزِّبعرى عيسى بن مريم مثلا وحاجك أيها الرسول بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك المثل ولأجله ترتفع لهم جلبة، ويعلو منهم ضجيج وضحك حيث زعموا أن ابن الزبعرى ألزمك الحجة. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية تأييدًا وإبطالًا لحجته؛ لأن عيسى - عليه السلام - من الذين سَبَقَت لهم الحسنى فأُبعدوا عن النار، والحجة إذا كانت تسير سير الأمثال شهرة قيل لها: مثل. وقريءَ {يَصِدُّونَ} بضم الصاد، من الصدود بمعنى الإعراض، وروى ذلك عن علي - كرم الله وجهه - والمعنى عليها: إذا قومك يعرضون عن الحق بالجدال كحجة داحضة واهية. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء من الآية 98. (¬2) سورة الأنبياء الآية 101.

58 - {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}: حكايته لطرف من المثل المضروب، أي: أآلهتنا خير أم عيسى؟ يعنون أن الظاهر عندك أن عيسى خير من آلهتنا، فحيث كان عيسى في النار فلا بأس أن نكون مع آلهتنا فيها {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي: ما ضربوه لك - هذا المثل - إلا لأَجل الجدل والخصام والغلبة في القول لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره، وفي ذلك إبطال لباطلهم إجمالًا. اكتفاءً بما فصل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} ... الآية، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي: لُدٌّ شداد الخصومة، مجبولون على المكابرة وحب المغالبة بحق أو بباطل ولو تأمل ابن الزِّبعرى الآية ما اعترض عليها لأنه تعالى قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل ومن تعبدون؛ لأنه أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ومن عُبد مثله كعزير والملائكة. 59 - {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}: أي: ما عيسى بن مريم إلا عبد كسائر العبيد، أنعمنا عليه بالنبوّة، فهو رفيع المنزلة على المكانة، ولكنه لا يستحق أن يكون معبودًا لكونه عبدًا من عباده تعالى، ولم يكن إلها أو ابن إله كما زعمت النصارى {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة حيث كان آية يستدل بها على قدرة الله تعالى، فإنه كان من غير أب ثم جعل الله له من المعجزات إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك مما لم يجعل لغيره في زمنه مما حمل بعض الناس على الافتتان به، والحق أنه بشر جعله الله دليلًا على قدرة الله تعالى شأنه، حيث وجد من غير أب وهو بشر وكان مثلا لبنى إسرائيل يستدلون به على قدرة خالقه. 60 - {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}: الآية تذييل لتحقيق أَن مثل عيسى - عليه السلام - ليس ببدع من قدرة الله، وأنه قادر على أبدع من ذلك وأبرع من خلق عيسى عليه - السلام - مع التنبيه على أن الملائكة أَيضًا

لا تصح عبادتهم من دون الله؛ لأنهم مخلوقون لله، ولا فرق بين المخلوقين توالدًا وإبداعًا في عدم الصلاح للمعبودية. أي: لو نشاءُ - لقدرتنا على عجائب الأُمور وبدائع الفطر - لجعلنا بدلا منكم ملائكة مستقرين في الأرض كما جعلناهم مستقرين في السماء، أو لجعلنا بدلكم ملائكة يخلف بعضهم بعضًا أو يخلفونكم في عمارة الأرض. 61 - {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}: الضمير في {إِنَّهُ} لعيسى - عليه السلام - لأن السياق في ذكره، أي: بنزوله يعلم قرب مجيئها؛ لأنه شَرَطٌ من أشراطها، واعتباره عِلْمًا لها على المجاز بتسمية ما يعلم به علمًا، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وقتادة: إنه خروج عيسى - عليه السلام - وذلك من أعلام الساعة؛ لأن الله ينزله قبل قيامها، ويؤيد ذلك القراءة الأخرى وإنه لَعَلَمٌ للساعة - بفتحتين - أي: أمارة ودليل على وقوعها، وقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إمامًا عادلًا وحكمًا مقسطًا فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لينزلن ابن مريم حكمًا عدلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير ... " إلخ، إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في كتب الصححاح (¬1) {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي: فلا تشُكُّن في وقوعها، وقال السدى: فلا تكذبون بها ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة {وَاتَّبِعُونِ} أي: واتبعوا أيها المجادلون هداى أو شرعى أو رسولي. وقيل: هو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تقدير (قل) أي: قل لهم: اتبعون في التوحيد وفيما أُبلغكم به عن الله {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أدعوكم إليه طريق قويم يوصل إلى الجنة. 62 - {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: أي: ولا يَحُولَنَّ الشيطان بينكم وبين اتباعى لأنه عدو لكم بيّن العداوة حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه وعن زوجته لباسهما، وعرَّضكم للمحن والبلايا. ¬

_ (¬1) وقيل: معناه: أنه بحدوثه من غير أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة.

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)} المفردات: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي: الآيات الواضحة كإحياء الموتى ونحوها من المعجزات، وقيل: المراد بها هنا الإنجيل. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي: بالنبوّة، أو الإنجيل، أو بكل ما يؤدى إلى الإحسان. {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}: من الأُمور الدينية؛ لأن الأنبياء إنما يبينون أُمور الدين لا أُمور الدنيا. {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي: طريق لا عوج فيه، موصل إلي جنات النعيم. التفسير 63 - {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}: استمرار في رد شبه المجادلين ببيان أن عيسى - عليه السلام - لما جاء من عند ربه بالآيات الواضحات وهي - كما قال ابن عباس - إحياء الموتى وإبراء الأسقام والإخبار بكثير من الغيوب، أو هي آيات الإنجيل، أو بما تقتضيه الحكمة من الشرائع، ولا مانع من إرادة الجميع - لما جاءهم بذلك - قال: قد جئتكم من عند ربي بالحكمة {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من أُمور الدين وما يتعلق بالتكليف مما اختلفتم فيه بعد تبديل التوراة. أما ما يختلفون فيه

من أُمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء - عليه السلام - كما يشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في قضية تأبير النخل: "أنتم أعلمُ بأمور دنياكم". {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي: فاتقوا الله من مخالفتى وافعلوا ما يقيكم من عذابى وأطيعون فما أبلغكم عن الله - تعالى - وفيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره. وحاصل المعنى: أن عيسى - عليه السلام - ليس معبودًا كما زعم المجادلون؛ لأنه لما جاءهم بالآيات الواضحة والمعجزات البينة قال: قد جئتكم بالإنجيل لأدعوكم الي عبادة الله وحده لا شريك له وإلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ولأُبين لكم ما اختلفتم فيه من الأمور الدينية، فاتقوا الله واحذروا من مخالفته وأطيعوه فيما دعاكم إليه من التوحيد وغيره مما تستقيم به أموركم. 64 - {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}: بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد أنه - سبحانه - لا شريك له، والتعريف بالشرائع التي جاء بها الأنبياء - عليهم السلام - وهذا المأمور به طريق إلى الله لا عوج فيه ولا يضل سالكه ولا يشقى. {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)} المفردات: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي: تفرقوا. والأحزاب جمع حزب، وهي الفِرقةُ المتحزبة.

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}: فهلاك للذين كفروا وأشركوا، وويل: كلمة عذاب، أو واد في جهنم. {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة على غرة. {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي: وهم غافلون عنها. التفسير 65 - {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}: لما ذكر - تعالى - أمر عيسى ودعوته إلى الدين الحق أتبعه ذكر ضلال الفرق المتحزبة من اليهود والنصارى الذين بُعث إليهم، وهم أُمة دعوته، فقد خالف بعضهم بعضًا في شأنه. وقيل: المراد فرق النصارى الذي تفرقوا في شأنه شيعًا وأحزابًا: من النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقد اختلفوا فيه. فقالت النسطورية: هو ابن إله. وقالت اليعقوبية: هو الله. وقالت الملكانية: ثالث ثلاثة أحدهم الله - فسره الكلبي ومقاتل - وهم أُمة دعوته {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: فهلاك للذين ظلموا حيث إنهم ظلموا أنفسهم بالكفر والإشراك. ولم يقولوا عنه - عليه السلام - إنه عبد الله ورسوله {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو يوم القيامة ووصف يوم بأليم على المجاز، أي: أليم عذابه. 66 - {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}: الاستفهام للإنكار، وإلا بمعنى غير. والمعنى: ما ينتظر الأحزاب الذين ذكروا في الآية السابقة - ما ينتظرون - شيئًا غير إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها غير مترقبين لها، مشتغلون بأمور الدنيا، وذلك قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وفي هذا تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لابد من وقوعه، ومع ذلك فهم عنها غافلون وبها غير مكترثين، وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا إتيان الساعة، ويكون المراد على هذا الذين تحزبوا على رسول الله وكذبوه من المشركين. وأُيِّد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تقوم الساعة والرجلان يحلبانِ النعجة، والرجلان يطويان الثوبَ، ثم قرأ - عليه الصلاة والسلام -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}:

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} المفردات: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ} أي: الأصدقاء يوم القيامة جمع خليل وهو الصديق الصميم الذي تخللت المحبة قلبه. {تُحْبَرُونَ} أي: تفرحون وتسرون سرورا عظيمًا يظهر أثره على وجوهكم حُسنًا ونضرة. {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} الصحاف: جمع صحفة وهي إناء كالقصعة، وقال الزمخشرى: قصعة مستطيلة وهي للطعام، والأكواب للشراب، جمع كوب وهي كوز لا عروة له. وقال قتادة: إنها الآنية المدورة الأفواه. {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}: جعلها لكم ميراثًا.

التفسير 67 - {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}: الآية تذكر حالًا من أحوال القيامة، وقد نزلت في أُمية بن خلف الجمحى وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين وكان عقبة يجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط فقال له أمية: وجهى من وجهك حرام إن لقيت محمدًا ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فقتله النبي يوم بدر، وقتل أمية في المعركة: حكاه النقاش. والمعنى: المتحابون في الأمور الدنيوية لغير الله يعادى بعضهم بعضًا يوم القيامة لانقطاع علائق المحبة والتواد التي كانت تربط بينهم، لظهور كونها أسبابًا للعذاب، قال ابن كثير: كل خلة وصداقة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فإن صداقتهم لما كانت في الله فإنها تبقى على حالها في الدنيا، وتزداد في الآخرة قوة لما يراه كل منهم من آثارها من الثواب ورفع الدرجات. 98 - {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}: حكايته لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يوم القيامة تشريفًا لهم، وتطييبا لقلوبهم، وذلك بتقدير القول، أي: فيقال لهم: يا عباد، أو فأقول لهم: يا عباد، بناءً على أن المنادي هو الله تعالى. والمعنى: لا خوف عليكم - أيها المتقون - في هذا اليوم العصيب، ولا أنتم تحزنون فيه على ما فاتكم في الدنيا؛ رَوَى المعتمر بن سليمان عن أبيه: ينادى مناد في العَرَضَات: يا عبادى لا خوف عليكم اليوم، فيرفع أهل العرصات رءُوسهم على الرَّجاء، فيقول المنادى: 69 - {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}: فييأَس أهل الأَديان الباطلة وينكسون رءُوسهم، ويستبشر الذين آمنت قلوبهم وبواطنهم. وانقادت ظواهرهم وجوارحهم. وقوله - تعالى -: {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} يفيد أنّ تلبسهم بالإيمان في الماضي اتصل بزمان الإيمان في الآخرة واستمر عليه، والكلام على هذا أبلغ.

70 - {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}: أي: يقال لهم: يا عبادى الذين آمنوا ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم المؤمنات أو أنتم وقرناؤكم من المؤمنين تسرون سرورًا عظيمًا يظهر حَباره - بفتح الحاء وكسرها - أي: أَثره على وجوهكم نضرة وحسنا، كقوله - تعالى -: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (¬1) وقيل: تكرمون: قاله ابن عباس والكرامة في المنزلة: الحُسْن. 71 - {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}: أي: بعد دخول المؤمنين الجنة حيث فعلوا ما أمروا به: يطاف عليهم بأطعمة في صحاف من ذهب وبأشربة في أكواب من ذهب، وجواز استعمالها خاص بأهل الجنة لزيادة أسباب النعيم لهم، أما لأهل الدنيا فلا يجوز، روى الأئمة من حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَشرَبُوا في آنيةِ الذهبِ والفضةِ ولا تأكلوا في صحافِهما" وهذا يقتضي التحريم ولا خلاف في ذلك كما قال القرطبي، ولم تذكر في الآية الأطعمة ولا الأَشربة حيث إنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب من غير أن يكون فيها شيءٌ، واستغنى بوصف الصحاف بقوله (من ذهب) عن الإعادة مع الأكواب، كما في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} (¬2) {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} تعميم ببيان أن فيها كل ما تشتهيه الأنفس من الطيبات وتلذ الأعين بمشاهدته من أنواع الجمال، وذلك شامل لكل نعيم ولذة، أما الإطافة عليهم بأوانى الذهب والفضة فهو بمعنى أنواع التنعيم والترفيه، قال سعيد بن جبير: المراد من قوله: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} النظر إلى الله - عز وجل - كما في الخبر: "أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم" {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: باقون دائمون في الجنة أبد الآبدين، قال القرطبي: لأنها لو انقطعت لتبغضت؛ فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ، ومُستَعقِب للحسرة عند فقده. والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف. ¬

_ (¬1) سورة المطففين، الآية: 24. (¬2) سورة الأحزاب، من الآية: 35.

72 - {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}: أي: يقال لهم على سبيل الامتنان والتفضل: تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا جعلت لكم كالميراث (بما كنتم تعلمون) أي: بسبب ما كنتم تعملون من الأعمال الصالحة، حيث شبه ما استحقوه بسبب أعمالهم من الجنة ونعيمها الباقي لهم - شُبِّه - بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق، وأيًّا ما كان فدخول الجنة بسبب العمل لا يتم إلا بفضل الله ورحمته - عَزَّ وَجَلَّ - والمراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس يدخل أحدكم الجنةَ عملُه" أن إدخال العمل الجنة لا يكون على سبيل الاستقلال والسببية التامة، فلا تعارض، وقال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارًا، فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر، وذلك قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا ... } الآية. 73 - {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ}: أي: لكم أيها المؤمنون في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط، قال ابن عباس: هي الثمار كلها رطبها ويابسها , لا تأكلون إلا بعضها في كل نوبة. وأما الباقي فعلى الأشجار دائمًا بحيث لا ترى شجرة منها خلت من ثمرها لحظة؛ فهي مزينة بالثمار أبدا، خلاف أشجار الدنيا التي تخلو منها كثيرًا، وفي الحديث: "لا ينزع رجلٌ في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلها".

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} المفردات: (إن المجرمين) أي: الكافرين؛ لذكرهم في مقابلة المؤمنين. (لا يفتر عنهم العذاب) أي: لا يخفف. (وهم فيه مبلسون): آيسون من تخفيف العذاب، من الإبلاس: وهو الحزن من شدة اليأس. (ليقضِ علينا ربك) أي: ليميتنا فنستريح، من قضى عليه: أماته. (إنكم ماكثون) أي: مقيمون متلبثون، من باب قتل. (أم أبرموا أمرًا) أي: أحكموا كيدهم، من الإبرام: وهو الإحكام والإتقان، يقال: أبرم الحبل: أتقن فتله. (سرهم ونجواهم) أي: الحديث الذي حدثوا به أنفسهم، والذي تحدثوا به فيما بينهم ولم يطلع عليه أحد سواهم.

التفسير 74، 75، 76 - {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)}: لما ذكر - سبحانه - أحوال أهل الجنة أتبعها ذكر أحوال أهل النار؛ ليبين فضل المطيع على العاصى. والمعنى: إن المجرمين الذين تمادوا في الإجرام، ورسخوا فيه، وهم الكفار حسبما ينبىء عنه إيرادهم في مقابلة المؤمنين: في عذاب جهنم خالدون ماكثون فيها أبدا، وعليه فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين فيه كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج. حيث تبين أن المراد بالمجرمين الكافرون، وخلودهم في النار بسبب كفرهم أي: لا يخفف عنهم وهم فيه مبلسون، أي: لا يخفف عنهم العذاب لحظة بل يستمر على شدته، وقوة حدته {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي: آيسون من كل أمل ورجاء في أن يفتر عنهم العذاب أو يخفف {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} بمعنى: وما ظلمناهم بعقابنا لهم ولكن كانوا هم الذين ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم لما يؤدى إلى العذاب الخالد لهم وهو الشرك. 77 - {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}: المعنى: لما اشتد بهم العذاب: ويئسوا من فتوره، ووقع عليهم من الجوع ما يعدل ما هم فيه من العذاب. كما في بعض الآثار, حينئذ نادوا مالكا وهو خازن جهنم، خلقه الله لغضبه إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضًا، نادوه فقالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: سل ربك أن يميتنا حتى نستريح مما نحن فيه؛ أي: قال لهم مالك: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره، كما قال - تعالى -: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا (36)} (¬1) قال بعض الأجلة: في الجواب استهزاء بهم؛ لأنه أقام المكث مقام الخلود. ¬

_ (¬1) سورة فاطر من الآية 36.

78 - {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}: يحتمل أن يكون هذا من تمام قول مالك لأهل النار. أي: إنكم ماكثون في النار لأننا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا، والمقصود من قوله: (جئناكم) الملائكة لأنهم رسل الله وهو واحد منهم. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم. أي: جئناكم في الدنيا بالحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب فأعرضتم وكذبتم، وهو خطاب توبيخ وتقريع لهم من جهته تعالى، مقررًا لجواب مالك لهم بقوله: (إنكم ماكثون) ومبيِّنا لسبب مكثهم، ولا مانع من خطابه - سبحانه - للكفرة تقريعًا (ولكن أكثركم للحق كارهون) أي: ولكن أكثركم للحق - أيِّ حق كان - كارهون لا تقبلونه وتنفرون منه، وفسر الحق بذلك دون تفسيره بالحق المعهود وهو التوحيد أو القرآن؛ لأنهم كانوا كارهين لكل حق مشمئزين منه سواء أكان الخطاب لقريش أم لأهل النار. وقد يقال: المراد بالحق الحقُّ المعهود، وعُبِّر بالأكثر؛ لأن من الأتباع من يكفر تقليدًا. 79 - {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}: قال مقاتل: نزلت في تدبير المشركين المكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة حين استقرَّ أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله - صلى الله عليه وسلم - فتضعف المطالبة بدمه، ولفظ (أمْ) معناه بل والهمزة الإنكارية، وبل للإضراب الانتقالى من توبيخ أهل النار إلى حكايه مؤامرة قريش على الرسول. المعنى: بل أأحكم مشركو مكة بالفعل أمرًا من كيدهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة حيث تآمروا على قتله، كلا لم يحكموا أمرهم فلذا نجا منهم، فإنا مبرمون ومحكمون ردَّ كيدهم، وحمايته منهم، فلذا أخرجناه من بينهم وهم له راصدون، ولم ينفعهم كيدهم ولم يغن عنهم شيئًا كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (¬1). وقال قتادة: أم أجمعوا على التكذيب، فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. ¬

_ (¬1) سورة الطور الآية 42.

وكانوا يتناجون في أنديتهم، ويتشاورون في أمره - صلى الله عليه وسلم - ويتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل يسلكونها، فكادهم الله وردَّ وبال ذلك عليهم حيث قال - سبحانه -: 80 - {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}: أي: بل أيظن هؤلاء المشركون أنا لا نسمع سرهم في أنفسهم، ولا نسمع نجواهم مما يتحدثون به فيما بينهم على سبيل التناجى ولم يطلع عليه أحد سواهم (بلى) نسمعها ونطلع عليها (ورسلنا لديهم يكتبون) وهم الحفظة الذين يحفظون عليهم أعمالهم ويلازمونهم حيثما كانوا. فهم عندهم دائمًا يكتبونها وكل ما صدر عنهم من أقوال وأعمال صغارها وكبارها. {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)} المفردات: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) أي: المنقادين، وهو جمع عابد، ويجمع عابد أيضًا على عُبّاد وعبدة. (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: تنزيهًا له وتقديسًا. نزه الله نفسه وأمر النبي بالتنزيه عما لا يليق به. (عما يصفون) أي: عما يقولون من الكذب. التفسير 81 - {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: رد لباطل المشركين بتنزيهه - جل شأنه - عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد.

والمعنى: قل - أيها النبي - للمشركين تحقيقًا للحق، وتنبيهًا لهم على أن الدافع لك على مخالفتهم في عبادة الملائكة ليس لغضبك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم، وإنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله. قل لهم: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}: أي: إن صح ذلك وثبت ببرهان واضح تأتون به، وحجة صحيحة تدلون بها {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفَرْض، والمراد نفى الولد، وذلك لأنه على العبادة على كينونة الولد لله، وهي محال في نفسها فكان المعلق عليها محالا مثلها. ونظيره قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1). وقال ابن الأعرابي: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: الآنفين من أن يكون له - سبحان - ولد، وقال ابن عباس والسدى: المعنى ما كان للرحمن ولد، يجعل (إن) بمعنى (ما) ويكون الكلام على هذا تامًّا. ثم يبتدئ {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له، والوقف على العابدين تام. 82 - {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)}: أي: تنزيها وتقديسا لله - تعالى - عما يصفونه به من كونه - سبحانه - له ولد، وتعاليا عن كل ما يقتضي الحدوث؛ لأنه واحد أحد فرد صمد. وفي إضافة رب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات تحت ملكوته وربوبيته عَزَّ وَجَلّ، فكيف يصور أن يكون شيء منها جزءا منه، وفي إعادة الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش. {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)} ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء من الآية 22.

المفردات: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} أي: فاتركهم يدخلوا في باطلهم، يقال: خاض في الأمر: دخل فيه. (ويلعبوا) بكل ما يريدون، واللُّعْبَةُ وزن غرفة: ما يُلعب به، والفعل من باب فرح. {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وهو يوم القيامة الذي وعدوه. التفسير 83 - {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)}: هذه الآية أُخرجت مخرج التهديد لكفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. والمعنى: فاتركهم - أيها النبي - حيث لم يذعنوا للحق - اتركهم - يدخلوا في باطلهم وضلالهم ويلعبوا في دنياهم {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)} وهو يوم القيامة الذي وعدوه، وسوف يلاقون فيه مصيرهم حيث تحل بهم الشدائد والأهوال التي هي فوق الاحتمال، وقال عكرمة وجماعة: إنه يوم بدر وقد وُعِدُوا الهلاك فيه. {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}

المفردات: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي: الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم ما كان وما يكون. (وتبارك) من: البركة واليمن، أي: هو سبحانه المتصف بهما. (إلا من شهد بالحق) وهو التوحيد. (فأنى يؤفكون) أي: فكيف ينقلبون وينصرفون عن عبادته تعالى؟! من أفَكَ يأفِك إفْكا، بمعنى كذب ... إلخ. (وقيله يا ربِّ): القيل والقول والقال والمقال واحد. {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أي: فأعرض عنهم. {وَقُلْ سَلَامٌ} أي: تَسَلُّم منكم ومتاركة، وليس المراد أمره - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء السلام عليهم. التفسير 84 - {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)}: هذا تكذيب للمشركين في أن لله شريكًا وولدا، وتقرير لوحدانيته - تعالى - والمعنى: أنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة في السماء وفي الأرض؛ فكل من فيهما خاضعون له أذلاء بين يديه. وفي ذلك نفى للآلهة السماوية والآلهة الأرضية، وإثبات الأُلوهية لله وحده مختصة به لا تتعداه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى غيره. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي: الحكيم في تدبير شئون خلقه العليم بأحوالهم، ما كان منها وما يكون، وهذا بيان لاختصاص الألوهية به - تعالى - ونفيها عن سواه لأن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الألوهية. 85 - {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}:

استمرار في تقرير وحدانيته - تعالى - وأنه لا شريك له في شئون الكون خلقًا وملكًا وتدبيرا وتصرفا. والمعنى: تعظَّم وتعالى الذي له وحده كمال التصرف في السموات والأرض وفيما بينهما من مخلوقات الجوِّ المشاهدة وغيرها {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي: وقت قيامها ويراد بها يوم القيامة، أي: وعنده العلم بالزمان الذي تقوم فيه القيامة. وفي تقديم الخبر في قوله - سبحانه -: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إشارة إلى استئثاره - عَزَّ وَجَلَّ - بعلم ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاء على ما اقترفتم من آثام، والالتفات إلى الخطاب للتهديد. 86 - {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: بيان لعجز آلهتهم وإشادة بمكانة التوحيد. والمعنى: ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة كما زعموا أنهم شفعاؤهم يوم القيامة ونصراؤهم عند الشدائد والأهوال {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} وهو التوحيد؛ فإن هؤلاء هم الذين يشفعون عند الله في المؤمنين المقصرين، وقال ابن عباس: أي: إلا من شهد بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيشفعون للمؤمنين إذا أذن لهم، ويراد بهم عيسى وعزير والملائكة وأضرابهم - عليه السلام - فإنهم يشهدون بالحق والتوحيد لله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة ما شهدوا به واعتقدوه، والآية تفيد أن الشهادة على غير علم بالمشهود به لا يعوَّل عليها، وقال مجاهد وغيره: المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم كأنه قبل: ولا يملك هؤلاء الملائكة وأضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص.

وإفراد الضمير في قوله: (شهد بالحق) وجمعه في قوله: (وهم يعلمون) باعتبار لفظ مَنْ ومعناها. 87 - {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)}: أي: ولئن سألت العابدين والمعبودين عمن خلقهم ليقولن: خلقنا الله لا الأصنام ولا الملائكة لتعذر المكابرة في ذلك مع فرط ظهوره {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}: أي: فكيف يُصرفون عن عبادته ويصرفون عنها إلى عبادة غيره، ويشركونه معه - عَزَّ وَجَلَّ - مع إقرارهم بأنه - تعالى - خالقهم جميعًا، أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك والمراد التعجب من إشراكهم مع رجاء شفاعتهم لهم وهم يعترفون بأن الله خالقهم، وقيل المعنى: ولئن سألت الملائكة وعيسى (من خلقهم) لقالوا: الله، ومعنى (فأنَّى يؤفكون) أي: فكيف يؤفك هؤلاء المشركون ويصرفون وينقلبون عن الحق في ادعائهم إياهم آلهة. 88 - {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)}: الكلام خارج مخرج التحزن والتحسر والتشكى من عدم إيمان أولئك الذين أشركوا بالله، أي: وعند الله علم الساعة، وعدم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - -: (يارب إن هؤلاء .. ) الآية بعطف قيله علي الساعة من قوله - تعالى -: (وعنده علم الساعة) وقيل: إن الواو للقسم، وقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} جوابه، وفي الإقسام به من رفع شأنه - عليه السلام - وتفخيم دعائه والتجائه إليه - تعالى - ما لا يخفى. وخلاصة المعنى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التجأ إلى ربه يشكو قومه الذين كذبوه، وعبدوا غير الله. بما يشير إلى التحسر والتحزن والتشكّى من عدم إيمانهم , وأشار - عليه السلام - إليهم بهؤلاء، دون قومى، تحقيرًا لهم، وبراءة منهم لسوء حالهم. والمراد من الإخبار بعلمه أنهم لا يؤمنون وعيده إياهم حيث تمسكوا بشركهم، وأبوا أن ينقادوا لدعوة الإيمان.

89 - {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)}: أي: فأعرض - أيها النبي - عن هؤلاء الكفار من مشركى مكة، ولا تطمع في إيمانهم لشدة كفرهم وعنادهم، وقل لهم: أمرى تسلُّم منكم ومتاركة لكم، فليس ذلك أمرا بتحيتهم والسلام عليهم، وإنما هو أمر بالتباعد عنهم، والتبرؤ منهم ... {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي: فسوف يعلمون عاقبة إجرامهم وتكذيبهم بما يلاقونه من جزاءٍ عادل ينزل بهم حين يسأل المرء عما قدمت يداه، وهو وعيد وتهديد للمشركين، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -.

سورة الدخان

" سورة الدخان" هذه السورة مكية وآياتها تسمع وخمسون، وسميت بسورة الدخان لقوله - تعالى - فيها: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وهي تناسب ما قبلها في أنه - عَزَّ وَجَلَّ - ختم ما قبل بالوعيد والتهديد حيث قال تعالي: (وقل سلام فسوف يعلمون) وافتتح هذه بالحديث عن القرآن الكريم ثم عقب بالإنذار الشديد لهؤلاء المشركين بقوله تعالى: (إنا كنا منذرين) وقوله - سبحانه -: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} كما ذكر - تعالى - هناك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) وهنا نظيره فيما حكى عن موسى - عليه السلام - (فدعا ربه أن هؤلاء قوم لا يؤمنون) إلى غير ذلك من المناسبات بين السورتين. أهم أهداف السورة: تحدثت عن نزول القرآن الكريم في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، وبينت شرف تلك الليلة العظيمة التي تُفصل فيها أمور الخلق وتقدر، وقد اختارها الله لإنزال آيات التنزيل هُدًى لعباده ورحمة بهم وذكرت آيات التوحيد، والآيات التي تكشف عن أحوال الكفار، وعرضت حديث موسى وبنى إسرائيل وفرعون. وكشفت عما حل بقوم فرعون وبينت عاقبة أمرهم وردت على منكرى البعث من مشركى قريش. وأشارت إلى أن هؤلاء الكذبين ليسوا بأكرم على الله من الأمم الطاغية التي تعرضت لانتقام الله وإهلاكه جريا على سنته - سبحانه - مع الطغاة المجرمين، ثم أكدت أن يوم القيامة هو موعد الفرق بين جميع الخلائق، وختمت السورة بتسجيل ذل الكفار بالعقوبة وبيان ما يحيق بهم. وعزّ المؤمنين في الجنة بتفصيل ما ينالونه من نعمة وكرم، ومنزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرفه بتيسير القرآن على لسانه في قوله - تعالى -: (فإنما يسرناه بلسانك) كما بدأت بالحديث عنه.

بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)} المفردات: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي: والقرآن الواضح للمتدبرين، من أبان: بمعنى اتضح. {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}: كثيرة البركة، هي ليلة القدر على الأصح. {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} أي: يفصل ويبين كل أمر ذي حكمة وهو ما قضاه الله من أحوال العباد وحاجاتهم في هذه الليلة المباركة , ومن أعظمها نزول القرآن. (إن كنتم موقنين) أي: تريدون اليقين وتطلبونه. كما يقال: فلانٌ يُتْهِمُ أي: يريد تِهَامة. (بل هم في شك يلعبون) أي: في تردد ولعب فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار بأن الله خالقهم.

التفسير 1 - (حم) سبق الحديث مفصلًا عن حروف المعجم التي افتتحت بها أوائل بعض السور ولا سيما أول سورة البقرة. 2، 6 - {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}: أقسم الله سبحانه بالقرآن المظيم تشريفا له وتنويها بعلو قدره حيث قال: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} وأشار جواب هذا القسم إلى أن إنزاله في ليلة ذات فضل وبركة لما ينزل الله على عباده فيها من البركات والخيرات بنزوله المستتبع للفوائد الدينية والدنيوية بأجمعها حيث قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر على الأصح بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬1) وقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬2) ويراد من إنزاله فيها أنه ابتدئ إنزاله كما قيل، أو أُنزل جملة فيها إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ، ثم نزل به جبريل - عليه السلام - على الرسول منجما في ثلاث وعشرين سنة علي حسب الأسباب، وقيل: كان ينزل منه في كل ليلة من ليالى القدر إلى سماء الدنيا ما ينزل في سائر السنة. وفي تعيين هذه الليلة من شهر رمضان أقوال كثيرة، أشهرها: أنه أنزل في إحدى ليالى الوتر من العشر الأخير منه، ومنهم من قال: إنها ليلة السابع والعشرين منه، وهو المشهور بين الناس. ومن العلماء من قال: إن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان، وقال القرطبي نقلا عن الزمخشرى: وليس في ليلة النصف من شعبان حديث في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها، وفي البحر قال الحافظ أبو بكر ابن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها، وعلق الآلوسي على ذلك بأنه لا يخلو من مجازفة , والله أعلم. (إنا كنا منذرين): استئناف مبين لما يقتضي الإنزال كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا ألا نترك الناس دون إنذار وتحذير من العذاب رحمة بهم لنلزمهم الحجة ¬

_ (¬1) سورة القدر، الآية الأولى. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 185.

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: استئناف كالذى قبله، فإن كونها مفرق الأُمور المحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها، ومعنى يفرق أنه يكتب ويفصل فيها كل أمر حكيم بمعنى محكم أو منزل على ما تقتضيه الحكمة من بيان أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم، فهي مبتدئة من هذه الليلة إلى الليلة الأخرى من السنة القابلة. وهذا الأمر لا يغيّر ولا يبدل بعد إبرازه للملائكة، بخلافه قبله وهو في اللوح المحفوظ، فإن الله يمحو منه ما يشاءُ ويثبت، قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضى الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروى هذا التعميم عن غير واحد من السلف، قال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} منصوب علي الاختصاص، أي: أعنى بهذا الأمر أمرا عظيما حاصلا من عندنا. والمراد بالعندية أنه أمر على وفق الحكمة والتدبير، فهو بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بقوله - سبحانه -: {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. وحاصل المعنى: أن جميع ما نقدره في تلك الليلة، وما نوحى به إلى الملائكة من شئون العباد أمر من جهتنا علي مقتضى حكمتنا وتدبيرنا. فزاد بذلك فخامة وجلالا. {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بدل انتقال من (إنا كنا منذرين) لتفصيله أي: إنا أنزلنا القرآن؛ لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل إفاضة رحمتنا عليهم، أو لاقتضاء رحمتنا بهم التي سبقت إرسالهم بالشرائع، ووضع الرب موضع الضمير فقيل: رحمة من ربك. ولم يقل مِنَّا للإيذان بأن الربوبية تقتضى الرحمة على المربوبين وإضافته إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - لتشريفه. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: إنه هو السميع لكل مسموع من أقوال العباد، العليم بكل معلوم من أحوالهم وذلك تحقيق لربوبيته وأنها لا تكون إلا لمن هذه أوصافه.

وحاصل المعنى للآيات السابقة: أنه تعالى أنزل القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر المباركة التي يبين فيها للملائكة كل أمر حكيم من الأمور المتعلقة بعباده، التي تصدر من جهته - تعالى - وفق الحكمة والتدبير، ومن أجلِّها وأعظمها القرآن، وقد أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رحمة بالعباد جريا على سنته في خلقه حيث أرسل الرسل بالكتب لإفاضة رحمته سبحانه بهم، وهو يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم. 7 - {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)}: أي: إن كنتم موقنين في اعترافكم بأنه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما وخالقهن، إذا سئلتم من خلقهن يلزمكم الاعتراف بأن من حقه إرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لإرشاد الخلق بأنه لا معبود سواه، ولذا عقبه بقوله: 8 - {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}: الآية مستأنفة مقررة لما قبلها، أي: لا رب غيره، ولا معبود سواه يحيى الأموات ويميت الأحياء وهو خالقكم وخالق من تقدم من آبائكم. وإليه المرجع والمآب، فإذا كان هذا شأنه فما لكم أيها المشركون لا تتقون تكذيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حتى لا ينزل بكم العذاب الأليم حيث تفقدون الولى والنصير. 90 - {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}: إضراب إبطالي أبطل به إيقانهم المزعوم في قوله تعالى: (إن كنتم موقنين) لعدم جريانهم على مقتضاه، أي: ما قالوا ذلك عن جد وإذعان، وإنما قالوه تقليدا لآبائهم، وهم في شك مما ذكر من شئونه تعالي، لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وقيل: يلعبون. يضيفون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الافتراء استهزاءً. شأنهم شأن الصبى الذي يلعب فيفعل ما لا يدرى عاقبته. والالتفات عن خطابهم إلى الغيبة إعراض عنهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم.

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} المفردات: {فَارْتَقِبْ} أَي: فانتظر أَيها النبي. {بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أَي: واضح بيّن، ويراد به الغبار المتصاعد بسبب الجَدْب. {يَغْشَى النَّاسَ} أي: يشملهم ويحيط بهم. {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أَي: من أَين لهم الاتعاظ بشىءٍ مما شاهدوه، والذكرى والذكر بمعنى واحد. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ}: أَعرضوا مكذبين. {يَوْمَ نَبْطِشُ} أي: نعاقب بشدة، من بَطَش يبطِشُ - بكسر الطاءِ وضمها - إذا أَخذه بعنف وقوة. التفسير 10، 91 - {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهديد ووعيد للمشركين. والفاءُ في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ} لترتيب الارتقاب أَو الأَمر به على ما قبلها. فإن كونهم في شك ولعب مما جاءَهم به رسولهم

يقتضي ترقب عذابهم، والمعنى: فانتظر أَيها النبي عذابهم يوم تأتي السماءُ بجدب ومجاعة، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماءِ كهيئة الدخان، وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه، فيتوهم ذلك، فهو كناية عنه، وفسر أَبو عبيدة الدخان به، وبعض العرب تسمى الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك أَن الدخان مما يتأَذى منه فأُطلق على كل مؤذ. وسبب نزول الآية: أَن قريشا لما استعصت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبى أكثرهم الإسلام. دعا عليهم فقال: "اللهم أَعِنى عليهم بسبع كسبع يوسف". فأَصابهم قحط شديد وبلاءٌ حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام. وكنى عنه بالدخان لِمَا تقدم بيانه، وكلما اشتد الجدب اشتد الدخان تكاثفًا. فكان الرجل يحدث الرجل فيسمعه ولا يراه وذلك قوله - سبحانه -: {يَغْشَى النَّاسَ} أي: يضمهم ويحيط بهم. وقيل: هو يوم فتح مكة كما في البحر عن عبد الرحمن الأعرج أَنه قال: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ} هو يوم فتح مكة، ويُروى عن أبي هريرة أَنه قال: كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وقال الآلوسي: يحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حلَّ بأَهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما، وقيل: إنه دخان يأْتي من السماء قبل يوم القيامة، وهو شَرَط من أشراطها. قاله عليّ - كرم الله وجهه - وابن عمر وابن عباس وغيرهم {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: يقول الله لهم ذلك تهويلا وتقريعا. وقيل: إن الناس هم القائلون لذلك حينما يرون الدخان، أَي: أَنه عذاب شديد الأَلم بالغ الأَثر. والإِشارة بهذا للدلالة على قرب الوقوع وتحققه. 12 - {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}: الآية - كما صرح به غير واحد من المفسرين - وعد منهم بالإيمان إن كشف عنهم - جل وعلا - العذاب، وكأَنهم قالوا: ربنا إِن كشفت عنا العذاب آمنا. ولكنهم عدلوا عنه إلى ما في النظم الكريم حيث قالوا: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} إظهارا لمزيد الرغبة في الإِيمان. كما في بعض الروايات أَنه لما اشتد القحط بقريش مشى أَبو سفيان ومعه نفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يناشدونه الله تعالى والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وزال عنهم ما بهم أَن يؤْمنوا، وذلك قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} وهذا قول ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - وبه أخذ مجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج. 13، 14 - {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}: رد لكلامهم بنفى صدقهم في الوعد بالإيمان. حيث إن غرضهم هو كشف العذاب عنهم والخلاص منه فحسب، أَي: من أَين لهم التذكر والاتعاظ والوفاءُ بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} أي: والحال أَنهم شاهدوا من دواعى التذكر، وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم وأَدخل في الادكار من كشف العذاب، حيث جاءَهم رسول بَيِّن الرسالة مؤَيد بالآيات الواضحة. والمعجزات القاهرة التي تخر لها صم الجبال، لبيان مناهج الحق وشواهد التوحيد، ومع هذا لم يؤْمنوا به بل كذبوه {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي: ثم انصرفوا عن ذلك الرسول المؤَيد من الله وظلوا كافرين بعد ما شاهدوا منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه، والتعبير بثم للاستبعاد أو التراخى الرُّتْبى، ولم يكفهم التولى عنه، والإعراض عن اتباعه، بل بهتوه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} يعلمه غلام أعجمى لبعض ثقيف، كما قالوا عنه: مجنون لا يعى ما يقول، فهل يتوقع من قوم هذه طبيعتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟!. 15، 16 - {إِنَّا كَاشِفُوالْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}: والمعنى: أَننا نكشف عنكم العذاب كشفا قليلًا، أَو زمانا قليلًا، لأَنكم عائدون إلى ما كنتم عليه من العتو والثبات على الكفر، وقد تحقق كلاهما حيث كشف الله عنهم العذاب بدعاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، ومن قال إن الدخان يكون قبل يوم القيامة وهو شَرَط من أَشراطها قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف.

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} أي: واذكر يوم نبطش بالكفار البطشة الكبرى حيث يؤْخذون بقوة وشدة. أخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة قال: قال ابن عباس: البطشة الكبرى: يوم بدر لما وقع فيه من قَتْلٍ وأَسْر وتَشْريد لمشركى قريش، واختار ابن كثير أَنها يوم القيامه وكونها يراد منها يوم القيامة هو الأَنسب. قال الرازى: القول الثاني أَصح؛ لأَن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف به هذا اليوم العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل فيه. ولمّا وصفت البطشة بأَنها الكبرى وجب أَن تكون أَعظم أَنواع البطش على الإِطلاق، ولا شك أَنها لا تكون إلا يوم القيامة {إنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي: يومئذ ننتقم من هؤلاء المشركين انتقامًا قويا شديدا يظهر أَثره فيهم. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} المفردات: {فَتَنَّا}: اختبرنا وامتحنا. {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ}: أن أسلموا لي بني إسرائيل. أَو أَجيبوا دعوتى وصدقوا رسالتى. {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ}: ألاَّ تتجبروا وتتكبروا على الله بالاستهانة بوحيه ورسوله. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: حجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. {عُذْتُ بِرَبِّي}: التجأْت إليه، وتوكلت عليه.

{أَنْ تَرْجُمُونِ}: أَن تقتلوني رجمًا بالحجارة؛ أَو بغير ذلك. {فَاعْتَزِلُونِ}: فخلونى واتركونى كفافا لا لِيَ ولا عليّ. التفسير 17 - {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ}: حكت الآيات السابقة على هذه الآيات أحوال مشركى مكة، وما كان منهم من معارضة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتورطهم في العناد وإلحاق العذاب بالمؤمنين، وتماديهم في ذلك حتى استحقوا ما وقع عليهم من عذاب أَليم، بدخان مبين غشيهم من كل صوب وناحية، واضطرهم أَن يلجئوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليدعو لهم برفع العذاب عنهم فقد آمنوا وتابوا؛ وقد كشف الله عنهم العذاب قليلا، وهو عليم بحقيقتهم. وسوء طويَّتهم إمهالًا لهم إلى الانتقام الأَعظم والبطشة الكبرى يوم القيامة إِن أَصروا على كفرهم {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} وجاءت هذه الآيات تقرِّر أن فتنة مشركى مكة لم تكن بدعا من النفوس البشرية ولا حَدَثا فريدًا في الطبيعة الإنسانية، وإنما جرت فيهم على سنن ما جرت عليه في قوم فرعون وغيرهم من الأُمم السابقة. والمعنى: ولقد امتحنا واختبرنا قبل مشركى مكة قومَ فرعونَ بإرسال موسى عليه السلام إليهم فلم يكن منهم إلاَّ التمرد والعصيان، وأَصل الفتنة: وضع المعدن في النار وَصَهْرُه لِتُعرف جودته وينفى خبثه، أَي: عاملناهم معاملة المختبر الممتحن ليظهر حالهم، وتتضح حقيقتهم، فأمهلناهم، ووسعنا عليهم في الرزق ووفرة النعمة، فيكون معنى الفتنة ما يفتن به الشخص ويغترَّ به فيصرفه عما فيه صلاحه، كما في قوله - تعالى -: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬1) ومعنى {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي: وشاهدوا من دواعى التذكر، وموجبات الاتعاظ ما يوجب السمع والطاعة حيث جاءَهم موسى - عليه السلام - وهو كريم على الله، كريم في نفسه، متصف بالخصال الحميدة، والصفات الجليلة حسبًا ونسبًا، ¬

_ (¬1) سورة التغابن، من الآية: 15.

لأَن الله تعالى لم يبعث نبيًّا إلاَّ في أَحساب قومه، وأَشرف أَنسابهم، جامعًا لأَنواع المحامد، وكريم المنافع. 18، 19 - {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: هذا مقول على لسان موسى - عليه السلام - لفرعون وقومه. والمعنى {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} وطلب منهم فقال: {أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أَي: أَطلقوا معى بنى إسرائيل، وخلصوهم من الاستعباد والذُّل، والعذاب والتسخير، فهو كقوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬1) والتعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى أَن استعبادهم ظلم وطغيان، ويجوز أَن يكون المعنى: أَدوا إلي ما آمركم به، وأَدعوكم إليه من الإيمان. وقبول الدعوة، فيكون المقصود بعباد الله قوم فرعون. وقوله - تعالى -: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} تعليل لوجوب المأْمور به، أَي: أَدوا إِلي مما أَدعوكم إليه، فإِني رسول من الله، أمين على ما أُؤَديه، وأدعوكم إليه، قد ائتمننى ربي - جل شأْنه - على وحيه وصدقنى بالآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة. {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: أَدُّوا إلى عباد الله ولا تتجبروا ولا تتكبروا على الله بالاستعلاء على أَمره، والاستهانة بوحيه ورسوله، لأَنى آتيكم من جهته - تعالى - بسلطان مبين، وحجة واضحة في ذاتها. موضحة صدق دعواى لا سبيل إلى إنكارها، ولا إلى الإنكار عليّ في تبليغها. وقال قتادة: "لاَ تبغوا عَلَى الله" وقال ابن عباس: "لا تفتروا على اللهِ" والفرق بين البغى والافتراء أَن البغْىَ بالفعل والافتراءَ بالقول. وفي ذكر الأَمين بعد الأَمر بالأَداءِ، والسلطان بعد النهي عن العلو والاستكبار - فيه - من روعة الأُسلوب وجزالة التنسيق ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 105.

20، 21 - {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}: قيل إنه لمَّا قال: {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} توعدوه بالقتل فقال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي .. } الآية. أي: التجأْت إليه وتوكلت عليه ليحفظنى من شركم، ويعصمنى من كيدكم، فلا ينالنى منكم أذى من شتم أَو ضرب أَو رجم بالحجارة، وإِن دمتم على كفركم، وعنادكم؛ ولم تؤمنوا لي وتصدقوا دعوتى فاعتزلونى واجتنبونى وامنعوا عني شركم وكفوا أَذاكم فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم. {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} المفردات: {فَأَسْرِ}: أمر من أَسْرَى، أَي: فَسِرْ بهم ليلًا، وسرى من غير همز بمعنى سار ليلًا. {رَهْوًا}: مفتوحا، ويصح أن يكون {رَهْوًا} بمعنى (ساكنًا) أَي: اترك البحر ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته، من رها البحر: إذا سكن، وبابه عدا. {جَنَّاتٍ}: بساتين.

{وَعُيُونٍ}: جمع عين، والمراد عين الماء. {وَنَعْمَةٍ} النعمة - بالفتح -: التنعيم، يقال: نَعَمَ الله فلانا فتنعم، والنِّعمة - بالكسر -: ما أنعم الله به عليك، واليد والصنيعة والمنة، وكذلك النُّعمى. {فَاكِهِينَ}: متنعمين، (وقرئَ فَكِهِينَ) بمعنى أشِرِين بطرين لا تؤَدون حق النعمة. التفسير 22 - {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ}: لما أَدرك موسى - عليه السلام - تناهى قومه في الكفر وإصرارهم على التكذيب واستيأَس من هدايتهم، وانقطع رجاؤُه في إيمانهم، مع تماديهم في الإيذاء، دعا ربَّه أن يعذبهم وينتقم منهم وينزل بهم ما يستحقون، وقوله تعالى: {أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} تعريض بالدعاء عليهم بذكر سبب ما يستحقون العقاب، ولذلك سُمِّى دعاء، أَي: دعا رَبَّه بأَن هؤُلاء قوم مجرمون يستحقون تعجيل العذاب، قيل: كان دعاؤُه: "اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم" وقيل: هو قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1) {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (¬2). 23، 24 - {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}: قوله - تعالى - فأَسر بعبادى على تقدير جملة قولية بعد الفاء، أَي: فقال له ربه عند دعائه: أَسر بعبادى ليلًا، وهم بنو إسرائيل، أَو على تقدير القول قبلها، أي: إذْ كان الأَمر كما تقول فأَسر ببنى إسرائيل ليلا، فقد دبَّر الله أَن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجى الله ¬

_ (¬1) سورة يونس من الآية: 85. (¬2) سورة يونس آية: 88.

المتقدمين، ويغرق التابعين، فمعنى (متبعون): يتبعكم فرعون وجنود، ليلحقوا بكم فيغرقوا، فإن الله - تعالى - قدر عليهم الغرق، قال القرطبي: وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف، والخوف يكون بوجهين: إما من العدو فيتخذ الليل سترًا مسدلا فهو من أستار الله تعالى، وإما من خوف المشقة على الدواب والأَبدان بحرٍّ أو جدب فيتخذ السرى لذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسرى ويُدلج، ويترفق ويستعجل بحسب الحاجة وما تقتضيه المصلحة، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سافرتم في الخِصْب فأَعطوا الإبل حظَّها من الأَرض، وإذا سافرتم في السَّنةِ (¬1) فبادروا بها نِقْتها (¬2)، ولهذه المعانى ذكر الليل، مع أَن السرى لا يكون إلاَّ ليلًا، وليدل ذكره على أَن ذلك كله وقع في جزء من الليل. {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} هذا تعليم لموسى - عليه السلام - بما يفعله في سيره قبل أن يسير، وقبل أَن يلج البحر، وعبارة الخطيب: "واترك البحر" أَي: إذا سرت بهم، وتبعك العدوّ ووصلت البحر، وأَمرناك بضربه بالعصا ودخلتم فيه ونجوتم منه فاتركه بحاله، ولا تضربه بعصاك ليلتئم، بل أَبقه على حاله ليدخله فرعون وقومه فينطبق عليهم، وقيل: كان ذلك الأَمر بعد أن خرج من البحر وأَراد أَن يضربه ليلتئم. والمعنى: واترك البحر بعد ولوجك فيه وخروجك منه - اتركه - مفتوحًا أَو ساكنًا ثابتا على هيئته عند دخولك فيه، ليلجه فرعون وقومه خلفكم فيغرقوا {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} أَي: أَنهم جماعة قدر الله عليهم الغرق في البحر، عقوبة لهم على عنادهم وإصرارهم على الكفر، وتماديهم في التجبر والضلال. 27،26،25 - {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}: هذه الآيات انتقال بالحديث عما وقع لفرعون وقومه من عذاب وجزاء بالإغراق - انتقال من ذلك - إلى خسارتهم ما كانوا فيه من نعمة وشرف، تعظيمًا لعقابهم. ¬

_ (¬1) السنة: الجدب. (¬2) نقتها - بكسر النون وسكون القاف منها - ومعناه: أسرعوا في السير بالإبل لتصلوا إلى المقصد وفيها بقية من قوتها.

والمعنى: كثيرًا جدًّا كانت لهم أَموال وخيرات متعددة الأَصناف والأَنواع تركوها في مصر من بساتين كثيرة وجميلة، وعيون ثَرَّة يجرى ماؤُها في قنواتٍ بين الزروع والأَشجار فتزيدها بهجة وروعة، وكم تركوا فيها من زروع مختلفة الأَلوان والمطاعم متفاوتة الأشكال والمظاهر، ومجالس شريفة، ومحافل غاصّة، ونواد خاصّة، وغير ذلك من صنوف النعم وأَلوان الخيرات التي كانوا يتنعمون بها فاكهين متمتعين مسرورين لا يزعجهم إقلال ولا يخافون حرمانا، وقريءَ (فَكِهِينَ) بمعنى أَشِرِين بطرين لم يشكروا هذه النعم ولم يَحمْدُوا عليها. 28، 29 - {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}: أَي: مثل ذلك التنعيم نعمناهم وأَترفناهم فلم يقيموا لها وزنًا فحرمناهم من هذه النعم كلها وأورثناها قومًا آخرين وهم بنو إِسرائيل كما في قوله تعالى في سورة الشعراء: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬1) أَي: أَنهيناها إليهم سهلة سائغة في غير جهد ولا مشقة، وصارت لهم بعد أَن كانوا مستعبدين فيها، وصدق الله العظيم: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬2). والمقصود من هذه الآية أَنهم ورثوا من ملك فرعون في أَرض الشام، التي هاجروا إليها وكانت متابعة لمصر في عهد فرعون، ولم يثبت تاريخًا أَنهم عادوا إلى مصر بعد أَن هاجروا إلى الشام، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} المعنى: أَنزلنا بفرعون وقومه ما أَنزلنا من إِهلاك وإِغراق واستئصال أموال وأحوال، وأَورثنا ما كان لهم من جنات وعيون وزرع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين أورثناها قوما ليسوا منهم في دين ولا قرابة ولا ولاء، فما بكت عليهم أَرض ولا سماء، لظلمهم وعدوانهم، والمقصود من عدم بكائهما عليهم هوانهم على الله وسائر العالمين، فالآية تمثيل للمبالغة في تهوين شأنهم وتحقير أَمرهم ¬

_ (¬1) الآية: 59. (¬2) سورة الأعراف آية: 137.

وقوله - تعالى -: {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} معناه: وما كان فرعون وقومه ممهلين ولا مؤَجَّلِين من وقوع العذاب بهم حين جاءَ حينه وحضر وقته - ما كانوا مؤجلين - إلى وقت آخر أَو إلى يوم القيامة بل عُجِّل لهم عذاب الاستئصال في الدنيا لشدة جرمهم. {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} المفردات: {الْعَذَابِ الْمُهِينِ}: العذاب البالغ الحد في الإهانة. {عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}: متكبرا من المسرفين في الظلم. {عَلَى عِلْمٍ}: على معرفة بحالهم. {الْآيَاتِ}: المعجزات. {بَلَاءٌ مُبِينٌ}: امتحان كاشف واختبار واضح. التفسير 30، 31 - {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ}: هذه الآيات تمثل مرحلة أُخرى من قصة قوم فرعون تقرر معانى الآيات السابقة. وتصرح بمفهومها؛ فإن هلاك فرعون وقومه، ومآل ملكهم إلى بنى إسرائيل نجاة أَية نجاة لهم.

والمعنى: ولقد كان في إهلاكنا فرعون وقومه أَن نَجَّينا بنى إسرائيل، وخلصناهم من الاستعباد والتسخير والعذاب الممعن في المهانة بقتل الأَبناء واستخدام البنات وغير ذلك مما كان يقع عليهم من فرعون ذلك الطاغية المتجبِّر المتناهى في الشدة، المسرف في صنوف الإجرام. وفي التصريح باسم فرعون ما يشعر بأَن مجرد ذكره كاف في تصور ما يصدر منه من العنت والفساد، والتجبر والطغيان. 32، 33 - {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ}: تضيف هذه الآيات إلى بني إسرائيل فضلا آخر زائدا على فضل إنجائهم من عذاب فرعون. والمعنى: لم يقف أمرنا مع بني إسرائيل على تخليصهم من فرعون، بل اصطفيناهم واخترناهم عالمين استحقاقهم لذلك بما يصدر عنهم من العدل والإحسان، والفهم والإيمان بعد أَن استقام أَمرهم في أَواخر عهد موسى وفي عهد يوشع بعده، حيث فتح بهم أَريحا، وأَطاح بالشرك في هذا الإقليم، وغير ذلك من حسن السيرة، ولكنهم لم يحافظوا على هذه الاستقامة التي تأَدبوا بها بعد عقابهم في التيه أَربعين عاما، فبغوا في الأرض فسلط عليهم غيرهم، ومعنى {عَلَى الْعَالَمِينَ} أَي: عالمى زمانهم، فلا يلزم اصطفاؤهم على أُمة سيدنا محمَّد - عليه الصلاة والسلام - لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1) وقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬2). وقيل: اصطفيناهم على العالمين بكثرة أَنبيائهم. {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} أي: وأَنزلنا عليهم من المعجزات والبراهين كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من الآيات ما فيه بلاء مبين ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية: 110. (¬2) سورة البقرة من الآية: 143.

أَي: اختبار ظاهر وامتحان واضح من النعمة أَو الشدة؛ لأَن البلاءَ يكون بالشدة والرخاء، والحرمان والعطاء {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬1) وما كان من هذه الآيات لموسى عليه السلام فهو لهم، أيضًا، ومن أَجل هدايتهم وإِيمانهم، فهو من جملة ما أُوتوه في الجملة. وهكذا عرضت الآيات الشريفة في ثنايا الكلام عن مشركى مكة فتنة قوم فرعون - ونظمتها - في مراحل ثلاث: (الأُولى): إرسال موسى - عليه السلام - إِليهم ودعوته إِياهم من قوله تعالى: {وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}. (الثانية): دعاؤه عليهم بعد أَن استيأَس من طاعتهم، وضاق بعنادهم وكفرهم واستئصالهم بالغرق وانتقال أَموالهم إلى بنى إسرائيل، من قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}. (الثالثة): ما كان نتيجة طبيعية لهلاك فرعون وقومه من نجاة بني إسرائيل واصطفائهم على عالمى زمانهم أَو بكثرة أَنبيائهم، وإيثارهم بملك فرعون في الأرض المباركة بالشام على علم وبصيرة بأَحوالهم. من قوله - تعالى -: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}. {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء من الآية 35.

المفردات: {هَؤُلَاءِ}: مشركى مكة. {مَوْتَتُنَا الْأُولَى}: الموتة التي نموتها في الدنيا ثم لا نحيا ولا نبعث بعدها. {بِمُنْشَرِينَ}: بِمُعادين ولا مبعوثين مرة أُخرى. {تُبَّعٍ}: لقب لملك سبأ كلقب كسرى لملوك الفرس، ولقب قيصر لملوك الروم والمراد تبع الحميرى الأكبر. التفسير 34، 35 - {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ}: عادت الآيات إلى ما بدأت به في أَول السورة من الحديث عن مشركى مكة وعنادهم بعد أَن ذكرت طرفا من أَحوال قوم فرعون، ومعارضتهم لموسى عليه السلام ومناهضتهم لدعوته، وما حاق بهم من عذاب، تحذيرًا لقريش أَن يصيبهم بسوء صنيعهم ما أَصاب قوم فرعون، وتأسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي موصولة بقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} قبلها، وبقوله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} بعدها. والمعنى: إن هؤلاء الشركين من قريش ومن غيرهم ليصرون على الكفر والعناد وينكرون في إصرار أَمْرَ البعث والجزاء ويقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} أَي: ما العاقبة وما نهاية أَمرنا إلا الموتة الأُولى أَي الوحيدة بعد حياتنا والتي نفارق بها الدنيا ثم لا نعود بعدها، ولا يكون لنا نَشْرٌ ولا عود كما يخبر المؤْمنون وصاحبهم، فالمقصود بقولهم الموتة الأُولى: الموتة الوحيدة التي لا تتكرر، ولا يقصدون إثبات موته ثانية. 36، 37 - {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}: قوله تعالى: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} استمرار في الحديث عن إنكارهم البعث، قيل: إن مشركى مكة طلبوا من الرسول - عليه الصلاة والسلام - تصديقا لأَخبار البعث أَن يدعو

الله ليُحيى لهم قصى بن كلاب - وكان في أَيامه كبيرهم ومستشارهم في النوازل - ليشاوروه في صحة النبوة والبعث، فيدل ذلك على صدقكم إِذا أَحييتموه، أَو إِذا سأَلناه فصدقكم، والخطاب في قوله: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} لمن وعدوهم بالبعث والنشور من الرسول والمؤمنين، أي: فأَحيوا لنا مَنْ مات مِن آبائنا إن كنتم صادقين في دعوى قيام الساعة وبعث الموتى. ولما كان قولهم هذا ينطوى على جهل، وتجبر واستعلاء بعيدًا عن الحجة جاءَ قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} يهددهم بأَنهم ليسوا أَعظم قوة ولا أَعز منعة من هؤُلاء الأَقوام الذين أَهلكهم الله بسبب إجرامهم. والمعنى: أَهؤُلاء المشركون المنكرون للبعث خير في القوة والمنعة والجاه والسلطان، أَم قوم تبع الأَكبر الحميرى من أَهل سبأَ الذين كانت بساتينهم عن يمين وشمال والذين من قبلهم من عاد وثمود وأَضرابهم. وقوله تعالى: {أَهْلَكْنَاهُمْ} استئناف لبيان عاقبة أَمرهم، ونهاية بغيهم، كما أَن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} تعليل لإهلاكهم ليعلم أَن أَولئك حيث أُهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا فيه من غاية القوة والمنعة فأَنتم بالاستئصال أَهون منهم، لأنكم أَضعف منهم قوة، وأَوهن شأْنًا. {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

المفردات: {لَاعِبِينَ}: لاهين عابثين. {يَوْمَ الْفَصْلِ}: يوم القيامة الذي يفصل الله بين عباده فيه. {مِيقَاتُهُمْ}: موعدهم. {مَوْلًى}: صاحب يتولى معونة صاحبه، أَو ولى يتصرف في أُمور وليه، من الولاية. {الْعَزِيزُ}: الغالب الذي لا يعجزه شيء. {الرَّحِيمُ}: الواسع الرحمة. التفسير 38، 39 - {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: هذه الآيات دخول في بيان حكمة البعث، وإيضاح غايته تعميقا لإيمان المؤْمنين وتسفيها لإِنكار المنكرين. والمعنى: وما خلقنا السموات والأَرض وما بينهما من عوالم - ما خلقناهما - لاهين بخلقهما لغير غرض، عابثين به في غير غاية - ما خلقناهما وما بينهما - إلا بالحق. ملتزمين بصدق الغاية وتحقيق الحِكمة، وهو أَن ينال كل إنسان جزاء عمله، الخير بالخير والشرّ بالشرّ {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، ولكن أَكثر الناس من الجهل وسفاهة العقل لا يعلمون أن الأمر كذلك فينكرون، مع أَنهم يعلمون أَن الله خالق كل ذلك وأَنه حكيم، وليس من الحكمة أَن لا يبعث الخلائق حتى يأْخذ للمحق حقه، ويعاقب المسىء. ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم الأَسباب، والمعنى: ما خلقنا السموات والأَرض وما بينهما بسبب من الأَسباب إلا بسبب الحق، وهو عبادة الله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ثم بعثهُم وحسابُهم وجزاؤُهم.

40، 41، 42 - {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: هذه الآيات تهديد بملاقاة الجزاء بعد تقرير إمكان البعث، وأَنه سيكون، أي: إن يوم القيامة الذي يفصل الله فيه بين الحق والباطل، وبين الحق والبطل، هو موعد الخلق وميقاتهم أجمعين، المؤْمن والكافر، والبر والفاجر، ليواجه كلٌّ جزاءَ ما قدم فإما نارًا وزقومًا وإما جنات ونعيما. {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: يوم الفصل هذا يوم لا يغنى صاحب عن صاحبه، ولا يعين قريب قريبه، ولا يغنى والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا يدفع حليف عن حليفه، ولا تتعصب قرابات، ولا تتناصر صلات {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} (¬1) لا تجد نصيرًا ولا مجيرًا {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}: أي: لا يمنع من عذاب يوم الفصل شيء، ولا يمتنع عليه أحد إلا من يتجلَّى الله عليه بالرحمة والعفو وقبول الشفاعة فيه من المؤْمنين، إن الله هو العزيز الغالب الذي لا ينصر أَحدٌ من أَراد عذابه، الواسع الرحمة لمن أَراد أَن يرحمه. وفي هذا الاستثناء تنفيس لهول الكربة، وانفراج لِبَابِ الرحمة حتى لا ييئس عائذ، ولا ينقطع رجاء لائذ. ¬

_ (¬1) سورة عبس الآيات من 37 - 40.

{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)} المفردات: {شَجَرَتَ الزَّقُّومِ}: شجرة مرة. {الْأَثِيمِ}: كثير الإثم، والمراد: الكافر. {الْمُهْلِ}: ما يمهل ويصهر في النار حتى يذوب، وقيل: دُرْدِىُّ الزيت. {فَاعْتِلُوهُ}: فجروه بعنف ومهانة. {سَوَاءِ الْجَحِيمِ}: وسط النار. {تَمْتَرُونَ}: تشكُّون. التفسير 43، 44، 45، 46 - {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}: هذه الآيات تصوير لنوع من العذاب الذي يتجرعه الكافر في نار جهنم. والمعنى: إن شجرة الزقوم هذه الشجرة المرة التي تنبت في أَصل الجحيم، طلعها كأَنه رءُوس الشياطين، إن هذه الشجرة طعام الكافر كثير الإثم يطعمها فتنزل في جوفه

غاية في الحرارة كدُرْدِيِّ الزيت، أَو دردى القطران يغلى في جوفه كغلى الماء الذي بلغ أَعلى درجات الحرارة فيقطع أَمعاءَه. 47، 48 - {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}: يقال لزبانية جهنم: جرّوه في عنف وشدة واحتقار ومهانة فارموه وسط النار، ثم ضاعفوا عليه العذاب فصبوا فوق رأْسه من هذا العذاب ما يحرق جلده، فيجتمع عليه من العذاب عذاب الباطن والظاهر. 49 - {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}: وقولوا له - زيادة في الامتهان، وإمعانا في الإِذلال والتقريع والتوبيخ -: ذق وتجرع من صنوف العذاب وألوانه، فلطالما ادّعيت لنفسك في كفرك وغُلَوَائك أَنك أَنت العزيز الذي لا يُذل، الكريم الذي لا يُمتهن ولا يبتذل. روى أن أبا جهل عمرو بن هشام قال لرسول - صلى الله عليه وسلم -: ما بين جبليها أَعز ولا أكرم مني، فوالله ما تستطيع أنت ولا ربّك أَن تفعلا بى شيئًا. فقد علمت أَنى أمنع أَهل البطحاء وأَنا العزيز الكريم، فنزلت: 50 - {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}: أي: إن هذا العذاب الذي تقاسون، والجزاء الذي تلاقون، إن هذا ما كنتم تنكرون وتشكُّون فيه، وعدل الأُسلوب من الإِفراد إلى الجمع باعتبار المعنى؛ لأَن المراد جنس الأَثيم.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} المفردات: {أَمِينٍ}: يأمن صاحبه الآفات، أَو فناءَ نعيمه ونعمه. {سُنْدُسٍ}: هو الحرير الرقيق. {وَإِسْتَبْرَقٍ}: هو الديباج الغليظ شديد البريق. {حُورٍ}: جمع حَوْراء، من الحور: وهو شدة سواد العين في شدة بياضها. {عِينٍ}: جمع عيناء وهي واسعة العينين. {وَوَقَاهُمْ}: وحفظهم. {فَضْلًا}: تفضلا. التفسير 53،52،51 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ}: حكت الآيات السابقة عذاب الآثمين الكافرين، وعددت ألوانه وصوره، وجاءَت هذه الآيات تعرض نعيم المتقين وهناءَتهم، لتتأَلف سورة متكاملة تمثل هوان الآثمين في

عذابهم وذلِّهم ومهانتهم، وبهجة المتقين في نعيمهم وعزّهم ومكانتِهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة. والمعنى: إن المؤمنين المتقين الذين حققوا لأنفسهم الأمن، وزكوها بعمله الصالحات الباقيات فَوَقَوْها من العذاب - إن هؤُلاء المؤمنين - ينزلون يوم القيامة في مقام أمين يأمنون فيه من الآفات والمنغصات، ومن كل ما يكرهون، لا يخافون من حرمان أو إقلال أَو فوات. وقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} بيان للمقام الأمين، وما يحتويه من ألوان النَّعِيم من بساتين مثمرة مورقة، وعيون من الماءِ ثرة، بين الأشجار والزهور دافقة، وملابس متنوعة متفاوتة من رقيق الحرير، وغليظ الديباج الأَخاذ البرّاق مما كانوا يتحاشون استعماله في الدنيا طاعة، وتواضعا، وعزوفًا عن نعيمها، وهم بين هذا كله يتنعّمون بالجلوس على الأرائك متقابلين ينظر بعضهم وجوه البعض ولا يُعْرِض عنه، زيادة في التكريم والنَّعيم. 54، 55 - {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)}: لا تزال الآيات موصولة في وصف نعيم التقين، أَي: الأَمر كذلك، أَو مثل هذه الإِثابة أَثبناهم، وقَرَنَّاهم زيادة في النعيم بحور عين كثيرات، من حور الجنة الجميلات اللاتى ترغب النفس في النظر إلى وجوههن وعيونهن الجميلة. وقوله تعالى -: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} إشارة إلى أن نعيمهم لا يقف عند ما بين أيديهم وتحت نظرهم،، إنما هو شامل لكل ما يخطر ببالهم من كل ما يشتهون، أَي: يدعون ويطلبون كل ما يحبون وما يشتهون من كل فاكهة فتتوفّر لهم، لا يتخصص شيء منها بزمان أو مكان، آمنين لا يخافون من تعاطيها مضرَّة أَو وجعا أَو قلة أَو نفادا. 56، 57 - {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}:

أَي: ومن جملة ما يتنعمون به الخلود الدائم في الجنَّة لا يذوقون فيها الموت، ولا يلحقهم إلا الموتة الأُولى التي فارقوا بها الحياة لينعموا بعدها بنعيم الآخرة، والمقصود أَنهم لا يذوقون فيها الموت أَبدا، ولفظ (إلاَّ) بمعنى لكن، أَي: لكن يذوقون الموتة الأولى فحسب. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي: حقق الله لهم هذا النعيم كله وحفظهم من العذاب وجنبهم دار الجحيم، وفيه الإشارة إلى أَن وقايتهم من عذاب جهنم وحدها أعظم نعمة، وأجلّ تكريم، فكيف إذا انضم إليها كل هذا النعيم. وإنما خصمهم بذلك، وإن كان أهل الآخرة كلهم لا يموتون، لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنة، فأَمّا من يكون في النار، وفيما هو فيه من الشدة والهول فإنه لا تطلق عليه هذه الصفة؛ لأَنه يموت موتات كثيرة بما يقياسيه من أَهوال، وما يعانيه من عذاب ونكال، ثم يحيى بعد كل موتة ليعود إليه العذاب، وقوله تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} معناه: هذا الذي نالوه من ألوان النعيم في الجنة نالوه وأعطوه تفضلا من الله وتكرُّمًا، فإِن جمع أعمالهم الصالحة لا تكافيءُ أَبسط نعم الله عليهم في الدنيا. ذلك الذي نالوه هو الفوز المظيم الذي لا فوز وراءَه، لأنه خلاص من المكاره والمعاطب، وتحقيق للمطالب والرغائب. {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)} المفردات: {يَسَّرْنَاهُ}: سهلناه. {بِلِسَانِكَ}: بلغتك العربية. {فَارْتَقِبْ}: فانتظر.

التفسير 59،58 - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ}: تنتهى هذه السورة المباركة بمثل ما بدأت به من الحديث عن القرآن الكريم وإنزاله في ليلة مباركة، ليكتمل فيها شرف البدء والختام بالحديث عن أَعظم كتاب وأَصدق كلام. أي: فإنما أَنزلنا الكتاب المبين بلغتك وسهَّلناه بنزوله قرآنًا عربيا بلسانك ولسان قومك ليسهل فهمه وتدبّره لكي يتذكروا، وينتفعوا بهديه، فيعملوا بموجبه، وإن لم يستجيبوا ويتعظوا فانتظر عاقبة أمرهم، وما يحلّ بهم، فإنهم منتظرون عاقبة أمرك وما يحل بك، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والعاقبة عند ربك للمتقين. وفي الآية تكريم للرسول والعرب بنزول القرآن بلسانهم أي تكريم.

سورة الجاثية

" سورة الجاثية" سورة الجاثية من جملة سور "آل حم" لباب القرآن وعرائس آياته، وهي سورة مكية، وآياتها سبع وثلاثون آية. نزلت بعد سورة الدخان على ما هو معروف من نزول سور "آل حم" جملةً مرتبة متتابعة. وسميت سورة الجاثية لقوله - تعالى - فيها: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أَي: باركة على الرُّكب مستوفرة، وتسمّى أَيضا سورة الشريعة، وسورة الدهر لذكر هذه الألفاظ فيها، والأصل أن تسمى السورة باسم أَمر ذي بال مذكور فيها، وغلب عليها هذا الأمم لما جاء فيها من الأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب حيث تجثو الخلائق على الرّكب في انتظار الحساب، ويغشاهم من الفزع ما لا يخطر على بال. وبدأت بالحديث عن القرآن جريا على أسلوب السور التي تبدأُ بِسَرْدِ حروف المعجم، وليتصل أَولها بآخر السورة التي قبلها. أهدافها: تناولت هذه السورة العقيدة الإسلامية، وأفاضت في الحديث عنها، والتوسع في تحقيقها، فتكلمت عن الإِيمان، والوحدانية، والرسالة المحمدية، والقرآن والبعث والجزاء. وقد بدأَت كغيرها من سور "آل حم" بالكلام عن القرآن، وإِنزاله من العزيز الحكيم، ثم غرضت لذكر آيات الله في خلق السموات والأرض، وما بثَّ فيهما من إنسان وحيوان، وبدائع صنع، وروائع حكمة، وتجلَّى هذا في اختلاف الليل والنهار، وتسخير الرياح والأمطار، وإنبات الزرع والأَشجار، وجرى البحور والأَنهار، ثم عرضت لأَحوال الكافرين الذين يصمّون أسماعهم، ويعطلون عقولهم، فلا يتدبرون في هذه الكائنات ولا يتَّعظون بهذه الآيات، ثم تنتقل إلى الحديث عن نعم الله تعالى على العباد، وتسخير ما في السموات وما في الأرض جميعا لتيسير حياتهم، وتسهيل معاشهم، وتُعَقِّب ذلك بأَن لكل واحد جزاءه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.

ثم تتحدث عن بني إسرائيل وما أَفاء الله عليهم من النبوات والحكمة، وما يسّره لهم من الطيبات، وآتاهم من البينات والآيات فلم يكن منهم إلا الخلاف، والاندفاع في الطغيان والانحراف. ثم تتجه الآيات إلى نبوّة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنها جاءت على منهاج واضح، وشريعة مستقيمة يجب اتباعها، والسلوك على هديها، والبعد عن الأَهواء وسلوك سبيل الطغاة الجاحدين الذين لا يفلتون من عذاب الله، ولا يكونون أَبدا كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. ثم خوّفت الآيات في أسلوب شديد من اتباع الهوى والضلال على علم؛ فيختم على السمع والقلب، ويغشى النظر فلا يكون لصاحبه هداية، ويندفع ضلاله فينكر البعث والجزاء، وإذا تتلى عليه آيات الله ولَّى مستكبرا معرضا عن الاتعاظ والاعتبار خلودا إلى الدنيا، وغرورا بها، وكفرا بالله الذي خلقهم، وأحياهم ثم يميتهم ويجمعهم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، وتدعى كل أُمة إلى كتابها لتلقى جزاءَها، فأَما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته، وأَما الذين كفروا فيقال لهم: أَلم تكن آياتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم مجرمين. فاليوم جزاؤُكم جهنَّمُ لا تخرجون منها ولا تستعتبون. ثم تنتهى آيات السورة بإثبات الحمد والكبرياء لله ربِّ السموات والأرض العزيز الحكيم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} المفردات: {حم}: حرفان من المعجم. {الْكِتَابِ}: القرآن. {الْعَزِيزِ}: القوى الغالب. {الْحَكِيمِ}: العالم المتقن للأُمور الذي يضع الشيءَ في موضعه. التفسير 1، 2 - {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: ختمت سورة الدخان بقوله - تعالى -: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} ثم بدأت هذه السورة بالحديث عن القرآن أَيضا تنويها بفضله، وإبرازا لمنزلته ومكانته، وقوله تعالى: {حم} سرد لحرفين من المعجم لا تشكيل على أَواخرهما، والكلام عنهما مثل الكلام عن سوابقهما من السور المبدوءة بحروف المعجم معنى وموقعا وإعرابا وبخاصة سورة البقرة. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}: أضاف الله - سبحانه وتعالى - تنزيل القرآن إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأْنه، وتفخيم قدره، وما اقتضى هذا المعنى لا يكون تكريرا.

{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} المفردات: {يَبُثُّ}: ينشر ويفرّق. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: وتعاقبهما وتفاوت أَحوالهما. {رِزْقٍ}: مطر يتسبب عنه الرزق. {أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ}: أحياها بالزروع. {مَوْتِهَا}: جفافها ويبسها. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: اختلاف أحوالها. التفسير 3 - {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}: كلام مستأْنف مسوق للتنبيه على الآيات التكوينية، الآفاقية والنفسية، أي: إِن في خلق السموات وما حوت من كواكب وأَفلاك، وفي خلق الأَرض وما يجرى في جوّها من طيور وسحب، وما يختلف عليها من صحو وغيم، وما يسمع فيها من رعد، ويُرى من برق، وفي خلق الأرض وبسطها وما بث فيها من خلائق وأَجرى فيها من أنهار، وأنبت من زروع، وأَرسى من جبال، وأَبدع من عجائب - إن في هذا كله - لآيات وحججا تدل

على أَن لها خالقا قادرا. ومدبّرا حكيما، وعالما بصيرا - لآيات - ينتفع بها الذين يطلبون الإِيمان، وينشدون الهداية، ويحسنون التدبّر في الآيات، والإِذعان للمعجزات. 4 - {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: المعنى: وفي خلق الله إياكم، وما ينطوى عليه هذا الخلق من بدائع الصنعة، وعجائب الخلقة، واختلاف الأشكال والأَلوان، والأَلسن والأَجناس، وما يتعاقب عليكم من أحوال وأطوار، منذ أول نشأَتكم، وأَنتم أَجنَّة في بطون أُمهاتكم حتى انتهاء آجالكم، وفي خلق ما يبثّ من دابة، وما ينتشر على الأَرض من أَجناس الحيوانات، وأَصناف الحشرات مما يمشي على بطنه، وما يمشي على رجليه، وما يمشي على أربع أو أكثر، مع اختلاف منافعها، والمقاصد المطلوبة منها - إن في هذا كلِّه - دلائل وبراهين لقوم يطلبون الاطمئنان على وجود الصانع الحكيم، وينشدون اليقين والاستقرار ليصل بهم ذلك إلى الإيمان والتوحيد، والتزام الطاعة، والسلوك السديد. 5 - {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: أَي: وفي اختلاف أَحوال الليل والنهار من التعاقب والطول والقصر، والحرّ والقرّ والنور والظلمة، وما يتبع ذلك من تغاير الفصول، واختلاف المنافع، والمقاصد، وفيما ينزل من السماء من مطر تحيا به الأَرض بعد يبسها وجفافها، فينبت الزرع، ويَحْفُل الضرع، وتجرى الأَرزاق، وتعمر الآفاق، وفي تصريف الرياح فتهب مرة جنوبا وأُخرى شمالا، وحينًا صَبًا بالرحمة وماءِ السحاب، وحينًا دَبُورا تبعث العذاب، وفيما تؤَديه من تزاوج النبات، وتيسير سير السفن في الأَنهار والمحيطات - إن في هذا كله - شواهد صدق وآيات حق لقوم يعقلون الآيات والأدلة، ويحسنون الانتفاع بالعقل فيديرون فيها الفكر والرأْى، ليعلموا أن لهذه الأشياء صانعا حكيما، وخالقا قادرا عظيما. وفي تنكير الآيات في المواضع الثلاثة تنبيه إلى كثرتها، تفخيمها كمًّا وكيفا،

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)} المفردات: {وَيْلٌ}: هلاك، وهي كلمة تقال للعذاب، كما يقال: وَيْحٌ للرحمة. {أَفَّاكٍ}: كثير الكذب. {أَثِيمٍ}: مذنب كثير الإثم. {يُصِرُّ}: يستمسك ويدوم. {فَبَشِّرْهُ} البشارة في الأَصل: الخبر المغير للبشرة خيرا كان أَو شرًّا، وخصها العرف بالخبر السار، واستعمالها في الشر تهكم. {مُسْتَكْبِرًا}: متعاليًا عن الإيمان بما سمع. {هُزُوًا}: سخرية واستهزاء.

{مِنْ وَرَائِهِمْ} الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف وقدام. {الرِّجْزُ}: أشد العذاب - ويطلق أَيضًا على القَذر كالرجس. التفسير 60 - {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}: هذه الآيات وعيد لمن لم يصدق الآيات السابقة فلا يؤمن بالله وملائكته واليوم الآخر، وبكل ما تجىء به والنبوات من الشرائع. والمعنى: تلك الآيات من القرآن أَو السورة أَو ما ذكر من السموات والأَرض وما فيهما الناطقة بالبراهين على وجود الله ووحدانيته، وكمال قدرته نقرؤها عليك ونتلوها مقرونة بالصدق، لتبلِّغها وتقرأها عليهم، فلا ينبغي أَن يكون منهم إلاَّ تصديقها والإيمان بها، فإنه ليس وراءها غاية، ولا بعدها بيان، وإذا لم يؤمنوا بها فبأَى حديث بعد حديث الله وآياته المفصلات يؤْمنون ويصدقون، فإنه لا أَبين من هذا البيان، ولا آيات أَوضح من هذه الآيات في صدق الدلالة ونصوع البرهان. فالمقصود بالحديث القصص القرآنى الذي يستخرج منه عبر تميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، عن إلالهيات وأَحوال الآخرة. 7، 8 - {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: أَيْ: هلاك وعذاب لكل مبالغ الكذب دائم عليه، كثير الإثم ملازم للمعصية. وقوله - تعالى -: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} بيان لحال الأَفاك المستحق للويل، أو صفة له، أَي: يسمع هذا الأَفاك الأَثيم آيات الله من القرآن الكريم تتلى عليه وتقرأ ثم لا يلبث بعد سماعها أَن يغلبه جهله ويشده عناده وكفره فيعرض عنها ويصرّ على إنكارها، ويقيم على هذا الكفر ويلازمه مستكبرا عن الإيمان بما سمعه متعظَّما في نفسه عن الانقياد للحق مثل غير السامع أَصلًا.

{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَي: فأَخبره ساخرا مستهزئا بعذاب بالغ أَقصى غايات الإيلام والإيجاع على إصراره ذلك. 9، 10 - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: كان النضر بن الحارث يشترى أحاديث الأعاجم يلهى بها عن القرآن، ويعارضه، ولما سمع أبو جهل قوله - تعالى -: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)} سخر واستهزأ، وأحضر تمرا وزبدا فجمع بينهما، وأَكل منهما وهو يقول في سخرية: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا محمَّد به، نحن نتزقمه، أَي: نملأ به أفواهنا، والمعنى: وإذا علم هذا الأَفاك الأَثيم وبلغه شيء من آياتنا من حجج أَو وعيد بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما علمه. أولئك الكذابون الآثمون لهم عذاب بالغ المهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم، وقوله - تعالى -: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} الآية: أَي: من قدامهم جهنَّم؛ لأَنهم متوجهون إليها، وإلى ما أُعدَّ لهم فيها، أو من خلفهم بعد موتهم، فإِن الوراءَ اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أَو من قدّام، ولا يغنى عنهم ما كسبوا من الأولاد والأموال ولا يدفع شيئا من عذاب الله، كما لا يغنى عنهم ما اتخذوا من دون الله من الأصنام شيئًا، وإن زعموا غير ذلك. ولهم عذاب عظيم لا يقادر قدره، واختلاف الفواصل للترقى في وصف العذاب تبعًا لتعاظم الذنب، فالعذاب الأليم جزاءُ الإِصرار على الإِعراض عن الآيات، والعذاب المهين جزاء للاستهزاء بها أَشد وأَبلغ، والعذاب العظيم جزاء أَوفى لاتخاذ آلهة غير الله. 11 - {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}: بهذه الآية تختم آيات الوعيد. والمعنى: أن القرآن الكريم في غاية الكمال من الهداية كأَنه الهداية نفسها، والذين كفروا به وبآياته لهم عذاب بن أَشد العذاب وأَقساه وقعا وأَلما.

وتنكير عذاب في المواقع الثلاثة للتهويل، وزيادة التخويف، كما أن وضع آيات ربهم موضع الضمير لزيادة تشنيع كفرهم، وتفظيع حالهم مع التنويه بمنزلة القرآن الكريم. * {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} المفردات: {سَخَّرَ}: ذلَّل. {بِأَمْرِهِ}: بإذنه وتسخيره. {يَغْفِرُوا}: يعفوا ويصفحوا. {لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ}: لا يتوقَّعون وقائعه بأَعدائه ونقمته فيهم. {لِيَجْزِيَ قَوْمًا}: لِيُكَافِىء المؤمنين الغافرين {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي: ومن أساء فعلى نفسه أَساء. التفسير 12 - {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: بعد أن ساق القرآن فيما تقدم من الآيات أَدلَّة كونية وعقلية على عقيدة الإيمان وتوعد المخالفين الآثمين بما توعّد. ذكر هُنَا بعض نِعَم الله وآلائه، وفضله الَّذى

منَّ به على عباده، ليشكروه على ما به أَنعم، وليتفكَّروا في بديع صُنْعه، وعظيم قُدرته فقال - سبحانه -: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ ... } إلخ. والمعنى: الله وحده - لا شريك له - هو الَّذى ذلَّل لكم البحر وهيأَه وأَعده سائلا يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، لِتَسير السفن فيه مَاخِرَة عُبَابه، حاملة النَّاس وأَرزاقهم ومتاعهم بأمره - سبحانه - وإذنه، ولتطلبوا من فضله من خيرات البحر ومنافعه بالتّجارة والصيد واستخراج المعادن، ولكى تشكروه على حصول المنافع المجلوبة لكم من الأَقاليم النَّائية، فتُخْلِصُوا له الدين والعبادة. 13 - {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}: أي: وذلَّل لكم ما في السموات من شمس وقمر ونجوم لتنتفعوا بحرارتها وضوئِها، وسخر لكم ما في الأرض من دابة وشجر وزرع وبحار وأَنهار وغيرها من جميع ما تنتفعون به ويُسَهِّل لكم سُبُل الحياة، هذه الأَشياء وغيرها كائنة منه، وحاصلة من عنده، فهو مُكَوِّنها ومُوجِدها بقدرته وحكمته ثم سخَّرها لخلقه. إنَّ فيما ذُكر من نِعَمٍ لآيات عظيمة الشأْن كثيرة العدد لقوم يتفكَّرون ويتدبرون في بدائع صنعه تعالى وعظائم شئونه - جلَّ شأْنه - فإنَّ ذلك يدعوهم إلى الإيمان به والشُّكر له. 14 - {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: سبب النزول: حكى النَّحاس والمهدوى عن ابن عباس أَنَّها نزلت في عمر - رضي الله عنه - شتمه مُشرك من غفَارٍ (¬1) بمكة قبل الهجرة فهم أَنْ يَبْطِش به فنزلت، ورُوِى ذلك عن مقاتل، وهذا ظاهر في كونها مكِّية كأخواتها من آيات السورة (ذكر ذلك الآلوسي والزمخشرى). وقيل: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نزلوا في غزوة بنى المُصطَلِق على بئر يقال لها (المُرَيْسِيع) فأَرسل ابن أُبيٍّ غلامه ليستقى فأَبطأَ عليه، فلما أَتاه قال له: ما حبسك؟ ¬

_ (¬1) غفار: اسم قبيلة.

قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أَحدا يستقي حتى مَلأَ قِرَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرب أَبي بكر، فقال ابن أُبي: ما مثلُنا ومثل هؤُلاء إِلا كما قيل: سَمِّن كلبك يأْكُلْك فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأَنزل الله الآية، وحكاه الإِمام عن ابن عباس أيضًا، وهو يدل على أَنَّها مدنية، وكذلك ما روى عن ميمون بن مهران قال: لما أنزل الله قوله - تعالى -: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ... } إلخ قال فِنْحَاصُ اليهودى: آحتاج رب محمد؟ فسمع بذلك عمر فاستلَّ سيفه وخرج فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبه حتى رده، ونزلت الآية. (ذكره الآلوسي). والمعنى: قل - أيها النبي الكريم - للمؤمنين: اغفروا لمن أَساءَ إليكم فيغفروا ويصفحوا عن الأَذى الذي أَصابهم من الذين لا يتوقعون وقائع الله تعالى، ولا يخافون نقمته عليهم لكفرهم، ولو عقلوا لخافوها وبدلوا بكفرهم إيمانا حتى لا تنزل بهم وقائعه ونقمه، وقد أَمر الله رسوله أن يبلغ المؤمنين أمره - تعالى - بأَن يغفروا لمن أَساءَ إليهم حتى لا يشغلوا أَنفسهم بقتالهم قبل أَوانه ويتركوا أَمر عقابهم لله تعالى فيجزيهم بما كانوا يكسبون. 15 - {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}: الآية مستأْنفة لبيان الجزاء المذكور في الآية السابقة: والمعنى: من عمل صالحًا فلنفسه الأَجر والثواب على عمله، ومن أَساءَ بفعل القبائح وعمل السيئات فَعَلَى نَفْسِه أَسَاء، فعليه وزْرُ عمله وقُبْح فعله، ثم إلى مُرَبِّيكم وخالقكم ومالك أُموركم تُرجعون وتعودون يوم القيامة فيُجَازيكم على أعمالكم خيرًا على الخير، وشرًّا على الشَّر.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} المفردات: {الْكِتَابَ}: التَّوراة، أَو هي والزَّبور والإنجيل. {وَالْحُكْمَ}: والقضاءَ بين الناس، أَو الفقه في الدين. {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: وفضَّلناهم بكثير من نِعَم الدنيا على العالمين، أَو فضَّلناهم في الدين على عَالَمِى زمانهم الوثنيين. {بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ}: أَدلَّة في أَمر الدِّين ويندرج فيها المعجزات. {بَغْيًا بَيْنَهُمْ}: ظلما وعداوة وحسدا. {شَرِيعَةٍ}: منهاج وطريقة.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: ولا تَتَّبع ما لا حجة عليه من آراء الجهال التابعة للشهوات. {هَذَا} أَي: القرآن. {بَصَائِرُ}: بينات واضحات. التفسير 16 - {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: والمعنى: ونقسم لقد أَعطينا بنى إسرائيل التَّوراة والزَّبور والإِنجيل والقضاءَ بين النَّاس والحكم بما في هذه الكتب، والنُّبوة المُعْطاةَ من عند الله، حيث أَرسل فيهم كثيرًا من الأَنبياء - عليهم السلام - لكثرة أَمراضهم الخلقية وشدة مُخالفتهم، ورزقناهم من المُسْتَلَذَّات والخيرات المتنَوِّعة كالمنِّ والسلوى وغيرهما من خيرات الشام، وفضَّلناهم بكثير من النِّعم في الدنيا - فضلناهم - على العالمين حيث آتيناهم ما لم نُؤْت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما، فما رَعَوا هذه النِّعم حق رعايتها، وما شكروا الله عليها، فالمراد تفضيلهم على العالمين من بعض الوجوه، فلا ينافى ذلك تفضيل أُمَّة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - عليهم من جهة المرتبة والشَّرف والثَّواب، قال - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1) وقيل: المراد بالعالمين عَالمُو زمانهم. 17 - {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: وأعطيناهم دلائل ظاهرة وحججًا واضحة في أمر الدين كمعجزات موسى - عليه السلام - وعن ابن عباس: آيات من أَمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وعلامات مبيِّنة لصدقه، ككونه يُهَاجر ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية: 110.

من مَكَّة إلى يثرب ويكون أَنصاره أَهلها إلى غير ذلك مِمَّا ذكر في كُتُبهم، فما وقع بينهم اختلاف في ذلك الأَمر إِلاَّ من بعد ما جاءَهم العلم، فجعلوا ما يُوجب زوال الخلاف مُوجبا لحُدُوثه وحصوله ظلما وعداوة وحسدا منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك يقول الله - تعالى - في سورة البينة: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} إنَّ رَبك - أَيْهَا الرسول - سيفصل بينهم يوم القيامة بحكمه العدل فيما كانوا فيه يتنازعون ويتفرقون من أمر الدين، وسينال كل ما يستحقُّه من الجزاء، وفي هذا تحذير لأُمَّة محمَّد أَنْ تسلك مَسْلكهم وتنهج منهجهم لئلاَّ يصيبها ما أَصابهم وما سيُصيبهم، ولهذا قال سبحانه. 18 - {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}: ثم جعلناك - أَيهَا الرسول، بعد اختلاف أَهل الكتاب - على طريقة واضحة، ومنهاج قويم من أَمر الدِّين الَّذِي شرعناه لك ولِمَنْ سَبَقَك مِنْ رُسلنا، فاتَّبع ما يُوحى إليك مِنْ ربِّك وهو شريعتك الحقَّة الثَّابتة بالدلائل والحُجَج، ولا تتَّبع ما لا دليل عليه مِنْ آراء الجهال في دينهم الباطل المبنيِّ على البدع والأَهواء. قيل: المرُاد بهم بنو قريظة والنَّضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى دين آبائك، واللَّفظ عام يصدق على كل مُعَوِّق طريق الحقِّ مُضِلِّ عن الصِّراط المستقيم. ولقد جاءَ في البحر: الشَّريعة في كلام العرب: الموضع الذي يَرد منه النَّاس في الأَنهار ونحوها، فشريعة الله حيث يرد النَّاس منها أمر الله - تعالى - ورحمته والتقرب منه عزَّ وجل: (ذكره الآلوسي). 19 - {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}: الجملة مستأْنفة وهي تعليل للنَّهى السابق في قوله - تعالى -: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} أَي: أَنَّ الطَّامِعِين في اتِّباعك لهم، الباذلين في سببيل ذلك كل نفيس، لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئًا لو اتَّبَعْتهم، وإِنَّ الظَّالمين المتجاوزين حدود الله

بعضهم أَنصار بعض وأَعوان لهم على الباطل، فلا تُوَالهم باتِّباع أَهوائهم، ودم على ما أَنت عليه مِنْ مُوَالاَتك لله - سبحانه - والإعراض عمن سواه واتِّباع شريعته، فذلك خُلُق المتقين وأنت قدوتهم وإمامهم، والله ناصرهم وَوَلِيهم، وشَتَّان بَيْنَ مَنْ كان وليُّه الشَّيطان ومَنْ كان وليّه الرَّحمن وما أَبْيَن الْفَرْق بين الولايتين. 20 - {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}: أَي: هذا القرآن الَّذى أُنزل عليك معالم للنَّاس ودلائل تبصِّرهم بالدِّين الحقّ، وهو هُدى يعصمهم من الضَّلالة ويُرْشدهم إلى طريق الخير ومسالك البرّ، ورحمة من العذاب لقوم يطلبون اليقين، فإذا عرفوا دليل الحق آمنوا به ولم يجادلوا فيه. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} المفردات: {اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ}: اكتسبوا الكفر والمعاصي. والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أَهله، أَي: كَاسِبُهم.

{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: قَبُح ما يقضون به. {أَفَرَأَيْتَ} أَي: أَنظرت من هذه حالُه فرأَيت (¬1). {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}: من اتخذ هواه معبودًا له فخضع له وأَطاعه. {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أَي: تخلى الله عن هدايته لعلمه أَنه يستحقُّ ذلك، لاخياره له بعد بلوغ العلم إليه وإعراضه عنه. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}: وأَغلق سمعه فلا يقبل ما ينفعه، وختم على قلبه فلا يعتقد حقا لإصراره على كفره. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}: غطاءً أو ظُلْمَةً فلا يُبصر دواعى الهدى. {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}: فيمن يهديه من بعد إعراض الله عنه؟ أَي: لا أَحد يهديه. {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَي: أَتتبركون النظر فلا تتعظون. التفسير 21 - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: استئناف مسوق لاستنكار التَّسوية بين حال المسيئين والمحسنين. سبب النزول: جاءَ في البحر عن الكلبي أَن عُتبة وشيبة والوليد بن عُتبة قالوا لعليّ - كرم الله وجهه - ولحمزة - رضي الله عنه - وللمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقًّا لَحَالُنَا أَفضل من حالكم في الآخرة كما هو أَفضل في الدَّنيا، و (أَمْ) في الآية بمعنى بل والهمزة لإنكار الحسبان، أي: بل أحَسِب. ¬

_ (¬1) أبو حيان جعل (أفرأيت) بمعنى أخبرني.

والمعنى: بل أَحسب الَّذين اكتسبوا ما يسىء إليهم من الكفر والآثام أن نُصَيِّرهم كالذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ونُسَوِّى بين الفريقين بعد الممات بالجنة ونعيمها كما يزعم الكافرون؟! قَبُحَ ما يَقْضُون به مِن الحُكْم الجائر الَّذى يُسَوِّى بين المحسنين والمسيئين، فإنهم وإن تساووا محيا في نحو الرزق والصحة لا يستوون مماتا، فالمؤمنون في روضة يحبرون، والكافرون في النار خالدون، وقال الزَّمخشرى: المعنى إنكار أَن يستوى المحسنون والمسيئون محيا وأَن يستووا مماتا لافتراق أَحوالهم في ذلك، والآية مُتَضَمِّنة للرد على الكفَّار كما يُعرف بأدنى تدبّر؛ لأَنَّ الله إِذا أَنكر عليهم المُساواة فكيف بالأَفضليّة؟! قال ابن عطيّة: إنَّ لفظ الآية يعطى أنَّ اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان. 22 - {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: الآية الكريمة دليل على إنكار حسبانهم السابق؛ لأَن خلق العالم بالحقّ المقتضى للعدل يستدعى انتصاف المظلوم من الظَّالم والتَّفَاوت بين المسىء والمحسن، وإذا لم يكن في الْمَحْيَا كان بعد الممات حقًّا، والمعنى: وخلق الله السَّموات والأرض بالحكمة والصّواب دون العبث والباطل، وأَقام نظامهما على العدل والإِنصاف لتظهر دلائل أُلوهيته وأمارات قدرته وحكمته، ولتُجْزى كلّ نفس بما فعلت من خير أَو شرّ وهم لا يُظْلمُون بنقص ثواب أَو زيادة عقاب، وذلك منه تفضُّل وكرم؛ لأَنَّ الخلق عبيده يفعل بهم ما يشاء، ولكن شاءَت حكمته وعدله ذلك ووعد به، ووعده لا يتخلَّف. 23 - {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}:

هذا القول الكريم تَعْجِيب مِنْ حال مِنْ ترك مُتَابعة الهُدى إلى مُطاوعة الْهَوَى فكأَنه يعبد الهوى، فالكلام على التَّشبيه. والمعنى: أَنظرت فرأَيت - أَيها الرسول - حال من اتَّخَذَ إِلهه هواه، فهو مطواع لهوى النَّفس، يتبع ما تدعوه إليه، فكأَنَّه يعبده كما يعبد الرجل إلهه: وقرىء (آلِهَةً هَوَاهُ) لأَنه كان يستحسن الحجر فيعبده، فإِذا وجد ما هو أَحسن منه رفضه إليه أَو أَبقى عليه فكأَنَّه اتَّخذ هواه إلها أو آلهةً شَتَّى يعبد كلّ وقت واحدا منها، وأَضلَّه الله فصرفه عن الهداية وخذله عن طريق الحقّ على علم منه - تعالى - بذلك؛ لأَنَّه علم أَنَّ ذلك اختياره وإِرادته وإصراره علية، أَو أَضلَّه الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه وأَغلق الله سمعه وقلبه فَحِيلَ بينه وبين أَن يسمع ما ينفعه مِنَ الهُدَى، أَو يَعى شيئًا بعقله ويهتدى به، وجعل على بصره غطاء وغشاوة، فلا يُبصر الحقّ ولا يرى حجّةً يستضىء بها؛ لأَنه محجوب عن الاستبصار والاعتبار، والكلام على التمثيل كما يُقرِّر ذلك العلاَّمة الآلوسي، فمن يهديه من بعد إِضلال الله إياه وإعراضه عنه وخذلانه له لاستحقاقه ذلك بإِصراره على الكفر؟ أَي لا أحد يهديه، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَي: أَتتركون التفكر والنَّظر فلا تتذكَّرون ولا تتعظون؟. {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)}

المفردات {ما هي إلا حياتنا الدنيا}: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نحياها. {نموت ونحيا}: يموت بعض ويولد آخرون ولا معاد ولا قيامة، وسيأتي في التفسير زيادة إيضاح. {وما يهلكنا إلا الدهر}: وما يهلكنا إلاَّ مرور الزمان. {إن هم إلا يظنون} أي: ما هم إلاَّ قوم يتوهمون. {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} أي: ما كان قولهم الذي ساقوه مساق الحجّة وليس بحجة. {ائْتُوا بِآبَائِنَا}: أحضروا آباءنا أحياء في هذه الدنيا بعد أن ماتوا. {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ}: يُخرجكم إلى الوجود بعد أن كنتم نطفا. {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: ثم يجمعكم أحياءً في يوم القيامة لا في هذه الدنيا. التفسير 24 - {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}: وقال المشركون: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها ولا حياة سواها. {نموت ونحيا} أي: تموت طائفة وتحيا أُخرى ولا حشر أصلًا، وقيل المعنى: نحيا ونموت، يزعمون أن الحياة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة بالبعث، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النَّسل والذرية مجازًا، كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: نكون مواتا نُطفا في الأصلاب ونحيا بعد ذلك. {وما يهلكنا إلا الدهر} أي: وما يفنينا إلاَّ طول الزمان ومرور الليالي والأيام، وينكرون بذلك ملك الموت وقَبْضَه الأرواح بأمر الله.

وما يقولون ذلك القول وهو قصر حياتهم على الحياة الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر، ما يقولونه عن علم صحيح ويقين معتمد على عقل أو نقل ولكن عن ظن وتخمين وتوهم وتخيُّل. 25 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي: وإذا قرئت عليهم آيات الله واضحات الدلالة على قدرته تعالى على البعث ما كانت حجتهم في رد البعث إلا قولهم ائتوا بآبائنا أحياء في هذه الدنيا إن كنتم صادقين في أننا نُبْعَثُ بعد الموت، وتسمية القرآن قولهم هذا حجة لسوقهم إياه مساق الحجة، وعلى سبيل التهكم بهم، أي: ما كان حجتهم إلاَّ ما ليس بحجة، والخطاب في قوله تعالى: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} للرسول والمؤمنين، إذ هم قائلون بمقالته من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، ويجوز أن يكون للرسول وللأنبياء قبله الّذين يقولون مقالته. 26 - {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}: أي: قل - أيها الرسول - لهؤلاء المنكرين للبعث: الله يحييكم ابتداءً كما تشاهدون ذلك إذ يُخرجكم من النُّطف إلى هذا الوجود، ثم يُميتكم عند انقضاء آجالكم - لا الدهر كما تزعمون - ثم يجمعكم أحياء في يوم القيامة للحساب، لا شك في هذا الجمع. ودليل إمكانه: أنَّ من قدر كل الخلق ابتداء قادر على الإعادة، وهي عليه أهون، ودليل وقوعه وحصوله: أن البعث أمر ممكن - كما قدّمنا - وتقتضيه الحكمة لإعطاء كل ذي حق حقه، وأخبر به الرسول الصادق، وكل ما هو كذلك واقع لا محالة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون قدرة الله على البعث لإعراضهم عن التفكُّر في الدّلائل، والقادر على البعث قادر على الإتيان بآبائكم، وهو من تمام الكلام الذي أُمر به الرسول، أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقًا للحقّ، وتنبيهًا لهم على أنَّ ارتيابهم لجهلهم وعجزهم عن النظر والتّفكّر.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. المفردات: {الْمُبْطِلُونَ}: أهل الباطل وهم الكفار. {جاثية}: باركة على الرُّكب مستوفزة، وعن ابن عباس: جاثية: مجتمعة، وعن السّدى جاثية: خاضعة بلغة قريش. {كتابها}: صحيفة أعمالها، وأفرد على الجنس. {ينطق}: يشهد. {نستنسخ}: نستكتب الملائكة أعمالكم. التفسير 27 - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ}: بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي في السموات والأرض وفيما بينهما بالله - عز وجل - إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والجمع والبعث للمجازاة؛ فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص، يخبر الله تعالى أنه - وحده - مالك السموات والأرض والحاكم فيهما والمسيطر عليهما في الدنيا والآخرة، ولذا قال: {ويوم تقوم الساعة} أي: وفي هذا اليوم - وهو يوم القيامة - يخسر أهل الباطل وهم الكافرون بالله المكذِّبون بما أنزله على رسله من الآيات، المنكرون للبعث.

28 - {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: وترى - أيها المكلف - كل أمة عن الأمم المجموعة باركة على ركبها متحفزّة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وذلك من عظم الموقف وهول المحشر، كل أمة تُدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبها الحفظة لتحاسب على ما فيها، ويقال لهم: اليوم تستوفون جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شرّ، ففي الدنيا كان العمل، واليوم يوم الجزاء في هذا العمل، والمراد من كتاب كل أُمة: كتاب كل واحد من مكلفيها. 29 - {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: هذا القول من تمام ما يقال لم حينئذ. والمعنى: ويُقال لهم: هذا كتابنا الذي سجّلنا فيه أعمالكم، يشهد عليكم بالعدل وينطق بالصّدق، ويستحضر جميع ما عملتم من غير زيادة ولا نقصان، وعلَّل لشهادته عليهم بالحق فقال: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: إنا كنا نأمر الملائكة الحفظة أن تكتب أعمالكم لتحاسبوا عليها.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} المفردات: {في رحمته}: في جنته. {ما الساعة}: أي شيء الساعة؟ ما حقيقتها؟. {وحاق بهم}: وأحاط بهم ونزل. {ننساكم}: نترككم في العذاب ترك المنسى. {كما نسيتم لقاء يومكم هذا}: كما تركتم الاستعداد للقاء ربكم في هذا اليوم بالإيمان، والعمل الصالح.

{آيات الله}: القرآن. {هُزُوًا}: سخريا. {وغرَّتكم الحياة الدنيا}: وخدعتكم فاطمأننتم إليها. {ولا هم يستعتبون}: ولا هم يُطلب منهم العُتبى وهي أن يرضوا ربهم بالتوبة والاعتذار. {العالمين}: ما سوى الله، وجُمع لاختلاف أنواعه. {وله الكبرياء}: وله وحده العظمة والجلال والسلطان. التفسير 30 - {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}: هذه الآية والتي بعدها تفصيل للجزاء المترتب على قوله - تعالى - فيما تقدم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} أو {اليوم تجزون ما كنتم تعملون}: لما فيه من الوعد والوعيد. والمعنى: فأما الّذين آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة الموافقة للشرع فيُدخلهم ربهم في رحمته وهي الجنة، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" ذلك الجزاء وهو الإدخال في الجنة هو الفوز الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه. 31 - {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ}: أي: وأما الذين كفروا فيقال لهم تقريعًا وتوبيخًا: ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتي تقرأ عليكم فاستكبرتم عن اتِّباعها، وأعرضتم عن سماعها، وتعاليتم عن قبولها، وكنتم قومًا كافرين لتكذيبكم إياها؟!

32 - {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}: وإذا قال لكم رسول الله المبلِّغ عن ربه - أيها المنكرون للبعث -: إن ما وعدكم الله به من البعث والجزاء حقٌّ ثابت وواقع، والساعة لا شك في مجيئها ووقوعها قُلتم استغرابًا، وتكذيبا: ما نعلم ما الساعة؟ أي شيء هي؟ وما حقيقتها؟ ما نتوهَّم وقوعها إلاَّ توهمًا مرجوحًا وما نحن بمتحققين أنها آتية. وقيل: المعنى: وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة، أي: لا نتيقن إمكانها أصلًا فضلًا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله - تعالى -: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} فقولهم هذا ردٌّ لذاك. قال الآلوسي: ولعل المُثْبتين لأنفسهم الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين: {إن هي إلا حياتنا الدنيا .. } الآية فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة، فالكفرة صنفان: صنف جازمون بنفيها كأئمتهم، وصنف مترددون متحيرون فيها، فإذا سمعوا ما يُوثر عن آبائهم أنكروها، وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا، ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال، فهو مضطرب مختلف الحالات، تارة يجزم بالنفي فيقول: {إن هي إلا حياتنا الدنيا .. } الآية، وأخرى يظن فيقول: {إن نظن إلا ظنا} إ هـ: آلوسي بتصرف. 33 - {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: وظهر حينئذ لهؤلاء الكفار سيئات ما عملوا، أي: قبائح أعمالهم، فإن العقوبة دليل على ذلك، أو سيئات ما عملوا، أي: جزاء أعمالهم السيئات وأحاط بهم من كل جانب العذاب والنكال جزاء استهزائهم بآيات الله وسخريتهم منها. 34 - {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}:

وقيل لهؤلاء المشركين من قبل رب العزة توبيخًا وتقريعًا: اليوم نترككم في العذاب كما تركتم الاستعداد للقاء ربّكم في هذا اليوم بالتقوى والإيمان، ونجعلكم بمنزلة الشيء المنسى الذي لا يبالى به كما لم تُبالوا أنتم بلقاء ربكم هذا ولم تخطروه ببال فأنتم كالشيء الذي يطرح نسيا منسيا، ومقرّكم ومنزلكم النار، وليس لكم من ناصرين ينقذونكم من عذابها ولا مانعين لكم ومدافعين عنكم من ويلاتها وعقابها. وقد ثبت في الصحيح أن الله يقول لبعض العباد: ألم أزوّجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسَخِّر لك الخيل والابل؟ فيقول: بلى يا ربّ، فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا فيقول الله - تعالى -: "فاليوم أنساك كما نسيتني" ذكره ابن كثير. 35 - {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}: ذلكم العذاب الذي نزل بكم والجزاء الذي جازيناكم به لأنكم كفرتم باللهِ واتخذتم قرآنه وحججه ومُعجزاته سخريًّا، تسخرون منها وتهزءون بها، وخدعتكم الحياة الدنيا بزينتها وزخرفها فاطمأننتم إليها ووثقتم بها، وحسبتم أن لا حياة سواها ولا حياة لكم بعدها، فاليوم لا يستطيع أحد إخراج هؤلاء من النار ولا هم يُطلب منهم أن يُعتبوا ربهم سبحانه، أي: ولا هم يطلب منهم إرضاؤه بالتوبة والاعتذار لفوات الأوان، والالتفات في قوله - تعالى -: {لا يخرجون منها} إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم من رتبة الخطاب استهانة بهم. 36 - {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: هذه الآية تفريع على ما اشتملت عليه السورة الكريمة، فقد احتوت على آلاء الله وأفضاله واشتملت على الدلائل الكونية، وانطوت على البراهين السّاطعة والنّصوص القاطعة في المبدأ والمعاد.

والآية إخبار عن استحقاقه - تعالى - الحمد وحده؛ لأنه رب السموات والأرض ورب العالمين، ويجوز أن يراد بها الإنشاء وهو طلب الحمد لله، والمعنى: فلله وحده الحمد والثناء فاحمدره وحده فهو خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما ورب ذلك كله، وهذه الربوبيّة تُوجب تخصيص الحمد باللهِ على نعمه الكثيرة وآلائه العظيمة. 37 - {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: وله - وحده - العظمة والملك والسلطان والكماله، فهو سبحانه الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه، وقيل الكبرياء: كمال الذات وكمال الوجود، وخُصّ ذلك بالسموات والأرض لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيها، وقد ورد في الحديث الصحيح: "العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منها، أسكنته ناري" ذكره ابن كثير. {وهو العزيز} الذي لا يقهر {الحكيم} في كل ما قضى وقدّر، يضع الشيء في موضعه. وفي هذه الجمل إرشاد - على ما قيل - إلى أوامر جليلة، كأنه قيل: له الحمد فاحمدوه، وله الكبرياء فكبّروه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه - عَزَّ وَجَلَّ - وجعلها بعضهم مجازا أو كنايات عن الأوامر المذكورة. والله أعلم.

طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الإدارة رمزي السيد شعبان رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1987 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 2590 - 1987 - 25004

سورة الأحقاف

" سورة الأحقاف" هذه السورة مكية وآياتها خمس وثلاثون صلتها بما قبلها تحدثت كلتا السورتين - الجاثية والأحقاف - عن القرآن الكريم، وأنه منزل من عند الله العزيز الحكيم في خلقه وتدبيره، كما أن كلا من السورتين ذكرت نموذجًا شريرًا من البشر؛ ففي سورة الجاثية جاء ذكر اليهود وما أفاء الله عليهم من الخير {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ولكنهم اختلفوا فيه بعد ما جاءهم العلم وبغى بعضهم على بعض؛ حسدًا وعنادًا، وكذلك الأمر في سورة الأحقاف حيث عاند الكفار واستكبروا عن الحق، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}. بعض مقاصد هذه السورة: 1 - أنها - كشأن السور المكية - تدعو إلى العقيدة الصحيحة من توحيد الله - تعالى - إلى تصديق رسالة الرسل - عليهم السلام - إلى الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب. 2 - أنها تؤكد صحة رسالة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وصدق ما جاءهم به عن الله - تعالى -. 3 - أنها أوضحت ضلال الكفاد وبهتانهم وخطأهم في عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع. 4 - أنها ردت على المشركين وسفَّهَتهم في زعمهم أن القرآن سحر مبين، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}. 5 - أنها جاءت بمثالين: أحدهما للولد الصالح البار بوالديه وقد بلغ كمال عقله ورشده فقاله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} وثاني المثالين جاءت به للولد الفاجر العاق لوالديه الذي يقابل نصحهما

سبب تسمية السورة بهذا الاسم

له وحرصهما عليه بالسخرية والاستهزاء، وذلك عندما يدعوانه إلى الإيمان بالله فيقول: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إلى أن يقول: {ما هذا إلا أساطير الأولين}. 6 - عرضت السورة لأولئك النفر من الجن الذين صرفهم الله ووجههم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسماع القرآن الكريم فأنصتوا إليه عند سماعه، ثم ذهبوا إلى قومهم منذرين ومخوفين لهم من أن يخافوه؛ لأن القرآن مصدق لما جاء به موسى - عليه السلام - ولأنه يهدي إلى الحق الثابت والصراط المستقيم، وآمرين لهم باتباع ما جاء فيه ليغفر الله لهم ذنوبهم وينجيهم من عذاب أليم، وذلك تنبيه وتوبيخ للمشركين، حيث آمن به الجن وكفر به المشركون وعاندوا. 7 - جاء في هذه السورة أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يصبه إعياءٌ أو ضعف أو تعب هو - سبحانه - قادر على إحيائهم بعد موتهم، وحسابهم على ما اقترفوا من كفر ومعاصٍ في الدنيا، وهذا تهديد لهم. وكانت نهايتها أمرًا من الله لرسوله أن يصبر على تكذيب قومه وإيذائهم له كما صبر أصحاب العزائم العالية من الرسل - عليهم السلام - ونهاه - جل شأنه - أن يستعجل لم العذاب فإنه آتيهم لا محالة، و {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}. سبب تسمية السورة بهذا الاسم: أنه قد ذكر فيها كلمة الأحقاف، وهي اسم للمكان الذي كانت فيه مساكن عاد قوم هود، وقد دمرهم الله بالريح الصرصر العاتية جزاء كبرهم وطغيانهم، قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.

بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)}. المفردات: {وأجل مسمى}: زمان محدود تنتهي عنده؛ وهو مدة بقاء الدنيا. {أنذروا}: خُوِّفوا. {معرضون}: مولون ومضربون عنه، من أعرضت عنه: أضربت ووليت عنه. {أرأيتم}: أخبروني. {شرك} أي: مشاركة وإسهام. {أثارةٍ من علم}: بقية من علوم الأولين، وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه في الشرح. التفسير 1 - {حم}: هما حرفان من حروف المعجم تقدم الكلام فيهما وفيما يماثلهما من الحروف الواردة في أوائل بعض سور القرآن الكريم كسورة البقرة وغيرها، وكل ما قيل

في هذا الشأن مبني على فهم واجتهاد، وليس لا سند قاطع من كتاب الله - تعالى - أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والأسلم والأحكم أن نترك أمر المراد منها إلى علم الله فنقول: الله أعلم بمراده. 2 - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. أي: هذا القرآن العظيم منزل من عند الله العزيز الذي لا يغالب ولا يقهر، بل هو القاهر فوق عباده وهو - سبحانه - الحكيم في خلقه وتدبيره، وليس لأحد من الخلق دخل في تأليف هذا القرآن الكريم على آية صورة من الصور. 3 - {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}: أي: ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما مما يعلمه وما لا يعلمه المخلوقون جميعًا إلاَّ خلقًا ملازما للحق لا ينفك عنه ولا سبيل إلى العبث فيه؛ قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} (¬1)، وقال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا باطلًا} (¬2) وقال جل شأنه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (¬3) فهذا الخلق منه - سبحانه - قد ارتبط بالتدبير الحكيم، والتقدير العظيم ليدل به - تعالت عظمته - على تفرّده ووحدانيته وكمال قدرته، وأنه هو الذي يجب أن يعبد دون سواه كما أن هذا الخلق للسموات والأرض وما بينهما مقدر بأجل وزمان ينتهى عنده، ثم بعده يكون فناء الدنيا وقيام الساعة: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} (¬4). وإن هؤلاء الكفار عن الهول والنكال الذي أنذروا وخوفوا به من أهوال الآخرة من الحشر والحساب والصراط والميزان وما ينتهى إليه أمرهم من العذاب المقيم - إن هؤلاء الكفار - معرضون عنه لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه جهلا وكبرًا واستهزاءً .. ¬

_ (¬1) المؤمنون، من الآية: 115. (¬2) ص، من الآية: 27. (¬3) الدخان، الآيتان: 38، 39. (¬4) إبراهيم، من الآية: 48.

وبعد أن بين الله - سبحانه - أنه منزل الكتاب الحكيم وأنه - وحده - خالق السموات والأرض وما بينهما على مقتضى حكمته، وأن هؤلاء الكفار مع هذا كله معرضون ومدبرون عما خوفوا به من العذاب جاء قوله تعالى. 4 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: جاء هذا القول الحكيم تسفيهًا لهم، وقاطعًا عليهم سبيل اللجاج والجدل، أي: قل - يا محمد - لهؤلاء الضالين المكذبين الذين يعبدون غير الله من مخلوقاته أو مما تصنعه أيديهم - قل لهم -: أخبروني عما تعبدون من دون الله وتزعمون أنها آلهة تنزلفون إليها وتتقربون منها - أعلموني وأرشدوني - عن المكان الذي استقلت آلهتكم بخلقه من الأرض أخلقوا الماء أو اليابس؟ الشرق أو الغرب؟ السهل أو الجبل؟ الحيوان أم الجماد؟ عالم البر أو عالم البحر؟ دقيق المخلوقات أم عظيمها؟. إن هذه المعبودات أقل شأنًا وأدنى منزلة من أن تخلق شيئًا، إنها مخلوقة لله، أو مصنوعة بيد الإنسان الذي خلقه الله، إنها لا تملك لكم رزقًا في السموات ولا في الأرض، إنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا. قل لهم - أيها الرسول على سبيل التدرج معهم -: {أم لهم شرك في السموات} أي: بل ألهم شركة وإسهام مع الله - جل شأنه - في خلق السموات؟ هل ساعدوا الله وأعانوه في شيء من ذلك؟ - قل لهم يا محمد -: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم} أي: هاتوا لي الدليل وأقيموا لديَّ الحجة، هل عندكم من كتاب من الكتب المنزلة من عند الله قبل القرآن نشهد لكم بذلك؟ أو هل لديكم بقية من علوم الأولين تنطق باستحقاقهم العبادة وأنهم خلقوا شيئًا من الأرض، أو اشتركوا في خلق السموات، أو هل اختصكم الله وحدكم بعلم من عنده يؤيد ما تدعون {إن كنتم صادقين} أي: إن كنتم محقين في دعواكم فهاتوا ما لديكم من الأدلة؛ فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء من العقل أو النقل فقد تبين بطلانها، وأُقيمت الحجة عليكم وظهر ضلالكم وبهتانكم.

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُومِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} المفردات: {غافلون}: أصله من: غفل عن الشيء: تركه وسها عنه، والمراد هنا أنهم لاهون لا يسمعون. {حشر الناس}: جمعوا يوم القيامة في صعيد واحد. {افتراه}: نسبه كذبًا إلى الله. {تفيضون فيه}: تندفعون وتخوضون فيه. التفسير 5، 6 - {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُومِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}: {وَمَنْ أَضَلُّ} الاستفهام هنا لإنكار أن يكون في الضالين كلهم من هو أشد ضلالا من عبدة غير الله، أي: ليس هناك من هو أبلغ ضلالا وأبعد إفكًا وانحرافًا عن الحق من هؤلاء الذين يعبدون غير الله من المخلوقات: أوثانًا أو ملائكة أو جنًّا أو بشرًا، ويتركون عبادة السميع العليم القادر على كل شيء، إنهم يعبدون معبودات لا ينفعون ولا يضرون، قال

- تعالى -: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (¬1). إن هذه الآلهة المزعومة لا تستجيب ولا تلبي ما يطلبونه منها مدة بقاء السموات والأرض وإلى أن تقوم الساعة، إذ لا قدرة لها على ذلك فهي لا تسمع ولا تدري، قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} (¬2). فإذا قامت القيامة وحشر الناس وجمعوا في صعيد واحد واشتد كربهم كانت هذه المعبودات أعداء لمن عبدوهم، وكانوا عليهم ضدًّا يخالفونهم ويلحقون بهم الذل والهوان، بعد أن اتخذوهم في الدنيا ليكونوا لهم مجدًا وعزًّا وذخرًا، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (¬3) وقال أيضًا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (¬4). كما أن العابدين الضالين ينكرون - يوم القيامة - أنهم عبدوا هذه المخلوقات، ويزعمون أنهم ما أشركوا بالله شيئًا، قال - تعالى - حكاية عنهم: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬5). والمعنى: لا أحد أضل ولا أشقى ممن يعبدون آلهة غير الله لا تستجيب ولا تلبي نداءهم في الدنيا؛ إذ أنها لا تسمع ولا تبصر، فهي جماد، أما إذا كانت من الجن أو الإنس أو الملائكة فإنهم مشغولون بأمر أنفسهم، أو أن الله يحمي أسماعها عن أن تسمع دعاء هؤلاء، فضلًا عن أنها لا تملك شيئًا، وفي يوم الحشر تكون هذه المعبودات أعداء لعابديهم كذبهم وتتبرأ منهم، كما يتبرأُ العابدون من معبوداتهم ويقولون: {والله ربنا ما كنا مشركين} فيجمعون بين الشرك بالله والكذب، وكل ذلك لا يغنيهم من الله شيئًا. ¬

_ (¬1) سورة الرعد الآية: 14. (¬2) فاطر، من الآية: 14. (¬3) سورة مريم الآيتان: 81، 82. (¬4) البقرة، الآية: 166. (¬5) الأنعام، الآيتان: 23، 24.

7 - {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}: أي: وإذا تقرأ - يا محمد - كل هؤلاء الكفار المعاندين آياتنا المنزلة عليك - وهي واضحات ظاهرات لا لبس فيها ولا غموض، أو مظهرات ومُبيِّنَات لما أنزلت في شأنه من الأمور التي يلزم إظهارها وبيانها، قال الذين كفروا وجحدوا هذه الآيات دون تدبر وتأمل -: {هذا سحر مبين} أي: ما جئت به - يا محمد - سحر واضح بين، وذلك لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثلها، وإذا سمعها غير المعاند آمن بها، فلهذا قالوا عنها: إنها سحر بين؛ لأنها تأخذ بألباب العقلاء فيؤمنون. 8 - {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: في هذه الآية الكريمة ينكر الله عليهم ويوبخهم على شناعة قولهم: إنه - صلى الله عليه وسلم - افترى وكذب على الله - جل شأنه - ونسب إليه القرآن. أي: بل أيقولون افترى محمَّد على ربه القرآن ونسبه إليه؟ قل لهم - مسفها -: لو افتريتُه ونسبتُه زورًا وبهتانًا إلى ربي - كما تزعمون - لعاجلني الله بعقوبة هذا الكذب، وأنتم لا تقدرون على منع ربي - جل شأنه - وكفه عن معاجلتي، ولا تستطيعون دفع شيء من عقابه عني، فكيف أفترى القرآن على الله وأتعرض لعقابه؟ أيفعل ذلك من لديه بقية من عقل؟!. {هو أعلم بما تفيضون فيه} أي: هو - سبحانه - عليم بالذي تأخذون وتندفعون بحماقة وتسرع في القدح والذم والطعن فيه، وتسميته سحرًا تارة وافتراءً تارة أخرى إلى غير ذلك من ضروب النيل من كتاب الله. {كفى به شهيدًا بيني وبينكم} أي: يكفيني ويملأُ قلبي اطمئنانًا أن الله - سبحانه - شهيد بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق فما أُبلغه لكم عنه، ويشهد عليكم بالجحود، والنكران والكفر.

وفي هذه الآية الكريمة ما لا يخفى من التهديد والوعيد على إفاضتهم واندفاعهم في تنقيص ما أوحى الله به إلى رسوله. {وهو الغفور} أي: وهو وحده الذي يغفر الذنوب ويتجاوز عن السيئات، بل قد يبدلها حسنات، وهو {الرحيم} بعباده يفتح لهم أبواب رحمته وييسر لهم طرق الخير، وينعم عليهم بنعمه الدقيقة التي لا يفطن إليها إلا من جعل الله له نورًا في قلبه. وفي ختم وتذييل الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين له - سبحانه - فتح لِبَاب الرَّجاء في الله، وسدٌّ لبابِ اليأس والقنوط من رحمته، أي: هلم أيها العاصون والكافرون إلى ساحة رضواني، تتوبون فأتوب عليكم، وتستغفرون فأغفر لكم، وتلجأون إلى رحابي فأضمكم إلى جنابي وأشملكم بفيض رحماتي. {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. المفردات: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}: ما كنت مستحدثًا في الدين، وهو من قولهم: فلان بدْعٌ في هذا الأمر، أي: هو أول من فعله، فيكون المعنى: قل: ما أنا أول من جاء بالوحي من الله.

التفسير 9 - {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}: قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إن الكفار كانوا يقترحون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آيات عجيبة، ويسألونه عمَّا لم يوح به الله من الغيوب - عنادًا ومكابرة - فأمر الله رسوله أن يقول لهم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار المنكرين الظالمين: ما أنا أول من جاء بالوحي من عند الله، بل قد أرسل الله الرسل قبلي مبشرين، أو منذرين ومبلغين ما أنزل إليهم من ربهم؛ ولا يقترحون على الله الآيات، ولا يتحدثون عن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فكيف أقترح على الله تلك الآيات التي تريدونها: أو أخبركم بالغيب الذي استأثر الله بعلمه، فكيف تستنكرون وتستبعدون بعثتي إليكم وأنا على هداهم وطريقتهم؟ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أي: لا أعلم ما يحدث بي، أأخرج من بلدي وأهلي كما أُخرجت الأنبياء - عليهم السلام - قبلي؟ أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء قبلي؟ ولا أدري ما يفعل بكم؟ أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة؟ أأمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفًا أم المخسوف بها خسفًا؟ أو المراد: أتؤمنون فتدخلوا الجنة، أم تكفرون فتعذبوا، وتُستأصلوا بكفركم وشرككم؟ ثم أنزل الله بعد ذلك قوله تعالى: {إن ربك أحاط بالناس} (¬1) فعرف أنه لا يقتل، ثم أنزل: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} (¬2) فعرف أن دينه سيظهر على الأديان كلها، ثم أنزل: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (¬3) فأخبره الله بما يصنع به وما يصنع بأمته. {إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ} أي: ما أنا إلا متبع وممتثل وحي الله أُبلغه إليكم، وليس لي من الأمر شيء فيما تقترحون وتطلبون. ¬

_ (¬1) الإسراء، من الآية: 60. (¬2) التوبة، من الآية: 33. (¬3) الأنفال، الآية: 33.

{وما أنا إلا نذير مبين} أي: لست إلاَّ منذركم ومخوفكم عقاب الله حسبما يوحي إليّ مظهرا ومبيِّنًا ذلك لكم بالحجج القاطعة والمعجزات الباهرة التي يؤيدني الله بها. والمعنى الإجمالي: لست أول رسول جاء بالوحي من الله، بل قد سبقني الرسل إلى أقوامهم مبشرين الطائعين، ومنذرين ومخوفين الكافرين والعاصين، ولست أعلم ما يحصل لي في الدنيا من البقاء في بلدي أم أخرج إلى غيرها وأهاجر إلى سواها، أم أُقتل كما قتل بعض الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يحصل لكم: أتكذبون فتعذبوا وتستأصلوا أم تصدقون فتنصروا ثم تدخلوا الجنة، ولست إلا متبعا وممتثلًا أمر ربي، فليس لي من الأمر شيء فيما تقترحون وتطلبون من الآيات الغريبة والمعجزات العجيبة، وما أنا إلا منذر لكم ومخوف عقاب الله وَفق ما يأمرني به ربي مؤيدًا منه - سبحانه - بالحجج والبراهين الساطعة. وحسبكم القرآن في الدلالة على صدقه، فإنه آية الآيات. 10 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: (ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وفيه نزلت: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} وعلى هذا تكون الآية مدنية. وقد روى أنه (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة نظر عبد الله بن سلام إلى وجهه - صلى الله عليه وسلم - فعلم أنه ليس وجه كذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، وقال له: أني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أوَّل أشراط الساعة؟ وما أوَّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: أما أول أشراط الساعة

فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأنا الولد فإذا سبق ماءُ الرجل نزعه وإذا سبق ماء المرأة نزعته، فقال عبد الله: أشهد أنك رسول الله حقًّا، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قومٌ بهت، وإذ علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني (¬1) عندك، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لاَ إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر). وعلى هذا فالشاهد هو عبد الله بن سلام. والمعنى: قل - يا محمد لهؤلاء اليهود -: أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمعت شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله ومسارعته ومبادرته إلى الإيمان به مع استكباركم عليه، وعن الإيمان بالذي جاء به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ والمراد من قوله - تعالى -: {على مثله} هو التوراة؛ فإن كلاًّ منهما مُنزل من عند الله، أو على مثل القرآن الكريم في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد، ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وإنه لفي زبر الأولين} (¬2)، وقوله: {إن هذا لفي الصحف الأولى} (¬3)، وقيل: {مثل} في قوله تعالى: {على مثله} كناية عن القرآن نفسه مبالغة، ويكون المعنى: وشهد شاهد على القرآن بأنه من عند الله، وقيل: الشاهد موسى - عليه السلام - وشهادته بما في التوراة من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه قال الشعبي. {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: والله - تعالى - لا يأخذ بيد الظالم فيرشده ويهديه إلى سواء السبيل؛ فأنتم بظلمكم أنفسكم واستعلائكم على الإذعان للحق لا يهديكم الله، وستمكثون في الحيرة والضلال ومأواكم النار وبئس المصير. ¬

_ (¬1) بهته بهتا وبهتًا وبهتانا: قال عليه ما لم يفعل: القاموس. (¬2) الشعراء، الآية: 196. (¬3) الأعلى، الآية: 18.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} المفردات: {إفك}: كذب وبهتان. {إمامًا}: قدوة وأسوة يؤتم ويقتدى به. التفسير 11 - {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}: ورد في سبب نزول هذه للآية الكريمة أقوالٌ منها: أنها نزلت في بني عامر وغطفان وتميم وغيرهم لمَّا قالوا ذلك في شأن من أسْلَمَ منهم، وقيل: إنها نزلت في اليهود لما أسلم عبد الله ابن سلام، وقيل: نزلت لما أسلمت زنيرة - وكانت أمة لعمر بن الخطاب وقد أسلمت قبله وكان يضربها لإِسلامها - فأُصيبت في بصرها، فقال المشركون لها: أصابك اللاَّت والعزى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمدٌ خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة. أي: قال الذين كفروا بالقرآن الكريم وبالرسول العظيم - استكبارا واستعلاء - قالوا في شأن المؤمنين الذين آمنوا برسول الله وبما أُنزل عليه: لو كان خيرا وهداية ما سبقنا في الإيمان به هؤلاء الأدنوْن الأراذل والمستضعفون والعبيد والإماء.

وما دفع هؤلاء الكافرين المكذبين إلى ما ذهبوا إليه إلا أنهم يظنون أن لهم عند الله وجاهة ومنزلة ومكانة، فهم يبنون أمر الدين على أمر الدنيا، وقد حكى القرآن الكريم ذلك عنهم فقال - تعالى -: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} والكفار بظنهم هذا قد أخطأوا خطأ بينا؛ فقد غاب عنهم، بل أعماهم كبرهم فلم يهتدوا إلى أن الميل إلى الخير والانعطاف نحو الرسل واتباعهم إنما يكون ذلك منوطًا بكمالات نفسية وملكات روحية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا والإقبال على الآخرة وما يقرب منها: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} أي: أنهم لمَّا لم يصيبوا الهدى والرشاد بالقرآن الكريم مع وضوح إعجازه عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا: هذا كذبٌ قديم وأساطير مأثورة نسبها محمد إلى الله. وقيل لبعضهم: هل في القرآن: (من جهل شيئا عاداه؟) قال: نعم، قال الله - تعالى -: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}، ومثله: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} (¬1). 12 - {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ}: أي: ومن قبل القرآن كانت التوراة التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إمامًا يقتدى به في شرائعه - سبحانه - ورحمة لمن صدق به وعمل بما جاء فيه؛ وأنتم أيها الكفرة المكذبون لا تنازعون في ذلك؛ فالتوراة التي تؤمنون بها مشتملة على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا سلمتم أنها من عند الله - وأنتم مقرون بذلك - فاقبلوا حكمها بأن محمدًا رسولٌ - حقا - من عند الله. {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} أي: وهذا القرآن كتاب رفيع القدر عظيم الشأن مصدق لما نزل قبله من الكتب، وقد جاء لسانا عربيا فصيحا نازلا بلغتكم التي برعتم في ¬

_ (¬1) يونس، من الآية: 39.

فنونها وضروبها، فكيف تنكرونه وتجحدونه؛ وهو أفصح بيانا وأظهر برهانا وأبلغ إعجازا من التوراة؟ {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} أي: ليكون القرآن الكريم إنذارًا وتخويفًا متجددًا للذين ظلموا غيرهم بالافتراء والكذب عليهم، كما ظلموا أنفسهم بحرمانها من الخير العظيم والنعيم المقيم في الآخرة، مع تعريضها للعذاب الأليم والهوان والذل في النار، كما يكون القرآن بشارة وإخبارًا بالمنزلة الكريمة عند الله للذين أحسنوا وأخلصوا أعمالهم وراقبوا مولاهم في سرهم وعلانيتهم. وفي هذا تحذيرٌ للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الذين ظلموا؛ ودعوة إلى الكافرين أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه ليعمهم بإحسانه وفضله، فباب التوبة مفتوح، والله - سبحانه - يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} التفسير 13 - {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: أي: إن الذين قالوا بلسانهم تعبيرًا عما اشتملت عليه قلوبهم، ودلالة على ما اطمأنت به نفوسهم، وأذعنت له أفئدتهم، قالوا: ربنا الله رعانا بإحسانه وحفَّنا بلطفه، وتكفل ¬

_ (¬1) النساء، من الآية: 116.

- سبحانه - تفضلا منه بأسباب حياتنا، ثم استقاموا على شريعته فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه ولزموا محجته فلا يلحقهم ما يخافونه ويكرهونه في الآخرة، ولا يُرَوَّعون؛ لأنهم خافوه - سبحانه - في الدنيا فأمنهم في الآخرة؛ إذ لا يجمع الله على المؤمن خوفين: خوف الدنيا وخوف الآخرة، كما أنه لا يصيبهم حزن ولا أسف على ما خلفوه في الدنيا من مال أو ولد أو جاه، فكل نعيم دون الجنة زائل. 14 - {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي: أولئك الذين سمت بهم أعمالهم، وعلت منزلتهم لدى ربهم هم أصحاب الجنة الذين يمكثون فيها أبدًا، ويقيمون بها سرمدًا، يتفضل الله عليهم بهذا النعيم الدائم كفاءً وجزاء على ما كانوا يعملونه - بتوفيق الله - في دنياهم من خير، ويقدمون من برّ، ويبذلون من طاعة. {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}

المفردات: {ووصينا الإنسان}: ألزمناه وأمرناه. {حملته أمه كرها ووضعته كرها}: بكره ومشقة وتعب في الحمل والوضع. {وفصاله} الفصال: الفطام، وهو مصدر (فَاصَل) فكأن الولد فاصل أمه والأم فاصلته. {أشده}: كمال قوته وعقله ورشده. {أوزعني}: ألهمني ووفقني. مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما كان أمر الأولاد يختلف مع والديهم برًّا وعقوقًا كما يختلف أمر الأمم مع أنبيائهم استجابة لهم وإعراضًا عنهم كانت هذه الآيات متصلة بما قبلها. التفسير 15 - {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ... } الآية: سبب النزول: هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - روى ذلك عن ابن عباس وعلي - رضي الله عنهم -. قال عليّ - كرم الله وجهه -: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدايق - رضي الله عنه - أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره فأوصاه الله بهما ولزم ذلك. وعند قوله - تعالى -: {وأن أعمل صالحا ترضاه} قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فأجاب الله أبا بكر فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة. ولم يدع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه.

وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من تَبِع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمعن في امريء إلاَّ دخل الجنة". وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ودعا أبو بكر أيضًا فقال: {وأصلح لي في ذريتي} فأجابه الله تعالى؛ لم يكن له ولد إلا آمنوا، وقد أدرك أبواه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -. وقد استدل الإمام عليّ - كرم الله وجهه - بهذه الآية الكريمة مع التي في سورة لقمان: {وفصاله في عامين} مع قوله - تعالى - في سورة البقرة: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} استدل - رضي الله عنه - بذلك على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوى صحيح. ووافقه على ذلك عثمان وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - فعن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فذُكر ذلك لعثمان - رضي الله عنه - فأمر عثمان برجمها فبلغ ذلك عليًّا - كرم الله وجهه - فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له عليّ: أما تقرأ القرآن؟ فقال: بلى. قال: أما سمعت الله - عَزَّ وَجَلَّ - يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال: {حولين كاملين} فما نجده بقي إلاَّ سته أشهر. قال عثمان - رضي الله عنه -: والله ما فطنت بهذا. قال معمر: فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة أشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: هذا ابني ولا أشك فيه. وفي هذا إشارة إلى أن مدة الحمل والرضاع معًا لا تتجاوز الثلاثين شهرا؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون

شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولان كاملان؛ لأن الله - تعالى - يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا}. والمعنى: وألزمنا الإنسان وأمرناه أن يحسن إلى والديه إحسانًا عظيمًا وأن يبرهما برًّا كريمًا، فالإحسان إلى الوالدين هو ثاني أفضل الأعمال، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أيّ؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" متفق عليه. كما عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقوقهما ثاني أكبر الكبائر، فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ - ثلاثًا - قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" متفق عليه. {حملته أمه كرها} أي: قاست بسببه في حال الحمل به مشقة وتعبًا من رحم وغثيان وثقل وكرب {ووضعته كرهًا} أي: بمشقة أيضًا من الطلق وشدته {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} أي: أنهما لم تقف مشقتها وتعبها عند الوضع بل استمر ذلك في مدة رضاعه وفطامه؛ فقد سهرت عليه وقامت على أمره وعانت من تربيته في تلك الفترة الدقيقة من حياته ما جعلها تتعب ليستريح، وتشقى ليسعد، وتسهر لينام، كل ذلك مع حسن رعاية وكمال عناية رجاء أن تستمر حياته ويمتد به العمر وتنعم به كبيرًا كما سعدت به صغيرًا. {حتى إذا بلغ أشده} أي: حتى إذا قوى وشهب واكتهل واستحكمت قوته {وبلغ أربعين سنة} أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحمله؛ فسنُّ الأربعين تمام النضج وتمام الحلم، فعنده تكمل الملكات وتتناهى الكمالات، ولا يرجى لأحد بعد أن يبلغ هذا العمر أن يزاد في عقله، فهذا بلغ هذه السن {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: اتجه إلى ربه الذي دعاه وربَّاه وجعله يتقلب في منِّه وكرمه وإنعامه قائلا: يا رب رغبني وألهمني أن أقوم بحق نعمتك العظيمة التي أنعمت بها علي، واهدني إلى القيام بصرفها

وتوجيهها إلى ما خلقتها له، فنعمُك يا رب وفيرة وآلاؤك جليلة؛ فقد وفقتني إلى نعمة الإِسلام، وجعلتني من خير أمة أخرجت للناس، وأنعمت علي بالصحة والعافية والغنى عن الناس، ورزقتني الولد ولم تجعلني فردا منقطع الذرية، وأسألك أن تديم عليّ شكر النعمة التي أنعمت بها على والديّ من الإيمان بك وبرسولك، وبالتحنُّن والشفقة عليّ حتى ربياني صغيرًا {وأن أعمل صالحا ترضاه} أي: اجعل عملي كثيرا عظيما سالما من عدم قبولك له، وذلك بأن يكون خالصًا من الرياء والعجب حتى يكون على وَفق رضاك {وأصلح لي في ذريتي} أي: اجعل الصلاح والبر وعمل الخير ساريا في ذريتي راسخا فيهم حتى يكونوا لك عبيد حق، ولي خَلَفَ صِدق. {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أي: إني رجعت عما كنت عليه مما لا ترضاه أو يشغلني عنك، وإني من الذين أسلموا إليك أمرهم وأخلصوا أنفسهم لك وأفردوك بالعبادة. جاء في كتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي: وكان مالك بن أنس يقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرِّف؛ فقال له: استعن عليه بهذه الآية وتلا: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: نقول: هذا توجيه سديد وإرشاد حكيم؛ فخير الدعاء ما كان بالمأثور من كتاب الله - تعالى - أو من السنة النبوية المطهرة. 16 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}: أي: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة التي بها علت منزلتهم وسمت مكانتهم عند ربهم يتقبل الله - سبحانه - منهم أفضل أعمالهم وأحسنها - من الأعمال المفروضة والمندوبة - فيجازيهم عليها أفضل جزاء وأكمل ثواب، أما الأعمال المباحة فليست محل ثواب إلا إذا اقترنت بها نيَّة الطاعة والقربى لله - عز وجل - وذلك كمن يأكل ناويًا أن

أن يتقوى بذلك على أمر مفروض أو مندوب ونحو ذلك، فإن الله يثيبه عليه، والحكم عكس ذلك إذا اقترنت بالمباح ولا بسته نية المعصية فإن الله يعاقب عليه "وإنما لكل امريء ما نوى". {ونتجاوز عن سيئاتهم} أي: يتجاوز الله عن سيئات المذنبين؛ لتوبتهم المشار إليها بقوله - تعالى - في الآية السابقة: {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أو لغلبة حسناتهم على سيئاتهم، لقوله - تعالى -: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (¬1) أو لاجتناب الكبائر، لقوله - تعالى - في سورة النساء: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}، أما أصحاب السيئات الذين لم يكونوا من هؤلاء وهم مسلمون مؤمنون، فأمرهم مفوض إلى الله تعالى، فإما أن يعفو عنهم أو يعاقبهم. وهؤلاء الذين يتجاوز الله عن سيئاتهم {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي: في عداد أصحاب الجنة منتظمون في سلكهم يحقق الله لهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به في الدنيا على ألسنة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من الجزاء الحسن والنعيم المقيم في جنة عرضها السموات والأرض، ويتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فسبحانه من إله كريم بر رحيم. {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 114.

المفردات: {أفٍّ لكما} الأفِّ: صوت يصدر عن المرء عند تضجره، وأصله: الوسخ الذي حول الظفر، وقيل: الأُف: وسخ الأذن، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم استعمل ذلك عند كل شيء يتضجر ويتأذى منه (¬1). {أخرج}: أُبعث من القبر بعد الموت. {وقد خلت القرون}: وقد مضت الأزمان. {وهما يستغيثان الله}: وهما يلجآن إلى الله أن يدفع الكفر عن ولدهما. {ويلك}: هلاكا لك، وأصل الويل: دعاءٌ بالهلاك يُقام مقام الحث على الفعل أو الترك؛ إشعارًا بأن ما هو مرتكب جدير أن يهلك مرتكبه، والمراد هنا: الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك. {أساطير الأولين}: أباطيل وأكاذيب السابقين التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة. {حق عليهم القول}: ثبت ووجب. التفسير 17 - {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ... } الآية: هذه الآية الكريمة عامة تتناول كل كافر عاق لوالديه منكر للبعث؛ فقد جاء في الآية التالية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ .. } فدل ذلك على أن الحكم عام لكل من يقول ذلك لوالديه، ونزولها في شخص معين لا ينافي العموم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد من الذي قال لوالديه أف لكما: كل من يقول ذلك لهما. ¬

_ (¬1) اللسان: مادة (أفف).

وجاء في كتاب روح المعاني للعلامة الآلوسي: وزعم مروان - عليه ما يستحق - أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وردت عليه السيدة عائشة - رضي الله عنها - أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله [بن المدائني] قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله - تعالى - قد أرى لأمير المؤمنين - يعني معاوية - في يزيد رأيًا حسنًا، أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن ابن أبي بكر: أهرقلية؟ إن أبا بكر - رضي الله عنه - والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا لأحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: {أف لكما}؟ فقال عبد الرحمن: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أباه؟ فسمعت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت - والله - ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان. ومعنى الآية: أن هذا الولد الكافر باللهِ المنكر للبعث، قال لوالديه وقد دعواه إلى الإيمان بالبعث: إني أتضجر منكما، وأضيق بما تُلقيان على مسامعي من سقط القول وسخف الكلام، أتعدانني وتخبرانني أن أُخرج حيا من قبري، وأبعث بعد موتي؛ وقد مضت القرون والأزمان ولم يبعث أحد من قبره يخبرنا بذلك؟ وكأن هذا العاق قد تمثل بقول القائل: ما جاءنا أحد يُخبرُ أنه ... في جنَّةٍ لما مضى أو نارٍ ولكن شفقة الوالدين وفرط حنانهما عليه دفعهما إلى الالتجاء إلى الله والاستغاثة به رجاء أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو فيه من الضلال والكفر وإنكار البعث؛ وحملهما ذلك أيضًا على أن يحضانه على الإيمان باللهِ ويحذرانه مغبة ما هو مقيم عليه، فيقولان له: {ويلك آمن إن وعد الله حق} أي: هلاكًا لك إن أصررت على ما أنت عليه من الكفر، صدق بالله وبالبعث، فإن وعد الله حق لا يتخلف، فأولى لك أن تقبل على ما دعوناك إليه من الإيمان، ولكن هذا الشقي الفاجر - مع الحث والتحذير له من والديه - يصر ويقول: {ما هذا إلا أساطير الأولين} أي: ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلا إباطيل وأكاذيب السابقين الأولين قد كتبوها وسطروها من غير أن يكون لها حقيقة. 18 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِين}:

أي: هؤُلاء الكفار الذين بعدوا من الحق وعن الصراط المستقيم قد وجب عليهم القول والوعيد الذي قاله الله لإبليس ومن تبعه - عليهم اللعنة -: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} (¬1) وسيكونون في عداد أُمم وجماعات من الجن والإنس كانوا على شاكلتهم كذبوا كما كذبوا وعاندوا واستكبروا وساروا على نهجهم فباءوا بالخسران والحرمان من الجنة التي خسروها بسوء معتقدهم وفحش عملهم. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}. المفردات: {الهون}: الهوان والذل. التفسير 19 - {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: أي: ولكل فريق من الأبرار الأتقياء، والعاقين الأشقياء لكل منهما منازل ينزلون فيها في أخراهم، فأهل الجنة لهم درجات ونعيم يتقلبون فيه، في سعادة غامرة، وقلوب بالرضا عامرة، ونفوس مطمئنة في جنات تختلف منازلها رفعة وعلوا، فالذين رفعتهم أعمالهم إلى درجات أعلى لا يجدون في نفوسهم على مَنْ دونهم في الجنة استكبارا أو استعلاء، كما لا يجد الذين منحهم الله في جناته دون ذلك في صدورهم غلا ولا حقدا على من فوقهم منزلة في الجنة، قال - تعالى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة ص، الآية: 85. (¬2) سورة الحجر، الآية: 47.

أما الفريق العاق العاصي فإنه يتدنَّى ويتسفل في دركات النار يلقى سعيرها ويعذب بأليم عقابها يتلاومون فيها ويلقى كل على صاحبه التبعة، ويتبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتَّبعوا، وهم يومئذ بعضهم لبعض عدو. وهذا النعيم المقيم، وذاك العذاب الأليم يجزيهم الله - سبحانه - به جزاءً وفاقًا على أعمال عملوها في الدنيا فلا ينقص الله من أجر الطائعين، ولا يزيد في عقاب العاصين: {ولا يظلم ربك أحدا} (¬1). 20 - {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ... } الآية: لما ذكر - سبحانه وتعالى - أحوال بعض الأشقياء ومآلهم أردفه - جل وعلا - بذكر حال الكافرين عامة في أُخراهم، أي: ذكِّر يا محمَّد هؤلاء المعاندين المكابرين - ذكرهم - يوم يظهر الله للكفار نار جهنم فينظرون إليها ويعلمون أنهم ملاقوها فيقال لهم - تقريعا وتوبيخًا وتسفيهًا لهم عما قدموا -: استنفدتم طيباتكم من المآكل والمشارب والملابس، والمفارش وأنواع المتع والشهوات، وتمتعتم بتلك اللذائذ واستعجلتموها في الدنيا، فليس لكم حظٌّ ولا نصيبٌ منها في الآخرة؛ لأنكم لم تكونوا مؤمنين حتى تنالوا النعيم الأبدي الخالد، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها، وقضيتم حياتكم في لهو الشهوات وحمأة المعاصي، وعميت أبصاركم عما ينفعكم في الآخرة من الإيمان باللهِ والعمل في مرضاته، ففي هذا اليوم - وهو يوم القيامة - يُجازيكم الله عذاب الذُّل وعقاب الهوان؛ لأنكم كنتم في الدنيا تستعلون وتتكبرون بغير استحقاقٍ لكم في ذلك الصلف والكبر، وتستنكفون أن تعترفوا بأنكم خلق الله وعباده؛ فترفعتم عن الإيمان بالله إلها واحدًا، ومع هذا الكفر الصريح الدائم منكم كنتم مستمرين على الفسق خارجين عن طاعته - سبحانه - فقد جمعتم بين ذنب القلب بالكفر، وذنب الجوارح بالعصيان والفسق. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، من الآية: 49.

هذا، والترفع والزهد في الاستمتاع بلذائذ الحياة سمة الصالحين وحلية الأولياء، وأُسوتهم في ذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في صحيح مسلم وغيره أن عمر - رضي الله عنه - دخل على النبي - عليه الصلاة والسلام - في مشربته حين هجر نساءه، قال عمر: فالتفت فلم أر شيئًا يرد البصر إلا أُهُبًا (¬1). (جلودًا معطونة قد سطع ريحها)، فقال: يا رسول الله؛ أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحريير؟ فقال: فاستوى جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا بن الخطَّاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"، فقلت: استغفر الله لي، فقال: "اللهم اغفر له". وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبز والزيت، والخبز والخلّ، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض (الطري غير المجفف)، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع (مشقق غليظ) فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا: فقال: يا بن العاص، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق (¬2) سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصليَّة (مشوية) كأنها كذا وكذا، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشنّ عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، إلى أن قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم العيش، ولكني سمعت الله - تعالى - يقول لأقوام: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}. وقال جابر: اشتهى أهلي لحمًا فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئًا جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} ¬

_ (¬1) أهبًا: جمع إهاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ. (¬2) العناق: الأنثى من ولد المعز.

قال ابن العربي: وهذا عتاب منه على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء؛ فإن تعاطى الطيبات من الحلال تستشره له الطباع وتستمرئه العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله. والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد طيبا أو قفارًا (طعام بلا أُدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة؛ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلًا ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة، وطريقة الصحابة - رضوان الله عليهم - منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن؛ فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه؛ فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل فقد أذهبه. {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} المفردات: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}: هو هود - عليه السلام - وكانت أخوته لعاد في النسب لاَ في الدين. {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ}: وهي جمع حقف، وهو: ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلًا، من احقوقف الشيء: إذا اعوج.

{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، والنذر: جمع نذير. التفسير 21 - {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}: لما كان أهل مكة مستغرقين في الكفر معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ناسب تذكيرهم بما جرى لعادٍ، وقد كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاهًا منهم؛ فسلط الله عليهم العذاب العظيم بسبب شركهم وطغيانهم، وفي ذلك تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب من كذبه من قومه، وإنذارٌ لقريش لكفرهم. والمعنى: واذكر - أيها النبي - لهؤلاء المشركين قصة هود - عليه السلام - وقت إنذاره قومه عادًا عاقبة الشرك - وهي العذاب العظيم - ليعتبروا بها، وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود - عليه السلام - ليقتدى ويهون عليه تكذيب قومه له. وكان قومه بالأحقاف وهي مساكنهم، وكانت رمالًا عظيمة مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر، والشِّحر قريب من عدن، يقال: شحر عُمان، وهو ساحل البحر بين عُمَان وعدن، وقال ابن إسحاق: مساكنهم من عمان إلى حضر موت، أي: في الجنوب الشرقي من جزيرة العرب. وبعض المنقبين في الزمن القريب يرى أن مساكنهم شرق العقبة، معتمدين على كتابات خطية عثروا عليها في خرائب معبد كشفوا عنه في جبل إرم، ووجدوا في جانب الجبل آثارا جاهلية قديمة، فرجحوا أن هذا المكان هو موضع إرم التي ذكرها القرآن الكريم (¬1) {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، أي: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده، وهو ¬

_ (¬1) المنتخب عند تفسير الآية.

أن لا تعبدوا إلا الله، إيذانًا باشتراك المنذرين جميعًا في معنى العبارة المحكية، وتنبيهًا على أنه إنذار ثابت قديمًا وحديثًا، اتفقت عليه الرسل في دعوتهم إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} وهو يوم القيامة إن عبدتم غير الله، والجملة تعليل للنهي، أي: لا تعبدوا إلا الله؛ لأني أخاف عليكم أشد العذاب وأقساه. {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} المفردات: {لتأفكنا عن آلهتنا} أي: لتصرفنا وتمنعنا عن عبادة آلهتنا. {فأتنا بما تعدنا} من العذاب، وهذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد، فكما يقال: وعده خيرا وبالخير، يقال: وعده شرا وبالشر. {قومًا تجهلون} أي: تتّصفون بالجهل وعدم الإدراك في سؤالكم استعجال العذاب ممن بعث إليكم منذرا.

{فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم}: جمع واد، وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذا للسيل. {ريح فيها عذاب أليم} أي: بل الذي زعمتموه سحابًا ممطرًا هو ريح متكاثفة فيها عذاب مؤلم لكم. {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} أي: فاجأتهم الريح فدمرتهم ولم يبق شيء يرى إلا مساكنهم. {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي: مثل هذه العقوبة نعاقب من أجرم مثل جرمهم. التفسير 22 - {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}: أي: قال قوم هود إنكارا عليه: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا - كما قال الضحاك - من الأفْك بمعنى الصرف، وقد وعدتنا بإنزال العذاب بنا عقابًا لنا على الشرك في الدنيا فعجل بهذا العذاب إن كنت صادقًا في وعدك بنزوله بنا. 23 - {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}: أي: فأجابهم - عليه السلام - قائلا: إنما العلم بوقت نزول العذاب، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عند الله وحده، فيعلم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل ذلك بكم ويأتيكم به في وقته، وأما أنا فلا علم لي بوقت نزوله ولا مدخل لي في اقتراح إتيانه وحلوله. {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} من مقاصد الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك، من غير وقوف على وقت نزوله {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي: شأنكم الجهل حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته، ولو كنتم على شيء من العلم لأدركتم أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أُذن لهم فيه.

24، 25 - {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}: أي: فأتاهم العذاب الذي استعجلوه، فلما رأوه سحابًا ممتدًا في عرض الأُفق متوجها نحو أوديتهم حسبوه سحابًا ممطرًا، وكان المطر قد أبطأ عليهم فاستبشروا به، حيث {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فرحًا به، ولا سيما أنه قد جاء من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثًا - قاله ابن عباس وغيره - ولكن ما توقعوه تبين لهم أنه سراب خادع حين قال لهم هود - عليه السلام -: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} أي: هو العذاب الذي استعجلتموه لما قلتم: {فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} أتاكم متمثلًا في ريح كثيفة عاصفة تحل الفساطيط (¬1) وترفع الظعينة (¬2) بين السماء والأرض ثم تضرب بها الصخور، وقد اعتزل هود ومن معه في حظيرة - كما روى عن ابن عباس - ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. ونقل القرطبي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم وأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله فيها: {تدمر كل شيء بأمر ربها} اهـ. أي: تهلك هذه الريح كل شيء مرت عليه من نفوسهم وأموالهم بإذن ربها وتقديره، وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى ضمير الريح من الدلالة على عظمة شأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ما لا يخفى، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ¬

_ (¬1) الفساطيط: جمع فسطاط، وهو السرادق. (¬2) تطلق الظعينة على الجمل يظعن عليه، وعلى الهودج فيه امرأة أو لا.

ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" فإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سُرِّى عنه، فسألته السيدة عائشة فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم هود: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أخرج الحديث مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة. {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمرتهم عن آخرهم فأصبحوا بحيث لا يرى إلا مساكنهم وقد بقى منها ما يدل عليها، وقرأ الجمهور "ترى" بالتاء ونصب مساكنهم خطابًا لكل أحد يتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم، أو الخطاب لسيد المخاطبين - صلى الله عليه وسلم -. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: مثل تلك العقوبة التي نزلت بعاد، يجزي الله كل من كذب رسله. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}

المفردات: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} أي: جعلنا لهم سلطانًا وقدرة على التصرف في الذي ما مكناكم فيه ولا سخرناه لكم. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: لم تنفعهم تلك الحواس أي نفع في دفع العذاب عنهم؛ حيث أهملوا الانتفاع بها فانغمسوا في الضلال. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: يكفرون بها. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاءً به. {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} أي: كررنا الحجج والدلالات لكي يرجعوا عن كفرهم. {قُرْبَانًا آلِهَةً} القربان: كل ما يتقرب به إلى الله - تعالى - من طاعة ونسيكة - قاله الكسائي - وجمعه: قرابين، أي: اتخذوا الآلهة متقربًا بها إلى الله - تعالى -. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرتهم. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وضلال آلهتهم عنهم وامتناع نصرتهم إياهم هو دليل كذبهم وافترائهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. التفسير 26 - {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}: خطاب لأهل مكة على سبيل التهديد، والمعنى: ولقد مكنا الأمم السابقة في الدنيا وأعطيناهم من القوة والسعة وطول الأعمار وسائر التصرفات ما لم نعطكم مثله يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعًا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما جعلها الله له فيعرفوا بكل منها مختلف النعم التي يستدلون بها على شئون الخالق المنعم - عَزَّ وَجَلَّ - في تفضله عليهم فيؤمنون به ويداومون على شكره. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: أنها لم تغن عنهم أي شيء من الإغناء، ولم تُذهب عنهم شيئًا من عذاب الله،

لم يستعملوا سمعهم في استماع الوحي ومواعظ الرسل، وأبصارهم في اجتلاء الآيات الكونية الناطقة بقدرة الله ووحدانيته، وقلوبهم في التأمل طلبًا لمعرفة الله. وإفراد السمع في النظم الكريم وجَمْعُ غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات، وتعدد مدركات غيره، وقد تأتي الإضافة إلى جمع مرادا بها الجمع، فكأنه قيل: أسماعهم. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: تعليل لما سبق من عدم إغناء سمعهم عنهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، أي: لأنهم كانوا يكفرون بالله وينكرون آياته المنزلة على رسله إعراضًا عنهم، وتكذيبًا لهم. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: ونزل بهم العذاب الذي أحاط بكل جهاتهم، وكانوا يستعجلونه بطريق السخرية والاستهزاء فلم يبق منهم ولم يذر أحدا. 27 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: تهديد آخر لكفار مكة وتخويف لهم بذكر سوء عاقبة أمثالهم السابقين. والمعنى: ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم والمحيطة بكم كقرى عاد وحِجر ثمود ومساكن سبأ وقرى قوم لوط، وكانوا يمرون بها في أسفارهم وكانت أخبارها متواترة عندهم، وكررنا الحجج وأنواع البينات والعظات ووضحناها لأهل ثلاث القرى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الطاعة والإيمان. 28 - {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}: الآية تهكم بالمشركين، والمعنى: فهلاَّ نصرهم الذين اتخذوهم آلهة يتقربون بها إلى الله تعالى لتشفع لهم، حيث كانوا يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهلاَّ منعوهم من الهلاك الواقع بهم؟! {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عنهم ولم ينصروهم؛ لأنهم آثمون بعبادتهم فكيف ينصرونهم أو يشفعون لهم؟ هذا إذا

كانت معبوداتهم عاقلة كالبشر أو الملائكة، فإن كانت غير عاقلة كالأصنام والكواكب كان المعنى: غاب عنهم نفعهم لعدم فائدتهم، فهم جمادات فكيف ينصرونهم؟ وقيل المعنى: ترك المشركون الأوثان وتبرأوا منها، أو هلكت معبوداتهم فاستحال نصرها لهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وضلال آلهتهم عنهم في الدنيا ويوم القيامة هو أثر كذبهم في قولهم: إنها تقربنا إلى الله، وإنها شفعاؤنا عنده. {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} المفردات: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} أي: وجهنا إليك نفرا من الجن، والنفر: من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة من الرجال. {فَلَمَّا قُضِيَ} أي: فرغ من تلاوته.

{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: رجعوا إليهم مخوفين من عذاب الله. {كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}: وهو القرآن الكريم. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما قبله من التوراة؛ لأنهم كانوا مؤمنين بموسى. {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: لا يفوت الله طلبًا. ولا يعجزه هربًا، وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها. {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك الذين لا يستجيبون لله في خسران واضح بيِّن بحيث لا يخفى على أحد. التفسير 29 - {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: في القصة المذكورة توبيخ لمشركي قريش حيث إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به، وعلموا أنه من عند الله، وهؤلاء معرضون عنه مصرون على الكفر به، مع أنهم من أهل اللسان الذي نزل به، ومن جنس الرسول الذي جاء به، والجن ليسوا كذلك. والمعنى: واذكر - أيها النبي - لقومك الوقت الذي صرفنا فيه ووجهنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن منك وهم - كما قال ابن عباس - سبعة نفر من جن نصيبين، وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة، وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين، كذلك قيل - والله أعلم - فلما بلغوا تهامة اندفعوا إلى بطن نخل، فوافوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم يصلى في جوف الليل، وقيل: يؤم أصحابه في صلاة الفجر، فلما حضروا تلاوته قال بعضهم لبعض: أنصتوا تمكينًا لنا من سماعه وتأدبًا معه، وحينما قُضِي القرآن وفُرِغ من تلاوته {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} أي: انصرفوا قاصدين من وراءهم من قومهم منذرين لهم عاقبة مخالقة القرآن، ومخوفين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا.

وروى عن سعيد بن جبير ما يشير إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر بهم فأنبأه الله تعالى باستماعهم حيث أوحى إليه قوله تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن .. } وقيل: بل أمره الله - تعالى - أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفرا منهم ليستمعوا منه وينذروا قومهم. فقد روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثًا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب، خطَّ لي خطا فقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطا شديدًا حتى خفت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: ثم انقطعوا كقطع السحاب، فقال رسول الله: هل رأيت شيئًا؟ قلت: نعم، رجالًا سودا، مستشعري ثيابٍ بيضٍ. فقال: أُولئك جن نصيبين" وكانت هذه القصة قبل الهجرة بثلاث سنين على ما صح عن ابن عباس. وهذه الرواية لا تعارض الرواية التي تقول: إنهم صادفوا وقت قراءته - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك كان في واقعة أُخرى، بل قيل: إن وفادة الجن كانت ست مرات، ولتعدد الوقائع اختلفت الروايات في عدد الجن الذين حضروا وفي المكان والزمان لاستماعهم القرآن. ويستفاد من الآية: أن في الجن نذرًا وليس فيهم رسلًا - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى} (¬1) وأما قوله - تعالى -: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} (¬2) فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما، وتعلق قوم بظاهر النص فقالوا: إن الجن كانت لهم رسل منهم - انظر تفسير الآية في الكشاف. 30 - {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}: أي: قال الجن لقومهم حينما رجعوا إليهم: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا عظيم القدر رفيع الشأن أنزل على رسول من بعد موسى، وقد ذكروا بعديته لموسى دون بعديته لعيسى؛ لأن عيسى كان مأمورًا بالعمل بمعظم ما في التوراة أو بكله، حيث أنزل عليه ¬

_ (¬1) سورة يوسف من الآية 109. (¬2) سورة الأنعام من الآية 130.

الإنجيل مشتملًا علي كثير من المواعظ، وقليل من التحليل والتحريم. فهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، أو لأن الجن كانت يهودًا - كما قال عطاء - {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: أن القرآن مصدق لما تقدمه، وأرادوا به التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة. {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: أنه يرشد إلى العقائد الصحيحة وإلى طريق مستقيم من الأحكام الفرعية، أو ما يعمها وغيرها من الأركان والقواعد على أنه من ذكر العام بعد الخاص. 31 - {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: يحتمل أنهم أرادوا بداعي الله ما سمعوه من القرآن الذي طلبوا الاستجابة له والإيمان به، ووصفوه بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم لتلازمهما. ويحتمل أنهم أرادوا به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حيث دعاهم إلى الله وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين - الإنس والجن - وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن فطلبوا الاستجابة له والإيمان به، وهذا يدل على أنه كان مبعوثًا إلى الجن والإنس، قال مقاتل: لم يبعث الله نبيًّا إلى الجن والإنس قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤيد هذا ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود إلى آخر الحديث" قاله مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس، وفي رواية من حديث أبي هريرة: "بعثت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون". {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو الذنوب السالفة، وقيد الخطاب معهم بما يدل على التبعيض دفعًا لتوهمهم أنهم إذا أجابوا داعي الله - تعالى - وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقال أبو السعود: أي: بعض ذنوبكم وهو ما كان في خالص حق الله تعالى؛ فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان.

{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مُعَدٍّ للكفرة، ويدل هذا على أن الجن مكلفون، واختلف في أن لهم أجرًا غير غفران الذنوب والإجارة من العذاب الأليم أولا، والأظهر أنهم في حكم بني آدم ثوابًا وعقابًا، قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقال الآخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى وغيرهم، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون لقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} (¬1) ولعل الاقتصار على ما ذكر من غفران الذنوب لهم والإجارة من العذاب الأليم؛ لأن المقام مقام إنذار، فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل: لا ثواب لمطيعهم إلا النجاة من النار قال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، فيقال لهم: كونوا ترابًا فيكونون ترابًا، وبه قال أبو حنيفة، وعلق القشيري على هذا الخلاف فقال: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء والعلم عند الله، على أن ما ذكر من الجزاء على الإيمان بتكفير الذنوب والإجارة من العذاب يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة. 32 - {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: إيجاب للإجابة بطريق الترهيب بعد إيجابها بطريق الترغيب، أي: ومن لا يؤمن بالله استجابة لداعيه، فإنه لا يفوت الله طلبًا، ولا يعجزه هربًا، لبالغ قدرته وعظيم سلطانه، وقد نجح هذا الأُسلوب في كثير منهم، فجاءوا إلى رسول الله يبتغون سبيل الهدى والرشاد، وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة، بمعنى أنه ليس بمعجز - له تعالى - بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها. {وليس له من دونه أولياء} إبراز لاستحالة نجاته بمعاونة أنصار يمنعونه من عذاب الله بعد بيان استحالة نجاته بنفسه، وعاد الضمير مفردًا في قوله - تعالى -: {وليس له} باعتبار لفظ {من} والمراد به الجمع، ويؤيد ذلك قراءة ابن عامر: {وليس لهم} بضمير الجمع {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك الموصوفون ¬

_ (¬1) سورة الرحمن الآية 74.

بعدم إجابة داعي الله في ضلال واضح بيِّنٍ لا يخفى على أحد كونه ضلالًا؛ لبعده عن الحق ومجافاته له، وجمع {أولئك} باعتبار معنى {من}. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} المفردات: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي: أو لم يعلموا؛ لأن المراد بالرؤية هنا العلم. {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي: لم يتعب به أصلًا. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} أي: يوقفون عليها ويمررون بها. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} أي: كأنهم حين يرونها لم يمكثوا في الدنيا إلا وقتًا يسيرًا من نهار لشدة العذاب وطول مدته. {بَلَاغٌ} أي: أن ما وعظوا به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول.

{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، أو عن الاتعاظ بما وعظوا به. التفسير 33 - {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: الهمزة في {أَوَلَمْ يَرَوْا} للإنكار، والمعنى: أغفل هؤلاء الكفار المنكرون للبعث ولم يعلموا علمًا جازمًا أن الله العظيم أبدع خلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال يحتذيه، ولم يلحقه بذلك تعب أصلًا، أو لم يعجز عنه - أو لم يرده - {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي: أنه - سبحانه - وقد أبدع خلق السموات والأرض في الابتداء قادر قدرة بالغة على أن يحيى الموتى بعد الفناء، ويعيدهم بعد تفرق الأشلاء. ودخلت الباء هنا في خبر أنَّ تأكيدًا للمعنى لاشتمال النفي في أول الآية على أن وما في حيزها كأنه قيل: أو ليس الله قادر على أن يحيى الموتى؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقريرًا للقدرة على وجه عام ليكون كالبرهان على المقصود، فكأنه قيل: إحياء الموتى شيء، وكل شيء مقدور له - تعالى - فينتج عنه أن إحياء الموتى مقدور له، ويلزمه أنه قادر على إحياء الموتى: تفسير الآلوسي. 34 - {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: أي: وذكِّر الكفار يوم يوقفون على النار فيقال لهم تقريعًا: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} إشارة إلى ما يشاهدونه من حيث هو من غير لفظ يدل عليه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، أو إشارة إلى العذاب الذي كانوا يكذبون به بدليل التصريح به بعد في قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} وفي ذلك توبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وكان جوابهم مؤكدًا بالقسم حيث قالوا: {بَلَى وَرَبِّنَا} كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقية ذلك، وأنى لهم ذلك؟! {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: فيقول المقرِّر: فذوقوا العذاب بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا.

ومعنى أمرهم بذوق العذاب: الاستهانة بهم والتهكم والتوبيخ لهم، وذوق العذاب تمثيل لإدراك آثاره الأليمة والإحساس بها إحساسًا لا شك فيه. 35 - {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}: أي: إذا كانت عاقبة أمر الكفرة إنزال العذاب بهم بسبب كفرهم فاصبر - أيها النبي - على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد بما يصيبك من أذى قومك الذي أنزلوه بك وبمن اتبعك. اصبر كما صبر أُولو العزم والثبات من الرسل المجتهدين في تبليغ الوحي فلم يصرفهم عنه صارف، ولم يعطفهم عنه عاطف، وإنك من جملتهم بل من عليتهم. فكل الرسل كانوا أُولى عزم كما قال ابن عباس، ولفظ (من) على هذا للتبيين، وقيل: هي لا تبعيض، والمراد من أُولي العزم: أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاغين فيها، وقد اختلفوا في تعيينهم على أقوال: أشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهم خمسة - قاله مجاهد - وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة طويلة، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق (¬1) صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد الولد، وذهاب البصر، ويوسف صبر على البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر، وهناك أقوال أخرى كثرة ذكرها القرطبي وغيره فمن أرادها فليرجع إليها. {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لا تدْعُ على كفار مكة بتعجيل العذاب لهم فإنه على شرف النزول بهم يوم القيامة وهو قريب لا شك فيه {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} (¬2). {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب الذي أمروا بذوقه لم يمكثوا في الدنيا حتى جاءهم هذا العذاب. أو في قبورهم حتى بعثوا للحساب - كما قال النقاش لم يمكثوا - إلا وقتًا يسيرًا ¬

_ (¬1) الأصح أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام -. (¬2) المعارج، الآيتان: 6، 7.

يقدر بساعة من نهار في جنب يوم القيامة لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته حتى أنساهم هولُ ذلك طول مكثهم في الدنيا أو في قبورهم، وهذا الذي وعظتم به {بلاغٌ} أي: كاف في الموعظة، أو هذا القرآن بلاغ للناس - قال الحسن - بدليل {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين الخارجين عن الاتعاظ بأمر الله، أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها.

سورة محمد

سورة محمد هذه السورة مدنية وعدد آياتها ثمان وثلاثون، ولها اسمان سميت بهما، أحدهما: سورة محمَّد، لقوله - تعالى - في أول السورة: {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} وثانيهما: القتال لقوله - تعالى - فيها: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} من الآية رقم 20. ومناسبتها للسورة التي قبلها أن حديثها عن الكفار الذي بدئت به متصل بما ختمت به سابقتها التي ذكرت حالهم يوم يعرضون على النار، بسبب كفرهم وإيذاء الرسول وإنكار البعث، وقررت مصيرهم بقول - تعالى -: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} حتى قال ابن كثير: لا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا كلامًا واحدًا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة آخذًا بعضها بعنق بعض. أهم أهداف السورة: 1 - بينت في بدايتها أن الله أبطل أعمال الكافرين لإعراضهم عن الحق واتباع الباطل، والوقوف في وجه الدعوة ليصدوا الناس عن دين الله، وأنه - سبحانه - كفّر عن المؤمنين سيئاتهم؛ لأنهم نصروا الحق وسلكوا طريقه واتبعوا ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - بينت - بإطناب - وجوب الدفاع عن الحق وما يتطلبه ذلك عند لقاء الكفار في بدء المعركة ونهايتها، وذكرت جزاء من قتل في سبيل الله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآيات: 4، 5، 6. 3 - وعدت المؤمنين المدافعين عن دين الله بالتأييد والنصر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ... } الآية، وأوضحت أن للكافرين الشقاء والخسار {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}؛ لأنهم كرهوا ما أنزل الله فأبطل أعمالهم. 4 - حذرت كفار مكة سوءَ المصير فضربت لهم الأمثال بالطغاة المتجبرين من الأمم السابقة، وبينت أن الله دمر عليهم بسبب إجرامهم وطغيانهم. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، ثم ذكرت جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعاقبة الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأشارت إلى أن سنة الله إهلاك القرى الظالمة التي هي أشد من قريتك التي أخرجتك {فلا ناصر لهم}. 5 - ذكرت أنهار الجنة التي ينعم بها المؤمنون، وشراب الكافرين الذي يقطع أمعاءهم. 6 - تحدثت بإسهاب عن المنافقين، وعما جبلوا عليه من الإنكار لما يسمعون من الرسول حيث كانوا يقولون لأولى العلم: ماذا قال آنفًا؟ تماديًا في الإعراض عن الحق وعلى جهة الاستهزاء، واستمرت آيات السورة تعدد مساوئهم مع تحذير المؤمنين أن يكونوا بينهم حتى لا يستمعوا لتثبيطهم، وهددتتم بهتك أستارهم بإظهار الرسول على أحقادهم التي يخفونها حيث كانوا يقولون ما لا يفعلون. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}. 7 - ثم ختمت السورة مؤكدة أن الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما وضح الحق وتبين الهدى لن يضروا الله شيئًا، وسيحبط أعمالهم، وأنهم إذا ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم، وذمَّت البخلاء في الإنفاق وبينت استغناء الحق، وفقر الخلق في قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ .. } الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} المفردات: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: أعرضوا عن الإِسلام وامتنعوا عن الدخول فيه، من: صد صدودًا، أو منعوا الناس عن الدخول فيه، من: صده صدًّا. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل كيدهم ومكرهم وتدبيرهم. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: أزالها ومحاها بالإيمان والعمل الصالح. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم في الدين والدنيا، والبال كالمصدر ولا يعرف منه فعل. {اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أي: الشرك أو الشيطان. {اتَّبَعُوا الْحَقَّ}: التوحيد والقرآن. التفسير 1 - {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: قال ابن عباس: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم اثنا عشر رجلًا من أهل الشرك منهم أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبيُّ وأُمية ابنا خلف كانوا يمنعون

الناس عن الإِسلام ويأمرونهم بالكفر، وقد أنفقوا في سبيل ذلك نفقة كثيرة، وقيل: المراد بهم أهل الكتاب الذين كفروا وصدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإِسلام، وقيل: هم أهل مكة الذين كفروا بتوحيد الله وصدوا عن الإِسلام من أراد الدخول فيه، والحق أن الآية عامة لكل من كفر وأعرض عن الإِسلام، أو كفر ومنع الناس من الدخول فيه (¬1) ويدخل في العموم كل ما نقل من أقوال دخول أوليا، هؤلاء أبطل الله أعمالهم وجعلها ضائعة ليس لها من يثيب عليها , ولا أثر لها أصلًا، بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك، وبطلانها بإبطال كيدهم ومكرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جعل الدائرة تدور عليهم، أو بإبطال ما عملوه في كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم من صلة الأرحام، وترى الأضياف، وحفظ الجوار وعمارة المسجد الحرام ونحوها من كل مكرمة لهم وفخر. 2 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}: قال ابن عباس فيما صح عنه: هم أهل المدينة الأنصار، وقيل: هم ناس من قريش، وقيل: من أهل الكتاب، والحق أن الآية عامة ويدخل فيها من ذكر دخولا أوليا، وتخصيص الإيمان بما نزل على محمَّد مع دخوله فيما قبله تنبيه على سمو مكانته بين الكتب السابقة التي جاء بها الرسل قبله. والمعنى: والذين آمنت قلوبهم، وانقادت جوارحهم فعملوا الأعمال الصالحة، وآمنوا بما أنزله الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم، أولئك المؤمنون الذين وصفوا بما ذكر {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} التي حدثت منهم قبل الإيمان فأزالها ولم يؤاخذهم بها. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين، والتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصر والتأييد على عدوهم حتى دانت لهم مشارق الأرض ومغاربها. ¬

_ (¬1) لأن (صد) تستعمل لازمة بمعنى أعرض، والمصدر: الصدود، ومتعدية بمعنى منع، والمصدر: الصد.

3 - {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ}: بدئت الآية بالإشارة إلى ما مر من إضلال أعمال الكافرين، وتكفير سيئات المؤمنين وإصلاح بالهم. والمعنى: أن إضلال أعمال الذين كفروا بسبب أنهم اتبعوا الباطل وهو الذي لا أصل له أو اتبعوا الباطل وهو الشيطان - قال مجاهد - ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصد عن سبيل الله، وأن رعاية المؤمنين بسبب أنهم اتبعوا الحق الذي لا محيد عنه كائن من ربهم، فآمنوا به وعملوا الأعمال الصالحة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: مثل هذا البيان الواضح يبين الله للناس أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم. ويجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل - سبحانه - اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، والإضلال مثلًا لخيبتهم , واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم.

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} المفردات: (فشدوا الوثاق) أي: فأحكموا قيد من أسرتموهم بعد إثخانهم بكثرة القتل وإضعافهم بالجراح. والوثاق - بالفتح والكسر -: اسم لما يوثق به كالقيد والحبل ونحوهما , والجمع وُثُق. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} المن: إطلاق الأسير بغير عوض، والفداء: إطلاقه بعوض. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح، والكُراع (¬1) وغير ذلك، وإسناد الوضع للحرب وهو لأهلها على سبيل المجاز. {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: لانتقم منهم فأهلكهم بغير الحرب كالزلزلة. {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: أمركم بالحرب ليختبر بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين، ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقًا لهؤلاء الكافرين. ¬

_ (¬1) الكراع - بضم الكاف -: اسم يجمع الخيل: مختار الصحاح.

{فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: فلن يضيعها وإنما يجازيهم بها أحسن الجزاء. {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: يهدى أهل الجنة إلى مساكنهم فلا يخطئونها، وذلك إلهامٌ منه تعالى. التفسير 4 - {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}: بدئت الآية بالفاء لترتيب ما في حيزها من الأمر بجهاد الكافرين على ما قبلها من ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفوزهم، مما يقتضي أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام. والمراد بالذين كفروا - كما قال ابن عباس. -: المشركون عبدة الأوثان، وقيل: كل من خالف دين الإِسلام من مشرك أو كتابى إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردى، واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه. وهؤلاء الكافرون أنتم مأمورون بضرب رقابهم في الحرب، وهو كناية عن قتلهم في أي موضع، وعبر به عنه لتصوير القتل بأبشع صورة وهو حز العنق، وفصل العضو الذي هو رأس البدن وأشرف أعضائه، ومجمع حواسه، وفي بقاء الجسد ملقى بدون رأسه شناعة ما بعدها شناعة. {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} بأن أكثرتم فيهم القتل، وأخذتم من لم يقتل منهم أسرى بعد أن أوهنتموهم بالجراح. {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي: فأحكموا قيدهم حتى لا يفلتوا منكم، وعندما يتم التحفظ عليهم تكون عاقبة أمرهم التخيير فيهم. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وظاهر الآية على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم -: امتناع القتل بعد الأسر، وبه قال الحسن، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأُسارى فدفع إلى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - رجلًا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا، إنما قال

الله - تعالى -: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ذكر ذلك الآلوسي. ويقول القرطبي: وليس في تفسير المن والفداء منع من غيره مع الأسرى، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين الرسول حكم الرجم، ولهذا اختلف العلماء في حكم الأسارى، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل - صبرا - عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث؛ لأن في قتلهم حسمًا لمادة فسادهم بالكلية، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فذلك من حق الإمام، ما لم يتوقع شرًّا منه، وإن شاء الإِمام استرقهم؛ لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإِسلام، وإن شاء تركهم أهل ذمة كما فعل ذلك عمر مع أهل السواد إلاَّ أسارى مشركى العرب والمرتدين فإنه لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم , والحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وعن سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬1) فإذا وقع بعد ذلك أسر فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل وغيره، وتفصيل هذه الأحكام تكفل بها الفقهاء. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره مما لا تقوم الحرب إلاَّ به، وإسناد وضع الأوزار إليها - وهو لأهلها - إسناد مجازى، والمراد من هذا الرأى أن هؤلا الكافرين يصلون حتى تنتهى الحرب، فيكون بعدها إما الأسر وإما الفداء، وتستمر الأحكام السابقة جارية فيهم إلى أن يظهر الإِسلام على الدين كله، ولا يبقى للمشركين شوكة بهزيمتهم أو بالموادعة وإلقاء السلاح، أو حتى يترك المشركون شركم ومعاصيهم ويسلموا. (ذلك) أي: ذلك حكم الكفار، أو: افعلوا ذلك، وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام. {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} بغير قتال، بأن يهلكهم بخسف ونحوه كرجفة وغرق وريح صرصر عاتية، وقال ابن عباس: ولو يشاء لأهلكهم بجند من الملائكة. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال من الآية 67.

{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم، فينالوا الثواب العظيم، ويُخلَّد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الكبير، وليبلو الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم - عز وجل - ببعض انتقامه، فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه. {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: والذين استشهدوا في قتال المشركين، فلن يضيع الله ثواب أعمالهم، وهم عنده - عَزَّ وَجَلَّ - أحياء ينعمون برزق دائم، ونعيم مقيم، فرحين بما آتاهم ربهم من فضله. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعْلُ هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون: يوم أحد بيوم بدر والحرب سجال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: لا سواء؛ قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون. فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} المراد: هداية هؤلاء الشهداء إلى الجنة بإرشادهم إلى مسالكها والطرق المفضية إليها ليصلوا إلى ثواب أعمالهم من النعيم الخالد والفوز الدائم والفضل العظيم، أو سيحقق الهداية لمن بقى منهم بصونهم عمَّا يورث الضلال ويحبط الأعمال، وكما أنه - سبحانه وتعالى - تكفل بأنه سيهديهم فقد تكفل كذلك بأن يصلح بالهم، أي: شأنهم، قال الطبرسى: المراد إصلاح ذلك في العقبى. ولا تكرار لذلك مع قوله - سبحانه -: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} لأن المراد به هناك إصلاح شأنهم في الدين والدنيا، فاختلف المراد. 6 - {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}: أي: إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم التي حددت لكم، وهديتم إليها، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا، وفي الحديث: "لأحَدُكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا" وذلك إلهامٌ منه - عَزَّ وَجَلَّ - أو طيبها لهم بأنواع الملاذ

- كما قال ابن عباس - من العَرْف: وهو الرائحة الطيبة، ومنه: طعام معرف، أي: مطيب، وعن الجبائى أن التعريف في الدنيا، وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه - تعالى - لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها، فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها. وقال الحسن: وصف الله - تعالى - لهم الجنة في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} المفردات: {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}: عند القتال، أو على حجة الإسلام، أو على الصراط. {فَتَعْسًا لَهُمْ} أي: هلاكا، والتعس كما يطلق على الهلاك يطلق على العثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط كما في القاموس. والفعل من باب (منع)، وجوز قوم تَعِسَ - بكسر العين - من باب فَرِح، ومنه حديث أبي هريرة: "تعس عبد الدينار والدرهم". {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلها؛ لأنها كانت للشيطان وفي سبيله. {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي: أهدرها وكانت في صور الخيرات كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القُرب. التفسير 7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}: أي: إن تنصروا دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحمل مشاق الدعوة وما تتطلبه من بذل وتضحية ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم؛ إذ هو- سبحانه - المعين الناصر، وغيره هو المُعَان

المنصور، ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، ويمدكم دائمًا بالتمسك بالطاعة والتوفيق. 8 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}: دعاء على الذين كفروا باللهِ وأعرضوا عن دينه، أي: فهلاكًا لهم وشقاء، وهو منصوب بفعل من لفظه محذوف وجوبا سماعا، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردى في النار، وقيل غير ذلك. {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} لأنها كانت للشيطان الذي زين لهم الضلال، وحبب إليهم الفسوق والعصيان وبذلك استحبوا العمى على الهدى. 9 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}: أي: ما ذكر من التعس وضلال الأعمال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من القرآن الكريم لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام التي تخالف ما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، فأهدر الله لأجل ذلك أعمالهم التي كانت موطن فخرهم من صور الخيرات كعمارة المسجد الحرام وقِرَى الأضياف، وأصناف القرب الأُخرى، إذ الإيمان شرط للإثابة على الأعمال فلا يقبل الله العمل إلا من مؤمن، وقيل: أحبط أعمالهم، أي: عبادة الأصنام. وفي الآية تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن الكريم للتعس والإضلال.

* {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)} المفردات: (عاقبة): آخرة، وعاقبة كل شيء: آخره. (دمر الله عليهم): أهلك الله عليهم ما يختص بهم، يقال: دمرهم، أي: أهلكهم، ودمر عليهم, أي: أهلك عليهم ما يختص بهم وهو أبلغ. (مولى): ناصر. (مثوى): منزل ودار إقامة.

التفسير 10 - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}: بينت الآيات السابقة في مستهل هذه السورة شيئًا من أحوال الكافرين، والمؤمنين، ووعدت المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض، والتثبيت على محجة الإسلام، إذا نصروا الله ورسوله ونَعَتْ على الكافرين كفرهم وما يجرى عليهم من التعس والخسران وبطلان الأعمال، ثم جاءت هذه الآية التي تدعو إلى النظر في عاقبة الأمم السابقة التي سلكت مسالك الكفر فوقعت في متاهات الضلال. والمعنى: أقَعَدَ هؤلاء الكفار فلم يسيروا في نواحى الأرض، ولم يضربوا في مناكبها فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم على مثل حالهم من الكفر والعناد، وما نزل بهم من عذاب، وحلَّ بديارهم من تدمير وخراب؟! أهلكهم الله ودمر عليهم كل ما لهم من أموال ومنازل. ولكم - أيها الكافررن - أمثال ما لهؤلاء السابقين فإنكم جميعا في الكفر سواء. ووضع الظاهر موضع الضمير لإبراز الجزاء مع الإشارة إلى استحقاقه بذكر سببه. 11 - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}: أي: ذلك الجزاء الذي مضى به قضاء الله، وجرت عليه سنته من تدمير الكافرين، واستئصال المفسدين مع نصر الموحدين والتمكين للطائعين - ذلك كله - جار على سنة أنه - تعالى - ولى المؤمنين يهديهم وينصرهم، ويصلح حالهم، وأن الكافرين ضائعون، لا ناصر ينصرهم، ولا معين يعينهم أو يدفع عنهم. ولا يخالف هذا قوله - تعالى -: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} (¬1) فإن المولى فيه بمعنى المالك، وفي الآية التي نحن بصددها بمعنى الناصر. ¬

_ (¬1) سورة يونس من الآية 30.

سأل أبو سفيان يوم أُحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما - فلم يجب، قال: أمَّا هؤلاء فهلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله - تعالى - ما يسوؤك، وإن الذين عددت أحياء، فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مُثْلَةً (¬1) لم آمر بها ولم أنْهَ عنها، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل - اعل هبل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ. ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. 12 - {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}: هذه الآية بيان لثمرة ولايته - تعالى - للمؤمنين الأخروية بعد بيان ثمرتها في الدنيا بالنصر، والتمكين في الأرض. والمعنى: إن الله - تعالى - يتفضل على عباده الذين آمنوا به والتزموا طاعته بفعل المأمورات وترك المنهيات - يتفضل عليهم - في الآخرة فيدخلهم جنات تزدهى بألوان الجمال من أشجار تجرى من تحتها الأنهار، ومناظر تعجب الأبصار، زاخرة بأطايب الخيرات، والثمار، وأصناف من الفواكه كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة. والذين كفروا وركنوا إلى الدنيا، وغرتهم زخارفها، وجرفهم متاعها فاندفعوا وراء شهواتهم يأكلون كما تأكل الأنعام نهِمِين غافلين، لا يهمهم إلا إشباع بطونهم، وإرضاء غرائزهم، لا يفكرون في حساب، ولا يتدبرون في عاقبة هواهم - هؤلاء في الآخرة - النار مثواهم ودار إقامتهم، يطعمون زقُّومها، ويشربون حميمها، ويصطلون بلهيبها جزاء غفلتهم في دنياهم، وبعدهم عن سواء السبيل. ¬

_ (¬1) المثلة: التمثيل بالقتيل بنحو قطع اليد أو الأنف بعد القتل.

13 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ}: الخطاب في هذه الآية إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تسلية له وتهوينا عليه أمر هجرته من بلدته، وتهديدا للمشركين بالهلاك والدمار كما هلك من كانوا قبلهم من الطغاة المتجبرين الذين كانوا أشد منهم بطشا، وأعظم قوة ومنعة فأقفرت منهم الدنيا، وخلت الديار. والمعنى: وكم من قرية كان أهلها أشد قوة، وأعتى بطشا، وأعز سلطانا ومنعة من أهل قريتك: مكة التي أخرجك منها أهلها بتتابع أذاهم، وتلاحق كيدهم، وسوء مكرهم، وتدبيرهم، فكانت نهاية أمرهم الهلاك بأنواع العذاب، فلم يكن لهم دافع يدفع عنهم، ولا ناصر ينصرهم، فهؤلاء المشركون من أهل مكة لهم نهاية كنهايتهم إن استمروا على كفرهم. أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مودويه، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: "أنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك لم أخرج منك". 14 - {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}: هذه الآية تستحث العقل وتستنهض الفكر إلى ضرورة النظر، والتمييز بين الحق، والباطل، والصحيح والفاسد، والضار والنافع، والتسامى عن الانقياد الأعمى للآباء، واتباع الشهوات, بعد بيان نعيم المؤمنين، وشقاء الكافرين. والمعنى: أيستقيم في العقل السليم، والفكر القويم أن يستوى من كان على حجة ظاهرة وبرهان نيّر من الله مالك أمره ومربِّيه، فأيده بالقرآن وسائر المعجزات والحجج العقلية - أفمن كان كذلك - يماثل من زيّن له الشيطان سوء عمله، وحسن له سبل غوايته، فأمعن في الشرك الذي هو أقبح القبائح، وانغمس في المعاصي والنكرات، وجرى مع الغواة والمفسدين فاتبعوا أهواءَهم الفاسدة، ونزواتهم الطائشة، وانهمكوا في الملذات، وذابوا في الضلالات؟!! وجمع الضمير في قوله: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} مراعاة لمعنى (مَنْ) وأفرد مع قوله: (أفمن كان) مراعاة للفظها.

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} المفردات: (مثل) المثل: الوصف العجيب الشأن. (آسن): متغير الطعم والرائحة. (لم يتغير طعمه): لم يصر فيه حموضة كألبان الدنيا ولا ما يكره من الطعوم. (مصفى): خال من الشمع ومن جميع العلائق والمخلفات. (حميمًا): حارا بالغ الحرارة. (أمعاءهم): جمع مِعًى. وهي ما ينتهى إليها الطعام في البطن. التفسير 15 - {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ... } الآية: هذه الآية كلام مستأنف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة للمؤمنين في قوله - تعالى - آنفا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ... } وتصوير نعيمها، وتعداد خيراتها، ومقارنة نعيم أهلها بعذاب أهل الجحيم.

والمعنى: مثل الجنة الموعودة للمؤمنين، وشأنها العجيب ما يتلى عليكم من جلائل النعم، في هذه الجنة أنهار من الماء النقى المتجدد الذي لم يداخله كدر، ولم يلحقه تغير في لون أو طعم لطول مكثه، وأنهار من لبن لم تطرأ عليه حموضة ولم يستكره له طعم، كما يحدث في ألبان الدنيا، وأنهار من خمر لذيذ الطعم مستساغ المذاق ليس فيها كراهية ريح، ولا غائلة سكر، ولا يجد شاربها إلاَّ اللذة والمتعة، وأنهار من عسل خالص صرف مصفى من الشمع، ومن جميع الشوائب وفضلات النحل، وفيها غير هذا من كل الثمرات، وأصناف المطعومات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكل ذلك من الوفرة والكثرة بحيث لا يخاف منه حرمان، ولا إقلال. ولهم قبل هذا مغفرة واسعة من ربهم تمحو ذنوبهم، وترفع درجاتهم. وقوله تعالى: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} معناه: أمَثَل الجنة التي أعدت للمتقين وعلمتم أوصافها كمثل جزاء من هو خالد في النار متهاوٍ في دركاتها، شرابُهم فيها الحميم الشديد الحرارة، فإذا شربوا منه قطع أمعاءهم؟! والتعبير عن فريق المؤمنين بالمتقين يؤذن بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات عن آخرها ليتقى عذاب الله على تركها. كما أن التعبير عن فريق الكافرين بمن هو خالد في النار، لإبراز مهانتهم بسوء مآلهم، وتأبيد عذابهم.

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} المفردات: {لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}: الصحابة الذين وعوا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (آنفا) أي: سابقا، وهو اسم للساعة التي قبل الساعة التي أنت فيها، وهو اسم فاعل على غير قياس؛ لأنه لم يسمع له فعل ثلاثى. {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: طمس الله على قلوبهم وختم عليها. (بغتة): فجأة. (أشراطها): علاماتها. {مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: مكان تقلبكم في الدنيا، وموطن إقامتكم في الآخرة. التفسير 16 - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ... } الآية: تحكى هذه الآية صورة من صور بعض المشركين، ونموذجًا من سلوكهم في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين يجلسون إليه، ويتلقون عنه، ثم تمضى الآيات بعدها في مقارنة

بين الذين طبع الله على قلوبهم، وبين المهديين من المؤمنين لتُبرز مقدار سفه المشركين، ورشد المؤمنين. والمعنى: ومن هؤلاء الكافرين المتورطين في نعيم الدنيا بغير اعتبار ولا تدبر للعاقبة - من هؤلاء - من يحضر إلى مجلسك ليستمع ما تقرؤه على أصحابك من قرآن، وما توجههم إليه من هَدْى، حتى إذا خرجوا من عندك وفارقوا المجلس قالوا لمن حضرك وكان معهم من الصحابة رضوان الله عليهم - قالوا - فور خروجهم: ماذا قال محمَّد سالفا في المجلس الذي كنا فيه؟ يقولون ذلك سخرية واستهزاء كأنَّهم لم يفهموا ما قال الرسول، أو كأنه كلام لا ينهض إلى درجة الفهم، أو لا ينبغي سماعه فضلًا عن فهمه - أولئك القائلون هذا القول - هم الذين طمس الله على قلوبهم، وأظلم بصيرتهم بسوء اختيارهم، واتبعوا أهواءهم الفاسدة، ونزعاتهم الطائشة فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه. 17 - {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}: أي: الذين طلبوا الهداية وحرصوا عليها حتى نالوها، وهداهم الله إلى طريق الحق وثبتهم عليها - هؤلاء - زادهم الله هدى بالتوفيق والفهم وآتاهم تقواهم، أي: أعانهم على العمل الصالح الذي يقيهم عذاب الله، ويدنيهم من ثوابه: وقوله - تعالى -: (وآتاهم تقواهم) مقابل لقوله - تعالى - في شأن الكافرين: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} ومن بديع التنسيق وإحكام الإعجاز أن أغلب الآيات في هذه السورة جار على هذا التقابل؛ كما في قوله - تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} ومن ذلك أيضًا: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}. مقابل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا}. 18 - {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}: أي: فهل ينتظر هؤلاء الغافلون اللاهون إلا القيامة تباغتهم، وتأتيهم فجأة وهم في غفلة

لا يتذكرون بذكر أحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأهوال فقد جاء أشراطها، وظهرت أماراتها فلم يرفعوا لها رأسًا , ولم تنبه فيهم غافلا، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها مع مشاهدتهم لها كانشقاق القمر، وغير ذلك من الأشراط التي أهمها بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولهذا جاء في أسمائه أنه نبيّ التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وقال البخاري: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا أبو رجاء حدثنا سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها: "بعثت أنا والساعة كهاتين". وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} معناه: فكيف للكافرين المنكرين الانتفاع بالتذكير إذا جاءتهم القيامة، وأى سبيل لهم إليه؟ وهر حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفعه حينئذ كقوله - تعالى -: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}. (¬1) 19 - {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}: قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أمر مسبب عن مجموع القصة من مفتتح السورة حتى هنا، على معنى: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، فهو من موجبات السعادة ولا يهمك كفر هؤلاء بوحدانيته، فقلوب العباد ونواصيهم بيده، ومصادر الأمور ومواردها بأمره، يضل من يشاء ويهدى من يشاء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، واستغفر لذنبك، وتضرع إلى الله أن يغفر لك في كل حال ما هو دونه، فقد ذكر العلماء أن لنبينا - عليه الصلاة والسلام - في كل لحظة عروجًا إلى مقام أعلى مما كان فيه، فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبًا بالنسبة لما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إنه ليران على قلبى". ¬

_ (¬1) سورة الفجر، من الآية: 23.

ويجوز أن يكرن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - من قبيل ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل مما يمكن أن يكون بالنسبة لغيره من أجلّ الحسنات، من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. ومهما يكن أو يُقَلْ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤدى لله جميع الطاعات، ويتضرع برفع الدعوات أداء لشكر آلائه، ورفعًا لدرجاته، وإرشادًا للمؤمنين. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}: والله يعلم أطواركم في الدنيا ومراحلكم فيها، فإنها أطوار ومراحل لابد من قطعها لا محالة، يستقيم فيها من يستقيم، ويضل من يضل، ويعلم مثواكم ومستقركم في الآخرة، أهل النعيم في دار النعيم، وأهل العذاب في الجحيم، فإن الآخرة هي العقبى، وهي منازلكم، ومواطن إقامتكم فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به في المقامين، فإنه زادكم عند من لا تخفى عليه أحوالكم. وخص المتقلب في الدنيا، والمثوى في الآخرة، لأن الدنيا دار حركة دائبة، وتقلب مختلف لطلب الرزق وغيره، أما الآخرة فدار سكون واستقرار، لا تقلب فيها ولا مدار. فالرزق فيها موفور والنعيم مقيم.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} المفردات: (سورة): طائفة من آيات القرآن تأذن بالجهاد. (محكمة): مبينة قاطعة لا تأول فيها. (مرض): ضعف إيمان ونفاق. (المغشى عليه من الموت): من حضرته أعراض الموت وغشيته. (أولى لهم): هلاك وعذاب لهم. (عزم الأمر): جد الأمر. (عسيتم): قاربتم. (أقفالها): جمع قفل: وهو ما يحكم به الغلق.

التفسير 20 - {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}: عرضت الآيات السابقة شيئًا من أحوال الكافرين، واختصت منهم طائفة تسمع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه ثم تنكر ما سمعت فور خروجها من المجلس، وتتساءل عنه سخرية واستهزاء، وإمعانًا في العناد، ثم جاءت هذه الآيات بعدها على سنن هذا النسق تتناول الذين اهتدوا وبارك الله هداهم، وآتاهم تقواهم، واختصت منهم جماعة يتعجلون تنزيل آيات من القرآن قاطعة في الإذن بالجهاد ليضربوا على أيدى المشركين، ويردوا كيدهم، وينهنهوا (¬1) جبروتهم، فإذا أنزلت هذه الآيات أشفق من نزولها مرضى القلوب وضعاف الإيمان، وشملهم الضجر، وتغشَّاهم الخوف حتى أفزع قلوبهم، ونظروا إلى الرسول نظر المغشى عليه من الموت. وفسر بعض المفسرين (الذين في قلوبهم مرض) بالمناففين، والسورة مكية والمجتع المكي كان صريحًا لا نفاق فيه ولا ضعف إيمان، اللهم إلا أن يكون ذلك مما سبق حُكْمَهُ نزولُهُ، أو تكون الآية مدنية. والمعنى: ويقول الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله وأجابوا دعوته - يقولون - حرصا على الجهاد، وتحمسا لنصرة الدعوة، وتوعدا للمشركين: هلَّا أنزل الله طائفة من القرآن بينة قاطعة بمشروعية الجهاد، والإذن به حتى ننتصر لدعوتنا، ونرد كيد أعدائنا، فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها، وذكر فيها الإذن بالجهاد، والأمر به صراحة بحيث لا يحتمل التأويل بوجه آخر - وكل آيات الجهاد محكمة كما قال قتادة - إذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض من ضعاف الإيمان والمنافقين خائفين مشفقين، ينظرون - إليك - أيها الرسول الكريم - نظر من حضرته أعراض الموت، وغشيته أماراته فشخص بصره جبنا وهلعا، وقوله - تعالى -: {فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد ووعيد ¬

_ (¬1) أي: يذهبوه ويكفوه.

بمعنى فأهلكهم الله - تعالى - هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، أو الكلام على تقدير مبتدأ وأولى خبره، أي: فأولى لهم الهلاك. 21 - {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}: كلام مستأنف، أي: أمرهم طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لهم، ويجوز أن يكون حكاية لقولهم؛ ويؤيده قراءة أبي: (يقولون طاعة) أي: أمرنا طاعة، وقولنا معروف {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: إذا جدَّ الأمر بالقتال وأخذ طريق التنفيذ خالفوا وتخلفوا، أو ناقضوا، أو كرهوا، فلو صدقوا الله في الحرص على الجهاد، ورجاء مشروعيته لكان الصدق خيرا لهم مما صاروا إليه وظهر عليهم، وقيل: لو صدقو الله في الإيمان, وتأكد في يقينهم، ويجوز أن يكون جواب "إذا" جملة {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} على طريقة قولك: إذا حضرنى طعام فلو جئتنى لأطعمتك. 22 - {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}: الخطاب للذين في قلوبهم مرض، والمعنى: فهل عسيتم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تعودوا إلى جاهليتكم الأولى من الإفساد في الأرض وقتل بعضكم بعضًا، وتقطيع الأرحام بينكم تناصرًا على الباطل، وتهالكا على الدنيا، فإنه ضعفكم في الدين، والحرص على الدنيا جعلكم حين أمرتم بالجهاد الذي هو السبيل إلى إحراز كل خير وصلاح، ودفع كل شر وبلاءٍ جعلكم حين أمرتم به تشفقون على أنفسكم، وتنقضون عهدكم، ومن كان كذلك لا يبعد عنه التولى عن الإيمان والعودة إلى الشرك لكي تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، كعادتكم في الجاهلية. ويصح أن يكون المعنى: فهل عسيتم إن توليتم أُمور الناس وتأمَّرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض، وترجعوا إلى التناهب والقتل وقطع الأرحام ووأد البنات: كما كنتم في الجاهلية. وتخصيص الأرحام بالذكر تأكيد لحقها، وذم لما يشيع بين كثير من الناس من جفائها، وتحذير منه، وقد قال - تعالى -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}.

23 - {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}: الإشارة في {أُولَئِكَ} للمخاطبين في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} بأسلوب الالتفات تحقيرًا لشأنهم، وحكاية لفظائع أحوالهم. والمعنى: أولئك المذكورون آنفًا لعنهم الله فطردهم من رحمته، وأبعدهم عن مغفرته فأذهب أسماعهم لتصامِّهم عن سماع الحق، والإذعان له، وأعمى أبصارهم لتعاميهم عن مشاهدة الآيات الكثيرة الماثلة في أنفسهم، وفي الآفاق المنصوبة حولهم، فعلوا كل ذلك باختيارهم فتركهم الله ولم يُنقذهم، وأبقاهم في صممهم عن آيات الحق، وعماهم عن دلائله. 24 - {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}: أي: أغفل هؤلاء، وضلوا فلا يتدبرون القرآن، ولا يراجعون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يُخلصوا في إيمانهم، ويمتثلوا أمر الله بالجهاد كما امتثله المؤمنون، إنهم لم يتدبروا ولم يتفكروا، بل قلوبهم مقفلة محكمة الغلق بالأقفال والمغاليق، فلا يكاد يصل إليها ذكر، ولا يتحرك فيها تأمل أو فكر فتحولوا عن التفكر إلى الطمس والتحجر. وتنكير القلوب: إما لتهويل حالها بإبهام أمرها في القساوة والجهالة فهي قلوب منكرة لا يُعْرَف مثل حالها , ولا يُقادر قدرها في الغفلة والجمود، وإما لأن المراد منها قلوب بعضهم، فالتنكير للتقليل. وإضافة الأقفال إلى القلوب للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لحالها من القسوة والفظاظة غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة. واستدل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالآية على منع بيع الجارية إذا ولدت، أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحًا، فسأل، فقيل: جارية من قريش تباع أمها، فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار، فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله - تعالى - وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:

فهل تعلمون أن كان مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - القطيعة؟ قالوا: لا، قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أُم امرىء فيكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك، فكتب في الآفاق: أن لا تباع أمُّ حُرٍّ، فإنها قطيعة رحم وإنه لا يحل. ويلاحظ أن الجارية تعتق بعد وفاة سيدها من أجل ولدها منه ذكرا كان أو أنثى، فلا يحل له بيعها ويحرمها من حريتها المرتقبة. {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} المفردات: {ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ}: رجعوا إلي ما كانوا عليه من الكفر. {سَوَّلَ لَهُمْ}: سهل لهم وحسن.

{وَأَمْلَى لَهُمْ}: أمهلهم ومد في الأمانى. {أَسْخَطَ اللَّهَ}: أوجب غضبه وعقابه. {فَأَحْبَطَ}: أبطل وأذهب. {أَضْغَانَهُمْ}: أحقادهم جمع ضغن. {بِسِيمَاهُمْ}: بعلامتهم المميزة لهم. {لَحْنِ الْقَوْلِ}: فحواه ومعاريضه من لحنت له، بمعنى قلت له قولًا فهمه عني وخفى على غيره، وفيه: لحِن - بالكسر - من باب طرب بمعى فطن، ولحنَ - بالفتح - من باب نفع بمعنى أخطأ. التفسير 25 - {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}: هذه الآيات امتداد للحديث عن مرضى القلوب ضعاف الإيمان, تكشف دخائلهم، وتفضح سرائرهم، وتهددهم بإظهار أمرهم، وسوء عاقبتهم، قال الآلوسي: وفي إرشاد العقل السليم: هم المنافقون الذين وصفوا فيما سبق بمرضى القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به - عليه الصلاة والسلام - وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا قد أسلموا ثم نافقت قلوبهم، وما قاله ابن عباس لا يخالف ما جاء في إرشاد العقل السليم الذي تقدم ذكره، فهم جميعًا ارتدوا عن الإسلام، وهم جميعًا مرضى القلوب الذين سبق وصفهم بقبائح الأعمال، وقيل: هم اليهود، وقيل: هم أهل الكتاب جميعًا. والمعنى: إن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وارتكاب المعاصي، وإشاعة الفساد من بعد ما تبين لهم الهدى، واتضح أمامهم السبيل والقصد، والسلوك السوى بالدلائل الباهرة، والمعجزات القاطعة القاهرة - إنهم - وقعوا في حبائل الشيطان الذي سهل لهم سبل الغواية، ويسر أسباب الكفر، وأمهلهم في هذا السبيل، ومد لهم فيه ما شاء من إضلال وإغواء، وما شاءوا من قبائح وجوامح أهواء.

26 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}: المعنى: ذلك الارتداد إلى الكفر، والنكسة إلى الجاهلية بسبب أن هؤلاء المرتدين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله من القرآن على سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حقدا وحسدا مع علمهم أنه من عند الله، وطمعا في إنزاله عليهم، وهم يهود بني قريظة والنضير الذين قال لهم المرتدون: سنطيعكم في بعض الأمر، أي: في بعض أُموركم وأحوالكم, وهو ما حكى عنهم في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)} (¬1) أي: سنطيعكم في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والموافقة على الخروج معهم إذا خرجوا، والتناصر مع اليهود، وغير ذلك مما بيَّتوه سرًّا، ودبروه خفية ففضحه الله، والله يعلم إسرارهم وإخفاءهم فيكشفه في الدنيا، ويعذبهم عليه في الآخرة. 27 - {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}: المعنى: هؤلاء المرتدون يفعلون ما يفعلون، ويحتالون بحيلهم الخسيسة في الدنيا، فكيف يكون حالهم، وأي شيء يفعلون إذا حضرهم الموت، وغلَّلتهم أعراضه وغشيتهم أهواله، فلم تبق لهم حيلة، ولم يستطيعوا فكاكًا أو وسيلة، وتتوفاهم الملائكة على أهول الوجوه وأفظع الحالات، يضربون وجوههم احتقارًا وأدبارهم امتهانًا واستصغارًا. وضرب الوجوه والأدبار زيادة في المهانة والإذلال، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره". 28 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}: ما تزال الآيات تمضي في أحوال المرتدين وتكشف سلوكهم. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 11.

والمعنى: ذلك الذي يجرى عليهم من المهانة عند الموت من ضرب وجوههم وأدبارهم إذلالا واستهزاء بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله واستوجب غضبه من الكفر وارتكاب المعاصي وكرهوا ما يرضاه - جلّ شأنه - من الإيمان وعمل الطاعات، وما يقتضي مغفرته ورضوانه فأحبط الله أعمالهم، أي: أبطل ثواب الأعمال الطيبة التي عملوها حال إيمانهم. وفي تعليل ضرب الوجوه والأدبار باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه ما يشير إلى أن اتباع ما أسخط الله يقتضى التوجه والتحول فيناسبه ضرب الوجه، وكراهة رضوان الله يقتضي الإعراض والتولى فيناسبه ضرب الأدبار. 29 - 30 - {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)}: المعنى: بل أحَسِبَ الذين في قلوبهم مرض، فأخفوا كفرهم وأسروا ضغنهم وعداوتهم أنه لن يخرج الله أحقادهم فيظلوا مستورين مجهولين لا يفضح الله أحقادهم، ولا يعلن أضغانهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين؟ كلا، فهو حسبان باطل، وظن خاطئ، ولو نشاء إعلامك لأعلمناك بهم، ولعرفناكهم بدلائل تعرفهم بها بأعيانهم فلعرفتهم بسيماهم وبعلاماتهم التي نسمهم بها , والله لتعرفنَّهم في فحوى القول ومعاريضه، دون حاجة إلى تعريفك بسيماهم والعلامات المميزة لهم، والله يعلم أسراركم وخفاياكم فيجازيكم - أيها المنافقون - عليها لا يخفى على الله منها شيء. والالتفات إلى نون العظمة في قوله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ} لإبراز العناية بالإراءة، وعن أنس - رضى الله عنه -: "ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية شيء من المنافقين".

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} المفردات: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}: لنختبرنكم. {شَاقُّوا الرَّسُولَ}: عادوه وعاندوه. {سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}: سيبطل أعمالهم ويمحو ثوابها. التفسير 31 - {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}: هذه الآية الكريمة بمثابة التذييل الشامل للآيات السابقة التي تناولت طوائف المؤمنين، والكافرين، والمنافقين الذين في قلوبهم مرض، توضح أن حكمة الله - تعالى - تقتضى أن يعامل خلقه وعبيده معامله الممتحن لهم، المختبر لأحوالهم لتنكشف حقائقهم، ويظهر - واقعًا وعملًا - ما يعلمه الله أزلا. فيجرى عليهم جزاؤه على مقدار ما يكون من أحوالهم وما يجنيه عليهم اختيارهم السيئ في سلوكم وأعمالهم. والمعنى: ولنعاملنكم معاملة الممتحن لكم، المتطلب معرفة أخباركم وأسراركم حتى نعلم من واقع أعمالكم، ونعرف من ظواهر أحوالكم، ومشاهد سلوككم فيما فرض عليكم من

التكاليف والأوامر والنواهى، التي من جملتها الجهاد، ونعلم الصابرين على مشاقها، الصادقين في أدائها، وتظهر أحوالكم وأخباركم فيترتب على هذا جزاؤكم العادل الذي تشهد به أعمالكم، وتصدقه جوارحكم، يوم تشهد عليكم ألسنتكم وأيديكم وأرجلكم بما كنتم تعملون. 32 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}: هذه الآية وعيد لمن يكشف الامتحان حقيقة كفره، ويفضح قبح طويته. والمعنى: إن الذين كفروا فأنكروا وحدانية الله، وعارضوا رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصدوا الناس عن اتباعه وشاقوه، وبالغوا في عداوته وعناده حتى صاروا في شق غير شقه من بعد ما تبين لهم الهدى في معجزاته الحاسمة في صدقه، القاطعة برسالته، ومن بعد ما علموا من نعوته - صلى الله عليه وسلم - التي صرَّحت بها كتبهم، وتحدثوا بها هم أنفسهم، إن هؤلاء أيًّا كانوا ومهما كانوا لن يضروا الله بكفرهم ومشاقتهم وعنادهم شيئًا من الأشياء، أو شيئا من الضرر، والله بالغ أمره لأنه هو القادر الغالب، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه، ومشاقة رسوله، ويضيع ثواب ما عسى أن يكونوا عملوه من صالحات في دنياهم. 33 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}: هذه الآية من جملة ثمرة الابتلاء وغايته، فكما هددت الآية قبلها الكافرين وأوعدتهم جاءت هذه الآية تنبه المؤمنين إلى مداومة الطاعات والحرص على سلامتها. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا في إيمانهم وتمحيص عقيدتهم، وسلكوا مسالك الطاعة، داوموا على هذه الأعمال الصالحة واحرصوا على سلامتها لتنالوا ثوابها، فلا تُلْبِسُوها غشًّا ولا نفاقًا، ولا تخلطوها بِعُجْب أو رياء، ولا تذهبوا بها مذهبا يأكل الحسنات من منٍّ أو أذى. قيل: إن ناسًا من بني أسد قد أسلموا، وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد آثرناك، وجئناك بنفوسنا وأهلينا. كأنهم يمنُّون، فنزلت.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} المفردات: {فَلَا تَهِنُوا}: فلا تضعفوا ولا تزلوا. {السَّلْمِ} - بفتح السين وكسرها -: الصلح والمهادنة. {الْأَعْلَوْنَ}: القاهرون الغالبون. {وَاللَّهُ مَعَكُمْ}: والله ناصركم ومعينكم. {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}: ولن ينقص أعمالكم ولن يضيعها. التفسير 34 - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}: في الآية السابقة أمر الله - تبارك وتعالى - عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن الارتداد عن الدين؛ لأن الارتداد مبطل للأعمال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وهنا يذكر صفة الكفار ونهايتهم فيقول - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. قيل: نزلت هذه الآية في أهل القليب، وحكمها عام في كل من مات على كفره؛ لأن مدار عدم المغفرة هو الإصرار على الكفر حتى الموت. والمعنى: إن الذين امتنعوا عن الدخول في الإِسلام وسلوك طريقه والاهتداء بهديه وصدوا الناس عنه، ومنعوهم من الانضواء تحت لوائه، ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم.

35 - {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}: الخطاب هنا للمؤمنين، أي: إذا علمتم أن الله - تعالى - مبطل أعمال الكافرين ومعاقبهم وخاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفًا أمامهم وتدعوا إلى المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبينهم، فأنتم الذين قدر الله لهم النصر والغلبة. قال ابن كثير: أما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمامُ في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، حين صده كفار قريش عن دخول مكة للعمرة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، بل وسمى الله ذلك الصلح فتحًا مبينا، وقوله - جلت قدرته -: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} بشارة عظيمة بالنصر على الأعداء والظفر بهم؛ لأن من كان في معية الله ومصاحبته لا يخذل ولا يذل ولا ينتصر عليه مخلوق. وقوله - تعالى -: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: ولن يحبط أعمالكم ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئًا. {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}

المفردات: {فَيُحْفِكُمْ}: فيجهدكم بطلب كل المال ويلحف عليكم في المسألة. {أَضْغَانَكُمْ}: أحقادكم الدفينة. التفسير 36 - {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}: أي: ما الحياة الدنيا إلا كاللعب واللهو، فلا ثبات لها ولا استقرار، ولا اعتداد بها، شأنها كذلك إلا ما كان - منها لله - عَزَّ وَجَلَّ - وإن تؤمنوا بما أنزل عليكم، وتتركوا المعاصي والآثام، وتفعلوا ما أمركم الله به من أنواع البر والخير وقاية لأنفسكم، يؤتكم ثواب إيمانكم وتقواكم بعمل الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون، ولا يطلب منكم التصدق بكل أموالكم، فهو - سبحانه - يعطيكم كل الأجور على أعمالكم ولا يسألكم إلا بعض المال، وهو ما شرعه الله - سبحانه وتعالى - من الزكاة وغيرها لمواساة البائسين والتنفيس عن الفقراء والمحتاجين. وقيل: معنى {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ}: لا يسألكم ما هو مالكم حقيقة وإنما يسألكم ماله - عَزَّ وَجَلَّ - فهو المالك الحقيقى لهذه الأموال التي أنعم بها عليكم. وقيل: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي: ولا يسألكم أموالكم لحاجته إليها بل ليرجع ثواب إنفاقكم إليكم في يوم أنتم في أشد الحاجة إلى هذا الثواب. 37 - {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}: أي: إن يسألكم الله أموالكم فيجهدكم بطلب كل الأموال تبخلوا بالأموال وتمتنعوا عن بذلها لمستحقيها ويظهر الله أحقادكم لمزيد حبكم لهذه الأموال, وحرصكم عليها وكراهيتكم لإنفاقها.

قال ابن كثير: قال قتادة: إن في طلب إخراج المال إخراج الأضغان. وصدق قتادة؛ فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وذكر الزمخشرى في تفسير قوله - تعالى -: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي: تحقدون على رسول الله وتضيق صدوركم لذلك، وتظهرون كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم. وقال سفيان بن عيينة: أي: لا يسألكم كثيرا من أموالكم، إنما يسألكم ربع العشر، فطيِّبوا أنفسكم. 38 - {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أي: أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله - تعالى -: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا} ... إلخ. وكررت هاء التنبيه للتأكيد. {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: استئناف مقرر ومؤكد لا قبله لاتحاد معناهما، فإن دعوتهم للإنفاق معناه سؤال الأموال منهم، وأنَّ بخل ناس منهم معناه عدم الإعطاء المذكور، والإنفاق في سبيل الله الذي دعى المخاطبون إليه هو الإنفاق المطلوب شرعًا مطلقًا، فيشمل النفقة للعيال والأقارب، والجهاد في سبيل الله وإطعام الضيوف والزكاة، وليس خاصا بالإنفاق في الغزو أو بالزكاة كما قيل. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي: فمنكم ناس يبخلون ويمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله وأوجه الخير، والذي يبخل عن بذل المال وإنفاقه في سبيل الله لا يضر إلا نفسه؛ لأنه سيحرمها من ثواب البذل، ثم أخبر - سبحانه - أنه لا يأمر بالإنفاق ولا يدعو إليه لحاجته له، ولكن لحاجتكم أنتم واحتياجكم للثواب وقال: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}: أي: والله - سبحانه - هو الغني الحقيقى بالذات لا غيره، وأنتم الفقراء بالذات الكاملون في الفقر , فما يأمركم به - سبحانه - فهو لخيركم ومصلحتكم لاحتياجكم

إلى ما فيه من المنافع في الدنيا والآخرة، فإن امتثلتم فلكم، وإن تعرضوا عن الإيمان وطاعة الله واتباع شرعه بالإنفاق وغيره من أنواع الخير يخلق مكانكم قومًا آخرين، وهذا كقوله - تعالى -: {ويأت بخلق جديد} (¬1) ثم لا يكون هؤلاء القوم أمثالكم في التولى عن الإيمان وطاعة الله، بل يكونون راغبين فيهما، مطعين لأوامر الله، قيل: هم الأنصار، وقيل: أهل اليمن وقيل: كندة والنخع، وقيل: الرُّوم، وقيل: غير ذلك، والخطاب لقريش أو لأهل المدينة: قولان. والشرطية غير واقعة، أي: قوله - تعالى - -: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} فعن الكلبي: شرط في الاستبدال توليهم، لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل - سبحانه - قومًا غيرهم. اهـ: آلوسى بتصرف. ¬

_ (¬1) سورة فاطر من الآية 16.

سورة الفتح

سورة الفتح (وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون) مناسبتها لما قبلها قال العلامة الآلوسي: حسن وضعها هنا بعد سورة محمَّد (القتال): 1 - لأن الفتح بمعنى النصر رتب على القتال. 2 - ولأنه ذكر في كل منهما المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين. 3 - ولأنه قد جاء في السورة الأُولى محمَّد (القتال) الأمر بالاستغفار، قال - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية 19 من سورة محمَّد، وذكر هنا في سورة الفتح وقوع المغفرة في قوله - تعالى -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية رقم 2، إلى غير ذلك من المناسبات المتعددة. مقدمة: جاء في حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما ما يدل على أن سورة الفتح نزلت بعد مُنصَرَفه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، وأن ذلك عند كراع الغميم (مكان قرب مكة) فقرأها - عليه الصلاة والسلام - وهو على راحلته، ومثل ذلك يعد مدنيًّا على المشهور، وهو أن المدنى ما نزل بعد الهجرة. ولقد بدئت السورة الكريمة بالبشارة بالفتح المبين، وبما أفاء الله به على رسوله والمؤمنين من نصر عزيز وتأييد، وبما أنزله من سكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وذكرت جزاء المؤمنين وعذاب المشركين والمنافقين الذين تشككوا في انتصار الرسول على أعدائه، ثم تمضى الآيات مبينة أن الله أرسل محمدا للناس شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، ليتحقق الإيمان بالله ورسوله، ويعم الخير والحق بين الناس بطاعته وتعظيمه - عَزَّ وَجَلَّ - ومحدثة عن قدر الذين بايعوا الرسول وعاهدوه على نصرته، والاستشهاد في سبيل دعوته، وأنهم بعملهم هذا ومبايعتهم له إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم بالنصر والتأييد، فمن نقض منهم العهد بعد ميثاقه فضرر ذلك عليه، ومن أوفى بالعهد فسيؤتيه الله أجرًا عظيمًا.

ووضحت الآيات صورة الموقف المخزى للأعراب الذين تخلفوا عن القتال مع رسول الله حينما دعاهم إلى النفير، وأعذارهم الواهية الكاذبة في ذلك، وفضحتهم وكشفت عن نفاقهم وسوء طويتهم، وأنهم تخلفوا عن القتال لظنهم السيء أن الله لن ينصر نبيه - وذكرت طلبهم الخروج معه بعد ذلك لا حبًّا في القتال والجهاد، ولكن حبًّا للغنائم وابتغاء متاع الحياة الدنيا. وتناولت الآيات أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن القتال لعجزهم عن مباشرته وأنهم لا إثم عليهم في ذلك، كما بينت السورة الخير العظيم الذي حظى به من رضى الله عنهم في بيعة الرضوان، وذكرت منَّة الله في كف الكافرين عن المؤمنين، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة بعد أن نصرهم الله وأقدرهم عليهم، وختمت السورة ببيان أن الله صدق رسوله الرؤيا بالحق، وكان الرسول قد رأى في منامه أنه يدخل هو ومن معه من المؤمنين المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، وبيان خُلُقِ محمد وأصحابه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وببيان نعتهم وصفتهم في التوراة والإنجيل، وبذكر ما أعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المغفرة والأجر العظيم. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} المفردات: {فَتَحْنَا} أصل الفتح: إزالة الإغلاق، وفتح البلد - كما في الكشاف -: الظفر به عنوة أو صلحًا بحرب أو بغيرها؛ لأنه منغلق ما لم يُظْفر به، فإذا ظفر به فقد فتح. {نَصْرًا عَزِيزًا}: يقل وجود مثله ويصعب مناله.

التفسير 1 - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}: المعنى: إنا فتحنا لك يا محمد فتحًا عظيما بينا ظاهرا بانتصار الحق وأصحابه وخذلان الباطل وأربابه، وقال قتادة: معناه: حكمنا وقضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت الحرام، يعني في عمرة القضاء. فالفتح على هذا من الفتاحة: وهي الحكومة. وقوله - تعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} هو إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور سنة ست من الهجرة وروى ذلك عن ابن عباس وأنس، قال ابن عطية: وهو الصحيح. وقال الزهرى: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإِسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر، بهم سواد الإِسلام قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها. وقد خفى كون ما في الحديبية - فتحًا على بعض الصحابة حتى بيَّنه - عليه الصلاة والسلام -. أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله: والله ما هذا بفتح، لقد صُدِدْنا عن البيت وصُدَّ هدينا، وعكف رسول الله بالحديبية، وردَّ رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك - فقال: "بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أُحُد؟ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؛ أنسيتم يوم الأحزاب؟ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا

فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا. وذهب جماعة إلى أن المراد بالفتح الوارد في السورة فتح مكة وهو- كما في زاد المعاد -. الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به دينه، واستنقذ به بلده وطهّر حرمه، واستبشر به أهل السماء، ودخل الناس بعده في دين الله أفواجًا، وأشرق وجه الأرض به ضياء وابتهاجًا. وعلى هذا الرأى ففي مجىء المستقبل بصيغة الماضى في قوله - تعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} تنزيله منزلة المحقق، وفيه من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى - كما في الكشّاف - وذلك - على ما قيل - لأنه يدل على أنَّ الأزمنة كلها عند الله على السواء وأن منتظره كمحقَّق غيره، وأنه - سبحانه - إذا أراد أمرا تحقق لا محالة، وأنه - لجلالة شأنه - إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من الأسباب القريبة والبعيدة. ولم يذكر المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأنَّ مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه - سبحانه - لا خصوصية المفتوح، وذكر لفظ (لك) في الآية لبيان مقام الرسول الرفيع عند الله - عز وجل -. 2 - 3 - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي: ليغفر لك الله ما تقدم وما تأخر مما يعد ذنبا لمثلك، فهو من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو ليغفر لك ما هو ذنب في نظرك، وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده - تعالى - كما ترشد إلى ذلك الإضافة في لفظة (ذنبك) وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت صام وصلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "أفلا أكون عبدًا شكورا" {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: ويكمّل نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد، وغير ذلك مما أفاضه الله - تعالى - عليه من النعم الدينية والدنيوية بعد الفتح.

{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: ويرشدك إلى الطريق المستقيم في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود وبما يُشَرِّعه الله لك من الشرع العظيم والدين القويم. وهذا وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتِّضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا من قبل. {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي: وينصرك الله على أعداء الرّسالة والكافرين بالدعوة والمحاربين لها نصرا يعز وجود مثله ويصعب مناله ويرفع في قدرك وذلك بسبب تواضعك وشدة خضوعك لأمر الله - عز وجل - كما جاء في الحديث الصحيح: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله - عز وجل - إلا رفعه الله، قال الآلوسي: وفي الكشاف: لم يجعل الفتح علَّة للمغفرة، لكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي: 1 - المغفرة. 2 - وإتمام النعمة. 3 - وهداية الصراط المستقيم. 4 - والنَّصر العزيز كأنه قيل: يَسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عزّ الدارين وأغراض العاجل والآجل. وحاصله أن الفتح علة لمجموع المتعاطفات، لا لكل واحدة منها على حدة. وقال الصدر: أظهر الاسم الجليل في الصّدر في قوله - تعالى -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} وهنا في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ}؛ لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أُشير بإسناد المغفرة والنَّصر إلى صريح اسمه - تعالى - إلى أن الله - عز وجل - هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإِمام: أُظهرت الجلالة في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ} إشارة إلي أن النَّصر لا يكون إلا من عند الله، كما قال - تعالى -: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية: 126.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} المفردات: {السَّكِينَةَ}: الطمأنينة والثبات والسكون. {ظَنَّ السَّوْءِ}: ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله لا ينصر نبيّه والمؤمنين. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}: دعاء عليهم بالهلاك والدمار الذي يتربصونه بالمؤمنين. التفسير 4 - {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}: بيان لما أنعم الله به عليهم من مبادئ الفتح، أي: هو وحده - سبحانه - الذي أنزل

الطمأنينة في قلوب المؤمنين بسبب الصلح والأمن؛ ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة بدل القتال، ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم ويقينًا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها. أو: هو الذي أنزل في قلوب المؤمنين السُّكون والاطمئنان إلى ما جاء به الرسول من الشرائع ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم بالله واليوم الآخر، والرأى الأول أظهر. وبهذه الآية الكريمة وبنصوص كثيرة أخرى، ومنها ما روى عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: قلنا: يا رسول الله، إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: "نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار" أقول: بهذا وبأمثاله استدل جمهور الأشاعرة والفقهاء والمحدثين والمعتزلة على أن الإيمان يزيد وينقص، ونقل ذلك عن الشافعى ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت واحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وهذه قولة حقٍّ، وإلا لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويًا لإيمان الأنبياء والصديقين. وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه صحبه وكثير من المتكلمين: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حدّ الجزْم، والإذعان وهذا لا يُتصَور فيه زيادة ولا نقصان، واختار هذا الرأى إمام الحرمين، وفي هذا الموضوع كلام كثير ذكره العلامة الآلوسي وغيره فليرجع إليه في الموسوعات من أراد التوسّع في هذا المقام. ثم ذكر سبحانه - أنه لو شاء لانتقم من الكافرين فقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي: ولله جنود السموات والأرض يدبِّر أمرها كيفما يريد، فيسلِّط بعضها على بعض تارة، ويجعل السّلم بينها تارة أخرى حسبما تقتضيه مشيئته، ومن ذلك ما وقع في الحديبية، ولو أرسل علي الكفار ملكا واحدا لأباد خضراءهم ولكنّه - سبحانه - شرع لعباده المؤمنين الجِهاد والقتال ليثيبهم عليه، وكان الله

ولا يزال - محيطا علمه بجميع الأُمور، ذا حكمة بالغة يضع الشيء في موضعه اللائق على مقتضى حكمته. 5 - {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}: أخرج بن جرير وجماعة عن أنس قال: أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} في مرجعه من الحديبية، فقال: "لقد أُنزلت عليّ آية هي أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئًا مريئا يا رسول الله، قد بيّن الله - تعالى - ذلك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .... ) حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا} آلوسى. وهذه الآية وما بعدها علَّة لما دلّ عليه قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من التصرف والتدبير أي: دبّر - سبحانه وتعالى - ما دبر من تسليط المؤمنين ونصرهم على الكافرين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها، فيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار دائمين فيها باقين أبدا، ويمحو عنهم سيئاتهم ولا يؤاخذ عليها بل يعفو ويرحم ويصفح ويغفر، وكان ذلك الجزاء عند الله فوزا بالغ العظم؛ لأنه منتهى ما تصبو إليه النفوس، وتهوى الأفئدة. وذكر المؤمنات في الآية بعد المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور، لأن الجهاد والفتح على أيديهم، وهكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرِّح بذكر النساء. وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير - مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلي بيان ما هو المطلوب الأعلى، قال الآلوسي: ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة، على أنَّ المعنى: يُدخلهم الجنة ويُغطى سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمرّ لهم ببال ولا يذكرونها أصلًا؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم.

6 - {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}: قوله - تعالى -: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} عطف على قوله - تعالى -: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: فعل الله ما فعل ودبر ما دبر ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويعذب المنافقين الّذين يُظهرون خلاف ما يبطنون والمنافقات، والمشركين مع الله غيره والمشركات الظانين بالله ظنا سيئا، وهو أنَّه - سبحانه - لن ينصر رسوله والمؤمنين، وكذلك سائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره - عليهم وحدهم دائرة السوء والهلاك والدّمار، وما يظنون ويتربّصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يفلتون منه، وسخط الله عليهم وطردهم من رحمته وأبعدهم عن نعيمه وجَنته، وأعدّ لعذابهم جهنم وساءت جهنَّم نهاية، وقبُحت مرجعًا ومآلا لهم. 7 - {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}: أي: ولله جنود السموات والأرض يدبر أمرها بقدرته وحكمته وبأسه وسطوته وكان الله غالبا على كل شيء، ذا حكمة بالغة في تدبير كل شأن. وقوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكرت هذه الآية سابقا، على أن المراد أنه - عَزَّ وَجَلَّ - المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ختمت الآية السابقة بقوله - تعالى -: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. وأُعيد ذكرها هنا للتهديد بأنهم في قبضة الله المنتقم، ولذلك ختمت الآية بقوله - تعالى -: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فلا تكرار كما قال الشِّهاب.

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} المفردات: {وَتُعَزِّرُوهُ}: وتنصروه. {وَتُوَقِّرُوهُ}: وتعظِّموه وتُبجِّلوه. {وَتُسَبِّحُوهُ}: وتنزِّهوه، وتصلوا له. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: غدوة وعشيا. {يُبَايِعُونَكَ} (¬1) يعاهدونك على الجهاد والانتصار لدعوتك وذلك في بيعة الرضوان بالحديبية. {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أي: إنما يعاهدون الله؛ لأنّ المقصود من البيعة إطاعة الله وامتثال أمره. {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: قدرته وقوته فوق قدرتهم وقوّتهم. ¬

_ (¬1) {يُبَايِعُونَكَ} مفاعلة من البيع، يقال: بايع فلان السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له، وكثيرا ما تطلق على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم.

{فَمَنْ نَكَثَ}: فمن نقض العهد والبيعة. {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: فإنه يضر نفسه ويوردها موارد الهلكة، فلا يعود وبال نقضه وضرر نكثه إلا عليه. التفسير 8 - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}: هذا توضيح وبيان لما بعث من أجله الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعنى: إنا أرسلناك يا محمد شاهدا على أُمتك لقوله - تعالى -: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (¬1) وعن قتادة: شاهدا على أمتك وشاهدا على الأُمم التي قبلك، وعلى الأنبياء الذين سبقوك بأنهم قد بلَّغوا، ومبشرا المتّقين بحسن الثواب على الطاعة، ونذيرا للعصاة بالعذاب على المعصية. 9 - {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬2). فيفيد أن النبي مخاطب بالإيمان برسالته كالأمة، وقال الواحدى: الخطاب في {لِتُؤْمِنُوا} وما بعدها للأُمة. والمعنى: أرسلناك يا محمَّد شاهدا ومبشرا ونذيرا، لكي تؤمنوا يا أمته بالله ورسوله وتنصروا الله بنصر دينه وتعظموه - سبحانه - وتنزِّهوه عما لا يليق به أول النهار وآخره. وقيل: البكرة والأصيل جميع النهار، ويكنى بالتعبير عن جميع الشيء بطرفيه. وقال ابن عباس: المراد بهما صلوات الفجر والظهر والعصر. 10 - {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى (¬3) بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}: المعنى: إن الذين يعاهدونك يا محمَّد يوم الحديبية على الجهاد في سبيل نصرتك ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 143. (¬2) سورة الطلاق من الآية: الأولى. (¬3) يقال: وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه. وأوفى: لغة تهامة ومنه قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} اهـ. كشاف.

إنما يُعاهدون الله؛ لأنّ المقصود من بيعة الرسول وإطاعته: إطاعة الله - تعالى - وامتثال أوامره لقوله - تعالى -: {من يُطِع الرسول فقد أطاع الله} (¬1). {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}: استئناف مؤكد لما قبله، والمراد بيد الله: قدرته ونصره، أي: قدرة الله معك وتأييده فوق قدرتهم وتأييدهم، فَثِق بنصرة الله - تعالى - قبل نصرتهم وإن صدقوا في مبايعتك. والسَّلف يأخذون بظاهر الآية كما جاءت مع تنزيه الله - تعالى - عن الجوارح وصفات الأجسام، وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات يقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات، وأنّى ذلك وهيهات هيهات!! {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: فمن نقض عهدك بعد ميثاقه ورجع في بيعته بعد تأكيدها وتوثيقها فلا يرجع وبال نقضه إلاَّ على نفسه، ولا يعود ضرر نكثه إلا عليه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي،: ومن أوفى بالعهد الذي عاهد عليه الله بإتمام بيعتك وألزم نفسه تحقيقها والقيام بأعبائها فسيُعطيه الله ثوابا بالغ العظم وهو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. من حديث البيعة: بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى أشراف قريش بمكة يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ومُعظِّما له، واحتبسته قريش عندها، وبلغ الرسول أن عثمان قد قُتِل فقال رسول الله: (لا نبرح حتى نُنَاجز القوم) ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفرّوا من قريش , فبايع النَّاس ولم يتخلف أحدٌ من الحاضرين إلا الجد بن قيس أحد بني سلمة، فكان جابر يقول: لكأنِّى أنظر إليه لاصِقًا بإبْطِ ناقته قد صبأ إليها يستتر بها من النَّاس، وضرب الرسول بإحدى يديه على الأخرى مُبَايعا عن عثمان، وقال: "اللهم إنّ عثمان في حاجة الله - تعالى - وحاجة رسوله" ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل. اهـ: ملخصا بتصرف عن محمَّد بن إسحاق في السير وذكره ابن كثير. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية: 80.

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)} المفردات: {الْمُخَلَّفُونَ} (¬1) قال الطبرى: المخلفون هم الذين تخلفوا في أهليهم عن صحبة رسول الله يوم الحديبية، جمع مُخلَّف. {الْأَعْرَابِ} في المشهور: سكّان البادية من العرب لا واحد له. {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ}: استفهام بمعنى النفى أي: لا أحد يملك لكم. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ}: وهو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا بل يقتلون. ¬

_ (¬1) {الْمُخَلَّفُونَ} جمع مخلف: وهو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف، وضده المقدم.

{بُورًا} (¬1)؛ هالكين لفساد عقيدتكم. {سَعِيرًا}: نارا موقدة ملتهبة، ونكّرت للتهويل أو التنويع. التفسير 11 - {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أي: سيقول لك من خلّفهم النِّفاق من أهل البادية وهم قبائل جُهينة ومُزينة وغِفار وغيرهم، استنفَرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا، ورأى أولئك الأعراب أنه - عليه السلام - يستقبل عدوا قويا من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان لدى الأعراب قد تمكن في قلوبهم، فقعدوا عن الخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخلفوا عن الجهاد معه، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا: لن يرجع مُحمد ولا أصحابه إلى المدينة من هذه السفرة ففضَحهُم الله في هذه الآية وأعلم رسوله بقولهم واعتذارهم قبل أن يصلوا إليه، وحين جاءوا معتذرين إليه قائلين: شغلتنا أموالنا وأهلونا عن الذهاب معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظها ويحميها من الضياع، فاستغفر لنا الله ليغفر لنا تخلُّفَنا عنك، حيث لم يكن عن تكاسل وتباطؤ في طاعتك، فأنزل الله تكذيبا لهم في اعتذارهم بما سبق: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي: إن كلامهم من طرف اللِّسان غير مطابق لما في الجنان، ثم أمر - سبحانه وتعالى - رسوله أن يردّ عليهم عند اعتذارهم بتلك الأباطيل فقال: ¬

_ (¬1) بورا: مصدر كالهلك، أو جمع بائر كباذل وبذل، وعائذ وعوذ.

{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أي: لا يقدر أحد أن يردّ ما أراده الله فيكم ويدفع عنكم قضاءه إن أراد بكم ما يضركم أو أراد بكم ما ينفعكم، وليس الشُّغُل بالأهل والمال عذرا، فلا ذاك يدفع الضرر إن أراده - عز وجل - ولا محاربة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، ثم أعقب ذلك بما يتضمن تهديدا لهم فقال: {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي: بل كان الله بكل ما تعملون محيطا، فيعلم - سبحانه - سر تخلُّفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم عليه يوم القيامة، ثم هتك الله سترهم وبين مكنون ضمائرهم بقوله: 12 - {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}: والمعنى: لم يكن الأمر كما تقولون، بل ظننتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من ذلك السّفر إلى عشائرهم وذوى قرباهم أبدا، فلم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا مقهور بلى تخلُّف نفاق؛ لأنَّكم اعتقدتم أنَّ الرسول ومن معه من المؤمنين سيقتلون وتُستأصل شأفتهم، وتُبَادُ خضراؤهم ولا يرجع منهم أحد، فتخلفتم لذلك، وحسّن لكم الشيطان والنفاق ذلك الظن الخبيث في قلوبكم، حتى تمكَّن منكم وحملكم على ما فعلتم، فاشتغلتم بشأن أنفسكم ومصلحة ذواتكم غير مبالين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالمؤمنين. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وهو ظنهم ألاَّ يرجع الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وأعيد لفظ {ظَنَنْتُمْ} لتشديد التوبيخ والتسجيل عليهم بالسّوء، أو هو عام فيشمل ذلك الظنَّ وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظّن بعدم رسالته - صلى الله عليه وسلم - فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذُكِر من الاستئصال للرسول وأصحابه، وكنتم في علم الله الأزليّ قومًا هالكين، لفساد عقيدتكم وسوء نيّتكم، أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم ولا خير فيكم. 13 - {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}: هذا كلام مبتدأ من جهته - عز وجل - غير داخل في الكلام السابق، مقرِّر لبوارهم وهلاكهم، ومبين لكيفيته، أي: ومن لم يصدق بالله ورسوله كهؤلاء المخلفين فإنا أعددنا

للكافرين نارا مسعورة موقدة ملتهبة، وكان الظاهر أن يقال: فإنَّا أعددنا لهم، فعدل عن ذلك إلى الظاهر وهو لفظ (الكافرين) إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله - سجانه - والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر مستحق للسعير بكفره. 14 - {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: أي: ولله - وحده - ملك السموات والأرض - يدبّره تدبير قادر حكيم، وهو - جل شأنه - المتصرّف في الجميع كما يشاء، - له هذا الملك - يغفر لمن يشاء المغفرة له ويعذب من يشاء أن يعذِّبه، من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه أو تعذيبه، وكان الله - ولا يزال - عظيم المغفرة لمن يشاء، ولا يشاء - سبحانه - المغفرة إلا لمن تقتضى الحكمة المغفرة له ممن يؤمن بالله وبرسوله، وأما من عدا ذلك من الكافرين المُجَاهرين والمنافقين فهم بمعزل عن ذلك، وفي تقديم المغفرة وختم الآية بكونه (غفورًا رحيمًا) بصيغة المبالغة فيهما فيه من واسع غفرانه وعظيم رحمته ما فيه، وفي الحديث: "كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: رحمتى سبقت غضبى" أي: قضى بذلك وأوجبه على نفسه، والآية كما قال أبو حيّان لبعث الرَّجاء في قلوب المنافقين إذا آمنوا حقيقة، وقيل: لقطع أطماعهم الفارغة في طلب استغفاره - عليه السلام - لهم.

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} المفردات: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}: اتركونا نخرج معكم لخيبر. {كَلَامَ اللَّهِ}: حكمه القاضى باختصاص أهل الحديبية بمغانم خيبر. التفسير 15 - {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا}: المراد من المغانم هنا مغانم خيبر التي انطلقوا إليها بعد الحديبية كما عليه عامة المفسرين وأُيِّد بأن السِّين تدلّ على القرب، وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئًا، وخص - سبحانه - ذلك بهم. والمعنى: سيقول الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية: إذا ذهبتم إلى مغانم لتأخذوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}: دعونا واتركونا نخرج معكم إلى خيبر

ونشهد معكم قتال أهلها، وذلك لطمعهم في عرض الدنيا لما يرون من ضعف العدوّ، ويتحققون النصر عليه، يريدون بذلك تغيير كلام الله ووعده وحكمه وقضائه باختصاص أهل الحديبية بمغانم خيبر، قل لهم يا محمد: لن تتبعونا، والمراد نهيهم عن الاتباع الذي أرادوه من قولهم: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} وهو الانطلاق معهم إلى خيبر. {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي: مثل ذلك الحكم بعدم اتباعكم لهم - حكم الله - من قبل ذلك بتلك الغنائم لمن خرج إلى الغزو مع رسوله في عمرة الحديبية {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: فسيقول المخلفون للمؤمنين عند سماع هذا النهي: لم يأمركم الله بذلك بل تحسدوننا أن نُشارككم في هذه الغنائم. {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي: ليس الأمر كما زعموا بل كانوا لا يفهمون إلا فهما قليلًا، وهو فهمهم لبعض أمور الدُّنيا، وهو ردّ لقولهم الباطل في المؤمنين، ووصف لهم بما هو شر من الحسد وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين.

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} المفردات: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}: أصحاب شدة وقوّة في الحرب. {فَإِنْ تُطِيعُوا} أي: تستجيبوا وتنفروا للجهاد. {حَرَجٌ}: إثم في التخلف عن الجهاد وقتال الكفار. التفسير 16 - {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}: المعنى: قل للمتخلفين من أهل البادية الذين دُعُوا للخروج مع رسول الله زمن الحديبية فتقاعسوا - قل لهم -: ستدعون إلى قتال قوم ذوي شدة وبأس وقوّة في الحرب، شُرِع لكم جهادهم، وقتالهم، ولكم النُّصرة عليهم أو يُسْلمون فيدخلون

في دينكم بلا قتال بل باختيارهم، فإن تستجيبوا لهذه الدعوة وتلبّوا أمر الله وداعى الجهاد يعظم الله لكم الأجر في الدنيا بالغنيمة، وحسن الأحدوثة والذكر، وفي الآخرة بالجنة، وإن تعرضوا عن الجهاد وتُصِمّوا آذانكم عن داعى الله كما أعرضتم من قبل عن الخروج إلى الحديبية يعذبكم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة لتضاعف جُرمكم. وهنا أمور: 1 - قال - تعالى -: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في ذمهم وإشعارا بقبح التخلف وشناعة القعود عن الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه. 2 - اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إلى قتالهم وهم أولوا بأس شديد على أقوال: فرجح الزمخشرى والآلوسى: أن المراد بهم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر - رضي الله عنه - لأن مشركى العرب والمرتدين هم الّذين لا يقبل منهم إلاَّ الإِسلام أو السيف عند أبي حنيفة، ومن عداهم من مشركى العجم وأهل الكتاب والمجوس تُقبل منهم الجزية، وعند الشافعى لا تقبل الجزية إلاَّ من أهل الكتاب والمجوس دون مشركى العجم والعرب (راجع الآلوسي والكشاف). وعن عطاء والحسن: المراد بهم الفرس والروم، وفسر القائلون بهذا الرأى قوله - تعالى -: (أو يسلمون) بأو ينقادون؛ لأن الروم نصارى، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية، وعن قتادة: ثقيف وهوازن، وعن سفيان: هم الترك، وقيل: هم الأكراد (ابن كثير والكشاف). 3 - ذكر الزمخشرى والآلوسى: أنه شاع الاستدلال بهذه الآية على صحة إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - قال الآلوسي: والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلًا على إمامة الصديق - رضي الله عنه - إلاَّ إن صحّ خبر مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة (¬1)، ودون ذلك خرط (¬2) القتاد (آلوسى). ¬

_ (¬1) هم قوم مسيلمة الكذاب. (¬2) القتاد: شجر له شوك، وخرط القتاد: تنظيفه من الشوك.

17 - {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}: ذكر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية الكريمة الأعذار المبيحة لترك الجهاد فمنها ما هو لازم كالعمى والعرج البيِّن، ومنها ما هو عارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوى الأعذار اللازمة حتى يبرأ فقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي: ليس على الأعمى إثم في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولا على الأعرج إثم ولا على المريض إثم كذلك لما بهم من العذر والعاهة، وليس في نفى الإثم عنهم نهى لهم عن الغزو، بل قالوا: إن أجرهم مضاعف إذا خرجوا للقتال، ولقد غزا ابن أم مكتوم - رضي الله عنه - وكان أعمى، وحضر في بعض حروب القادسية وكان يحمل الراية، كما غزا بعض العلماء (وهو أعمى) مع الجيش الإسلامى وهو يحارب التتار والصليبيين ولما سئل عن ذلك - وقد أذن الله له في ترك الجهاد - وما سيقدِّم من خدمات للجيش المقاتل؟ فقال: أكثِّر سواد المسلمين وأحرس متاعهم وأحرِّضهم علي القتال، وأستجيب لقول الله: "انفروا خفافا وثقالا" (¬1) وفي البحر: "لو حُصِر المسلمون فالغرض متوجِّه بحسب الوُسْع في الجهاد". ثم قال - تبارك وتعالى - مرغِّبا - في الجهاد وطاعة الله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: ومن يطع الله ورسوله في كل ما ذُكر من الأوامر والنَّواهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومن يعرض عن طاعة الله ورسوله يعذِّبه عذابا بالغ الألم بالذِّلة والصغار في الدنيا والنار في الآخرة، وقيل في الوعيد: (يعذِّبه) إلخ دون يدخله نارا أو نحوه، لأن العقاب يوم القيامة بالعذاب الأليم يستلزم إدخال النار، وإدخالهم فيها لا يستلزم ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة من الآية: 41.

* {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)} المفردات {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}: قبل منهم بيعتهم. {يُبَايِعُونَكَ}: يعاهدونك على السمع والطاعة. {السَّكِينَةَ}: طمأنينة القلب. {وَأَثَابَهُمْ}: جازاهم. التفسير 18 - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}: المراد من المؤمنين هنا: أهل الحديبية (¬1) إلا جد بن قيس فإنه كان منافقًا فلم يبايع، وهي بيعة الرضوان لقوله - تعالى -: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}. وخبر الحديبية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج معتمرًا ومستنفرًا الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم وخرج - عليه الصلاة والسلام - بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب وكانوا في ألف وأربعمائة على أرجح الأقوال فأحرم - عليه الصلاة ¬

_ (¬1) الحديبية - وقد تشدد الياء -: بئر قرب مكة - حرسها الله - أو شجرة حدباء هناك.

والسلام - وساق معه الهدى ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما وصل - صلى الله عليه وسلم - الحديبية بركت ناقته فقال الناس: خلأت (¬1) خلأت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل (¬2) عن مكة. لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها) ثم نزل هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادى ماء فأخرج - عليه الصلاة والسلام - سهمًا من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه فنزل في قليب (¬3) من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرَّوَاء (¬4) حتى كفى الجيش. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خِرَاشَ - بكسر الخاء - بن أمية الخزاعى رسولا إلى أهل مكة يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما كلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش (¬5) فخلوا سبيله حتى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدعا عمر - رضي الله عنه - ليبعثه فقال: يا رسول الله، إن القوم عرفوا عداوتى لهم وغِلَظى عليهم وإنى لا آمن، وليس بمكة أحد من بني عديّ يغضب لي إن أُوذيت، فأَرْسِل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه، وإنه يبلِّغ ما أردت، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فأرسله إلى قريش وقال له - عليه الصلاة والسلام -: أخْبِرْهم أنَّا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمَّارا، وادعهم إلي الإسلام، وأمره - عليه الصلاة والسلام - أن يأتى رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله - سبحانه - يظهر دينه بمكة قريبا، فذهب عثمان - رضي الله عنه - إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره، فأتى قريشا فأخبرهم، فقالوا له: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم فلا سبيل إليه، فقال - رضي الله عنه -: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحتبسوه, فبلغ رسول الله والمسلمين أن ¬

_ (¬1) خلأت: حرنت وبركت من غير علة. (¬2) حبسها حابس الفيل: أي: أن الله الذي منع فيل أبرهة أن يشترك في هدم الكعبة حبسها ومنعها كذلك أن تتجاوز هذا المكان لحكمة يعلمها الله - سبحانه وتعالى -. (¬3) القليب: هو البئر قبل أن تبنى بالحجارة. (¬4) الرواء: الكثير. (¬5) الأحابيش: هم الأعراب الذين حول مكة، حبشى - بالضم - جبل أسفل مكة، إليه تنسب أحابيش قريش، لأنهم تحالفوا: إنهم ليد على غيرهم، ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي.

عثمان قد قُتل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا نبرح حتى نناجز (¬1) القوم، ونادى مناديه - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن روح القدس (جبريل) قد نزل على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فأمره بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله - تعالى - فبعضهم بايعه على ألا يفر، وبعضهم بايعه على الموت، وبعضهم بايعه على ما في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما بايع الناس قال - عليه الصلاة والسلام -: (اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله) فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم، ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان - رضي الله عنه - وجماعة من المسلمين ثم جرى السفراء بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامرى فقاضاه على أن ينصرف - عليه الصلاة والسلام - عامه هذا حتى لا يتحدث العرب أنَّا أخذنا ضُغطة (¬2)، فإذا كان من قابل أتى - صلى الله عليه وسلم - معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح حاشا السيوف في قُربِها، فيقيم بها ثلاثًا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل الناس ويأمن بعضهم بعضًا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلمًا من رجل أو امرأة رُدّ إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدًّا لم يردوه إلى المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه مَنْ ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا، فجأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: (بلى) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى) قال: ففيم نعطى الدَّنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: (يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعنى الله أبدا) فانطلق عمر فلم يصبر متغيِّظا، فأتى أبا بكر فقال له ما قاله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو بكر: يا بن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أوَ فَتْحٌ هو؟ قال: (نعم) فطابت نفسه ورجع ... حقًّا لقد كان صلح الحديبية فتحًا عظيمًا، فبعده دخل كثير من العرب في الإسلام وجاءت ¬

_ (¬1) المناجزة في الحرب: المبارزة. (¬2) ضغطة: قهرا.

الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهات شتى تدخل في دين الله، وما ظنه بعض المسلمين كعمر - رضى الله عنه - أنه دنيّة ونقيصة وذل في دينهم ما كان إلاَّ عزة ومنعة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - وهو رجل من قريش قد أسلم - فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به، وفي الطريق خدع أبو بصير أحد الرجلين وأخذ سيفه وقتله به، وفرّ الآخر إلى المدينة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قتل - والله - صاحبى وإني لمقتول، فجاءه أبو بصير فقال: يا رسول الله قد - والله - أوفى اللهُ ذمتك وقد رددتنى إليهم، ثم نجاني الله - تعالى - منهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ويل أمِّه مِسْعر (¬1) حرب لو كان معه أحد) فلما سمع أبو بصير ذلك عرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف (¬2) البحر، ولحق به - هربا من قريش - أبو جندل ابن سهيل بن عمرو وكان قد جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما في الحديببة بعد الصلح، فطلب أبوه سهيل بن عمرو أن يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه إنفادًا للعهد، ففعل الرسول ذلك ودعا لأبي جندل أن يجعلى الله له مخرجًا. ولحق بأبي بصير وبأبي جندل من كان يسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم جماعة فما يسمعون بِعيرٍ خرجت من قريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم جزاء ما أصاب المسلمين على أيديهم منه القتل والتعذيب وأخذ الأموال ظلمًا، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم، وقالوا له: اضممهم إليك حتى نأْمن، ففعل - صلى الله عليه وسلم - وأجابهم إلى ما طلبوا. ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به ما حدث بعد فراغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إتمام عقد الحديبية أنه قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا) فما قام رجل منهم حتى قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل - صلى الله عليه وسلم - على زوجه السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له: يا نبي الله أتحب ذلك؟ ¬

_ (¬1) مسعر حرب: موقد نار حرب. (¬2) سيف البحر - بالكسر -: ساحله.

اخرج فلا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بيده، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأَوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا. لقد رضي الله عن المؤمنين وقبل منهم مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاهدتهم له على السمع وبذل الطاعة بما رضوا به ورضخوا له من بيع أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، مع علمه - سبحانه - بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص في مبايعتهم وحبهم للإسلام وحرصهم عليه ونصرتهم له، فأنزل - جل شأنه - الطمأنينة وسكون القلب عليهم بصدق وعده وتحقق جزائه وأثابهم وجزاهم على تلك البيعة (فتحًا قريبًا) هو فتح خيبر والصلح مع أهلها، بعد عودتهم من الحديبية مباشرة. وفي تقييد البيعة بأنها كانت تحت الشجرة إشارة إلى عظم منزلتها لدى الله لأنها كانت امتثالًا لأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نزل عليه جبريل - عليه السلام - وأمره بها، ولم تكن لخوف منه - عليه الصلاة والسلام - ولذا استحقت رضاه - تعالى - الذي لا يعادله شيءٌ، وقد ترتب على هذا الرضا من الثواب ما لا يكاد يخطر على بال، ويكفي في ذلك ما أخرج أحمد عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) كما صح برواية الشيخين وغيرهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (أنتم خيرُ أهل الأرض). 19 - {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}: أي: ومنحهم - سبحانه - مع هذا الفتح والصلح غنائم كثيرة وأموالًا وفيرة أفاءَ الله بها على المسلمين من خيبر، فجمع الله لهم بهذا الصلح أمنًا واطمئنانًا على نفوسهم من جانب هؤلاء اليهود مع رزقه واسع وخير عميم، والفضل في هذا كله لله - سبحانه - فهو العزيز الذي لا يغالب ولا يُقهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} والحكيم: الذي لا تجرى أحكامه وقضاياه إلا على مقتضى الحكمة. هذا، وقد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - غنائم خيبر بين المقاتلين فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهمًا واحدًا.

{وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} المفردات: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ}: دفعها ومنعها أن تحول بينكم وبين اغتنامها. (آيَةً): علامة وأَمارة. (قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا): قد قدَر الله عليها واستولى. (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ): لانهزموا وأعطوكم ظهورهم هربًا منكم. (وَلِيًّا) الوليّ: من ينفع برفق ولين. (نَصِيرًا) النصير: من ينفع بعنف. (سُنَّةَ اللهِ): طريقة الله. (خَلَتْ): مضت وسلفت. (تَبْدِيلًا): تغيِيرًا.

التفسير 20 - {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}: أي: وعدكم الله - أيها المسلمون - ووعد الله لا يتخلف؛ إذ الخلف في الوعد كذب وحاشا لله ذلك. أي: وعدكم - سبحانه - بمغانم كثيرة من أموال وسلاح وأرض وسبى تأخذونها من الكفار في مستقبل أيامكم إلى يوم القيامة إذا تحققت فيكم صفات المؤمنين، إذ قد وعد الله رسله والمؤمنين النصر على أعدائهم، قال - تعالى -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬1). (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي: فَقَدَم لكم مغانم خيبر عاجلة دون مشقة أو قتال تطييبا لخاطركم، ومنع أهل خيبر ومن جاءه لنصرتهم من بني أسد وغطفان أن ينالوكم بسوءٍ؛ حيث قذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار هاربين فارين فزعا وخوفًا. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: ولتكون هذه المغانم أمارة وعلامة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله بمنزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وأنه - سبحانه - كفيل بنصرهم والفتح عليهم، أو يعرف بها المؤمنون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم فتح خيبر وما يلي ذلك من فتح مكة ودخول المسجد الحرام، (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) أي: وَيثبتكم الله على الهدى والطاعة ولا يفتنكم في دينكم، أو يزيدكم هدى وتقوى؛ فإن قومًا هذا شأنهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بهم أن يكونوا على الجادّة والصراط السويّ والطريق المستقيم. 21 - {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}: أي: وأعطاكم ومنحكم غنائم أُخرى غير ما غنمتموه من خيبر وهي غنائم هوازن في ¬

_ (¬1) سورة غافر الآية: 51.

غزوة حنين، إذ لم تستطيعوا اغتنامها والحصول عليها وقت أن ركنتم إلى كثرتكم، واعتززتم بقوتكم، واعتمدتم على كثرة عددكم وقلة عدوّكم فقلتم: لن نغلب اليوم عن قلة، وكان الجيش الإِسلامي في اثنى عشر ألفًا وجيش الكفار في أربعة آلاف، فلم تغن عنكم هذه الأعداد شيئًا حتى ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم الأدبار منهزمين، ثم أدركتكم عناية ربكم - سبحانه - فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وملأَ قلوبهم اطمئنانًا وثقة في الله - جل وعلا - وأنزل جنودًا من الملائكة لم تبصروها فكانت عونًا لكم على عدوّكم وعذَّب الله الذين كفروا فهزمهم وأعطاكم غنائمهم بعد أن أحاط بها وحفظها لكم ومنعها من سواكم؛ والله - سبحانه - قدير لا يعجزه ولا يفوته شيء في الأرض ولا في السماء ولا فيما وراء ذلك مما لا نعلمه، فغلبة المؤمنين على هؤلاء الكفار واغتنام أموالهم أمر واقع لا محالة إذ قد حكم به الله وقضاه. 22 - {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: أي: ولو امتنع المشركون وغيرهم عن أن يصالحوكم، وأصروا على قتالكم وحاربوكم لانهزموا وفروا وأعطوكم أدبارهم وظهورهم تُعْمِلون فيها أسلحتكم قتلًا وجرحًا، ولأمكنكم منهم أخذًا وأسرًا، ثم هم مع ذلك لا يجدون من وليّ يتولى أمرهم ويحرسهم من بأس الله على أيدى المؤمنين، ولا يجدون أحدًا ما ينصرهم ويقاتل معهم، قال الإِمام الفخر الرازي: أريد بالولي: من ينفع باللطف. وبالنصير: من ينفع بالعنف، أَي: لا ينالون ولا يصيبون عونًا من أحد يدفع عنهم برفق ولين أو يقف بجانبهم يحمل السلاح ويخوض معهم الحرب في قتالهم للمؤمنين. 23 - {سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا}: أي: سنّ الله - سبحانه - غلبة أنبيائه ونصرتهم - عليهم الصلاة والسلام - سنة وطريقة قديمة فيمن مضى من الأُمم، قال - تعالى -: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (¬1) والمراد: ¬

_ (¬1) من الآية 21 من سورة المجادلة.

أن سنته - تعالى - أن يكون النصر والعاقبة لأنبيائه - عليهم السلام - ولن تتغير سنة الله وطريقته معك، فالغلبة والعاقبة لك عليهم لا محالة. وفي هذا تثبيت لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال للطمأنينة على قلوب المؤمنين، وبشارة ووعد بأَن النصر لهم، كما أن فيه تهديدا للمشركين بأَن الدائرة تدور عليهم. {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)} المفردات: (كَفَّ): دفع ومنع. (بِبَطْنِ مَكَّةَ) المراد: الحديبية. (أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ): أمكنكم منهم وجعلكم ذوى غلبة تامة عليهم. (وَالْهَدْيَ): ما يهدى ويساق إلى البيت الحرام من النَّعَمِ تقرّبًا إلى الله. (مَعْكُوفًا): محبوسًا وموقوفًا.

(تَطَئُوهُمْ): تدوسوهم بأقدامكم، والمراد: أن تبيدوهم وتهلكوهم. (مَعَرَّةٌ): مكروه ومشقة، من: عرَّه بمعنى عراه إذا دهاه بما يكره ويشق عليه. وقيل: من العُرّ، وهو الجرب الصعب اللازم. (تَزَيَّلُوا): تفرقوا وتميز بعضهم عن بعض. التفسير 24 - {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}: أخرج الإِمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وغيرهم عن أنس بن مالك قال: لَمَّا كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا من أهل مكة في السلاح من قِبل جبل التنعيم يريدون غِرة (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا، فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... ) الخ الآية، فهذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كفّ أيدى المشركين عنهم في الحديبية فلم يصل إلى المسلمين منهم سوءٌ كما منع - سبحانه - أيدى المؤمنين عن المشركين مع تمكنهم منهم فلم يقاتلوهم، وحفظ كلاًّ من الفريقين وأوجد بينهم صلحًا فيه خير للمؤمنين، وعاقبة كريمة لهم في الدنيا والآخرة، والله - سبحانه - بصير بكم وبأعمالكم - أيها المؤمنون - يعلم ما فيه الخير لكم، ولذلك منعكم عن قتال المشركين حفظا لكم ورحمة بكم، ورعاية لحرمة بيته العتيق من أن تراق فيه الدماءُ وتزهق الأرواح، كما أن في هذا الكف أيضًا إبقاءً على قوم لكم بهم رحم وقربى، ولعل الله يهدى بعضهم إلى الدخول في الإِسلام. 25 - {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ... } الآية: ¬

_ (¬1) الغرة - بالكسر -: الغفلة، أي: يريدون أن يصادفوا من رسول الله ومن أصحابه غفلة عن التأهب لهم: إهـ: القرطبي.

جاءت هذه الآية الكريمة للإشارة إلى أن الاختلاف بين المؤمنين والكفار باق، والنزاع قائم، والعداوة مستمرة، ولم ينته ما بينهما بالاتفاق والصلح ومنع أَيدى كل فريق عن الآخر، إذ أَن هؤلاء لا يزالون على كفرهم، وإمعانهم في عداوتكم، فلهذا قاموا بصدكم ومنعكم عن دخول المسجد الحرام للزيارة والاعتمار، مع أنهم قد علموا أنكم لا تريدون بهم شرًّا فقد سُقْتم الهدى من البدْن إلى البيت الحرام، وعكَفْتموها وحبستموها عليه قربى وزلفى لله - سبحانه وتعالى - فقد أشعرتموها فحززتم أَسْنمتها حتى سالت منها الدماءُ ليعلم أنها هدى، فمنعوا تلك البدن أن تبلغ المحل الذي اعتاد زُوَّار بيت الله وقُصَّاده أن يذبحوها فيه وهو منى (¬1)، وقد سبق أن حدثهم في هذا الشأن الحليس بن علقمة الكناني، وكانوا قد أرسلوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صده؛ الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، ولكن المشركين ركبوا رءُوسهم وقالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك. أي: أن هؤلاء الكفار قد ازدادوا كفرًا وعداوة لكم فلا تأْمنوهم، وإنما كان كف الله أيديكم عنهم بعد أن أَظفركم عليهم وأمكنكم منهم لحكمة يعلمها هو - سبحانه -. وقد جاء بيانها في قوله - تعالى -: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}: أي: ولولا كراهة أن تهلكوا أُناسًا مؤمنين يقيمون بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم وبأَماكنهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، كأن يقول المشركون: إن المسلمين قد فعلوا بأَهل دينهم من الإهلاك مثل ما فعلوا بنا، وكذلك ما يصيب المسلمين وينالهم عن الضيق والمشقة من أن يقتلوا إخوانهم في الإِسلام وهم عدّتهم على أعدائهم، فضلا عن الرحمة التي تسود وتعم المسلمين فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أي: لولا كراهة إهلاككم المؤمنين لما كف أيديكم عن قتال أهل مكة من المشركين. ¬

_ (¬1) منى: مكان قرب مكة، وسمي بذلك لما يمنى به من الدماء، أي: يراق.

(لِيُدْخِلَ اللهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: كفَّ أيديكم عنهم ليدخل الله في رحمته الواسعة من يريده - جل شأنه - من المؤمنين الذين يعيشون بين المشركين في مكة، فجعل لهم بعد خوفهم أمنًا، وبعد ذلك عزًّا، فيؤدّون في ظل ذلك عبادتهم لربهم على أَكمل وجه وأتم صورة في علانية دون استخفاء، أو: لِيَمُنَّ الله ويدخل من يشاءُ من المشركين في رحمته، وذلك باعتناقهم الإِسلام بعد أن رأوا ما عليه المؤمنون من تواد وتراحم وخلق كريم ودين قويم. (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي: لو تفرق هؤلاء المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا من مكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا هؤلاء الكفار في الدنيا بالقتل والسبى وغير ذلك من ضروب التنكيل الشديد والإيلام العظيم. {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)} المفردات: (الْحَمِيَّةَ): الكبر والأَنفة. (سَكِينَتَهُ) السكينة: هي الوقار والحلم. (أَلْزَمَهُمْ): اختار لهم وطلب منهم. (كَلِمَةَ التَّقْوَى): هي: لاَ إله إلا الله، كما جاء في حديث الترمذي وغيره مرفوعًا، وقبل غير ذلك.

(أَحَقَّ بِهَا) أي: أولى بها من غيرها ومتصفين بمزيد استحقاق لها. (وَأَهْلَهَا): وأصحابها المستأهين لها. التفسير 26 - {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ... } الآية: هذه الآية الكريمة تحكى ما كان من المشركين عند كتابة صلح الحديبية وتوثيقه، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليًّا - كرم الله وجهه - فقال له: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب (باسمك اللهم) فكتبها، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: (اكتب: هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله سهيل بن عمرو) فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب: هذا ما صالح عليه محمَّد بن عبد الله سهيل بن عمرو) إلى آخر ما جاء في كتاب الصلح. أي: تذكر - يا محمَّد - وذكر المؤمنين بذلك الوقت الذي ملأ فيه الكافرون قلوبهم كبرًا وأنفة بعدت بهم عن الحق، ونأت عن الصراط المستقيم، حيث لم يذعنوا لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفضوا الإقرار بالبسملة والتسليم برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرضوا بكتابة ما أملاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ورقة صلح الحديبية، ولكن الله برعايته ولطفه أدرك المؤمنين بكريم عطفه وعظيم فضله، فأنزل الطمأنينة والوقار والحلم عليهم، وثبتهم وأرضاهم وشرح صدورهم إلى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل قلوبهم ما دخل في قلوب المشركين من الحمية. وقال الإِمام الفخر الرازى: إن الله - تعالى - أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن فأشار إلى ثلاثة أشياء: (أحدها): جعل ما للكافرين بِجَعْلهم فقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ)، وجعل ما للمؤمنين بجَعْل الله - تعالى - فقال: (فَأَنْزَلَ اللهُ) وبين الفاعِلَيْن ما لا يخفى.

(ثانيها): جعل للكافرين الحمية، وللمؤمنين السكينة، وبين المفعولَيْن تفاوت. (ثالثها): أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى نفسه حيث قال: (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وقال: (سَكِينَتَهُ) وبين الإضافتين ما لا يذكر، ثم استطرد الإِمام الفخر فقال: قال الله في حق الكافر: (جَعَلَ)، وفي حق المؤمن: (أنزَلَ) ولم يقل: خلق ولا جعل سكينَتَه إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال، أما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزائن رحمته معدَّة لعباده فأنزلها. وقال: (الحَمِيَّة) ثم أضافها بقوله: (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)؛ لأنَّ الحمية في نفسها صفة مذمومة، وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحًا، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية، وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لِحُسْنٍ اعتبار، فقال: (سَكِينَتَهُ) اكتفاء بحسن الإضافة. (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) أي: اختارها لهم وألزمهم بها - سبحانه - تكريمًا وتشريفًا لهم، وكانوا أحق وأولى من سواهم وأجدر من غيرهم بهذا التكريم؛ فيه صفوة خلقه وأصحاب رسوله - رضي الله عنهم - المختارون لدينه الحنيف. وقيل: هم أحق بها في الدنيا وهم أهلها بالثواب في الآخرة. وكلمة التقوى هي: (بسمِ الله الرحمن الرحيم، ومحمَّد رسول الله) التي أبى سهيل ابن عمرو أن تكتب في صلح الحديبية، وقيل: هي لاَ إله إلا الله، والله أكبر، وقيل: هي الثبات والوفاء بالعهد. (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أي: يعلم - سبحانه - حق كل شيءٍ فيسوق ويعطى الحق لمن يستحقه، ويمنح العطاءَ من يستأهله، وذلك حسب ما تقتضيه حكمته وتوجبه رحمته.

{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} سبب النزول: أخرج ابن المنذر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فيقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك إلى العام القابل بسبب صلح الحديبية قال بعض المنافقين - استهزاءً -: والله ما خلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت هذه الآية. التفسير 27 - {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ... } الآية: أي: لقد أرى الله - سبحانه - رسوله الرؤيا الصادقة، ورؤيا الأنبياء كلها كذلك صادقة محققة؛ إذ هي أَحد وجوه الوحي إلى الأنبياء، وهذه الرؤيا ملتبسة ومرتبطة بالحق؛ وهو الغرض الصحيح والحكمة البالغة، فقد أظهرت وأَبانت حال المتردد والمتزلزل في إيمانه، وحال المطمئن الراسخ فيه الذي انشرح به صدره. (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ) أي: والله لتدخلن المسجد الحرام؛ ويكون دخولكم إياه بمشيئته - سبحانه - وحده، ولا يرجع ذلك إلى قوة المسلمين وجلادتهم ومصابرتهم ولا إلى إرادة المشركين ومشيئتهم.

وفي تعليق الدخول على مشيئة الله مع أنه - سبحانه - خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها ليُعَلِّم العبادَ أن يقولوا ذلك عندما يريدون فعل شيء أو تركه تأدُّبًا معه - جل شأنه - وتأكيدًا - لقوله تعالى -: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أن يشاء الله} (¬1). قال ثعلب: استثنى - سبحانه وتعالى - فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون، أي: علق الدخول على مشيئته، ليفعل الخلق مثل ذلك فيما لا يعلمونه. (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) أي: أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين متمكنين من أدائكم النسك وتصلون به إلى غايته؛ يحلق بعضكم ويقصر آخرون. هذا، والحلق أفضل وأولى بالرجال، والتقصير أحق بالنساء. (لا تخافون) قد تكفل الله - سبحانه - لرسوله ومن معه بكمال الأمن بعد تمام النسك، أي: تدخلون آمنين تحلقون وتقصرون، ويبقى ويدوم أمنكم بعد خروجكم من الإحرام فأنتم في حفظ الله ورعايته في حال الإحرام وبعده. (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) أي: فعلم الله ما في صلح الحديبية من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموا أنتم به؛ عَلِمَهُ - سبحانه - واقعًا وحاصلًا، وقد علمه أزلًا قبل وقوعه وهو بكل شيء عليم. (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) أي: جعل الله لكم من قبل دخولكم المسجد الحرام محلقين مقصرين - جعل لكم - من دون ذلك ومن قبله فتحًا عظيمًا قريبًا هو فتح خيبر، وما أصبغ فيه من الغنائم دون قتال، أو المراد من الفتح القريب: هو صلح الحديبية الذي قال عنه الزهرى: ما فتح الله في الإِسلام كان أعظم من صلح الحديبية؛ لأنه إنما كان القتال حين يلتقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأَمن الناس بعضهم بعضًا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يُكلَّم أحد بالإِسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، فلقد ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية 23، وبعض الآية 24.

دخل في تَيْنِكَ السنتين في الإِسلام مثل ما كان في الإِسلام قبل ذلك وأكثر، يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ستٍّ يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (28)) المفردات: (لِيُظْهِرَهُ): ليعليه ويرفعه. (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على كل ما يدين ويتعبد به الناس من حق أو باطل. التفسير 28 - (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا): أي: هو - سبحانه - الذي أرَى نبيه الرؤيا الصادقة هو - كذلك - الذي أرسله وبعثه مصاحبًا للهدى والدليل الواضح والحجة البالغة والمعجزة الباهرة، وأرسله بالدين الحق الذي لا يأتيه الباطل، ولا ينال منه الزيف، ولا يعتريه التحريف، ليعليه - سبحانه - ويرفعه على كل ما يدين الناس ويستعبدون به من الشرائع والملل من الحق والباطل، وإظهار الإِسلام على الحق من الشرائع والملل يكون بنسخ بعض أَحكامه المستبدلة والمتغيرة بتبدُّل الأعصار والأزمان، وأما إظهاره على الباطل فيكون ببيان بطلانه وزيفه.

هذا، والإِسلام بمبادئه وتعاليمه وشرائعه يسمو في كل زمان ومكان على كل شرعة ومنهاج، وذلك عند أصحاب الفطر المستقيمة والقلوب النقية السليمة، كما أنه - كذلك - عند من له أدنى بصر وبصيرة، ولا يضير الإِسلام أن خالفه المخالفون، فهم في واقع أمرهم معترفون في داخلهم، ولكنهم يستكبرون فينكرون، وصدق الله القائل: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (¬1). (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد له بأنه - سبحانه - لا محالة سيحقق له ما وعده به من إظهار دينه على جميع الملل والنحل وكفى الله شهيدًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وشهادته له تكون بإظهار المعجزات على يديه، وقيل: (شهيدًا) على رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وفي الآية - على هذا - تسفيه للكفار الذين أبَوا أَن يكتبوا في عقد صلح الحديبية (محمد رسول الله). (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)) ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية 33.

المفردات: (يَبْتَغُونَ): يطلبون في جد واجتهاد. (سِيمَاهُمْ): علامتهم وأمارتهم التي تميزهم. (مَثَلُهُمْ): وصفهم العجيب الشأن البخاري مجرى المثل في الغرابة. (شَطْأَهُ) شطء الزرع: فروخه، وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه، أي: جانبيه. (فَآزَرَهُ): فأعانه وقواه. (فَاسْتَغْلَظَ): فصار من الدقة إلى الغلظ. (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ): استقام على قصبه. والسُّوق: جمع ساق. التفسير 29 - (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ... ) الآية: أي: هو محمَّد الذي وصف بالرسالة في قوله - تعالى -: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}، وفي قوله - جل شأنه -: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وجاء النص في هذه الآية بالتصريح بذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم تفخيمًا لشأنه وزيادة في إنزال السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، بعثًا للرجاء لدى بعض الشاكِّين المترددين كي يثبتوا على الإِسلام، فضلًا عن أن ذلك يغيظ قلوب الحاسدين والحاقدين على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة - رضوان الله عليهم - بأنهم أشداء على الكفار لقطع أمل الكفار ورجائهم في أن يداهنهم أو أن ينزل ويتجاوز عن بعض ما جاء به، وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غير هذه الآية بالغلظة على الكفار فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬1) كما وصفه ربه - جل وعلا - بالرحمة والرأفة بالمؤمنين فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) من الآية رقم 9: من سورة التحريم.

رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1) أما صحابته - رضي الله عنهم - فشأنهم معه - صلى الله عليه وسلم - هو الطاعة والتأسي وبذل النفس والمال في سبيل الله، وقد قال الله في حقهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬2). وشدة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومن معه على الكفار تكون عند ملاقاتهم في الحروب، فلا تضعف عزائمهم ولا تلين قناتهم، فالمؤمن قد وعده الله إحدى الحسنيين إما الشهادة والموت في سبيل الله، أو الظفر والنصر، أَما فيما يتصل بمعايشة الكفار غير الحربيين فينبغى أن يكون المسلم على حذر منهم؛ لأنهم لا يألون جهدًا في المكر والكيد للمسلمين والنيل منهم، وصدق الله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (¬3) وهذا لا يمنع حسن الجوار معهم والبر بهم والعدل فيهم وقوله - تعالى -: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: يتراحمون فيما بينهم، فلا يبغي بعضهم على بعض؛ فهم في تعاطف وتوادّ كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وعن الحسن - رضي الله عنه -: بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه. أخرج أبو داود عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما" كما أثر (أن أحد الصحابة قدم على رسول الله في المدينة فاعتنقه وقبَّله) غير أن الإِمام النووى في كتابه الأذكار قال في التقبيل وكذا المعانقة: لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، ولعل دليله في هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في حديث أخرجه الترمذي عن أنس في زيادة رزين - لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أينحنى له؟ قال: (لا). قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: (لا، إلا أن يأتى من سفره). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 128. (¬2) سورة المائدة، من الآية: 54. (¬3) سورة آل عمران، من الآية: 118.

(تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الخطاب هنا لكل من تتأتى منه الرؤية، أي: تبصر وترى منهم كثرة الصلاة في أغلب أحوالهم وكثرة أحيانهم ليلًا ونهارًا؛ ينبئ ويدل على ذلك التعبير بالفعل المضارع (تَرَاهُمْ) فإنه يدل على استمرار الفعل وتجرده (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) أي: يرجون في جد واجتهاد بانكسار قلب، وذلة نفس أَن يمنحهم الله من فضله ويمن عليهم من رضوانه تفضلًا منه وتكرمًا؛ لأنهم لا يرون لهم أجرًا على ما قدموا من عمل طيب، وأن ما قاموا به من طاعة وعبادة فهي - فضلًا على أنها بتوفيقه - دون أقل نعمة تفضل الله بها عليهم، فنعم الله وأفضاله كثيرة قبل وتعظم عن الإحصاء والحصر، ويقف الإنسان منها عاجزًا عن عدّها وبيانها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1). (سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي: العلامة التي يتميز المؤمنين عن سواهم أن ترى في وجوهم سمة حسية وأَمارة تنبئ عنهم وتدل عليهم، وذلك يكون من كثرة ما يسجدون لربهم. قال جار الله الزمخشرى في الكشَّاف: وكان كل من العَلِيَّيْن: علي بن الحسين زين العابدين، وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له: ذو الثَّفَنَات (¬2)؛ لأنَّ كثرة سجودهما أَحدثت في مواقعه منهما أَشباه ثفنات البعير. وعن سعيد بن جبير: هي سمة في الوجه، فإن قلت: فقد جاءه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تعلبوا صوركم) (¬3). وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى رجلًا قد أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تَشِنْ صورتك. قلت: ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة، وذلك رياءٌ ونفاق يستعاذ بالله منه، ونحن نتحدث فيما حدث في جهة السَّجاد الذي لا يسجد إلا خالصًا لوجه الله - تعالى - وعن بعض المتقدمين: كنا نصلى فلا يُرى بين أعيننا شيءٌ ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير: فما ندرى أثقلت الرءوس أم خشنت الأرض؟ وإنما أراد من تعمد ذلك للنفاق، وقيل: هو صفرة ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم من الآية: 34. (¬2) ثفن البعير: غلظت وصلبت المواضع التي يبرك عليها. (¬3) العلب: هو الأثر، أي: لا تعيبوا صوركم بما تحدثون من أثر كما يثلم ويكسر حرف الإناء والسيف.

الوجه من خشية الله، وقال بعضهم: ليس هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجى أو حبشي. وعن عطاء - رحمه الله - استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل، وفي الأثر: (مَن كثُرت صلاته بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار)، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى -: (سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): "النور يوم القيامة". قال الإِمام الآلوسي: ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة، لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر. (ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من صفاتهم الحميدة وشمائلهم العظيمة، وجاء اسم الإشارة (ذَلِكَ) الذي يدل على البعد للإيذان بعلو شأنهم وبعد منزلتهم في الكمال والفضل. وقوله - تعالى -: (مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ) أي: وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى المثل لكونهم على صورة فريدة طيبة ومثال غريب لتميزهم في عباداتهم، وأنهم أُسوة لسواهم، وقدوة يحتذيها غيرهم ممن يأتي بعدهم، وجاء هذا الوصف الجليل لهم في الكتاب الذي أنزله الله على سيدنا موسى - عليه السلام - وهو التوراة. (وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) أي: وصفتهم العظيمة في الإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا عيسى - عليه السلام - كزرع أَخرج فِراخه من أَغصان وأَفنان وأَوراق، فتفرعت في جانبيه فأعانه ذلك وقوّاه فصار من الدقة إلى الغلظ، واشتد فاستقام وانتصب هذا الزرع على أصوله وقصبه وسيقانه. (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي: معجبًا لهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، وخص الله - سبحانه - الزُّرَّاع بالذكر؛ لأنّهم أعرف من غيرهم بِجيِّد الزرع من رديئه، وبِقَوِيِّه من ضعيفه، ويحيطون علمًا بآفاته وعلله وعيوبه، فإذا أعجبهم وظفر باستحسانهم له - وهم أهل الخبرة فيه - فسواهم أولى وأجدر بالإعجاب، وأحق أَن يحظى لديهم بما يملأُ نفوسهم رضًا عنه وانفعالًا به.

وذكر ابن جرير، وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم يشبهون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. نقول: وعلى هذا يكون الوصف للصحابة وحدهم. وقال صاحب الكشاف: هو مثل ضربه الله - تعالى - لبدء الإِسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام وحدد ثم قواه الله - تعالى - بمن معه كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها ممَّا يتولد منها. وظاهر قول الزمخشرى أن الزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشطء هو الصحابة، ولكل وجهة. (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي: فعل الله - تعالى - هذا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ليغيظ بهم الكفار ويجلب لهم الحسرة والندامة. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) أي: وعد الله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين آمنوا بالله حق الإيمان وعملوا من الصالحات ما جعلهم أهلًا لصحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدهم وبشَّرهم بمغفرة منه لما عسى أن يكون قد بدر منهم من ذنوب هي إلى الصغائر أقرب، كما وعدهم وبشَّرهم بأجر عظيم وثواب كريم في الآخرة. وقد استنبط الإِمام مالك من هذه الآية تكفير الذين يبغضون الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فإن الصحابة يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء، وفي كلام السيدة عائشة - رضي الله هـ عنها - ما يشير إلى ذلك، فقد تخرج الحاكم وصححه عنها في قوله - تعالى -: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قالت: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم. أَعاذنا الله من ذلك، وثبت قلوبنا على محبته - صلى الله عليه وسلم - ومحبة أصحابه الذين قال فيهم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم"، وقال: "لا تسبوا أصحابى، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" (¬1) خرجهما البخاري - والله أعْلم. ¬

_ (¬1) أي: لم يدرك مد أحدهم ولا نصف المد إذا تصدق بمثل جبل أحد ذهبا، والمد - بالضم - مكيال هو رطلان أو وطل وثلث، أو ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما وبه سمي مدًّا، وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا. القاموس المحيط.

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة مجمل معانيها: تضمنت هذه السورة ألوانًا من الأدب الرفيع، منها وجوب انتظار حكم الله ورسوله في أمور الدين وعدم سبقه بالحكم، وأن لا يرفع المسلمون أصواتهم فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وبيان أن الذين يخفضون أصواتهم عنده لهم مغفرة وأَجر عظيم، كما تضمنت أن نداءه - صلى الله عليه وسلم - من وراءه الحجرات في وقت راحته لا يجوز وأن على أولئك المنادين أن ينتظروه حتى يخرج إليهم، ليتحدثوا معه فيما جاءوا من أجله، وحذرت من قبول المؤمنين خبر الفاسقين حتى يتحققوا من صدقه، لكيلا يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين، وأوجبت عليهم الإصلاح العادل بين الطائفتين المتقاتلين من المؤمنين، فإن لم يتم الصلح قاتلوا الطائفة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله - تعالى -: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. ونهت عن سخرية بعضهم من بعض ذكورًا كانوا أو إناثًا، وعن التعاير بالألقاب، وأمرت باجتناب كثير من الظن {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ونهت عن التجسس وعن الغيبة، وبينت أن الله - تعالى - خلق عباده من ذكر وأُنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتفاخروا بالأحساب والأَنساب، فإن أكرمهم عند الله أتقاهم. وكشفت كذب بعض الأعراب في ادعائهم الإيمان، ودعتهم إلى صدق الإيمان فإن الله بهم عليم ({إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). وجه ارتباطها بما قبلها: ترتبط سورة الحجرات بسورة الفتح قبلها بعدة روابط، منها: أنهما مدنيتان ومشتملتان على أحكام، وأنَّ سورة الفتح فيها قتال الكفار، وهذه فيها قتال البغاة، وتلك ختمت

السبب العام لنزول هذه السورة

بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا، وتلك تشريفًا له - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة مطلعها وهذه تضمنت تشريفًا له في مطلعها، إلى غير ذلك. السبب العام لنزول هذه السورة: قال القرطبي: قال العلماء: كان في العرب جفاءٌ وسوءُ أدب في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي تلقيب الناس، فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق. الأسباب الخاصة لنزول آياتها: تشتمل هذه السورة على عدة أحكام وآداب، ولكل آية منها سبب اقتضى نزولها، وسنبين ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -.

بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)) المفردات: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ): لا تقدموا أمرًا قبل أن يحكم الله فيه ورسوله. (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ): لا تجعلوا أصواتكم أَعلى من صوته. (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي: ولا تساووه في الجهر كما يساوى بعضكم بعضًا فيه. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) أي: كراهت أن يبطل ثوابها وأنتم لا تدرون. التفسير 1 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ): تشتمل هذه الآية على صورة بلاغية، حيث استعير المتقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم في أَمر دون اقتداءٍ بكتاب الله وبرسوله، تصويرًا لشناعته بصورة المحسوس،

فمثله كمثل تقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فالمراد من الآية: لا تقطعوا أمرًا، ولا تجرؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله فيه ورسوله، فإن ذلك شديد القبح كالذى يسبق سيده في سيره. سبب النزول: اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية، فقد روى الواحدى بسنده عن ابن جُرَيْج قال: حدثني ابن أبي مُلَيْكَة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قَدِم ركبٌ من بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلاَّ خلافى، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ورواه البخاري عن محمَّد ابن الصباح. وروى المهدوى بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستخلف على المدينة رجلًا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عمر برجل آخر فنزل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). وروى الماوردى عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفد أربعة وعشرين رجلًا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسَلمُوا، وانكفأوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم، فسألوهما عن نسبهما، فقالاَ: من بني عامر لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفرٌ من بني سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن بيننا وبينك عهدًا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بمائة بعير في قتلهم الرجلين .. إلى غير ذلك من الأقوال، ولا نرى مانعًا من حدوث هذه الأسباب جميعًا قبل نزول الآية فلا تعارض بينها، فتكون الآية قد نزلت بشأنها جميعًا، ليلتزم أصحابها بالأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يُحْدثوا أمرًا قبل سؤاله وحكمه. ويقول بعض العلماء: لعلها نزلت من غير سبب، لتكون دستورا للمسلمين في أعمالهم وأقوالهم، فلا يقدموا طاعة عن وقتها، ولا يخالفوا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله فيها، فهو

إمام أُمته وأُسْوتها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (¬1). ويدخل في عموم هذه الآية - كما قال ابن كثير - حديث معاذ قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن: "بِمَ تحكم؟ " قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله". وقد ختم الله الآية بالتحذير من مخالفة هذا النهي فقال: (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: وخافوا الله واجعلوا لأنفسكم وقاية من عقابه، فإنه سميع لأقوالكم عليم بها، وبأعمالكم، فيجزيكم اللائق بامتثالكم أو مخالفتكم. المعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا اتَّبعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، ولا تسبقوه بالحكم في أمر من أمور الدين أو سياسة الأُمة، فإن ذلك ليس من حقكم، بل انتظروه حتى يحكم فيه فهو إمام أُمته، إن الله عظيم السمع واسع العلم، فيسمع أقوالكم، ويعلم بها وبأعمالكم فيجازيكم بالخير إذا امتثلم، ويعاقبكم إذا خالفتم. بعض ما يستنبط من أحكام الآية: تعتبر الآية أصلًا في إيجاب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم مخالفته في قوله أو فعله، فإنه كما قال - تعالى -: "وما ينطق عن الهوى ... إن هو إلا وحيٌ يوحى" (¬2). * ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس" فقالت عائشة لحفصة - رضي الله عنهما -: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف - أي: سريع البكاء -، وإنه متى يقم مقامك لا يُسمِع الناسَ من البكاء، فمُر عمر فليصل بالناس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية: 21. (¬2) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.

ويفهم من الآية أن كل عبادة مؤقتة بوقت لا يجوز تقديمها عليه، كالصلاة والصوم والحج. واختلف في تقديم الزكاة عن وقت وجوبها، فأجازه قوم وبه قال أبو حنيفة، والشافعى، ومنعه قوم منهم أشهب، فلا تقدم على وقتها لحظة واحدة. وقد اعتمد الذين أجازوا تقديمها على وقتها - اعتمدوا - على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استعجل من العباس صدقة عامين، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أقر جمع زكاة الفطر قبل يوم الفطر، حتى تعطى لمستحقيها قبل يوم الوجوب، وهو يوم عيد الفطر، وبهذا القول نقول، فيجوز إعطاءُ الزكاة قبل تمام الحول، فإذا حال الحول وقد نقص المال فما دفعه من الزيادة عن الواجب عليه يعتبر صدقة تطوع، وإذا زاد كما في عروض التجارة، فإنه يستكمل الزكاة بإخراج نصيب هذا القدر الذي زاد. وقد ختم الله الآية بقوله - سبحانه -: (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي: وخافوا الله واجعلوا لأنفسكم وقاية من عقابه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، إن الله سميع لأقوالكم عليم بها وبأعمالكم، فيجزيكم الجزاء اللائق بامتثالكم أو مخالفتكم. 2 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ): سبب نزول الآية: روى البخاري والترمذي بسنديهما عن أبي مُليْكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله، استعمله على قومه (¬1)، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك - قال -: فنزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... ) الآية، قال: ¬

_ (¬1) أي: اجعله واليا وأميرا عليهم.

فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال أبو مُلَيْكَة: وما ذكر ابن الزبير جده - يعني أبا بكر - فقد كان والد أُمه أسماء ذات النطاقين. وسيأتي في أسباب نزول الآية التالية رواية تفيد أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: (والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السَّرار). وهذه قد سبق مثلها في أسباب نزول الآية التي قبلها، فتكون قصة أبي بكر وعمر من أسباب نزول الآيتين، بل والآية التالية كما سيجيء - إن شاء الله تعالى - ويلاحظ على هذه الرواية أن الذي اقترح الأقرع بن حابس هو أبو بكر، في حين أن الرواية السابقة تفيد أنه اقترح تأمير القعقاع بن معبد، وأن الذي اقترح تأمير الأقرع بن حابس هو عمر. وعلى أي حال فالواقعة صحيحة وإن اختلفت الروايتان في الشخص الذي اقترح كلاهما تأميره. وروى الإِمام أحمد بسنده عن أنس قال: لمَّا نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... ) إلى (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، وكان ثابت ابن قيس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحْبِطَ عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينًا، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالَكَ؟ قال: أنا الذي أرفع صوق فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حَبِط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال. فقال: "لا، بل هو من أهل الجنة" قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت ابن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه وقال: (بئسما تقودُون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل). وجاءت قصته في الصحيحين عن أنس نحو هذه الرواية. وقال عطاء الخراساني: حدثتنى ابنة ثابت بن قيس قالت: لمَّا نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... ) دخل أَبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه يسأل ما خبره؟ فقال: أنا رجل شديد الصوت، وأنا أخاف أن يكون حُبِطَ عملي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليست منهم بل تعيش بخير". قالت: ثم أنزل

"إن الله لا يحِبُّ كل مُختال مخورٍ" فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمَال وأحب أن أسود قومى، فقال: "لست منهم، بل تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة" قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مُسَيلمة (¬1)، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قُتِلَا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمرَّ به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائمٌ أتاه ثابت في منامه فقال له: أُوصيك بوصية، وإيَّاك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لمّا قُتلت أمس مَرّ بي رجل من المسلمين فأخذ درعى، ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستَنُّ في طِوَله (¬2)، وقد كفأَ على الدرع بُرْمَة، وفوق البرمة رَحْل، فائت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعى فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني أبا بكر - فقل له: إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدًا فأخبر، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته - قال -: ولا نعلم، أحدًا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت. رأينا في تعدد أسباب للنزول: لا نرى مانعًا من أن تكون الآية بسبب رفع الصوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل من أبي بكر وعمر وثابت بن قيس أو غيرهم؛ لتكون قاعدة عامة في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم توقيرًا له، ورفعًا لمقامه فوق كل مقام. وكلُّ ما حدث من رفع الصوت على الرسول قبل نزول هذه الآية لا عقاب عليه، فلما نزلت وجب الالتزام بها. معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدثتموه، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، فإذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم الحد الذي يبلغه ¬

_ (¬1) هو مسيلمة الذي ادعى النبوة كاذبا، وكان خالد بن الوليد قائدا للجيش الذي يقاتله. (¬2) أي: وعند خيمته فرس مربوط بحبل طويل يمرح فيه في المرعى.

بصوته، وأن تغضوا وتخفضوا منها، بحيث يكون كلامه غالبًا لكلامكم، وجهره باهرًا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكيم واضحة، وسابقة ظاهرة، وامتيازُه بَيِّنًا، فلَا تغمروا صوته بلَغَطكم، ولا تبهروا منطقه بصخبكم، ولا تخاطبوه بيا محمَّد ويا أحمد، ولكن قولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله - انتهوا عمّا نهيتم عنه - لئلا يتأذى نفسيًّا برفعكم أصواتكم، واجتنابكم أسلوب التوقير له، فتحبط أعمالكم ويضيع ثوابكم، وأنتم لا تشعرون بذلك في دنياكم، بل تعلمونه في أُخراكم. وإذا وصل الجهر بالصوت إلى حد الاستخفاف والاستهانة فذلك كفر - والعياذ باللهِ - فالغرض من الآية أن يكون صوت المؤمن عند خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خفيضًا مناسبًا لمقامه وهيبته، لكن بحيث يسمعه. ولا يتناول النهي رفع الصوت الذي لا يتأذى به، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو وما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للعباس بن عبد المطلب لمَّا انهزم الناس يوم حنين: "اصرخ بالناس". وكان العباس أكبر الناس صوتًا، روى أن غارة أتتهم، فصاح العباس: يا صباحاه فأُسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة: زَجْرَ أبي عُرْوَة السباعَ إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم وأبو عُروة كنية العباس - رضي الله عنه -. وقد أثنى الله على من يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم المغفرة والأجر العظيم فقال: 3 - (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ): أي: إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يكلمونه أو يكلمون غيره

بين يديه إجلالًا له، أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم على خفض أصواتهم عنده. ولفظ (امتحَنَ) من قولهم: امتحنْتُ الفضة، أي: اختبرتها حتى خَلَصتْ، وروى عن أبي هريرة أنه قال: لمّا نزلت: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ ... ) قال أبو بكر: (والله لا أرفع صوتي إلا كأَخى السّرار) أي: إلا كصاحب المسارَّة، وقال عبد الله بن الزبير: لما نزلت: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ .. ) ما حدث عمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه ممَّا يخفض، فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)) المفردات: (يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ): يرفعون أصواتهم من خارج حجرات أزواجه - صلى الله عليه وسلم - طالبين خروجه إليهم، وسيأتي الحديث عنهم. التفسير 4 - (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ): كان الأعراب ذوى خشونة وجفاء في أخلاقهم وطباعهم قبل أن يدخلوا الإِسلام فيرقق طباعهم ويحسن أخلاقهم. وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام القائلة - أي: نصف النهار - فجاء وفد من أعراب بني تميم يفادون أسراهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات أن يخرج إليهم دون أن ينتظروه حتى يخرج من حجرته، فأنزل الله عليه تلك الآية.

قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم؛ قَدِم الوفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا فإن مدحنا زَيْنٌ وذمنَا شَيْنٌ، وكانوا سبعين قدموا لفداء ذرارى لهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - نَام القائلة. وروى أن الذي ناداه منهم هو الأقرع بن حابس، وأنه هو القائل: إن مدحى زين وإن ذمى شين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك الله" رواه الترمذي عن البراء بن عازب، والمراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك الله" أن الذي مَدْحُهُ زين وذمه شين هو الله تعالى. وفي رواية عن زيد بن أرقم قال: "أتَى أناس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيًّا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يك مَلِكًا نَعِشْ في جنابه فأَتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا ينادونه: يا محمَّد، يا محمَّد. وهناك روايات أُخرى لسبب النزول، وحَسْب القارئ ما تقدم. والحجرات جمع حجرة (¬1) والمراد بها بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أسكن فيها زوجاته، وقد بينت الآية أن أكثر هؤلاء المنادين لا يعقلون، ويفهم منها أن أقلهم يعقلون وهم الذين لم يوافقوا على ندائه قبل أن يخرج إليهم. والمعنى الإجمالي للآية: أن الأعراب الذين ينادونك - أيها النبي - من وراء الحجرات وقت راحتك في النهار أو الليل، أكثرهم لا يعقلون، حيث لم يفرقوا بين ما يليق وما لا يليق وقد أوضح الله لهم ولغيرهم كيف يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: 5 - (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمَّات نفسه، وذلك حقٌّ له، فمن سوء الأدب إزعاجه وقت راحته، وعلى من أراد لقاءه أن ينتظره حتى يخرج. ¬

_ (¬1) والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحيط بها، وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه.

ومعنى الآية: ولو أن هؤلاء الذين نادوك من وراء الحجرات وأنت مستريح - لو أنهم - انتظروك حتى تخرج إليهم، لكان انتظارهم وصبرهم خيرا لهم في دينهم ودنياهم، والله - تعالى - واسع المغفرة شامل الرحمة، فيقبل التوبة ممن تاب وآمن، ومن هذا الأدب نعلم أنه ينبغي أن لا ينادى الناس بعضهم بعضًا من وراء مساكنهم، وأن لا يستأذنوا في أوقات الراحة، وينبغى أن يكون الاستئذان بالقرع الخفيف على الباب، وقد قام مقامه الضغط على (زر الكهرباء) ليصلصل الجرس، فإذا فتح للطارق سلم على من فتح له. أي: قال له: السلام عليك، ولا يدخل البيت إلا بإذن ممن له حق الإذن، وفي هذا يقول الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (¬1). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) ¬

_ (¬1) سورة النور، الآيتان: 27، 28.

المفردات: (فَاسِقٌ): مرتكب للمعصية خارج عن الطاعة، من فَسَقت الرُّطبة: خرجت عن قشرها. (بِنَبَإٍ): بخبر. (فَتَبَيَّنُوا): فتثبتوا. (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ): لئلا تعتدوا على قوم بغير علم. (لَعَنِتُّمْ): لأصابكم العنت وهو المشقة والإثم. (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ): أولئك هم المستقيمون على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد: وهي الصخرة. التفسير 6 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ): الخبر الكاذب تكون آثاره بعيدة عن الصواب مجانبة للحق، ولذا ينبغي التدقيق في التعرف على راوى الخبر، هل هو ممن عرف بالصلاح والصدق فيقبل خبره، أم هو ممن عرف بالفسق والكذب فيتحرى عن خبره ويتثبت منه. ولهذا أنزل الله هذه الآية الكريمة لتوعية المسلمين بالتدقيق في تلقى الأخبار، لما يترتب على قبولها من الفساق من سيء الآثار. سبب نزول الآية: روى سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عُقْبَة مُصَّدِّقًا إلى بني المصطلق - أي: جابيًا للصدقة منهم وهي الزكاة - فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم لإحة كانت بينه وبينهم - كما جاء في بعض الروايات - فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنهم قد ارتدوا عن الإِسلام، فبعث نبى الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، وانطلق خالد حتى أتاهم

ليلًا، فبعث عيونه - أي: جواسيسه - فلما جاءُوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإِسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أَتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فنزلت الآية، فكان نبي الله يقول: "التأني من الله والعجلة من الشيطان". وجاء في رواية أُخرى أن وفدهم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعنا رسولك فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما عندنا من الصدقة، فاستمر راجعًا، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك، فأنزل الله هذه الآية. هل كان الوليد فاسقًا؟: تقول الآية: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وهي تشير إلى أن الوليد كان فاسقًا، فكيف يبعثه النبي لجلب الصدقة من المسلمين؟ والجواب: أنه لم يكن يعلم بحاله، فلما أرسله وحدث منه ما حدث ظهر فسقه، فنزلت الآية: للتحذير من قبول من يحتمل أنه فاسق حتى يتبينوا. المعنى للإجمالى للآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: إن جاءكم من يحتمل فسقه بخبر خطير فتثبتوا من صدقه، لكي لا تصيبوا قومًا وتعتدوا عليهم وأنتم جاهلون للحقيقة، فتصبحوا نادمين على ما فعلتم من التسرع في الانتقام منهم، قبل التثبت من حال خبرهم، وذلك حين تظهر الحقيقة مخالفة للخبر بعد التورط في آثاره. 7 - (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ): المعنى: واعلموا يا صحابة رسول الله أن فيكم رسول الله فاصْدقوه ولا تكذبوه، وعظموه ووقروه، وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإن أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم، فلو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر، لنالتكم المشقة والإثم،

فإنه لو قاتل الذين كذب عليهم الوليد بن عقبة، لكان خطأً كبيرًا، ولأصاب العنت، والإثم الوليد بن عقبة الذي أراد قتالهم ولأصاب من كان على رأيه منكم. ثم خاطبهم الله مشيرًا إلى أنهم - مع خطئهم في المشورة في كثير من الأمور - مقيمون على الحق فقال: (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ) أي: ولكن الله حبب إليكم الإيمان بالله ورسوله وحسَّنه في قلوبكم حتى اخترتموه (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) فرفضتموها (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أولئك الموصوفون بهذه الصفات هم المستقيمون على طريق الحق مع تصلب فيه. والرشد مأخوذ من الرشادة، وهي الصخرة، كما تقدم في المفردات. 8 - (فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): أي: فعل الله ذلك بكم فضلا وإنعامًا منه، والله عليم بما يصلحكم، حكيم في تدبير أموركم. (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)) المفردات: (طَائِفَتَانِ): جماعتان. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا): فإن تعدت وظلمت.

(حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ): حتى ترجع إلى أمره. (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الإقساط (¬1): العدل أي: واعدلوا في الإصلاح بين الطائفتين إن الله يحب العادلين. التفسير 9 - (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) الآية: مقدمة: بعث الله محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولا يتحقق ذلك إلا بالوحدة وعدم التفرق بين المسلمين، امتثالا لقوله - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا .. } (¬2) فإذا وسوس الشيطان بين فريقين منهم حتى اقتتلوا، وجبت المسارعة إلى الإصلاح بينهما، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع مع أصحابه، وعلى الفريقين أن ينقادوا إلى الصلح حقًّا على الوحدة بين المسلمين، ومن أجل ذلك نزلت هذه الآية والتي تليها. سبب النزول: روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال: (قلت: يا رسول الله، لو أَتيت عبد الله بن أبَيٍّ - يعني ابن سلول رأس المنافقين - فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فركب حمارًا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عني، قد أذاني نَتَنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدى والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية (¬3) وعلى أساسها أصلح النبي بينهم. ¬

_ (¬1) إفعال من القسط - بكسر القاف - وهو العدل، أما القسط - بفتح القاف - فهو الظلم، ومنه قوله - تعالى -: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا}. (¬2) من الآية 103 من آل عمران. (¬3) رواه الإِمام أحمد بسنده عن معتمر، ورواه البخاري في الصلح عن مسدد، ورواه مسلم في المغازى بسنده عن محمَّد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه.

وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج، قال مجاهد: تقاتل حيَّان من الأنصار بالعصى والنعال فنزلت. وتوفيقًا بين الروايتين نقول: إن عبد الله بن أُبي بن سلول والذين تعصبوا له أَوسيون والذين جابهوهم خزرجيون وعلى رأسهم عبد الله بن رواحة كما جاء في إحدى الروايات. كيف يكون الإصلاح بينهما؟ يكون الإصلاح بين الطائفين المتقاتلتين من المؤمنين بالعدل وعدم التحيز إلى فئة على حساب الأُخرى، فإن دين الإِسلام دين مساوة، وبذلك ترضى نفوسهما ويزول ما بينهما، ومن وسائل الصلح التنازل عن حق الإمارة، فقد بويع الحسن بن علي - رضي الله عنهما - بعد قتل أبيه، ثم تنازل عن حقه في الإمارة والخلافة، حقْنًا لدماء المسلمين وجمعا لكلمتهم وقد أَخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في طفولة الحسن. روى الإِمام البخاري بسنده عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يومًا ومعه على المنبر الحسن بن عليٍّ، فجعل ينظر إليه مَرَّةً وإلى الناس أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيِّدٌ، ولعل الله - تعالى - أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم - فقد أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب المدمرة التي كانت بين أبيه وبين معاوية. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ): أي: فإن تطاولت إحداهما على الأخرى ولم تستجب للصلح فهي باغية عليها، فيجب على المسلمين قتالها حتى ترجع إلى حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فإن رجعت إليه فكُفُّوا عن قتالها، وأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين.

قتال علي ومعاوية

بعض ما يستنبط من أحكام الآية: 1 - استدل البخاري وغيره بالآية على أن المؤمن لا يخرج عن إيمانه بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقول الخوارج وفريق من المعتزلة، والآية صريحة في ذلك، فإنها سمّتهم (المؤمنين) مع قتالهم، وكما صرح به الحديث الصحيح السابق "ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". 2 - دلت الآية على وجوب قتال الفئة الباغية على الإِمام وعلى سواه من المسلمين، كما أنها حجة على من منع قتال المؤمنين مطلقًا، محتجًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قتال المؤمن كفر" فلو كان قتال المؤمن الباغى كفرًا، لكان أمر الله بقتاله أمرا بما يكفر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - كما أن هذا أقول مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا على أيدى سفائكم" ولو كان قتال المؤمن محرمًا على الإطلاق، لما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة مانعى الزكاة من المؤمنين. وقد أمر الصديق أن لا يتبع فارٌّ، ولا يجهز على جريح منهم، ولا تَحِلُّ أَموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. ويقول الطبرى: لو كان الواجب في كل خلاف بين فريقين الهرب منه ولزوم المنازل، لما أُقيم حَدٌّ ولا أُبطل باطل، ولوجد أَهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم عليهم من أموال المسلمين، وسبق نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا على أيدى سفهائكم": إهـ. فلذلك كله يحمل حديث "قتال المؤمن كفرٌ" على قتال غير البغاة منهم استحلالًا له. قتال علي ومعاوية: كان القتال لشبهة قامت بينهما، فالإمام عليٌّ طلب البيعة من أهل الشام وعلى رأْسهم معاوية، ومعاوية طلب الأخذ بثأر عثمان ممن يوجد منهم في معسكر علي، فكان عليٌّ يقول: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، وكان معاوية ومن معه يقولون: لا تستحق البيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباحًا ومساءً.

وكان عليٌّ أحسن رأْيا من معاوية في هذا؛ لأنه لو قتل الذين قتلوا عثمان قبل تمام البيعة، لتعصبت لهم قبائلهم وصارت حربا أُخرى، فانتظر بهم أن يستوثق الأَمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من أولياءِ دم عثمان في مجلس الحكم، فيجرى القضاءُ بالحق والمسلمون يد واحدة. 3 - يستنبط من قوله - تعالى -: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} أن لا يطالبوا بما جرى بينهما من دم، ولا ما أُنفق من مال، ففي طلب ذلك منهم تنفير لهم عن الصلح. 4 - قال القرطبي: لا يجوز أن يُنْسبَ إلى أحد من الصحابة خطأٌ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا الله بالكف عما شجر بينهم، وأن لا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبهم، وذكر أن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم، قال - تعالى - في سورة التوبة: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... } (¬1) وقال في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... } (¬2) هذا مع ما ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن طلحة شهيد يمشي على الأرض" فلو كان ما خرج له معصية لم يكن بالقتل فيه شهيدًا. ثم قال القرطبي: وسئل بعضهم عن الدماء التي أُريقت فيما بينهم فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أُخضِّب بها لساني. يريد التحرز من الحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبًا فيه. ثم قال القرطبي: وقال الحسن البصري: قتال شهده أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وغِبْنَا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف ¬

_ (¬1) من الآية 100. (¬2) من الآية 18.

رأى علي فيمن قاتلوه

عما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا مِنَّا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله - عَزَّ وَجَلَّ - إذ كانوا غير متهمين في الدين - انتهى ما قاله القرطبي وما نقله عن غيره بتصرف يسير. 10 - (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): إنما المؤمنون إخوة في الدين، والأُخوة فيه أَقوى من الأخوة في النسب، فاتقوا الله في الإصلاح بينهم لعلكم ترحمون في الدنيا والآخرة. أخرج الصحيحان بسنديهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره - بِحسبِ امرئ من الشر أَن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". رأى علي فيمن قاتلوه: سئل الإِمام على - رضي الله عنه - عمَّن قاتلوه: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فَرُّوا، فقيل له: أَمنافقون هم؟ قال: لا؛ لأَن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا، فقيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)) المفردات: (قَوْم): هم الرجال دون النساء. (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ): ولا يعب بعضكم بعضًا.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي: بئس أن يسمى المسلم كافرًا أو زانيًا بعد إيمانه. التفسير 11 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ... ) الآية: من أهداف الإِسلام العظمى أن يجعل المؤمنين مجتمعا فاضلا يقوم على مكارم الأخلاق، وقد اشتملت هذه الآية على آداب رشيدة من دستور الإِسلام الخلقي، وبيان ذلك فيما يلي: نهى الله المؤمنين في صدر هذه الآية عن سخرية بعضهم ببعض، والاستهزاء بهم، والقوم يطلق على الرجال بخاصة، وقد يدخل النساءُ في القوم مجازًا، ولكن الله شاءَ أن يعني بهذه النسخة، فنهى النساء عنها نهيًا مستقلا عن نهى الذكور لكثرة وقوعها بينهن. سبب نزول الآية: اختلف فيه، فقال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في تفسير أول السورة، استهزءُوا بفقراء الصحابة مثل عمَّار وخباب وابن فهيرة، وبلال وصهيب وسلمان الفارسي، وسالم مولى أَبي حذيفة وغيرهم حين رأوا رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا من هؤلاء المستهزئين. وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلمًا، وكان المسلمون إذا رأَوه قالوا: ابن فرعون هذه الأُمة، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وقيل غير ذلك. وسواءٌ كان السبب هذا أَو ذاك أو غيرهما، فالمراد أَن لا يقدم أحد من الرجال أَو النساء على الاستهزاء ممن يقتحمه بعينه إذا رآه رث الهيئة أَو ذا عاهة في بدنه أو غير ذلك، فلعله أَخلص ضميرًا وأنقى قلبًا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله.

وقد كان السلف يبالغون في البعد عن السخرية، وهو لا يكلفنا شيئًا، فينبغى أن نكون مثلهم، فالعبرة في الإِسلام بالقلوب لا بهيئات الناس ومظاهرهم قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" وإذا رأيت إنسانا على معصية فانهه ولا تسخر منه. ويقول الله - تعالى -: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) واللمز: العيب، وقد يكون باللسان أو الإشارة أو العين أو غير ذلك، وقال: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ولم يقيل: ولا يلمز بعضكم بعضًا، ليشير بذلك إلى أَن المؤمنين كنفس واحدة، فمن عاب غيره منهم فكأَنما عاب نفسه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون كجسد واحد، إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أو: لا تفعلوا ما تلمزون به؛ فإن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه. ثم يقول الله - تعالى -: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) والنَّبَزُ - بالتحريك -: اللقب، ويكثر إطلاقه على لقب السوء، وبالتسكين (النَّبْزُ) المصدر، تقول: نبزه ينبز نبزًا: إذا لقبه بما يسوءُه، أخرج الترمذي في سبب نزولها عن أبي جبير بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) قال: هذا حديث حسن. وقال قتادة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق. ومن الآية وسبب النزول عرفنا أن تلقيب الرجل بما يكره منهى عنه. وجاءَ في الآية {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي: بئس أن يسمى الرجل كافرًا أو فاسقًا بعد إسلامه وتوبته، روى أن أبا ذرٍّ كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنازعه رجل، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ترى؟ ها هنا أحمر وأسود؟ ما أنت بأفضل منه". وقيل في معنى الآية: إن من لقَّب أخاه أو سخر منه فهو فاسق.

واستثنى من ذلك ما غلب عليه الاستعمال ولم يكن لصاحبه فيه كسب ولا يتأذى منه، لأَنه لمجرد التمييز لا الإيذاء، كالأَعرج والأَحدب والطويل والقصير، ومثل ذلك قد يأتي في أسانيد الحديث ورجاله. ويجوز تلقيب الإنسان بما يحب، ولهذا لقب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذى النورين، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه" ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، وقد لقب أبو بكر بالعتيق كما لقب بالصديق، وحمزة بأسد الله، وخالد بن الوليد بسيف الله. المعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين شرفهم الله بالإيمان: لا يسخر أحد من أحد، فلا يستهزئ الرجال بالرجال، ولا النساءُ بالنساء، عسى أن يكون المسخور به خيرًا عند الله من الساخر؛ لنظافة قلبه وصفاءِ نفسه، ولا يَعِبْ بعضكم بعضا بالقول أو الإشارة أو نحوهما، فإن المؤمنين كنفس واحدة، فإذا لمزتَ أخاك وعبتهُ فكأنَّما لمزت نفسك وعبتها، بئس الوصف الفسوق بعد الإيمان، فمن حق الإيمان أن يعصم الناس عن أن يعيب بعضهم بعضا، فإذا فعل المؤمن ذلك فقد فسق بعد الإيمان، وذلك أمر لا يليق بالمؤمنين، ومن لم يتب من الاستهزاء بغيره وتنقيصه بالعيب فيه، فأولئك هم الظالمون لأنفسم ولإخوانهم المؤمنين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)) المفردات: (الظَّنِّ) المراد به في الآية: الاتهام. (ولا تَجَسَّسُوا) التجسس: هو البحث في خفية عما يكتم عنك. (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا): لا يتحدث عنه في غيبته بما يكره. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) الشعوب: رءُوس القبائل كربيعة ومضر، والقبائل فروعها، وقال ابن عباس: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ. التفسير 12 - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... ) الآية: بعد أن بين الله - تعالى - في الآية السابقه تحريم السّخرية والتنابز بالألقاب، جاءَ بهذه الآية استكمالا لحقوق المسلم على أخيه. وقد اشتملت هذه الآية على تحريم سوء الظن بالناس، والتجسس عليهم، وحديث السوء عنهم في غيبتهم، وقد جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: "إياكم والظَّن، فإن الظن أكذبُ الحديثِ، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تنابزوا وكونوا عباد الله إخوانًا". والظَّن في الآية والحديث هو الاتهام، فلا يحل لمسلم أن يتهم أخاه، صيانة لأعراض الناس وتأمينًا لهم من سوء السمعة بدون مقتض، ومنعًا للعداوة وآثارها. ويفهم من النهي عن كثير من الظن أنه يجوز بعض الظن، وذلك إذا وجدت أَمارة تقتضيه، قال القرطبي: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم نعرف له أمارة صحيحة وسببا ظاهرا كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأُونست منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهر عند الناس بتعاطى الرِّيب، والمجاهرة بالخبائث. ونزيد على ذلك فنقول: إنه لا ينبغي أن تتهم إنسانا بأَنه هو الذي أَحدث لك بعض الأضرار في أرضك أو بيتك أو سمعتك، ما لم تقم أَمارة قوية على ذلك، حتى لا تتورط معه فيما يضرك ويضره، فربما كان ما أصابك مِمَّن يظهر لك مودة وأنت به واثق. ويجوز الحذر من شخص أو أشخاص، خشية أن يأتيك ضرر من جهتهم، وليس لك أن تتهمهم بغير دليل، فإن اتهمتهم لوجود أمارة تدل عليه ذلك الحق في اتهامهم، ولكن ليس لك الحق في الانتقام منهم، فربما كانوا برآء، وعليك أن تلجأَ إلى القضاء، فهو الذي يفصل الحق من الباطل. ويجوز التجسس لتوقى هذه الأضرار، دون أي مساس بحرمات من تتجسس عليه، وكان عمر بن الخطاب يفعل ذلك. قال عمر بن طلحة في كتابه (العقد الفريد للملك السعيد): وأما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه بذل جهده في تسديد الأمور، وسدِّ الثغور وسياسة الجمهور، وكان علمه بمن نأَى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه على مهاده، فلم يكن له في قطر من الأقطار والٍ ولا عاملٌ ولا أمير إلا وله عليه عَينٌ (أي: جاسوس)

لا يفارقه، فكانت أخبار الجهات كلها عنده كل صباح ومساء، حتى أن العامل كان يتوهم في أقرب الخلق إليه أنه عين عليه: انتهى بتصرف. والتجسس: هو البحث في خفية عما يكتم عنك، ومنه قيل: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور الخفية. والمقصود من النهي عنه في الآية أن يأْخذ المؤمنون ما ظهر من الناس، ولا يتبعوا عورات المسلمين، فلا يبحث المسلم عن عيب أخيه ليطلع عليه بعد أن ستره الله، عن أبي بَرزَة الأسلمى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته". وجاء عن زيد بن وهب قال: أُتِيَ ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيءٌ نأخذْ به. (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا): الغيبة: أن تذكر أخاك في غيبته بما فيه من المكاره، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان. ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذِكرُكَ أخاكَ بما يَكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقولُ فقدِ اغتَبتَهُ، وإن لم يكن فقدْ بَهتَّهُ". والمقصود من هذا صيانة أعراض الناس، وتركهم إلى الله فيما بينهم وبينه. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا): هذه الجملة تشير إلى أن غيبة المؤمن تشْبه أكل لحمه ميتًا، واستعمال أكل اللحم مكان الغيبة مأْلوف في كلام العرب، قال شاعر منهم: فإن أكلوا لَحْمي وَفَرْتُ لُحومَهم ... وإن هدموا مَجْدِي بنيْتُ لهم مجدًا

كيف تكون التوبة من الغيبة؟

وقد مثل الله الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحيَّ لا يعلم بغيبة من اغتابه، وقال ابن عباس: إنما ضرب هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميتة حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين، وقبيحة في النفوس. والغيبة تأْكل الحسنات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما صام من ظل يأكل لحوم الناس" والغيبة تكون في الدين والأخلاق والخِلْقة والحسب والنسب، ولا خلاف بين العلماء في أنها من الكبائر، فعلى المغتاب أن يتوب إلى الله. كيف تكون التوبة من الغيبة؟ اختلف العلماء في كيفية التوبة منها، فقال بعضهم: هي مظلمة يكفى فيها الاستغفار لمن اغتابه إلى جانب الاستغفار لنفسه، وقال آخرون: هي مظلمة لا بد في التوبة منها من طلب العفو ممن اغتابه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له مظلمة لأخيه من عِرْضه أو شيء". فليتحلله منه قبل أن لا يكون له دينارٌ ولا درهم، وإن كان له عملٌ صالح أُخذ منه بقدر مَظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذَ من سيئاتِ صاحبِه فحُمِل عليه" أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة. من لا غيبة لهم: لا تحرم الغيبة للفاسق المجاهر بفسقه، ولا في عرض الشكوى على القاضى، كقولك: فلان ظلمنى أو خاننى أو نحو ذلك، ولا في الاستفتاء كقول هند عن زوجها أبي سفيان: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى أنا وولدى، أفآخذ من غير علمه؟ فقال: "فخذي بالمعروف". ولا تحرم في النصيحة والتحذير، ولا في التعريف: كفلان الأعرج أو الأعمى. (فَكَرِهْتُمُوهُ): أي: فكرهتم أكل لحم أخيكم ميتا، فكذلك فاكرهوا غيبته، وقيل: لفظه خبر ومعناه أمر، أي: فاكرهوا غيبته. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ):

ختم الله الآية بهذه الجملة، لحمل الناس على ترك الغيبة وعلى التوبة منها. والمعنى: واتقوا الله بترك الغيبة والتوبة إليه منها ومن سائر الذنوب إن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين، ويعفو عن سيئات المسيئين، إذا حسنت توبتهم لرب العالمين. 13 - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ): بعْدَ أن ذكر الله - تعالى - تلك الآداب السامية التي حفلت بها هذه السورة، ختمها بلون من الأدب العالى، وهو تعليم عباده أَن لا كرم ولا شرف عند الله إلا بالتقوى كيفما كانت الأحساب والأَنساب، حتى لا يتعالى بعضهم على بعض بغير حق، فكل الناس من آدم وحواء، فلا وجه للتعالى بالأحساب والأَنساب؛ ليظل الناس إخوة متواضعين متحابين. وجاءَ في معنى الآية في كتاب (آداب النفوس) للطبراني بسنده عن أبي نضرة قال: حدثني - أو حدثنا - من شهد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال: "يا أيها الناس: ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، أَلا لا فضل لعربيٍّ على عجمي ولا عجمى على عربى، ولا أسود على أحمر، ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى، ألاَ هَلْ بلَّغت؟ قالوا: اللهم نعم، قال: "لِيبلغ الشاهدُ الغائب". سبب نزول هذه الآية: أخرج أبو داود بسنده عن الزهرى - مُرسلًا - قال: "أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزوج بناتنا مَوالينا؟ فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) وقيل في سبب نزولها غير ذلك، ولا مانع من نزولها من أجل عدد من الحوادث المتشابهة.

وقد عرف من الآية والحديث وسبب النزول أن الناس متماثلون في الآدمية، فلا شرف فيهم إلا بتقوى الله - عَزَّ وَجَلَّ -. واعلم أن الناس أربعة أصناف: صنف خلق من تراب هو آدم - عليه السلام - وصنف خلق من أَب دون أُم وهو حواء؛ فقد خلقت من أَحد أضلاع آدم، وصنف خلق من أُم دون أَب وهو عيسى - عليه السلام - وصنف خلق من أبوين - ذكر وأنثى وهو جميع البشر ما عدا هؤلاء، وقد خلفهم الله على هذا النحو ليعلم الناس قدرة الله على خلق ما يشاءُ كما يشاء. وعقب الله خلقه للناس من ذكر وأنثى بقوله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) والشعوب: جمع شعْب - بفتح وسكون (¬1). والشعب: ما تشعبت منه القبائل، فالعرب شعب، وقبائله مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، وقد يطلق الشَّعب على القبيلة العظيمة، قال ابن عباس: الشعوب: الجمهور مثل مضر، والقبائل: الأفخاذ، وقد جعلهم الله كذلك ليتمايزوا ويتعارفوا، كأَن يقول الواحد منهم: أنا من شعب مصر: من قبيلة كذا، فيعرف نسبه. ولقد جعل الله الشعوب والقبائل تتخذ لها أماكن مستقلة، ليزداد التعارف بين الناس بذكر المكان، وقد كان الناس - عربا أو عجما - عند نزول الآية قبائل متمايزة، ضمن شعوب تعمهم، ولكنهم الآن في معظم الأُمم، قد اختلط بعضهم ببعض، وأصبح التعارف بينهم بالانتماء إلى الأمم، وبيان البلدان التي يعيشون فيها، والمساكن التي يأوون إليها. وعقب الله هذه الجملة بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) لبيان أن التقوى هي الأمر المُراعَى عند الله، وليس الحسب والنسب والمال والوظيفة. ¬

_ (¬1) أما الشِّعب - بكسر الشين - فهو الطريق إلى الجبل، وجمعه: شعاب.

صور مشرقة من محو الفوارق الطبقية في الزواج

عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله - تعالى - يقول يوم القيامة: إلى جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان ابن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبى لأضع أنسابكم، أين المتقون؟ ". وفي حديث مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارا: "إنَّ أولياءَ أبي ليسوا لي بأولياء، إنَّ ولِيِّيَ الله وصالحو المؤمنين". وقد ختم الله الآية بقوله: (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي: أنه - تعالى - عليم خبير بأحوال الناس نحو هذه الآداب، فيثيب من تأَدب بها، ويعاقب من أعرض عنها. صور مشرقة من محو الفوارق الطبقية في الزواج: لقد كان لهذا الأَدب تأْثيره في محو الفوارق بين طبقات الناس، فقد ذكر الطبرى بسنده عن أبي الجَعْد قال: تزوج رجل من الأنصار امرأة فطعن عليها في حسبها، فقال الرجُلُ: إني لم أتزوجها لحسبها، إنما تزوجتها لدينها وخلقها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما يضرك أن لا تكون من آل حاجب بن زرارة؟ " ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله - تعالى - جاء بالإِسلام فرفع به الخسيسة، وأتمَّ به الناقصة، فأذهب به اللوم، فلا لوم على مسلم، إنما اللومُ لومُ الجاهلية". وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وكان ممن شهد بدرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تبَنَّى سالما وأنكحه هند بنت أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار (¬1)، وضباعة بنت الزبير كانت تحت المقداد ابن الأَسود، وتزوج بلال بن رباح أخت عبد الرحمن بن عوف، فدل ذلك على جواز نكاح المولى العتق من الحرة، ومَنْ نَسَبُه خامل ممن نسبه عالٍ، وأن المعوّل عليه في الإِسلام هو التقوى، وهي التي اعتبرها المالكية أساس الكفاءَة كون الحسب والنسب والغنى (¬2) وما إلى ذلك من الفوارق الطبقية. ¬

_ (¬1) أي: عتيقها. (¬2) أما الحنفية والشافعية فقد اشترطوا الكفاءة في ذلك.

(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)) المفردات: (الْأَعْرَابُ): هم سكان البادية بخاصة، والأعراب اسم جنس وليس جمعا، والنسبة إليه أعرابي، أما العرب فهم أَهل الأمْصَار، وهو جنس أيضًا، والنسبة إليه عربي. (آمَنَّا): صدقنا بألسنتنا وقلوبنا. (أَسْلَمْنَا): صدقنا بألسنتنا دون قلوبنا.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ): وحتى الآن لم يدخل التصديق في قلوبكم. (لَا يَلِتْكُمْ): لا ينقصكم. (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ): قل لهم أيها الرسول: أتخبرون الله بدينكم بقولكم: آمنا؟. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا): يعدون إسلامهم مِنَّة عليك، والمنة: النعمة التي لا يطلب لها ثواب ممّن أُنعِم بها عليه. التفسير 14 - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): ختم الله الآية السابقة بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وجاءت هذه الآية لتفيد أن الإيمان باللفظ ليس إيمانا عند الله، بل هو إسلام وخضوع ظاهرى يقصد به السلامة من القتل لشركهم، وجر المغانم إن جاهدوا بعد إسلامهم، ومن كان كذلك فلا تقوى عنده، ولا كرامة له عند الله تعالى. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في بني أسد بن خزيمة - قبيلة تجاور المدينة - أَظهروا الإِسلام وقلوبهم دَغِلَةٌ (¬1)، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا. وقال القرطبي: نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جَدْبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأَفسدوا طرق المدينة بالعذِرَات (¬2) وأَغلوا أَسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأنفال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا الصدقة، وجعلوا يَمُنُّون عليه، فأَنزل ¬

_ (¬1) أي: فاسدة غير مخلصة. (¬2) جمع عذرة: وهي الغائط.

الله - تعالى - فيهم هذه الآية. وقيل غير ذلك في سبب نزولها، وتعتبر هذه الرواية تفصيلًا لما قبلها. على أي سبب نقله الرواة فالآية خاصة ببعض الأعراب؛ لأن منهم من آمن بالله واليوم الآخر، وفيهم قال الله - تعالى -: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ في رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). ومعنى الآية: قالت الأعراب الذين حول المدينة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمنا، يقصدون إبهامه أنهم صدقوا به وبرسالته مخلصين، وقد كذبوا، فإنهم منافقون، ولهذا كذبهم الله - تعالى - بقوله لرسوله ليبلغهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قُلُوبِكُمْ} أي: قل لهم: لم تصدقوا بقلوبكم، ولكن قولوا: أسلمنا بألسنتنا، رغبة في جلب المنافع ودفع المضار، وحتى الآن لم يدخل الإيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله فتُصَدِّقوا بقلوبكم كما صدقتم بألسنتكم لا ينقصكم شيئًا من أُجور أعمالكم التي تؤدونها بعد صدق الإيمان، إن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، فبادروا بالإخلاص ليغفر لكم نفاقكم الذي أنتم فيه، ويرحمكم بقبول توبتكم. 15 - (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ): إنما المؤمنون - حقيقة - هم الذين صدقوا بالله ورسوله بقلوبهم، ثم لم يطرأ على إيمانهم ريبة وشك، وبذلوا الجهد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا طلبوا للجهاد، أولئك الموصوفون بتلك الصفات هم الصادقون في إيمانهم لا أنتم أيها المنافقون الذين قدِمتم لنيل المغانم، واتقاء المغارم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 99.

ولما نزلت هذه الآية جاءُوا وحلفوا أنهم مؤمنون صَادقون، فأنزل الله فيهم الآية التالية: 16 - (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): قل - أيها الرسول - لهؤلاء الأعراب المنافقين: أتعرِّفون الله بدينكم وتخبرونه به زاعمين أنكم مخلصون فيه، والله يعلم ما في السموات وما في الأرض، من الكليات والجزئيات، والله بكل شيء عليم، فلا يحتاج إلى من يعلمه ويعرفه، فلا يخفى عليه سِرُّكم ونجواكم. 17 - (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): يعد هؤلاء الأعراب المنافقون أن إظهار إسلامهم مِنَّة ونعمة عليك أيها الرسول، حيث قالوا: لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان الذين كفروا بك، قل لهم - أيها الرسول -: لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم الذي زعمتموه إيمانا، بل الله - تعالى - هو الذي يمن عليكم أنْ وفقكم للإيمان إن كنتم كما زعمتم، وما أولئك بالمؤمنين، ولذا عقب الله هذه الآية بقوله تأكيدا لتكذيبهم: 18 - (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): إن الله - تعالى - يعلم ما غاب عن العيون في السموات والأرض، والله بصير بما تعملونه أيها الأعراب في سركم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه حالكم؟.

سورة ق

سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون مجمل معانيها: تضمنت هذه السورة عجيب الكفار من مجىء منذر منهم، وأنكروا البعث قائلين: (ذلك رجعٌ بعيد) مع أن الله - تعالى - خلقهم أول مرة؛ وعابت عليهم أنهم لم ينظروا إلى آيات قدرته في خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وبينت أنهم يبصرون إحياء الله للأموات من آن لآخر في الزروع والأشجار (كذلك الخروج) أي: كذلك البعث، ثم حكت تكذيب قوم نوح وأصحاب الرَّسِّ وثمود وعاد وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع - حكت تكذيبهم - لأنبيائهم، فنزل بهم وعبد الله باستئصالهم، وبينت أنه - تعالى - خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأن عليه رقباء من الملائكة ثابتين، وحكت أهوال الموت والقيامة، وغفلة الإنسان عن ذلك كله، وأن التابعين والمتبوعين في الكفر يختصمون لديه - تعالى - فيلقى التابعون مسئولية كفرهم على المتبوعين، والمتبُوعُون يتبرأون منهم، فيقول لهم الله - تعالى -: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وحكت فوز المتقين بنعيم الجنة خالدين فيها أبدا (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ثم حَثت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصبر والتسبيح {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ثم أبانت أنه - تعالى - يحيى ويميت وإليه المصير، ثم نفت عنه - صلى الله عليه وسلم - مسئولية كفرهم، وأوجبت عليه مداومة التذكير {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}.

بسم الله الرحمن الرحيم (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)) المفردات: (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ): ذي المجد والشرف، فهو من قبيل النسب بغير الياء المشددة كلابن وتامر، أي: صاحب لبن وصاحب تمر. (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ): هذا شيءٌ يقتضي التعجب والإنكار - كما زعموا -. (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ): ذلك البعث رجع بعيد عن الوقوع أو عن الإمكان. (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ): وعندنا كتاب حافظ لكليات الأمور وجزئياتها، والمراد به: علم الله، أو اللوح المحفوظ. (فَهُمْ في أَمْرٍ مَرِيجٍ): فهم في أمر مضطرب، من مَرَجَ الخاتم في أصبعه: إذا تحرك واضطرب من الهزال.

مقدمة

مقدمة: سورة (ق) سورة عظيمة في مبانيها ومعانيها، لها تأثير واغل في أعماق النفوس، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها يوم الجمعة، جاء في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: (لقد كان تنُّورُنا (¬1) وتنُّور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذتُ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس). وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبا واقد الليثى: "ما كان يقرأُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" و"اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ". وعن جابر بن سمرة (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأُ في الفجر بـ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا) وكل ذلك قد حدث وهو مروى بصحاح الأحاديث. التفسير 1 - (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ): (ق) سبق الكلام على مثله من الحروف في سورتي البقرة وآل عمران، فارجع إليه فيهما، والقرآن: هو الكتاب الذي أنزله الله بلفظه على نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة مؤيدة له، باقية إلى قيام الساعة، أما معجزات الأنبياء قبله فقد فَنِيَت ولم يبق منها إلاَّ الحديث عنها. وقد وُصِف القرآن بلفظ (الْمَجِيدِ) بمعنى ذي المجد والشرف، وشرفه بالنسبة إلى سائر الكتب واضح، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره، واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها. ¬

_ (¬1) التنور: الذي يخبز فيه وهو الفرن.

وقال الراغب: المجد: السعة والكرم، ثم قال: ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأُخروية. إهـ. وقد أقسم الله بالقرآن المجيد، وجواب القسم مقدر يدل عليه المقام، وتقديره: إنا أنزلناه لتنذر به الناس، أو إنك لمنذر بالبعث وما وراءه. وقد عقَّب الله هذا القسم بقوله: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ)، ولفظ (بل) للإضراب الانتقالى عمَّا ينبئ عنه جواب القسم المقدر، فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر الناس بالبعث وما وراءه فلم يؤمنوا، بل جعلوا كلا من النذر والمنذر به عرضة للتنكير والتعجب، مع كونهما أقرب شيء إلى العقول والتلقى بالقبول. ثم أكدوا تعجبهم وبينوا أهم ما ينكرونه ويتعجبون منه فقالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) يعنون أنهم إذا ماتوا وتحولت لحومهم وعظامهم إلى تراب، لا يعقل أَن تعود إليهم الحياة مرة أخرى، وجواب الاستفهام مقدر، أَي: نرجع. ومعنى الآية: أَئذا تحولت لحومنا وعظامنا إلى تراب بعد الموت نرجع إلى الحياة مرةً أخرى؟ ذلك الرجوع إليها حينئذ رجوع بعيد عن التصديق وعن القبول. وهذا الاستبعاد ناشئ عن قصر نظرهم وسوء فهمهم، فإن مَن خلقهم من تراب يُعيد خلقهم منه، وهو أهون من البدء. وقد ردَّ الله عليهم، وعاب سرعة تكذيبهم للحق من غير روية فقال: 5، 4 - (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ): أي: أَن بعثهم حينئذ لا صعوبة فيه على الله - تعالى - فقد علم ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، وعنده كتاب حافظ التفاصيل الكون كله، ومنها ما تنقص الأرض من الموتى بعد موتهم.

والمراد بالكتاب الحفيظ: علم الله - تعالى - على سبيل التمثيل، أَو اللوح المحفوظ، ثم أَضرب عن إنكارهم البعث انتقالًا إلى ما هو أَفظع منه، وذلك في قوله - جل وعلا -: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ): أي: بل كذبوا بالقرآن الذي هو كلام الله ومعجزته الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكان تكذيبهم به حين جاءهم من غير روية، وبلا تفكر وتدبر، وبتكذيبهم له تكذيبا لما فيه من توحيد الله - تعالى - وسائر كمالاته، وكذبوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم في أمر مضطرب، فتارة يقولون: إنما يعلمه بشر وما هو من كلام الله، وأُخرى يقولون: إنه شعر، وثالثة يقولون: هو أساطير الأَولين. ويقولون عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون، وكل ذلك ناشئ عن نظرات سطحية لا عمق فيها، وعن تقليدهم للآباء، وزعمهم أنه لو كانت نبوة من البشر لكلف بها رجل من الرؤساء، وذلك قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬1) يعنون بهما: مكة والطائف، فهم في أمر مريج مضطرب لا يثبتون على حال، وقد ذابت كل أكاذيبهم مع الزمن، ودخل الناس في دين الله أفوجًا، ومنهم أهل مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، من الآية: 31. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 81.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)) المفردات: (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا): كيف أنشأناها في عظمتها وحسنها، ورفعها بغير عمد ترونا. (وَزَيَّنَّاهَا): وجعلنا لها زينة بالكواكب على أبدع نظام، وأكمل إحكام. (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ): وليس فيها شقوق وخلل. (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا): بسطناها في رأْى العين، وإن كانت في حقيتها مكورة. (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ): وأنبتنا فيها من كل صنف حسن يَبْهَج ويَسُرُّ من نظر إليه، وفعله بَهج بوزن طرب، والبهجة: الحسن، وفعله بوزن ظَرُف وطَرِب، فهي مشتركة بين الوزنين. (جَنَّاتٍ): بساتين. (وَحَبَّ الْحَصِيدِ): وحب الزرع الذي شأْنه أَن يحصد، أَي: يقطع. (بَاسِقَاتٍ): طويلات.

(لهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ): لها طلع منضود بعضه فوق بعض. (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ): مثل ذلك خروجكم للبعث من قبوركم. التفسير 6 - (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ): جاءت هذه الآية والآيات النى بعدها لتعيب على المشركين شركهم واضطرابهم في أمر الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، ومنه البعث والنشور - تعيب عليهم ذلك - مع وجود الآيات الكيوية الدالة على توحيد الله وإمكان البعث وهم غافلون عنها. ولقد أشارت هذه الآية إلى أَن لله سماء، ولهذه السماء زينة، فأما الزينة فهي الكواكب التي يرونها متلألئه في الفضاء، دائرة فيه بقدرة الله - تعالى - وأما السماة الحقيقية فهي محجوبة عنا؛ لأنها من شأن الله، ولسنا بحاجة إلى معرفة حقيقتها ووظائفها، فهي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وفي ذلك يقول الله - تعالى - في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (¬1)، ويقول في سورة فصلت: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (¬2)، ويقول في سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (¬3) ثم يقول فيها: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (¬4) إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بأَن لله سبع سموات، وأن الكواكب زينة للسماء الأولى منها، ولا شك أَن الزينة غير المزيَّن، فهي أمر زائد على الذات. ومعلوم أَن طبقات الكواكب وسُدُمها ليست سبعًا، بل هي ملايين الملايين، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج عُرج به إلى تلك السموات لا إلى الكواكب. ¬

_ (¬1) الآية رقم: 6. (¬2) من الآية رقم: 12. (¬3) من الآية رقم: 3. (¬4) من الآية رقم: 5.

ومعنى الآية: أعَمِيَتْ قريش حين أشركوا وأنكروا البعث - أعموا - فلم ينظروا إلى الكواكب فوقهم بحيث يشاهدونها كل وقت، كيف بنيناها وأحكمناها، وجعلناها زينة للسماء الدنيا وما لها من شقوق ولا فتوق، فهي تامة السلامة من كل عيب. واعلم أيها القارئ الكريم أن القبة الزرقاء التي ترى خلالها الكواكب مما هي إلاَّ الغلاف الجوى، وفوقه ظلمة حالكة السواد، كما اكتشف ذلك علماءُ الفلك، فإذا أطلق عليه لفظ (سماء) فهو إطلاقه لغوى، فإن كل ما علاك سماء. 7، 8 - (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): الأرض مثل الكرة، غير أنها منبعجة (¬1) من جهة القطبين، وهي تدور في الفضاء تحت الشمس، وتنتقل في مدارها من برج إلى برج، ويترتب على ذلك وجود الليل والنهار، والربيع والصيف والخريف والشتاء. وظاهر الآية يدل على أن الأرض مفروشة ومبسوطة، وهذا لا ينافى أنها كروية، فهي مبسوطة في رأى العين، كروية في الحقيقة، ولهذا ترى الشمس تشرق في بعض الأقاليم، وغيرها مما يليها لا يزال الليل فيه، فلا تُرَى الشمس فيه إلاَّ بعد حين يطول أو يقصر حسب البعد والقرب، وذلك ناشئ من كرويتها، فعاليها يحجب ضوء الشمس عن سافلها، ولو لم تكن الأرض كروية لأشرقت الشمس على جمع أقاليمها في وقت واحد. والمعنى: والأرض بسطها الله في رأى العين ومهَّدها ليتيسر السير عليها والانتفاع بها، وخلق فيها جبالًا ثوابت تحفظها من أَن تميد وتضطرب بمن عليها، وأنبت فيها بقدرته من كل صنف حسن يسر الناظرين والآكلين، وقد فعك الله ذلك تبصيرًا وتذكيرًا لكل عبد منيب راجع إلى الحق، فالصنعة البديعة تدل أوضح الدلالة على الصانع المبدع المتفرد في إبداعه. ¬

_ (¬1) أي: ناقصة.

9 - 11 - (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ (¬1) بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (¬2). رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ): تخصيص النخل بالذكر مع اندراجه في الجنات، لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بين الجنات والنخل لتأكيد استقلال النخل وامتيازها عنها، مع ما فيه بن رعاية الفواصل. ومعنى الآية: ونزلنا من السحاب ماء مباركا كثير الخيرات - أنزلناه - في جميع الأقاليم في أوقات مناسبة لمصالح العباد، فأنبتنا بهذا الماء المبارك بساتين كثيرة مشتملة على أطيب أنواع الثمار والفاكهة، وأنبتنا به حب الزرع الذي يحصد ويقطع ليستخرج منه حبه كالبر والشعير والذرة وغيرها، وأنبتنا به النخل طويلات لها طلع منضود بعضه فوق بعض. - أنبتنا كل ذلك - رزقا للعباد، يستوجب الإيمان والشكر، وأنبتنا بذلك الماء أرضًا جدبة لا نبات فيها، مثل هذه الحياة الناشئة عن الإحياه خروجُ الموتى من القبور، فالنبات يذبل ويجف بعد ازدهاره ويصبح ميتا، والله - تعالى - يعيد أحياءه ويبعثه بعد الموت، وإحياء الموتى مثل ذلك، أفلا تعقلون؟. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)) ¬

_ (¬1) اسم جنس. واحده نخلة. (¬2) الطلع أول ما يبدو من ثمرة النخل، قال صاحب المختار: أول الثمر طلع ثم خلال، ثم بلح ثم بسر ثم رطب، ثم تمر - انظر مادة (بلح).

المفردات: (قَوْمُ نُوحٍ): من أُرسل إليهم، والقوم: جماعة الرجال، وقد يندرج فيه النساء مجازًا كما هنا، وتأنيث الفعل المسند إليه (كَذَّبَتْ) باعتبار أنه اسم جنس بمعنى الجماعة. (أَصْحَابُ الرَّسِّ) الرس: هي البئر التي لم تُبن، وقيل: هو اسم لوالدٍ معين. (فِرْعَوْنُ): المراد به هو وقومه، كما تسمى القبيلة باسم أبيها. (الْأَيْكَةِ): مجتمع الشجر، ويطلق عليها لفظ الأجمة. (وَقَوْمُ تُبَّعٍ): الحميرى. (أَفَعَيِينَا): أفعجزنا، والعيُّ بالأمر: العجز عنه، والهمزة للاستفهام الإنكارى. (بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ): بخلق آدم وذريته. (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ): بل هم في خلط وشبهة من البعث. التفسير 12 - 14 - (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ): هذه الآيات مستأنفة لتقرير أَن البعث حق، وأنه متَّفق عليه من جميع الرسل، وأن الأمم التي سبقت قريشًا كذبت رسلها وأنكروا البعث فعاقبهم الله - تعالى -، وفي ذلك تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديد للكفرة من قومه. وأصحاب الرَّسِّ قيل: إنهم ممن بعث إليهم شعيب - عليه السلام - وقيل: هم قوم حنظلة ابن صفوان، وإخوان لوط: قومه وأهله الذين بعث إليهم، وقيل: إنهم كانوا أصهاره، وليس المراد بالأخوة القرابة من النسب، وأصحاب الأيكة أي: سكان مجتمع الشجر، قيل: إنهم ممن بعث إليهم شعيب غير أهل مدين، وكانوا يسكنون هذه الأيكة فنُسِبوا إليها.

وتبع: هو تبع الأكبر الحميرى، واسمه أسعد وكنيته أبو كُرَبٍ، وكان رجلًا صالحًا بين قومه الكافرين، أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلًا صالحًا، ألا ترى أَن الله ذم قومه ولم يذمه. وأخرج الإِمام أحمد وغيره عن سهل الساعدى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا تُبَّعا فإنه كان قد أسلم". وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: (سألت كعبا عن تبع، فإننى أسمع الله - تعالى - يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا. فقال: إنه كان رجلًا من أهل اليمن ملكا منصورا، فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند، فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا، فانطلق نحو اليمن، حتى إذا دنا من مكة طار في الناس أنه هادم الكعبة، فقال له الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك؟ فإن هذا البيت لله، وإنك لن تسلط عليه؟ فقال: إن هذا لله - تعالى - وأنا أحق من حرَّمه، فأسلم من مكانه، وأحرم فدخلها محرما، فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا، حتى إذا قدم على قومه ... ) إلى آخر مما ذكره كعب في هذا الأثر الطويل، وخلاصة ما ذكره بعدُ أنه طلب من قومه أَن يؤمنوا كما آمن فامتنعوا، فنزلت من السماء نار فأحرقت من لم يؤمن منهم (¬1). والمعنى الإجمالي للآيات: كذب بالحق قبل قريش قومُ نوح، مع أنه كان ينصحهم ويطلب منهم الإيمان به، كما كذب به أصحاب الرس (¬2) ممن بعث إليهم شعيب، أو هم قوم حنظلة ابن صفوان، وكذبت به ثمود قوم صالح وعاد قوم هود وفرعون وقومه، وقوم لوط وأصحاب الأشجار المجتمعة - الأيكة - وقوم تبع، كل هؤلاء كذبوا جميع رسلهم فحق عليهم وعيدى وثبتت عليهم كلمة العذاب في الدنيا بعذاب استأصل كفارهم، وفي الآخرة بعذاب ينتظرهم. 15 - (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ): أي: أقصدنا خلقهم من تراب ثم من نطفة فعيينا وعجزنا عن تحقيق ما قصدناه وأردناه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ كلا لم نعجز عن خلقهم كذلك، فلماذا ينكرون بعثنا إياهم ¬

_ (¬1) انظر الآلوسي في شرح قوله - تعالى -: "أهم خير أم قوم تبع" في سورة الدخان، وقد أطال الكلام فيه، فارجع إليه إن شئت. (¬2) أي: أصحاب البئر التي لم تبن.

بعد موتهم، وهو في القياس أهون من بدئهم، إنهم معترفون بالخلق الأول صادًرا عنا فلا ينكرونه، بل هم في شك واضطراب من خلق جديد، وهو إحياؤهم بعد موتهم لينال كل امرئ جزاء ما قدم من خير أو شر. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) المفردات: (مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ): ما تحدثه به من الخواطر. (حَبْلِ الْوَرِيدِ): الحبل معروف، والمراد بالوريد: عرق كبير في العنق، وأضيف الحبل إليه لإفادة أَنه ممتد في الجسم امتداد الحبل. (الْمُتَلَقِّيَانِ): هما ملكان جعلهما الله لكل إنسان، ليكتبا أعماله من خير أو شر عن اليمين وعن الشمال. (قَعِيدٌ) أي: كلا الملكين ملازم له، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله (رَقِيبٌ عَتِيدٌ): ملك حاضر مهيأ يرقب أقواله وأعماله ويكتبها. التفسير 16 - (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ):

الوسوسة لغة: الصوت الخفى، ومنه وسواس الحُلى، (أي: صوت احتكاك بعضه ببعض) وما توسوس به نفسه: ما يخطر بباله من الخواطر الخفية المختلفة. والمراد من قربه - تعالى - من العبد أكثر من حبل الوريد أنه - سبحانه - أعلم بحاله سرا أو علنا، فهو أقرب إليه بعلمه من حبل الوريد الذي يمتد في عنقه، وليس المراد منه القرب الذاتى؛ لأنه - تعالى - ليس له مكان، فهو من باب الثمثيل والتشبيه، وليس من باب الحقيقة. وعن الأثرم أنه يقال: في العنق الوريد، وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل والنَّسا، وفي الخنصر الأسلم: انتهى. وبالجملة فحبل الوريد مثل في شدة القرب، وإضافة الحبل إليه للبيان كشجر الأراك. 17 - (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ): لفظ (إذ) ظرف بمعنى حين، متعلق بلفظ (أقرب) في الآية السابقة، أو مفعول لفعل مقدر تقديره: اذكر، والمتلقيان: الملكان الوكلان بكيل إنسان يكتبان أعماله وأقواله في كتاب يتسلمه يوم القيامة، فيعلم منه أنه من الناجين إن تلقاه بيمينه، أو من أهل النار إن تلقاه بشماله أو من وراء ظهره - أعاذنا الله من ذلك -. وعِلْمُ العبد بكتابة أعماله مع علمه بأنه - تعالى - أعلم بحاله مما يحمله على إحسان العمل. وقوله - تعالى -: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) معناه عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فحذف قعيد من الأول لدلالة الثاني عليه، والمراد من قعود الملك ملازمته للعبد للكتابة. 18 - (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ): أي: أَن أقوال العباد من خير أو شر أو غيرهما يكتبها ملك ملازم له يرقبها ويسجلها في صحيفته، فإن كانت خيرًا كتبها الرقيب الذي عن يمينه، وإن كانت شرًّا كتبها

الرقيب الذي عن يساره، وتخصيص القول بالذكر للإيذان بأن الفعل القطيعي هو أظهر من القول يكتب أيضًا من باب أولى، وقال اللقانى في شرح الجوهرة: مما يجب اعتقاده أَن لله - تعالى - ملائكةً يكتبون أعمال العباد من خير أو شر أو غيرهما، قولا كانت أو فعلا أو اعتقادًا، همًّا كانت أو عزما ... إلخ وقال الإمام مالك وجماعة: يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض. والمعنى الإجمالي لهذه الآيات: ولقد خلقنا الإنسان جسدًا وروحًا وعقلا، ونعلم ما تحدثه به نفسمه من الخواطر خيرًا كانت أو شرًّا، ونحن أقرب إليه علمًا من حبل الوريد في عنقه - نحن أقرب إليه - حين يتلقى الملكان المتلقيان أحوال العبد الظاهرة والخفية ليسجلاها في صحيفة أعماله، وهذان الملكان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ما ينطق من قول إلا عنده مراقب ملازم له من الملكين الموكلين يه، يكتب ما يصدر عنه من الأقوال وكذا الأفعال والنوايا. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)) المفردات: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ): وأحضرت شدة الموت حقيقة ما كتبه الله على عباده من الموت الذي يليه البعث والجزاء. (تَحِيدُ): تميل وتعدل.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): ونفخ في البوق. (مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد): من الملائكة. (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ): فكشفنا عن عقلك الحجاب الذي سببته الغفلة. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ): فبصرك اليوم حاد ونافذ. التفسير 19 - (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ): بعد ما ذكرت الآيات إنكار المشركين للبعث، وأثبتث بأقوى الحجج أنه سيحصل. جاءت هذه الآية وما بعدها لتبين لهم أَن هذا الذي أنكروه سيلقونه حقًّا. وسكرة الموت: ما يحدث للمرء وهو مشرف على الموت من شدائد حتى تخرج روحه من بدنه. والمعنى: وجاءت شدة الموت بحقيقة الموت الذي يبعث بعده الخلائق للجزاء، ونبهت إليها رسل الله جميعًا، ذلك الحق هو الذي كنت تميل وتنصرف عن التفكر فيه أيها الكافر، لشدة غفلتك وعمق غوايتك. 20 - (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ): الصور: هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والله أعلم بحقيقته وحقيقة النفخ فيه، ولإسرافيل نفختان في الصور كما جاءت به السنة، إحداهما يموت عندها الخلائق، والثانية يبعث عندها الموتى - وهي المرادة هنا - وهذه الآية معطوفة على ما قبلها لبيان ما يحدث بعد الموت. والمعنى: ونفخ إسرافيل في البوق نفخة البعث، وقت ذلك النفخ يوم إنجاز الوعيد الذي توعد الله به الكفار في الدنيا.

21 - (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ): وجاءت كل نفس من نفوس الخلائق مؤمنهم وكافرهم، معها ملكان: أحدهما يسوقها إلى المحشر سوقًا مناسبًا لعمل المسوق، بحيث يكون برفق للمؤمنين، وبشدة للكافرين. جاء في الحديث مرفوعًا عن جابر أَن أحدهما: ملك الحسنات، وثانيهما: ملك السيئات اللذين كانا يكتبان أعمال العباد في الدنيا، أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقيل: غير ذلك فارجع إليه في المطولات إن شئت. 22 - (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ): هذه الآية استئناف مبنى على سؤال مقدر نشأ مما قبلها، كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجىء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا - من البعث وما بعده - يقال به: لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فكشفنا عنك الآن الحجاب الذي غطى عليك أمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في أمور الدنيا وحدها، فبصرك اليوم نافذ لزوال المانع للبصائر في الدنيا عن إدراك ما بعد الموت. (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) المفردات: (قَرِينُهُ): شيطانه المقارن في الدنيا. (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ): هذا ما عندي معدٌّ ومهيأ لجهنم. (عَنِيدٍ): مبالغ في العناد. (مُرِيبٍ): شاك في الله - تعالى - أو في البعث.

التفسير 23 - 26 - (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)): لكل إنسان شيطان مقارن له ومصاحب في الدنيا، يمتحنه الله بوسوسته، فإن عصَاه دخل الجنة، وإن أطاعه دخل النار، جاء في الحديث: "ما من أحد إلا وقد وُكِلَ به قرينه من الجن، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلاَّ أَن الله - تعالى - أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير". والمعنى: وقال الشيطان المقارن للكافر: هذا الإنسان هو ما عندى وتحت إغوائى، عتيد أعددته لجهنم وهيأته لها بإغوائى فاستحقها. قال الله - تعالى - مخاطبًا للملكين السائق والشهيد: اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم ونعمته، مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، مبالغ في منع الخير والبر عن الناس فلا يتصدق على محتاج للصدقة، معتد ظالم للحق متجاوز له، شاك في دين الله وفي البعث الذي أشرك بالله فجعل معه إلهًا آخر، فألقياه أيها الملكان في العذاب الشديد. حاشية جملة (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) خبر عن (الذي) وجاءت الفاء في خبره لأنه في معنى الشرط، وقيل: في الكلام تقدير، أي: فيقال في حقه: ألقياه في العذاب الشديد، ويلاحظ أَن قوله - تعالى -: (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) فيه تكرار لقوله سابقًا: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) والغرض منه التوكيد كما في قوله - تعالى -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 188.

(قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) المفردات (قَرِينُهُ): الشيطان المقيض له. (مَا أَطْغَيْتُهُ): ما حملته على الفساد والطغيان. (ضَلَالٍ بَعِيدٍ): مغرق طويل مجاف للحق. (قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ): عذرت اليكم. (بِالْوَعِيدِ): بالإنذار والتخويف من عاقبة العصيان والطغيان. (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ): ما يغير القول عندي. التفسير 270 - (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): كلام مستأنف استئناف الجمل الواقعة في حكاية التقاول على تقدير أنه جواب لمحذوف دلّ عليه قوله - تعالى -: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) كأن العبد الكافر قال: قرينى أطغانى وحملنى على العصيان والضلال، فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الضلال إليه. ولهذا الاستئناف تجرّدت الجملة عن العاطف بخلاف الجملة في قوله - تعالى -: (وقال قرينه هذا ما لدى عتيد) فإنها قرنت بالعاطف لتدل على الجمع بين مفهوميها في الحصول وهو مجئ كل نفس مع الملكين، وقول قرينه، والقرين هنا الشيطان المقيّض له.

والمعنى: قال الشيطان المقيض للكافر، المقارن له والموكل به - ذا علي إنكاره -: ربَّنَا ما أوقعته في الطغيان، ولا حملته على الضلال قسرا واستكراها، ولكن كان هو في ضلال بعيد عن الحق، مغرق في العناد والفساد، فأعنته عليه بالإغراء والإغواء من غير قسر ولا إلجاء فهو كقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}. (¬1). 28 - 30 - (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)): استئناف آخر مبنى على سؤال نشأ عما قبله، كأنه قيل: ماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال - عز وجل -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ). والمعنى: لا يخاصم بعضكم بعضًا عندي في موقف الحساب والجزاء فإن ذلك لن يفيدكم، ولا يغنى عنكم شيئًا، وقد قدمت إليكم، وأعذرت بالوعيد والتخويف، والتحذير من عاقبة الطغيان في الدنيا، على ألسنة رسلى، وفي كتبي المنزلة عليهم فلم تسمعوا، ولم تطيعوا فلا تطمعوا في الخلاص مما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، وقد علمتم ما قدمت وما أعذرتكم به، ومن جملته ما قلته لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬2) فاتبعتموه معرضين عن الحق، مغرقين في الكفر والضلال. وقوله - تعالى -: (ما يبدل القول لديّ) فض لخصومتهم، وقطع لرجائهم، معناه: لا يقع عندي تبديل ولا تغيير لما قررناه وأردناه وقدمناه في دار الدنيا من أنى أعاقب من جحدنى، وكذَّب رسلى، وخالفنى في أمرى لا يبدل من ذلك شيء بغيره وقوله - تعالى -: {وما أنا بظلام للعبيد} وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، ولتبيين أَن عدم التبديل للقول وتحقيق موجب الوعيد ليس من جهته - تعالى - من غير استحقاق له منهم، بل إنما ذلك لما صدر منهم من الجنايات الموجبة له. وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم، وهو لا يكون منه. ويجوز أَن يكون لرعاية جميع العبيد من قبيل قولهم: فلان ظالم لعبده، ظلَّام لعبيده. وقيل إن فعَّالًا تأتى بمعنى فاعل أي: وما ربك بظالم لعبيده. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم من الآية 22. (¬2) سورة ص، الآية: 85.

وقوله - تعالى -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ... ) إما مرتبط بقوله - تعالى -: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ويوم: ظرف معمول لظلام، وإما مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر لهم يوم. وهو سؤال وجواب جىء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمر جهنم وأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها من الجِنَّة والناس فوج بعد فوج حتى تمتلىء، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعدُ محلّ فارغ؟ أو أنها لغيظها على العصاة، وحنقها منهم تطلب زيادتهم. والمعنى: وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم هل امتلأت، أو: اذكر يا محمد وأنذر بهذا اليوم الآتى لا محالة يوم نقول لجهنم وقد دفعت إليها أفواج الكافرين الضالين: هل امتلأت؟ وتقول بعد امتلائها: هل بقى من موضع لم يمتلئ؟ - تعنى: قد، امتلأت -، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد. هذا، ويجوز أَن يكون الكلام على تحقيق القول من جهنم، وهو غير مستنكر؛ فإنه - تعالى - سوف ينطق الجوارح فتشهد على صاحبها، والإذن لها بنفسين، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هنا فإن القدرة صالحة والعقل مجوّز، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس بأمور الدنيا. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذى والنسائي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط. قط. وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة وفضل حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر فيسلكهم في فضول الجنة" وليس المراد بقدم الله حقيقة، فإنه - تعالى - لا يشبه الحوادث، ولكنه كناية عن أن النار ذليلة لأمره، وفسره بعضهم بأنه - تعالى - يضع فيها من يقدمهم للنار، قال ابن الأثير: قدمه، أي: الذين قدمهم لها من شرار خلقه، فهم قَدَمُ الله - تعالى - للنار، كما أَن المسلمين قدمه للجنة، والقدم: كل ما قدمت من خير أو شر. وقيل: وضع القدم أو الرجل مثل للردع والقمع، فكأنه قيل: تأتيها أمر الله فيكفّها عن طلب المزيد.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)) المفردات: (أُزْلِفَتِ): دنت وقربت للمتقين. (أَوَّابٍ): رجَّاع إلى الله. (حَفِيظٍ) يحفظ توبته من النقض أو يحفظ ذنوبه ليرجع عنها ويستغفر منها. (خَشِىَ الرَّحْمَنَ): خاف عذاب الرحمن. (بِالْغَيْبِ) أي: خاف الرحمن وهو لا يراه، أو خاف الرحمن وهو في خلوته بعيدًا عن الناس فلا يراه أحد. (مُنِيبٍ): راجع إلى ربه. التفسير 31 - 33 - (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ): هذه الآيات شروع في بيان حال المتقين عند النفخة الثانية للصور، ومجئ النفوس إلى موقف الحساب بعد عرض حال الكافرين، والأظهر فيه أنه عطف على (ونفخ في الصور)

والمعنى: وأُدنيت الجنة وقربت للمتقين الذين وقوا أنفسهم من الكفر، وتحاشوا المعاصي، وقاموا على اتباع الأوامر واجتناب النواهى فاستحقوا أحسن الجزاء، وأوفر النعيم في جنات تجمع كل أنواع المتاع من الأنهار والأشجار، وطيب الثمار، ومن الأزواج الكرام، والحور الحسان، والخدم من الولدان. وهي قريبة منهم في مكان غير بعيد بحيث يشاهدونها، ولا يلحقهم تعب أو ضرر ولا مشقة في الوصول إليها، أو المراد حصول هذا لهم غير بعيد لأنه آت لا محالة، وكل آتٍ قريب. وقوله - تعالى -: {هذا ما توعدون} إشارة إلى الجنة، أي: هذا الذي ذكرناه هو ما وعدتم به من الثواب على ألسنة الرسل لكل رجَّاع إلى الله عائذ به مراقب له لا يغفل عن ذكره، ولا ينام عن طاعته، حفيظ لعهده أَن ينتقض، ولتوبته أَن تنتكس، حافظ لذنوبه حذرًا أَن يقع فيها مرة أخرى مستغفرًا منها، فهو أبدًا مع الله ندمًا على ما فرط فيه في ماضيه، وعزمًا على الاجتهاد في عمل ما يرضيه، روى عن ابن عباس، وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: "ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله - تعالى - منه". وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير: كنَّا نعد الأوّاب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أَن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسى هذا. وقوله - تعالى -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) زيادة في الإيضاح والبيان لمعنى الأواب الحفيظ. والمعنى: هذا الجزاء الموفور، والنعيم المذكور لمن اشتد خوفه من ربِّه، وعظمت مراقبته لخالقه كأنه يراه أو يخشى ربَّه ويراقبه في خلوته وغيبته عن أعين الناس حياء من الله. والمعنى في قوله - تعالى -: (وجاء بقلب منيب) أنه يداوم ذلك، ويقيم عليه حتى يوافيه أجله فيلقى الله بقلب عاش مقبلا على طاعته، طامعًا في رحمته. مؤمنا بعاقبته وأوبته حتى أتى الله بقلب سليم.

34، 35 - (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ): هذا على تقدير القول، أي: يقال لهم: ادخلوها، والمعنى: ادخلوا أيها المتقون الأوابون المنيبون ادخلوا الجنة، واستمتعوا بنعيمها بأمان من كل مكروه، وسلامة من كل آفة، وسلام من الله وملائكته عليكم، ذلك يوم الإقامة الدائمة التي لا ينقطع مداها، ووقت الخلود الذي تعيشون في نعيمه بلا نهاية، ولا يستكثر ذلك على أهل الجنة فلهم كل ذلك، ولهم ما يشاءون من صنوف المطالب، وألوان النعم كائنا ما كان، فعند الله كل ما يشتهون، ولديه الزيادة على ما يستشرفون مما لا يخطر لهم على بال، ولا تدركه مشيئتهم من معالى الكرامات، ومجالى الخيرات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومع أَن لهم ما يشتهون في الجنة، فعند الله مزيد عليه مما لا يخطر على بال. وقال أنس وجابر: المزيد: النظر إلى وجه الله - تعالى - بلا كيف، وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها ما أخرجه الديلمى عن عليٍّ - كرم الله وجهه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: (ولدينا مزيد) قال: "يتجلى لهم الرب - عز وجل -" إلى غير ذلك من الأحاديث. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) المفردات: (بَطْشًا): قوة وشدة ومنعة. (نَقَّبُوا): جالوا في أقطارها، وساروا في نواحيها وطوفوا.

(مَحِيصٍ): مهرب وملجأ يلجأون إليه. (أَلْقَى السَّمْعَ): تنبّه وتيقظ. (شَهِيدٌ): فَطِنٌ غير متغافل. التفسير 36 - (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ): هذه الآية الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتطمين لقلبه ببيان أَن مشركى قريش لن ينالوا منه شيئًا ولن يخلصوا إليه بسوءٍ، وأن قوة الله التي أهلكت قبلهم قرونًا كانت أشد منهم بطشًا، وأقوى منعة فوق قوتهم وجبروتهم، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من سبقوهم من الطغاة المتجبرين. والمعنى: وكثيرًا أهلكنا قبل مشركى مكة والمنكرين من أهلها من أهل القرون السابقة من هم أشد منهم بطشًا، وأعتى قوة، وأعزّ منعة أمثال عاد وثمود وأضرابهم الذين ملكوا البلاد، وعاثوا فيها الفساد، واستبدوا بالعباد، وساروا في أقطار الأرض، وجاسوا خلالها، وجابوا أقطارها، فما أفادوا من ذلك، ولا ظفروا بمهرب من الهلاك، ولا بمعدل عن الموت، ولا وجدوا إلا الحسرة والتساؤل (هل من محيص؟) هل من مهرب نهرب إليه من الهلاك؟ 37 - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ): أي: إن في ذلك الإهلاك، أو في ذلك المذكور من أول السورة من الآيات والمشاهد والأخبار لعظة بالغة، وعبرة رادعة لكل من له قلب وعقل واع يعقل ما يقال، وينتفع به، ويدرك كنه ما يشاهده، ويوقظ سمعه، ويلقيه كل ما يوجّه إليه فيجتمع له من سلامة القلب وإلقاء السمع ما يحقق له النفع، والوقوف على جلية الأمر وهو شهيد وحاضر بفطنته ويقظته، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)) المفردات: (لُغُوبٍ): تعب وإعياء. (أَدْبَارَ): أعقاب الصلاة، جمع دُبُر، ويطلق على الظهور أيضًا، قال - تعالى -: "ليولن الأدبار". (الصَّيْحَةَ): المرّة من الصوت الشديد، والمراد بها نفخة البعث. (يَوْمُ الْخُرُوجِ): يوم الخروج من القبور للبعث، وهو من أسماء يوم القيامة. التفسير 38 - (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ): استئناف كلام آخر لتأكيد ما قبله بتقرير قدرته - تعالى - على خلق السموات والأرض، وتمهيد لما بعده ببيان أَن القادر على خلق السموات والأرض لا يعجزه أمر من أمور الدنيا والآخرة. قيل: إن هذه الآية تكذيب لليهود في زعمهم أَن الله - تعالى - خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، وجعلوا هذا اليوم للراحة عندهم.

والمعنى: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات، وأنواع الكائنات في ستة أيام، وما أصابنا من تعب ولا إعياء مع قلة الزمن، وضخامة هذه الأجرام، وتعدّد أنواعها وأشكالها، واختلاف أحوالها، وتباين حركاتها، وذلك مما لا تفى بإحصائه القوى والقدر، فضلًا عن إيجاده. 39، 40 - (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ): تتجه الآيات إلى تسمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - والترويح عنه بطلب الإعراض عن أقوال المشركين واليهود، والالتجاء إلى الله بالتسبيح والحمد. والمعنى: إذا كان أمرنا في القدرة كما ترى في خلق السموات والأرض وما بينهما في أقل زمان وفي غير إعياءٍ ولا نصب، فاصبر يا رسول الله على ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار والاستبعاد، فإن من قدر على خلق العالم بهذه الصفة قادر على بعثهم، وعلى الانتقام من المنكرين والمستبعدين. أو: فاصبر على ما يقوله اليهود من مقالة الكفر والتشبيه، أو: فاصبر على كل ما يقال من هؤلاء وهؤلاء، ومهما يكن فإن هذا متصل بقوله - تعالى -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومدخلًا لقوله - تعالى -: (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: قدس ربك وسبح بحمده ونزّهه عن كل ما يقوله هؤلاء وهؤلاء، وعن العجز وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بالبعث، وعن وصفه - تعالى - بما يقتضي التشبيه نزّهه عن هذا كلِّه، وعن كل ما لا يليق بذاته حامدًا له ما أنعم به عليك من إصابة الحق، مداومًا على هذا التسبيح والحمد قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وهما وقتا العصر والفجر لأفضليتهما، وقد نوّه القرآن الكريم بفضلهما في قوله - تعالى -: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1)، وفي قوله - تعالى -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء من الآية: 78.

الْوُسْطَى} (¬1) وهي العصر على رأى كثير من المفسرين، ومن فضل هذا الوقت أيضًا القسم به في قوله - تعالى -: "والعصر". وقوله - تعالى -: (ومن الليل فسبحه) معناه وسبحه بعض الليل وفي جزء منه، ولعل المقصود به السَّحر، فإنه الوقت المفضل للتهجد والتسبيح والاستغفار، وأعقاب السجود أي: آخر الصلاة بعد انقضاء السجود والسلام. وهذا بناء على تفسير التسبيح بالتقديس والتنزيه والذكر - فإذا فسّر التسبيح بالصلوات الخمس كان المراد بما (قبل الطلوع) الفجر، وبما (قبل الغروب) الظهر والعصر، وبـ (ومن الليل) العشاءين والتهجد وما يصلى بأدبار السجود من النوافل بعد المكتوبات. 41 - (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ): أي: واستمع - يا أيها الرسول - أخبار ما يوحى إليك من أحوال يوم القيامة يوم ينادى المنادى فيقول: أيتها العظام البالية، واللُّحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أَن تجتمعن لفصل القضاء. قيل: إسرافيل ينفخ، وجبريل ينادى بالحشر، وفي هذا الأمر تهويل وتفظيع لأخبار هذا اليوم. وقوله: من مكان قريب معناه: من مكان يسمعه الخلائق كلهم على حال واحدة فلا يخفى على أحد قريب أو بعيد، فكأنهم نودوا جميعا من مكان قريب. قيل: من صخرة في بيت المقدس، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم. والتعبير القرآنى فوق كل بيان. 42 - (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ): تتصل هذه الآية بقوله - تعالى -: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} أي: استمع يوم ينادى المنادى يوم يسمعون نفخة البعث ناطقة بالحق الذي طالما أنكروه، وكذبوا أخباره وهو البعث الذي يسمعون النداء به حقا واقعًا، وحقيقة ماثلة، ذلك يوم الخروج الذي ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 238.

يخرج به الموتى من قبورهم لملاقاة جزائهم. ويجوز أن يكون المعنى: ذلك النداء نداء يوم الخروج من القبور - ويوم الخروج - اسم من أسماء يوم القيامة. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)) المفردات: (الْمَصِيرُ): المرجع للجزاء في الآخرة. (سِرَاعًا): مسرعين. (حَشْرٌ): جمع بعد البعث. (يَسِيرٌ): سهل هيِّن. (بِجَبَّارٍ): بمتسلط قهار. (فَذَكِّرْ): فخوف وحذر. التفسير 43، 44 - (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ): يخبر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية عن نفسه أنه هو القوى القادر الذي يحيى الخلق في الدنيا بعد أَن كانوا عدمًا، ثم يميتهم بعد استيفاء أجلهم بعد أَن كانوا أحياء، ثم يبعثهم من قبورهم بعد أَن صاروا ترابًا، وذلك بقوله مؤكدًا: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي: إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا من غير أَن يشاركنا في ذلك أحد، وإلينا المصير، أي:

وإلينا وحدنا الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى أحد غيرنا استقلالا أو اشتراكًا، يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا: يتعلق الظرف بقوله: (وإلينا المصير) أي: وإلينا المرجع والمآب يوم تتصدع الأرض، وتنشق عن أجسامهم البالية فيخرجون منها مسرعين إلى الداعى بلا نوان ولا تأخير، (ذلك حشر علينا يسير) أي: ذلك الحشر، وهذا الجمع هين علينا يسير مع شدة التفرق، وتباعد القبور وتناثر الاشلاء أو تحولها إلى تراب، لا يشق علينا، لا يقدر عليه غيرنا. 45 - (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ): هذه الآية تختم سورة (ق) بما يسلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويسرى عنه همَّه، ويهدد المشركين ويحذرهم عواقب الكفر والتكذيب. والمعنى: نحن أعلم بما يقول هؤلاء الكفار من نفى البعث، وتكذيب الآيات الناطقة به، وغير ذلك مما لا خير فيه، فلا تعبأ بقولهم، ولا تبتئس من أحوالهم، فما عليك إلاَّ البلاغ وما أنت عليهم بمتسلط تقهرهم على الإيمان، وتقسرهم على التصديق، ولا من مهمتك ذلك (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) أي: فحذِّر وخوّف بالقرآن من يخاف العقاب ويخشى العذاب فيسمع لك، ويستجيب لدعوتك إشفاقًا من الوعيد، ورجاء في الوعد، وطمعًا في رحمة الله ...

سورة الذاريات

" سورة الذاريات" سورة الذاريات مكِّية، وآياتها ستون آية باتفاق، وقد بدأت بالقسم على تحقيق الوعيد الذي ختمت به السورة قبلها لرعاية التناسب بين ختام السورة السابقة وابتداء السورة اللاحقة. مقاصد السورة: ابتدأ الله - سبحانه وتعالى - السورة الكريمة بالقسم على صدق البعث وتحقيق وقوعه، ووقوع الجزاء - أقسم سبحانه - بمخلوقات من مخلوقاته لها آثارها الواضحة، وظواهرها الشاهدة، ومنافعها التي لا ينكرها أحد، ولا يجحد عقْلٌ فضلها على الإنسان والحيوان، والنبات، فإن الرياح تسوق الأمطار إلى جميع الأقطار، وتدفع السفن في البحار تحمل الأمتعة والأثقال والمسافرين، وتمخر عباب البحار، فتسهل كل صعب وتقرب كل بعيد، كل هذا مما يقع تحت العيان، ولا يستطيع أَن ينكره إنسان، كما أَن ما يتفاوت الناس فيه من أحوال وما يجرى عليهم من أحداث، وما يختلفون فيه من منازل وأرزاق مما يكون في الأبناء دون الآباء، أو في الآباء دون الأبناء، أو يحظى به العاجز الضعيف، ولا يدركه المتجبر العنيف، لا يكون إلاَّ بتقدير، وبتسخير من الحكيم الخبير. وبعد أَن تؤكد الآيات أمر البعث والجزاء تكشف حال المنكرين للبعث والجزاء، وتسفه أقوالهم في الدنيا، وتصور مآلهم في الآخرة: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). ثم تخلص الآيات من هذا وذاك إلى المتقين فتشيد بما ينتظرهم في الآخرة من جميل النعيم في جنَّات وعيون، لقاء أعمالهم الصالحة في الدنيا من طاعة الله، والسهر في عبادته، والإنفاق الدائم في سبيله، متوخين الإحسان في كل أعمالهم، وسائر أحوالهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

ثم تنتقل الآيات إلى الحديث عن دلائل القدرة، بأقوى ما يشد الانتباه، ويثير الفكر من نظر الإنسان في نفسه، وما أُودع فيه من عجائب الصنع، وبدائع الخلق، وتفكره فيما يحوى هذا الكون في سهوله ووهاده في أرضه وسمائه، وما يقدّر على الإنسان من أرزاق تقضى بها حكمة الكريم الرزاق، معقبة ذلك بما لا يدع مجالًا لمن ينكرون أو يتشككون: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ). ثم تستهدف الآيات غرضًا آخر فتذكر طرفًا من قصص الرسل والأنبياء، وأحوالهم مع أقوامهم إعجازًا للقرآن الكريم بإخباره عن أحوال الغابرين، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بذكر ما جرى لإخوانه من الرسل السابقين. واختصت هنا طائفة من الرسل اشتدت معاناتهم مع أُممهم وأقوامهم، فذكرت إبراهيم وموسى - عليهما السلام - وعرضت للأمم التي أوغلت في الطغيان، وأغرقت في التجبر من أمثال عاد وثمود وقوم نوح، فلاقت أشد النكال وأسوأ المآل. ثم عرضت الآيات إلى الحديث عن مظاهر القدرة ببناء السموات وامتدادها، وفرش الأرض وبسطها وتمهيدها، وتعدد المخلوقات وازدواجها مما لا يتحقق إلا بقدرة لا يقادر قدرها، وحكمة لا يدرك كنهها، ويقين يدفعنا إلى صدق الإيمان، ويسوقنا إلى الفرار إلى الله، والاعتماد عليه دون سواه. ثم تختم السورة بالغرض الأسمى، والمقصد الأعلى، والغاية العليا من خلق الإنسان والجان، وهي توحيد الله - تعالى - وعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ثم تهدد الكافرين بسوء المصير: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

بسم الله الرحمن الرحيم (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)) المفردات: (الذَّارِيَاتِ): الرياح تذرو الغبار وغيره. (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) أي: فالحاملات السحب المثقلة بمياه الأمطار. (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا): فالسفن التي تجرى في البحار والأنهار في يسر وسهولة. (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا): فالملائكة التي تنفذ أوامر الله وقضاءه. (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ): إنما البعث الذي توعدونه لصادق. (وَإِنَّ الدِّينَ): الجزاء يوم القيامة. (لَوَاقِعٌ): حاصل. التفسير 1 - 6 - (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)): اختتمت سورة (ق) بالتذكير بالوعيد، والتخويف من وقوعه. وافتتحت سورة الذاريات بتأكيد خبره، وصدق وقوعه إبداعًا في الإعجاز، وإحكاما للتنسيق بين السورتين.

والمعنى: أقسم بالرياح التي تذرو الغبار، وتطيّر التراب والرمال، وتهب بين الزروع فتلقح الأشجار، وتدفع السفن في البحار والأنهار، وتسوق السحب إلى حيث يشاء الله بالأمطار، وأقسم بالسحب المثقلة الموقرة بالمياه التي تفرغها في الفيافى والقفار، وتجرى بها القنوات والأنهار، فيشربها الإنسان والحيوان، ويُروى بها الزروع والأشجار، ويعيش عليها جميع الكائنات، وأقسم بالسفن التي تمخر عباب المياه في يسر ورخاء تحمل الأمتعة والأحمال، وتعين على الترحل والانتقال، وتمكِّن من الانتفاع بخيرات البحار، وتربط بين الأقطار، في أمن وسلامة من البحار وأمواجها، وأقسم بالملائكة تنزل بأوامر الله وأقضيته فتجريها على الخلق كلّ بما قدر له رزقًا وحرمانًا وإحياءً وإماتةً، وإقامة وسفرًا، وصحة ومرضًا، وإنجابًا وعقمًا، وغير ذلك ممَّا يجرى على الإنسان بقضاء الله. وقد ثبت من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألونى عن آية في كتاب الله، ولا عن سنة عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنبأتكم بذلك، فقام إليه ابن الكوَّاء فقال: يا أمير المؤمنين ... ما معنى قوله - تعالى -: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا؟) فقال على - رضي الله عنه -: الريح. قال: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا؟) قال: السحاب. قال: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا). قال: السفن. قال: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال: الملائكة، ذكره ابن كثير، ومثله في الكشاف. وقد أقسم الله بهذه الأشياء لكثرة ما فيها من المنافع، والمشاهد الواقعة بين الناس بحيث لا ينكرها أحد، ولما تتضمنه من الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وتناهى قدرته، وبدائع صنعته. وفي هذا القسم إشعار بأن لله - تعالى - أَن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأنه يجوز للمخبر بأمر أو المتحدث عن شأن أَن يقسم على صدقه، وإن كان من القداسة أو المنزلة بحيث لا يتطرق إلى خبره شك تأكيدا للخبر، واهتمامًا بشأْنه. وقوله - تعالى -: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)) هو المقسم عليه، أي: إن الذي توعدونه من أمر البعث والثواب والعقاب والجنة والنار لصادق ثابت لا مجال فيه لريب، وإنَّ الجزاء على الأعمال لحاصل وواقع لا فوت منه، ولا مفرّ عنه فافعلوا فعلكم، وانتظروا جزاءكم.

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)) المفردات: (الْحُبُكِ) المراد من الحبك هنا: طرائق النجوم. وقال ابن عباس وغيره: ذات الخَلْق المستوى الجيد، من قولهم: حبكت الشيء: أحكمته وأحسنت عمله. (مُخْتَلِفٍ): متخالف متناقض. (يُؤْفَكُ عَنْهُ): يصرف عنه. (الْخَرَّاصُونَ): الكذابون المقدرون ما لا صحة له. (غَمْرَةٍ): في لُجَّة تغمرهم من الجهل والضلال. (يَوْمُ الدِّينِ): يوم الجزاء وهو يوم القيامة، من: دِنْتُه، أي: جازيته. (يُفْتَنُونَ): يعرضون على النار للحرق. وأصل الفتنة: عرض المعدن على النار لتظهر جودته، ثم استعمل في الإحراق. التفسير 7 - 14 - (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ):

أكد القسم في الآيات السابقة صدق البعث والقيامة ووقوع الجزاء، ثم جاءت هذه الآيات وأنشأت قَسَمًا آخر يسفِّه عقول المشركين ويندد بغوايتهم وجهلهم فقال - تعالى -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ). والمعنى: وأقسم بالسماء ذات الطرائق المختلفة لمسيرة النجوم في خَلْق مستو وزينة منتثرة في نواحيها، إنكم أيها المشركون لفى قول متخالف متناقض متدافع فتعتقدون وجود الله، وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه، وتقولون في الرسول تارة: إنه مجنون، وأخرى إنه ساحر أو شاعر، والساحر لا يكون إلا عاقلًا حرِّيفًا، والشاعر لا يكون إلا موهوبًا متصرفًا وتقولون في شأن القيامة لا حشر ولا حياة بعد الموت، وتزعمون أَن أصنامكم شفعاؤكم عند الله يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة، والآراه المتضادة. ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتنافى أغراضها بطرائق السموات في تباعدها، واختلاف هيئاتها، وقوله - تعالى -: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) معناه: يصرف عن القرآن أو عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرف عن الخير إذ لا صرف أفظع وأشد منه، وقيل: يصرف عنه من صرف في علم الله وقضائه. ويجوز أَن يكون الضمير في (عَنْهُ) للقول المختلف على معنى: يصدر إفك من إفك عن القول المختلف وبسببه. وقوله - تعالى -: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) دعاءٌ عليهم كما في قوله - تعالى -: (قتل الإنسان ما أكفره) وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى لُعن، أي: أُبعد الكذابون المقدرون لما لا يكون ولا صحة له عن رحمة الله، وهم أصحاب القول المختلف الذين هم في غمرة وشدة من الجهل والضلال غافلون ساهون عما أُمروا به: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي: متى وقوع يوم الجزاء؟ لا يقصدون بالسؤال استعلامًا، ولكن يسألون سخرية واستبعادًا. وقول - تعالى -: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) جواب لسؤالهم بما يسوءهم من الجزاء الذي لا محالة نازل بهم، أي: يكون هذا الجزاء يوم يعذبون ويحرقون بالنار - قال عكرمة: ألم تر أَن الذهب إذا أُدخل

النار قيل: فُتِنَ، فهؤلاء يفتنون بالإحراق كما يفتن الذهب لإظهار حقيقته، ويقول لهم خزنة جهنم امتهانًا وتبكيتًا: ذوقوا فتنتكم وعذابكم بالإحراق، هذا الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا تكذيبًا وإنكارًا قد وافاكم، وحاق بكم فوقعتم فيه، وعرفتم صدقه. (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)) المفردات: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ): قابلين ما أعطاهم ربهم راضين به. (يَهْجَعُونَ): ينامون. والهجوع: النوم ليلًا. (الْأَسْحَارِ): جمع سَحَر، وهو الوقت الذي قبيل الصبح. (حَقٌّ): نصيب وافر استوجبوه على أنفسهم. (لِلسَّائِلِ): للمستجدى الذي يسأل الناس.

(الْمَحْرُومِ): المحتاج المتعفف الذي لا يسأل الناس، ولا يفطن أحد لحاله فيحرم الصدقة. (آيَاتٌ): دلائل واضحات. التفسير 15، 16 - (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)): انتقلت الآيات بعد شرح أحوال المشركين، وعرض ما يستحقون من العذاب، وما أعدَّ لهم من سوء الجزاء إلى وصف أحوال المتقين وما ينتظرهم من نعيم لقاء ما أخذوا به أنفسهم في الدنيا من الإحسان، وقاموا عليه من الطاعة والانهماك في العبادة وبذل الصدقات، في سبيل الله عن رضًا وسخاء. والمعنى: إن المتقين الذين سلكوا الطريق السَّوى فلزموا الطاعة ووقوا أنفسهم من مهالك الشرك، ومهاوى المعاصي سيسعدون في الآخرة بألوان مختلفة من النعيم في جنات متعددة الأشجار والثمار، تزيدها العيون الجارية فيها بالماء جمالًا وبهجة، وتزيد المتقين نعيمًا ومتعة، ويتلقون هذا النعيم راضين حامدين - وكيف لا يرضون وكل ما آتاهم حسن مرضى يُتَلقى بحسن القبول، وعظيم الرضا والشكر، فإن عملهم الصالح في الدنيا لا يساوى شيئًا بجانب هذا النعيم. 17، 18، 19 - (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): هذه الآيات بيان لأعمالهم الصالحة، وتعداد لصور من إحسانهم. أي: ومن جملة إحسانهم أنهم كانوا يسهرون ليلهم في العبادة، ولا ينامون من الليل إلا قليلًا، ومع طول السهر في العبادة وقلة الهجوع كانوا يداومون الاستغفار في السحر قبيل الفجر، ويحرصون على ذلك فلا يفوتهم. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى الأسحار، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار.

(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): وفي أموالهم نصيب وافر استوجبوه على أنفسهم لكل محتاج مستعرض للمسألة أو متعفف لا يسأل أحدًا ولا يفطن الناس له فيحرم من الإحسان والصدقة. والمقصود من هذا الحق الصدقة، لا الزكاة، لأن السورة مكية والزكاة مدنية، وقيل: المحروم هو الذي لا سهم له في الغنيمة، أو الغارم، والأصل هو أَن المحروم الممنوع الرزق لترك السؤال أو ذهاب المال أو غير ذلك ممَّا يصير به الإنسان فقيرًا ولا يتعرض للمسألة. وفرَّق قوم بين الفقير والمحروم بأنه قد يحرمه الناس بترك الإعطاء وقد يحرم نفسه بترك السؤال، فإذا سأل لا يكون ممن حرم نفسه بترك السؤال، وإذا لم يسأل فقد حرم نفسه ولهم يحرمه الناس. 20، 21، 22 - (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ): في هذه الآيات توجه إلى التدبر في آيات ومظاهر قدرته - تعالى - للانتفاع بذلك في ترسيخ العقيدة، وتعميق الإيمان، فإن من ينظر في آثار قدرة الله على الأرض التي تقلُّه، وفي نفسه وتكوين خلقه وجسمه، وفي السماء التي تظلُّه - إن من ينظر في ذلك كله - يجد من دلائل القدرة ما يدعم الإيمان، ويؤكد اليقين بالصانع الحكيم. والمعنى: وفي الأرض التي تعيشون عليها، وتمشون في مناكبها دلائل على الصانع وحكمته وعلى الخالق وقدرته من حيث إنها كالبساط لما فوقها كما قال - تعالى -: {الذى جعل لكم الأرض مهدا (¬1)} وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها، وهي متنوعة بين سهل وجبل، وصلبة ورخوة، وخصبة وسبخة، ويتعدد فيها أنواع النبات وتسقى بماء واحد فتأتى بالثمار مخلتفة، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، وكلها موافقة لحوائج الناس ومنافعهم في صحتهم واعتلالهم، وحلهم وترحالهم، وفيها من العيون المتفجرة والمعادن ¬

_ (¬1) سورة طه من الآية: 53.

المتنوعة، والدواب المنبثة، والحشرات المختلفة في برها وبحرها المتعددة الصور والأشكال والحركات والأفعال من الوحشى والإنسيِّ، والنافع والمؤذى - في هذا كله آيات للموقنين الموحدين الذين يلتمسون سبل الهداية والسلوك السوى الموصل إلى المعرفة، فهم ينظرون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأوّلها فازدادوا إيمانًا على إيمانهم. (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أي: وفي خلقكم آيات ودلائل، أي: وفي حال ابتداء خلقها، وتنقلها من حال إلى حال ما تتحير في تصوّره الأذهان - وحسبك بالقلوب - وما ركب فيها من عقول، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة، وناهيك بما سوّى في الأعضاء من المفاصل فإذا تعطل شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذُّل؛ فتبارك الله أحسن الخالقين. وقوله - تعالى -: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ): أغفلتم فلا تنظروا في أنفسكم فتبصروا هذا كلَّه بعين البصيرة وتقدروا نفعه لكم، وآثاره في حياتكم فيزداد إيمانكم، ويعظم شكركم. وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية. (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) أي: وفي السماء تقدير رزقكم وتعيينه، أو أسباب رزقكم من المطر، والشمس والقمر والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول فتختلف المحاصيل، وتتنوع الأرزاق. وذهب غير واحد إلى أَن المراد بالسماء السحاب، وبالرزق المطر، ومعنى قوله - تعالى -: (وَمَا تُوعَدُونَ) أي: الذي توعدونه من خير وشر، وثواب وعقاب، أو جنة ونار لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء. 23 - (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ): هذا القسم لتأكيد المقسم عليه وتحقيقه، والأرجح في ضمير (إنَّهُ لَحَقُّ) أَن يكون راجعًا إلى كل ما تقدم من أول السورة.

والمعنى: فورب السماء والأرض إن كل ما تقدم في هذه السورة من أخبار وأحوال، وأوصاف وتذكير حقٌّ واقع وأمر ثابت لا يرقى إليه شك، ولا يختلف في أحقيته أحد، وكما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي ألا تشكوا في حقيته، فهو كما نقول: إن هذا حق مثل (¬1) أنك تبصر وتسمع. روى في الأصمعى قال: أقبلت من جامج البصرة، فطلع أعرابيّ على قعود له. فقال: مَن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كتاب الرحمن. قال: اتلُ عليّ، فتلوت (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ... ) فلما بلغت قوله - تعالى -: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ). قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولَّى. فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف بالبيت، فإذا بمن يهتف بى بصوت دقيق فالتفت فإذا هو الأعرابى قد نحل واصفر فسلَّم عليَّ واستقرأنى السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}. ثم قال: وهل غير هذا؟ {فوربِّ السماء الأرض ... } فصاح وقال: يا سبحان الله. من الذي أغضب الجليل حتى حلف. لم يصدقوه بقوله: حتى ألجأوه إلى اليمين. قالها ثلاثًا، وخرجت معها نَفْسه. ¬

_ (¬1) وكلمة مثل منصوبة على أنها صفة لمحذوف تقديره: إنه لحق حقا مثل ما أنكم تنطقون، أو منصوبة على أنما حال، وتوغلها في الإبهام يمنع تعرفها بالإضافة، ويصح أَن تكون صفة لكلمة حق في محل رفع، وبنيت على الفتح لإضافتها لغير متمكن، كما في قوله تعالى: {لقد تقطع بينكم}.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) المفردات: (ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) الضيف: النازل على محلة قوم وليس منهم، ويقال للواحد والجمع، ويجمع على ضيوف، وضِيفَان وأضيَاف، واختلف في عددهم، قيل: ثلاثة، وقيل: تسعة، وقيل: اثنا عشر. (مُنْكَرُونَ): مجهولون. (فَرَاغَ): مال في خفية. (فَقَرَّبَهُ): قدّمه. (فَأَوْجَسَ): أحس في نفسه. (صَرَّةٍ): صيحة وضجة. (فَصَكَّتْ): ضربت. (عَقِيمٌ): عاقر.

التفسير 24، 25 - (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ): هذه الآيات شروع في مقصد آخر من مقاصد هذه السورة يتمثل في عرض طائفة من القصص والأخبار الصادقة ليتسلى بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتأسى بما لاقاه الأنبياء السابقون عن عنت أقوامهم، وعانوا من عنادهم وكفرهم وبما وقع للأمم التي أغرقت في العناد وأسرفت في الفساد، وأمعنت في الضلال والإضلال. وقد بدأت هذا المقصد بحديث ضيف إبراهيم الذين استضافوه من الملائكة، واستهلته بالاستفهام المشوق إلى طرافة الحديث، المؤذن بأنَّهُ حديث تستلذه الأسماع، وتطيب بسماعه النفوس؛ لأنه مما لا يعلمه الرسول إلا بطريق الوحى. والمعنى: هل أتاك - أيها الرسول - حديث ضيف إبراهيم الذين استضافوه من الملائكة المكرمين عند الله في المنزلة وفي شرف الوفادة، وعند إبراهيم - عليه السلام - حيث قام على خدمتهم بنفسه وزوجه. وقوله - تعالى -: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) توقيت للحديث أي: هل أتاك هذا الحديث وقت دخلوا عليه بيته فبادروه بقولهم: نؤمنك أمانا ونسلم عليك سلاما حتى لا يروعك ولا يخيفك دخولنا، قال ردًّا عليهم: عليكم سلام دائم، أو أمرى معكم سلام. وقوله: قوم منكرون، أي: أنتم قوم مجهولون عندي لا معرفة لي بكم، ولا عهد لي معكم، والظاهر أَن هذا خاطر حدَّث به نفسه، لأنه ليس من كرم الضيافة أَن يقول المضيف مهما كان لمضيفه: أنا لا أعرفك فضلا عن أَن يكون القائل إبراهيم، المضياف الكريم. 26، 27، 28، 29 - (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ):

المعنى: فمال إلى أهله فور دخولهم عليه في خفية منهم فإن من حسن أدب المضيف أَن يبدأ ضيفه بالقرى، وأن يبادره به حذرًا من أَن يكفه ويمنعه، أو يعذره أو يصير منتظرًا، وقوله - تعالى -: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: مكتنز لحمًا وشحمًا غير مهزول جاء به بسرعة. (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) أي: فقدم الطعام إلى الضيف وطلب إليهم تناوله يقوله: ألا تأكلون؟ فهو بمثابة قولنا للضيف عند إحضار الطعام: تفضل لتناوله. ولم يقبل الضيف على الطعام، ولم يتقدموا للأكل (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فأحس في نفسه خيفة وإشفاقا منهم، وعرفوا في ذلك منه (قالوا لا تخف) فقالوا له مطمئنين: لا تخف، وكشفوا عن حقيقتهم (وبشروه بغلام عليم) يشب ويكبر حتى يدرك مدارك الرجال، ويصير من أهل العلم والمعرفة، وهو إسحاق - عليه السلام - لقوله تعالى -: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (¬1)} والظاهر أَن زوجه كانت تقف قريبًا من إبراهيم وضيفه بحيث تسمعهم ولا يرونها، فلما سمعت البشارة دهشت، ونسيت ما ينبغي منها (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: فأقبلت عليهم في صيحة وضجة، وضربت جبهتها بأصابعها على عادة النساء إذا سمعن أمرا عجيبًا، وقالت: أنا عجوز عاقر، فكيف تتأتى هذه البشارة؟!! وكيف ألِد؟!! 30 - (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ): قالت الملائكة: الأمر كما سمعت، أو مثل ذلك القول الكريم قال ربّك، وإنما نحن معبّرون بخبرك به - عنه تعالى - لا أنَّا نقول ذلك من تلقاء أنفسنا، إنَّه هو الحكيم الذي يضع الأمر في موضعه وضعًا متقنا، العليم الذي يكون قوله حقا لا محالة. وقد تعددت رواية هذه القصة هنا وفي سورة هود وسورة الحجر، واختلفت أساليبها فبرز في كل واحدة من هذه الروايات جانب لم يظهر في الموقع الآخر على أسلوب القصص القرآنى إذا تعددت رواياته. ¬

_ (¬1) سورة الصافات الآية: 112.

(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)) المفردات: (فَمَا خَطْبُكُمْ): فما شأنكم الخطير الذي جئتم من أجله. (مُسَوَّمَةً): معلَّمة، من السُّومة - بالضم - وهي العلامة، أو مرسلة - من: أُسِيمت الإبل في المرعى إذا: أرسلت. (لِلْمُسْرِفِينَ): للمُجاوزين الحدّ في الفُجُور. (آيَةً): علامة دالة على ما أصابهم من عذاب. التفسير 31 - (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ): قال إبراهيم - عليه السلام - لضيوفه المكرمين لما علم أنهم ملائكة وهم لا ينزلون إلا بإذن الله لأمر خطير ويفعلون ما يؤمرون: فما شأنكم العظيم الذي أرسلتم إليه غير البشارة بالغلام؟ وفيم جئتم؟. 32، 33، 34 - (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ): قالت الملائكة لإبراهيم: إنا أرسلنا من قبل الله إلى قوم مفرطين في العصيان، وهم قوم لُوط؛ لنُلقى عليهم حجارة من طين لا يعلم كنهها إلاَّ الله، وهذه الحجارة مسومة، أي: معلمة بما

يدل على أنها ليست من طين أرضنا، وقيل: مسومة، أي: مرسلة، من: أُسيمت الإبل إذا أرسلت من (عند ربك للمسرفين) أي: أنها معدَّة في علم الله للمُجاوزين الحدّ في الفجور، التَّاركين ما أحل الله لهم من الطيبات، المقبلين على ما حرّم الله من الخبائث، حيث كانوا يأتون الذُّكران من العالمين مع كفرهم وشركهم. ووضع الظاهر موضع ضميرهم في قوله - تعالى -: (للمسرفين) ذمًّا لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام وإشارة إلى علَّة الحكم. 35، 36 - (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ): هذا الكلام حكايته من جهته - تعالى - لما جرى على قوم لوط - عليه السلام - بطريق الإجمال بعد حكايته ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم - عليه السلام - من الكلام، والفاء مفصحة عن جُمَل لم تذكر اكتفاء بذكرها في مواضع أخر، كأنه قيل: فقاموا من عنده وجاءوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى، فباشروا ما أُمِرُوا به فذلك قوله - تعالى -: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) أي: فأخرجنا من كان في قرى قوم لوط ممن آمن بلوط - عليه السلام - فما وجدنا فيها غير أهل بيت من المسلمين، والمراد بهم - كما أخرج ابن المنذر عن مجاهد - لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا ثلاثة عشر. "آلوسى". واحتجّ بهذه الآية من ذهب إلى رأى المعتزلة الذين لا يفرقون بين الإِسلام والإيمان لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين؛ لأن المعنى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المُخرَج إلاَّ أهل بيت واحد. وبهذا الرأى أخذ بعض أهل السنة ومنهم البخاري. قال ابن كثير: وهذا الاستدلال ضعيف؛ لأن هؤلاء كانوا قومًا مؤمنين. وعندنا: أَنَّ كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتَّفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال. اهـ: ابن كثير ص 236. والوجدان في قوله - تعالى -: (فما وجدنا) معناه: العلم - على ما قاله الراغب - وذهب بعض الأجِلَّةِ إلى أنه لا يقال: ما وجدت كذا إلاَّ بعد الفحص والتفتيش، وحُمِل عليه معنى الآية، أي:

فأخرج ملائكتنا (من كان فيها من المؤمنين) فما وجد ملائكتنا فيها (غير بيت من المسلمين). 37 - (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ): أي: وتركنا في القرى التي أهلكناها وهي قُرى قوم لوط "وإضمارها بغير ذكر لشهرتها" - تركنا فيها - علامة دالَّة على ما أصابهم من العذاب الأليم وما نزل بهم من العقاب؛ ليكون ذلك عبرة بالغة وعظة نافعة للذين من شأنهم أَن يخافوا العذاب الأليم لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم، وهم المؤمنون، دُون من عداهم مِن ذوى القلوب القاسية فإنَّهُم لا يعتدون بها ولا يعتبرون بهذه الآيات، والمراد بها تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل: ماء مُنْتِن، قال الشهاب: كأنه بحيرة طبرية. (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46))

المفردات: (بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): بدليل واضح له سلطان على القلوب، وهو ما ظهر على يديه من المعجزات. (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ): فأعرض فرعون بِقُوَّته وسلطانه عن الإيمان، ومنه قوله - تعالى -: "أوْ آوى إلى ركن شديد" وستأتى في الشرح معان أخرى. (مُلِيمٌ): آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان. (الرِّيحَ الْعَقِيمَ): الشَّديدة التي لا خير فيها فقد دمرتهم. (كَالرَّمِيمِ): كالشيء البالى الهالك المتفتِّت من عَظْم أو نبات أو غير ذلك. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ): فأهلكتهم الصّيحة، أو نار من السّماء. التفسير 38 - (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): وفي قصة موسى عظة وعبرة إذ أرسلناه إلى فرعون مؤيدًا منَّا بسلطان مبين وهو ما أظهرناه على يده من معجزات باهرة وحجج واضحة ودلائل ظاهرة. 39 - (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ): أي: فازْوَرَّ فرعون وأعرض عن الإيمان بما جاء به موسى من الحقّ المبين استكبارًا وعنادًا - على أَن رُكْنه جانب بدنه وعِطْفِه - والتَّولِّى به كناية عن الإعراض كِبرا وخيلاء وعجبًا، وقيل: تولى بما كان يتقوّى به من قومه وجنوده وملكه وسلطانه، والرّكن يستعار للقوة وقال فرعون عن موسى: لا يخلو أمره فيما جاءنا به من أَن يكون ساحرًا أو مجنونًا، كأن فرعون جعل ما ظهر على يديه - عليه السلام - من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن، وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرًا، أو بغير اختياره فيكون جنونًا.

وقال أبو عبيدة: (أو) بمعنى الواو؛ لأن القرآن حكى عن اللعين "فرعون" أنه قال "الأمرين" قال عن موسى مرة: {إن هذا لساحر عليم} (¬1) وقال مرة أخرى: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (¬2) وهكذا كان يتلون تلون الحرباء. 40 - (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ): فأخذنا فرعون ومن اعتز بهم وتقوّى من جنوده وأعوانه فطرحناهم في اليم غير مقدِّرين لهم، ورميناهم في البحر غير مبالين بهم - فعلنا بهم ذلك - وفرعون مُرتكب ما يلام عليه من الكفر والطغيان لتكذيبه بالرّسول وادِّعائه الألوهية، وشاركه في ذلك جنوده فأُغرقوا معه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظيم شأن القدرة الربانية ونهاية قماءة فرعون وقومه وذلتهم أمام قدرة الله. 41 - (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ): وفي قصة عاد وإهلاكهم عبرة وعظة إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، وهي الشديدة التي لا خير فيها، فهي لا تُلقح شيئًا - كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم - وفي لفظ: هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر، كأنه شبّه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة. وهذه الريح كانت "الدّبور" لما صحّ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". 42 - (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ): أي: ما تدع من شيء مرّت عليه هذه الريح إلاَّ صيرته كالرميم، أي: كالشيء البالى المتفتِّت من عظم أو نبات أو غير ذلك، فالرميم من: رمّ الشيء، أي: بلى. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، من الآية: 34. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 27.

وفسره السدى هنا بالتراب، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يُرَم، أي: لا يصلح، والشيء هنا عام مخصوص، أي: ما تذر الريح من شيء أراد الله تدميره وإهلاكه من ناس أو ديار أو شجر أو غير ذلك إلاَّ جعلته كالرميم، روى أَن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه. 43، 44 - (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ): وفي قصة ثمود وإهلاكهم آيات، أي: عظات وعبر. إذ قيل لهم: تمتعوا في دياركم إلى وقت معلوم وهو وقت انقضاء آجالهم وفناء أعمارهم، فاستكبروا عن امتثال أمر ربهم وتعالوا عن الاستجابة لما دعاهم إليه الرسول فأهلكتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل: صيحة منها فهلكوا وهم ينظرون إليها ويعاينون وقوعها بهم؛ لأنها كانت نهارا. وقال مجاهد: (وهم ينظرون) بمعنى ينتظرون، أي: وهم ينتظرون الأخذ والعذاب، وانتظار العذاب أشد من العذاب. 45 - (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ): أي: فما تمكن أهل ثمود من النُّهوض للهرب حين نزول العذاب بهم ووقوعه عليهم، وما كانوا قادرين على الانتصار بدفع العذاب عنهم بغيرهم بعد أَن عجزوا عن دفعه بأنفسهم. 46 - (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ): أي: وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء المذكورين؛ لأنهم كانوا قومًا خارجين عن طاعة الله لما كانوا فيه من الكفر والمعاصي.

(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)) المفردات: (بِأَيْدٍ): بقوة. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ): لقادرون، من الوُسْع: بمعنى الطاقة والقدرة. (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا): والأرض مهّدناها وبسطناها كالفراش للاستقرار عليها. (زَوْجَيْنِ): صِنْفَين مزدوجين ونوعين مختلفين. (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ): فالجأوا إليه وسارعوا إلى طاعته. التفسير 47، 48 - (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)): يقول الله - تعالى - منبها على خلق العالم العلوي والسفلى؛ ليفكر الناس في بديع صنعه وعظيم خلقه فيعبدوه ولا يشركوا به شيئًا - يقول -: والسماء أحكمنا خلقها وجعلناها سقفًا محفوظًا بقوة عظيمة، وإنا لقادرون على أكثر من هذا، فقد وسعت قدرتنا كل شيء فضلا عن السماء، أي: قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد. والآية الكريمة تشير إلى أَن التوسعة مستمرة على الزمن، وهو ما أثبته العلم الحديث، وعرف بنظرية التَّمدد التي أصبحت حقيقة علمية في أوائل هذا القرن، أشار إليها القرآن الذي

أُنزل على النبي الأُمي محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ أربعة عشر قرنًا (اهـ: المنتخب بتصرف) والأرض هيَّأنَاهَا وبسطناها لتستقروا عليها وتصلح لحياتكم فوقها، فنعم المهيِّئون لها نحن ونعم الجاعلون لها كالمهاد. 49 - (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): أي: ومن جميع المخلوقات خلقنا أزواجًا: سماء وأرضًا، وليلا ونهارًا، وشمسًا وقمرًا، وبرًّا وبحرًا وضياءً وظلامًا، وإيمانًا وكفرًا، وموتًا وحياةً، وشقاءً وسعادة، وجنة ونارًا، حتى الحيوانات والنباتات خلقنا في كل صنف منها الذكور والإناث، ولهذا قال - تعالى -: (لعلكم تذكَّرون) أي: فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج كى تتذكروا فتعرفوا أنه - عز وجل - الرب القادر الذي لا يعجزه شيءٌ فتعملوا بطاعة الله ولا تعبدوا سواه، وقيل: المراد بجميع ما ذكر الاستدلال على قدرة الله على البعث والحشر والنشر؛ لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة. 50، 51 - (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ): ثم فرّع على قوله - تعالى -: (لعلكم تذكرون) فقال: ففرُّوا إلى الله، أي: قل لهم يا محمد: فسارعوا إلى طاعته وثوابه وفروا من معصيته وعقابه، وهو تمثيل للاعتصام به - سبحانه - واللُّجوء إليه والاعتماد في الأمور عليه، إنِّي لكم من عقابه المعد لمن لم يفر إليه - سبحانه - ولم يوحّده نذير مبين، بيَّنه الله - سبحانه - بالمعجزات، أو مبين ما يجب أن يحذر منه. (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر ... ) إلخ عطف على الأمر السابق في قوله - تعالى -: (فَفِرُّوا إلى الله) وهو نهى صريح عن الإشراك بالله، على نحو: وحدوه ولا تشركوا به. والمعنى: ولا تشركوا به شيئًا إنِّي لكم من الله ندير مبين عاقبة الإشراك، وكرّر قوله تعالى: (إني لكم منه نذير مبين) في الآيتين السابقتين لاتِّصال الأول بالأمر والثانى بالنهي والغرض من ذلك كله الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة والتأكيد، وعلل لذلك

الآلوسي فقال: المنساق إلى الذهن - على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة - أنه تعالى أمر بها أوّلا وتوعَّد تاركها بالوعيد المعروف له في الشَّرع وهو العذاب دون خلود، ونهى - جل شأنه - ثانيًا أَن يشرك بعبادته، وتوعَّد المُشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، في النار، وعلى هذا يكون الوعيدان مختلفين متغايرين، وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قول - تعالى - (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (¬1) وقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا شَيْئًا) (¬2). (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)) المفردات: (طَاغُونَ): متجاوزون الحدّ في الكفر. (بِمَلُومٍ): بفاعل ما يلام عليه. ¬

_ (¬1) سور الكهف، من الآية: 110. (¬2) النساء، من الآية: 36.

(لِيَعْبُدُونِ): ليخضعوا لي ويتذللوا، أو ليعرفونى. (الْمَتِينُ): شديد القوة. (ذَنُوبًا) (¬1): نصيبًا من العذاب. (فَوَيْلٌ): فهلاك، أو حسرة، أو شدة عذاب. التفسير 52 - (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ): يقول الله - سبحانه وتعالى - مسليًا لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: مثل هذا الشأن كان شأن الأمم السابقة مع رسلهم: فكما قال لك هؤلاء المشركون من أهل مكة قال مثله المشركون الأوَّلون لرسلهم، فهذه شِنْشِنَةُ المكذبين وتلك سمة الكافرين. وفي البحر: (أو) للتفصيل، أي: قال بعضهم: هو ساحر، وقال بعض: هو مجنون، وقال بعض: هو ساحر ومجنون، فجمع القائلون في الضمير، ودلَّت (أو) على التفصيل. واستشكلت الآية بأن قوله - تعالى -: (إلاَّ قالوا) يدل على أَن الّذين من قبلهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإِمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط؛ لأنه الأوفق بغرض التسلية. 53 - (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ): المعنى: أتواصى الأوَّلون والآخرون بهذا القول؟ أي: أوصى بعضهم بعضًا بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه؟ وهؤلاء وأولئك لم يتواصوا به في الحقيقة؛ لأنهم لم يلتقوا في زمن واحد بل هم قوم طغاة متجاوزون للحدّ خارجون عن طاعة الله تشابهت قلوبهم. فقال متأخرهم كما قال متقدمهم، جمعهم المقصد الواحد وتلاقوا في الطَّعن علي الرسل، والحامل لهم على هذا القول هو الطغيان والعناد والتَّمرُّد والتكذيب لرسالات السماء. ¬

_ (¬1) أصل الذنوب: الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهرى: لا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وتذكر وتؤنث، وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان النصيب أو خيرا، وفي الكشاف: هذا تمثيل، أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب (1هـ: آلوسى ص 24).

والضمير في (به) للقول السابق، ومقصود الاستفهام في (أتواصوا به) التعجيب من إجماعهم على هذا القول الكاذب. 54 - (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ): أي: فأعرض - يا محمد - عن جدال هؤلاء المعاندين فقد كَرّرت عليهم الدعوة ولم تأل جهدًا في البيان فلم يستجيبوا، وعرفت منهم العناد واللَّجاج فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة وبذلت مجهودك في التبليغ والدعوة، وما أنت بملوم على عدم استجابتهم إن عليك إلاَّ البلاغ، وإنما أنت منذر. وقد فعلت. 55 - (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ): أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقى في الشُّعَب وجماعة من طريق مجاهد عن عليّ - كرّم الله وجهه - قال: لما نزلت (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) لم يبق منا أحد إلاَّ أيقن بالهلكة إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن يتولَّى عنّا، فنزلت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت أنفسنا. عن قتادة: أنهم ظنُّوا أَن الوحى قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله (وذكِّر) الخ، والمعنى: دُمْ على التذكير والموعظة ولا تَدَعْ ذلك: فالأمر بالتذكير للدوام عليه، فإنَّ الذكرى تفيد وتُجْدى مع الذين قدّر الله هدايتهم وعلم أنَّهم سيدخلون في ساحة الإيمان لاختيارهم ذلك، أو مع المؤمنين بالفعل: فإنها تزيدهم بصيرة بالدين وقوّة في اليقين. 56 - (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ): استئناف مؤكد للأمر الذي قبله مقرِّر لمضمون تعليله؛ فإن خلهقم للعبادة مما يدعوه - صلى الله عليه وسلم - إلى تذكيرهم، ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدّم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، ولم يذكر الملائكة لاستغنائهم عن التذكير والموعظة؛ لأنهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والمعنى: وما خلقت الجن والإنس لشيء يعود عليّ بالنفع، وإنما خلقتهم لتكون غايتهم العبادة (والعبادة غاية التذلل) أي: خلقتهم مهيئين صالحين للعبادة حيث ركبت فيهم عقولًا وجعلت لهم حواس يدركون بها الطاعة والمعصية حتى لا يكون للعصاة حجة على الله. وقال ابن جريج ومجاهد: (إلا ليعبدون) أي: ليعرفونى، وهو مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب على السبب، ولعلَّ السِّرَّ فيه: التنبيه على أَن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة، قيل: وهو حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم - عز وجل - لم يعرف وجوده وتوحيده - سبحانه وتعالى - وهذا إشارة إلى ما صححوه عن رسول الله فيما رواه عن ربه: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أَن أُعرف فخلقت الخلق لأُعرف". قال الآلوسي: والذي ينساق إليه الذِّهن: أَن الحصر الوارد في الآية حصر إضافي، أي: خلقهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام؛ أخذا من تعقيب ذلك بقوله تعالى: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). 57 - (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ): هذه الآية الكريمة لبيان أَن شأنه - تعالى - مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم؛ لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معاشهم وأرزاقهم أو للقيام على خدمتهم ورعايتهم ففيها نفى أَن يكون ملكه إياهم لذلك، فكأنه - سبحانه وتعالى - قال: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعن ملَّاك العبيد بعبيدهم، وما أريد منهم تحصيل رزق؛ فأنا الرزاق الغنى عن العالمين وما أريد أَن يطعمونى؛ فأنا أطعم ولا أطعم، غنى عنهم وعن مُرافقتهم، فليشتغلوا بما ينفعهم ويسعدهم وما خلقوا لأجله بن عبادتى وطاعتى والخضوع لي. وفي الآية الكريمة لطائف: الأولى: أنّه - سبحانه وتعالى - كرر نفى الإرادتين؛ لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب؛ لأنه غنى، ولكن يطلب قضاة حوائجه من حفظ المال وإحضار الطَّعام، فنفى الإرادة الأولى لا يستلزم نفى الإرادة الثانية؛ فكرر النفى على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك.

الثانية: أَن ترتيب النفيين كما تضمنّه النظم الجليل من باب الترقى في بيان غناه - عز وجل - فكأنه - سبحانه -: لاَ أريد منهم رزقًا ولا ما هو دون ذلك من تقديم الطعام. الثالثة: أنه - سبحانه وتعالى - قال: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) دون ما أُريد منهم أَن يرزقون؛ لأن المقصود عين الرزق لا الفعل. وقال - سبحانه - (وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) دون: وما أريد من طعام؛ لأن المقصود نفى الفعل نفسه - وهو تقديم الطعام - والمراد أَن الله - تعالى - غنى عن أَن يقدم عباده له رزقًا أو يقوموا على خدمته. 58 - {(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ): أي: إن الله هو الرزاق الذي يرزق جميع خلقه - لا غيره سبحانه - وهو ذو القدرة شديد القوة لا يعجز عن شيء، والجملة تعليل لنفى الإرادة فيما تقدم في قوله - تعالى -: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) قال الإِمام: كون - تعالى - هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق؛ لأن من يطلبه يكون فقيرًا محتاجًا وكونه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله - سبحانه -: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)؛ لأن من يطلبه يكون عاجزًا لا قوة له، فكأنّه قيل: لا أريد منهم من رزق؛ لأنِّي أنا الرزاق، وما أريد منهم من عمل كالإطعام؛ لأنى قوى متين. وكان الظَّاهر أن يأتى السياق الكريم (إني أنا الرزاق) كما جاء في قراءة له - صلى الله عليه وسلم - لكن التفت إلى التصريح بالاسم الجليل لبعث الهيبة في النفوس وأنه هو الرازق وحده دون سواه. 59 - (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ): أي: إذا ثبت أَن الله - تعالى - ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم، فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة

وإشراكهم بالله - عز وجل - وتكذيبهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل مكة وأحزابهم من الكفار قد أعد الله لهؤلاء نصيبًا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السَّابقة، وعن قتادة: سجْلا (¬1) من العذاب مثل سَجْل أصحابهم، فلا يطلبوا مني أَن أعجل في الإتيان بالعذاب قبل أوانه، فهو لاحق بهم لا محالة. 60 - (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ): أي: فهلاك وعذاب شديد للذين كفروا من يومهم الذي يوعدونه لما ينالهم فيه من الشَّدائد والأهوال وما يلاقونه فيه من عذاب وعقاب، وفي الآية بعض اللطائف: 1 - وضع الموصول موضع الضمير فجاء النَّظم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بدل فويل لهم؛ تسجيلا عليهم بما في حيِّز الصِّلة من الكفر، وإشعارا بعلة الحكم. 2 - الفاء في قوله: (فويل) لترتيب ثبوت الويل لهم على أَن لهم عذابًا عظيمًا. 3 - المراد بذلك اليوم، قيل: يوم بدر، ورُجِّح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوى، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية: والله أعلم. ¬

_ (¬1) السجل: الدلو المليئة (المختار).

تفسير سورة الطور

تفسير سورة الطور هذه السورة مكية كما رُوِيَ عن ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنه - ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل منهما على الوعيد. وقال الجلال السيوطى: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع، فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك: كالدعوة إلى وحدانية الله وترك الشرك، وهو المقصد الأول من مقاصد القرآن، بل من مقاصد جميع الأديان. مقاصد السورة: يقسم الله - تعالى - في أول سورة الطور بخمسة أشياء لها شأن عظيم على وقوع العذاب يوم القيامة بالمكذبين، ثم تمضى آيات السورة مبينة بمعنى ألوانه وضروبه، بعض التغييرات الكونية والآيات الإلهية التي تقع في ذلك اليوم (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) ثم تنتقل إلى ذكر ما أعده الله للمتقين من جنات ونعيم وما يتلذذون به ويلقونه عن صنوف التَّكريم، حيث يلحق الله بهم ذريتهم المؤمنة ويرفعهم إلى درجتهم لتقرّ بذلك عيونهم ويتم سرورهم. ثم تدعو الآيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المداومة على التذكير؛ فهذه رسالته في وهو - بفضل ما أنعم الله به عليه من النبوة ورجاحة العقل - ليس بكاهن ولا مجنون ولا شاعر، كما تدعوه إلى عدم الالتفات إلى ما يتقوّله عليه المتقولون، وعدم المبالاة بما يصفون به القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. ثم تأخذ الآيات في توبيخ الكافرين والمشركين وتقبيح آرائهم الضالة، وتسفيه معتقداتهم الفاسدة، مظهرة ضلالهم

معلنة سوء تقديرهم، آمرة الرسول بأن يدعهم غير مكترث بهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغنى عنهم مكرهم شيئًا من العذاب ولا هم ينصرون، فإن للذين كفروا عذابًا في الآخرة غير العذاب الذي يصيبهم في الدنيا، ولكن أكثرهم لا يعلمون. وتختم السورة بأمر الرسول بالصبر لحكم ربه؛ فهو في عنايته وكلاءته، وبالتسبيح بحمده (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ). بسم الله الرحمن الرحيم (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)) المفردات: (الطُّورِ): جبل بسيناء. (كِتَابٍ مَسْطُورٍ): مكتوب على وجه الانتظام.

(رَقّ): ما يُكتب فيه جلدًا أو غيره. (مَنْشُورٍ): مبسوط ظاهر. (الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ): هو بيت في السماء السابعة اسمه الضُّراح، وقيل: الكعبة. (السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ): السماء. (الْبَحْرِ الْمَسْجُور): الموقد أو المملوء نارًا يوم القيامة. (لَوَاقِعٌ): لنازل وكائن على شدة. (تَمُورُ): تضطرب، وبه قال ابن عباس، أو تدور كالرحى، وبه قال مجاهد. (فِي خَوْضٍ (¬1)): في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب. (يُدَعُّونَ): يدفعون بعنف وشدة. (اصْلَوْهَا): ادخلوها وقاسوا حرّها وشدائدها. التفسير يقسم الله - تعالى - بمخلوقاته الدّالة على قدرته العظيمة إن عذابه لواقع بأعدائه لا محالة وإنه لا دافع له عنهم. 1 - (والطور): أي: ومن جملة ما يقسم الله به الطور، وهو الجبل الذي يكون فيه أشجار، مثل الجبل الذي كلَّم الله موسى عنده فإن لم يكن فيه شجر لا يسمَّى طورا وإنما يقال له جبل، والمراد به هنا جبل سيناء ويسمى طور سيناء. ¬

_ (¬1) أصل الخوض: المشى في الماء، ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل، قال - تعالى -: (وخضتم كالذى خاضوا) سورة التوبة من الآية 69.

2 - {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}: ويقسم الله بكتاب مسطور، أي: مكتوب على وجه الانتظام؛ فإنَّ السَّطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قاله الفرَّاءُ: الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال ويُعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو شماله، وهو المذكور في قوله - تعالى -: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (¬1) وقيل: هو اللَّوح المحفوظ، وقيل: هو القرآن وغيره من الكتب السماوية المنزلة المكتوبة في صحف مُيسرة للقراءة يقرؤها الناس جهارًا ولهذا قال: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}. 3 - {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}: ويقسم - سبحانه - وتعالى بالرّق المنشور، والرّق: ما يكتب فيه جلدا أو غيره، ونشره: بسطه وظهوره للناس يرجعون إليه ويهتدون بهديه ويقرأونه بسهولة ويسر. وقيل: وصفه بالنشر والظهور للإشارة إلى صحّة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جُعل مُعرَّضًا لنظر كل ناظر مع الأمن عليه من الاعتراض لسلامته. 4 - {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}: ويقسم الله - تعالى - بالبيت المعمور، قال ابن كثير: ثبت في الصَّحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته للسَّماء السَّابعة: "ثُمَّ رُفع بي إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه": فهو في السماء يتعبّد فيه الملائكة ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وقال الحسن: هو الكعبة وعمرانها بالمُجاورين عندها والحجّاج إليها. 5 - {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}: ويقسم الله - تعالى - بالسقف المرفوع وهو السماء كما رواه جماعة وصحّحه الحاكم عن علي - كرم الله وجهه - وبه قال سفيان وتلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 13. (¬2) الأنبياء، الآية: 32.

وعن ابن عباس: هوالعرش، وهو سقف الجنَّة، أو سقف لجميع المخلوقات. 6 - {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}: ويُقسم الله بالبحر المسجور، والجمهور على أنَّ المراد به بحر الدنيا، وبأَن المسجور بمعنى الموقد نارا قال - تعالى -: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (¬1) أي: أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف: رواه سعيد بن المسيب عن علي - كرم الله وجهه - وقيل المسجور: المملوء. والواو الأُولى في قوله - تعالى -: {وَالطُّورِ} للقسم، وما بعدها للعطف كما قال أبو حيان، والجملة المقسم عليها قوله - تعالى -: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}. 7 - {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}: هذا هو المقسم عليه بما سبق، أي: إن عذاب ربك الذي توعد به الكافرين لكائن لا محالة على شدة، كأنَّهُ مهيّأ ومعدّ في مكان مرتفع فيقع وينزل على من يحلّ به من مستحقيه من الكفار والمكذبين، وفي إضافة العذاب إلى لفظ الرب مع إضافة الرب إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - أمان له - صلى الله عليه وسلم - وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذَّبه. 8 - {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ}: عن جعفر بن زيد العبديّ قال: خرج عمر يَعُسُّ (¬2) في المدينة ذات ليلة فمرّ برجل من المسلمين فوافقه قائمًا يُصلي، فوقف يستمع قراءته، فقرأ {وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} قال: قسم - وربّ الكعبة - حقّ، فنزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًّا، ثم رجع إلى منزله فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه - رضي الله عنه -. وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة على رسول الله لأُكلِّمه في أُسارى بدر، فدُفِعْت إليه وهو يُصلِّي بأصحابه صلاة المغرب؛ فسمعته يقرأ: {وَالطُّورِ} إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ ¬

_ (¬1) سورة التكوير، الآية: 6. (¬2) أي: يطوف بالليل، وهو من باب رد: مختار الصحاح.

مِنْ دَافِعٍ} فكأنَّمَا صدع قلبي، وفي رواية فأَسلمت خوفًا من نزول العذاب، وما كنت أظنّ أن أقوم من مقامي حتّى يقع بي العذاب. والمعنى: ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. 9، 10 - {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}: يحكي القرآن بعض التغيرات الكونية والآيات الإلهية التي تحدث في يوم القيامة فيقول: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} ويوم: ظرف للعذاب الواقع الذي ليس له دافع أي: يقع ذلك العذاب ويحدث يوم تضطرب السماء اضطرابًا شديدًا، وتدور كالرّحى ويموج بعضها في بعض، ولمّا ذكر من مشاهد يوم القيامة ما يحدث للسماء ذكر ما يحدث للأرض فقال: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي: وتنتقل الجبال من مقارِّها وتتحرك تحركًا ظاهرًا، وتذهب فتصير هباءً منبثًّا وتُنسفُ نسفًا، والإتيان بالمصدرين في (مَوْرًا وسَيْرًا) للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة والأعراف المألوفة؛ لأن ذلك من أحوال يوم القيامة، أي: تمور السماء مورًا عجيبًا، وتسير الجبال سيرًا غريبًا لا يدرك كنههما. 11، 12 - {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي: إذا وقع ذلك، أو كان الأمر كما ذكر فويل في ذلك اليوم للمكذبين بالحق من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم. {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي: الذين هم في أباطيلهم وأكاذيبهم يلهون ويعبثون، وغلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. 13، 14 - {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يوم يُدفعون إلى جهنَّم دفعًا عنيفًا بأن تُغلّ أَيديهم إلى أعناقهم وتُجمع نَوَاصِيهم إلى أقدامهم فيُدفَعُون إلى النَّار دفعًا على وجوههم.

{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: وتقول لهم الزبانية - تقريعًا وتوبيخًا -: هذه النار التي كنتم بها تكذِّبُون في الدنيا، ومثلها في التكذيب بها تكذيبهم بالوحي النَّاطق بها. 15 - {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}: استفهام قصد به التقريع والتهكم بهم، كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم: هذا سحر، أفهذا الذي تشاهدونه من العذاب في النَّار سحر أيضًا؟ أم أنتم عمى عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميًا عن الخير؟. 16 - {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: ادخلوا النار وقاسوا شدائدها وذوقوا حرّها، فافعلوا ما شئتم من الصّبر وعدمه وسواء أصبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها والأمران (الصّبر وعدمه) سواء عليكم في عدم النَّفع، إذ كل لا يدفع العذاب ولا يُخففه وإنَّما تُلَاقون اليوم في الآخرة جزاءَ ما كنتُم تعملون في الدُّنيا. وقوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل للاستواء، فإن الجزاء لمّا كان مُحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه - سبحانه وتعالى - إيّاه بمقتضى عدله {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1) كان الصبر وعدمه مُسْتويين في عدم النفع. ووجّه الزَّمخشري كَوْنَ قوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلا للاستواء فقال: لأن الصّبر يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يُجازى عليه الصّابر جزاء الخير، فأمّا الصّبر على العذاب - الذي هو الجزاء - ولا عاقبة له ولا شفعة فيه، فلا مزية له على الجزع. ¬

_ (¬1) سورة الكهف، من الآية: 49.

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} المفردات: {فَاكِهِينَ}: متلذذين ناعمين. {مَصْفُوفَةٍ}: موصول بعضها ببعض باستواء حتى يصير صفا. {وَزَوَّجْنَاهُمْ}: وقرنَّاهم. {بِحُورٍ}: حُورٍ: جمع حوراء، من الحَوَر: وهو شدة بياض العين في شدة سوادها، وامرأة حوراء بيِّنة الحَوَر. {عِينٍ}: جمع عيناء، وهي المرأة واسعة العين، أي: وقرنَّاهم بنساء واسعات العيون حسانها. التفسير 17 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ}: شُروع في ذكر حال المؤمنين وما أُعدّ لهم من نعيم مقيم بعد ذكر حال الكفَّار وما أعدّ لهم من عذاب أليم كما هو نسق القرآن وطريقته في التَّرغيب والتَّرهيب. والمعنى: إن المتقين المطيعين لله العاملين بشرعه الَّذِين جعلوا لهم بعقيدتهم وسلوكهم وقاية من النار، في جنات فسيحات لا يحاط وصفها ونعيم عظيم لا يقادر قدره، والتنوين في الموضعين {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} للتعظيم، ويجوز أن يكون للتنويع، أي: نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم، ويجوز أَن تكون الآية من جملة القول للكفَّار إذ ذاك زيادة في غمِّهم وحزنهم وتكديرهم.

18 - {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}: أي: مُتنعِّمين مُتلذِّذين بما أعطاهم ربهم من أنواع الإحسان والنعيم وبما منحهم من أصناف الملاذِّ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، وقد نجّاهم الله من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أُضيف إليها من نعمة دخول الجنة التي فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإظهار لفظ الرّب في موضع الإضمار مضافًا إلى ضميرهم في قوله - تعالى -: (رَبُّهُم) للتشريف والتعليل. 19 - {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا أكلا وشربًا هنيئًا، أو طعامًا وشرابًا هنيئًا لا تنغيص فيه، ولا يلحقكم فيه مشقَّة ولا يُعقِب وخامة، جزاءَ ما كنتم تعملون في الدُّنيا من عمل صالح. 20 - {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}: أي: متكئين على سرر مجعولة على صف وخط مستقيم مع تقابل وجوه بعضها إلى بعض لتعدّد الصفوف كما قال - تعالى -: {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} (¬1) وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حسانًا من الحور العين. قال الراغب: لم يجىء في القرآن: زوجناهم حورًا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفَّراء: تزوجت بامرأة: لغة (أزد شنوءة). {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 44.

المفردات: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ}: وما نقصنا الآباء بسبب إلحاق الأبناء بهم. والفعل (أَلَتْ) من باب: ضرب، وعلم، وبهما قرئ. {رَهِينٌ}: مرهون عند الله بعمله. {يَتَنَازَعُونَ}: يتجاذبون ويتعاورُون، وقيل: التَّنازع مجاز عن التَّعاطي. {كَأْسًا}: (¬1) إناءً به خمر، والكأْس مؤنث سماعي كالخمر. {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}: لا كلام ساقط أثناء شربها، ولا فعل يستوجب الإثم، وقال مجاهد: لا يستبُّون ولا يُؤثَّمُون. التفسير 21 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}: كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنَّة. والمعنى: والذين آمنوا واستحقُّوا درجات عالية، واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ولم يبلغوا درجات الآباء، ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة، وإن كانوا لا يستأهلونها تفضّلا عليهم وعلى آبائهم، ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من ثواب عملهم شيئًا بأن أعطينا الأبناء بعض مثوباتهم، وإنما رفعنا منزلة الأبناء إلى منزلة الآباء بمحض التفضل والإحسان، ولما أخبر - سبحانه - عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذّرية، إلى منزلة الآباء من غير عمل منهم يقتضي ذلك أخبر عن مقام العدل، وهو أنَّه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، فلا يحمل الآباء شيئًا من أخطاء ذرَّيتهم؛ لأنَّ كلَّ إنسان مرهون بعمله لا يؤخذ به غيره، فقال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}. ¬

_ (¬1) قال الراغب: الكأس: الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد بانفراده كأسًا، ولكن المشهور أنها لا تسمى كأسًا إلا إذا امتلأت خمرًا أو كانت قريبة من الامتلاء (آلوسى).

والآية الكريمة تفسير إلى أن الكسب بمنزلة الدَّين، ونفس العبد بمنزلة الرهن، ولا يفك الرهن ما لم يؤد الدَّين، فإن كان العمل صالحًا فقد أدّى؛ لأن العمل الصالح يقبله ربُّه - سبحانه وتعالى - ويصعد إليه - عز وجل - وإن كان غير ذلك فلا أداء ولا خلاص إذ لا يصعد إليه - سبحانه - غير الطيب، أخرج سعيد بن منصور وابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: "إن الله ليرفع ذريَّة المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ الآية" وفي رواية الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل الرجل الجنَّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنَّهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس الآية". والآية على ما ذهب إليه كثير من المفسِّرين في الكبار من الذُّريَّة، وقال منذر بن سعيد: هي في الصِّغار. ورُوي عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إنَّ الله يلحق الأبناء الصغاري وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين، وجعل {بِإِيمَانٍ} على هذا الرأي متعلقًا بألحقنا، أي: ألحقنا بالآباء المؤمنين الصالحين ذُريتهم الصِّغار الذين لم يبلغوا التكليف - أو كانوا كبارًا مكلفين مؤمنين ولكنهم لم يبلغوا درجة آبائهم في العمل الصالح، والبعد عن المعاصي - آلحقناهم بآبائهم في درجتهم في الجنة إكرامًا لهم، ولنكمل بهم مسرتهم: 22 - {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}: أي: وزدناهم على ما كان لهم من مظاهر النِّعم في وقت بعد وقت بفواكه كثيرة ولحوم من أنواع شتى مما يُستطاب ويُشتهى وإن لم يُصَرِّحوا بطلبه. 23 - {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}: أي: يتجاذبُون في الجنة - تجاذبُ مُلاطفة ويتعاطون تعاطي توادّ - كأسًا مليئة بالشراب لا يكون منهم بِشُرْبها كلام باطل من لغو الحديث وسقط الكلام ولا عمل فاحش يستوجب

الإثم فاعله كما هو دَيْدَنُ النَّدامى في الدنيا، وإنما ينطقون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعل الكرام. والله أعلم. {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} المفردات: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ}: يخدمهم غلمان مترددون عليهم. {مَكْنُونٌ}: مصون ومحفوظ في صدفه. {مَكْنُونٌ}: أرقاء القلوب من خشية الله. {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}: فتفضل علينا كرمًا منه. {السَّمُومِ}: النار الشديدة الحرارة، وسميت سموما؛ لأنها تخترق مسام الجلد. التفسير: 24 - {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ}: بعد أن ذكر الله النعيم الذي تفضل به على أهل الجنة أتبعه نعمًا أخرى، وأولها يتضمنه قوله - تعالى -: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} أي: ويقوم على خدمتهم من آن لآخر ولدان لهم لم يصلوا إلى درجة البلوغ، وفي ذلك مزيد إيناس لمن يخدمهم.

وفي قوله - تعالى -: {غِلْمَانٌ لَهُمْ} ما يشير ويوحي بأن هؤلاء الولدان قد خصهم الله بأُولئك المخدومين في الآخرة لا ينفكون عن خدمتهم ولا ينقطعون عن تبعيتهم لهم وأنهم مع تلك الخصال الطيبة على الصورة الحسنة والمنظر البهيج كأنهم اللؤلؤ المصون في صدفه صفاء وبياضًا ونقاء ونفاسة، هذا هو شأن الخادم، فما بالك بالمخدوم. أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: "والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". 25 - {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}: أي: وأقبل كل واحد منهم على أخيه بوجهه، وقد امتلأ بشرًا وحبورًا، يسأل كل واحد منهم أخاه ورفيقه في الجنة كما يسأله أخوه، كل يسأل عن الأحوال والأعمال التي استوجبت ما هم فيه، يسأله سؤال تلذذ وفرح بما ينعمون من ثواب حسن عظيم، لا يشوبه خوف من انقطاع أو إشفاق من نقصان فيجيبون على هذا التساؤل بما حكاه عنهم في قوله: 26 - {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}: أي: قال كل واحد منهم: إنا كنا في الدنيا بين أهلينا وأولادنا لا يشغلنا عن مولانا وإلهنا شىءٌ، كنا خائفين من عصيانه، رقاق القلوب من خشيته، منصرفين إلى طاعته، وجِلين من عاقبة الأمر ونهاية المطاف وهو اليوم الآخر. 27 - {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}: أي: فتفضل علينا بمنِّه وكرمه وحفظنا وجعلنا في وقاية من عذاب النار وسعيرها، وكانت الجنة هي دار المقام لنا؛ لأنه في الآخرة: إما إلى جنة، وإما إلى نار، وليس فيما حل بنا من حفظ وما أُقمنا فيه من كريم المنزل والمقعد الصدق عند ربنا ليس لنا في ذلك من فضل، فإن أعمالنا الصالحة بتوفيق الله ومعونته، وهي مع هذا قليلة بالنسبة إلى هذا النعيم وذلك بعد أن زحزحنا - سبحانه - عن النار بفضله وسعة كرمه، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:

ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله بفضل رحمته، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله يستعتب" ومهما عبد العبد ربه فآلاء الله التي غمره بها لا تحصى ونعمه لا تعد، وإن أدقّ نعمة من الله علي عبده لتزيد على أضعاف أضعاف ما يؤدى العبد لربه من عبادة وطاعة، ولو كان من خاصة المقربين وقضى حياته ساجدًا لله - تعالى - والسموم: اسم من أسماء النار كما قال الحسن، ثم أشار - سبحانه - إلى كمال تعظيمهم لأمر الله بقوله: 28 - {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}: أي: إنّا كنا في الدنيا قبل أن نقدم ونصير إليه - سبحانه - لم تشغلنا أولادنا ولا أهلونا ولا أموالنا ولا ما كنا فيه من جاء زائف وسلطان زائل، فكنا ندعوه ونلجأُ إليه ونعبده فهو - جل شأنه - حقيق بالطاعة والانقياد والإذعان لأمره، فهو البر التام الإحسان العميم الفضل إذا عُبد أثاب وإذا سئل أجاب. {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}

المفردات: {بِنِعْمَتِ رَبِّكَ}: بسبب تفضل الله عليك بالنبوة وغيرها. {بِكَاهِنٍ} الكاهن: هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، والمشاهد أنه يستمد إخباره بالغيب عن الجن، وهذا عن الماضي، أما عن المستقبل فلا سبيل له إليه فقد استأثر الله بعلمه. {نَتَرَبَّصُ}: ننتظر. {رَيْبَ الْمَنُونِ}: حوادث الدهر ومصائبه. والمنون: هو الدهر، وقيل: هو الموت. {أَحْلَامُهُمْ}: جمع حلم وهو العقل. {طَاغُونَ}: مجاوزون الحد في العناد. {تَقَوَّلَهُ}: اختلقه من تلقاء نفسه. التفسير 29 - {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ}: أي: فدم على التذكير بما أوحاه الله إليك ولا تبال بافتراءاتهم، فإن من أنعم الله عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين فضلا عن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قبل النبوة أعلاهم رأيًا، وأرجحهم عقلًا، وأبينهم حجة ومنطقًا منذ أن ترعرع وشب إلى أن بلغ الأشد، فما أبعد من كان هذا شأنه عن أن يكون كاهنًا أو مجنونًا، والكاهن يعتمد في إخباره عن الغيب على الجن وبضرب من الظن. والراغب الأصفهاني في مفرداته خص الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية، والعراف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة، فضلا على أن الكهان كانوا عندهم من أكثرهم فطنة وهو ضد المجنون الذي لا يعقل، فكيف جمعوا بين هذين الوصفين المتناقضين في افترائهم على الرسول؟!.

30 - {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}: المنون: الدهر، من المن، بمعنى القطع؛ لأنه يقطع الأعمار، والريب: مصدر (رابه) إذا أقلقه فيكون المراد حوادث الدهر وصروفه التي تقلق النفوس، أو المراد بالمنون: الموت، وريبهُ: نزولُهُ. روى أن قريشًا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه - عليه الصلاة والسلام - حتى قال قائل منهم: تربصوا به ريب المنون؛ فإنه شاعر يهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت هذه الآية، وقد نفى الله - تعالى - عنه فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ .. } الآية 41 من سورة الحاقة. 31 - {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}: أي: قل لهم - يا محمَّد متهكمًا بهم مهددًا لهم -: انتظروا موتي ما شئتم فإني أتربص وأنتظر هلاككم وفناءكم كما تتربصون هلاكي {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. وفي هذا الأسلوب عِدَةٌ وبشارة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن الله مهلكهم ومبيدهم. ثم تنتقل الآيات مستهزئة بهم ساخرة منهم ومن عقولهم وذلك في قوله - تعالى -: 32 - {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}: أي: بل أتأمرهم عقولهم وألبابهم بهذا التناقض في القول، فتارة هو عندهم كاهن؛ وتارة مجنون، وتارة أخرى شاعر، وكانت قريش يُدْعَوْن أهل النهى والأحلام الراجحة، لأن جميع العالم العربي يأتونهم ويخالطونهم، ولكنهم في شأن الرسول أغفلوا عقولهم وأهدروا الاحتكام إليها والعمل بمقتضاها. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله - تعالى - بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله - عز وجل - أي: لم يصحبها التوفيق، فلذا لم يؤمنوا وكفروا.

قال الإِمام الآلوسي: وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم، ولعلها تدل على ضد ذلك (بهذا) التناقض في المقال، فإن الكاهن والشاعر يكونان ذوي عقل تام وفطنة وقَّادة، والمجنون مغطى عقله مختل فكره، وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيصَ بيصَ حتى اضطربت عقولهم، وتناقضت أقوالهم، وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون اهـ. ولكل وجهته. {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: بل هم قوم مجاوزون الحدود في المكابرة موغلون في العناد، ولا يحومون حول الرشد والسداد، لذلك تناقضوا في وصفه - صلى الله عليه وسلم -. 33 - {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ}: أي: بل أيقولون - كذبًا وزورًا -: إن محمدًا اختلق القرآن الكريم من تلقاء نفسه ونسبه إلى ربه بهتانًا وافتراءً، فليس الأمر كما يقولون {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} بل إنهم لا يؤمنون بك ولا بما جئت به مع وضوح الحق لديهم جحدًا واستكبارًا، قال الله - تعالى -: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. 34 - {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}: أي: فليأتوا بكلام يماثله في البلاغة والإعجاز إن كانوا صادقين فيما يدعونه من أنك يا محمَّد أتيت به من عندك؛ فما أنت إلا واحد منهم نشأ بينهم ولم يفارقهم، مع أن بلغاء العرب قد عجزوا وأفحموا - بعد أن تحديتهم - عن الإتيان حتى بسورة من مثله، ومحمد عربي مثلهم ولم يعرف عنه أنه تبارى مع الفصحاء والبلغاء، فإذا كنتم قد عجزتم عن الإتيان بمثله، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - مثلكم يعجز عن الإتيان بمثله، لأنه فوق مستوى البشر أجمعين، لقد كان وعاش أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة مثلكم، فلو أنه قدر على نظمه لكان غيره من الفصحاه والبلغاء أقدر على ذلك منه، ومع ذلك بدا عجزهم حتى عن معارضة القرآن بعد أن تحداهم الله وأبان عجزهم فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}.

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} المفردات: {خَزَائِنُ رَبِّكَ} الخزائن: هي البيوت التي تُهيأ لجمع أنواع مختلفة من النفائس والذخائر، والمراد بها هنا: مفاتيح الرحمة والرزق وغير ذلك من عظائم النعم. {الْمُصَيْطِرُونَ}: الأرباب الغالبون والمتسلطون القاهرون. {سُلَّمٌ}: مُرتقى ومصعد. {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: بحجة بينة. {مَغْرَمٍ}: من الغرم والغرامة، قال الراغب: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه. {مُثْقَلُونَ}: محملون ما يثقلهم ويجهدهم. (كيدًا): مكرا. {الْمَكِيدُونَ}: الممكور بهم الذين يلقون جزاء مكرهم.

35 - {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: أم خُلِقُوا هذا الخلق الدقيق العظيم وصوروا هذا التصوير البديع، فجاءُوا على هذا النظام الحسن من استقامة في أبدانهم، ونطق بألسنتهم، وإدراك في عقولهم، وتدبير لأمر معاشهم، واهتداء إلى ما يصلحهم ويحفظهم، أخُلِقُوا هذا الخلق وقدروا التقدير المحكم الذي عليه فطرتهم من غير خالق ومقدر؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي: أم هم الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله - عز وجل - ولا يلتفتون إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكيف يتصور عقل سليم وفكر مستقيم أن المعدوم يخلق ويوجد سواه فضلًا عن أن يخلق نفسه؟ وهم مع شركهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم. قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬1) وإذا اعترفوا بأن ثَمَّ خالقًا قد خلقهم وهو الله - سبحانه وتعالى - فما الذي يمنعهم من الإذعان له بالعبادة دون الأصنام؟ إنه هو التقليد لآبائهم، ومن أجله أهدروا عقولهم، وعاندوا في الإقرار بالحق. 36 - {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}: أي: بل أَهم الذين خلقوا السموات والأرض؟ كلا، إنهم لم يخلقوها بل لم يقفوا على شيء من أسرارها وما تضم من مخلوقات جليلة عظيمة وعديدة، فضلا عن أنهم أقروا بأن الله هو الذي خلقهن فقال - عز من قائل -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (¬2). 37 - {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ}: أي: بل أعندهم وتحت أيديهم ووفق تصريفهم مفاتيح رزق الله ورحمته من النبوة وغيرها من عظائم نعمه ودقائقها فيقسموها على من يشاءُون ويؤثروا بها من يريدون ويمسكوها ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، من الآية: 87. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 9.

عمن لا يرغبون ولا يحبون؟ فلهذا رأوا أن تكون الرسالة لرجل من القريتين عظيم؟ واستبعدوا النبوة عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لفقره. {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} أي: بل أهم الأرباب الغالبون والمعبودون القاهرون حتى يدبروا أمر الخلق، وينفردوا بهذا التقدير المحكم والتدبير المتقن، ويعطوا النبوة لمن شاءوا، ويستعيدوها من سواه، إنهم ليسوا كذلك، فالله وحده هو قيوم السموات والأرض وليس له ندٌ ولا شريك. 38 - {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: أي: بل أيَدَّعُونَ أن لهم مرتقى ومصعدًا منصوبًا إلى السماء يستمعون وهم صاعدون فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى به إليهم من علم الغيب حتى يعلموا أن الظفر والغلبة والعاقبة لهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ادعوا ذلك وزعموه لزمهم أن يأتوا بحجة واضحة ودليل ظاهر بين يصدق دعواهم، وأنَّى لهم هذا الدليل؟ وليس لهم إليه من سبيل. 39 - {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}: هذا إنكار وتوبيخ ووعيد لهؤلاء الذين بلغ بهم التَّدنِّي في السفه والغلو في العناد إلى أن ادعوا أن الملائكة إناث، وأن الله قد اختارها لنفسه وآثرهم بالبنين، وهم لم يشهدوا خلق الملائكة ولم يعرفوا فطرتهم، ولم يقفوا على حقيقتهم حتى يصفوهم بالأنوثة ويزعموا مع ذلك أنهم بنات الله {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (¬1) وهم يزعمون أن لهم البنين فيختارون لله ما يكرهون، ولهم ما يحبون {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (¬2). ليس الأمر كما تزعمون أيها الحمقى - تعالى الله عما تقولون علوا كبيرًا - فهو - سبحانه - منزه عن الشريك والصاحبة والولد. 40 - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}: أي: بل أتطلب منهم أجرًا وجزاءً على هدايتك لهم وإرشادهم إلى دين الله الحق تلزمهم بهذا الأجر وتجبرهم عليه، فهم من هذا الغرم الثقيل الفادح المجهد لهم يزهدون في اتباعك ¬

_ (¬1) سورة الزخرف من الآية: 19. (¬2) سورة الزخرف الآية: 17.

ويصدون عنك؟ إنك لم تطلب منهم أجرًا على تبليغ رسالة ربك، بل لقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة على خير أداءٍ وأفضل تبليغ امتثالًا لأمر ربك، وكنت مع ذلك شديد الشفقة عليهم والرحمة بهم رغبة في إيمانهم. 41 - {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ}: أي: بل أعندهم ولديهم علم ما غاب عن الناس مما هو مسطور في اللوح المحفوظ وغيره ومما استأثر الله بعلمه، فعرفوا أن ما أخبرهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من أمر القيامة وما فيها من بعث وحساب، ثم جنة أو نار، أعلموا أن ما أخبرهم به الرسول - عليه الصلاة والسلام - ليس له حقيقة، وإنما هو أمرٌ باطلٌ، وهم لذلك يكتبون للناس بذلك ويخبرونهم؟ ليس هذا لديهم ولا هم في شيءٍ منه. 42 - {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}: هذه الآية الكريمة من الأخبار بالغيب؛ لأنها نزلت قبل اجتماع المشركين في دار الندوة قبيل هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وائتمارهم عليه، فمنهم من كان يرى أن يحبس حتى يموت، واقترح آخرون أن يخرج وينفى من ديارهم، ثم اتفقوا جميعًا على أن يختار من كل قبيلة شاب جلد فيضربوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضربة رجل واحد فيتفرق دَمُهُ في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم فيقبلون ديته، ولكن الله - سبحانه - أعماهم فهم لا يبصرون، وخرج - صلى الله عليه وسلم - من بينهم بعد أن حثا التراب عليهم. والمعنى: بل أيريدون الخديعة والمكر بك لينالوا منك ويقضوا عليك، إن الله - سبحانه - لن يمكنهم منك، ولن يصلوا فيك إلى ما يريدون، فالله راعيك وحافظك، أما هم فبسبب كفرهم سينزل الله بهم عاقبة مكرهم، ووبال خداعهم {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (¬1) وسيلقون جزاءهم في الدنيا هوانا وقتلا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 43.

43 - {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أي: بل ألهم إله خلقهم ورزقهم يحييهم ويميتهم ويعطيهم ويمنعهم غير ربِّ السموات والأرض رب العالمين، فهم لإلههم هذا يدينون بالربوبية ويشركونه مع الله في العبادة، إن الله - سبحانه - تنزه وتعالى عما يشركون فهو الذي تقدس عن أن يكون له شريك أو ند أو نظير. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} المفردات: {كِسْفًا}: قطعة. {مَرْكُومٌ}: ملقى بعضه فوق بعض. {فَذَرْهُمْ}: فدعهم واتركهم. {يُصْعَقُونَ}: يهلكون ويموتون. ¬

_ (¬1) سورة الشورى، من الآية: 11.

{دُونَ ذَلِكَ}: سوى ذلك. {لِحُكْمِ رَبِّكَ}: لقضاء ربِّك فيما حملك من رسالته. {بِأَعْيُنِنَا}: في حفظنا وحراستنا. {إِدْبَارَ النُّجُومِ}: غيبها وذهاب ضوئها بطلوع الفجر الثاني. التفسير 44 - {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ}: أي: وإن يروا بأعينهم ويظهر لهم قطعة عظيمة من السماء تسقط عليهم لتهلكهم وتقضي عليهم لقالوا - من فرط طغيانهم وشدة عنادهم -: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض يحفل بالمطر ويمتلىءُ بالغيث يسقينا ويروينا، ولم يصدقوا أنه كِسْف وقطعة تنزل لعذابهم، وهم بقولهم هذا يتبعون طريق وسنن من كان قبلهم في صلفهم وكبرهم كعاد قوم هود عند ما رأوا سحابًا استقبل أوديتهم فرحوا به واستبشروا وقالوا: هذا يأتينا بالمطر، وقد حكي القرآن الكريم عن رسولهم هود - عليه السلام - أنه قال لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). 45 - {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ}: أي: اتركهم - يا محمَّد - غير مكترث بهم ولا ملقيًا لهم بالًا حتى ذلك اليوم الذي فيه يلقون حتفهم وهلاكهم. وهو يوم غزوة بدر حيث ينصرك الله نصرًا مبينًا مؤزرًا تطمئن به قلوبكم، ويقهر به عدوكم، ويُلقي الله به الرعب في قلوب من تحدثه نفسه أن ينازلكم أو يتعرض لملاقاتكم. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، من الآية: 24 والآية: 25.

46 - {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}: أي: في هذا اليوم الذي هو يوم بدر لا يفيد ولا يغني عنهم ما مكروا به ودبروه في دار الندوة لإلحاق الأذى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكيد والمكر الذي عاونهم فيه إبليس - عليه اللعنة - كما لم ينفعهم ما أعدوه من العدد والعدة لمناصبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم وراء ذلك لا يجدون أحدًا ينصرهم ويمنع عنهم نزول الهزيمة بهم، وقتل سادتهم وشجعانهم وأشرافهم. 47 - {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}: أي: لا يقف شأن إنزال الهوان والعذاب بهم عند هذا الحد ولا يقتصر على إحاطته بهم يوم بدر، بل وإن لهؤلاء الظالمين أنفسهم بكفرهم، والظالمين غيرهم بالقتل والتعذيب والإذلال، إن لهؤلاء جزاءَ ظلمهم - عذابًا مهينًا غير هذا العذاب الذي نزل بهم وهو ما يصيبهم من القحط والجدب في السنين السبع التي أكلوا فيها الجيف، وردئ الطعام ومُرَّه، أو ما يلقونه من مصائب الدنيا وعذاب القبر، وهم عن ذلك في غفلة، وأكثرهم لا يعلمون ما سيحل بهم من الوبال والهلاك، وبعضهم يعرفه ويعلمه غير أنه يصر على الكفر والضلال عنادًا وكبرًا وصدًّا. 48 - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}: أي: اصبر - يا محمَّد - على ما حملك الله من رسالته، وما يتبع ذلك مما ابتلاك الله به من سفه قومك وإعراضهم {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما يحدث منك وما يفعله أعداء الله بك، فنحفظك ونرعاك ونحرسك، وفي التعبير بصيغة الجمع في قوله - تعالى -: {بِأَعْيُنِنَا} للدلالة على المبالغة في الحفظ، كأن معه من الله - تعالى - حُفَّاظًا يكلؤُونه بأعينهم، وقال الإمام الآلوسي نقلا عن العلامه الطيبي: إنما أفرد هناك - يعني في سورة طه - فقال في شأن موسى - عليه السلام -: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} لإفراد الفعل هناك وهو كلاءَة موسى "رعايته وحفظه" وهنا لما كان لتصبير الحبيب - يعني محمَّدا، - صلى الله عليه وسلم - على المكابد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها

أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه - عَزَّ وَجَلَّ - ثم قال: ومن نظر بعين بصيرة علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم - عليهما أفضل الصلاة والتسليم - وفي هذا وعد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنصر والحفظ والرعاية، وبشارة للمسلمين بالظفر والأمان. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: نزه ربَّك وقدِّسه، قال عون بن مالك وابن مسعود وغيرهما: المراد: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرًا ازددت ثناءً حسنًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، ودليل هذا ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلَّا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" وقيل: المعنى: حين تقوم من منامك، قال حسان بن عطية: ليكون متفتحًا لعمله بذكر الله، وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، وأنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنَّار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلَّا أنت ولا إله غيرك" متفق عليه. وعن ابن عباس أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران.

49 - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}: أي: وفي بعض الليل نزه ربك وقدِّسه وعظمه، وخص - سبحانه - بعض الليل وأفرده بالتسبيح والتقديس له - جل شأنه - لأن العبادة في جوف الليل أشق على النفس وأبعد عن الرياء، ويجوز أن يراد بالتسبيح هنا: الصلاة في الليل والتهجد فيه، وهذه الصلاة من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - الواجبة عليه وحده، والصلاة تسمى تسبيحًا لما فيها من التسبيح لله، ومنه سُبحة الضحى، أي: صلاة الضحى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}: هو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل، والمراد به: صلاة ركعتين قبل الفجر، وهذا مروي عن كثير من الصحابة كعمر وعلي وأبى هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم جميعًا - كما هو مأثور أيضًا عن كثير من التابعين كالحسن البصري والنخعى والشعبي وغيرهم، كما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله: بت ليلة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال: "يا بن عباس، ركعتان قبل الفجر إدبار النجوم، وركعتان بعد المغرب إدبار السجود" وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. والله أعلم.

سورة والنجم

سورة والنجم وتسمى - أيضًا - سورة النجم - بدون واو - وهي مكية وآياتها ثنتان وستون آية، وهي كما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: أول سورة أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون، وأخرج البخاري وغيره قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة: (والنجم) فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلَّا رجلًا رأيته أخذ كفًّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أُميّة بن خلف، وفي البحر أنه - عليه الصلاة والسلام - سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب وقال: يكفي هذا، فيحتمل أنه هو وأمية بن خلف فعلا ذلك. وعن عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - أن عتبة بن أبي لهب، وكانت تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدًا فلأوذينّهُ، فأتاه فقال: يا محمَّد هو كافر بالنجم إذا هوى والذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك) وكان أبو طالب حاضرًا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه الأرض مسبعة (كثيرة السباع) فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمَّد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم واحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله" وقال حسان: من يرجع العام إلى أهله ... فما أكِيلُ السبع بالراجع ومناسبتها لما قبلها: أن سورة الطور ختمت بقوله - تعالى -: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}، وافتتحت سورة النجم بقوله - تعالى -: {وَالنَّجْمِ}، وأيضًا في مفتتحها ما يؤكد الإنكار

بعض مقاصد السورة

والرد على الكفرة فيما نسبوه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشعر والكهانة والجنون، ومن الزعم بأنه يتقول ويختلق على الله القرآن، ويدّعي أنه من عند الله، مما هو مذكور في سورة الطور كقوله - تعالى -: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} وقوله - تعالى -: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وذكر أبو حيان: أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدًا - عليه الصلاة والسلام - يختلق القرآن، فنزلت السورة الكريمة للرد عليهم. بعض مقاصد السورة: 1 - أنها - شأن السور المكية - تعني بالرسالة وتؤكدها، قال - تعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. 2 - أن السورة الكريمة تحدثت عن المعراج الذي كان تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد عام الحزن على وفاة زوجه أم المؤمنين السيدة خديجة - رضي الله عنها - وعمه أبي طالب، وما رآه - عليه الصلاة والسلام - من آيات ربه الكبرى، وعجائبه العظمى في الملكوت الأعلى، عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى. 3 - أنها تنعى وتعيب على هؤلاء المشركين عبادة غير الله من الأوثان والأصنام وغيرها من المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، بل إن بعضها قد صنعوه بأيديهم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} الآيات. ثم إنها تسفههم على أن آثروا أنفسهم بالبنين، وجعلوا لله ما يكرهونه ويأنفون منه وهو البنات قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}. 4 - أنها أخبرت عن الحساب والجزاء يوم القيامة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.

5 - أنها تحدثت عن أن الله هو الذي يحيى ويميت وأنه إليه المنتهى والمصير، وأنه وحده هو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، قال - تعالى -: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}. وكانت خاتمة السورة أن ذكرت أصنافًا من العذاب لأمم خالفت أنبياءها وآذتهم، فأنزل الله بهم ما يستحقون، وذلك تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعد له وللمؤمنين بنصر الله، كما أن فيها وعيدًا وتهديدا للمشركين أن يحل بهم ما نزل بغيرهم ممن هم على شاكلتهم، قال - تعالى -: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُومِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)} المفردات: {هَوَى}: سقط أو نزل. {مَا ضَلَّ}: ما زلَّ ولا بعد عن طريق الهدى. {وَمَا غَوَى}: ما خاب ولا أمعن في الجهل. {ذُو مِرَّةٍ}: ذو حصافة في رأيه ومتانة في دينه. {فَاسْتَوَى}: فاستقام على صورته الحقيقية. {دَنَا}: قرب. {فَتَدَلَّى}: امتد من أعلى إلى أسفل فزاد قربه. {قَابَ قَوْسَيْنِ} القاب: ما بين المقبض وطرف القوس، والقوس: آله على هيئة الهلال ترمى بها السهام، أي: مقدار قوسين عربيتين. {أَفَتُمَارُونَهُ}: من المِراء، وهو الملاحاة والمجادلة، أي: أفتجادلونه.

التفسير 1، 2، 3، 4 - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (¬1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} المراد بالنجم هنا: هو جنس النجوم، وهي من خلق الله، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وتصك وترمي بجُزَيْئَات منها الشياطين التي تسترق السمع فيتبعها من هذه النجوم الشهاب الثاقب الذي يصدها ويدفعها، كما أنها تزين السماء الدنيا بالزينة الحسنة، والحلية البهيجة قال - تعالى -: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} (1) فضلا عن أن هذه النجوم آية باهرة تدل على كمال اقتداره - سبحانه - وعظيم سلطانه، إذ هي في أفلاكها ومداراتها لا تضل ولا يصطدم بعضها ببعض بل تسير وفق نظام بديع محكم والمراد بِهُوِيِّ النجم سقوطه على الشياطين، وفيه إشارة إلى أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيظهر ويقهر الله أعداءه، كما تفعل الصواعق التي تهوى من النجوم بما يكون في طريقها. أقسم - جل شأنه - بالنجم الذي له هذه الصفات الجليلة والخصائص العظيمة {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يضل ولم يبعد عن الحق ولم يغب أو ينأ عن الهدى، بل هو على الصراط المستقيم {وَمَا غَوَى} أي: وما خاب ولا انخرط في سلك الجهال المارقين عن الدين الصحيح، بل هو راشد مهتد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغيّ. وفي القسم بالنجم بهذا المعنى على أنه - عليه الصلاة والسلام - منزه عن شائبة الضلال والغواية - في هذا القسم - من البراءة البديعية، وحسن التصوير، وجمال الواقع ما لا غاية وراءه؛ لأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسألك الدنيا كأنه قيل: والنجم الذي يهتدي به السابلة إلى مقاصدهم، ويسترشدون به في مسالكهم نحو غاياتهم ما عدل محمَّد عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة، وفي هذا من التمثيل ما يعطى ¬

_ (¬1) الآيتان: 6، 7 من سورة الصافات.

بأنه - عليه الصلاة والسلام - على الصواب في أفعاله وأقواله، ما اعتقد باطلا قط، وعطف قولى: {وَمَا غَوَى} على قوله: {مَا ضَلَّ} من قبيل عطف الخاص على العام. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أي: وما يتكلم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن الكريم عن هوى نفسه ورأيه أصلًا إنما هو وحي من عند الله يوحيه الله إليه، وقيل المراد: ما يصدر نطقه - عليه الصلاة والسلام - في شأن الدين مطلقًا - قرآنا كان أو غيره - عن هوى بل كُلُّهُ وحي. وهناك من المفسرين من يرى أن نطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتهاده ليس صادرًا عن هوى النفس، وإنما هو واسطة بين ذلك والوحي، ويجعل الضمير في قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} راجعًا للقرآن الكريم، وبهذا قال العلامة الآلوسي. كأنه قيل: إذا كان هذا شأنه - عليه الصلاة والسلام - أنه لا ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف ما عليه قومه، واستمال به قلوب كثير من الناس، وكثرت الأقاويل فيه. ما هو إلا وحي يوحيه الله - عزّ وجلَّ - إليه - صلى الله عليه وسلم - ليبلغه الناس. وفي قوله - تعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ} مضارعًا وهو ما يدل على الحال والمستقبل مع قوله - سبحانه -: مَا {ضَلَّ} {وَمَا غَوَى} بصيغة الماضي فيهما ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ ميَّز، وقبل أن يتدرج ويترقى في أمور الحياة ويتدرب عليها، وقبل أن يختاره ربه - جل وعلا - نبيًّا ورسولا فكيف به وقت أحكمته التجارب وتوجته الرسالة فهو لا شك - وهذه حاله - أبعد من أن ينطق عن هوى نفسه، أو يتكلم عن شهوة، وفي هذا الأسلوب - كما يقول العلامة الآلوسي -: حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم. 5 - {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}: أي: علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم وأنزله عليه من عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - ملك شديدة قواه وهو جبريل - عليه السلام - ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم

لوط ثم قلبها، وقد صاح صيحة بثمود قوم صالح - عليه السلام - فأصبحوا جاثمين هالكين، كما كان هبوطه على الأنبياء - عليهم السلام - وصعوده في أسرع من رجعة الطرف. 6 - {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}: {ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو حصافة في عقله، وجزالة في رأيه، ومتانة في دينه، وقد ائتمنه الله - تعالى - على وحيه إلى جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - {فَاسْتَوَى} أي: فاستقام جبريل - عليه السلام - على صورته الحقيقية التي خلقه الله - تعالى - عليها دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الصحابي الجليل "دحية الكلبي" كما كان يتمثل وينزل في صورة أعرابي، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب أن يراه في صورته التي جبل وخلق عليها. 7 - {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}: أي: جبريل - عليه السلام - بالجهة العليا من السماء فاستقام وظهر وملأ الأفق، وكان ذلك عند غار حراء في أوائل النبوة. 8 - {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}: أي: ثم قرب جبريل - عليه السلام - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَتَدَلَّى} فتعلق في الهواء ودنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دُنُوًّا خاصًّا ونزل بقربه. 9 - {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}: أي: فكان مقدار مسافة قرب جبريل - عليه السلام - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمقدار قوسين عربيتين أو أقرب من ذلك على تقديركم ومعاييركم، وهذا كناية عن شدة القرب.

10 - {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}: أي: فأوحى جبريل - عليه السلام - إلى عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أوحاه إليه من عند الله - سبحانه - ولم يبين - جل شأنه - الموحى به، وذلك لتفخيمه وتعظيمه، أي: أوحى إليه أمرًا عظيمًا. 11 - {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}: أي: ما كذب قلب محمَّد ما أبصره بعينيه من صورة جبريل - عليه السلام - أي: ما قال فؤاده - صلى الله عليه وسلم - لما رآه ببصره: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبًا وحاشاه أن يكون كذلك، بل إنه - عليه السلام - عرفه بقلبه كما رآه ببصره. 12 - {أَفَتُمَارُونَهُ (¬1) عَلَى مَا يَرَى}: أي: أفتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل - عليه السلام - الحقيقية بعد ما رآه قبل على صور تمثل فيها بصورة آدمية؟ كان ذلك حتى لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فيها. ¬

_ (¬1) وهو من المراء، وهو المجادلة، واشتقاقه عن مري الناقة: إذا مسح ضرعها ليخرج لبنها وتدر به، فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة، فكأنه يستخرج دره: الآلوسي.

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} المفردات: {نَزْلَةً أُخْرَى}: مرة أخرى من النزول. {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} السدرة: شجرة نبق في السماء، إليها ينتهي علم كل الخلائق. {جَنَّةُ الْمَأْوَى}: الجنة التي يأوى إليها المتقون، وقيل غير ذلك. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}: ما مال بصر الرسول عما رآه. {وَمَا طَغَى}: وما تجاوز ما رآه إلى غيره. {آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}: عجائبه الملكية والملكوتية. {اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}: أصنام لهم كانوا يعبدونها. {قِسْمَةٌ ضِيزَى}: قسمة جائرة.

{مِنْ سُلْطَانٍ}: من برهان وحجة. {مَا تَمَنَّى}: ما تشتهي نفسه. التفسير 13 - {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}: أي: ولقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في صورته التي جبل عليها مرة أخرى، والرؤية في هذه المرة كانت بنزول كالرؤية في المرة الأولى عند غار حراء يشير إلى ذلك قوله تعالي: {نَزْلَةً أُخْرَى} وقيل: رأى محمد - عليه الصلاة والسلام - ربه - جل وعلا - بلا كيف ولا انحصار. كما ذهب إلى ذلك ابن عباس وغيره. 14 - {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}: هذه السدرة هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة. {الْمُنْتَهَى}: اسم مكان؛ لأنها - كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس - إليها ينتهي علم كل عالم، وما وراءها لا يعلمه إلَّا الله - تعالى - وقيل: لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله عندها، أو تنتهي عندها أرواح الشهداء، أو أرواح المؤمنين مطلقًا. 15 - {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}: أي: عند سدرة المنتهى تكون جنة المأوى التي يأوي ويرجع إليها المتقون، أو يصير وينزل فيها أرواح الشهداء. 16 - {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}: أي: رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - وقت ما يغطي ويستر الصدرة ما يغطيها ويسترها من الأشياء الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط به الوصف، ولا يقدر على إدراك حقيقته الأفهام، وقيل: ما غشاها وسترها من الملائكة. أخرج عبد بن حميد قال: استأذنت الملائكة الرب - تبارك وتعالى - أن ينظروا إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فأذن لهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه - صلى الله عليه وسلم -

17 - {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}: أي: ما عدل بصر الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن رؤية العجائب التي أُمر برؤيتها، وما تجاوز ما أُذن له في رؤيته ولا تعداه إلى سواه، فقد أثبت ما رآه إثباتا مستيقنًا صحيحًا من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا يسأل فوق ما أعطى له، ولله درّ القائل: رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غيره ما قد رآه لتاها 18 - {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}: أي: لقد نظر وأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضًا من عجائب خلق الله وآياته العظمى كرؤيته جبريل - عليه السلام - في صورته الحقيقية وكرؤية سدرة المنتهى وما شاهده فيها، وقد أخرج البخاري وجماعة، عن ابن مسعود في الآية: (رأى رفرفًا أخضر من الجنة قد سد الأُفق). 19، 20 - {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}: لما ذكر الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآيات السابقة وذكر - سبحانه - أيضًا بعض آثار قدرته حاجَّ المشركين وسفههم ووبخهم إذ عبدوا ما لا يعقل، وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها وقد أوحت وأنزلت إليكم شيئًا كما أوحينا إلى محمد؟ وهل رأيتم من عجائب خلقها كما رأى محمَّد من آيات ربه الكبرى؟ واللات والعزى ومناة أصنام لهم كانوا يعبدونها من دون الله: فاللات لثقيف بالطائف. وقيل في هذا الصنم: إنه كان رجل يلت السويق للحاج على حجر، فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك، وهناك أقوال أخرى غير هذه في سبب التسمية، وبقيت اللات إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار، أما العزى: فكانت لقريش أو لغطفان وهي سمرة ببطن نخلة بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك

ورجع وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه الصلاة والسلام -: "تلك العزى ولن تعبد أبدًا". وكانت مناة لهذيل وخزاعة، وقيل: لبني هلال، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - كرم الله وجهه - فهدمها عام الفتح، وسميت (مناة)؛ لأن دماءَ الذبائح والنسائك كانت تمنى (تراق) عندها تقربًا إليها، أو هي مأخوذة من النوء لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها {الْأُخْرَى}: صفة ذم وهي المتأخرة الرضيعة، وهي - أيضًا - تدل على ذم السابقتين {اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، لأن أخرى تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق عليها في الحكم، وهو هنا الذل والوضاعة ونزول القدر والمكانة. 21 - {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}: بعد أن سفه الله أحلامهم ووبخهم على ما اقترفوه من عبادة هذه الأصنام مع وضوح آثار عظمة الله في ملكه وملكوته، وجلاله وجبروته - بعد ذلك - أنحى عليهم مرة أخرى بالتقريع والتوبيخ لتفضيلهم أنفسهم على جنابه - عز وجل - حيث جعلوا له - سبحانه - الإناث التي يأنفون منها، واختاروا لأنفسم الذكور، وكانوا يقولون: إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله وكانوا يعبدونها ويزعمون أنها شفعاؤهم عند الله - تعالى - فقال لهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} أي: أيستقيم قولهم هذا لدى أرباب العقول السليمة والفطر المستقيمة؟ 22 - {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}: أي: قسمتكم هذه قسمة جائرة ظالمة حيث اصطفيتم لأنفسكم الذكور، وجعلتم لله الإناث، ومن شأنكم أنَّكم تستنكفون من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فضلا عن أن تجعلوا هؤلاء الأناث أندادًا لله وتسمونهنَّ آلهة. 23 - {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}.

{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا}: أي: ما الأصنام التي تدَّعون أنها آلهة - ما هي - إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مسميات، وما تزعمونه لها هو أمر أبعد شيء عنها، وأشد منافاة لها، فهي لا تدفع عن نفسها ولا تنفع ولا تضر غيرها {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي: قد تابعتم آباءكم وقلدتموهم في عبادتها واتخاذها آلهة، وهي ليست إلَّا مجرد تسميات لجمادات وضعتموها أنتم {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. أي: ما هي إلَّا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم، ليس لكم على صحة تسميتها آلهة برهان ودليل من الله تتعلقون وتتمسكون به. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}: المراد بالظن هنا: هو التوهم، وشاع استعماله فيه، أي: ما تتبعون ولا تسيرون إلَّا وراءَ وهم باطل حيث يدور في خلدكم العليل وعقلكم السقيم أن ما أنتم عليه حق، وأن ما تزعمونه من آلهة تشفع لكم. {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}: أي: والحال أن الله - سبحانه - أرسل إليكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - تفضلا منه وإنعامًا عليكم يهديكم إلى الحق وإلي صراط مستقيم، فكيف تتركون ما جاءكم من الهدى والرشاد إلى ما أنتم عليه من دين باطل واعتقاد فاسد. 24 - {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى}: أي: بل ليس للإنسان مطلقًا ما يتمناه وتشتهيه نفسه يتصرف فيه حسب إرادته، وهذا يقتضي نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى لدى الله يوم القيامة، قال تعالى - حكاية - عن بعض هولاءِ الكفار: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} كما ينفي ما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من القريتين عظيم، أو يكون بعضهم هو النبي ونحو ذلك من أمانيهم الكاذبة الخادعة.

25 - {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى}: أي: هو - سبحانه - وحده مالك الدنيا والآخرة يعطي منهما من يشاءُ ويمنع من يشاء وليس لأحد أن يعقب عليه في شيء منهما، بل ما شاء الله - تعالى - له كان وما لم يشأ لم يكن. والله أعلم. {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} المفردات: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} كم هنا: اسم استفهام خبري فلا يحتاج إلى جواب، والمراد منه التكثير، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره جملة {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} ومعناه: وكثير من الملائكة. {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} أي: لمن يشاء الله أن يشفع له الملائكة ويراه أهلا للشفاعة.

{يُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} بأن يقولوا: إنَّهم بنات الله، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يقُولُونَ عُلوًّا كَبِيرًا}. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}: ما يتبعون إلا التوهم الباطل. {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}: لا ينفع الظن من الحق شيئًا من النفع. {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا}: اترك ولا تهتم بمن أعرض عن قرآننا. التفسير 26 - {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}: بهذه الآية يوبخ الله من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن عبادتهم تقرب إلى الله تعالى، فقد نبهت ودلت على أن الملائكة مع كثرة عبادتهم وكرامتهم على الله لا تملك أن تشفع إلا لمن أذن الله - تعالى - أن يشفعوا له من عباده ممن يستحق الشفاعة من الموحدين فكيف تطمعون أن يشفعوا لكم؛ لأنكم تعبدونهم؟ وإذا كانت الملائكة المقربون إلى الله لا تشفع لكم فكيف تطمعون في شفاعة الأصنام أيها المشركون. ومعنى الآية على هذا: وكثير من الملائكة لا تنفع شفاعتهم شيئًا من النفع لأحد من عباده المذنبين إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاؤه من عباده ويرضاه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فالله لا يأذن لأحد من الملائكة في الشفاعة لهم، أو لا تكون منهم شفاعة أصلًا إلا من بعد أن يأذن الله ... الخ. وأجاز بعضهم أن يكون معنى الآية: وكثير من الملائكة لا تنفع شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاؤُه منهم بالشفاعة، ويراه أهلا لها. 27، 28 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}:

إن الذين لا يصدقون بالبعث والحساب والجزاء في الآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى، فيقولون: هم بنات الله - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - وليس لهم بهذا الادّعاء من علم، فإنه ليس عليه دليل عقلي ولا نقلي، ما يتبعون في هذه التسمية إلَّا التوهم الباطل، وإنه لا يغني من الحق شيئًا من الإغناء. وقد أنكر الله في هاتين الآيتين آمرين ونفاهما: أحدهما: دعوى أنوثتهم. وثانيهما: أنهم بنات الله، وقد توعدهم الله على ذلك في سورة الزخرف فقال - سبحانه -: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (¬1). 29، 30 - {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}: اترك ولا تهتم أيُّهَا الرسول بمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم بالحق، وهو القرآن العظيم، المشتمل على العقائد الصحيحة، وعلى علوم الأولين والآخرين، ولم يرد إلا الحياة الدنيا قاصرًا نظره عليها كالنضر بن الحرث، والوليد بن المغيرة، ولا تحرص على هداهم أكثر مما فعلت، ولا تأس على القوم الكافرين، ذلك الذي تقدم في شأن عقيدتهم، وقصر نظرهم على الدنيا وإنكارهم للآخرة هو منتهى ما وصلوا إليه من الإدراك والفهم، إن ربك هو أعلم بمن انحرف عن السبيل الموصل إلى مرضاته، وهو أعلم بمن اهتدى إليه، فسوف يجزى كليهما بالجزاء الذي يستحقه. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف، الآية: 19.

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} المفردات: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}: ويجزي الذين اهتدوا بالمثوبة الحسنى. {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} الذين: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين يجتنبون. إلخ والجملة بيان لمن اهتدى، وكبائر الإثم: ما عظم من الذنوب ويكبر عقابه. {اللَّمَمَ}: ما صغر من الذنوب، وأصله: ما قل قدره، ومنه لمة الشَّعر؛ لأنها دون الوفرة. {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}: فلا تصفوها بالطهارة. التفسير 31 - {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}: أي: ولله وحده جميع ما في السموات وما في الأرض من أجزائهما وما استقر فيهما، - له تعالى كل ذلك - خلقًا وملكًا وتصرفًا، خلقهما وخلق ما فيهما ومَلَكَه ليجزي الذين أساءوا بعقاب ما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا فآمنوا وعملوا الصالحات بالمثوبة الحسنى.

32 - {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}: هذه الآية بيان للذين أحسنوا ومدح لهم، فكأنه قيل: المحسنون هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ولا يفعلونها، ولكن قد يفعلون اللمم. وكبائر الإثم: ما عظم من الذنوب، ووصفها بعضهم بما ورد فيه وعيد شديد كالغيبة والنميمة، والفواحش هي نفس الكبائر - كما ذهب إليه بعض العلماء - فعطفها على الكبائر لتقبيحها، وذهب آخرون إلى التفرقة بينهما، فالكبائر: ما ورد فيه وعيد شديد أو لعن بلا إقامة حدّ، والفواحش: ما ورد فيها الحد كالزنى والسرقة والقتل بغير حق، ويشبه هذا الرأي ما نقل عن مقاتل: كبائر الإثم: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش: كل ذنب فيه الحد. واللَّمَمَ: ما يُلم به العبد من صغائر الذنوب، ومثَّل له أبو سعيد الخدري بالنظرة، والغمزَة، والقبلة، وفسره الرُّمَّاني: بأنه هو الهم بالذنب وحديث النَّفس دون ارتكاب له، وعليه فالاستثناء فيه منقطع بمعنى: (لكن) قد يحدث منهم اللمم، وعن ابن عباس: هو الرجل يُلِمُّ بالذنب ثم يتوب، وبه قال مجاهد والحسن، ودليل ذلك قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (¬1) ثم قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ... } (¬2) ودليله من الآية {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وعليه يكون متصلا. والآية عند الأكثرين تدل على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر حقيقة كما تقدم [وقال جماعة من الأئمة منهم أبو إسحاق الإسفرايني والباقلاني وإمام الحرمين - قالوا -: إن المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها كبيرة والأُخرى صغيرة بالنسبة إليها، وكلها قابلة للتوبة منها وتكفر بها، وبهذا قال معظم المعتزلة. وقال بعض العلماء: إنه لا خلاف في المعنى بين الرأيين، فإنه لا خلاف بين العلماء في أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما سَمَّوها كلها كبائر نظرًا لعظمة الله الذي لا يصح أن يعصى. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 135. (¬2) سورة آل عمران، من الآية: 136.

وبعد هذا نقول: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، واحذر الصغائر فإنها مدرجة إلى الكبائر، نسأل الله العصمة منها. {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} حيث يغفر الصغائر بتجنب الكبائر؛ بل ويغفر الكبائر بالتوبة منها. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} الله أعلم بكم أيها الناس حين أنشأكم من الأرض، حيث خلق أباكم آدم من ترابها، أو أنشأكم جميعًا منها، فإن النطفة التي خلقكم منها ناشئة من الأغذية، والأغذية منشؤها الأرض. والله تعالى أعلم بكم وقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة بعضها يلي بعضًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم وتصفوها بالطهر من الإثم، هو أعلم بمن اتقى المعاصي كما يعلم من فعلها، فيجازي كلا على عمله، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر. وهذه الآية نزلت - على ما قيل - في قوم من المؤمنين، كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون استعظاما لها وتكاثرا: صلاتنا وصيامُنا وحجنا، وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به، ولذا قيل: المسرَّة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)} المفردات: {الَّذِي تَوَلَّى}: الذي رجع معرضًا عن الإِسلام بعد ما كان مقبلا عليه. {وَأَكْدَى}: أمسك ورجع عن الإِسلام، وأصله: بلغ الكُدْية: وهي الصخرة، يقال لمن

يحفر الأرض وتصادفه كدية فيمسك عن الحفر - يقال له -: أكدى، ثم استعمله العرب فيمن أعطى ولم يتمم العطاء، ولمن طلب شيئًا ولم يبلغ آخره. التفسير 33، 34 - {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} (¬1): هاتان الآيتان وما بعدهما مما يتصل بهما نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ فقال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله إن أعطاه شيئًا من باله، فأعطاه ما كان قد وعده به ثم بخل بباقيه فنزلت. وقال مقاتل: كان الوليد قد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل {وَأَعْطَى قَلِيلًا} أي: من الخير بلسانه ثم قطع ذلك وأمسك عنه، وقيل غير ذلك. ووجه صلة هذه الآيات بما قبلها: أنه - تعالى - لما بين في الآيات السابقة جهل المشركين في عبادة الأصنام، ذكر في هذه الآيات قصة أحد زعمائهم في جهله ورجوعه عن الحق. والمعنى: أفرأيت - أيها الرسول - هذا الذي رجع عن الحق ولم يثبت عليه، وأعطى قليلًا من مدح الإِسلام والإقبال عليه، وقطع العطاء فلم يستمر عليه، بل رجع إلى شركه ودين قومه. ¬

_ (¬1) "أفرأيت" الهمزة هنا: التعجيب من سوء حال الذي تولى، ورأيت: بمعنى علمت، وأبصرت.

{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} المفردات: {يُنَبَّأْ}: يُعْلم ويُخبر. {وَفَّى}: أتم ما أمر بتبليغه على أكمل وجه في الوفاء. {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أن: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي: أنه، والوِزر: الحمل. {سَوْفَ يُرَى}: سوف يعرض عليه وعلى أهل القيامة، من: أريته الشيء أي: جعلته يراه. {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} قال الأخفش: يقال: جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما. التفسير 35 - {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}: أي: أعند هذا الذي أكدى علم بما غاب عنه من أمر عذاب الآخرة وأهوالها فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، أو معناه: فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل. 36 - 38 - {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}:

أي: بل ألم يخبر هذا الذي تولى عن الإِسلام وأعطى قليلا منه ولم يستمر عليه، ألم يخبر بتوراة موسى وصحف إبراهيم الذي وفى ما كلف به؟ فما أمره الله بشيءٍ إلَّا فعله، وما نهاه عن شيء إلَّا تركه - ألم يُخْبَر بما في هذه الصحف - أن لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى من الذنوب؟! فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ولا يعاقب إلا بذنب نفسه. وأطلق على النفس لفظ وازرة "حاملة" لأن من شأنها حمل الذنوب، سواء أكانت مذنبة أم لم تكن مذنبة. فإن قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فقد دل على أن الإنسان يحمل ذنب غيره، فالجواب أنه في ذلك يحمل ذنب إضلاله لغيره الذي هو ذنبه لا ذنب سواه، بالإضافة إلى ذنب نفسه، أمّا الآخر الذي قلده فإنه يحمل ذنب ضلال نفسه. وتخصيص صحف موسى وإبراهيم بالذكر دون سائر الأنبياء؛ لأن موسى أقرب أصحاب الشرائع إليهم، وأن إبراهيم كان رسول الله إليهم، ولا تزال بقية مما جاء به معروفة بينهم، أما صحف غيرهما من الأنبياء فإنها لم تكن لها بقية لديهم. وفي تفسير {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال الإِمام ابن عباس - رضي الله عنهما -: كانوا قبل إبراهيم - عليه السلام - يأخذون الرجل بذنب غيره، يأخذون الولي بالولي - أي: القريب بالقريب - في القتل والجراحة فيقتل الرجل بذنب أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه، والزوجة بزوجها، وزوجها بها وبعبدهِ، فبلغهم إبراهيم - عليه السلام - عن الله تعالى: (أَن لَّا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى). وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير: "وفَّى" أي: عمل بما أُمِر به وبلغ رسالات ربه، قال القرطبي: وهذا أحسن لأنه عام. ونحن نقول: لا خلاف بينهم وبين ابن عباس فيما قالوه، لأن ابن عباس لا يقصد أنه اقتصر على تبليغهم ذلك، فإنه بعض ما أمره الله تعالى به ووفاه، ولذا قال تعالى في شأنه:

39 - 41 - {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}: أي: وجاء في صحف موسى وإبراهيم - عليهما السلام -: أن عمل الإنسان سوف يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه، تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسىء، أو يعوض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفة أعماله. وجاء في هذه الصحف أيضًا أن الإنسان سوف يجزى يوم القيامة على سعيه وعمله الجزاء الأوفى. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} المفردات: {الْمُنْتَهَى} المراد به: انتهاء الخلق ورجوعهم إلى الله - تعالى -. {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي: من نطفة إذا تصب وتدفق في الرحم، يقال: أمْنَى الرجل ومنى، ومعناهما واحد، وأصل النطفة في اللغة: الماء القليل، ثم أطلقت على المني لقلته. {النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}: الإحياء بعد الإماتة. التفسير 42 - {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}: أي: أن الخلق ينتهون إلى الله - تعالى - ويرجعون إليه وحده لا إلى غيره، حيث يحاسبهم فيثيب المحسن ويعاقب المسىء.

وقيل: معناه: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - منتهى الأفكار، فلا تزال الأفكار تبحث في حقائق الأشياء حتى إذا اتجهت إلى ذات الله وصفاته انتهى سيرها فلا تفكر في ذلك وإلا هلكت، وأيد هذا المعنى بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الآية: "لا فكرة في الرب". 43 - 47: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}: معنى هذه الآيات: أنه - تعالى - أضحك عباده وسرهم بما يبعث على فرحهم وسرورهم، وأبكاهم بما يبعث على حزنهم وبكائهم، ومن ذلك أنه - تعالى - وحده أمات الأحياء فأبكى من حولهم، وأحياهم حين منَّ عليهم بالذرية فضحكوا عند ميلادهم، وأنه - تعالى - خلق الزوجين الذكور والإناث من الإنسان وغيره - خلقهم من نطفة إذا تدفقت في الأرحام، وأنه - تعالى - سوف يحيى الموتى في النشأة الأُخرى ليحاسبهم ويجزي المحسن بالإحسان، والمسىء بالإساءة وفاءً بوعده الذي لا يخلف، وذلك لكي لا يتساوى المحسن والمسىءُ. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)} المفردات: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: أنه هو أغنى من شاء وأعطاه القنية، وهي: ما يبقى من المال. {الشِّعْرَى}: ألمع كوكب وأضوؤُه.

{عَادًا الْأُولَى}: أولى القوم هلاكًا بعد قوم نوح، وللكلام بقية في التفسير. {الْمُؤْتَفِكَةَ}: قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت. {أَهْوَى} أي: أهواها الله - تعالى - إلى الأرض بعد أن رفعها. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}: فبأي نعم ربك تتشكك؟!. التفسير 45 - {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}: أي: وأنه - تعالى - هو وحده أغنى من شاء من عباده وأعطاهم القَنية، وهي ما يبقى ويدوم من الأموال، كالرياض والحيوان والبناء والتحف، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله - تعالى -: {أَغْنَى} لأن القنية هي أشرف الأموال وأنفسها، وعن ابن زيد والأخفش: معناهما: أغنى وأفقر، ووُجِّه ذلك بأنَّهُما جعلا الهمزة للسلب والإزالة في أقنى، كما في أشكى، أي: أزال شكواه، وقيل غير ذلك. 46 - {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}: الشعرى: كوكب قوي الإضاءة، ويطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وأُطلق عليها لفظ العبُور؛ لأنها عبرت الحجرة فلقيت سهيلا، كذا قيل، وهما شِعْريان، الشعرى العبور، والشعرى الغُمَيصاء، ويقال: إن الشعرى أكبر من الشمس، وإنما ترى أصغر منها لأنها بعيدة عنها بُعدًا كبيرًا في جو السماء، ولهذا جاء ذكرها في الآية، فكان ذلك من آيات إعجاز القرآن. وقيل: إنما ذكرت لأن العرب كانوا يعبدون شِعرَى العبور، لأنها أكبر حجمًا من شِعرى الغميصاءِ، فقيل لهم: إنه - تعالى - هو رب الشعرى ومالكها، فهو أحق بالعبادة منها. قال السُّدِّى: عبدتها حمير وخزاعة، وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة، رجل من خزاعة، أو هو سيدهم، واسمه وَخْز بن غالب.

ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، ويزعمون أنها تقطع السَّماء عرْضًا، وسائر النجوم تقطعها طولا، ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها، ولكن هذا الفريق من العرب كان لا يعبدها ويقتصر على تعظيمها. وجاء في هامش المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإِسلامية - جاء فيه - أَن قدماءَ المصريين كانوا يعبدونها أيضًا، لأن ظهورها من جهة الشرق حوالي منتصف شهر يوليو قُبَيْلَ شروق الشمس متفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى، أي: مع أهم حادث في العام عندهم. ولما كانت الشعرى لا تظهر قبيل شروق الشمس إلَّا مرة واحدة في العام، فلهذا جعلوا ظهورها أول العام الجديد. انتهى بتصرف يسير. 50 - 52 - {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}: وصف القرآن الكريم عادًا المهلكة بأنَّها الأولى، والمراد من هذا الوصف: أنَّها أولى الأمم هلاكًا بعد قوم نوح - كما قاله جمهور المفسرين. وقال الطبري: وصفت بالأولى لأن في القبائل عادًا الأُخرى، هي قبيلة كانت بمكة مع العماليق، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل غير ذلك. والمعنى: وأنه - تعالى - أهلك عادا الأولى لتكذيبهم رسولهم وبقائهم على الشرك بالله، وأهلك ثمودًا فما أبقى أحدا من كفارهما، وأهلك كفار قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود، لأنهم كانوا أشد منهما ظلما للحق ولأنفسهم، وأشد منهما طغيانًا، فإن نوحًا - عليه السلام - مكث يدعوهم إلى الحق ألف سنة إلَّا خسمين عامًا، فلم يؤمن منهم سوى من ركبوا سفينته، فهم الذين نجوا من الإهلاك بالطوفان. 53 - 55 - {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}: أي: وأسقط قرى لوط إلى الأرض بعد أن رفعها إمعانًا في تعذيبهم، لأنهم كانوا مع

شركهم يأتون الرجال دون النساء، ولم ينفع فيهم نصح لوط - عليه السلام - فَغَشى الله أهلها ما غشى من الحجارة التي رجمهم وغطاهم بها، كما جاءَ في قوله - تعالى -: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (¬1) فبأي نعم ربك تتشكك يا أيها الذي أعطى قليلًا وأكدى. {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} المفردات: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}: هذا القرآن منذرٌ لكم من نوع الكتب الأولى التي أنذر بها الأنبياء. {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ}: قربت القيامة الموصوفة في القرآن بقربها. {كَاشِفَةٌ}: نفس قادرة على تبيين وقتهَا، من الكشف بمعنى التبيين. {الْحَدِيثِ} أي: القرآن. {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}: وأنتم لاهون. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية: 74.

التفسير 56 - {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى}: لفظ (هذا) يشير إلى القرآن الكريم، ومعنى الآية: هنا القرآن نذير لكم من جنس الكتب الأُولى التي جاء بها الرسل السابقون، فإنها أنذرتهم من عذاب الله على شركهم كما أنذركم القرآن، وبهذا الرأي قال قتادة. وقيل: إنَّهُ يشير إلى نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى: هذا النبي منذرٌ لكم، من جنس الأنبياء المنذرين قبله، فإن أطعتموه نجوتم من عذاب الله، وإن خالفتموه لَحِق بكم ما حلّ بمكذبي الرسل السابقين. وهذان الرأيان من أفضل ما قيل في معنى الآية: 57، 58 - {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}: أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب في عدة مواضع من القرآن الكريم، وقيل: لفظ الآزفة: علمٌ بالغلبة على الساعة. وقد أخبر الله - تعالى - أن هذه الآزفة ليس لها من غير الله نفس كاشفة ومبينة لوقت وقوعها، لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف هنا بمعنى التبيين، وهذا هو رأي الطبري والزجاج، وهذا التفسير موافق في المعنى لقوله - تعالى -: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} (¬1) هو من أحسن ما قيل في معنى الآية. والتاء في (كاشفة) لتأنيث الموصوف المُقدَّر، وهو كلمة (نفس) التي ذكرناها في معنى الآية، وقيل: إن كلمة (كاشفة) مصدر من المصادر السماعية كالعافية وخائنة الأعين، أي: ليس لها من دون الله كشف وتبيين. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية: 187.

59 - 62 - {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}: الاستفهام في لفظ {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} للتوبيخ، والحديث: ما يتحدث به، والمراد به هنا: القرآن، ولفظ {سَامِدُونَ} معناها: لاهون - كما قال ابن عباس - واستشهد عليه بشعر هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد: ليت عادًا قبلوا الحق ... ولم يبدوا جحودًا قيل قم فانظر إليهم ... ثم دَعْ عنك السمودا وقال الضحاك: سامدون: شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سَمَد سُمُودًا: رفع رأسه تكبرًا، وكل رافع رأسه فهو سامد، وقيل غير ذلك. ومعنى هذه الآيات: أفمن هذا القرآن الذي حدثتكم به تعجبون إنكارًا، وتضحكون استهزاء وأنتم لاهون عنه، غير مقبلين عليه، فاسجدوا لله واعبدوه، ولا تسجدُوا لأصنامكم ومعبوداتكم.

سورة القمر

سورة القمر مقاصدها: تحدثت هذه السورة عن قرب الساعة وإعراض المشركين عن الإيمان بها، مع أنهم قد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر، وتحدثت عن تكذيب قوم نوح له وكفرهم بما جاءهم به، فأغرقهم الله - تعالى -، ثم عقَّبته بقوم عاد وتكذيبهم لرسولهم هود - عليه السلام - فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية، وذكرت بعده قصة ثمود، وأنهم عوقبوا بصيحة واحدة جعلتهم كهشيم المحتظر، لتكذيبهم رسولهم صالحًا - عليه السلام - وعقرهم الناقة التي جعلها الله آية لصدقه. وجاءت بعدها قصة قوم لوط وعقابهم صباحًا بريح تحمل الحصباء، وتقذفهم بها حتى هلكوا؛ لأنهم كانوا يأتون الرجال من دون النساء مع شركهم. وتلتها قصة آل فرعون الذي ادعى الألوهية فأغرقه الله مع جيشه الذي تبع بني إسرائيل وهم هاربون من قتله لهم وتسخيرهم - تبعهم - ليردهم إلى مصر. وذكرت عقب ذلك أن كفار قريش ليسوا خيرًا من هؤلاء المهلكين، فسيهزمهم الله ويولون الدبر، وسوف يعذبهم الله في الآخرة، وأن عذابهم فيها أدهى وأمر من إهلاكهم في الدنيا. وبينت السورة أَن كل شيء خلقه الله بقدر، وما أمره في الإتيان بالساعة إلا كلمح بالبصر، وأن كل شيء فعلوه مثبت في كتب أعمالهم، يكتبها ملائكة جعلهم الله لكتابة أعمال العباد، وختمت السورة بقوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.

تفسير سورة القمر

تفسير سورة القمر هذه السورة مكية، وآياتها خمس وخمسون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)} المفردات: {السَّاعَةُ}: القيامة. {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}: دائم. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}: وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عندها. {مُزْدَجَرٌ}: ازدجار ومنع من القبائح. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي: واصلة إلى غاية الأحكام. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}: فما يفيد المنذرون لهؤلاء، والنذر: جميع نذير، بمعنى منذر، وكلمة {مَا} في قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} إمَّا نافية فتكون حرفًا، أو استفهامية للإنكار والتوبيخ فتكون اسمًا.

التفسير 1 - {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}: هذه السورة تبين مواقف الكفار في مواجهة الحق مثل التي قبلها، والمراد من اقتراب الساعة شدة قربها، وذلك بنسبة ما بقي من عمر الدنيا إلى ما مضى منه، فالباقى منها قليل وإن مضى أكثر من أربعة عشر قرنًا بعد نزول هذه الآية، والله - تعالى - هو وحده الذي يعلم مقدار ما مضى من عمرها منذ إنشاء الخليقة، فقد يكون ملايين السنين، وقد جاء من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى ذلك، روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كادت الشمس تغيب فقال: "ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا ما بقي من هذا اليوم" وما نرى من الشمس إلا يسيرا. ولا صحة لما روي عن كعب ووهب، وهو أن عمر الدنيا ستة آلاف سنة، مضى منها خمسة آلاف وستمائة، فهذا رجم بالغيب ولم يُرْوَ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ولأن الباقي من عمرها على ما قالوا هو أربعمائة سنة، مع أنه قد مضى بعد نزول الآية أكثر من أربعة عشر قرنًا، وذلك يوضح كذب هذا الخبر. وانشقاق القمر حقيقة وقعت قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس: (أن أهل مكة سألوه - عليه الصلاة والسلام - أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما). وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين، فرقة على الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا". ومن حديثه أيضًا: "انشق القمر على عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السُّفَّار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السُّفار فأخبروهم بذلك" رواه أبو داود الطيالسي

وفي رواية البيهقي: فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه: فأنزل الله - تعالى -: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. وقد أجمع جمهور المحدثين والمفسرين على أن الانشقاق حقيقة، قال القرطبى، ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره، من حديث ابن مسعود وابن عمر، وأنس، وجبير ابن مطعم، وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم - ثم قال: وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بَعْدُ، وهو منتظر، أي: قرب وقوعه، يقول الماوردي تقريرًا لعدم وقوعه: إنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه لأنه آية، والناس في الآيات سواء. وقيل معناه: وضح الأمر وظهر، والعرب تضرب بالقمر مثلا فيما وضح. ثم قال القرطبي: قلت: قد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس في رؤيته، لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت باستدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله عند التحدى ... (¬1) إلى آخر ما قاله القرطبي. ونحن نقول: إنه آية وحقيقة مرئية، بدليل قوله - تعالى - عقب ذلك ما يلي: 2 - {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ}: فهذه الآية ناطقة بأنهم رأوا انشقاق القمر، ووصفوه بأنه سحر مستمر. أي: متتابع، وهو ظاهر في ترادف معجزاته - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف في تفسير كلمة {مُسْتَمِرٌّ} فقيل: معناه دائم، وقيل: معناه ذاهب، قاله أنس وقتادة ومجاهد والفراء وغيرهم، واختاره النحاس، وهو يفيد أنهم يتعللون بذهابه تسلية لأنفسهم، وقال أبو العالية والضحاك معناه: محكم قوي شديد، من المِرَّة، وهي القوة، وقيل غير ذلك، والمعنى: وإن تُشاهد قريش علامة وبرهانًا على صدق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يعرضوا عن الإيمان بنبوته، ويقولوا: هذا سحر؛ فإنه لا بقاء له، مع أن هذه الآية من أقوى الأدلة على نبوته، وإن مثلها كمثل ¬

_ (¬1) ويجاب أيضًا بأن الانشقاق في وقت الغفلة، فلم يكن مهتما بأمره سوى قريش، وقد ذهب الناس إلى مضاجعهم فقريش هم الذين رأوه وقت التحدي، ولأن زمن الانشقاق كان قليلًا، ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في غيره، لاختلاف المطالع، فقد يكون القمر مرئيا في بلد ولكنه لا يرى في بلد آخر، لأن الأرض كروية، إلى غير ذلك مما ذكره الآلوسي، فارجع إليه فإنه وفى المقام حقه.

انشقاق البحر لبني إسرائيل حتى عبروا على أرض يابسة، والماء على أيمانهم وشمائلهم، لا يصيبهم منه شيء، وكذلك شأن آيات المرسلين، فهي خارقة للعادة، لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها، حتى تكون آية ومعجزة أيدهم الله بها، للدلالة على صدقهم. 3 - {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}: وكذبت قريش هذه الآية، واتبعوا أهواءهم في تكذيبهم إياها، مع أنها واضحة الدلالة على صدقه، وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة، ومن حجتها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فسوف يمضي إلى غاية يتبين عندها حقيقته وعلو شأنه، ولن ينجح عنادهم في إبطال أمره، ومنع استقراره. 4، 5 - {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}: أي: وبالله فقد جاء قريشًا في القرآن من أخبار الأولين وأخبار الساعة، ما فيه ازدجار وانتهاء عمَّا هم فيه من الضَّلَال والقبائح. هو حكمة واصلة إلى غاية الأحكام لا خلل فيها {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1) ولكنهم أصروا على الكفر والتكذيب، فأيَّ إغناء تغنيه النذر عنهم، وأية فائدة تحصل لهم. والنُّذُر: جمع نذير، بمعنى منذر. {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 82.

المفردات: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}: فأَعرض عنهم. {الدَّاعِ} الداعى: هو إسرافيل - عليه السلام - وقيل: غيره. {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} المنكر: بمعنى المنكر الفظيع، وهو أهوال يوم القيامة. {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} أي: ذليلة، والمراد ذليلة نفوسهم؛ لأن خشرع الأبصار ناشئ عن خشوع النفوس، فهو غاية عنه. {الْأَجْدَاثِ}: القبور، وهو جمع جَدَث. {مُهْطِعِينَ}: مسرعين مادين أعناقهم. التفسير 6 - 8 - {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)}: الأَمر في قوله - تعالى -: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} مترتب على ما قبله من عدم إفادة النُّذُر لهم، ولذا قُرِن بالفاء التي هي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكأَنه قيل: إذا كانت النذر لا تغنى عنهم ولا تفيد فأعرض عنهم واترك الاهتمام بهم، والأَسى على عدم إيمانهم، فقد أديت الرسالة ووفيت الأمانة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. وليس الغرض منه الأَمر بترك تبليغ الرسالة لهم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ظل يدعوهم إلى الحق قبل الهجرة وبعدها، حتى آمنوا جميعًا في العام الهجرى الثامن، فالغرض منه أَن لا يبالي بكفرهم، وقد عقَب الله هذا الأمر بوعيدهم بعذاب الآخرة بقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} أي: اذكر لهم يوم ينادى المنادى إلى شيء منكر فظيع، قال الآلوسي: يكنى بالنُّكر عن الفظيع {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} ذليلة نفوسهم، يخرجون من القبور كأنهم في كثرتهم وانتشارهم في كل مكان - {كَأَنَّهُمْ} - جراد منتشر - يخرجون - مسرعين إلى الداعى، مادين أعناقهم خوفًا وهلعًا، يقول الكافرون من شدة الهول وسوء المنقلب - يقولون -: هذا يوم صعب شديد. نسأَل الله السلامة.

* {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} المفردات: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أي: وصفوا نوحًا - عليه السلام - بالجنون وزجروه عن التبليغ بأنواع الأَذية والتخويف. {فَانْتَصِرْ}: فانتقم لي منهم. {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}: كثير متتابع، يقال: همره يهمِره ويهمُره بكسر ميم المضارع وضمها: صبّه. فهمر وانهمر. {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: قد قضاه الله أزلا، وهو هلاكهم بالطوفان. {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}. على سفينة ذات ألواح عريضة ومسامير تثبت بها تلك الأَلواح، ودسر جمع دِسار أو دَسْر: وهو المسمار. {بِأَعْيُنِنَا}: بكلاءَة وحفظ منا: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} أي: أبقينا خبرها أمرا داعيا للعظة والاعتبار.

{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: فهل من معتبر بتلك الآية؟ والأَصل مدتكر: أبدلت التاء دالا وأَدغمت الدال في الدال، وقيل غير ذلك في أصلها. التفسير 9 - 17 - {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأَنباءِ الموجبة للازدجار، وتفصيل لها، وبيان عدم تأَثرهم بها تقريرًا لما يشير إليه قوله - تعالى -: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}. والمعنى: كذب قبل أهل مكة قومُ نوح فكذبوا عبدنا نوحًا - عليه السلام - تكذيبًا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذّب جاءَ عقيبه منهم قرن آخر مكذب مثله. وقيل: معنى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ابتدأَت التكذيب، ومعنى {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} أَتموه وبلغوا نهايته. أو: لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسًا كذبوا نوحًا لأَنه من جملة الرسل، والفاء - عليه - للسببية، وفي ذكر - عليه السلام - بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له وتشنيع على مكذبيه الذين لم يقتصروا على مجرد التكذيب، ولم يقنعوا به بل دفعهم حقدهم وسوء طويتهم إلى أَن ينسبوه إلى الجنون حيث قالوا عنه: إنه مجنون؛ يقول ما لا يقبله عاقل، وزجرره عن تبليغ الرسالة بأَنواع الأَذية والتخويف، والوعيد الشديد فقالوا له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} (¬1). ولما استحكم يأْسه من استجابتهم له بعد أن دعاهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وعلنا لجأ إلى ربه فدعاه قائلا: {أَنِّي مَغْلُوبٌ} من جهة قومي، ما لى قدرة على الانتقام منهم {فَانْتَصِرْ} لي ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآية: 116.

بإعانتى عليم وتمكينى من الإيقاع بهم، وذلك بعد أن صبر على إيذائهم له طويلا. روى أَن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخرّ مغشيًّا عليه ويقول: اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون. وقد استجاب - سبحانه وتعالى - لدعائه بما أَشار إليه قوله - جل وعلا -: ({فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} - أي: السحاب - بماءٍ منهمر) أي: كثير منصب، وهذا كناية عن كثرة الأَمطار وشدة انسيابها من السحاب حتى كأَنها أنهار تفتحت بها أبواب السماء، وإلى ذلك ذهب الجمهور، ومما يدعو إلى العجب أَنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأَهلكهم الله بما طلبوا جزاء تمردهم والتمادى في تكذيبهم للرسل، وكما فتحت أبواب السماء بماءٍ منهمر استجابة لدعوته - عليه السلام - كذلك فجرت الأَرض عيونًا بأَن جعلت كلها كأَنها عيون متفجرة، وهذا أَبلغ في الدلالة على كثرة الماءِ وغزارته. وقد اشتد بهم الهول، وعظم الفزع حينما التقى ماء السماء وماء الأَرض على حال قدرت وسويت، وهي قدر ما أَنزل على قدر ما أَخرج، كما قال - سبحانه -: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر، أو المعنى: فالتقى الماء على أمر قدره الله في اللوح المحفوظ وهو إهلاك قوم نوح بالطوفان. وهذا المعنى خير من سابقه وأَظهر. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي: وحملنا نوحًا ومن أمن معه على سفينة ذات ألواح عريضة شد بعضها إلى بعض بمسامير، وقال الليث: الدسار: خيط من ليف تشد به أَلواح السفينة، ولعله بعض الحشو الذي يوضع بين الأَلواح، ثم يطلى بالقار ليمنع دخول الماء. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} وقدرنا لهذه السفينة أن تجرى في ذلك الماء المتلاطم الأَمواج بحفظنا ورعايتنا وجعلنا ذلك جزاءً وثوابًا لنوح - عليه السلام -، لأَنه كان نعمة ورحمة لقومه كفروها وجحدوا فضلها. وقرىءَ: جزاءً لمن كان كَفَر، بالبناء للفاعل، أَي: الإغراق جزاء للكافرين {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} أي: أبقينا خشب السفينة على الجودى زمنًا طويلًا حتى رآها أوائل هذه الأُمة كما روى عن قتادة والنقاش، أو أبقينا خبرها أو جنسها بإبقاء السفن، كقوله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (¬1). وذلك للعظة والاعتبار. وجوز أن يكون الضمير في ¬

_ (¬1) سورة يس، الآيتان 41، 42.

قوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} للفعلة التي فعلناها، وهي إنجاء نوح ومن معه وإهلاك الكافرين {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: فهل من متعظ يتعظ ويعتبر بتلك الآية الجديرة بالاعتبار والاتعاظ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وتعجيب، بمعنى كان عذابي الواقع بهم وإنذارى لهم على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، وذلك لتكذيبهم رسلى وإنكارهم آياتى. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} جملة قسمية وردت في آخر هذه القصة والقصص الثلاث التي تليها (¬1) تقريرًا لمضمون ما سبق من قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وتنبيهًا على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار، أي: وتالله لقد سهلنا هذا القرآن على قومك حيث أنزلناه بلسانهم وجمعنا فيه أنواع المواعظ الشافية، والعبر الزاجرة، والوعد والوعيد للتذكر والاتعاظ. ومع كل هذه الدوافع الداعية إلى الاهتداء أعرضوا عنها وضلوا ضلًالا بعدًا، ويشير إلى في لك قوله - تعالى -: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: فلا يوجد في قريش من يتعظ ويتذكر، فالاستفهام هنا للإنكار والنفى على أبلغ وجه وآكده. وقيل في معنى هذه الآية: ولقد سهلنا القرآن للحفظ وأعنَّا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ روى أن أهل الأَديان لا يتلون كتبهم مثل التوراة والإنجيل والزبور إلا نظرا، ولا تحفظ في الصدور، وعلى الألسنة كالقرآن، وعن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى. ¬

_ (¬1) قصة عاد، وقصة ثمود، وقصة قوم لوط.

{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)} المفردات: {رِيحًا صَرْصَرًا} أي: ريحًا باردة، وقيل: هي الشديدة الصوت، قال صاحب القاموس: وريح صر وصرصر: شديدة الصوت، أو الباردة. {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أي: في يوم شؤم عليهم وشر استمر فيهم بنحوسته وعذابه حتى الهلاك. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} أي: أُصول نخل بدون فروع، منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض، يقال: قعر النخلة - كمنع -: قلعها من أصلها فانقعرت. والنخل: اسم جمع يذكر ويؤنث. التفسير 18 - 22 - {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)}: شروع في قصة أُخرى، ولم تعطف، وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى استقلال كل قصة في القصد والاعتبار والاتعاظ، ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم قصدًا إلى الاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب، وقوله - سبحانه - في بدءِ القصة: {فَكَيْفَ كَانَ

عَذَابِي وَنُذُرِ} لتوجيه السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى عليهم في تعذيب عاد قبل ذكره كأنه قيل: كذبت عاد، فهل سمعتم؟ أو فاسمعوا يا أَهل مكة كيف كان عذابى وإنذارى لهم بالعذاب. ثم بين ما أجمل في عقابهم بقوله - تعالى -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} أَي: أَرسلنا عليهم ريحًا باردة - كما روى عن ابن عباس وقتادة والضحاك - وقيل: أرسلنا عليهم ريحًا شديدة الصوت، وكان ذلك في يوم شؤم مستمر، والمراد به مطلق الزمان لقوله - تعالى -: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} (¬1) وقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} (¬2) وقد استمر هذا الشر حتى أَهلكهم جميعًا، ولم تبق منهم باقية، وقد روى أَنهم دخلوا الشعاب والحفر وأَمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح وصرعتهم موتى، كأَنهم أصول نخل بدون فروع منقلع عن مغارسه وملقى على الأرض، وقد شبهوا بأَعجاز النخل لطول قاماتهم {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تهويل وتعظيم للعذاب والنُّذُر، وتعجب من أمرهما بعد بيانهما. فليس فيه شائبة تكرار مع ما سبق في هذه القصة. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ... } الآية، أي: سهلناه للتذكر والاتعاظ، أَو للحفاظ. وقد سبق. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} ¬

_ (¬1) سورة فصلت، من الآية: 16. (¬2) سورة الحاقة، من الآية: 7.

المفردات: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي: بما سمعوه من نبيهم من الإنذارات والمواعظ. {وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} أَي: واحدًا من آحادهم لا من أشرافهم. {لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} أي: لفى بعد بين عن الحق. وسُعُر: جمع سعير وهي النَّار المشتعلة أَو الجنون. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي: بل هو شديد الكذب متكبر بطر، والبطر: دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها. التفسير 23 - 26 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}: استئناف لبيان قصة صالح - عليه السلام -. والمعنى: كذبت ثمود بالإنذارات والمواعظ التي سمعوها من نبيهم، أو كذبوا بالرسل - عليهم السلام - فإِن تكذيب أَحدهم وهوصالح تكذيب لجميعهم لاتفاقهم على أُصول الشرائع، وعلى هذا فالنذر جمع نذير، بمعنى منذر، ثم تعجبوا من إلقاءِ الوحى عليه خاصة دونهم فقالوا إنكارًا له: أبشرًا من جنسنا نتبعه، متفردًا ليس له أَتباع ولا نصراء يشدون أَزره ويدفعون عدوه، أو واحدًا من آحادنا لا من أَشرافنا كما يفهم من التنكير، فإذا اتبعناه مع كونه بشرًا واحدًا ونحن أُمة جمة إنا إذا اتبعناه وهو على هذا الحال لفى بُعْد واضح عن الصواب، وجنون بيَّن لأن ذلك بمعزل عن مقتضى العقل، أو كنا في ضلال وسعر، أي: نيران، جمع سعير، وهي النار، يقصدون المبالغة، وروى أن صالحًا كان يقول لهم: إن لم تتبعونى كنتم في ضلال عن الحق وسعر، أَي: نيران، فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذًا كما تقول، ثم زادوا في إنكارهم وجحدهم لرسالته وتكذيبهم له حيث قالوا: أألقى عليه الكتاب والوحى من بيننا وفينا من هو أحق وأولى منه بالنبوة؟! وهو استفهام معناه الإنكار، ومرادهم

أن الأَمر ليس كذلك، بل هو متجاوز الحد في الكذب شديد البَطَر. وهو على ما قاله الراغب: دَهَشٌ يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها، ويقاربه في المعنى: الطرب، وهو خفةٌ أَكْثَرُ ما تعترى الإنسان في الفرح، والتعبير بالإلقاء يتضمن العجلة في ادعائه النبوة دون تدرج، وقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} حكاية لما قاله سبحانه لنبيه صالح - عليه السلام - وعدًا له، ووعيدًا لقومه، أي: سيعلمون عن قريب عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة من هو الكذاب الأَشر الذى حمله أَشره وبطره على ما ادَّعاه، أَهو صالح أَم من كذبه؟ والمراد أَنهم سيعلمون لا محالة أنهم هم الكذابون الأَشرون وقد أُورِدَ لك مورد الإبهام إيماء بأنه لا يكاد يخفى. والإتيان بالسين في قوله: {سَيَعْلَمُونَ} لتقريب مضمون الجملة وتأكيده. {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)} المفردات: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} أي: مخرجوها وباعثوها في الصخرة الملساء {فِتْنَةً لَهُمْ}: ابتلاءً واختبارًا. {فَارْتَقِبْهُمْ}: فانتظر ما يؤول إليه أمرهم. {وَاصْطَبِرْ}: اصبر على أَذاهم حتى يأْتي أمر الله.

{كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ}: كل حصة ونصيب من الماء يحضرها من كانت له. {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} أي: فتناول السيف فعقر الناقة بضرب قوائمها. قيل: لا يطلق العقر في غير ضرب القوائم، وربما قيل: عقره: إذا نحره. {صَيْحَةً وَاحِدَةً}: هي صيحة جبريل - عليه السلام -. {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي: كالعشب اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاءِ، وقيل: الهشيم: ما تساقط وتفتت من الشجر الذي أُقيمت به الحظيرة وهي التي تقيمها العرب وأهل البوادى للمواشى والسكنى من القصب وأَغصان الشجر. التفسير 27 - 32 - {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: استئناف لبيان حصول الموعود به حتمًا. والمعنى: إنا باعثو الناقة ومخرجوها ناقة عشراءَ من الصخرة الصماء كما سألوا - إنا باعثوها - لتكون حجة وآية على صدق صالح - عليه السلام - فيما جاءَهم به واختبارًا لهم، وقد سأَلوا ذلك على سبيل الاستهزاء، فانتظرْ يا صالح ما يؤدى إليه أَمرهم وتبصَّر عواقبهم. ولا تعجل حتى يأْتي أَمر الله وهو ناصرك عليهم، وأعلمهم بأَن ماء البئر التي لهم يكون بينهم وبينها كل نصيب وحظ منه محضور يحضوه صاحبه في نوبته، فتحضره الناقة يوم وردها، ويحضرونه يوم وردهم. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها. قال ابن عباس: إذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئًا من الماء وتسقيهم لبنًا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئًا واستمروا على هذه الوتيرة من القسمة وقتًا، ولكنهم ملُّوها وأرادوا التخلص منها، فنادوا صاحبهم وهو قُدار بن سالف، قال ابن إسحاق: فكمن لها في

أَصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فخرت، ورغت رغاءً شديدا تَحدَّر سقَبها (¬1) من بطنها ثم نحرها، ويشير إلى ذلك قوله - تعالى -: {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} أي: فاجترأَ على الأَمر العظيم أشقى قومه غير مكترث به فأحدث العقر بالناقة وتناوله. وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها أو السيف فقتلها. والتعاطى: تناول الشيء مطلقًا أو بتكلف، وإنما قيل في آية أُخرى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} (¬2) بإسناد العقر إليهم جميعًا لرضاهم به، أو لأَنه بمعونتهم. وقوله - سبحانه -: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره، وقد مر نظيره. وقد أشار التنزيل إلى تنكيل الله بهم، وإهلاكه إياهم فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي صيحة جبريل - عليه السلام - في طرف منازلهم، فأَهلكهم الله بها فصاروا هشيمًا مفتتا كالعشب اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء، أو كالورق المتساقط ممَّا يعمل به صاحب الحظيرة حظيرته من قصب وأَشجار، وصاحب الحظيرة هو المحتظر. قال ابن عباس: المحتظر: هو الرجل الذي يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك: فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم. والحظيرة (الزريبة) التي يقيمها العرب وأَهل البوادى للسكنى ولمنع البرد والسباع عن الغنم والإبل، وهي من الحظر وهو المنع، ثم أقسم سبحانه على أنه سهل القرآن للتذكر والاتعاظ. {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: إنكار ونفى للمتعظ من قريش على أبلغ وجه. وقد سبق مثل ذلك مفصلًا. ¬

_ (¬1) السقب: ولد الناقة. (¬2) الشمس من الآية: 14.

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)} المفردات: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} أي: ريحًا شديدة تثير الحصباء وهي الحمى الصغيرة. {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر حيث يختلط سواد الليل ببياض النهار. {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي: شكُوا فيما أَنذرهم به الرسول ولم يصدقوه. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ}: أرادوا منه تمكينهم ممن كان عنده من الملائكة في هيئة الأَضياف طلبًا للفاحشة، والضيف يطلق بلفظ واحد على الواحد وغيره لأنه مصدر في الأَصل ويجوز المطابقة فيقال: ضيف وضيفة وأضياف وضيفان. {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} أي: سوَّينا أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق. {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} أي: أتاهم العذاب وقت الصباح في البكرة وهي أول النهار.

التفسير 33 - 40 - {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: الآيات استئناف أخبر به - سبحان - عن قوم لوط بأَنهم ساروا على سنن المكذبين لرسلهم من الأَقوام الماضية، فعاقبهم بأَن أَرسل عليهم ملكًا - يرميهم بالحصى والحجارة، أو أَرسل عليهم حاصبًا وهو اسم للريح الشديدة أَو الباردة التي كانت ترميهم بالحصباء وهي الحصى أو ترميهم بالحجارة كما قال أبو عبيدة، وقال ابن عباس: هو ما حُصبوا به من السماء من الحجارة في الريح، وعليه قول المتنبي: مستقبلين شمال الشام تَضْرِبنا ... بحاصب كنديف القطن منثور بمعنى أرسلنا عليهم حصى وحجارة نزلا من السماءِ في الريح، وحينما نزل بهم عذاب الله أهلكهم (¬1) إلاَّ آل لوط. قيل: المراد بهم: ابنتاه ومن آمن معه، وقيل: المراد ابنتاه لأَنه لم يكن على دينه أحد سواهما حتى ولا امرأَته التي أصابها ما أَصاب قومها؛ هؤلاء الآل نجيناهم بسحر من الأَسحار حينما خرجوا آخر الليل في الوقت الذي يختلط فيه سواد الليل ببياض النهار، وكانت تنجيتنا للوط وابنتيه أَو له ولابنتيه ولمن آمن معه إنعامًا منا عليهم، ومثل ذلك الجزاء الكريم نجزى من شكر نعمتنا بالإيمان والطاعة. ثم حكى - سبحانه - موقف لوط منهم وموقفهم منه قبل حلول عذاب الإبادة بهم فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي: أخذتنا الشديدة لهم بالعذاب، فما التفتوا إلى ذلك ولا اهتموا به، بل شكوا فيه، وكذَّبوا بكل ما أنذرهم به. كما حكى - سبحانه - أيضا ما وقع منهم من أنهم راودوه عن ضيفه من الملائكة الذين حضروا إليه في صورة شباب مُرْد حِسَان محسنة من ¬

_ (¬1) وقد فصلت بعض أنواع العذاب التي عوقبوا بها في سورة الحجر.

الله فأَضافهم لوط - عليه السلام - فبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها فأعلمتهم بالأضياف فأَقبلوا يُهرعون من كل مكان طلبا للفجور بهم، فطمس الله أعينهم، وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب. وكان لوط يدفعهم ويمانعهم دون أضيافه، وروي أن جبريل - عليه السلام - استأْذن ربه - سبحانه - ليلة جاءُوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقهم بجناحه فتركهم عميانًا مع بقاء أَبصارهم فلم يروهم ولم يهتدوا إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط - عليه السلام - فخرجوا يتحسسون بالحيطان ويتوعدون لوطًا بالانتقام منه في الصباح. وقيل: الطمس مجاز عن حجب الإدراك، وذلك أنهم حينما دخلوا المنزل ونظروا لمن فيه لم يروا شيئًا فجعل ذلك كالطمس فعُبِّر به عنه: وقلنا لهم على أَلسنة الملائكة: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} ويراد من الأَمر الخبر، بمعنى فأذقناهم عذابى الذي أنذرهم به لوط - عليه السلام - وهو الطمس لأَنه من جملة ما أُنذروه من العذاب، أما عذاب الإبادة الذي أُهلكوا به فقد صبحهم بكرة كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} أي: أتاهم في الصباح أول النهار كما تشير إلى ذلك {بُكْرَةً} وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها زيادة، بل هي كالتأْكيد. وكان هذا العذاب دائمًا مستقرًا لا يفارقهم ولا ينفك عنهم حتى يسلمهم إلى النار في الآخرة، وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أَن ما قبله من عذاب الطمس ينتهى إلى الإبادة، وقوله - تعالى -: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} حكاية لما قيل لهم من جهته - تعالى - تشديدًا للعذاب الواقع بهم، وفائدة تكرير {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}، وتكرير {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ... } الآية. في هذه القصص أن يجدد المشركون عند استماع كل نبأ من أنباء الأَولين ادِّكارًا واتعاظًا. وأَن يستأْنفوا تنبهًا واستيقاظًا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه. وهذا حكم التكرار في قوله - تعالى -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} عند كل نعمة عدها، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أَنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأَذهان مذكورة غير منسية في كل أوان.

{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)} المفردات: {آلَ فِرْعَوْنَ} المراد بهم: القبط وهم أهله وشيعته بمصر. {النُّذُرُ}: الإنذارات المتكررة، أو النذر: موسى وهارون إطلاقًا للفظ الجمع على الإثنين. {عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}: لا يغالب ولا يعجزه شيءٌ. التفسير 41 - {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}: صُدِّرت قصة آل فرعون بالتوكيد القسمى لإبراز كمال الاعتناء بشأْنها لعظم ما فيها من الآيات، وهول ما لاقوه من العذاب، وقوة إيجابها للاتعاظ، والاكتفاء بذكر آل فرعون عن ذكره للعلم بأَن نفسه أَولى بذلك، لأنه رأس الفساد وقمة الضلال. والمعنى: وبالله لقد جاءَ آل فرعون الإنذارات المتكررة بما سيلقونه من عذاب ونكال أو فقد جاءَهم الرسل يوسف وغيره إلى أَن جاء موسى وهارون، وقد كان منهم ما حكاه الله بقوله: 42 - {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ}: هذا استئناف مبنى على حكاية مجىء النذر، كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} أي: بمعجزاتنا الدالة على توحيدنا، ونبوة أَنبيائنا؛ فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أَو المراد بالآيات كلها معجزات موسى - عليه السلام - وهي

الآيات التسع: العصا واليد والسنون والطمسة والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكان جزاؤهم أَن قهرناهم بسبب تكذيبهم فأَخذناهم أَخذ عزيز لا يغالب ولا يدافع، مقتدر على الانتقام منهم وفق إرادته لا يعجزه شيءٌ عن تنفيذ ما يريد. {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)} المفردات: {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} أي: من الكفار السابقين مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وآل فرعون. {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي: أَلكم براءَة وسلامة من العذاب في الكتب المنزلة على الأَنبياء. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي: ينصرفون منهزمين، ويراد من الدبر الأَدبار. {أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي: في أقصى غاية الفظاعة من الداهية، وهي الأمر الشنيع الذي لا يهتدى للخلاص منه، وفي نهاية المرارة التي لا يستساغ احتمالها، ولا يتسنى الصبر عليها. التفسير 43 - {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}: الاستفهام للإنكار ومعناه النفى. والمعنى: أكفاركم يا أهل مكة أو يا أُمة العرب أقوى وأشد وأكثر عددا أو أقل كفرًا

وعنادًا وأقرب طاعة وانقيادًا من كفار الأُمم المعدودين الذين أُهلكوا بسبب كفرهم، وهم قوم نوح وقوم وهود وقوم صالح وقوم لوط وآل فرعون - أكفاركم خير من أَولئكم - ليكون ذلك سندًا وحجة لهم من أَن يحل بهم مثل عذاب السابقين؟ ولأَن الاستفهام في قوله: {أَكُفَّارُكُمْ ... } إلخ انكارى في معنى النفى فكأَنه قيل: ليس كفاركم خيرًا من أُولئك الكفار في الدنيا وزينتها ولا ألين منهم شكيمة في الكفر والعصيان، بل هم دونهم في القوة وغيرها ممَّا تستدعيه مباهج الحياة، وأَسوأ حالًا منهم في الكفر والعناد، وقد أصاب من هم أقوى منكم ما أصابهم فلم لا تخافون أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم من العذاب الذي أهلكهم، وتركهم أثرًا بعد عين مع أنكم دونهم قوة وبأْسًا، وأكثر منهم كفرا وعتوًّا. وقيل: أكفاركم، ولم يقل أَأَنتم، للتنصيص على كفرهم المقتضى لهلاكهم. {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}: إضراب وانتقال من التبكيت بما ذكر إلى التبكيت بوجه آخر، فكأنه قيل: بل أَلكفاركم براءَة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي فيما نزل من الكتب على الأَنبياء أو في اللوح المحفوظ كما يرى ابن عباس، فلذلك تصرون على ما أنتم عليه ولا تخافون. 44 - {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ}: إضراب وانتقال إلى وجه آخر من التبكيت، والالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم. والمعنى: بل أَيقول هؤلاء الكفار - واثقين بشوكتهم وغلبتهم على جند الله -: نحن أُولو حزم وعزم أمرنا مجتمع متحد لا يضام ولا يرام، أو منتصر بمعنى ممتنع على محمد وصحابته أو نحن جمع منتصر، أَي: متناصر ينصر بعضنا بعضًا ويعاونه، وروى أن أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر فتقدم الصف وقال: نحن نَنْتَصر اليوم من محمد، أَي: نغلبه وننتقم منه، وكان الظاهر أن يقال: نحن جميع منتصرون إلاَّ أَنه أُفرد نظرًا للفظ جميع فإنه مفرد لفظًا جمع معنى، ورجح جانب اللفظ لخفة الإفراد مع رعاية جانب الفاصلة.

45 - {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}: رد لقولهم السابق، والإتيان بالسين للتأْكيد. والمعنى: سيهزم جمع مشركى مكة، أَو الكفار لا محالة ويولون الأدبار منهزمين. قال سعيد بن جبير: قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} كنت لا أَدرى أَي الجمع ينهزم فلما كان يوم بدر رأَيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في الدرع ويقول: "اللَّهُمَّ إن قريشًا جاءَت تحادُّك، وتحادّ رسولك بفخرها فأَخِنْهم - أي: أَهْلِكْهُم - الغداةَ. ثم قال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأْويلها. وهذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن غيب فكان، كما أخبر. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية مكية. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبرانى في الأَوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل يوم بدر {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أيّ جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم مُصْلِتًا بالسيف (¬1) وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. فكانت ليوم بدر، وقيل: ويولون الدبر ولم يَقُل: الأدبار إما لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل، أو لإرادة أن كل واحد منهم يولى دبره، وقد كان كذلك يوم بدر وغيره. 46 - {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}: إضراب انتقالى لبيان أن ما وقع لهم ببدر ليس نهاية عذابهم، بل الساعة موعد عذابهم الأَصلى، وهذا من طلائعه وبوادره، وعذاب الساعة أشد وأنكى ممَّا لحقهم يوم بدر من الهزيمة والقتل والأَسر، و"أدهى" مبالغة: من الداهية، وهي الأَمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه، و"أَمَرُّ" مبالغة في شدة المرارة عند الذوق على سبيل الاستعارة لصعوبتها على النفس، وإظهار الساعة في موضع الإضمار لشدة تهويلها وبث الحزن في نفوسهم. ¬

_ (¬1) ممسكا به: وهو يقاتلهم.

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} المفردات: {فِي ضَلَالٍ} أي: في بعد عن الحق في الدنيا. {وَسُعُرٍ} أي: واحتراق في نيران جهنم. وسعر: جمع سعير. {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} أي: يقال لهم: ذوقوا آلام سقر، و {سَقَرَ} علم لجهنم ولذلك لم تصرف. {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: مقدرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. التفسير 47 - {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}: أي: إن المجرمين من الأولين والآخرين في بعد عن الحق في الدنيا وفي نيران مسعرة في الآخرة لما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفِرَق، وقال ابن عباس - رضى الله عنهما -: في خسران وجنون. 48 - {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}: أي: يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم - تقريعًا وتوبيخًا -: ذوقوا أيها المكذبون مس سقر، بمعنى قاسوا حرها وألمها، وهو المراد من المس فإنه سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي الكشاف {مَسَّ سَقَرَ} كقولك: وجد مس

الحمى وذاق طم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرها، ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم بذلك مسًّا، والكلام على المجاز. 49 - {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}: أي: إن كل شيءٍ من الأشياء خلقناه مقدرًا بقدر معلوم اقتضته الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، أو مقدرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه قد علمنا حاله وزمانه. وحَمْل الآية على القَدَر الذي يقابل القضاء هو المأثور عن كثير من السلف، وروى الإِمام أحمد، ومسلم والترمذى وابن ماجه عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدر فنزلت وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: قدم وفد نجران علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا؟ فنزلت الآية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. فقالوا: يا محمَّد، يَكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ قال: أنتم خصماء الله يوم القيامة. وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلاَّ من كافر، ثم أكَّدَ هذا بقوله: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيءٍ بقدر. وسمعت ابن عمر يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل شيءٍ بقدر حتى العَجْز والكَيْس، أو الكيسُ والعجز. وهذا إبطال لمذهب القدرية (¬1) والآية من باب {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وهذا هو المقصود من قوله - تعالى -: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. ¬

_ (¬1) الذين يقولون: لا قدر وأن الخير والشر بأيدينا.

{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} المفردات: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} أي: ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قول الله - تعالى -: كُنْ {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} في السرعة واليسر؛ لأن اللمح: النظر بسرعة، وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ}: أشباهكم في الكفر من الأُمم السابقة، أو أتباعكم. {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أي: في اللوح المحفوظ؛ أو في كتب الحفظة. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أي: مسطور ومكتوب في اللوح المحفوظ على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، يقال: سطره يسطُره سطرا: كتبه، واستطر مثله. {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: في جنات وضياء، ومنه النهار؛ لضيائه. {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ}: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة. {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} أي: عند مليك عظيم الملك كامل القدرة، يفعل ما يشاء.

التفسير 50 - {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}: أي: وما شأننا إلاَّ فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهو الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو: وما أمرنا في خلق الأشياء إلا كلمة واحدة سريعة التكوين، فإذا قصدنا شيئًا نريد إيجاده قلنا له: كن، فيكون. وهذا الأمر الصادر منا في اليسر والسرعة كلمح بالبصر لأن اللمح هو النظر بخفة وسرعة على قدر ما يلمح أحدكم ببصره، والمراد: التقريب للعقول في سرعة تعلق القدرة بالمقدور وفق الإرادة الأزلية. وقيل: هذا في قيام الساعة، فهو كقوله - تعالى -: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَر أو هو أقرب} (¬1). 51 - {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}: أي: والله فقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السابقة، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي: من متعظ يتعظ ويعتبر بذلك؟ بمعنى أنه لا معتبر ولا متعظ من قريش حيث بالغوا في الإعراض فلا يسمعون ولا يبصرون. 52 - {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}: أي: وكل شيءٍ مفعول في الدنيا لهؤلاء الكفار من النظراء والأتباع مكتوب عليهم على التفصيل ثابت في ديوان الحفظة. وأجمعت القراء على رفع كلمة (كل) في الآية ليستفاد منها المعنى المراد، وهو أن كل ما فعلوه من الكفر والمعاصي مكتوب في صحف أعمالهم صغيرًا كان أو كبيرًا. ¬

_ (¬1) سورة النحل، من الآية: 77.

53 - {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}: أي: وكل صغير وكبير من الأعمال كما روى عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما .. وقيل: من الأعمال ومن كل كائن إلى يوم القيامة، كل ذلك مسطور في اللوح المحفوظ بتفاصيله مثبت فيه. ومسطور من السطر بمعنى الكَتْب. وقال صاحب اللوامع: يجوز أن يكون من طرّ النبات والشارب: ظهر، وعليه يكون المعنى: وكل صغير وكبير ظاهر في اللوح مثبت فيه. 54، 55 - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}: ولما كان بيان سوء حال الكفرة بقوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} إلخ مما يستدعى بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترغيب والترهيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقيل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} الآية .. والمعنى: إن الذين اتقوا الله فابتعدوا عن الكفر والمعاصى، في جنات عظيمة الشأن رفيعة المقدار، وأنهار لها صفاؤها وتدفقها، وأفردت الأنهار اكتفاء بالجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسير النهر بالسعة، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: بما يعمهما. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن محمَّد بن كعب قال: ونَهَر، أي: في نور وضياء، وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه. وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، أي: أنهم لا ليل ولا ظلمة عندهم في الجنات. وكما أنهم في جنات ونهر فهم في مجلس صدق، ومكان مرضى. قال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق وهو المقعد الذي يتصدق الله - تعالى - فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح لهم - عَزَّ وَجَلَّ - النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد لإرادة الجنس، هذا المجلس عند مليك لا يقادر قدر ملكه وسلطانه، فلا شيء في الكون إلا وهو تحت ملكوته - سبحانه - ما أعظم شأنه، ويشير إلى ذلك الإتيان بصيغة المبالغة في {مَلِيكٍ}

والتنكير فيه وفي {مُقْتَدِرٍ} كما يشير إلى أن قربهم منه - سبحانه - بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث يتحقق لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان، وتكل دونه الأذهان فالعندية عنده - جل شأنه - عندية منزلة وكرامة لا مسافة ولا مماسة. قال عبد الله بن بريدة: روى أن رسول الله قال: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الله - تبارك وتعالى - فيقرأُون القرآن على ربهم، وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر وفي رواية فيقولون: بغيتنا المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا أنا على ليل طويل وليس فيه أحد غيرى فنمت فسمعت حركة خلفى ففزعت فقال: أيها الممتليء قلبه (فَرَقًا) لا تفرق، أي: لا تفزع. وقيل: اللهم إنك مليك مقتدر، ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله - تعالى - شيئًا إلا استجاب لي، وأنا أقول: اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاءُ من أمر يكون، فأسعدني في الدارين، وكن لي ولا تكن عليّ، وانصرني على من بغى عليّ، وأعذني من هم الدَّيْنِ وقهر الرجال وشماتة الأَعداء. طبع بالهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية رئيس مجلس الإدارة رمزى السيد شعبان رقم الإيداع بدار الكتب 1679/ 1988 الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 2478 س 1988 - 25004

سورة الرحمن

" سورة الرحمن" آياتها ثمان وسبعون نزلت سورة الرحمن بمكة عند الجمهور، وغيرهم يقول: إنها مدنية، ولكل من القولين رواته، وتسمى (عروس القرآن) كما أخرجه البيهقي عن علي - كرم الله وجهه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل شيءٍ عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن" ووجه مناسبتها لسورة - القمر - التي سبقتها، أنها مفصِّلة لما أُجمل في آخرها، قال الإِمام جلال الدين السيوطى: لمَّا قال - سبحانه - في آخر ما قبلها {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} ثم وصف - سبحانه - حال المجرمين في سقر وحال المتقين {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في هذا الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة والإشارة إلى شلتها، ثم وصف النار وأَهلها، ولذا قال سبحانه: {يعرف المجرمون بسيماهم} ولم يقل: الكافرون أو نحوه؛ لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} ثم وصف الجنة وأهلها، ولذا قال تعالى فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وذلك هو عين التقوى، ولم يقل: لمن آمن أو أطاع أو نحوه، لتوافق الألفاظ في التفصيل، ويعرف بما ذكر أن هذه السورة شرح لآخر السورة قبلها. اهـ. وبالجملة فقد اشتملت كلتاهما على أحوال المؤمنين والكافرين في الدنيا، ومال أمرهم في الآخرة. وتكرر في هذه السورة قوله - تعالى -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للتقرير بالنعم المختلفة المعدودة فكلما ذكر - سبحانه - نعمة أنعم بها، وبَّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغير: ألم أحسن إليك بأن خوَّلتك في الأموال، أَلم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا، فيحسن فيه التكرار لاختلاف ما يقرِّرُ به، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، قاله السيد المرتضى في كتابه (الدُّررُ والغُرَر) وذكر عديدًا من القصائد فيها مثل هذا

مقاصد هذه السورة الكريمة

التكرار، قال الآلُوسيُّ: ولا يرد علي ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة، لما ستعلمه إن شاء الله في محله: ونحن سنبين ذلك - إن شاء الله تعالى -. مقاصد هذه السورة الكريمة: بينت هذه السورة أنه - تعالى - علَّم نبيه القرآن وأوحاه إليه، وأنه خلق كل إنسان وعلمه كيف يُعبِّر عن مقاصده ويبينها، وأنه سيَّر الشمس والقمر بحساب دقيق، بحيث لا يعتريهما خلل في ذاتهما أو في دورانهما، وأن النجم من النبات - وهو ما ليس له ساق، - والشجر - وهو ماله ساق - يخضعان لإرادته وتكوينه - تعالى - وأنه رفع السماء، وشرع الميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه جعل الأرض مقرًّا للناس، وأنبت لهم فيها أشجار الفاكهة وحبوب الطعام كالحنطة والشعير، وأنبت لهم مصادر العطر كالريحان، وأنه خلق الإنسان من طين جاف كالفخار، وخلق الجن من لهيب النار، وأنه رب المشرقين والمغربين، أنه أرسل البحرين - المالح والعذب - وجعلهما يلتقيان، ومع هذا لا يبغى أحدهما على الآخر فيبطل خاصيته وصفاته بحاجز وحائل من قدرة الله - تعالى -، وأنه يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وسيأتي شرح ذلك بمشيئة الله - تعالى - وأن لله السفن الجارية في البحر، ولها قلاع مرفوعة كأنها أعلام - أي جبال - وأن كل من على الأرض فإن ويبقى الله ذو الجلال والإكرام، وأنه تعالى: له شئون كثيرة في خلقه كل يوم، فلذا يسأله من في السموات والأرض ما هم بحاجة إليه، وأنه - سبحانه - سيقصد مجازاة خلقه يوم الدين، وليس له شاغل يشغله عن ذلك، وهناك ينادى المنادي: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هربًا من الحساب والعقاب {فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} ولا سلطان لكم، فالملك يوم القيامة والحكم لله الواحد القهار، يُرسَل على الكفار يومئذ لهبٌ من النار فلا ينصر بعضهم بعضًا، فإذا انشقت السماء وانصدعت يومئذ، وكان لها لون أحمر كحمرة الورد، وكانت صافية كالدهن المذاب {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأن هذا وقت صدور أمر الله بعذابهم، بعد أن شهدت عليهم جوارحهم ورأوا ذنوبهم واضحة في كتبهم.

ثم بين الله حال المؤمنين، فذكر أنهم صِنْفَان، أحدهما أرفع درجة من الآخر. فأولهما: له جنتان في أعلى درجات الجنان، وثانيهما: له جنتان أدنى من السابقتين، ووصف هذه الجنان وصفًا رائعًا يبين ما فيهن من جلائل النعم التي يتنعم بها هؤلاء وأولئك، جعلنا الله - تعالى - منهم، وختم السورة بقوله - جل وعلا -: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.

بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} المفردات: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}: علَّمه النطق المعرب عما في الضمير. {بِحُسْبَانٍ}: بحساب وتدبير. {يَسْجُدَانِ}: يخضعان لتدبيره - تعالى -. التفسير 1 - 6 - {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}: ذكر الله - سبحانه - في هذه السورة كثيرًا من نعمه وآياته، وأول ما بدأ به منها القرآن العظيم؛ لأنه أعظم النعم شأنًا وأرفعها مكانة، فعليه قدر السعادة الدنيوية والأخروية فما من غاية تنتهى إليها آمال الأمم إلا موجودة وسائلها فيه، وهو منهج الحق وصراطه المستقيم، وآية الآيات علي نبوة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ولذا تكفل الله بحفظه فقال - جل وعلا -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الحجر الآية: 9.

وقد أُسندت نعمة تعليم القرآن وغيرها من النعم إلى (الرحمن) الذي هو أحد أسماء الله الحسنى؛ لأنها من رحمته - تعالى - بعباده. ولم يذكر في الآية مَن الذي علمه الرحمن القرآن، قيل: هو الإنسان، فإن تعليمه من نعمه - جل وعلا - على البشر جميعًا، فمن حفظه ووعاه فإنه يعلمه غيره، وهكذا إلى أن تقوم الساعة؛ لأن الله - تعالى - تعهد بحفظه. وقيل: المراد بالإنسان محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أول من تعلمه من البشر، وهذا مآله إلى الرأى السابق؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - علمه الصحابة، والصحابة علَّمُوه من بعدهم، وهكذا. والمراد من تعليم القرآن: تعليم ألفاظه ومعانيه على وجه يعتد به، وقد يصل العلم بمعانيه إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه، فإنه - تعالى - لم يغفل شيئًا فيه، أخرج أبو الشيخ في كتاب (العظمة) عن أبي هريرة مرفوعًا "إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرَّة والخردلة والبعوضة". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم: عن ابن مسعود: أنزل الله في هذا القرآن علم كل شيءٍ، ولكنَّ علمنا يقصر عما بين لنا فيه. وقال أبو العباس المرسى: جَمَعَ القرآن علوم الأولين والآخرين، بحيث لم يحط به علمًا إلا المتكلم به، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر الله به - سبحانه -. وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله - تعالى -. وقال الفخر الرازى: المراد بتعليم القرآن جعل الشخص بحيث يعلم القرآن. فهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (¬1). والنعمة التالية لتعليم القرآن أنه تعالى {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وقدم تعليم القرآن على خلق الإنسان وتعليمه البيان، للإِشارة إلى أنه أفضل النعم، وأنه يبين الغاية من خلق ¬

_ (¬1) سورة القمر من الآية: 17.

الإنسان - وهي عبادة الله - قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). والمراد من الإنسان: الحنس، وبخلقه: إنشاوه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة، والمراد من تعليمه البيان: تمكين الإنسان من التعبير عما في نفسه وفهم بيان غيره، وهو الذي يدور عليه تعليم القرآن، وقيل تعليمه البيان: تعليمه التكلم بلغات مختلفة. وقيل المراد بالإنسان: آدم، وبتعليمه البيان تعليمه الأسماء كلها، أو علم الدنيا والآخرة، والنعمة الثالثة جاءت في قوله - تعالى -: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: الشمس والقمر يجريان بحساب دقيق في مداريهما وبروجهما ومنازلهما، فتختلف بذلك الفصول والأوقات، وتُعلَم السنون، والشهور، والأيام، والليالى، وتنتظم بذلك أمور أهل الأرض. ويرى علماءُ الفلك أن القمر يدور حول الأرض، وأن الأرض تدور حول الشمس، وأن الشمس تدور حول شيءٍ لم يعلم حتى الآن. والنعمة الرابعة جاءت في قوله - تعالى -: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} والمراد بالنجم: النبات الذي ينجم ويظهر فوق الأرض، وليس له ساق كالبقول، والمراد بالشجر: ماله ساق تحمله كالنخل والتفاح ونحوهما، والمراد بسجودهما: خضوعهما لله - تعالى - فيما أراده منهما تكوينا وإثمارا، ويعزى هذا الرأى إلى ابن عباس وابن جبير وأبى رُزين. وقال مجاهد وقتادة: النجم: نجم السماء، وسجود مع الشجر خضوعهما لأمر الله - تعالى - وإرادته فيما أراد منهما. والرأى الأول أحسن وأحرى بالقبول، فإن ذكر النجم مع الشجر يستدعى أن يكون النجم من النبات، وهو الأجدر ببلاغة القرآن (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات الآية: 56. (¬2) واعلم أن لفظ "الرحمن" مبتدأ، والجمل التي بعده أخباره، ويقدر ضمير في كل من (الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان) ليرتبطا بالمبتدأ، والتقدير: الشمس والقمر يجريان بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.

{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} المفردات: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}: وشرع العدل، يقال: وضع الله الشريعة - أي شرعها. {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}: لئلا تتجاوزوا فيه الحق. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}: واجعلوا وزنكم بالعدل. {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}: ولا تنقصوه. التفسير 7 - 9 - {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}: المراد من السماء هنا: ما جعلت الكواكب زينة لأولاها، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (¬1) والمراد من رفعها: الرفع الحسِّي بحيث نراها فوقنا بعيوننا أو الحسى والمعنوى - أي الرتبيّ - فمرتبة السماء ومقامها عال؛ لأنها منشأُ أحكامه - تعالى - وأوامره، ومسكن ملائكته - عَزَّ وَجَلَّ - فما أعظم ملكوت القادر العليم. ¬

_ (¬1) سورة الملك من الآية: 5.

والمراد من وضع الميزان: شرع العدل في الأمر كله، والعدل هنا: هو تقويم الأُمور وجعلها متلائمة متعادلة لا إفراط فيها ولا تفريط، لا تفاوت يُخل بها ويفسدها، وهو بهذا المعنى يشمل خلق السموات والأرض وغيره، وفي هذا المعنى يقول - صلى الله عليه وسلم -: "بالعدل قامت السموات والأرض" (¬1) فأنت ترى السموات متلائمة في تكوينها لا عيب فيها، وفي ذلك يقول الله - سبحانه -: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (¬2) أي: هل ترى في خلقها من شقوق وعيوب تخل بها؟ ويقول الآلوسي في تفسيرها: أي: شرع العدل وأمر به، بأَن وفر على كلِّ مُستَعِدٍّ مُستَحقَّه، ووفَّى كل ذي حق حقه، حتى اننظم أمر العالم واستقام، ثم قال: فالمراد عدل الله - عَزَّ وَجَلَّ - وإعطاؤه - سبحانه - كل شيءٍ خلقه. ثم قال: هذا المعنى مروى عن مجاهد والطبرى والأكثرين. وقال الحسن بن الفضل: معناه وشرع القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه، وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد بالميزان: ما يعرف به مقادير الأشياء، من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فمعنى {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}: خلقه مخفوضًا على الأرض، حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء، وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وعطائهم. ونرى أن المعنى الأَول هو المناسب، حتى لا يتكرر مع قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} كما أنه هو المناسب لما قبله من رفع السماء، أما ميزان الناس فلا يناسب ما قبله، والفجوة واسعة بينهما. ¬

_ (¬1) انظر تفسير روح المعانى للآلوسى، ج 9 ص 101 تفسير قوله تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فقد ورد الحديث بلفظه. (¬2) سورة الملك الآية: 3.

ومعنى قوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} وشرع الجدل في الأمر كله؛ لئلا تجوروا على الناس في أموركم المختلفة. ومعنى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، أقيموا وزنكم في بيعكم وشرائكم بالعدل، ولا تبخسوا في الكيل والميزان. {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُوالْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} المفردات: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا}: خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد. {لِلْأَنَامِ}: للإنس، أو لهم وللجن. {ذَاتُ الْأَكْمَامِ}: صاحبة الأكمام، وهي أوعية الطلع، مفردها كِمّ بكسر الكاف. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} أي: ذو التبن. {وَالرَّيْحَانُ}: هو على وزن فَعلان من لفظ الرِّيح، ويطلق على كل مشموم طيب الريح عن النبات، كما يطلق على الريحان المعروف وعلى الرزق. {آلَاءِ}: الآلاء النعم، واحدها ألى بفتح الهمز وقد يكسر، مثل مِعًى وأَمعاء.

التفسير 11 - 13: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُوالْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}: المراد بالأنام: الناس في رواية عن ابن عباس، وفي رواية أُخرى عنه وعن قتادة وابن زيد وغيرهم: الأنام: الحيوان كله - كما في مجمع البحرين. وقال الحسن: الإنس والجن. والظاهر أنها مخلوقة للإِنس والجن والحيوان والسمك، فإنهم جميعًا يعيشون فيها، وينتفعون بخيراتها، وقال صاحب القاموس: الأنام: الخلق. وقد عقب الله هذه الآية بقوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)} ففيهما تقرير للآية التي قبلها، من أن الأرض موضوعة للأنام، فقد تضمنت بعض النعم التي أعدها الله في الأرض لمنفعتهم، من فاكهة كثيرة يتفكهون بها، ونخل ذات أكمام - أي: أوعية تشتمل على الطَّلْع الذي يحوله الله إلى بلح فرطب فتمر، فيتغذون بثمارها ويتفكهون، وحَبٍّ ذي تبن وريحان، فالحب: القمح والشعير والذرة وغيرها، وهو غذاء للإنس والجن والحيوان، والتبن لغذاء الحيوان، والريحان: كل مشموم طيب الريح من النبات، منعش للنفوس كالورد والياسمين، كل ذلك وغيره أعده الله لمنفعة الأنام، فما أعظم نعم الله على خلفه وأحقه بالشكر عليها، وبذل الوسع في طاعته، ثم يخاطب الله الكافرين من الثقلين الداخلين في عموم الأَنام بقوله موبخا لهم ومنكرًا عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الفاء في قوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ} لترتيب التوبيخ والإِنكار بعدها على كفرهم بالنعم التي قبلها، مع أنها من موجبات الإيمان، أي: إذا كانت هذه نعمًا عليكم أيها الثقلان، فبأى نعم الله الذي رباكما تكفران، بإنكار كونها من نعم الله عليكما، أو إنكار دلالتها علي وجود الله ووحدانيته، أخرج ابن جرير والخطيب في تاريخه وغيرهما بسند صحيح: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: "ما لى أسمع الجن أحسن جوابًا لربها منكم؟ ما أتيت على قوله - تعالى -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربنَّا نكذِّب فلك الحمد".

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)} المفردات: {صَلْصَالٍ}: طين جاف له صلصلة - أي صوت - إذا نقر. {كَالْفَخَّارِ}: الفخار: الخزَف، وهو ما أحرق من الطين حتى تحجر. {مِنْ مَارِجٍ}: من لهب خالص، وسيأتي بسط الآراء فيه. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}: أرسل البحرين العذب والملح. {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}: رب مشرقى الشمس ومغربيها - صيفًا وشتاءً. {بَرْزَخٌ}: حاجز. {اللُّؤْلُؤُ}: صغَار الدر. {وَالْمَرْجَانُ} كبار الدُّر، وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه.

التفسير 14 - 16 - {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: الآيتان الأُوليان تمهيد لتوبيخ الثقلين على إخلالهما بموجب شكر النعمة المرتبطة بذاتى كل واحد منهما، والمراد بالإنسان: آدم - عليه السلام - وقيل الجنس الشامل لاولاده، أنهم مخلوقون من الصلصال تبعًا لأَبيهم. والصلصال: الطين اليابس الذي له صلصلة - أي: صَوْت - إذا نُقِر، وقيل: هو الطين المنتن، من صَلَّ اللحم إذا أنتن، والفخار: هو ما أحرق من الطين حتى تحجر، ويسمى الخزف. واعلم أن أصل آدم ومنشأَه هو التراب، ثم تحول التراب إلى طين، ثم إلى حمأ مسنون - أي: طين يابس منتن، ثم إلى صلصال كالفخار، ولهذا ترى منشأه يختلف باختلاف الآيات، فتراه في بعضها التراب، وفي أخرى الطين أو الحمأ المسنون أو الصلصال فلا تعارض بينها؛ لأن كلا منها يتكلم على طور من أطوار خلقه، ولا عجب في أن يكون منشأ الإنسان ما ذكر، فإن الله على كل شيءٍ قدير، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون. وجاء في الآية الثانية: أن الجانَّ خلق من مارج من نار، فالجانُّ أبو الجن، وهو إبليس كما قاله الحسن، وقال مجاهد: هو أبو الجن وليس إبليس، كما جاءَ فيها أنه خلق من مارج من نار، ولفظ (من) في قوله تعالى: {مِنْ مَارِجٍ} يشير إلى مبدأ خلقه، وفي قوله: {مِنْ نَارٍ} يبين المراد من مارج، فإن أصله من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، فيصدق على النار وغيرها، فجاء قوله: {مِنْ نَارٍ} ليبينه، ومعناه كما قال الجوهرى في الصحاح: نار لا دخان لها خلق منها الجان، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ومجاهد: أنه اللهب الذي يعلو النار، يختلط بعضه ببعض، أحمر، وأصفر، وأخضر - كما نقله القرطبى.

وقد عقب الله هاتين الآيتين باستفهام إنكارى توبيخي، وذلك في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأى نعم ربكما تكذبان أيها الثقلان؟، أتكفران بمنشأ خلقكما، أم تكفران بغيره؟. 17 - 18 - {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: المراد بالمشرقين: مشرق الشمس شتاءً وصيفًا، وبالمغربين: مَغْرِباها كذلك، وقيل: المشرقان مشرق الشمس ومشرق القمر، والمغربان كذلك، وهذه الآية كناية عن أنه - تعالى - ربها ورب ما بينها من الكائنات. والمعنى: الذي أبدع ما مرّ من النعم هو مالك المشرقين والمغربين وما بينهما، لا يشاركه في خلقها أحد، وحيث كانت المشارق والمغارب وما بينها من إبداعه - تعالى - وداخلة في ملكوته، فمن حقه أن يُعبد ولا يُجحد ولا تُكذب آلاؤُه ونعمه، ولهذا أنكر على المشركين تكذيبهم لآلائه ونعمه، ووبخهم على هذا التكذيب بقوله - جل وعلا - بعد هذه الآية -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَتكذبان بخلقه المشارق والمغارب وما بينها من الكائنات واختلاف الفصول وما يترتب عليه من المنافع والمصالح، أم تكذبان بغير ذلك؟ اللهم لا بشيء من آلائك نكذب، سبحانك ذلك الحمد. 19 - 23 - {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: قال الآلوسي في معنى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي: أرسلهما وأجراهما، من مرجت الدابة في المرعى، أي: أرسلتها فيه، أي: أرسل الله البحر الملح والبحر العذب. ونقول: إن هذا هو التفسير الموافق لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} (¬1) ولقوله: {وَمَا يَسْتَوِي ¬

_ (¬1) سورة الفرقان الآية: 53.

الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬1). أما قول الحسن: إنهما بحرا فارس والروم، فإنه مخالف لصريح الآيات المذكورة، والقرآن يفسر بعضه بعضًا. وقد ذكر الله أن هذين البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان، فأما التقاؤُهما فيكون عند مصاب الأنهار فيها، وأما البرزخ الذي بينهما فهو القدرة الإلهية التي منعت أن يبغى الماءُ الملح على العذب فيحوله إلى ملح، وأن يبغى العذب على الملح فيحوله إلى عذب، فبقى كلاهما يؤدى وظيفته التي خلق لها. وهل هذا الحاجز هو أنه - تعالى - خلق الأرض كروية، وأن الارتفاع الكروى هو الذي يمنع أن يبغى أحدهما على الآخر، ويدل على ذلك أن الشمس تشرق في أرض قبل أخرى، وتغرب في أرض قبل أخرى، بسبب هذا التكوير، فيبقى كل منهما في مكانه لا يبغي على الآخر، ولا يمنع لقاؤهما في طرفيهما من أن يبقى ما وراء هذا اللقاء حافظًا لخواصه، فتبارك الله أحسن الخالقين. ولا شك في أن جاذبية الأرض تبقى كل شيءٍ في مكانه، من جبال ورمال وإنسان وحيوان وغير ذلك، مع سرعة الأرض الخارقة في دورانها، ولو كانت الأرض مسطحة لبقيت الشمس مشرقة فيكون الوقت كله نهارًا لا ليل فيه، ولا بقي شيءٌ من البحرين محافظًا على خواصه، فإنه يندمج كل منهما في الآخر. وقيل: إن البرزخ الذي بينهما هو الأرض اليابسة التي بينهما، وحينئذ يكون المراد من لقائهما تقابلهما وتجاورهما، والذي قلناه هو المتعين، وفيه من الدلالة على قدرة الله ما فيه، ويلاحظ أنه لا توجد أرض يابسة عند مصاب الأَنهار كما زعموا، ¬

_ (¬1) سورة فاطر من الآية: 12.

وذكر الله - تعالى - أنه يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، يقول بعض المفسرين: إن اللؤلؤ صغار الدر، والمرجان كباره، ونقل ذلك عن الإِمام علي - رضي الله عنه - وقيل: عكس ذلك، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وروى عن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، وعلى هذا يكون اللؤلؤ شاملا لكباره وصغاره، وهذا هو المتعارف بين الناس. وجاء في الآية أن كليهما يخرج من البحرين الملح والعذب، مع أن المعروف هو وجودهما في الملح دون العذب، وأجاب القرطبي عن ذلك بقوله: إن العرب تجمع الجنسين ثم تخبر عن أحدهما، كقوله - تعالى -: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وإنما الرسل من الإنس دون الجن: قاله الكلبي وغيره: وقال الزجاج: قد ذكرهما الله، فإذا أخرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما، وهو كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (¬1) ولكن أجمل ذكر السبع، فكان ما في إحداهما فيهن، إلى غير ذلك مما ذكره القرطبى. والحق أنه يخرج من كليهما كما أظهره العلم الحديث، فقد جاءَ في هامش التفسير المنتخب الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية؛ تعليقًا علي قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬2) - جاء في الهامش - "أن اللؤلؤ كما يستخرج من أنواع معينة من البحر الملح، يستخرج أيضًا من أنواع أخرى صدفيات من الأنهار، فتوجد اللآلىء في المياة العذبة في انجلترا واسكتلاندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان" إلخ بالإضافة إلى مصايد اللؤلؤ البحرية المشهورة، ويدخل في ذلك ما تحمله المياه العذبة من المعادن العالية، كالماس الذي يستخرج من رواسب الأنهار الجافة المعروفة بالبرقة، ويوجد الياقوت كذلك في الرواسب النهرية. ¬

_ (¬1) سورة نوح الآيتان: 15 و16. (¬2) سورة فاطر من الآية: 12.

ومن الأحجار شبه الكريمة التي تستعمل في الزينة حجر التوباز، ويوجد في الرواسب النهرية في مواقع كثيرة ومنتشرة في البرازيل وروسيا (الأورال) وسيبريا - ثم قال: ويغلب أن يكون أصفر أو بنيًّا، إلى آخر ما جاءَ في الهامش المذكور من الأحجار الكريمة التي تستخرج من الرواسب النهرية. والمعنى الإجمالي للآيتين: أرسل الله - تعالى - البحرين الملح والعذب، وجعلهما يلتقيان في أطرافهما، وهذا الالتقاء والتمازج في الأطراف لم يجعل أحدهما يبغى على الآخر بإيصال خاصيته في داخله؛ لأنه - تعالى - جعل بينهما حاجزًا يمنع التمازج الكلى بينهما، وهذا الحاجز هو تدرج أجزاء الأرض إلى الارتفاع الكروى، وهذه الكروية مع سرعة دورانها الرهيبة تبقى كليهما في داخله محافظًا على خاصيته، ومثل ذلك كمثل الشمس تشرق في أرض قبل أُخرى وتغرب كذلك، وهذا بسبب الارتفاع الكروى الذي يحجز إشراقها أو غروبها في أرض قبل أخرى، بالإضافة إلى جاذبيتها الشديدة، فهي تجذب كل ما فوقها إليها، حتى لا يفارق مكانه بسبب سرعتها، ولو كانت غير كروية لاختلط الملح بالعذب، وأبطل كل منهما خاصية الآخر، ولأشرقت الشمس على جميع بقاعها في وقت واحد، فيبقى الزمن كله نهارًا لا ليل له، وكل ذلك بقدرة الله الذي أحسن كل شيء خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين. ومن العلماء السابقين من قال: إن الحاجز بين البحرين هو الأرض اليابسة بينهما، وجعل التقاءَهما تقاربهما، وهذا غير متيسر في كل الأَنهار، بل المشاهد هو التلاقى الامتزاجى في الأطراف، حتى لا يكون الماء العذب آسنا متغير الطعم واللون، فما قلناه أولًا هو الحق، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ... } (¬1). ويعقب الله - تعالى - هاتين الآيتين بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ممّا لكما في ذلك من المنافع، وبقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: يخرج من البحرين الملح والعذب اللؤلؤ والمرجان، على ما تقدم بيانه، فكما جعل الأرض ¬

_ (¬1) سورة فصلت من الآية: 53.

تنبت لنا الزروع والأشجار، والحب ذا العصف والريحان، جعل البحرين لنأكل منهما لحمًّا طريًّا، ونستخرج منهما حلية نزدان بها، فكل من البرِّ والبحر أساس حياتنا وزينتنا، وكل ذلك آلاء ونعم لا يمكن تكذيبها وإنكارها، فبأَيهما تكذبان أيها الثقلان. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)} المفردات: {وَلَهُ الْجَوَارِ}: وله السُّفُن - جمع جارية. {الْمُنْشَآتُ}: المرفوعات الشرع كما قال مجاهد، من أنشأه بمعني رفعه، ويدخل في هذه الجوارى السفن التي تدار بمحركات آلية، فهي له - سبحانه -. {كَالْأَعْلَامِ}: كالجبال المرتفعة، جمع علم وهو الجبل الطويل. {فَانٍ}: هالك. {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}: ويبقى ذاته، وسيأتي بيانه في موضعه. {كُلَّ يَوْمٍ}: المراد باليوم: الزمان مطلقًا، فيصدق على كل وقت ولحظة. {هُوَ فِي شَأْنٍ} أي: في أمر من الأُمور العظيمة، ويجمع على شئون.

التفسير 24 - 25 - {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: ولله من النعم على عباده السفن التي تجرى في البحر، تحمل الناس وما يتَّجرون فيه من قطر إلى قطر، ومن مكان إلى مكان، وهذه السفن منشآت - أي: مرفوعات كالجبال فوق ظهر الماء بقدرته - تعالى - فهي ملك له - جل وعلا - فهو الذي خلق ما صنعت منه، وهو الذي يجريها فوق سطح الماء ويحفظها من الغرق في رحلاتها الطويلة والقصيرة، فيسلم أهلها وتجارتهم، فهي لله خلقًا وملكًا أو تصرفا، ولا يمنع ذلك ملك الناس لها، فهو الذي أرشدهم إلى كيفية صناعتها وإجرائها في مختلف البحار، فكل أمورها ترجع إلى الله - تعالى - فهي وأهلها لله رب العالمين، فبأى نعم الله في شأن السفن الجوارى تكذبان يا معشر الثقلين. 26 - 28 - {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: الضمير في عليها يرجع إلى الأرض التي وضعها الله للأنام، والمراد من وجه الله: ذاته - جل وعلا - فإضافة لفظ "وجه" إلى لفظ "رب" إضافة بيانية، فكأنه قيل: ويبقى ربك، واستعمال الوجه بمعنى الذات مجاز مرسل، ومثل ذلك شائع في لغة العرب، وهذا هو تفسير الخلف، مَنْعًا لاعتقاد أن لله وجهًا يشبه وجه الإنسان، وأنه جزءٌ من ذاته، فإن ذلك كفر، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. أما السلف فيقولون: إن لله وجهًا لا كوجه الإنسان، فالمماثلة للخالق ممنوعة، وذهب بعض العلماء إلى تأويلات أخرى، وحسب القارئ ما تقدم. وجلالُ الله عَظَمته، وإكرامه - تعالى - هو تنزيهه عمَّا لا يليق به من الشرك وسواه من صفات النقص، كما تقول: أنا أكرمك عن كذا أي: أنزهك عنه، والله - تعالى - متصف بهما، سواءٌ أجلَّه ونزهه الناس، أم لم يفعلوا ذلك. والله - تعالى - يعدد في هذه السورة آلاءَه ونعمه، فما وجه ذكر الفناء للخلق في آلائه - تعالى -؟ والجواب: أن الفناءَ باب للبقاء والحياة الأبدية في جنة عرضها السموات

والأرض، وقال الطيبى: المراد من قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ملزوم معناها؛ لأنها كناية عن مجىء وقت الجزاء، وهو من أَجَلِّ النعم على المؤمنين، ولذلك خص الجلال والإكرام بالذكر، لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب، تبشيرًا للمؤمنين، وتحذيرًا للعباد من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، ولذلك رتب عليها بالقاء قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. 29 - 30 - {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (¬1) (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: المراد بمن في السموات والأرض: أهلهما من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن لا يعلمهم إلا الله - تعالى - فالله - سبحانه وتعالى - لم يجعل الجنة كعرض السموات والأرض لأهل هذه الأرض، بل لهم ولغيرهم من المكلفين فيهما ممن نعلمه ومن لا نعلمه، فقد جاء في القرآن أن الأرض سبع كالسموات، قال تعالى في آخر سورة الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} وكان ابن عباس يرى أن الأرضين الأخرى بها مكلفون مثلنا، كما أن سكان السماء لا نستطيع القطع بأنهم الملائكة فحسب، فقد يكون فيهن سكان عقلاء مكلفون، فلهذا جعل الله الجنة كعرض السماء والأرض، لكي تتسع للمكلفين فيهن، والله - تعالى - أعلم. والمراد من كل يوم كل وقت من الأوقات، ولحظة من اللحظات، والمراد من الشأن الشئون المختلفة، فهو مفرد في معنى الجمع، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي: أطفالًا. وشئون الله تعالى في كل لحظة لا تعد ولا تحصى، كما أن كلامه لا يعد ولا يحصى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬2)، ومن شئونه - جل وعلَا - أنه ينشيء أشخاصًا ويفنى آخرين، ويغفر ¬

_ (¬1) كل يوم هو في شأن كلام مستأنف، وكل ظرف لما بعده. (¬2) سورة لقمان من الآية: 27.

ذنوبًا ويفرج كروبًا، ويرفع أقوامًا ويخفض آخرين، ويجيب دعاء بعض الداعين، ولا يجيبه لآخرين، ويعز ويذل، ويرزق ويمنع، إلى غير ذلك من شئون الكون. وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، وروى أن عبد الله بن طاهر، دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت على ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي، قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} وقد صح أن الندم توبة، وقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأُمة، ويكون توبة في هذه الأُمة؛ لأن الله - تعالى - خص هذه الأُمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم، وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وأما قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شئون يبديها ولا يبتديها (¬1)، وأما قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فمعناه: ليس له إلاَّ ما سعى عدلًا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلًا، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوَّغ خراجه، أي: أَمر بعطائه والإنعام عليه. وبعد هذا نقول: إن تلك الأراء ما هي إلاَّ نماذج من شئونه - تعالى - وشئونه لا تحصى والمعنى الإجمالي للآيتين: يسأل الله أهل السموات وأهل الأرض عن حاجاتهم وضروراتهم؛ لأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يجيب مسألتهم، كل وقت هو - سبحانه - في شئون كثيرة لا تحصى من شئون ملكوته، ومن جملتها سماع أسئلة عباده والبت في أسئلتهم، إيجابًا أو سلبًا، فالله - سبحانه - لا يغفل عن ملكوته طرفة عين، فلهذا لا ترى نقصًا في سمواته وأرضه، فهو {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (¬2)، فبأى نعمة من نعم ربكما تكذبان أيها الثقلان، وهو الذي تسألونه فيحقق أسئلتكم. ¬

_ (¬1) أي شئون مما كتبه الله - تعالى -، يظهرها في الحين الذي قدر ظهورها فيه، ولا يبتدئ إرادتها والعلم بها. (¬2) سورة الملك الآيتان: 3 و 4.

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)} المفردات: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ}: سَنَأُخذ في جزائكم فقط أيها الإنس والجان. {أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أَن تخرجوا من جوانبها. {إِلَّا بِسُلْطَانٍ}: إلاَّ بقوة وقهر. {شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} أي: لهب من نار ونحاس مذاب يصب فوقكم. {فَلَا تَنْتَصِرَانِ}: فلا تمتنعان من العقوبة بهما، وسيأتي في الشرح بيان ما تقدم. التفسير 31 - 32 - {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: جاءَ في الآية السابقة أنه - تعالى - {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي: كل وقت هو في شئون ملكوته التي لا تحصى ولا تعد، ومن جملتها شئون الثقلين، وجاءَت هذه الآية لتبين أنه - سبحانه - سيفرغ من شئونهم الدنيوية من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير

سائر أحوالهم - سيفرغ من ذلك كله - إلى شأن واحد هو جزاؤهم يوم القيامة على أعمالهم في الدنيا. ويجوز أَن يكون المعنى: سنفرغ من شئون الدنيا كلها - ومنها شئون الثقلين فيها - إلى جزائهم في الآخرة فإنه - سبحانه - سيبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وتبرز الخلائق وتظهر بالبعث والحشر بعد موتهم وفنائهم، أي: سيحيون لجزائهم منه - تعالى -. ومعلوم من الدين بالضرورة أنه - تعالى - وقد انتهي من شئون الدنيا - فإنه معنى بشئون الآخرة - وما أكثرها - فليس شأنه في الآخرة مقصورًا على جزاء الثقلين، فلهذا تعتبر الآية من قبيل الوعيد للإنس والجن بأنه - تعالى - سيعاقبهم إن كفروا وعصوا ربهم، وبهذا المعنى قال ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقيل: إنَّ فرغ قد تكون بمعني قصد، وهو المراد هنا، ونقل هذا عن الخليل والكسائى والفراء، وعلى هذا يكون المراد حينئذ: تعلق الإرادة بجزائهم تعلقًا تنجيزيًّا. وقد عبر الله عن الإنس والجن بالثقلين لعظم شأنهما، ولذا يقال: العظيم القَدْر ثَقَلٌ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني تارك فيكم الثقلين - كتاب الله وعِتْرتى" (¬1)، وقيل: لأنهما مثقلان بالتكاليف. والمعنى الإجمالي للآيتين: سنقصد تنجيز عقابكم يوم القيامة، ونريد تحقيق ما أردناه لكما أزلًا أيها الثقلان إن لم تؤمنوا، فبأي نعمة من نعمى التي من جملتها التشبيه علي ما ستلقونه يوم القيامة، لعلكم تتقونه بإيمانكم - فبأي نعمة منها - تكذبان. 33 - 34 - {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: ¬

_ (¬1) انظر: مسند الإِمام أحمد ج 3 ص 14، والطبرانى ج 5 ص 190 حديث،4980 الحاكم ج 3 ص 148.

المعشر: الجماعة، وقد ذكر الله في الآية السابقة ما يفيد أنه سيعاقب الجن والإنس إن كفروا، وجاءت هذه الآية لتعجيزهم عن الهَرَب للتخلص من عقابه. والمعنى: يا جماعة الجن والإنس أنتم راجعون إلينا بعد الموت لعقابكم على كفركم ومعاصيكم، فإن قدرتم على الهرب والتخلص منه بالخروج من جوانب السموات والأرض، فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابى، لا تخرجون منها إلاَّ بسلطان وقوة وقهر، أنتم لا تقدرون على ذلك، عاجزون عن تحقيقه؛ لأنكم لا سلطان ولا قدرة لكم على تحقيقه، فأنتم محصورون في ملكوتى في حين لا ملكوت لغيرى حتى تخرجوا إليه - إن قدرتم - فبأَي نعمة من نعم ربكما تكذبان وتكفران، ومنها تحذيركم من العقاب لتتقوه. 35 - 36 - {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: شواظ النار: لهيبها الخالص من الدخان، وبهذا المعنى أخذ ابن عباس، وقيل: هما جميعًا، حكاه الأخفش عن بعض العرب، والنحاس: هو دخان النار على القول الأول، وقيل: هو النحاس المعروف. سمى الصُّفْر، يذاب ويصب على رءُوسهم، وروى هذا: مجاهد وقتادة، وكذا ابن عباس في رواية عنه. وهذه الآية جواب عن سؤال مقدر عن الداعى للفرار أو عمَّا يصيبهم. والمعنى: يرسل عليكما أَيها الثقلان لهب شديد من نار، كما يرسل عليكما نُحاسٌ مذاب يصب فوق رءُوس الكافرين منكما، فلا تمتنعان من العذاب، ولا تستطيعان الهرب منه لو أردتموه، فبأى نعم ربكما تكذبان، ومنها تنبيهكم إلى أنكم لا تستطيعون الفرار من العذاب إن بقيتم على كفركم.

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)} المفردات: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} أي: كالوردة في الحمرة، لامعة كالدهان، والدهان قيل أنه مفرد كالدهن، وقيل: إنه جمع دهن، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة؛ لأنها في الإعراب خبر ثان لكانت أو نعت لوردة. {يَطُوفُونَ}: يترددون. {حَمِيمٍ آنٍ}: ماءٌ شديد الحرارة. {بِالنَّوَاصِي}: جمع ناصية وهي: مقدم الرأس. 37 - 42 - {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}:

انشقاق السماء: انصداعها يوم القيامة، وبعد انشقاقها تكون حمراء كالوردة، لامعة كالزيت، أو صافية كصفائه. وجواب إذا تقديره. كان ما كان مما يعجز عنه البيان. ومعنى هذه الآيات: فإذا تصدعت السماءُ، فصارت حمراء كالورد. صافية كالزيت، يكون من الأهوال ما لا يقدر على وصفه البيان، فبأى نعمة من نعم ربكما تكذبان، ومنها ما تقدم من ذكر أهوال يوم القيامة، توعية للثقلين لحملهما على الوقاية من تلك الأهوال بالإيمان، فيوم تكون السماءُ كذلك لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، كما قال تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (¬1) لأن الله حفظها عليهم وسطرتها الملائكة في كتبهم. يعرف هؤلاء المجرمون بعلاماتهم، من سواد الوجوه وزرقة العيون، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬2)، وكما قال - سبحانه -: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} (¬3) فتأخذ الملائكة بشعور مقدم رءُوسهم وبأَقدامهم، فيقذفونهم في نار جهنم فبأى نعمة من نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين. وجعل ذلك من نعم الله عليهم من جهة أن فيه تحذيرا لهم من هذا المصير، وحملًا لهم على الإيمان. فإن قيل: إنه قد جاءَ في القرآن أنهم يُسألون، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬4)، فالجواب: أن في يوم القيامة الطويل مواقف، ففي بعضها يسألون، وفي آخر لا يسألون، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ، وحيث نفى فهو استخبار محض، يعني: أن سؤالهم لمعرفة أخبار جرائمهم لا يحصل؛ لأن الله وملائكته يعلمونها، ولأَنها مكتوبة في صحائفهم، ولسان أعضاءهم تشهد عليهم. ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآية: 78. (¬2) سورة آل عمران من الآية: 106. (¬3) سورة طه من الآية: 102. (¬4) سورة الحجر الآيتان: 92 و93.

43 - 45 - {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: {هَذِهِ جَهَنَّمُ}: مقول لقول مقدر، وهذا المقدر معطوف على قوله تعالى: {يُؤْخَذُ} أَي: ويقال للمجرمين، أو مستأنف جوابًا لسؤال مقدر، أَي: ماذا يقال لهم حينئذ، والذي يقول لهم هذا هم الملائكة الذين وكل إليهم تعذيبهم. والمعنى: يقول الملائكة الذين وكل إليهم عقابهم توبيخًا وتأنيبًا ومضاعفة لآلامهم - يقولون لهم - حين يأخذون بنواصيهم وأقدامهم ويلقونهم في النار: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون أمثالكم يترددون بينها وبين شراب شديد الحرارة يقطع أمعاءَهم، فبأى نعم ربكما تكذبان أيها المكذبون من الإنس والجن. واعتبر هذا القول نعمة من نعم الله في الدنيا للثقلين؛ لأنه ربما دعاهم إلى الإيمان ليتقوا هذا العذاب. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)}

المفردات: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: خاف قيام ربه وهيمنته عليه، فمقام: مصدر ميمى مضاف إلى الفاعل، فالقيام هنا مثله في المعنى قوله - تعالى: - {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (¬1) وللكلام بقية في شرحها. {جَنَّتَانِ}: بستانان. {أَفْنَانٍ}: جمع فَنٍّ بمعنى: نوع، أو جمع فَنَن وهو ما دقَّ ولان من الأغصان. {زَوْجَانِ}: صِنفان، وسيأتى بيان ذلك في موضعه من الشرح. {مُتَّكِئِينَ}: الاتكاءُ الاعتماد والتحمل، والتُّكَأَةُ العصا وما يتكأُ عليه، ومنه بمعنى الجلوس قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا لا آكل متكئا" (¬2) أي: جالسًا على هيئة المتمكن المتربع المستدعية لكثرة الأكل، بل كان قعوده مستوفزًا (¬3). {إِسْتَبْرَقٍ}: ديباج ثخين، والديباج الحرير المنقوش، وهو فارسيٌّ مُعَرّب. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ} أي: ما يجنى ويؤخذ من ثمار أشجارها. التفسير 46 - 49 - {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: ذكر الله فيما مضى من الآيات أحوال أهل النار، وجاءت هذه الآيات وما بعدها لتبين الآلاء والنعم التي أعدها الله لعباده المؤمنين الأبرار، وهم الذين خافوا مقام ربهم يوم الحساب. وهذه الآيات نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - روى عن ابن الزبير وابن شوذب وابن أبي حاتم عن عطاء، أنه - رضي الله عنه - ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار، وصفوف الملائكة وطى السموات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار ¬

_ (¬1) سورة الرعد من الآية: 33. (¬2) رواه البخاري. (¬3) ومن معانى الاتكاء: الاضطجاع على الجنب. انظر: لفظ "وكأ" ولفظ "ضجع" في القاموس.

الكواكب، فقال: وددت أني كنت خَضِرًا من هذه الخضر، تأتى عليَّ بهيمة فتأكلنى وأنى لم أُخلق، فنزلت: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وهي وإن نزلت بسبب خوف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فالعبرة بعموم اللفظ لكل خائف، لا بخصوص السبب. ومقام مصدر ميمى معناه: قيام، وهو مضاف إلى الفاعل، أي: ولمن خاف قيام ربه وهيمنته عليه يوم القيامة، وذلك هو المقصود من قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (¬1) وهذا المعنى مروى عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به: مكان وقوف الخلق وقيامهم عند ربهم يوم القيامة للحساب والجزاء، وإضافته للرب لأنه لا سلطان فيه لغيره - جلَّ وعلَا - وهذا المعنى موافق للمراد من قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2) أي: يوم وقوف الناس وقيامهم في أَماكنهم منتظرين قضاء رب العالمين. والجنتان لكل واحد من المتقين، إحداهما منزله ومحل زيارة أجابه، والأُخرى منزل أزواجه وخدمه، كما يفعله الرؤساء والمترفون في الدنيا، وإلى هذا ذهب الجبائى، وقيل: بستانان، أحدهما: داخل قصره والآخر: خارجه. والخوف من الله - تعالى - هو خوف من حسابه وعقابه على فعل المعاصي وترك الطاعات، فيحمله هذا الخوف على تقوى الله - تعالى - وقال مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله - تعالى - فيدع الذنب، وما قاله مجاهد مثال لباعث من بواعث الخوف من الله تعالى، فالخوف من الله - تعالى - أوسع من ذلك، فمن أطاع الله وترك المعاصي يعد خائفًا منه - جلَّ وعلَا - سواءٌ حملته النفس على معصيته فكف عنها خوفًا منه تعالى، أو لم تحمله، ولكنه دأب على طاعته وترك معصيته، خوفًا منه، حتى أصبح ذلك خلقا له. وقد وصفت الجنتان بأنهما ذواتا أفنان، وما بينهما جملة اعتراضية للتنبيه على أن التكذيب بالموصوف أو بالصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وأفنان إمّا جمع فَنٍّ بعض النوع، ¬

_ (¬1) سورة الرعد من الآية: 33. (¬2) سورة المطففين الآية: 6.

أي: صاحبتا أنواع من الأشجار والثمار، وروى ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك، وعليه قول الشاعر: ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوتُ به والعيش أخضر ناضر وإمَّا جمع فَنَن، وهو ما لَان ودق من الأغصان، كما قاله مجاهد وابن الجوزى وعلى تفسيرها بمعنى الأغصان يكون تخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا جذوع وأوراق وثمار أيضًا لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجنى الثمار، فكأنه قيل: ذواتا ثمار وظلال، فالأَغصان كناية عن ذلك. 50 - 55 - {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: المعنى: في الجنة لكل خائف مقام ربه عينان تجريان بالماء الزلال، إحداهما بالنسيم والأخرى بالسلسبيل، وروى هذا عن الحسن، وقال عطية العوفى: عينان: إحداهما من ماءٍ غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، فبأى نعم ربكما تكذبان أيها الثقلان، في الجنتين من كل فاكهة صنفان: صنف معروف لهم في الدنيا، وصنف آخر غريب لم يعرفوه، أو صنف يابس، وآخر رطب، فبأى نعم ربكما تكذبان، معتمدين على فرش من ديباج ثخين، سواءٌ كان الاعتماد جلوسًا عليها أو نومًا أو اضطجاعًا إذا كانت الفرش بطائنها من إستبرق فكيف بالظواهر، وقيل لابن عباس: بطائنها من إستبرق فما الظواهر؟ قال: ذلك مما قال - تعالى -: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (¬1). وثمر الجنتين قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولى الله - تعالى - إن شاء قائمًا وإن شاء قاعدًا وإن شاء مضطجعًا: فبأى نعم ربكما كذبان أيها الثقلان. ¬

_ (¬1) سورة السجدة من الآية: 7.

{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)} المفردت: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}: نساءٌ قصرن أبصارهن على أزواجهن، وسيأتى في الشرح مزيد بيان. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}: لم تفتض بكارتهن. التفسير 56 - 61 - {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: المعنى: في هذه الجنات المعدة لمن خافوا مقام ربهم فاتقوه وكانوا من الأبرار - فيهن - نساءٌ قاصرات أبصارهن على أزواجهن فلا ينظرن سواهم، أخرج ابن مردويه بسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في ذلك: "لا ينظرون إلا إلى أزواجهن" أو قاصرات أَبصار أزواجهن عليهن، فلا ينظرون سواهن، لم يفتض بكارتهن ولم يجامعهن إنس ولا جان قبل هؤلاء المتقين، فبأَى نعم ربكما تكذبان، كأنهن في صفائهن الياقوت وفي حمرتهن المرجان (¬1)، فبأَى نعم ربكما تكذبان، هل جزاءُ الإحسان في الطاعة إلاَّ الإحسان في الثواب، فهؤلاء ¬

_ (¬1) ذكر هذا المعنى قتادة - كما في البحر.

الخائفون أحسنوا فتركوا المعاصي وأقبلوا على الطاعات، فأحسن الله إليهم هذا الإحسان الذي تقدم بيانه. {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)} المفردات: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}: ومن تحت هاتين الجنتين السابقتين في المنزلة والقدر جنتان أُخريان. {مُدْهَامَّتَانِ}: شديدتا الخضرة. {نَضَّاخَتَانِ}: فوارتان بالماء، صيغة مبالغة من النضخ، وهو فوران الماء. التفسير 62 - 69 - {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: تحكى هذه الآيات نعيمًا آخر، لصنف آخر ممن خاف مقام ربه، فهاتان الجنتان لأصحاب اليمين، والجنتان السابقتان للسابقين - كما قاله ابن زيد والأكثرون - وقال

الحسن: الأوليان السابقين والأُخريان التابعين، وهو بذلك يجعل أصحاب اليمين من جملة السابقين، وهذا القول روى موقوفًا، وصححه الحاكم عن أبي موسى. ومعنى هذه الآيات: وأقل من الجنتين السابقتين جنتان لصنف آخر ممن خاف مقام ربه، وقد وصف الله هاتين الجنتين بأَوصاف فصل بينهما بقوله تعالى -: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إيذانًا بالإنكار والتوبيخ على تكذيب كلّ من الموصوف وصفته. وأول هذه الأوصاف أن الجنتين {مُدْهَامَّتَانِ} أي: خضراوان - كما روى عن ابن عباس وغيره، وأصل هذا التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الطبرانى وابن مردويه عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى - {مُدْهَامَّتَانِ} فقال: "خضراوان" والمراد أنهما شديدتا الخضرة من كثرة الرى، حتى أصبح لونهما يميل إلى الدهمة وهي السواد، وَوَصْف هاتين الجنتين بذلك دون السابقتين، للإيذان بأن الغالب فيهما النبات والرياحين المنبسطة على الأرض، أما وصف السابقتين بأَنهما {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ}، فللإيذان بأن الغالب فيهما الأشجار، فإنها هي التي توصف بأنهما {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} والنبات يوصف بالخضرة الشديدة. وثاني هذه الأوصاف {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي: فوارتان بالماء، قال البراءُ بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: العينان اللتان تجريان في خير من النضاختين. وثالث هذه الأوصاف {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقد عطف نخل ورمان كل فاكهة مع أنهما منها، للإيذان بفضلهما، وقيل: إنهما لم يخلصا في الدنيا للتفكه، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاءٌ، والرمان فاكهة ودواءٌ، فكأنهما جنس آخر فعطفا على الفاكهة، ولهذا قال أبو حنيفة: من حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رُمَّانًا أو رُطبا لم يحنث، وخالفه صاحباه.

{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} المفردات: {خَيْرَاتٌ}: جمع خَيْرة، وصف بني على فعلة من الخير، كما قالوا شَرَّة من الشر، قاله أبو حيان، وقال الزمخشرى: أصله خيِّرات بالتشديد فخفف: كما قال - صلى الله عليه وسلم - - هيْنُون لَيْنُون - بإسكان بدل تشديدها. {حُورٌ}: جمع حوراء، أي: بيض كما روى عن ابن عباس، وقال ابن الأثير: الحوراءُ هي شديدة بياض العين، شديدة سوادها، وزاد في القاموس أن تستدير حدقتها وترقُّ جفونها ويبيض ما حولها. {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}: مُخَدَّرات ملازمات لبيوتهن، لا يطفن في الطرق. {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ}: لم يطأهن، فهن أبكار. {رَفْرَفٍ}: قال الجبانى: هي الفُرُش المرتفعة، وسنزيده بيانًا في الشرح. {حِسَانٍ} حملا على المعنى. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ}: تنزه وتقدس.

التفسير 70 - 78 - {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}: في هذه الآيات الكريمة بقية أوصاف الجنتين الأخيرتين، وبدأت بالوصف الرابع لهما وهو {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} والتعبير بالجمع في قوله: {فِيهِنَّ} مع أنهما جنتان باعتبار جميع الجنان التي يمنحها الله لهؤلاء الأبرار. والمعنى: في هذه الجنات نساء مختارات حسان الخَلْق والخُلُق، وقال قتادة: خيرات الأخلاق حسان الوجوه. وهؤلاء الخيرات الحسان حور مقصورات في الخيام غير نساء الدنيا، وهن مخدَّرات أي: ملازمات لبيوتهن لا يطفن بالطرق، عاكفات على أزواجهن، وقد وصفهن بالحُور، وهو شدة بياض بياض العيون، وشدة سواد سوادها، مع استدارة الحدقة ورقة الجفون وبياض ما حولها. وقد وصفت هذه الحور بأنهن أبكار لم يطأهن إنْسٌ ولا جان قبل أزواجهن ممن خافوا مقام ربهم. ووصف أصحاب هذه الجنان بأنهم يعتمدون على رفرف خضر وعبقرى حسان جلوسًا أو اضطجاعًا أو نومًا، والرفرف جمع رفرفة، ولهذا وصف بخضر جمع أخضر، وهو ما يطرح على ظهر الفرش للنوم، وهذا التفسير لابن عباس وغيره، وقال الجبانى: هي الفرش المرتفعة، وقال الحسن: هي البُسُطُ.

كما يتكئون على عبقرى حسان، والعبقرى لفظ يطلق على الشيء العجيب النادر. والمراد به: الجنس ولذا وصف بالجمع. وفسره أبو عبيدة بأنه ما كلُّه وشْيٌ - أي: نقش - من البسط، وفسره مجاهد بأنه الديباج الغليظ، وقيل غير ذلك. ثم ختمت السورة بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}: أي: تعالى الله صاحب العظمة والتكريم ومنزه عن أن يكون له شريك في هذا الإنعام وفي هذا الملكوت العظيم.

سورة الواقعة

" سورة الواقعة" وهي مكيّة كما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس، وآياتها ستٌّ وتسعون نزلت بعد سورة طه. مناسبتها لما قبلها: سورة الواقعة متَّفقة مع ما قبلها [سورة الرحمن] في أنّ كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، قال بعض الأجِلّة: انظر إلى اتصال قوله - تعالى -: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بقوله - تعالى - في سورة الرحمن: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (¬1)، وأنه اقتصر في سورة الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي سورة الواقعة على ذكر رجّ الأرض، فكّأنّ السورتين لتلازمهما وتوافقهما سورة واحدة، ذُكِر في كل شيء. وقد عُكِس الترتيب فذُكِر في أوَّل سورة الواقعة ما في آخر سورة الرحمن، وفي آخر هذه ما في أول تلك، فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة. وبُدِيء في سورة الواقعة بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النّار. المعنى العام للسورة: تقْرعُ سورة الواقعة سَمْعَك، وتبعث الخوف والرهبة في نفسك حين تحدِّثك عن وقوع يوم القيامة، وما يصاحب ذلك الوقوع من أمور جسام، وأحداث عظام، حيث ترج الأرض وتزلزل زلزالها، وتتفتت الجبال تفتيتا وتصير غبارًا منتشرًا متطايرًا، وتذكر أحوال الناس يومئذ وأنواعهم فهم أصناف ثلاثة: 1 - أصحاب اليمين. ¬

_ (¬1) سورة الرحمن الآية: 37.

2 - أصحاب الشمال. 3 - والسّابقون. وتبيِّن بتفصيل ما أعدّ الله كل من نعيم مقيم جزاء عملهم الصالح، أو عذاب أليم يناسب كفرهم وعصيانهم وخروجهم عن أوامر ربهم وتكذيبهم بيوم الدين وقولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (¬1)؟ وتتحدث السورة بعد ذلك عن بعض آلاء الله ونعمه، وآثار قدرته فيما خلق وأبدع في الزرع والماء والنار، وأن ذلك يستوجب تسبيح الله وتقديسه على نعمه الغامرة، وشكره على آياته الظاهرة الباهرة، وتوضح أنّ من خلق هذا وأوْجَده إليه قادر على البعث، وإعادة الناس إلى الحياة مرة ثانية للحساب والجزاء؛ لأن الإعادة أسهل من البداءة عادة. وتذكر السورة أن الله - سبحانه - قضى بين الناس بالموت وجعل لموتهم وقتًا معينًا وهو - سبحانه - ليس بعاجز على أن يبدّل صورهم بغيرها وينشئهم خلقًا آخر في صور أخرى لا يعرفونها، وفي السورة قَسَمٌ على مكانة القرآن وعلو شأنه وتقريع للكافرين على قبح صنعهم وعجيب شأنهم، حيث وضعوا التكذيب موضع الشكر، وقابلوا النعمة بالجحود والكفر، وفي آخر السورة إجمالى ما فصلته أولًا عن أحوال الأصناف الثلاثة، وما ينتظر كل صنف من ثواب أو عقاب. وتختم السورة ببيان أن كل الذي ذكر فيها وجاءت به هو حق اليقين ولذا فسبِّح باسم ربك العظيم. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآيتان: 47 و48.

بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} المفردات: (وقعت الواقعة): حدثت وقامت القيامة. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}: لا تكون نفس مكذبة بوقوعها يوم القيامة. {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}: خافضة لأقوام رافعة لآخرين والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة. {رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا}: زلزلت وحُركت تحريكًا عظيمًا. {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}: فُتِّتت تفتيتًا شديدًا أو سيقت وسُيِّرت من بسّ الغنم إذا ساقها. {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}: فكانت غبارًا منتشرًا متفرقًا.

التفسير 1 - {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}: أي: إذا قامت وحدثت القيامة، فالواقعة من أسماء يوم القيامة كما صرَّح بذلك ابن عباس وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها لا محالة كما قال تعالى: {فيومئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (¬1) قال الزمخشرى: وقعت الواقعة هو كقولك: كانت الكائنة وحدثت الحادثة فكأنه قيل: إذا وقعت التي لابدّ من وقوعها، ووقوع الأمر نزوله، يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي: نزل ما كنت أترقب نزوله وقال الضحّاك: الواقعة الصيحة وهي النفخة الأخيرة في الصور وجواب إذا تقديره حدث كيت وكيت، وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة. 2 - {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}: اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من (الواقعة) كما قال ابن عطيَّة، أي: لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة تنكر وقوعها وتنفيه وتجحده. وقال ابن كثير: أي: ليس لوقوعها - إذا أراد الله كونها - صارف يصرفها ولا دافع يدفعها، ومعنى كاذبة كما قال محمَّد بن كعب لابدّ أن تكون. ويجوز أن تكون {كَاذِبَةٌ} مصدرًا بمعنى التكذيب وهو التثبيط أي: ليس لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة، وروى نحو ذلك: عن الحسن وقتادة وابن جرير. 3 - {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}: أي: هي خافضة رافعة ترفع أقوامًا وهم السّعداء، وتضع آخرين وهم الأشقياء، تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في الجحيم وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى ¬

_ (¬1) سورة الحاقة الآية: 15.

علِّيين إلى النعيم المقيم وإن كانوا في الدنيا وضعاء هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها فتخفض بعضًا وترفع بعضًا حيث تسقط السماء كسفا، وتنتشر الكواكب وتنكدر، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب، فالخفض والرفع إما حسى أو معنوي. 4 - {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا}: أي: إذا زلزلت الأرض واهتزت وحرِّكت تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال، وإذا بدل مما قبلها أي: تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال. 5 - {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}: أي: وفتتت الجبال تفتيتًا دقيقًا أو وسيقت وسيِّرت من بسّ الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} (¬1). 6 - {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}: أي: فصارت الجبال بسبب ذلك البس غبارًا منتشرًا، والمراد: مطلق الغبار عن الأكثرين، وقال ابن عباس: الهباء: هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخلت من كوَّة، وفي رواية أخرى عنه: أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت. قال ابن كثير: وهذه الآية كأخواتها دالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها أي: قلعها. ¬

_ (¬1) سورة النبأ الآية: 20.

{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) في جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} المفردات: {أَزْوَاجًا}: أصنافًا وأنواعًا وعن مجاهد فِرَقًا. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}: فأصحاب اليُمْن والبركة، أو ناحية اليمين. {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}: وأصحاب الشُّؤم، أو جهة الشّمال. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: عن ابن كيسان: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، ورجّحه بعضهم؛ لأنه عام يشمل كل الأنواع. التفسير 7 - {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً}: خطاب للأمة الحاضرة والأُمم السالفة كما ذهب إليه الكثير، والمعنى: وصرتم جميعًا في يوم القيامة أصنافًا وأنواعًا وفرقًا ثلاثة، قال الآلوسي: كل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو الذكر فهو زوج: قال ابن كثير: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: 1 - قوم عن يمين العرش ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين - قال السدى: هم جمهور أهل الجنة.

2 - وآخرين عن يسار العرش ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار. 3 - وطائفة يُساقون بين يديه - عزّ وجل - وهم أخصّ وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء. وهكذا قسّمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وذلك إشارة إلى قوله - تعالى - في آخر السورة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} (¬1) إلخ. 8، 9 - {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}: شروع في تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإثارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنة المفسرين أن أصحاب الميمنة مبتدأ خبره جملة ما أصحاب الميمنة والرابط الظاهر القائم مقام الضمير في قوله - تعالى -: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وكذا يقال في قوله - تعالى -: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}. والأصل في الموضعين ما هم؟ أي. أي شيء هم في حالهم وصفتهم، والمراد تعجيب السامع لشأن الفريقين في الفخامة والفظاعة، كأنه قيل: فأصحاب الميمنة هم في غاية من حسن الحال وما أعظم مكانتهم، وأصحاب المشأمة هم في نهاية سوء الحال وما أسوأ مكانتهم، واختلفوا في الفريقين: 1 - فقيل أصحاب الميمنة: أصحاب المنزلة السّنية. أصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية. 2 - وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، والذين يؤتونها بشمالهم. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة الآيتان: 88 و89.

3 - وقيل: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. 4 - وقيل: أصحاب اليمن، وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين علي أنفسم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم روى هذا عن الحسن والربيع (اهـ. بتصرف آلوسى - وكشاف). 10 - {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}: هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع أنهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، واختلف في تعيينهم فقيل. 1 - هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم، روى ذلك عن عكرمة ومقاتل. 2 - وقيل: هم من ذكروا في الحديث الذي أورده صاحب "البحر": "سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن السابقين فقال: هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم". 3 - وقيل: هم السابقون إلى الهجرة والصلوات والجهاد، وهم أهل القرآن أوهم الأنبياء. 4 - وقيل - كما نقل عن ابن كيسان - هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، ورجحه بعضهم بالعموم. وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل.

والشائع أن {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} مبتدأ وخبر والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت مكانتهم ومنزلتهم، كقولهم: أنا أبو النجم، وشعرى شعرى، وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى (اهـ. آلوسي بتصرف) ولم يقل: والسابقون ما السابقون على غرار الأولين في قوله - تعالى -: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}. إلخ لأنه جُعِل أمرًا مفروغًا منه مسلّما به مستقلًا بالمدح والتعجب. 11 - {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}: مبتدأ وخبر والجملة استئناف وبيان، أي: أولئك المقربون عند الله، الموصوفون بذلك النعت الجليل الذي استحقوه حُظوة ومكانة عنده، أو الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم، والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد - مع قرب المشار إليه - للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل. 12 - {في جَنَّاتِ النَّعِيمِ}: أي: كائنين في جنات النعيم وفائدة ذكر {في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} بعد ذكر كونهم مقرّبين للإشارة بالأول إلى اللذة الروحية، وبالثاني إلى اللذة الحسية.

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوَا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} المفردات: {ثُلَّةٌ}: المشهور أنها الجماعة كثرت أو قلت، وقال الزمخشري: الاستعمال غلب على الكثير فيها. {الْأَوَّلِينَ}: الأمم الماضية قبل الرسول، أو الأولين من صدر أمة محمَّد. {الْآخِرِينَ}: أمة محمَّد أو المتأخّرين منهم. {مَوْضُونَة}: منسوجة بالذهب بإحكام. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ}: يدور عليهم للخدمة. {بِأَكْوَابٍ}: أقداح لا عُرا لها ولا خراطيم. {وَأَبَارِيقَ}: أوانٍ لها عُرًا وخراطيم. {وَكَأْسٍ}: إناء شرب الخمر.

{مَعِينٍ}: خمر جارية من العيون. {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا يصيبهم صداع بشربها. {وَلَا يُنْزِفُونَ}: لا تذهب عقولهم بسببها. {وَحُورٌ عِينٌ}: ونساء بيض واسعات الأعين حسانها. {اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}: اللؤلؤ المستور المصون في صدفه مما يغّيره. {لَغْوَا}: كلامًا لا خير فيه. {تأْثِيمًا}: حديثًا قبيحًا يأثم قائله. التفسير 13، 14 - {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}: وقد اختلفوا في المراد بـ (الأولين والآخرين) في الآية السابقة فقيل: 1 - المراد بالأولين الأُمم الماضية، والآخرين هذه الأمة، وهذه رواية عن مجاهد والحسن واختار ابن جرير هذا القول. قال ابن كثير: وهذا الذي اختاره ابن جرير هو قول ضعيف؛ لأن الأمة المحمدية خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلاَّ أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، [والظاهر أن المقربين من أمة محمَّد أكثر من سائر الأمم] والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح وهو أن يكون المراد بقوله - تعالى -: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي: من صدر الأُمة [أمة - محمَّد - صلى الله عليه وسلم] {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي: من هذه الأمّة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السرى بن يحيى قال: قرأ الحسن: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* في جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ

{الْأَوَّلِينَ} قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة، وروى عن محمَّد بن سيرين أنه قال في قوله - تعالى -: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}. كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأُمة ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم، كل أُمة بحسبها، ولقد ثبت في الصحاح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير القرون قرنى ثم الّذين يلونهم ثم الذين يلونهم). 15، 16 - {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} (¬1) أي: ومستقرّين على سرر منسوجة بالذهب مشبّكة بالجواهر الكريمة من الدر والياقوت بإحكام، وقيل موضونة: أي: متصل بعضها ببعض متقاربة كحلقِ الدِّرع. {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي: مضجعين على السرر في راحة واستقرار وهدوء وطمأنينة متقابلة وجوههم ليس أحد وراء أحد. والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وهو وصف لهم بحسن العشرة وكمال الخلق، ورعاية الآداب، وصفاء النفوس وطهارة القلوب. 17، 18 - {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} حال آخر، أو استئناف أي: ويدور حول السابقين المقربين للخدمة ولدان مُخلدون أي: باقون أبدًا على هيئة الولدان وشكلهم وطراوتهم لا يتحوّلون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت. ¬

_ (¬1) (موضونة) من الوضن وهو نسج الدرع، استعير لمطلق النسج، أو لنسج محكم مخصوص ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها؛ لأنه موضون أي: مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي: منسوجة بالذهب. (إ. هـ آلوسى).

وقال الفراء وابن جبير: {مُخَلَّدُونَ} أي: مقرّطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل: الولدان: هم أولاد أهل الدنيا الذين ماتوا صغارًا فلم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، روي هذا عن علي - كرم الله وجهه - وعن الحسن. واشتهر أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: (أولاد الكفار خدم أهل الجنة). {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}: {بِأَكْوَابٍ} أي: ويدور عليهم الولدان بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسّرها عكرمة وهي جمع كوب. {وَأَبَارِيقَ}: جع إبريق وهو إناء له خرطوم وعروة. {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي: وبكأس ملئت خمرًا من عيون جارية كما قال ابن عباس وقتادة، أي: لم يُعصر كخمر الدنيا وقيل: {مَعِينٍ} خمر ظاهر للعين مرئية بها؛ لأنها كذلك أهنأُ وألذُّ. 19 - {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ}: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا يصيبهم بشربها صداع يصرفهم عنها، والمراد: أنه لا يلحق برءوسهم صداع لأجل خِمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، أو لا يُفرقون عنها: بمعنى: لا تقطع عنهم لذَّتهم بسبب من الأسباب. {وَلَا يُنْزِفُونَ} أي: ولا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعُنِيَ إذا ذهب عقله، فهي لذّة بلا ألم ولا سكر بخلاف شراب الدّنيا والآية الأولى {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} لبيان نفي الضرر عن الأجسام والثانية {وَلَا يُنْزِفُونَ} لبيان نفي الضرر عن العقول. 20، 21 - {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: ويطوف الولدان عليهم بما يتخيّرون من الفاكهة والثمار أي: يأخذون خيره وأفضله والمراد بما يرضونه ويعجبهم.

{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: ولحم طير مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه. والظّاهر أن الآية تشير إلى أن الولدان يطوفون بهما عليهم في الجنة، مع أنّه جاء في الآثار والأحاديث أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وأن الرجل من أهل الجنّة يشتهى الطير فيقع في يديه نضجا، وإنّما كان طواف الولدان عليهم للإكرام ولمزيد المحبّة والتّعظيم والاحترام وهذا كما يناول أحد الجالسين على مائدة جليسا معه بعض ما عليها من الفاكهة ونحوها، إن كان ذلك قريبًا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفاء به، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحال تقتضى تقديم اللحم كما في الجائع، فإن حاجته إلى اللحم أشّد من حاجته إلى الفاكهة، بل هم في حالة تقتضى تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشّبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم. قال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} هذه الآلة دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر والانتقاء لها. 23،22، 24 - {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ*جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: ولهم في الجنَّة نساء بيض واسعات العيون حسانها كأمثال اللؤلؤ المكنون، أي: المصون في صدفه، وقيّد بالمكنون أي: المستور بما يحفظه؛ لأنه أصفى وأبعد عن التغيّر. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: أي يُغطون هذا الجزاء العظيم وينالون هذا الثواب الجزيل بسبب ما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا. 25، 26 - {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا* إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}: أي: لا يسمعون في الجنة {لَغْوًا} وهو ما لا نفع فيه من الكلام أو هو القبيح منه، {وَلَا تَأْثِيمًا} أي: لا يسمعون حديثًا ينسب إلي الإثم قائله أو سامعه أن رضي به.

{إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} أي: إلاَّ أن يقول بعضهم لبعض: سلامًا سلامًا أي: نسلم سلامًا قال تعالى - تعالى -: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (¬1) قال ابن عباس: أي يحيّي بعضهم بعضًا بالسّلام، وقيل: تحييهم الملائكة أو يحيّيهم ربهم - عز وجلّ. والتكرير للدلالة على ذيوع السّلام وكثرته؛ لأن المراد سلام بعد سلام. والكلام من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم. {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} {سِدْرٍ}: السدر: شجر النبق. {مَخْضُودٍ}: قُطِع شوكه أو مثقل بالثمر. {وَطَلْحٍ}: الطلح: شجر الموز روى ذلك عن علي وغيره. {مَنْضُودٍ}: في الصحاح: المنضود: المرصوص بعضه فوق بعض. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم من الآية: 23.

{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}: وظل دائم ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت. {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}: وماء مصبوب في غير أخدود لا ينقطع عنهم. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}: المراد بالفُرُش: ما يفرش للجلوس عليه، و {مَرْفُوعَةٍ} مرتفعة القدر أو مرفوعة على الأسرَّة، وقيل: المراد بالفرش: النساءُ، ومرفوعة في المنزلة أو على الأرائك، فالرفع حسى أو معنويّ. {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: ابتدأنا خلقهن ابتداءً جديدًا من غير ولادة. {عُرُبًا}: متحببات إلى أزواجهن جمع عَروب كصبور وهي حسنة التودد لزوجها. {أتْرَابًا}: متساويات في السّن أو الأخلاق. {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}: جماعة كثيرة من سابقي هذه الأمّة. {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}: وجماعة كثيرة من متأخريها. التفسير 27 - {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}: لما ذكر الله - تعالى - مآل السابقين وهم المقربون، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار كما قال ميمون بن مهران: أصحاب اليمين منزلتهم دون السابقين المقربين فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: أيّ شيء أصحاب اليمين، وما حالهم، وكيف مآلهم؟ والجملة استئنافيّة مشعرة بالتفخيم والتعجيب من حالهم. والمعنى: وأصحاب اليمين لا يعلم أحد ما جزاءُ وثواب أصحاب اليمين، إنه شيء عظيمٌ ثم فسر ذلك وفصَّله فقال: 28 - {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}: أي: وأصحاب اليمين في سدر مخضود يتنعمون، عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد - السدر المخضود: النَّبق الذي لا شوك له، وعنهم - أيضًا - هو الموّقر والمثقل بالثمر علي أنه

من خَضَد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنِيّ الأغصان كنى به عن كثرة الثمر. ويدل على أن المخضود هو الذي خُضد أي: قطع شوكه ما أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن الله - تعالى - ينفعنا بالأعراب وسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذى صاحبها. قال: وما هي؟ قال: السِّدر فإن له شوكًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس الله يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}؟ خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وإن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين ولونًا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر. وقال أبو العالية والضّحاك: نظر المؤمنون إلى وَجّ (وهو واد بالطائف مخصب وفي اللسان وجّ موضع بالبادية) فأعجبهم سدره فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا. قال الآلوسي والظرفية في قوله - تعالى -: {فِي سِدْرٍ}: مجازية للمبالغة في تمكنهم من النعم والانتفاع بما ذكر. 29 - {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}: أي: وشجر موز قد نضَّد حمله من أسفله إلى أعلاه أي: متراكب قد رُصّ بعضه فوق بعض ليست له ساق بارزة، روى ذلك عن عليّ وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس، وأبي هريرة وأبى سعيد الخدريّ. 30 - {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}: أي: وهم كائنون في ظل ممدود أي: دائم ممتد منبسط لا يتقلص، ولا يتفاوت ولا يذهب كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وظاهر الآثار أنه ظل الأشجار. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذى وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظِلِّها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود".

31 - {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي: وماء منصب حيث شاءوا لا يحتاجون فيه إلى آنية أو رشاء. قال القرطبي: أصل السكب الصب أي: وماءٌ مصبوب يجرى الليل والنّهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم، وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلاَّ بالدلو والرَّشاء، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدانيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطِّرادها. وقيل: كأنَّه لما شبَّه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خُدَّامهم بأنواع الملاذ، شبَّه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصوَّر لأهل البوادى من نزولهم في أماكن خصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانًا بأن التَّفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادى [أهـ. آلوسى بتصرف]. 32، 33 - {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}: أي: فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا مقطوعة في أي وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء، {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أي: ولا يمنع من أرادها بشوك ولا بُعد ولا حائط، بل إذا اشتهاها العبد دَنَتْ منه حتى يأخذها قال - تعالى -: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} (¬1)، وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان. 34 - {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}: أي: وفرش مرفوعة نُضِّرت وفرشت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، فالرفع حسي كما هو الظاهر، وقال بعضهم: رفيعة القدر، على أن رفعها معنوى بمعنى شرفها، وأيًّا ما كان فالمراد بالفُرش على هذا: ما يفرش للجلوس والنوم عليه. ¬

_ (¬1) سورة الإنسان الآية: 14.

وقال أبو عبيدة: المراد بالفرش: النِّساء؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهنَّ في الأقدار والمنزلة، وقيل: على الأرائك، وأيّد إرادة النساء بقوله - تعالى -: {إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}؛ لأن الضمير في الأغلب يرجع على مذكور متقدم وليس إلاَّ الفرش، وعلى التفسير الأول أُضمر لهن؛ لأن ذكر الفُرُش وهي المضاجع دل عليهن. 35، 36، 37، 38 - {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}: المراد بأَنْشَأْنَاهُنَّ: أعَدْنا إنشاءهنّ من غير ولادة؛ لأن المخبر عنهن بذلك نساء كن في الدنيا، فقد أخرج ابن جرير والترمذي وآخرون عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المنشآت اللاتي كنّ في الدنيا عجائز عُمْشًا رُمْصًا" وأتت عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلنى الجنة فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكى فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله - تعالى - يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} الآية. وقال أبو حيان: الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بِخَلْق ويكون ذلك مخصوصًا بالحور العين، فالمعنى: إنا ابتدأناهن ابتداء جديدًا من غير ولادة ولا خلق أوّل، ومما تقدم يتبين أن المراد بقوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} اللاتى أُعيد إنشاؤهن وهن نساء الدنيا أو اللاتى ابتدئ إنشاؤهن وهن الحور العين. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}: تفسير لما تقدم أي: فصيرناهنّ أبكارًا أو فخلقناهنّ أبكارًا. {عُرُبًا أَتْرَابًا}: {عُرُبًا}: متحببات عاشقات لأزواجهنّ، واشتقاقه من أعْرب إذا بين فالعَرُوب تُعرب وتُبِين عن محبتها لزوجها بتكسر ودلّ وحسن كلام.

{أَتْرَابًا}: مستويات في سن واحدة، كأنهن شبّهن في التساوى بالترائب التي هي ضلوع الصدر وهن أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وكذا أزواجهن، يقال في النساء: أتراب، وفي الرجال: أقران، وكانت العرب تميل إلى من تجاوزت حد الصبا من النساء، وانمطَّت عن الكِبَر، أخرج الترمذيّ عن معاذ مرفوعًا: "يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدًا مُرْدًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين" والمراد بذلك تمام الشباب وكماله. وقيل: أتراب أي: مستويات في حسن الخلق وكريم الطباع، لا تباغض بينهن ولا تحاسد يألفن ويؤلفن. {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}: متعلق بأنشانا أو بجعلنا أي: إنَّا أنشاناهن إنشاء لأصحاب اليمين، أو فجعلناهن أبكارًا عُربًا أترابًا لأصحاب اليمين. والمعنى: هن مهيئات ومعدات لنعيم وتمتُّع أصحاب اليمين، وقيل: الحور العين للسابقين والأتراب العرب لأصحاب اليمين (ذكره القرطبي). 39، 40 - {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}: عاد ورجع الكلام إلي قوله - تعالى -: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}. أي: هم جماعة كثيرة من الأولين وجماعة كثيرة من الآخرين والمراد بهما: المتقدمون والمتأخرون إمّا من الأمم السابقة وهذه الأمة، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم. ولم يقل - سبحانه - في حق أصحاب اليمين - جزاء بما كانوا يعملون كما قاله - سبحانه - في حق السابقين إشارة إلى أن ما أُعطوه من جزاء كان بمحض فضل الله. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه، فلا ينافى أن يكون منهم من يعذَّب لمعاصٍ فعلها ومات غير تائب عنها، ثم يدخل الجنة ولا يمكن أن يُقال: إن المؤمن العاصى من أصحاب الشمال؛ لأّنّ صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين. (اهـ. آلوسي).

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} المفردات: {سَمُومٍ} قال الراغب: الرِّيح الحارة التي توثِّر تأثير السّم، والمراد هنا: النار ولفحها. {وَحَمِيمٍ}: وماءٍ شديد الحرارة. {يَحْمُومٍ}: دخان حار شديد السواد. {لَا بَارِدٍ}: ليس باردًا حتى يخفف حرارة الجوّ. {وَلَا كَرِيمٍ}: وليس كريمًا يعود عليهم بالنفع، بل هو حارٌّ ضارّ. {مُتْرَفِينَ}: منعمين متبعين هوى أنفسهم.

{الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} (¬1): الذنب الكبير كالشرك ونحوه. {مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}: هو يوم القيامة. {زَقُّومٍ}: شجر في النار كريه المنظر والطعم والرائحة. {الْحَمِيمِ}: الماء الذي اشتدّ غليانه وقال القرطبيّ: هو صديد أهل النّار. {الْهِيمِ}: الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وقال ابن كيسان وابن عباس: الأرض ذات الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها. {نُزُلُهُمْ}: ما يقدم للنازل إذا حضر. {يَوْمَ الدِّين}: يوم الجزاء وهو يوم القيامة. التفسير 41 - {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ}: لما ذكر - سبحانه وتعالى - أصحاب اليمين وما أعد لهم من النعيم المقيم كرامة لهم عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أي: وأصحاب الشمال لا يدرى ما هم فيه من العذاب والأهوال وسمَّاهم أصحاب الشمال؛ لأنهم - يأخذون كتبهم بشمالهم أو لأنهم يكونون في جهة الشمال. 42، 43، 44 - {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}: 42 - {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ}: في هذه الآية وما بعدها بيَّن الله - سبحانه وتعالى - ما ينال أصحاب الشمال من عذاب وما يُصيبهم من نكال وعقاب فذكر أنهم {فِي سَمُومٍ} أي: ريح حارة تؤثِّر تأثير السّم وتنفذ في المسام وتحيط بهم من كل جانب، {وَحَمِيمٍ} أي: ماءُ حار قد انتهى حره وبلغ ¬

_ (¬1) ومنه بلغ الغلام الحنث - أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب - وحنث في يمينه خلاف بَرَّ فيها وتحنث إذا تأثم.

الغاية، إذا أحرقت النار أجسامهم فَزِعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفيء به الحر فيجده حميمًا حارًّا في نهاية الحرارة والغليان، وقد مضى في سورة محمَّد قوله - تعالى -: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (¬1). 43 - {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}: أي: يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلًّا من {يَحْمُومٍ} (¬2) أي: من دخان شديد السواد والحرارة. وتسمية هذا ظلًا على التشبيه التهكمى، وعن ابن عباس اليحموم - سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقال ابن زيد: جبل أسود من النار يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء. 44 - {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}: صفتان للظّل: أي: ظل لا بارد ليخفِّف حرارة الجو كسائر الظلال ولا كريم أي: ولا نافع لمن يأوى إليه، ونفى ذلك ليزيل توهم ما في الظِّل من الاسترواح إليه. والمعنى: أنَّه ظل حار ضار ومن ذلك النفى جاء التهكم والتعريض بأنّ الذي يستأهل الظّل الذي فيه بردٌ وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم. (آلوسى - وكشاف). 45 - {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}: تعليل لابتلائهم بما ذكر من أصناف العذاب وألوان العقاب. أي: وإنما استحقوا هذه العقوبة؛ لأنهم كانوا في الدنيا مترفين، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع. ¬

_ (¬1) سورة محمَّد الآية: 15. (¬2) اليحموم في اللغة الشديد السواد وهو يفعول من لحم وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل: مأخوذ من الحمم وهو الفحم (قرطبى).

والمعنى: أنهم عذبوا؛ لأنهم كانوا في الدنيا قبل ذلك أي: قبل ما ذُكِر من العذاب متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره وارتكاب نواهيه - سبحانه عز وجل -، رقيل: المترف هو الذي أدرفته النعمة أي: أبطرته وأطغته. 46 - {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}: أي: وكانوا يصمِّمون بل ويقيمون ويداومون على الذنب العظيم والكبائر كالشرك، وقيل: الحنث اليمين الغموس، وظاهره الإطلاق ليعم كل ذلك، وما ذكر تمثيل له، وقال التاج السبكى في طبقاته: سألت الشيخ - يعنى والده تقي الدّين -: ما الحنث العظيم؟ فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله - تعالى -: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (¬1) وهو تفسير حسن؛ لأن الحنث وإن فُسِّر بالذنب مطلقًا أو العظيم منه فالمشهور استعماله في عدم البر بالقسم، وتُعُقِّب هذا بأنه يترتب عليه التكرار في قوله - تعالى -: {وَقَالُوا أَإِذَا متْنًا ... } الآية. وأجيب بأنه لا تكرار؛ لأن المراد بالأول في قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني في قوله - تعالى -: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} إلخ - وصفهم بالاستمرار على الإنكار على أنه لا محذور في تكرار ما يدل على إنكارهم البعث. 47 - {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}: أي: وكانوا يقولون منكرين للإعادة مكذبين بالبعث مستبعدين لحصوله: أئذا متنا وكان بعض أجزائنا ترابًا وبعضها عظامًا نخرة أئنا لعائدون إلى الحياة مرة أخرى ونبعث، إن هذا لمستبعد وقوعه ولا يمكن حصوله وحدوثه، وتقديم التراب؛ لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث. ¬

_ (¬1) سورة النحل من الآية: 38.

48 - {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ}: عطف على محل إن واسمها أو على الضمير المستتر في (مبعوثون) والمعنى: أو يبعث - أيضًا - آباؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا متفرقًا في الأرض - يقولون ذلك زيادة في الاستبعاد لحصول البعث يعنون أن آبائهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل. 49، 50 - {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}: أي: قل لهم يا محمد: ردًّا لإنكارهم وتحقيقا للحق: إن الأولين والآخرين من الأمم ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة، ومعنى كونه معلومًا: أنه معيّن عند الله، والميقات: ما وُقِّت به الشيء أي: حُدّ ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا مُحْرما والمعنى: لمجموعون منتهين إلى ذلك اليوم. وتقديم الأولين في قوله: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشدّ من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودى. 51، 53،52 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ*لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} عطف على {إِنَّ الْأَوَّلِينَ} داخل في حيز القول. وثم للتراخى الزمانى. أي: قل لهم: ثم إنكم أيها الكافرون الضالون عن الهدى المكذبون بالبعث أو بما يعمه وغيره، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم {لَآكِلُونَ} بعد دخول جهنم من شجر هو الزقوم وهو شجر في جهنَّم قبيح المنظر كريه الطعم والرائحة فمالئون من هذا الشجر بطونكم من شدة الجوع الذي اضطركم وقسركم على أكل مثلها مما لا يؤكل وتعافه النفوس. 54، 55 - {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}: أي: فشاربون عقيب ذلك بلا ريْث على ما تأكلون من هذا الشجر من الحميم وهو الماء الذي اشتد غليانه - وقيل صديد أهل النار - أي: يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع

الجوع الشديد عطشًا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش ويذهب الظمأ فيجدونه شديد الحرارة. {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (¬1): أي: فشاربون بكثرة كشرب الإبل العطاش أو المريضة التي لا تروى بشرب الماء فلا يكون شربكم شربًا معتادًا بل يكون مثل شرب الهيم. قال الزمخشرى: والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يفطرهم إلى أكل الزقوم فإذا أكلوا وملأوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم. وقيل {الْهِيمِ}: الرِّمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها، ومفرده هَيَام بفتح الهاء. 56 - {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}: أي: هذا الذي ذكر من ألوان العذاب الذي تقشعر منه النُّفوس وتذوب من هوله لفائف القلوب هذا الذي ذكر نزلهم يوم الدين أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة، فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدَّم للنازل مما حضر فما ظنك بما ينالهم بعد دخولهم النار، وفي جعله ألوان العذاب وأنواعه السابقة نزلًا أي: مما يكرم به النازل فيه من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قول الشاعر: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا .... جعلنا القنا والمرهفات له نُزُلا قال ابن كثير في قوله - تعالى -: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: هذا الذي وصفنا - يقصد من ألوان العذاب السابق ذكره في الآيات السابقة - هو ضيافتهم المعدة الدائمة عند ربهم يوم حسابهم كما قال - تعالى - في حق المؤمنين: ¬

_ (¬1) قال ابن عباس وغيره: الهيم: جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقمًا شديدًا يقال: إبل هيماء وناقة هيماء، كما يقال: جمل أهيم: آلوسى.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (¬1). أي: ضيافة وكرامة. {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} المفردات: {أَفَرَأَيْتُمْ}: أخبروني. {مَا تُمْنُونَ}: ما تقذفونه وتصبّونه في أرحام النساء من المنيّ. {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}: قضينا به بينكم، وكتبناه عليكم. {مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}: وما نحن بعاجزين ولا مغلوبين. {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}: على أن نبدل صوركم بغيرها ونغيِّر خلقكم. {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: نخلقكم في خلق وصور لا تعرفونها أو ننشئكم في البعث ونخلقكم على غير صوركم في الدنيا. {النَّشْأَةَ الْأُولَى}: خلقكم من نطفة ثم من علقة إلخ، أو خَلْق آدم ونشأته من تراب. ¬

_ (¬1) سورة الكهف الآية: 107.

التفسير 57 - {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ}: يقول الله - تعالي - مقررًا للمعاد ورادًّا على المكذّبين من أهل الزيغ والإلحاد الذين قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يقول - تعالى - رادًّا عليهم -: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: نحن ابتدأنا خلقكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا أليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأخرى ولذا قال: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} أي: فهلَّا تصدقون بالبعث - تحريض لهم وتحضيض على الإيمان به. وقال الزمخشريّ: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} تحضيض على التّصديق إمّا بالخّلق، لأنهم وإن كانوا مصدّقين به بدليل قوله - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬1) إلاَّ أنهم لما كان مذهبهم وسلوكهم في الحياة خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما تحضيض على التصديق بالبعث؛ لأن من خلق أوّلا لا يمتنع عليه أن يخلق ثانيًا، واختار الآلوسي الرأى الأول. 58، 59 - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}: أي: أخبرونى ما تقذفونه في أرحام النساء من المني أأنتم تقدّرونه وتتعهدونه في أطواره المختلفة وتصورونه بشرًا سويًّا تام الخلقة أم نحن المقدرون المصورون، قال القرطبي: وهذا احتجاج عليهم أي: إذا أقررتم بأنَّا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث. 60، 61 - {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: نحن قضينا به بينكم وكتبناه عليكم وقسمناه ووقتنا موت كل أحد بوقت معيّن حسبما تقتضيه مشيئتنا وما نحن بمسبوقين ولا عاجزين ولا مغلوبين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي: على أن نذهبكم ونأتى ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت من الآية: 61.

مكانكم أشباهكم من الخلق {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من الخلق والصور والأطوار التي لا تعرفونها ولا تعهدونها والمراد: ونحن قادرون على ذلك أيضًا. قال الزمخشري: المعنى إنّا لقادرون على الأمرين معًا، على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم، وقال القرطبي: المعنى: وننشئكم في البعث علي غير صوركم في الدنيا فيُجَمّل المؤمن ببياض وجهه، ويقبّح الكافر بسواد وجهه مثلا - قاله سعيد بن جبير. 62 - {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ}: أي: ولقد أيقنتم أن الله - سبحانه - أنشأكم النشأة الأولى من خلقكم من نطفة ثم من علقة ثم مضغة إلخ - وقال قتادة: وهي خلق آدم من التراب فهلّا تتذكرون أنّ من قدر عليها فهو على النشأة الأُخرى أقوى وأقدر. وفي الخبر: (عجبا كل العحب للمكذب بالنّشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدِّق بالنشاة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار" اهـ. آلوسي وقرطبى بتصرف. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)} المفردات: {مَا تَحْرُثُونَ}: ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه. {تَزْرَعُونَهُ}: تنبتونه وتروونه نباتًا يرفَّ. {حُطَامًا}: هشميًا متكسِّرًا قبل أن يبلغ نضجه.

{تَفَكَّهُونَ}: تتعجبون من سوه حاله وتندمون. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}: لمعذبون بهلاك أموالنا. {نَحْنُ مَحْرُومُونَ}: لا حظ لنا أو محرومون الرزق بالكلية. التفسير 63، 64 {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}: هذه حجّة أخرى ودليل علي البعث، أي: أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر أأنتم تنبتونه وتحصِّلونه زرعًا فيكون فيه السنبل والحبّ أم نحن نفعل ذلك، وإنما منكم البذر وشقّ الأرض؟ فهذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب الذي بُذر ليس إليكم فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وبعثهم؟ وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه - تعالى - لأنّ الحرث فِعلُهم ويجرى على اختيارهم. والزرع من فعل الله وينبت علي اختياره لا على اختيارهم - روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقولنّ أحدُكم زرعت وليقل حرثتُ فإن الزارع هو الله" (¬1). قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله - تعالى - {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}. قال الماورديّ: وتتضمن هذه الآية أمرين: أحدهما: الامتنان عليهم بأنه أنبت زرعهم حتي عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم - الثاني: البرهان الموجب للاعتبار؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشى بذره وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر ثم جعله قويًّا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أقوى عليه وأقدر. وفي هذا البرهان مقنع لذوى الفطر السليمة. 67،66،65 - {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}: ¬

_ (¬1) انظر سنن البيهقي ج 6 ص 138 باب ما يستحب من حفظ المنطق في الزرع.

{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي: نحن أنبتنا ما تحرثون بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم. {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي: هشيمًا متكسرًا متفتتا لشدة يبسه من بعد ما أنبتناه قبل استوائه واستحصاده فظللتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} أي: تتعجّبون من سوء حاله إثر مشاهدتكم له على أحسن حال - روى ذلك عن ابن عباس - وقال الحسن: تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه من غير حصول نفع ودليله قوله - تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (¬1) أو تندمون على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تتلاومون على ما فعلتم - وأصل التفكّه: التَّنقل بصنوف الفاكهة، استعير للتّنقل بألوان الحديث، وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كنى به في الآية عن التعجب أو الندم أو التلاوم كما سبق. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي: لظلتم تفكهون في المقالة وتنوعون كلامكم فيها فتقولون تارة إنا لمغرمون أي معذبون أو مهلكون بهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك، أو لملزمون الغرم بعد جهدنا فيه. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ويقولون تارة أخرى: بل نحن محرومون. أي: سيئو الحظ محدودون لا مجدودون، أو محرومون من الرزق بالكلية، كأنهم لما قالوا: إنا لمعذبون لملزمون الغرم بعد بذل الجهد أضربوا عن ذلك وقالوا: بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا وعدم حظنا، أو بل نحن محرومون الرزق بالكلية. وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّ بأرض الأنصار فقال: "ما يمنعكم من الحرث؟ " قالوا: الجدوبة، فقال: لا تفعلوا فإن الله - تعالى - يقول: أنا الزّارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الكهف من الآية: 42. (¬2) انظر تفسير القرطبي ج 17 ص220 تفسير قوله - تعالى -: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} فقد ورد الحديث بلفظه.

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} المفردات: {الْمُزْنِ}: السّحاب واحدته مُزْنة، وقيل: الأبيض منه خاصة وهو أعذب ماء. {أُجَاجًا}: مِلْحا زُعاقا مُرًّا لا يصلح لشرب ولا لزرع. {تُورُونَ}: توقدون وتقدحون الزناد لاستخراجها. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا}: أأنتم أنبتم شجرتها التي منها الزناد. {تَذْكِرَةً}: تذكيرا لنار جهنم عند رؤيتها. {وَمَتَاعًا}: ومنفعة. {لِلْمُقْوِينَ}: للذين ينْزلون القواء وهي القفر أو للمسافرين، والمراد المستمتعون بالنار والمحتاجون إليها. التفسير 68، 69، 70 - {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} أفرأيتم الماء العذب الذي تشربون منه لتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، أأنتم أنزلتموه من السّحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا، فإذا عرفتم بأنا ننزله فلم لا تشكروننى بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتى علي الإعادة؟ وتخصيص الماء بهذا الوصف {الَّذِي تَشْرَبُونَ} مع كثرة منافعه؛ لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به، وإنزال الأمطار يتطلب أحوالا جوية خاصة لا يمكن أن يسيطر عليها الإنسان سيطرة كاملة أو يوفِّرها صناعيا توفيرًا تاما بسهولة مثل هبوب تيار بارد فوق آخر ساخن ولقد حاول الإنسان استمطار السحب العابرة صناعيا، إلا أن هذه المحاولات لا تزال مجرد تجارب على أن الثابت علميا أن نجاح بعض هذه التجارب تمّ على نطاق ضيِّق جدًّا مع وجوب توافر بعض الظروف الملائمة. اهـ. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي: لو نشاء صيرناه أُجاجًا أي مِلْحا زعاقا لا يستساغ لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار، وقيل الأُجاج: كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار. {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} حث وتحضيض علي شكر جميع النعم لأنه أفيد وأشمل، دون عذوبة الماء فقط، نعم ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا شرب الماء قال: "الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتًا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا" قال ابن الأثير: إن اللام في "لجعلناه" أُدخلت في المطعوم دون المشروب؛ لأنَّ جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة، وأما المطعوم فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد، إذا وقع يكون عن سخط شديد اهـ. بتصرف. 71، 72 - {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ}: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}: أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح - من الشجر الرطب - أأنتم أنشأتم تلك الشجرة وأودعتم فيها النّار أم نحن المنشئون الخالقون؟ فإذا عرفتم قدرتي فاشكرونى ولا تنكروا قدرتي علي البعث.

73 - {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} استئناف معين لمنافع النار مبين لفوائدها أي: نحن جعلنا النار تذكيرًا لنار جهنم حيث علّقنا بها أسباب معاشهم لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به وهددوا، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصّحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءًا من نار جهنم" وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} ومنفعة لهم، والمقوون الّذين ينزلون القواء وهي القفر وتخصيص المقوين بذلك؛ لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزِّناد، وقيل {لِلْمُقْوِينَ} أي: المسافرين أو الفقراء والجائعين ولعل الأقرب أن المراد بالإقواء: الاحتياج فإن المنتفع بالنار محتاج إليها. 74 - {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}: هذا القول مرتّب علي ما عدّد من بدائع صنعه وروائع نعمه، والمراد فَدُم على التسبيح واستمر عليه بذكر اسم ربك العظيم؛ لأنه عليه السلام غير معرض عن ربه، وتعقيب الأمر بالتسببح بعد ما عدد وذكر من النعم إما أولًا: لتنزيهه سبحانه عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عزّ وجل، الكافرون بنعمه مع عظمها وكثرتها، أو ثانيًا للشكر على تلك النعم السابقة التي عدَّها ونبه عليها، أو ثالثًا للتعجب من أمرهم في غمط آلائه وآياته الظاهرة، ويحتمل الكلام عموم الخطاب كل من يتأتى خطابه ...

* {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} المفردات: {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: بمساقطها ومغاربها، وقيل غير ذلك، وسيأتي في التفسير. {مَكْنُونٍ}: مصون ومحفوظ. التفسير 75 - {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}: لما ذكر الله - سبحانه - في الآيات السابقة جزاء كل من السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وما يلقونه من نعيم تتفاوت درجاته وتتباين منازله حسب مقام كل من الطائعين، وما يناله ويعانيه أهل الشقاء وأصحاب الشمال من عذاب مقيم فيه شدة عليهم وإيلام بهم جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من كفر وعصيان ونكران ليوم يبعث الله فيه عباده للحساب، لما ذكر ذلك جاء قوله - تعالى -: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وما بعده من الآيات للتأكيد على أن القرآن الكريم الذي ذكرت فيه تلك الأمور هو من عند الله - جل شأنه - وفي قوله - تعالى -: {فَلَا أُقْسِمُ} حلف وقسم بناء على أن (لا) جاءت في النظم الكريم لتأكيد القسم وتقويته، نظير ذلك قوله - تعالى -: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (¬1) أي: ليعلم أهل الكتاب، ويتلاقى مع هذا الرأى قراءة الحسن {فَلأُقْسِمُ} نقول: هذا ما يقتضيه سياق الآيات وما عليه جمهور المفسرين، وذهب بعضهم إلى أن (لاَ) نفى وردّ ¬

_ (¬1) سورة الحديد من الآية: 29.

لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: لا صحة لما يقولون في القرآن الكريم من هذا الافتراء ثم قيل: (أقسم) وهذا منسوب إلى سعيد بن جبير وبعض النحاة. ومواقع النجوم: مساقطها ومغاربها وخصها - جلت قدرته - بالقسم لما في غروبها من ذهاب أثرها وذلك للدلالة على وجود حكيم دائم لا يتغير يؤثر فيها ظهورا وخفاءً، وقد استدل الخليل إبراهيم - عليه السلام - بأُفول الكوكب، وغروب القمر، وذهاب الشمس على وجود الصانع الذي لا يغيب ولا تأخذه سنة ولا نوم، أو أقسم - سبحانه - بها في هذا الوقت لأنه أوان قيام المتهجدين وانقطاع المتبتلين إليه - تعالى - ونزول رحمته وفيض رضوانه عليهم. وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" (¬1). والنزول كناية عن القرب والعناية. وقال جماعة منهم ابن عباس - رضي الله عنهما -: النجوم نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، فإن القرآن نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد. 76 - {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم جليل، لو تعلمون قدره ومكانته لعظمتم المقسم عليه وهو القرآن الكريم. 77 - {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: إن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حسن مرضي رفيع القدر في جنسه بين الكتب المنزلة من عند الله، كثير المنافع، أو كريم على الله أو على المؤمنين؛ لأنه كلام ربهم وشفاءُ صدورهم، وقيل: كريم لما فيه من كريم ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخاري ج 2 ص 66 كتاب التهجد بالليل، باب الدعاء والصلاة آخر الليل فقد ورد الحديث بلفظه.

الأخلاق ومعالى الأمور، وقيل: لأنه يكرّم حافظه ويعظّم قارئه، والحق أن القرآن الكريم جدير وحقيق بهذه الصفات جميعًا. 78 - {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}: أي: في كتاب جليل عظيم القدر مصون ومحفوظ من التبديل والتغيير والباطل والبهتان والمراد بقوله: {كِتَابٍ} قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو المصحف الذي بأيدينا لا يعتريه تحريف ولا زيف. 79 - {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}: أي: لا يصل ولا يفضى إلى القرآن ولا يطلع عليه ولا على ما فيه إلا المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية وهم الملائكة، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: ذاك عند رب العالمين {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} من الملائكة، أما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس، وقيل: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} من الشرك وهم المؤمنون وروى عن الإمام محمَّد الباقر وعطاء وطاوس وسالم والشافعى وغيرهم - رضي الله عنهم جميعًا - أن المراد بهم: هم المطهرون من الأحداث، والخلاف في ذلك مبسوط في كتب الفقه ولكل رأيه، فمن أراد مزيدًا فليرجع إليها. ومع هذا الاختلاف لم ينازع أحد في دلالة الآية على عظم شأن القرآن، وعظيم الاعتناء به ولا ينحصر هذا بمنع غير الطاهر من مسّه بل يكون بأشياء كثيرة تدل على تعظيمه وتوقيره. 80 - {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: أي: القرآن الكريم منزل من لدن رب العالمين فهو - سبحانه - هو الذي ربّاهم ورعاهم وبلغ بهم الغاية خَلْقًا وإبداعًا. وليس القرآن العظيم كما يقولون ويزعمون أنه من عند غير الله، وأنه سحر وشعر وكهانة، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، والكفار والمشركون قد أقروا بذلك وعلموه ولكنهم ينكرونه كبرًا وعنادًا كما قال - تعالى -: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية: 33.

ووصف القرآن بقوله: {تَنْزِيلٌ} لأنه نزل منجمًا مفرقًا من بين سائر الكتب المنزلة من عند الله - تعالى - فإنها قد نزلت دفعة واحدة ولقد جرى هذا اللفظ {تَنْزِيلٌ} مجرى أسماء القرآن وأطلق عليه فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل يريدون به القرآن الكريم. {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} المفردات: {مُدْهِنُونَ}: متهاونون به كما يدَّهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به (¬1). التفسير 81 - {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}: أي: أتعرضون فبهذا القرآن الكريم أنتم متهاونون كمن يتهاون في الأمر ويلين فيه استهانة به وحطًّا من شأنه، وعن ابن عباس والزجاج {مُدْهِنُونَ}: مكذبون. 82 - {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}: أي: وتجعلون جزاء رزق الله لكم وتفضله عليكم بنعمه التي لا تحصى ولا تعد أنكم تكفرون بربكم وتكذبون القرآن الناطق بأن الله هو الذي أغاثكم، وأنزل ¬

_ (¬1) وأصل الادهان: جعل الأديم (الجلد) ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن حتى يلين.

عليكم المطر فأنبت لكم به الزرع وأدرَّ به الضرع، وأطفأ ظمأكم، أحياكم به كما أحيا الأرض بعد موتها، وتنسبون ما حل بكم من عظيم فيضه إلى النجوم والأنواء فتقولون: مطرنا بنوء كذا (¬1). أخرج البخاري ومسلم وغيرهما: عن زيد بن خالد الجهني قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح في الحديبية في إثر سماء (بعد مطر) وكانت من الليل، فلما سلم أقبل علينا فقال: "هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: (ما أنعمت على عبادى نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، فأما من آمن بي وحمدنى على سقياى فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي). {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} المفردات: {الْحُلْقُومَ}: تجويف خلف تجويف الفم (¬2). {غَيْر مَدِينِينَ}: غير مربوبين لله من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم وقيل: غير ذلك وسيأتي. ¬

_ (¬1) النوء: سقوط نجم في المغرب وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق. إ هـ قاموس. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل إلى الطالع؛ لأنه في سلطانه، نهى الإِسلام عن ذلك؛ لأن ذلك شأن الله وحده. (¬2) وفيه ست فتحات، فتحة الفم الخلفية، وفتحتا المنخربن، وفتحتا الأذنين، وفتحة الحنجرة وهي مجرى الطعام والشراب والنفس - من المعجم الوجيز - مجمع اللغة العربية.

التفسير 83، 84 - {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}: الضمير في قوله - تعالى -: {بَلَغَتِ} للروح ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى معروف وواضح ونظيره قول حاتم الطائى: أماويّ ما يغنى الثراءُ عن الغنى .... إذا حشرجت (¬1) يومًا وضاق بها الصدر والروح - كما ذهب سلف هذه الأمة المحمدية - جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد، وهو حيّ بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام. {فَلَوْلَا} هذا حث وتخضيض أريد به التبكيت والتعجيز أي: فهلاّ إذا بلغت ووصلت الروح إلى حلقوم ذلك الذي حان حينه، ودنا أجله، وهو يجرد بنفسه، وأنتم أيها الحاضرون حوله في هذا الوقت تشاهدون ما يعانيه من سكرات الموت، وما يقاسيه من غمراته. 85 - {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}: أي: ونحن بعلمنا وقدرتنا أو بملائكتنا الموكلين بذلك أقرب إلى ذلك المحتضر في كل هذا منكم حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تشاهدونه من آثار الشدة النازلة به من غير أن تقفوا على حقيقتها وكيفيتها وأسبابها ولا تقدروا على دفعها بما ينفع مع تعطفكم وشفقتكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك. 87،86 - {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أي: فهلاّ إن كنتم - كما تزعمون - غير مربوبين لله وغير مخلوقين له ولستم في قهره وسلطانه، أو غير مجزيين ولا محاسبين بأعمالكم يوم القيامة، وذلك بإنكاركم البعث فهلاّ {تَرْجِعُونَهَا} أي: ترجعون الروح إلى جسدها وتعيدون إليه الحياة كاملة {إِنْ كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) فالضمير في حشرجت يرجع إلى الروح وهي مفهومة من الكلام.

صَادِقِينَ} في دعواكم أنكم غير مربوبين أو لا محاسبين ولا مبعوثين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان. ولن تستطيعوا ذلك فبطل زعمكم. {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} المفردات: {فَرَوْحٌ}: الرَّوْح - بفتع الراء - الرحمة أو الاستراحة. {وَرَيْحَانٌ}: الريحان: كل مشموم طيب من النبات. {فَنُزُلٌ} النزول: ما يُعد ويُقدم للضيف من الزاد. {حَمِيمٍ}: ماء شديد الحرارة. {تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}: إدخال في النار ومقاساة لألوان عذابها. {حَقُّ الْيَقِينِ}: عين اليقين ونفسه الذي لا مرية فيه. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ}: فنزه ربك عما لا يليق به.

التفسير 88، 89 - {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}: هذا شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات وما ينتظره من ثواب أو عقاب إثر بيان حاله عند الوفاة وما لاقاه من سكرات الموت وشدائده. {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: فأما إن كان المتوفى من السابقين من الأزواج الثلاثة الذين ورد ذكرهم في أول السورة فله استراحة من الدنيا وعنائها وكدرها، أو له رحمة واسعة من الله - تعالى - وله ريحان يتمتع برائحته الطيبة، فهو في هناءة بال، وسعة فضل ورحمة ومكان عبق بأريج عطر يفوح شذاه وينتشر عَرْفه، ومقره في الجنان يتمتع فيها ويسعد. 90، 91 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}: أي: وأما إن كان هذا المتوفى من أصحاب اليمين وهم أهل اليمن والبركة والسلامة في آخرتهم، وأصحاب المنزلة الجليلة عند ربهم فيقال له: سلامٌ لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة من قبل الله - تعالى - تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين وذلك عند موته، وقيل: عند بعثه يوم القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها، ويحتمل أنه يسلم عليه في هذه المواطن كلها، ويكون ذلك إكرامًا بعد إكرام. 93،92، 94 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}: أي: أما إن كان المتوفى من المكذبين بالبعث المنكرين له، الضالين الذين زلوا وبعدوا عن الهدى وضاعوا وتاهوا في دروب الهوى والمعاصي ونأوا عن الحق فجزاؤهم أن يقدم لهم الماء المتناهى في الحرارة - على سبيل الإهانة لهم والتنكيل بهم والسخرية منهم - يشربونه بعد أكل الزقوم يصهر به ما في بطونهم ولهم مع ذلك إدخال وإقامة وخلود في النار يذوقون سعيرها ويقاسون ألوان عذابها.

96،95 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}: أي: إن ما ذكر في تلك السورة وقصصناه عليك لهو محض اليقين وخالصه، وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدًا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن فأمّا المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأمّا الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}: هذا ترتيب (¬1)، أمر بالتسبيح؛ لأن ما ورد في هذه السورة الكريمة يُوجب أن يُنَزّه الله - تعالى - عما لا يليق مما ينسبه الكفار إليه، سواءٌ كان ذلك منهم قولًا أو عملًا أو حالًا {تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا}. أخرج الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه، وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" والله أعلم. ¬

_ (¬1) كما تشير إليه الفاء في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ}.

سورة الحديد

" سورة الحديد" هذه السورة الكريمة من السور المدنية وآياتها تسع وعشرون آية سبب التسمية: وسميت بهذا الاسم لذكر الحديد فيها، وهو ذو أثر عظيم في حياة الناس جميعًا حاضرهم وباديهم في سلمهم وحربهم، فعليه تقوم المصانع التي تمد الإنسان بما يحتاجه في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وبه يدافع عن وطنه وحرماته فمنه تصنع الأسلحة البرية والبحرية والجوية إلى غير ذلك من أنوع القوة والبأْس وشتى المنافع الجليلة للبشرية: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. مناسبتها لما قبلها: إن سورة الواقعة ختمت بطلب التسبيح والتنزيه لله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذه السورة بدئت بالتسبيح {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فكان أول سورة الحديد واقع مرقع التعليل لما في آخر سورة الواقعة فكأنه قيل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}؛ لأنه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ما جاء في فضلها مع أخواتها: أخرج الإِمام أحمد والترمذى وحسنه النسانى وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد". بعض مقاصد السورة: 1 - تحدثت السورة في أولها عن أن الله - تعالى - تدين له المخلوقات جميعًا، وتسبح بحمده، وتنطق بلسان الحال أو بلسان المقال بعظمته وجلاله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.

2 - ذكرت بعضًا من أسمائه - تعالى - التي تدل علي تفرده وتوحده، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وأنه الظاهر بقدرته وآثاره، الباطن الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأنه له ملك السموات والأرض خلقًا وإبداعًا، وأنه العليم بكل ما يلج في الأرض، ويعلم كذلك ما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وأن الأمور كلها راجعة إليه وحده {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. 3 - تدعو السورة الكريمة إلى الإيمان بالله ورسوله، وتنعى علي الكافربن عدم الإيمان مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ويذ كرهم بما أخذه الله علي عباده من المواثيق: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} فضلًا عمَّا لهم من عقول بها يميزون الصحيح عن الفاسد. 4 - كما تحدثت عن طلب الإنفاق والحث عليه والبذل في سبيل الله {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. 5 - تعرضت السورة لذكر الفريقين: فريق الجنة، وفريق السعير. فأما الفريق الأول فيسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ليهديهم الصراط المستقيم - فيدخلون الجنة. أما الفريق الضال فإنه لا نور له ويحال بينه وبين نور المؤمنين فلا يستطيع اللحاق بهم ويسخر منهم فيقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} فلا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بعمل المؤمنين حتى يلحقوا بهم. 6 - مثلت السورة الكريمة الدنيا وما فيها من متاع زائل ولهو ولعب وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، مثلتها بالزرع الذي سقاه المطر الوابل حتى نضر وأينع وأُعجب به الزُّرَّاع ثم يصيبه الذبول والضمور حتى يصير هشيمًا تذروه الرياح، وكذلك أمر الدنيا تتزين وتأخذ زخرفها حتى يظن أهلها أنهم قادرون عليها فيأتيها أمر الله ليلًا أو نهارًا بالفناء فتصير كالزرع المحصود الذي لم يكن موجودًا بالأمس.

بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)} المفردات: {سَبَّحَ لِلَّهِ}: نزَّه الله عما لا يليق به (¬1). {الْأَوَّلُ}: الذي كان قبل كل شيء. {الْآخِرُ}: الباقي بعد فناء كل شيء. ¬

_ (¬1) قال الزمخشرى: أصله التعدى بنفسه؛ لأن معنى سبّحته: بعدته عن السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد.

{الظَّاهِرُ}: الذي يعرف بالأدلة الدالة عليه. {الْبَاطِنُ}: الذي لا تدرك حقيقته ولا تحوم العقول حوله. {يَلِجُ}: يدخل. {يَعْرُجُ}: يصعد. {يُولِجُ}: يُدخل. التفسير 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: التسبيح: هو تنزيه الله - تعالى - اعتقادًا وقولًا وعملًا عمّا لا يليق بجنابه - سبحانه - وأسند التسبيح إلى ما في السموات والأرض؛ ليعم جميع ما فيهما من الموجودات عقلاء وغيرهم فتسبيح العقلاء يكون بلسان المقال، فإنهم ينزهونه ويقدسونه بألسنتم كما ينزهونه - بقلوبهم وأعمالهم، أما بالنسبة لغير العقلاء فإن تسبيحهم يكون بلسان الحال أي: إن حدوث هذه الموجودات على ما هي عليه من إبداع وإتقان يدل على الصانع الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وذهب بعضهم إلى أن التسبيح على حقيقته في الجميع العاقل وغيره، وأن كل مخلوق يسبِّحه تسبيحًا قوليًّا مستدلين على ذلك بقوله - تعالى -: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (¬1). وافتتحت سورة الإسراء بالمصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} ... " وبعض السور بالفعل الماضي {سَبَّحَ} كسورة الحديد، وسورة الحشر وغيرهما، وبعضها بالفعل المضارع {يُسَبِّحُ} كسورة الجمعة، والتغابن، وبعضها بفعل الأمر {سَبِّحْ} كسورة الأعلى ليشعر استيعاب هذه الكلمة لجميع ما تدل عليه من المصدر والفعل بأن المخلوقات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته - سبحانه وتعالى - في كل الأزمان قولًا وفعلًا، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء من الآية: 44.

طوعًا وكرهًا، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: القادر الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء، فهو - سبحانه - لا نظير له ولا مثيل، {الْحَكِيمُ} أي: الذي لا يفعل إلاَّ ما تقتضيه الحكمة، ولعزته ينتقم من المكلف الذي لا يسبحه عنادًا، ولحكمته يجازى من قدَّسه ونزهه طواعية وانقيادًا. 2 - {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: أي: له - سبحانه - لا لغيره ملك السموات والأرض ملكًا حقيقيًّا أبديًّا غير حادث، ولا زائل، أما ملك غيره فهو موقوت بزمان مرهون بوقت يحدث بعد أن لم يكن، ويزول مهما امتد به الزمن، وهو - جل شأنه - يحيى الأشياء من العدم المحض، ويميت كل شيء ويبقى وجهه الكريم وحده قال - تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1). وهو - تعالت قدرته - مقتدر ومتمكن من كل شيء ممّا نعلم ومما لا نعلم، لا يعجزه أمر، ولا يشغله شأن عن شأن. 3 - {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: أي: هو وحده {الْأَوَّلُ} بلا ابتداء، القديم الذي كان من قبل كل شيء، فهو الموجد والمحدث للموجودات، وهو {الْآخِرُ} بلا انتهاء، الباقي - سبحانه - بعد فناء كل شيء، {الظَّاهِرُ} بالأدلة الدالة عليه من خلق وإبداع {الْبَاطِنُ} الذي لا تدرك حقيقته ولا تحوم حوله العقول، ولا يعلم ذاته إلا هو وحده - تبارك وتعالى - والواو الأُولى بين {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} تدل على أنه - سبحانه - الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والواو التي بين {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} للدلالة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، أما الواو الوسطى الواقعة بين {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} و {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فتدل على أنه هو الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأُخْرَيَيْن، فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن، جامع للظهور بالأدلة، والخفاء فلا يدرك بالحواس (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الرحمن الآيتان: 26 و27. (¬2) الكشاف بتصرف.

وختمت الآية وذيلت بقوله - تعالى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ لئلا يتوهم أن خفاءه - تعالى - عن الأشياء يستلزم خفاء الأشياء عنه - عَزَّ وَجَلَّ - ولكن ليس الأمر كذلك، بل هو - لا غيره - عالم كمال العلم وتمامه بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون. 4 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: أي: هو- جلت قدرته - وَحدْهُ الذّي أوْجَد السّمَواَتِ والأرض وما فيهن في سِتَّة أوقات أو مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ولو شاء - سبحانه - لخلقها في طرفة عين {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، قال الإِمام مالك - رحمه الله -: الاستواءُ معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال الإِمام أحمد - رحمه الله -: أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل، فلا يقال: كيف؟ ولم؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حدٍّ ولا صفة يبلغها واصف أو يحدها حادّ. هذا هو مذهب سلف هذه الأُمة، أما مذهب الخلف فيؤولون الاستواء بالاستيلاء. ومذهب السلف - كما يقولون - أسلم، ومذهب الخلف أحكم ولكل وجهته. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: هو- سبحانه - يعلم علما لا يدانيه علم بما يدخل في الأرض من القطر، والبذر، والحشرات، والهوام، والكنوز، والموتى، وغيرها يعلمه علمًا تفصيليًّا محيطًا ويعلم - كذلك - ما يخرج منها من نبات ونفائس ومعادن ونحوها مما تحويه الأرض وتضمه في أثنائها {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: ويعلم - جلت عظمته - ما ينزل من السماء من ملائكة وشهب ومطر ورحمات أو نوازل ويعلم - أيضًا - ما يعرج فيها ويصعد إليها من كلم طيب ودعوات وعبادات أو ذرات البخار أو جن يسترق السمع أو أرواح تصعد إلى بارئها أو ملائكة ترفع أعمال العباد إلى مبدئها وخالقها قال - تعالى -: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (¬1)، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي: وهو - تعالى - مع خلقه جميعًا ¬

_ (¬1) سورة الملك من الآية: 14.

بعلمه وقدرته وتدبيره وقيوميَّته وذلك في كل أحوالهم وشتى شئونهم قال - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1)، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: وهو - عز شأنه - بما تعملون وما تدعون وتتركون رقيب عليكم شهيد على أعماكم حيث كنتم وأين كنتم محيط بسركم وجهركم فيجازيكم على ما يصدر منكم. 5 - {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: هذا تأكيد لما سبق في أول السورة، وتمهيد للتذكير بالبعث حيث ورد بعده قوله - تعالى -: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: له - لا سواه - ملك السموات والأرض في الدنيا وإليه - وحده لا لغيره - جل وعلا - يصير أمر الخلائق في الآخرة بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات. 6 - {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: أي: أنه - سبحانه - يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، ويدخل النهار في الليل بأن ينقص من النهار ويزيد في الليل؛ لأن حكمته تقتضي ذلك لصلاح الناس في أمر معاشهم وللدلالة - على كمال قدرته، وهو عليمٌ ومحيطٌ إحاطة تامة بما تكنه وتخفيه الصدور من أسرار وإن دقت وخفيت، ولا يقدر أحد سواه علي معرفة حقيقتها وكنهها، ومن كان على هذه الصفات الجليلة فلا يستقيم أن يُعبد أحدٌ سواه. ¬

_ (¬1) سورة يونس من الآية: 61.

{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} المفردات: {مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}: خلفاء في التصرف فيه أو خلفاء عمن كان قبلكم. {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}: قال مجاهد: هو الميثاق الأول وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركَّب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر فيها. {قَرْضًا حَسَنًا}: القرض ما أُخرج لاسترداد بدله، والحسن ما كان بإخلاص بلا مَنّ ولا أذى.

التفسير 7 - {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}: أي: صدقوا واعتقدوا بأن الله ربكم وأن محمدا رسولكم؛ لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال الصالحة، وأنفقوا وتصدقوا من أموال الله التي في أيديكم وقد أعطاكم وموّلكم إياها تستمتعون بها، وجعلكم خلفاءَ في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلاَّ بمنزلة الوكلاء والنواب، ويسهل عليكم الإنفاق والبذل منها في سبيل الله كما يسهل ويهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو أنه - سبحانه - جعلكم في هذا المال خلفاء من الذين كانوا قبلكم من الوالدين والأقارب والأزواج، وورثكم إيَّاه فاعتبروا بحالهم، حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى الذين بعدكم، فلا تبخلوا وانفعوا - أنفسكم بالإنفاق منها. قال الإِمام أحمد: حدثنا محمَّد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "ألهاكُمُ التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيْتَ، أو لبسْتَ فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" ورواه مسلم وزاد "وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُهُ للناس". {فالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي: فالذين صدقوا وآمنوا بربهم ورسوله وأنفقوا مما منحهم الله وجعلهم مستخلفين فيه، لهم أجرٌ عظيم جليل في منزلته، وكبير في مقداره وهو الجنة، ويا له من جزاء حسن كبير. 8 - {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: جاء هذا القول الكريم للإنكار عليهم وتوبيخهم على ترك الإيمان أي: وأيّ عذر لكم في ترك الإيمان بالله، والحال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويبينه لكم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} وهو ما كان من إخراجهم من

ظهر آدم وأشهدهم بأنه - سبحانه - ربهم فشهدوا كما قاله البغوى، وروى عن مجاهد وعطاء والكلبى وقتادة قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (¬1) وهو العهد المأخوذ يوم الذَّر، أو قد نصب لكم الأدلة التي منها ما هو موجود في أنفسكم قال - تعالى -: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كما نشر - سبحانه - الآيات في الآفاق ومكنكم من النظر فيها بما أودع فيكم من عقول. وفي كلِّ شيء لهُ آية ..... تدل على أنه الواحد {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم مصدقين ومؤمنين في وقت من الأوقات، أو لموجب ما فالآن أحرى بكم وأجدر أن تؤمنوا لقيام الأدلة والبراهين عليكم. 9 - {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}: هذا ذكرٌ لبعض الأدلة والآيات الدالة علي وجوب الايمان به، أي: هو - وحده - الذي ينزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - معجزات ظاهرات ودلائل واضحات أكبرها وأعظمها القرآن الكريم ليخرجكم - جلت قدرته - من ظلمات الكفر وحمأة الشرك والضلال إلى نور الإيمان والهدى أو ليخرجكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما يرشدكم ويبلغكم ما أنزله الله عليه من الوحى، وإنه - سبحانه - في إنزاله الكتب وإرساله الرسل - هداية كم - لهو - تقدست ذاته - شديد الرأفة عظيم الرحمة بكم حيث يسّر وأتاح لكم طريق الخلود في الجنة ساحة رضوانه ومستقر رحماته. 10 - {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: هذا تأنيب وتوبيخ لهم على تركهم الإنفاق والبذل في كل خير بعد أن طلبه الله منهم وحثهم عليه وذلك بعد أن أنكر عليهم ترك الإيمان به - سبحانه - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سورة الأعراف من الآية: 172.

أي: أيُّ سبب لديكم منعكم من إنفاق الأموال في سبيل الله - تعالى - والشأن فيها أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء، فأنففوا ولا تخشوا فقرًا أو إقلالا، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض وأنها كلها باقية له - عز وجل - فهو مهلككم فوارث أموالكم. {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} هذا بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق، ذلك بعد أن أبان - قبل - أن للمنفقين جميعًا أجرا كبيرا، وجاء هذا للحث والترغيب في تحرى ما هو أفضل وأكثر ثوابًا من الأعمال، أي: لا يتساوى في الفضل والأجر من أنفق ماله، وبذل نفسه في سبيل الله قبل فتح مكة، أو قبل صلح الحديبية، مع من أنفق وقاتل بعد الفتح {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي: أولئك الذين كتب الله لهم السبق في الإنفاق والقتال أرفع منزلة وأجل قدرا من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وإنما كان أولئك أعظم درجة من هؤلاء؛ لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند شدة الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين آنذاك وكثرة أعدائهم، فضلًا عن أنه ليس هناك ما ترغب فيه النفوس من الحصول على المغانم والأسلاب، فكان ذلك أنفع وأشق علي النفس، وفاعله أقوى يقينًا بما عند الله - تعالى - وأعظم رغبة فيه، وليس الأمر كذلك بالنسبة للذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: وكل فريق من الفريقين من أنفق وقاتل قبل الفتح أو بعده بشَّره الله ووعده الحسني، قيل: هي الجنة، وقيل: هي أعم من ذلك كالنصر والغنيمة في الدنيا. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: وهو - سبحانه - بما تعملونه ظاهرا وباطنًا خيرًا أو شرًّا خبير به وعليم يجازيكم علي حسبه، فهو وعد للمؤمنين الطائعين ووعيد للكافرين والمذنبين. وهذه الآية - على ما ذكره الواحدى عن الكلبى - نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وهي تشمل غير ممن اتصف بذلك؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

ولذلك قال الله - تعالى -: {أُولَئِكَ} إلى تدل على الجمع نعم هو أكمل من سواه فإنه أنفق قبل الهجرة وقبل الفتح جميع ماله وبذل نفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذا قال - صلى الله عليه وسلم - "ليس أحدٌ أمَنَّ عليَّ بصحبته من أبي بكر" - فرضي الله عنه وأرضاه -. 11 - {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}: هذا استفهام أُريد به الحث والندب إلى الإنفاق في سبيل الله، والقرض الحسن: هو البذل بإخلاص، وتحرى أكرم المال، وأفضل الجهات، وفي التعبير بالقرض ما يشعر بأنه عائد إلى صاحبه؛ لأنه أخرج لاسترداد البدل، أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة ما بين السبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف وله مع هذا أجر عظيم وجزاء جميل، حقيق أن يتنافس فيه المتنافسون؛ لأنه مع زيادة مقداره هو - أيضًا - رفيع في منزلته وهو الجنة. وعن عبد الله، بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصارى: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح؟ قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت، رب هذا الحائط، وله حائط (بستان) فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجى فقد أقرضته ربي - عز وجل - وفي رواية قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كم من عِذْق رَدَاح (¬1) في الجنة لأبي الدحداح) وفي لفظ (رُبَّ نخلةٍ مدلاةٍ عروقها من دُرٍّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة (¬2). ¬

_ (¬1) العذق: هو من التمر كالعنقود من العنب، الرداح: المثقل بثمره. (¬2) انظر مسند الإِمام أحمد ج 3 ص 146 فقد ورد الحديث بنحوه.

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} المفردات: {يَسْعَى}: يمضي مسرعًا. {انْظُرُونَا}: انتظرونا أو أمهلونا. {نَقْتَبِسْ}: الاقتباس طلب القبس وهو الجذوة من النار، والمراد: نستضيء ونهتد بنوركم. {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} (¬1): أوقعتموها في بلية وعذاب أو أهلكتموها بالنفاق. ¬

_ (¬1) الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار. (الراغب الأصفهانى).

{وَتَرَبَّصْتُمْ}: وانتظرتم بالرسول وبالمؤمنين شرًّا. {وَارْتَبْتُمْ}: وشككتم في أمر الدين. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}: وخدعتكم الأباطيل والآمال الكاذبة. {فِدْيَةٌ}: فداء، وهو ما يبذل لحفظ النفس عند النائبة والمصيبة. {مَأْوَاكُمُ النَّارُ}: مقامكم ومنزلكم. {هِيَ مَوْلَاكُمْ}: هي حق وأولى بكم، أو هي التي تتولى أمركم. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: وساءت النار مرجعًا ومصيرًا لكم. التفسير 12 - {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ... } إِلخ الآية: الرؤية في قوله - تعالى -: {تَرَى} بصرية، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من تتأتى منه الرؤية، أي: اذكر لهم - يا محمد - ذلك تفخيمًا لشأن هذا اليوم وزيادة في إدخال الإيناس والاطمئنان على قلوب المؤمنين ليفرحوا بما أعد لهم من السعادة والفوز، اذكر لهم يوم ترى أنوار المؤمنين والمومنات تتلألأ من أمامهم وعن أيمانهم ليستضيئوا بها على الصراط. أخرج ابن أبي شيبة وغيره والحاكم وصححه عن ابن مسعود، أنه قال: "يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورًا من نوره على إبهامه يُطْفأُ مرة ويَقِد أُخرى"، وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقيل: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، المراد: أنه يكون لهم في جهتين جهة الأمام وجهة اليمين؛ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، أما الأشقياء فإنهم يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، وهل هذا النور خاص بمؤمني الأُمة الإِسلامية أو هو عام لكل مؤمن؟ والظاهر أَنه عام, إلَّا أَنه يمكن أن يقال:

أن ما يكون من النور للأُمة الإِسلامية أَجل وأبهى من النور الذي يكون لغيرها، {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَي: بسبب إيمانهم تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: لكم البشارة اليوم بدخول جنات تجرى من تحتها أنهار من ماءٍ غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين ليست برديئة الطعم، ولا بكريهة المذاق، ولا تذهب بعقولهم كخمر الدنيا، وأنهار من عسل مصفًّى، وهم في هذه الجنات خالدون فيها خلودًا أبديًّا {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: وهذا الجزاء الذي سألوه وظفروا به هو الفوز الذي لا فوز بعده فلا يعظمه ظفر؛ لأَنه سبب السعادة الأبدية {في جناتٍ ونَهَرٍ * في مقعد صدق عند مليك مُقْتَدِرٍ} (¬1). 13 - {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}: أَي: اذكر لهم ذلك اليوم الذي يعترى فيه المنافقين الخزى والهوان، وقد فاز فيه المؤمنون وظفروا بالنور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وفي هذه المقالبة التي تبين ما عليه كل من الفريقين ما يشعر بتعظيم شأْن المؤمنين، وبالحط والمهانة للمنافقين إذ يقولون في هذا الموقف العصيب للذين آمنوا: انتظرونا وأمهلونا حتى نأْخذ قبسًا من نوركم نستضيءُ به فنحن قد منعناه وحرمنا منه وقد أَصبحنا في ظلمة فلا ندرى كيف نمشى فيها. أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله يَدْعُو النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بأمهاتهم سترًا مِنْهُ على عباده، وَأما عِنْد الصِّرَاط فَإِنَّ الله يُعْطي كل مُؤمن نورا وكل مُنَافِقٍ نورا فَإِذا اسْتَووا على الصِّرَاط أطفأ الله نور الْمُنَافِقين والمنافقات فَقَالَ المُنَافِقُونَ: انظرونا نقتبس من نوركم، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبنَا أتمم لنا نورنا فَلَا يذكر عِنْد ذَلِك أحدٌ أحدًا" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة القمر الآيتان: 54و 55. (¬2) انظر كنز العمال ج 14 ص 642 رقم 39766 فقد ورد الحديث من رواية لابن عباس، قال: رواه الطبراني.

{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} أَي: يقول المؤمنون أَو الملائكة للمنافقين والمنافقات - استخفافًا واستهزاءً بهم - ارجعوا إِلى المكان الذي قسم الله فيه النور، فاطلبوا من هناك نورًا لكم فإنكم لا تقتبسون من نورنا، أَو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار - وذلك سخرية بهم أَيضًا - إذ ليس إِلى الدنيا رجعة، أَو يقولون لهم - على سبيل التبرى منهم والطردِ والإبعاد لهم - تنحوا عنا. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي: فحيل بين الفريقين بحاجز له باب يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، باطن هذا السور وجانبه الذي يلي المؤمنين فيه الجنة التي هي مستقر الثواب والنعيم، وظاهر هذا السور وجانبه الذي يلي المنافقين والكفار يكون من جهته العذاب الأليم في النار التي وقودها الناس والحجارة. 14 - {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}: أي: بعد أن يصير أمر المنافقين إلى ضرب السور بينهم وبين المؤمنين ومشاهدتهم العذاب ينادون المؤمنين قائلين لهم مستنجدين بهم: أَلم نكن معكم في الدنيا نفعل كما تفعلون من نطق بالشهادتين وصلاة وصيام وزكاة وحج ونحو ذلك من شعائر الإِسلام فيقول لهم المؤمنون: {بَلَى} كنتم معنا في الظاهر {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق وأوقعتموها في بلية وعذاب، وانتظرتم بالمؤمنين شرًّا، وتربصتم بهم الدوائر والحوادث المفجعة، والنوازل المهلكة، وشككتم في أَمر دينكم، ولم يتمكن الإيمان من قلوبكم، وخدعتكم الأباطيل والأَمانى الكاذبة، وظننتم أن الإِسلام لا يطول أَمره ولا يمتد ظله، حتى فاجأَكم الموت وأنتم على باطلكم، وخدعكم الشيطان وأَدخل في روعكم وقلوبكم أن رحمة الله واسعة، وأَن عفوه ومغفرته تشملكم فلا يعذبكم على ما بدر منكم، ولكنه كذبكم وضللكم وهو اليوم يتبرأ منكم.

15 - {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}: أَي: في هذا اليوم الشديد القاسى لا يَقبل الله منكم - أيها المنافقون - فداء تحفظون به أَنفسكم من نزول العذاب بكم ولو كان ملء الأرض ذهبًا ومثله معه كما لا يقبل الله ذلك من الذين كفروا، وفي هذا تيئيس وإقناط للكافرين من عفو الله عنهم إِذ قد يتوهمون أَن هذا العذاب الشديد والخلود الدائم في النار إنما يكون للمنافقين فحسب جزاء خداعهم ومكرهم وإخفائهم الكفر وإظهار الإِسلام، والحق أن هذا جزاء من كفر بالله ولم يستيقن ذلك بقلبه غير أَن المنافقين لهم الدرك الأَسفل من النار. {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: إِن النار - وحدها - هي المكان الذي تأوون إليه وتقيمون وتخلدون فيه خلودًا أبديًّا إِذ هي - لا غيرها - أَولى وأَحق بكم أَو هي ناصركم ولا تنصركم إلا بإيلامها وسعيرها وهذا من باب "تحية بينهم ضرب وجيع" {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: وقبح المرجع والمنقلب نار جهنم.

* {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} المفردات: {أَلَمْ يَأْنِ}: ألم يجيء ويحن الوقت ... {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ}: أن تلين قلوبهم وتنقاد لأوامر الله. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}: وما نزل من القرآن الكريم. {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: اليهود والنصارى. {الْأَمَدُ}: الزمن الممتد والغاية. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}: غلظت وصلبت. {فَاسِقُونَ}: خارجون عن حدود دينهم.

{يُحْيِ الْأَرْضَ}: يجعلها خصبة بالنبات والزروع. {مَوْتِهَا}: جدبها وقفرها. {الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}: المتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أَموالهم في الطاعات من الصدقة، أَو المبالغين في الصدق لله ولرسوله من التصديق. {الْجَحِيمِ}: النار. التفسير 16 - {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: هذة الآية استئناف ناع على المؤمنين الفاترين المتخاذلين تخاذل المنافقين وتثاقلهم عن أُمور الدين، ورخاوة هممهم فيها، وتكاسلهم فيما ندبوا إِليه. رُوِيَ أن المُؤْمِنِينَ كَانوا مقلِّين مجدبين بمكة، فلما هاجروا إلى المدينة أَصابوا الرزق والنعمة، وفتروا عما كانوا عليه من الحماس والنَّشَاط لدينهم فنزلت. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إِلا أَربع سنوات - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الله استبطأَ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأْس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن الحسن - رضي الله عنه - أما والله لقد استبطأَهم، وهم يقرءون من القرآن أقل مما يقرءون، فانظروا في طول ما قرأْتم منه، وما ظهر فيكم من الفسق، وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أَن هذه الآية قرئت بين يديه، وعنده قوم من أَهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديدًا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنَّا حتى قست القلوب. هذا على أن الآية نزلت في بعض المؤمنين المتكاسلين في شئون الدين - وقيل إِنها نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أَنهم سأَلوا سلمان الفارسى ذات يوم، فقالوا:

حدثنا عما في التوراة فإن فيها العجائب فنزلت: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (¬1). إلى قوله - تعالى -: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. فخبّر أَن القرآن أحسن القصص، وأنفع لهم من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا فسألوه عن مثل ذلك فنزلت آية: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ .... } (¬2)، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاءَ الله. ثم عادوا فسأَلوا سلمان فنزلت هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... } عن الكلبي ومقاتل. قال الآلوسي - بعد ما ساق هذه الرواية: ليس بشىء. وسواء كان نزولها في المنافقين أَو في بعض المؤمنين المتخاذلين المتكاسلين، فإنها استنهاض للهمم في جانب العبادة، وإيقاظ للفتور والتكاسل عن الطاعة، وتنبيه إلى استدامة المواظبة عليها والنهوض لها، والالتزام بها في كل الأوقات والأحوال، فلا يتكاسل عنها إلا منافق، ولا يفتر عن أَدائها إلا مذبذب ضعيف الإيمان، ضال عن سبيل الله، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (¬3). والمعنى: ألم يجىء الوقت، ويحن الحين للذين آمنوا أَن يتمكن الِإيمان في نفوسهم، ويخالط شغاف قلوبهم فتلين من جمودها وترق من قسوتها وغلظها، وتتحرر من جاهليتها وجهلها فتخشع لذكره - تعالى - وتخافه وتطمئن به، وتسارع إلى طاعته بالامتثال لأوامره، والانتهاء عما نهى عنه من غير توان ولا فتور، وتخشع لما نزل من القرآن الكريم، هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمراد بما نزل من الحق هو القرآن الكريم المشتمل على ذكر الله - أيضًا - ووجه عطفه على ذكر الله أنه جامع للأمرين الذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، ويصح أن يراد من الخشوع لذكر الله الوجل والخوف والانقياد التام وبما نزل من الحق زيادة الإيمان عند سماع القرآن الكريم - كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬4). ¬

_ (¬1) أول سورة يوسف. (¬2) سورة الزمر من الآية: 23. (¬3) سورة النساء من الآية: 88. (¬4) سورة الأنفال من الآية: 2.

ومعنى {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أَي: لا يكونوا مثل أَهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتاب قبلهم، وكان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والِإنجيل خشعوا منه ورقت قلوبهم فطال عليهم الأجل وبعد العهد بينهم وبين أنبيائهم أَو طالت أعمارهم، ولم يعاجلهم الجزاء، فاغتروا وقست قلوبهم، وتحجرت وزال خشوعها وفشا فيهم الفساد فساءت أعمالهم، واستمرءوا المعصية، وغلب عليهم الشر فكثير منهم فاسقون خارجون على دينهم رافضون لما في كتبهم. 17 - {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: نعت الآية السابقة على بعض المؤمنين فتورهم في العبادة، وعابت عليهم استهواء النعم لهم، وانصرافهم إلى الترف والنعيم، وجاءت هذه الآية تطمعهم في الرجاء، وتفتح لهم باب القبول، ومداخل الرحمة حتى لا يتملكهم يأْس، ولا يستولى عليهم قنوط، ويعودوا لما كانوا عليه من النشاط في العبادة، والهمة في الطاعة والحماس للدعوة، وجرى فيها الأُسلوب مجرى التمثيل لإبراز القدرة في أَكمل صورة، وعرضها في أوضح بيان حيث شبهت تليين القلوب الغليظة وإنارتها بالإيمان والذكر وتلاوة القرآن بعد الكفر والجحود والظلمة والوحشة - شبهتها - بإحياء الأرض بعد الغيث بالنبات وخصبها بالزرع والخضرة ونبض الحياة بعد الجدب والقفر والعفاء، وهذا كله ترغيب في الخشوع والخشية، تحذير من القسوة والغلظة. والآية خطاب عام يتلقاه كل راغب في الهداية، طامع في الرحمة من الذين أشارت إليهم الآية السابقة ومن غيرهم بيانًا لمزيد فضل الله، وواسع رحمته. والمعنى: اعلموا معاشر المؤمنين أَن قدرة الله فوق كل القدر، وأَن فضل الله عظيم على عباده يهبط على القلوب فيوجهها إِلى الهداية، ويحييها بالإيمان, ويوفقها للطاعة بالذكر والتلاوة، كما يحيى بالغيث الأَرض الجدبة فتؤتى ثمرها من النبات والزرع، وتصبح ندية خضراء بعد أَن كانت مقفرة جدباء.

وقوله - تعالى -: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد هذا التمثيل معناه: قد وضحنا لكم الحجج، والبراهين، التي من جملتها هذه الآيات. كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها فتنعم حياتكم، وتسعد آخرتكم. 18 - {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}: هذه الآية دخول على فضائل الأعمال، وبيان حال العاملين ودرجاتهم، بعد أَن عرضت الآية السابقة مظاهر قدرة الله وفضله، في إِحياء القلوب وإثرائها بالإيمان والخير بعد الشر، والعطاء بعد الجفاء. والمصَّدقون والمصَّدقات يمكن أَن يراد بهم المتصدقون بأموالهم، الباذلون لها عن طيب نفس، وخلوص نية على المستحق للصدقة، ويجوز أَن يراد بهم الذين صدقوا الله ورسوله من التصديق لا من الصدقة. والمعنى: إن المتصدقين والمتصدقات الذين بذلوا أَموالهم في وجوه الخير للمحتاجين، وإِغاثة الملهوفين ومساعدة المنكوبين ابتغاءَ وجه الله قرضًا حسنًا خالصًا من الرياء، بعيدا عن التفاخر، والتكاثر - إن هؤلاء - يضاعف الله لهم أَجرهم، الحسنة بعشر أَمثالها إِلى سبعمائة ضعف إلى أكثر من ذلك لمن يشاءُ والله واسعٌ عليم، ولهم أَكثر من هذا أجرٌ كريم في نفسه ثمين في جوهره جدير أَن يتنافس فيه المتنافسون لذاته ومن غير مضاعفة فكيف إِذا ضوعف أَضعافًا مطلقة. 19 - {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: الكلام في هذه الآية يمكن أَن يكون مبنيًّا على جملة واحدة فحواها أن الذين آمنوا بالله ورسله في منزلة الصديقين والشهداء في أجرهم ونورهم، ويقابل هذه الجملة جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}.

ويمكن أَن يكون الكلام مبنيًّا على أَكثر من جملة على معنى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} جملة، {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} جملة أُخرى، ويقابل ذلك {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. ولعل الاحتمال الأول هو الأقرب إلى الفهم. والمعنى: والذين آمنوا بالله وأَفردوه بالألوهية، وخصوه بالعبادة وآمنوا برسله جميعًا لم يفرقوا بين رسول ورسول، ولم يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ولم يتعصبوا لرسالة بعد موت رسولها وبعثة غيره غير رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنها هي الرسالة الخالدة الخاتمة - هؤلاءِ في منزلة الصديقين المبالغين في الصدق السابقين في الإيمان وفي كل خير، وفي منزلة الشهداء الذين بادروا إلى الشهادة، واستشرفوا إلى الاستشهاد في سبيل الله - تعالى - لهم ما للصديقين والشهداء في المنزلة من علو المرتبة، ورفعة المحل، ومن الأَجر والنور - المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهذا فريق يقابل فريق الذين آمنوا بالله ورسله، وضعا لفريق الجنة في النعيم، وفريق الكفر في الجحيم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (¬1). والمعنى: والذين وصفوا بالكفر، والكذب والتكذيب، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسالات الرسل عنادًا وكفرًا أُولئك أصحاب الجحيم المقيمون فيها، الملازمون لها بحيث لا يفارقونها، ولا يجدون منها مخلصًا، ولا عنها معدلًا. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: من الآية 42.

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)} المفردات: (لَعِبٌ وَلَهْوٌ): قيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو: ما ألهى عن الآخرة، والمراد أنها عبث لا بقاء له ولا دوام. (وَزِينَةٌ): تتزين في عيون أَهلها، أو يتزين بها أهلها.

(تَقَاخُرٌ): تكبر وتعال. (الكُفَّارَ): الزُّرَّاع. (يَهِيجُ): يَجِفّ بعد خضرته ونضارته. (حُطَامًا): هشيمًا متكسرًا. (فِي كِتَابٍ): مكتوبة مثبتة في علم الله - تعالى - أو في اللوح. (أن نَّبْرَأَها): أن نخلقها. (تَأْسَوْاْ): تحزنوا وتندموا. (مُخْتَالٍ فَخُورٍ): متكبر كثير الفخر. التفسير 30 - {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}: الأمر في هذه الآية كالأمر في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} موجه إلى كل من يتدبر الآيات ويتلقاها بفهم ووعى، وينتفع بهديها، ويسير على منهاجها وقد جاءت بعد بيان خال الفريقين في الآخرة تكشف زيف الحياة التي اطمأَن إليها أَصحاب الجحيم، وتشير إلى أَنها من محقرات الأُمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلًا عن الاطمئنان بها وهي لعب لا ثمرة لها، ولهو بشغل الإنسان عمَّا يفيده، ويعود عليه بالنفع في دنياه، وزينة زائفة زائلة، تستهوى الجهال، وتغريهم بالمظاهر الخداعة التي لا ترفع خسيسة، ولا يحصل به شرف، وتفاخر بالأَنساب البالية، وتكاثر بالعدَد والعُدد، وجمع ما لا يحل له، وغير ذلك من الأمور الفانية التي تزهو وتزدهر، ثم لا تلبث أن تذبل وتخبو، كغيث ينزل في أرض جرز جرداء قاحلة فتخصب وتخضر بالنبات وتزدهر بالزرع، ويمتليء قلب

الزراع بهجة بها، ويغمرهم الفرح والبشر بمظهرها ونضارتها، ثم لا تلبث أَن تجف بعد النداوة، وتصفر بعد الخضرة، ثم تصير هشيمًا جافًّا وحُطامًا متكسرًا. وإذا صح أن يتفاخر أو يتكاثر أهل المعاصي بالأنساب والجاه، أو الأَموال والرجال فإن تفاخر المؤمنين ينبغي أَن يكون بالتواضع، والطاعة، وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ اللهَ أوحَى إليَّ أَن تَواضَعوا حتى لا يبْغِيَ أحدٌ على أَحد، ولا يَفْخَر أحدٌ على أَحد". وبعد أَن بينت الآية حقارة أمر الدنيا تزهيدًا فيها، وتنفيرًا من العكوف عليها، أَشارت إلى ما يلقاه الكافرون في الآخرة من عذاب، فقال تعالى: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: بالغ أقصى درجات القسوة والشدة لأَعداء الله، جزاءً وفاقًا؛ لانهماكهم في مفاتن الدنيا وملاهيها، واطمئنانهم إليها وفي الآخرة - أيضًا - مغفرة عظيمة ورضوان من الله أكبر لا يقدر كنههما ولا يقادر قدرهما للمؤمنين الصديقين الذين أخلصوا لله الإيمان، وداموا الصدق، وأحسنوا العمل فنالوا المغفرة والرضوان. وفي مقابلة العذاب الشديد وحده بالمغفرة والرضوان إشارة كريمة إلى غلبة الرحمة، ومزيد الفضل، كما يشعر بذلك - أيضًا - إطلاق العذاب الشديد، وتقييد الرحمة، والرضوان بأنهما من الله - تعالى. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: وليست الحياة الدنيا - وإن طالت وتعددت نعمها - إلاَّ متاع الغرور لمن اغتر بها وانخدع، واطمأن إليها واشتغل بمفاتنها عن العمل لآخرته، روى عن سعيد بن جبير: "الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله - تعالى - وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة". وقال ذو النون: يا معشر المريدين، لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها لا تحبوها فإن الزاد منها، والمقيل في غيرها. 21 - {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}:

لما حقَّر الله - تعالى - الدنيا، وصغَّر أَمرها، وعظم أَجر الآخرة بعث وحث عباده على المسارعة إليها، والمسابقة لنيل ما وعد فيها من المغفرة المنجية من العذاب الشديد، ومن الفوز بدخول الجنة ونعيم الرضوان الأَكبر، فقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. والمعنى: سارعوا مسارعة السابقين لإخوانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة من ربكم وتحصيل موجباتها من الأَعمال الصالحة، وإلي جنَّة مبسوطة وافرة السعة عرضها كعرض السماء والأَرض فكيف بطولها؟ أعدها الله للذين آمنوا بالله ورسله عن إخلاص في العقيدة، وصدق في الإيمان، واجتهاد في عمل الصالحات فشملهم بذلك الرضا، وتمّ لهم الفوز، مع جزيل الجزاء وكريم العطاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ تفضلًا وإحسانًا في غير إيجاب عليه، ولا حساب له، والله ذو الفضل العظيم الذي لا ينفذ بالعطاء، ولا يخضع لغاية أو أَهواء. وهكذا تطلب الآية السبق إلى مقتضيات المغفرة، ومؤهلات الفوز بالجنة لتنتقل بالعبد من التفاني في الحطام الزائل والمتاع الفاني إلى الإسراع في طلب النعيم المقيم، والمتاع الخالد. وقدمت المغفرة على الجنة في الذكر؛ لأَنها تطهير يمهد لدخول الجنة تقديمًا للتخلية على التحلية، والمراد بقوله: {عَرْضُهَا} مساحتها فهي واسعة كسعة السموات والأرض، وقيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول وإذا كان العرض بهذا القدر فالطول أكبر كما هو المعتاد، والمراد أن مساحتها واسعة. 23،22 - {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}: هاتان الآيتان: دعوة إلى التزام القصد والاعتدال، في تلقي الأَحداث، واستقبال النعم، فلا تفرط النفس في الأَسى والحزن على ما يفوتها، ولا يحملها تتابع النعم على البغى والطغيان، فإن كل ما يصيب الإنسان أو يناله مقدر له بتقدير الله، وبما سبق به الكتاب في الأَزل القديم. والله يحب من عباده أن يتلقوا المكاره بالرضا والصبر، وأَن يستقبلوا النعم بالتَّطامن والشكر. ومن رضي فله الرضا والأجر، ومن حمد فله المزيد والشكر.

والمعنى: ما أصاب من مصيبة، وما وقع على الأرض من نوائب وأحداث كجدب أو نقص في الثمار والزرع، أو زلزلة أو غير ذلك ممَّا يقع على الأرض أو فيها من كوارث، أو في أنفسكم، من مرض أو كسور أو حروق، أو فقر أو موت أو غير ذلك ممَّا يجرى على الإنسان - ما أَصاب من شيءٍ من ذلك - إلاَّ وهو مكتوب مُثبت في علم الله أو في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الأَنفس أو المصائب أو الأَرض - إن ذلك الإثبات في علم الله أو في اللوح المحفوظ يسير سهل على الله لاستغنائه عن العُدَّة والْمُدَّة، وإن كان عسيرًا في ذاته أو على غير الله. وقد أخبركم الله بذلك، وأعلمكم به لكيلاَ تأْسَوْا وتحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا، أو ممَّا ترجون لأَنفسكم ممَّا تظنونه خيرًا ولا تفرحوا بما أعطاكم الله - تعالى - منها فإن من علم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدر، يفوت ما قُدِر فواته، ويأْتى ما قُدِر إتيانه لا يُفْرط في جزعه على ما فات، ولا يُعظم فرحه بما هو آت. وإذا كان في طبيعة الإنسان أن يحزن عند ضرة تنزل به، وأن يفرح عند منفعة تناله، فإن الذي ينبغي هو القصد والاعتدال في ذلك وأن يكون الحزن صبرًا، والفرح شكرًا، والمذموم من الحزن والفرح، أَن يكون الحزن جزعًا مجافيًا للصبر والرضا بالقضاء، وأَن يكون الفرح أَشرًا مطغيًا صارفًا عن الشكر والثناء. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: والله لا يحب كل متكبر على الناس متكاثر بأَمواله ونعمه عليهم - وكل من فرح بحظ من الذنب وعظَّم نفسه فقد اختال وافتخر، وتكبر على الناس. 24 - {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}: هذه الآية بيان لمعنى المختال الفخور وتوضيح لطبعه وسلوكه؛ فإن المغتر بالمال المختال المتكبر يضن به غالبًا شحًّا وبخلًا، ويأْمر غيره بذلك، ولما كان البخل بالمال والدعوة إلى إمساكه إعراضًا عن طاعة الله، وتنكبًا لطريق الهداية ختمت الآية بقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. والمعنى: ومن يمسك المال معرضًا عن إنفاقه في سبيل الله لا يحرم إلاَّ نفسه ولا يضر غيرها فإنَّ الله غني عن إنفاقه وهو - سبحانه - محمود في ذاته لا يضره إعراض المعرضين

عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق لأن ثواب نفقته إليه. {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} المفردات: {رُسُلَنَا}: الملائكة إلى الأَنبياء، أو الأَنبياء إلى الأُمم. {الْبَيِّنَاتِ}: الحجج والمعجزات. {الْكِتَابَ}: جنس الكتاب الشامل لجميع الكتب السماوية.

{وَالْمِيزَانَ}: الآلة المعروفة أو العدل. {بِالْقِسْطِ}: بالعدل. {بَأْسٌ شَدِيدٌ}: قوة ومنعة كآلات الحرب والقتال. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: مصالح تنفعهم كأَدوات الصناعة والزراعة والبناء. {ثُمَّ قَفَّيْنَا}: ثم أرسلنا بعد نوح وإبراهيم رسلنا متتابعين رسولًا بعد رسول. {رَأْفَةً}: مودة ولينًا. {وَرَحْمَةً}: تعطفًا وحنانًا وعند اجتماعهما يراد بالرأفة ما فيه درء الشر، ورأب الصدع وبالرحمة ما فيه جلب الخير. {وَرَهْبَانِيَّةً}: مبالغة في العبادة، والانقطاع إلى الآخرة، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان. التفسير 25 - {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}: فصلت الآيات السابقة فريق العصاة المكذبين، وفريق الطائعين المصدقين، وعرضت لوصف الدنيا وحقارتها وسرعة انتهائها، وخوفت من الافتتان بها، والاطمئنان لها إذ تناولت ذكر الجنة ونعيمها، ونادت بالتسابق إليها، والإسراع في طلبها، والتمتع بنعيمها، وبقى المقام محتاجًا إلى تنظيم العمل، وتفصيل السلوك الذي يباعد بين العبد وارتكاب المعاصي، ويقربه من ربه، ويؤهله للعمل عن تدبر، ويوضح له طريق الخير، وطريق الغواية؛ ليختار لنفسه حتى لا يكون له على الله حجة {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1) فجاءت هذه الآية تبين فضل الله - تعالى - على خلقه، ¬

_ (¬1) سورة الفتح من الآية: 10.

بتتابع الرسالات، وإنزال الكتب والميزان لإقرار العدل، فلا يبغى أحد على أحد، كما جاءت تبين إنعام الله بالنعم الجليلة التي تجمع لهم القوة والمنعة مع الرخاء والمنفعة. وفي تخصيص الحديد بالذكر، مقرونًا بالبأْس والمنفعة لمحة إلى أَن فيه من معدات القوة ما يحرس الأَمن ويحفظ التوازن بين الأفراد والجماعات والأُمم، والحديد أَصل وأساس لكل تقدم صناعى وحضارى، ولذا كان جديرًا أن تسمى به السورة دون غيره من الأُمور التي ذكرت فيها أَو عرضت لها. والمعنى: لقد كان فضلنا على الخلق، وإنعامنا عليهم أَن أَرسلنا رسلنا من الملائكة إلى الأَنبياء، أو من الأَنبياء إلى أُممهم داعين ومرشدين وأَيدناهم بالمعجزات، والحجج الباهرات الواضحات النى تؤكد صدقهم، وتحتم تصديقهم، وذلك ليدعوا الناس إلى الخير ويوجهوهم للهداية وسلامة السلوك الذي يكفل لهم راحة دنياهم، وسلامة آخرتهم، وأنزلنا مع الرسل الكتب التي تحفظ رسالتهم، وتشرح دعوتهم، وتؤكد صدقهم من التوراة والإنجيل، والقرآن، وسائر الكتب والألواح والصحف السماوية التي نزلت مع الرسل، كما أَنزلنا آلة الوزن ليلتزم الناس بالعدل، ويقوم عليه التعاون والتعامل، ويمتنع الظلم والعدوان. قيل: إن جبريل - عليه السلام - نزل بالميزان المعروف فدفعه إلى نوح - عليه السلام - وقال: "مُرْ قوْمَكَ يَزِنُوا به"، وقيل المراد بالميزان: العدل والمساواة بين الناس في التعامل. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي: خلقناه كقوله - تعالى -: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} (¬1) وذلك أن أوامره تعالى وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء. وقال قطرب: وأنزلنا الحديد أي: هيأناه لكم، وأنعمنا به عليكم، وقيل: نزل آدم - عليه السلام - من الجنة، ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة (¬2)، والمطرقة، والإبرة. ومعنى {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}: أي: قوة ومنعة؛ لأَن آلات الحروب تتخذ منه - وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى قوة تحميهما؛ ليحصل القيام بالقسط، فإن الظلم من شيم ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية: 6. (¬2) من معانيها المسن الذي يحدد به.

النفوس، ومن لم يدافع عن نفسه بسلاحه يهدم، وقوله - تعالى -: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: مصالح تنفعهم في معاشهم وتيسير أَعمالهم إذ ما مِن صنعة إلاَّ والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها، وفيه إِيماءٌ إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف؛ ليحفظ العدل، يحتاج إلى ما به قيام التعايش ليتم التمدن الذي يحتاجه بقاء النوع. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} هذه الجملة معطوفة على محذوف يدل عليه السياق، أَو الحال؛ لأَنها متضمنة للتعليل. والمعنى: فعل الله ذلك لييسر حياتهم، وينفعهم، ويقطع حجتهم، وليعلم الله علمًا يتعلق به الجزاء، ويترتب عليه الثواب والعقاب ليعلم من ينصره بالتوحيد والطاعة، وينصر رسله بالتصديق واتباع ما جاءُوا به دون أَن ينظر الله ويبصره. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَي: إنه الله قادر لا يعجزه أمر ولا يفوته هارب منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب وهذا تذييل جاءَ تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على أن التكاليف ليست لحاجته - تعالى - إلى نصرتهم في إعلاء كلمته، وإظهار دينه، بل إنما جاءَ ذلك ليصلوا بالتكاليف إلى الثواب، فإن الله غنى بقدرته وعزته عمَّا سواه في كل ما يريده. 26 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: هذه الآية نوع تفصيل لما أُجمل في قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأَمر، ووجه اختصاص "نوح وإبراهيم" بالذكر لسبقهما، واشتهارهما حتى سميا أَبَوَى البشر، واقتران عهد كل واحد منهما بأَحداث لها أَبعادها في تاريخ الإنسانية، وشعائر العبادات. أما نوح - عليه السلام - فقد حدث في عهده الطوفان الذي يعتبر طورًا جديدًا في مسيرة الإنسانية، ولذلك قيل عنه: إنه آدم الثاني.

وأمَّا إبراهيم - عليه السلام - فلحواره مع أبيه، وقصته مع ولده وارتحاله إلى مكة به، وما تبع ذلك من نبع ماءِ زمزم، ثم ما كان من ابتلائه بأَمره بذبح ولده وافتدائه، وما بقى بعد ذلك ممَّا قيل في السعى بين الصفا والمروة، وما شرع في الأُضحية في شريعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وحسبه فوق هذا كلِّه أنه خليل الله. والمعنى: ولقد كان من أَخبار إرسالنا الرسل أن أرسلنا نوحًا وإبراهيم، وأَوحينا إليهما، وجعلنا في ذريتهما النبوة، فكل الأَنبياء من ذريتهما، وأنزلنا عليهم الكتب المقدسة التي تحفظ شريعتهم، وتفصل رسالتهم، وقال ابن عباس المراد بالكتاب: الخط بالقلم. ثم قال - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: فمن هذه الذرية، أو من المرسل إليهم منتفع بهذه الرسالة مهتدٍ سائر على النهج السوى، مستجيب لدعوة رسوله، ملتزم بالعمل بها، وكثير منهم فاسقون خارجون عليها مجافون لها، متنكبون طريق الهداية والطاعة. ولم تقل الآية: ومنهم "ضال" مقابل فمنهم "مهتد" على ما يقتضيه ظاهر المعادلة مبالغة في الذم؛ لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول إليه بالتمكن منه ومعرفته أبلغ في الضلال، وأَقبح منه على أَن قوله - تعالى -: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} يؤذن بغلبة أهل الضلال والفسق على غيرهم. 27 - {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}: لا تزال الآيات تتحدث عن إرسال الرسل بدءًا بنوح وإبراهيم - عليهما السلام - ونهاية بعيسى - عليه السلام - وصولًا إلى بعثة سيد الرسل وخاتم الأَنبياء سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -،

وخص عيسى بالذكر؛ لأَن رسالته آخر الرسالات قبل رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مع ما تحتويه من التنويه ببعثته، والحديث عن رسالته ممَّا يكاد يكون إرهاصًا بها، ودعوة لها. والمعنى: ثم أَرسلنا بعد نوح وإبراهيم - عليهما السلام - وعلى أعقابهم رسلنا متتابعين رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم - عليه السلام - وآتيناه الإنجيل تفصيلًا لرسالته، وتصديقًا لدعوته، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه {رَأْفَةً} أي: مودة ولينًا يجمعهم على الخير، ويدفع عنهم الشر، {وَرَحْمَةً} أي: تعطفًا ومحبة تجلب لهم المنافع، وتقيهم المضار، {وَرَهْبَانِيَّةً} أي: ورضينا منهم مبالغة في العبادة بالانقطاع إلى الخلوات، وتجنب النساء والشهوات وغير ذلك، إنها رهبانية استحدثوها من عند أنفسهم والتزموها عن رغبتهم ما فرضناها عليهم ولا رضيناها منهم إلاَّ ابتغاء وجه الله، أو ما ابتدعوها إلاَّ ابتغاء وجه الله، وكان عليهم بعد ذلك أن يحافظوا عليها، ويداوموا على عمل مقتضياتها لأَنها نذر التزموه، وعهد مع الله ينبغي الوفاء به، ولكنهم قصروا فيها فما رعوها حق رعايتها وذلك بتقصيرهم فيما أَلزموا به أَنفسهم من عمل الطاعات، وبأَن بعض من أَدرك منهم رسالة سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن بها ولم يصدقها، ولذلك جاء قوله - تعالى -: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صادقًا - صحيحًا راعى فيها تحقيق الرهبانية بالعمل الصالح والإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - آتيناه - أجره الذي يناسب إيمانه وعمله. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن حد الاتباع، بعيدون عن الإيمان الصحيح. عن ابن مسعود قال: "كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال: يا ابن أُم عبد: هل تدرى من أَين أَحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعلمون بمعاصي الله، فغضب أَهل الإِيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإِيمان ثلات مرات فلم يبق منهم إلاَّ القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق

للدين أَحد يدعو له، فتعالوا نتفرق في الأرض، إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى - عليه السلام - يعنون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ... } إلى آخرها، ثم قال: يا ابن أُم عبد، أَتدرى ما رهبانية أُمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج، والعمرة" (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} المفردات: {الَّذِينَ آمَنُوا}: المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب، أو الذين آمنوا من أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. {كِفْلَيْنِ}: نصيبين تثنية كفل، وقيل الكفل: الضعف. {أَهْلُ الْكِتَابِ}: اليهود والنصارى. ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي ج 17 ص 275 تفسير قوله تعالى: {ثم قفينا على آثارهم} فقد ورد الحديث بنحوه.

التفسير 28 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: تختم السورة بهذا النداء الكريم للذين آمنوا تأْمرهم بالتقوى، وتعدهم بمضاعفة الأَجر والنور الذي يهديهم ويحميهم من ظلمات الكفر والجهل، ويصلهم بالمغفرة والفضل. والمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا بالرسل المتقدمة اتقوا الله، وانتهوا عمَّا نهاكم عنه، واحفظوا أنفسكم من مهاوى الشرك ومهالك المعاصي، وادخلوا في طاعته، وأَخلصوا في عبادته، وآمنوا برسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يعطكم نصيبين من رحمته، نصيبًا لإيمانكم بأَنبيائكم، ونصيبًا لإيمانكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتصديقكم برسالته ودعوته التي نسخت الشرائع السابقة. فلم يبق وجه للإيمان بها وحدها بعد بعثته - عليه الصلاة والسلام - دون التصديق برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أي: يهيئ لكم نورًا تمشون به يوم القيامة حسبما نطق به قوله - تعالى -: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ويغفر لكم ويستر عليكم ما أسلفتم من الكفر، أو قدمتم من المعاصي، والله واسع المغفرة عظيم الرحمة. وعن مجاهد: نورًا أي: بيانًا وهدًى، وقال ابن عباس: هو القرآن. واستظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، غير أهل الكتاب، والآثار تؤيد ذلك. أَخرج الطبراني في الأَوسط: عن ابن عباس وابن أَبي حاتم: عن سعيد ابن جبير، قالاَ: إن أَربعين من أَصحاب النجاشى قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدوا معه أُحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أَحد، فلما رأَوا ما بالمؤمنين من الحاجة، قالوا: يا رسول الله، إنا أهل ميسرة، فأْذن لنا نجِيء بأَموالنا نواسي بها المسلمين فأَنزل الله

- تعالى - فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ .. } (¬1) إلى قوله - سبحانه: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} فجعل لهم أَجرين، فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أَجر كأُجوركم، فأَنزل الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ .. } الآية ردًّا عليهم، ومن لم يؤمن بكتابكم، فله أجر كأُجوركم. وفي الكشاف أن قائل ذلك، من لم يكن آمن من أهل الكتاب، قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون بها على المسلمين وعلى هذا فمعنى الآية: يا أيها الذين اتسموا بالإيمان اثبتوا على تقوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيما نهاكم عنه يؤتكم نصيبين من رحمته لإيمانكم بالرسالات المتقدمة عليكم، وتصديقكم لرسلها، وإيمانكم برسولكم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كما فعل أهل الكتاب الذين آمنوا به، فأَنتم وهم سواء في الإِيمان بالرسل أَجمعين. 29 - {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ}: قال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أَن يخرج منَّا نبي يقطع الأيدى والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا به، والآية تتعلق بمضمون جملة قبلها على تقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا بوسوله {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}. {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}: (لاَ) هنا زائدة أَي: ليعلم الذين يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب اليهود والنصارى أنهم لا يقدرون على شيءٍ من فضل الله تحصيلًا لأَنفسهم أو منعًا لغيرهم، رزقًا أو هداية، أَو مغفرة وفضلًا، وأن الفضل كل الفضل بيد الله وليس بأَيديهم حتى يصرفوه عمن شاءُوا إلى من شاءُوا، وأنه - تعالى - يختص بفضله من يشاءُ إذا شاءَ ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآيات 52 و53 و54.

وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع قال: حدثنا شعيب عن الزهري قال: أَخبرنا سالم ابن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - وهو قائم على المنبر -: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأُمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أَعطى أَهل الإِنجيل الإِنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر، ثم عجزوا فأَعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أعطيتم القرآن فعملتم حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أَهل التوراة: ربنا، هؤلاء أَقل عملًا، وأَكثر أجرًا، قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك فصلى أُوتيه من أَشاء". والله أعلم

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون أهم مقاصدها: بيان حكم ظهار الرجل من امرأته، بأَن يقول لها - مثلًا -: أنت عليَّ كظهر أمي، وأن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كتب الذين من قبلهم - أي: لعنوا مثلهم - وأَن لهم في الآخرة عذابًا مهينًا، وأَن الله تعالى يعلم جميع ما في السموات والأَرض، ومن ذلك أَنه يعلم السر والنجوى وبيان مصير الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلي الله عليه وسلم، وأَن على المؤمنين إذا قيل لهم: تفسحوا في المجالس أَن يتفسحوا، وأَن الذين يتولون قومًا معادين الإسلام أعدَّ الله لهم عذابًا مهينًا، وأَن الله تعالى قضى بأَن يَغلب هو ورسله جميع أعداء الدين، وأن من يتركون مودة من يحادون الله ورسوله - ولو كانوا أقاربهم - أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، وأنهم سيدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). أسماء هذه السورة: تسمي المجادلة، بكسر الدال، وفتحها، والكسر أشهر، وتسمى أيضا سورة (قد سمع) وسورة الظهار. مناسبتها لها قبلها: ختمت السورة السابقة بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من ذلك حيث سمع الله شكوى هذه المرأة، وأزال شكوي كربتها، بما بينه من حكم الظهار، وجاء في مطلع السورة السابقة ذكر صفات الله الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وأنه سبحانه {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، وافتتح هذه السورة بذكر أنه تعالى سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى، إلي غير ذلك من المناسبات.

بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} المفردات: (تَحَاوُرَكُمَا): تراجعكما في الكلام من حار إذا رجع، ويجوز أن يكون المراد به الكلام المردد السمع للمسموعات. التفسير: 1 - {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}: نزلت هذه الآية والآيات بعدها في امرأة من الأنصار اسمها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجي، وقيل غير ذلك، ولكن الأكثرين على أنها هي خولة بنت ثعلبة المذكورة، وأن زوجها هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي، وكان هذا أول ظهار في الإسلام. وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه، فندم أوس من ساعته، فدعاها فأبت وقالت: والذي نفسي بيده: لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتي يحكم الله ورسوله فينا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني ونثرت بطني - أي كثر ولدي - جعلني عليه كأمه وتركني إلي غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشي بها وإياه فحدثني بها، فقال

- عليه الصلاة والسلام -: والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن - وفي رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه - فقالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق عليّ من فراقه. وفي رواية قالت: أشكو إلي الله - تعالي - فاقتي وشدة حالي، وأن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلي السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: يا خولة أبشري فقالت: خيرًا. فقرأ عليها - عليه الصلاة والسلام - (قَدْ سَمِعَ) وكان عمر - رضي الله عنه - يكرمها إذا دخلت عليه ويقول: قد سمع الله تعالى لها. روي ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات: أنها رأته - رضي الله عنه - وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده علي منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش علي هذه العجوز قال: ويحك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله لشكواها من فوق سبع سموات. هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها (¬1). وفي رواية أخري: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعي عُميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب - وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلي آخرة، لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر. (¬2) ¬

_ (¬1) حكاه الآلوسي. (¬2) حكاه القرطبي.

وروي النسائي وابن ماجه والبخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت بعد أن نزلت الآية (قَدْ سَمِعَ): الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلي النبي صلي الله عليه وسلم وأنا في ناحية من البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله تعالي: (قَدْ سَمِعَ ... ) الآيات (¬1). والسماع مجاز، أو كناية عن القبول، والسمع والبصر من صفات الله تعالي، وهما غير صفة العلم، فكل المسموعات والمبصرات يعلمه الله تعالي. وبعض العلماء قال: إنهما كناية عن العلم، وهذا خطأ لما فيه من محو صفتي السمع والبصر وهما في صفاته وأسمائه تعالي: (وَلله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، نقل القرطبي عن الحاكم أبي عبد الله قوله: والسمع والبصر من صفات الله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة فهما من صفات الذات. لم يزل الله سبحانه وتعالي متصفا بهما. والمعني الإجمالي للآية: قد سمع الله - تعالي - قول خولة بنت ثعلبة التي تسألك في حكم ظهار زوجها منها بقوله لها: أنت علي كظهر أمي، وتشتكي إلي الله تعالي لينزل في شأنها حكمها غير الطلاق الذي جعلوه في الجاهلية حكما للظهار، وكانت هذه الشكوي إلي الله - تعالي - بعد أن أفهمها الرسول صلي الله عليه وسلم أنه - سبحانه - لم ينزل في شأنه حكما، والله يسمع تحاورها معك - أيها الرسول - وترديدها للشكوي، إن الله عظيم السمع للمسموعات وإن كانت همسا، عظيم البصر للمرئيات وإن كانت دقيقة، فلهذا لم يخف عليه - سبحانه - ما جري بينك وبينها من الحوار. ¬

_ (¬1) حكاه الآلوسي.

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} المفردات: (يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ): يقول الرجل منكم لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو ما في معناه، وسيأتي بيانه. (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ): ما أمهاتهم. (مُنْكَرًا): يستنكره الشرع والعقل. (وَزُورًا): وكذبا منحرفا عن الحق. التفسير: 2 - {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}: شروع في بيان الظهار وحكمة المترتب عليه شرعا، والظهار: مصدر ظاهر، وحقيقة الظهار - كما قال القرطبي -: تشبيه ظهر بظهر، والموجب الحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، وقد أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي فهو مظاهر، أما لو قال لها: أنت علي كظهر ابني وأختي أو غيرهما من المحارم فإنه يكون مظاهرا عند أكثر الفقهاء، ومنهم من قال: لا ظهار إلا بالتشبيه بظهر الأم، وهو مذهب قتادة والشعبي، لأنه هو الذي قام عليه الحكم، والأول هو المعتمد، لأن تشبيه المظاهر ظهر امرأته بظهر أمه، هو تشبيه بظهر محرم، فليكن مثله في الحكم التشبيه بظهور كل المحارم.

قال القرطبي في المسألة الثالثة: وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. وفي الظهار صريحة وكنايته آراء شتى، فارجع إليها إن شئت في موسوعات التفسير أو الفقه. والظهار يكون في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها، علي أن يكون صادرا من كل زوج يجوز طلاقه. والمعني الإجمالي للآية: المؤمنون الذين يقولون لنسائهم: أنت علي كظهر أمي مخطئون (¬1) ما نساؤهم أمهاتهم عيل الحقيقة، فهوكذب لا يليق بالمؤمنين أن يقولوه، ما أمهاتهم علي الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا تشبه نساؤهم بهن، وإنما يشبه بهن المرضعات (¬2) وزوجات الرسول - كما جاء في الكتاب والسنة - وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا التشبيه منكرا في الشرع والعقل والطبع، وزورا - أي: وكذبا باطلا - وإن الله لعظيم العفو والغفران للتائبين وغيرهم فإنه تعالي واسع المغفرة. ويفهم من الآية أنه حرام، بل قال بعضهم: إنه من الكبائر؛ لأنه إقدام علي تبديل حكم الله بغير إذنه، ولهذا أوجب الله فيه الكفارة العظمي. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} ¬

_ (¬1) على أن خبر المبتدأ محذوف، ويصح أن تكون الجملة التي بعده خبره. (¬2) أي: في الحرمة والكرامة، أما الزوجات فأبعد شيء عن الأمومة، فلا يشبهن بهن.

المفردات: (يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) قال الفراء: اللام في قوله (لِمَا قَالُوا) بمعنى عن، أي: يرجعون عما قالوه ويريدون وطء نسائهم بعد أن حرموه على أنفسهم. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ): فعليه إعتاق رقبة. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا): أي: من قبل أن يجامعها. (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ): أي: ذلك التغليظ في الكفارة لكي تعملوا بشرائع الله التي شرعها لكم، فلا تعودوا إلي الظهار الذي هو من شرائع الجاهلية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: أحكامه التي حددها فلا يحل تركها. التفسير 3 - {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)}: بين الله في الآية السابقة الحكم الإجمالي للظهار، وهو أنه منكر وزور، وجاءت هذه الآية وما بعدها بيانا لحكمه تفصيلا شاملا لظهار أوس زوج خولة التي حاورت الرسول صلي الله عليه وسلم بشأنه، ولظهار غيره من الأزواج. وقد بينت الآية أن الظاهر الذي يعود لما قال في امرأته، فعلية تحرير رقبة من قبل أن يمسها بالوطء والعود لما قاله، رجوعه عن تحريمها علي نفسه كأمه، إلي الرغبة في وطئها الذي حرمه علي نفسه، فاللام فيه بمعنى: عن، كما قاله الفراء، أي: يعود ويرجع عن تحريمها إلي الرغبة في وطئها. وقد جاء في الآية أنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر عن ظهاره بتحرير رقبة أي: إعتاق رقيق كامل الرق، ليصبح بهذا الإعتاق حرًّا بعد عبوديته، يتصرف تصرف الأحرار، لا تصرف العبيد، ولا بد في هذا الرقيق أن يكون سليما من العيوب - ذكرا كان أو أنثى - ويجب أن يكون مسلما عند مالك والشافعي كما في كفارة القتل، وعند أبي حنيفة:

يجزئ الكافر ومن فيه شائبة رِق كالمكاتب، فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزئ عند المالكية والحنفية، وقال الشافعي: يجزئ، لأن نصفي العبدين في معني العبد الواحد، ولكل دليله. وقد أوجب الله في هذه الآية أن يكون الإعتاق قبل أن يجامعها، فإن جامعها قبل التفكير أثم وعصي ولا يسقط عنه التكفير، بل يأتي به قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها، سواء أكانت الكفارة بالعتق أم بالصوم أم بالإطعام. أما مسُّها بغير الوطء قبل الكفارة كالقُبْلَة والمباشرة بغير وطء فلا يحرم عند أكثر العلماء، وقيل: ذلك وما أشبههن من أنواع المسيس حرام قبل أن يكفر، وبه قال مالك وهو أحد قولين عند الشافعي، وهو الظاهر؛ لأن مثل ذلك يؤدي إلي الوطء قبل التكفير (¬1). والمعني الإجمالي للآية: والرجال الذين يظاهرون من نسائهم ثم يرجعون عما قالوه من تحريم وطئهن كالأمهات إلي الرغبة في وطئهن، فعلى كل واحد منهم إعتاق عبد أو أمة إعتاقا كاملا قبل أن يجامع زوجته أو يستمتع بها عند بعضهم، ذلكم تؤمرون به، والله بما تعملون خبير، فيعفو عمن كفر قبل المسيس، ويعاقب من مسَّ قبل الكفارة. 4 - {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}: أفادت هذه الآية الكريمة أن الكفارة مرتبة، فلا ينتقل إلي الصوم من قدر علي العتق، ولا إلي الإطعام من قدر علي الصيام، وتفصيل ذلك ما يلي: 1 - من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها لكنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن وليس له غيره حتي يبيعه ¬

_ (¬1) فإن من حام حول الحمي يوشك أن يقع فيه، واعلم أنه لا ظهار للمرأة من الرجل - كما قال الشافعي، وقال الأوزاعي: هو يمين تكفرها، وقال الزهري: لا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها - انظر المسألة الثانية عشرة من القرطبي.

ويشتري الرقبة بثمنه، فله أن يصوم شهرين متتابعين عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلي ذلك. 2 - الكفارة الثانية للظهار أن يصوم شهرين إن عجز من الإعتاق بأي وجه مما تقدم ويجب أن يكون صيامهما متتابعا، فإن أفطر في أثنائهما لغير عذر استنأنفهما، فإن كان الفطر لعذر كسفر ومرض، فقيل: يبني على ما صامه - وهو الصحيح الذي قال به أكثر الأئمة، وقال أبو حنيفة: يبتديء. وهو أحد رأيي الشافعية. 3 - إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة: أتمَّ الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي: وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقطع الصيام ويعتق الرقبة. 4 - إذا وطئ المظاهر نهارا في أثناء صومه بطل التتابع وعليه أن يستأنف، فإن كان ليلا فلا يستأنف؛ لأن الليل ليس محلا للصوم، وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل وعليه الاستئناف؛ لأنه وطئ قبل الكفارة لقوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). 5 - من لم يقدر على الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا إطعاما مشبعا، وذهب الشافعي وغيره إلي أنه مد واحد لكل مسكين. وفي الظهار أحكام فرعية كثيرة، فمن أرادها فليرجع إلي موسوعات التفسير أو الفقه. والمعني الإجمالي للآية: فمن ظاهر من امرأته ولم يجد رقيقا ليعتقه؛ لأنه قد لا توجد عبيدا أو كانت موجودة ولا قدرة له على ثمن العبد، أو له قدرة على ثمنه لكنه يحتاج إليه لخدمته أو نحوها مما سبق بيانه - فمن ظاهر من امرأته ولم يجد رقيقا يعتقه على النحو السابق فعليه قبل أن يمس امرأته أن يصوم ستين يوما متتابعة، فإن أفطر في بعضها لغير عذر استأنف، فإن كان لا يقدر على الصيام شهرين متتابعين، فعليه أن يطعم ستين مسكينا إطعاما مشبعا، ذلك البيان المفصل لكي تؤمنوا بالله ورسوله بتنفيذه، وتلك الأحكام هي حدود الله الفاصلة بين الحق والباطل، فالزموها وقفوا عندها، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يعلمون بها عذاب شديد الإيلام.

وإطلاق لفظ الكافرين على من يتعدون حدود الله لزجرهم والتغليظ عليهم، ونظيرة قوله - تعالى - {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} (¬1). {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} المفردات: (يُحَادُّونَ): يعادون ويشاقون. (كُبِتُوا) أهلكوا أو أُخذوا. (عَذَابٌ مُهِينٌ): مذهب ومزيل لعزهم وكبرهم. التفسير: 5 - {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}: لما ذكر الله المؤمنين الواقفين عند حدوده، عقبهم بذكر المحادين المخالفين لها، قال القرطبي: والمحادة: المعاداة والمخالفة في الحد، وقال الزجاج: المحادة: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. أ. هـ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية 97.

وقال الآلوسي نقلا عن ناصر الدين البيضاوي في تفسير (يُحَادُّونَ اللَّهَ) يضعون، أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال نقلا عن شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم لمن وضعوا أمورا خلاف ما حدده الشرع وسموها قانونا، والله - تعالى - المستعان على ما تصفون. انتهى بتصرف يسير. ثم قال الآلوسي: إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق الآراء من أهل الحل والعقد، على وجه يحسن به الانتظام، ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين، بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام، فليس ذلك من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء، بل فيه استيفاء حقه، تعالى عن أتم وجه، لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع - عليه الصلاة والسلام - ثم قال: وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة وإشارة إلي ذلك، ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) لأن المراد كماله من حيث تضمنه ما يدل على حكم الله تعالى خصوصا أو عموما، ويرشد إلي هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين، إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، ونعم القانون الذي يكون وراء ذلك، بأن كان مصادما لما نطقت به الشريعة الغراء، زائغا عن سنن المحجة البيضاء، فيه ما فيه كما لا يخفي على العارف ... إلخ. والآية عن الأكثرين أشارت إلي ما كان يوم الخندق، ولكن حكمها عام، يتناول أهل الخندق وكل من يعارض أحكام الله - تعالى - ويعاديها ويؤثر عليها قوانين من وضع البشر مخالفة للنصوص الشرعية، ما لم تكن تلك القوانين فيما لم يرد فيه حكم الله تعالى، ويدل لجواز وضع القوانين فيما لم تنص عليه الشريعة أنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي إلي اليمن قاضيا ومفقها وأميرا وجامعا للزكاة، فقال له: "كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ " قال: بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلو -

أي: لا أُقصر، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" رواه أحمد أبو داود والترمذي وابن ماجه. والمعني الإجمالي للآية: إن الذين يعادون الله فلا يعلمون بحدوده وأحكامه، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويرفضونها أو يضعون أحكاما مخالفة لنصوص الشريعة تفضيلا لها عليها، أخزاهم الله ولعنهم كما فعل بالذين من قبلهم، وهم الذين عارضوا رسل الله السابقين ورفضوا حدود الله وشرائعه التي أنزلها إليهم، وقد أنزلنا آيات واضحات الحجة بينات المحجة، وللكافرين بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به عذاب يهينهم ويذلهم. 6 - {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}: أي: أذكر لهم أيها الرسول تعظيما ليوم الحساب - اذكر لهم - يوم يبعثهم الله جميعا رجالا ونساء، ويحشرهم إلي ساحة القيامة، فينبئهم بما عملوا في الدنيا من الآثام والمعاصي، وفي جملتها معاداة شريعة الله - ينبئهم بما عملوه - بيانا أو تصويرا لها بالصورة اللائقة بها على رءوس الأشهاد تخجيلا وتشهيرا بحالهم، زيادة في خزيهم ونكالهم أحصى الله ما عملوه عددا ولم يفته منه شيء علما وكتابة في صحف أعمالهم ونسوه لكثرته وتهاونهم به حتى ذكرهم به الله، ليكون أبلغ في الحجة عليهم، والله على كل شيء مطلع وناظر، فلا تخفى عليه من أعمالهم خافية.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} المفردات: (نَجْوَى) النجوي: التناجي، وهو المسارَّة. (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ): هلا يعذبنا الله بسبب ما نقول. (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ): كافيهم جهنم عقابا لهم في الآخرة. التفسير: 7 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى (¬1) ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}: ¬

_ (¬1) نجوى فاعل (يكون) التامة، و (من) زائدة و (إلا) أداة استثناء ملغاة لا عمل لها، وجملة (هو رابعهم) استثناء من أعم الأحوال.

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين واليهود كانوا يتناجون بما يسيء المسلمين فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال مجاهد: نزلت في اليهود، والنجوي: مصدر بمعني التناجي، وقال القرطبي نقلا من غيره: كل سرارٍ نجوي، وقيل: النجوي يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا يتناجون به، والسرار ما يكون بين اثنين (¬1). والمعني: ألم تعلم أيها الرسول أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، من عناصرهما وما استقر فيهما، حتى المناجاة - أي: المسارة - فإنه يعلمها ويعلم المتسارِّين بها، ما يكون من مسارة بين ثلاثة إلا الله رابعهم بعلمه لا بحلوله معهم في مكانهم، فإنه - تعالى - لا يحل في مكان ولا يمر عليه زمان، وكل من الزمان والمكان من خلقه - تعالى - وما يكون من مسارة بين خمسة إلا الله سادسهم بعلمه، ولا أقل من ذلك كالاثنين والأربعة، ولا أكثر منه كالستة وما فوقها، إلا هو معهم بعلمه، فلا يخفي على الله من نجواهم شيء حيثما كانوا في ظاهر الأرض أو باطنها، فإنه علمه - تعالى - لا يتفاوت باختلاف الأماكن قربا وبعدا ثم يخبرهم بما عملوا يوم القيامة تشهيرا بما عملوا من هذه المسارة الخبيثة وسواها، وإظهارا لموجب عذابهم، وأن الله مطلع على كل شيء فلا تخفي عليه خافية، وهذه الآية تؤكد ما جاء قبلها من أنه - تعالى - يعلم الذين يحادون الله ورسوله، ويضعون أحكاما مخالفة لشرعه، وأنه تعالى سوف ينبئهم بما عملوه، ويجزيهم عليه، وخلاصة الآية أنه - تعالى - محيط بكل كلام، ومن ذلك أنه سمع مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها، فإن قلت: لماذا اقتصر الله على الثلاثة والخمسة؟ فالجواب كما قال الفراء: المعني غير مصمود (¬2) والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفي عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد دون بعض (¬3). ¬

_ (¬1) وقال الراغب: النجوى أصله مصدر كما هنا، وقد يوصف به فيقال: هو نجوي وهم نجوي. قال تعالى: (وإذا هم نجوي) وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل: أهـ، يريد أنه على المبالغة كزيد عدل. (¬2) أي: غير مقصود. (¬3) نقله القرطبي.

8 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}: صح من رواية البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن أناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليكم. قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، وفي رواية: عليكم السام والذل واللعنة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: يا عائشة: إن الله لا يجب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام، فقال: يا عائشة أو ما سمعت أقول: وعليكم؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذَا جَاءُوكَ .... ) الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الآية في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر، فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم، فلما كثر ذلك شكا المؤمنون إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين، فعادوا لمثل ذلك فنزلت الآية، فمن حديث عائشة عرفنا أن النجوي كانت من اليهود، وأن الآية نزلت بسبب سوء تحيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن كلام ابن عباس عرفنا أن المنافقين كانوا يتناجون بالصورة التي رواها، ولا غرابة في ذلك فقد كان اليهود حلفاءهم قبل الإسلام، وعنهم أخذوا بعض الإسلام والمسلمين. ومعنى الآية: ألم (¬1) تعلم - أيها الرسول - ما فعله أولئك الذين نهيتهم عن المسارة فيما بينهم في شأنك وشأن المؤمنين، ثم يعودون لما نهوا عنه ويتسارون بالإثم والعدوان عليكم، وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم ينتهوا عما نهوا عنه، وإذا جاءوك لأمر من الأمور حيوك بما لم يحيك به الله، فقالوا: السام عليك - والسام: الموت - وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي أصحابه فقال، السام عليكم - فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) الهمزة للتعجب.

وقال: "أتدرون ما قال هذا؟ " قالوا الله ورسوله أعلم، قال: كذا ردوه عليّ، فردوه قال: "قلت السام عليكم؟ " قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت". وقال الله - سبحانه -: (حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)؛ لأنه الله يحييه بالسلام في مثل قوله تعالى (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وقوله (وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) وبما جاء في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والتعبير بذلك للإيذان بشناعة ما قاله اليهود لمن اصطفاه الله للرسالة وسلم عليه، ويقول هؤلاء اليهود: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا، وقد فات هؤلاء الجاهلين أن الله تعالى يعصى بكل المعاصي ومنها الكفر به ولا يعذب أولئك العصاة عذابا عاجلا ولا يقطع عنهم الرزق وكم من نبي أسيء إليه من قومه، لم يعاجلهم الله بالعقوبة، وهذا مقرر ومعروف لديهم (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا يدخلونها ويصطلون بها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم، فهي شر وأشد من عذاب الدنيا، وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآية 42.

المفردات: (تَنَاجَيْتُمْ): تساررتم. (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى): وتسارُّوا بالخير وتقوي الله تعالى. (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ): إنما المسارة بالمساءة، مصدرها والحامل عليها الشيطان. (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ): وليس الشيطان أو التناجي بالسوء بضارِّ المؤمنين بنفسه، بل بإرادة الله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ): فليعتمدوا على الله، ويتركوا أمرهم إليه، فإنه يحفظهم من كل سوء لم يكتبه عليهم. التفسير 9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}: هذه الآية للنهي عن المسارة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والخطاب فيها يجوز أن يكون للمؤمنين المخلصين تعريضا بالمنافقين، وكأنه قيل: يا أيها المؤمنون المخلصون في إيمانهم لا تفعلوا مثل المنافقين واليهود في تناجيهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك هو اللائق بصدق إيمانكم. ويجوز أن يكون الخطاب للمنافقين، وإطلاق لفظ المؤمنين عليهم باعتبار ظاهر حالهم، ومسايرة لهم في زعمهم. وقيل: إنه خطاب لليهود، والمقصود من وصفهم بالإيمان إيمانهم بموسي - عليه السلام - كما جاء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} (¬1) وقد ختم الله الآية بقوله - سبحانه -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). ¬

_ (¬1) سورة الحديد من الآية 28.

أي: وخافوا الله الذي إليه وحده تحشرون بعد بعثه لكم من قبوركم، لا إلي غيره استقلالا أو اشتراكا. 10 - {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}: أي: إنما التناجي والمسارة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان، فهو المتسبب فيها والحامل عليها؛ ليدخل الحزن في قلوب المؤمنين، وليس الشيطان أو التناجي بالإثم والعدوان بضارهم شيئا من الضرر إلا بإرادة الله - تعالى - ومشيئته، وذلك بأن يقضي بالموت أو الغلبة على أقاربهم، وعلى الله فليتوكل المؤمنون فلا تكترثوا بتناجيهم، ولتتوكلوا على الله ولا تحزنوا فلا يقع في ملكة إلا ما يريد، والمقصود من الآية إزالة خوف المؤمنين من تناجي أعدائهم. وقد روي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه"، وعلق عليه الآلوسي فقال، ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان ذلك يحزنه. وعلق عليه القرطبي بقوله: يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجي أربعة دون واحد، ولا عشرة ولا ألف - مثلا - لوجود هذا المعني في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون التناجي دون هذا الواحد بالمنع أولي، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتي ذلك فيه، وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور، وسواء كان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب، فإن الحزن يقع به، وقد ذهب بعض الناس إلي أن ذلك كان في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين، فيتناجي المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. أهـ. ورأي الجمهور أرجح من ذلك.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} المفردات: (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ): توسعوا في أماكن الجلوس. (فَافْسَحُوا): فتوسعوا. (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا): أي: وإذا قيل انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا. التفسير 11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)}: لما نهي الله فيما سبق عما هو سبب للتنافر والتباغض، أمر في هذه الآية بما هو سبب للمودة والوفاق، وهو أن يتفسحوا في المجالس في المسجد أو غيره لمن يقولهم لهم (¬1): تفسحوا ¬

_ (¬1) التفسح: تفعل من الفسح وهو التوسعة، يقال: فسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي: وسع له، وبابه منع، ومنه قولهم: بلد فسيح، ولك في كذا فسحة، أما فسح - بضم السين - فهو من باب كرم تقول: فسح المكان: أي صار واسعا.

والمعني: يا أيها الذين آمنوا إذا قال لكم قائل منكم: توسعوا في المجالس في المسجد أو غيره فاستجيبوا له وليفسح بعضكم عن بعض في المجالس، ولا تتضاموا فيها لمنعه من الجلوس بينكم، فإذا أفسحتم له يفسح الله لكم في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم، وقال بعضهم: المراد يفسح الله: سبحانه - لكم في كل ما تريدون الفسح فيه مما ذكر أو غيره. قال القرطبي: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير، والأجر، سواء أكان مجلس حرب أم ذكر أم مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه فلا يقام منه كرها، بل يستأذن في التوسعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلي ما لم يسبق إليه فهو أحق به" (¬1) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه، روي البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه الذي يجلس فيه"، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهي أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا"، وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه" واللفظ البخاري. والأكثر قالوا: إن الآية نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضامِّ في مجلسه صلى الله عليه وسلم والضِّنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل، قال الآلوسي: وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجالسه صلى الله عليه وسلم ومصاف القتال وغيرها. (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا (¬2) فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). والمعنى كم قال القرطبي: وإذا قيل لكم: انهضوا إلي الصلاة والجهاد وعمل الخير، فانهضوا ولا تتباطئوا، وقال ابن زيد: هذا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يجب أن يكون آخر عهده النبي صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا) عن النبي صلى الله عليه وسلم فانشزوا فإن له حوائج فلا تمكثوا. ¬

_ (¬1) انظر سنن أبي داود "كتاب الخراج والإمارة والفيء" ج 3 ص 452، 453 فقد ورد الحديث برقم 3071 بنحوه. (¬2) أمر في النشز وهو الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها.

وذكر الله أجر من امتثل في قوله - تعالى - (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) وهذه الدرجات إما أن تكون للذين أتوا العلم، وتنكير هذه الدرجات يؤذن بتعظيمها، وإما أن تكون لجميع المؤمنين وفيهم الذين أتوا العلم، وعطفهم على الذين آمنوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم كأنهم جنس آخر، ولذلك أُعيد لفظ الموصول معهم. أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا: "فضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" - {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬1). ورفعهم درجات يكون في ثواب الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على غير المؤمن، ويرفع العالم على من ليس بعالم. وختم الله الآية بقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجزي من يعمل بهذه الآية خير الجزاء ويعاقب من لم يمتثل بما يناسبه من عقاب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} ¬

_ (¬1) سورة الزمر من الآية 9.

المفردات: (نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ): ساررتموه. (بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ): قبل نجواكم، وفي هذا التعبير استعارة تمثيلية أو مكنية، والنجوى: المسارة. (أَأَشْفَقْتُمْ): أخفتم، أو شق عليكم. (وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ): قبل توبتكم، أو رفع عنكم التكليف بتقديمها. التفسير 12 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}: ذكر الآلوسي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس وقتادة، أن قومًا من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم، وكان صلى الله عليه وسلم سَمْحًا لا يرد أحدا، فنزلت هذه الآية. وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكشرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت. قال الآلوسي تعليقا على نزول هذه الآية: وفي هذا الأمر تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ونفع الفقراء، وتمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ودفع للتكاثر عليه من غير حاجة مهمة. وقال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية انتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقوموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا عن النجوي، لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بما نزل بعد الآية. وهذه الصدقة كان من مقاصدها نفع الفقراء، فإنها طلبت لتعطي لهم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل من الصدقة، ولم يعين في الآية مقدارها؛ ليجزيء القليل والكثير منها، وقد نسخ العمل بها كما سيأتي بيانه في الآية التالية.

قال القرطبي: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة، ثم قال: وذكر القشيري وغيره عن علي بن أبي طالب أنه قال: آية في كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) كان لي دينار فبعثه، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نَفِد، فنسخت بالآية الأخري: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)، وقال ابن عباس أيضا: نسخها الله بالآية التي بعدها، وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي بن أبي طالب ثلاث، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوي. والمعني الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: إذا ساررتم الرسول صلى الله عليه وسلم فقدموا قبل هذه المسارة والمناجاة صدقة تصرف على فقرائكم ذلك خير لكم وأطهر لقلوبكم، فإنه يعودها على حب البذل في الخير، كما أن فيه إعداد النفس لمزيد التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تجدوا ما تتصدقون به فإن الله غفور رحيم لمن ناجاه ولم يتصدق قبل المناجاة لفقره. 13 - {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}: أي: أخفتم الفقر بسبب أن تقدموا قبل نجواكم صدقات (¬1) أو أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتب الفقر عليه (¬2) فإذ (¬3) لم تفعلوا ما أُمرتم به من تقديمها قبل المناجاة وتاب الله عليكم من كثرة المناجاة للرسول صلى الله عليه وسلم من غير ضرورة، حيث عدلتم عنها بعد تكليفكم بتقديم الصدقة قبلها، والتزمتم القصد فيها والتخفيف فيها، فتحقق الغرض ¬

_ (¬1) وعلى هذا فالمفعول محذوف وهو لفظ الفقر، وأن تقدموا القليل لهذا الخوف، بتقدير باء السببية أو لفظ على قبل أن تقدموا. (¬2) وعلى هذا يكون لفظ: (أن تقدموا ... الخ) هو المفعول به لأشقق. (¬3) لفظ إذ في قوله - تعالى - (فإذا لم تفعلوا) ظرف الزمان الماضي.

سؤال هام وجوابه

الأول من تكليفكم بها، وهو زيادة احترامكم لرسوله، وعدم إرهاقه بكثرة المناجاة له - فإذا لم تفعلوا تقديم الصدقة، وقبل الله توبتكم بالتزامكم القصد في مناجاته، فقد رفعنا عنكم تقديمها قبل المناجاة، ونسخنا تكليفكم بها، فالتزموا المثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهما ركنان هامان من أركان الإسلام، وأطيعوا الله ورسوله في كل ما أمركم به، ومنها ما تقدم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ) الآية والله خبير بما تعلمونه ظاهرا أو خفيًّا، فيجازكم بما يتناسب مع أعمالكم، والتعبير بلفظ (صدقات) بالجمع، مع أن المطلوب صدقة واحدة قبل المناجاة، لأن الخوف لم يكن من تقديم صدقة واحدة، بل من تكرار تقديم الصدقة في كل مناجاة، ولأن جمع الصدقة في مقابل جمع المشفقين، يقتضي القسمة آحادًا. وفي قوله تعالى: (وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) إشعار بأنه - سبحانه - قد عذرهم ورخص لهم في ألا يقدموا صدقة. سؤال هام وجوابه: فإن قيل: أليس الله بأعلم بأنهم لن يتصدقوا، فما معنى تكليفهم بها ثم تغيير هذا الحكم؟ فالجواب: أنه لما حصل المراد من تكليفهم بها، وهو توفير وقت الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم إرهاقه بالمناجاة الشخصية التي لا يشترك فيها المسلمون، لم تعد هناك حاجة لبقاء التكليف بها، وحسبهم عنها الزكاة التي أوجبها الله على الموسرين منهم، فهي تأديب في ثوب بر، فحيث حصل الأدب من غير تقديمها فلا داعي لبقائها، ففي الزكاة كفاية عنها.

* {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} المفردات: (تَوَلَّوْا قَوْمًا): أي: والوهم من المولاة والمناصحة والمراد: موالاة المنافقين لليهود. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ): وهو قولهم: والله إنا لمسلمون. (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً): أي: أعدوها سترا ووقاية؛ ليخلصوا عن المؤاخذة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ): وذلك بتثبيط مَنْ لقوهم عن الدخول في الإسلام. (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ): أي: استولى عليهم وتحكم في أمورهم.

التفسير 14 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}: شروع في إنكار موالاة المنافقين لليهود، وتعجيب من حالهم وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وإلي كل من يتأتى منه النظر. والمعنى: ألم تنظر أيها الرسول إلي حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، فإن حالهم ليدعو إلي العجب، حيث إنهم يوالون قوما غضب الله عليهم وهو اليهود (مَا هُمْ مِنْكُمْ) معشر المؤمنين (وَلا مِنْهُمْ) أي: من القوم المغضوب عليهم؛ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك كما قال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} (¬1) وجملة {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} مستأنفة أَو حال من فاعل تولوا. وجوز ابن عطية أن يكون هم في (مَا هُمْ مِنْكُمْ) لليهود، وضمير (وَلا مِنْهُمْ) للمنافقين وعلى ذلك يكون المعنى: ألم تر إلي الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم ما هم أَي: القوم المغضوب عليهم منكم ولا من المنافقين الذين تولوهم فيكون فعل المنافقين على هذا أَخس؛ لأَنهم تولوا قومًا مغضوبًا عليهم ليسوا من أَنفسهم فيلزمهم ذِمَامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابًا. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَي: ويحلف المنافقون على الكذب وهو قولهم: والله إِنا لمسلمون، أَو على أَنهم ما شتموا النبي صلى الله عليه وسلم على ما روي أَنه كان جالسًا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إِنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعين شيطان فإِذا جاءَكم فلا تكلموه. فلم يلبثوا أَن طلع عليهم رجل أَزرق فقال - عليه الصلاة والسلام - حين رآه: علام تشتمني أَنت وأَصحابك، فقال: ذرني آتك بهم. فانطلق فدعاهم فحلفوا فنزلت، خرجه الإِمام أَحمد وغيره. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 143.

حلف المنافقون على ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنهم كاذبون فيما حلفوا عليه، وفي ذلك إِشارة إلي عظيم شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يعلم أَنه كذب في غاية القبح. 15 - {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)}: أَي: أَنه - سبحانه - أَعد للمنافقين نوعًا شديدًا من العذاب متفاقمًا، بسبب سوءِ صنيعهم الذي اقترفوه بموالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم. وقد بلغوا في الإِساءَة إِليهم أقصى ما تعودوا الإِتيان به، وتمرنوا عليه من فساد وإِفساد منذ الأَزمان الماضية المتطاولة التي كانوا فيها يعيثون في الأَرض الفساد. 16 - {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}: المعنى: أَن اتخاذهم لأَيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً وسترًا حتى تسلم دماؤهم وأَموالهم إذا ما افتضح وانكشف أَمرهم هو عبارة عن إِعدادهم لتلك الأَيمان، وتهيئتهم إِلي وقت الحاجة ليحلفوا بها، ويتخلصوا من المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأَخر عن المؤاخذة وبما ذكر وضح أَن المراد من قوله - تعالى -: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أَي: أَعدوها. أَما في قراءَة الحسن (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ) بكسر الهمزة، فالاتحاد عبارة عن التستر بالفعل كأَنه قيل: تستروا مما أَظهروه من الإِيمان عن أَن تستباح دماؤهم بالقتل وأَموالهم بالغنيمة وذرايهم بالسبي (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَي: فصد المنافقون الناس عن سبيل الله في خلال أَمنهم بتثبيط من لقوا منهم عن الدخول في الإِسلام وتهوين أَمر المسلمين عندهم، أَو قصد: ومنع المنافقون المسلمين عن سبيل الله فيهم وهو قتلهم لكفرهم ونفاقهم هذا هو سبيل الله فيهم. ثم ختمت الآية بوعيد ثان ووصف آخر لعذابهم الذي وصف أَولًا بأَنه شديد في قوله - تعالى -: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} لبيان أَن العذاب بوصفيه الشديد والمهين بلغ الغاية في الشدة والإِهانة حتى حق عليهم قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} (¬1)، وقيل: الأَول لعذاب القبر والثاني للآخرة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية 145.

17 - {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)}: أَي: لن تدفع عنهم عذابَ الله أَموالهم مهما بلغت، ولا أَولادهم مهما كانت معونتهم، فلا تعني عنهم أَي غناء قليلًا كان أَو كثيرًا، وليس المراد خصوص الأَموال والأَولاد، بل كل ما يعتبره الإِنسان من دواعي القوة والمنعة. وإِنما خص الأَموال والأَولاد بالذكر؛ لأَن الإِنسان في الغالب تارة ما يدفع عن نفسه بالفداء، وأُخرى بالأَولاد (أُوْلَئِكَ) المنافقون الموصوفون بما ذكر (أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَي: المخلدون فيها لا يخرجون منها أَبد الآبدين. روي أَن رجلًا منهم قال: لنُنْصَرُنَّ يوم القيامة بأَنفسنا، وأَموالنا وأَولادنا فنزلت الآية. 18 - {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)}: أَي: حين يبعثهم الله حينمًا من قبورهم ويساقون للقاءِ ربهم فيحلفون له - سبحانه - حينئذ بأَنهم مسلمون حيث قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كما يحلفون لكم في الدنيا، ويظنون أنهم بتلك الأَيمان الفاجرة على شيء من جلب منفعة أَو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا إذ كانوا يدفعون عن أَموالهم الغنيمة، وعن أَرواحهم القتل، وعن ذراريهم السبي بمثل تلك الأَيمان الفاجرة ويأملون بها فوائد دنيوية (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ) البالغون الغاية في الكذب التي لا مطمح بعدها الكاذب، حيث استوت حالهم فيه الدنيا والآخرة بتجاسرهم على علام الغيوب الذي يعلم السر وأَخفى وزعموا أَن أَيمانهم تجعل الكذب مقبولًا لديه - عَزَّ وَجَلَّ - كما تجعله مقبولًا لدى المؤمنين الذين لا يعلمون إلاَّ ظاهر القول، أَما كُنْهُهُ وحقيقة أَمره فعلمه عند الله. 19 - {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}: أَي: استولي عليهم وتمكن من عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فأَنساهم بذلك ذكر الله، قال الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد أَن يشغله بعمارة ظاهرة من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها،

ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبُهْتَان، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها (أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ) أَي: المصوفون بما ذكر من القبائح والتمادي في العصيان (حِزْبَ الشَّيْطَانِ) أَي: جنوده وأَتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: الموصوفون بما ذكر من القبائح والتمادي في العصيان (حِزْبَ الشَّيْطَانِ) أي: جنوده وأَتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: البالغون في الخسران أَقصاه حيث إنهم بسوءِ صنيعهم فوتوا على أَنفسهم النعيم المقيم، واختاروا بدله الشقاءَ الدائم، والعذاب الأَليم. وفي اشتمال الجملة على حرفي التنبيه والتأكيد وضمير الفصل وغير ذلك من فنون التوكيد ما لا يخفى. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} المفردات: (يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): أَي: يعادونهما ويخالفون أَمرهما. (أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ): أَي: في جملة من هم أَذل خلق الله.

(كَتَبَ اللَّهُ) أَي: أَثبته وأَوجبه. (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ): العشيرة هي: القبيلة ولا واحد لها من لفظها، والجمع: عشرات وعشائر أهـ. مصباح. التفسير: 20 - {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)}: استئناف مسوق لتعليل ما قلبه من خسران حزب الشيطان، والتعبير بالموصول ذَمًّا لهم بما في حيز الصِّلة وإِشعارا بعلية الحكم. والمعنى: أُولئك الموصوفون بما ذكر من التولي والموادة للقوم المغضوب عليهم هم في جملة من جعله الله أَذل خلقه من الأَولين والآخرين؛ لأَن ذلة أَحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر. وحيث كانت عِزَّة الله غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك. 21 - {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}: استئناف وارد لتعليل كونهم في الأَذلين. والمعنى: قضى الله وأَثبت في اللوح المحفوظ، حيث جري (كَتَبَ اللَّهُ) مجرى القسم أُجيب عنه بما أُجيب به القسم فقيل: (لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أَي: بالحجة والعَدَد والعُدَّة، ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)} (¬1) ويكفي في الغلبة تحققها للرسل - عليهم - السلام - في أَزمنتهم غالبا، فقد أَهلك الله الكثير من أَعدائهم بأَنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم. وبذلك تحققت الغلبة لرسله، كما تحققت للرسول صلى الله عليه وسلم لأَن العاقبة كانت له بعد حرب استمرت بينه وبين أَعدائه، وكذا لأَتباع الرسل وبعدهم وذلك إِذا كان جهادهم أَعداءِ الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأَن يكون خالصا لوجه الله - عزَّ وجلَّ - لا لطلب ملك وسلطنه، وأَغراض دنيوية. ولن تجد مجاهدا كذلك إلاَّ منصورا غالبا. وخص بعضهم ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآيات 171 - 173.

الغلبة في الآية بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر كما قال الآلوسي، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل: لَمَّا فتح الله - تعالى - مكة والطائف وخيبر وما حولها للمؤمنين قالوا: نرجو أَن يظهرنا الله - تعالى - على فارس والروم، فقال عبد الله بن أُبي: أَتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إِنهم لأَكثر عددا وأَشد بطشا من أَن تظهروا عليهم فنزلت الآية (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينصر رسله وأَولياءَه بقوته القاهرة، وعزته البالغة: فلا يغلبه على مراده كائن كيفما كان. 22 - {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}: الخطاب في الآية للرسول أَو لكن من هو أهل للخطاب. والمعنى: من الممتنع أَن تجد قوما مؤمنين يوادون من عادى الله ورسوله وذلك بأَن يجمعوا بين الإِيمان وموادة من عادى الله ورسوله. وهو المراد بنفي الوُجْدان، على معنى أَنه لا ينبغي أَن يتحقق ذلك، وحقه أَن يمتنع ولا يوجد بحال وإِن قصده وجَدَّ في طلبه كُلُّ أَحد، وذلك مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أَعداءِ الله ومباعدتهم. وقيل: المراد لا تجد قومًا كاملي الإِيمان على هذه الحال، والنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادين موالاتهم ومظاهرتهم، والظاهر أَن المراد بمن حاد الله ورسوله الكافر. وبعض الآثار تشير إِلي شموله الفاسق. روي عن الثوري أَنه قال: نزلت فيمن يصحب السلطان. وقال سهل: من صحح إِيمانه وأَخلص توحيده فإِنه لا يأنس لمبتدع ولا يجالسه، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعًا سلبه الله حلاوة السنن، ومن تجبب إلى مبتدع لطلب عز الدنيا أَو غناها أَذلَّهُ الله بذلك العز وأَفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إِلي مبتدع نزع الله نور الإِيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب.

وأَخرج الإِمام أَحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعًا: "أَوثق الإِيمان الحب في الله والبغض في الله"، ونعى الآلوسي على بعض المنتسبين إِلي بعض المتصوفة فقال: ومن العجب أَن بعض المنتسبين إِلي المتصوفة - وليس منهم ولا قلامة ظفر - يوالي الظلمة، بل من لا علاقة له بالدين منهم، وينصرهم بالباطل، ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس أهـ. وقد زاد - سبحانه - النهي عن موادة من عادى الله ورسوله تاكيدًا بقوله: (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أَي: ولو كان من حادّ الله ورسوله آباء الموادين أَو أَبناءهم أَو إِخوانهم أَو من قبيلتهم التي ينتمون إِليها، ويستظلون بلوائها. وليس المراد بمن ذكر خصوصهم، وإِنما المراد الأَقارب مطلقًا. وقدم الآباءَ لوجوب طاعتهم على الأَبناءِ ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأَبناء لقوة الارتباط في الدنيا بهم لكونهم أَكبادهم، وثلث بالإِخوان؛ لأَنهم المناصرون لهم، وختم بالعشيرة للاعتماد على أَفراد القبيلة والتناصر بهم بعد الإِخوان غالبًا (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ) إِشارة إِلي الذين لا يوادون من حاد الله وروسوله وإِن كانوا أَقرب الناس إِليهم، وأَمسهم رحمًا بهم، وما في الإِشارة في معنى البعد في قوله - تعالى - (أُوْلَئِكَ) للتنويه برفعة شأنهم، وعلو قدرهم، وأُولئك كتب الله وأثبت في قلوبهم الإِيمان، ولَمَّا كان الشيء يراد أولًا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبتدأ بالمنتهى وهو الكتابة للتأكيد والمبالغة في اتصافهم به (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أَي: قواهم بكتاب أَنزله، فيه حياة لهم وهو القرآن، أَو بروح من الإِيمان على أَنه في نفسه روح؛ لأَن به حياة القلوب، والمراد بالروح على هذا نور يقذفه الله في قلب من يشاء. تحصل به الطمأنينة، والعروج على معارض التحقيق. وتسميته روحًا؛ لأَنه سبب الحياة الطيبة الأَبدية. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ذلك بيان لآثار رحمته - تعالى الأُخروية إِثر بيان ألطافه الدنيوية حيث يدخلهم من جنات باسقة الأَشجار طيبة الثمار. تَتَخلَّلُ أشجارها وتنساب بين قصورها أنهار جارية متدفقة تزيدها جمالًا وبهاءً، ماكثين فيها أبد الآبدين.

(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) استئناف جار مجرى التعليل لِمَا آتاهم الله من آثار رحمته التي أفاضها عليهم في الدارين الدنيوية والأُخروية أي: قبل أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بيان لابتهاجهم الذي بدت آثاره عليهم بما أُوتوه عاجلًا وآجلًا. وقد شرفهم - سبحانه بقوله: (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) المختصون به تعالى - وذلك تشريف لهم لا يعدله تشريفٌ ما. (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): هذا بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين، جاءَ بجملة مؤكدة تأكيدا قويًّا كما سبق بيانه قريبا. والآية قيل: نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - أَخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حُدّثت أَن أَبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم وصكه أَبو بكر صكة فسقط، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أَفعلت يا أَبا بكر؟ قال: نعم: قال: لا تعد. قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لضربته. وفي رواية: لقتلته. فنزلت. وقيل: نزلت في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح. أخرج ابن أَبي حاتم والطبراني وجماعة عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أَبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أَبو عبيدة يحيد عنه فلما أَكثر قصده أَبو عبيدة فقتله فنزلت، وقيل: نزلت في مصعب بن عمير قتل أَخاه يوم أُحد، وقيل: نزلت في علي كرم الله وجهه، وحمزة وعبيدة ابن الحارث يوم بدر قتلوا عتبة وشيبه ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وعلى أَي حال فالحكم عام. وإِن نزلت في أُناس بأَعيانهم كما لا يخفى.

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس مناسبتها لما قبلها: إِن في آخر تلك {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}، وفي أَول هذه (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ)، وفي آخر السابقة ذكر من حاد الله ورسوله، وفي أَول هذه ذكر من شاق الله ورسوله، وأن في الأُولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضًا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود، وعدم إِغناء تولي المنافقين إِيَّاهم شيئًا. أهم أغراض السورة: ابتدأَت بتنزيه الله وتمجيده، وبيان أن الكون له وحده بما فيه من إِنسان، وحيوان، وجماد ونبات يشهد بعظمته وسلطانه: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ... ) الآية ثم تحدثت عن مظاهر قدرته في إِخراج بني النضير وإِجلائهم عن ديارهم ولم تنفعهم حصونهم العالية ولا قلاعهم المنيعة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .... ) الآيات ثم تناولت موضوع الفئ، فبينت شروطه وأَحكامه مع بيان الحكمة في إِعطائه الفقراءَ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ .... ) الآيات، ثم أَشارت إِلي أَصحاب رسول الله وأَثنت عليهم الثناء العاطر بذكر تضحيات المهاجرين ومآثر الأَنصار: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ..... ) الآيات. وفي مقابلة المهاجرين والأَنصار ذكرت السورة المنافقين الأَشرار الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإِسلام وكان مثلهم معهم كمثل الشيطان الذي يزين للإنسان سوءَ عمله، ثم يتخلى عنه ويخذله: (أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ ... ) الآيات. وحثت المؤمنين على تقوى الله، وحذرت من ذلك اليوم الرهيب الذي لا ينفع المرء فيه إلاَّ ما قدمت يَدَاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ .... ) الآية، وبينت الفرق الكبير بين

أَهل الجنة، وأَهل السعير، وبين مصير السعداءِ، ومصير الأَشقياء: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ .... ) الآيات. وختمت السورة ببيان شأن القرآن، وعظيم تأثيره، وأَنه رفيع القدر، نابه الذكر؛ لأَن الذي أَنزله هو المتصف بالأَسماءِ الحسني: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... ) الآيات. بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}

المفردات: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) التسبيح: التنزيه لله - تعالى - اعتقادا وقولًا وعملًا عمَّا لا يليق به. (لأَوَّلِ الْحَشْرِ): عند أَول جمع اليهود لإِجلائهم. فالحشر معناه: الجمع، ومنه: وحشر لسليمان جنوده. (حُصُونُهُمْ): مفرده حصن، وهو المكان المنيع الذي لا يقدر عليه لارتفاعه، وحصن حصانة فهو حصين أَي: منيع. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ): أَي: أَلقاه وأَنزله بشدة. (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ): عادوهما وخالفوهما. (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) اللينة - بكسر اللام -: النخلة القريبة من الأرض الكريمة الطيبة. التفسير 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}: المعنى: نزَّه الله عما لا يليق به ما في السموات وما في الأَرض. وذلك يعم جميع ما كان مستقرًّا فيهما، وما كان من أَجزائهما حيث أُريد به معنى عام شامل لكل ما نطق بلسان المقال كالملائكة والمؤمنين من الثقلين، وما نطق بلسان الحال كغيرهم، وهو المراد من قوله - تعالى -: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (¬1)، وذكرت اللام في لفظ الجلالة مع الفعل المتعدي وهو سبَّح إِما للتأكيد أَو للتعليل بمعني فعل التسبيح لأَجل الله - تعالى - وخالصا لوجهه. وبدئت بعض السور بلفظ سبح وبعضها بلفظ يسبح للإِيذان بتحقق التسبيح في جميع الأَوقات (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزهُ شيءٌ كائنا ما كان، ولا يفعل إلاَّ ما تقتضيه الحكمة. وكرر الموصول هنا فقيل: (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء من الآية: 44.

روي أَنه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا قدم المدينة صالح بني النضير وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - عليه السلام - نزلوا بالمدينة في فتن بني إِسرائيل انتظارا لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صلحه معهم عاهدهم أَن يكونوا لا له ولا عليه. فلما ظهر - عليه الصلاة والسلام - على المشركين يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رواية، فلما كان يوم أُحد ما كان ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأَشراف زعيمهم في أَربعين راكبا إِلي مكة فخالفوا قريشا عند الكعبة على قتاله عليه الصلاة والسلام - فأَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأَنصاري فقتل كعبا غيلة وكان أَخاه من الرضاعة ثم صبحهم - عليه الصلاة والسلام - بالكتائب فقال لهم: اخرجوا من المدينة فاستمهلوه عشرة أَيام ليتجهزوا للخروج، فدس عبد الله بن أُبي المنافق وأَصحابه من قال لهم: لا تخرجوا من الحصن فإِن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم، فسدوا الأَزقة وحصنوها فحاصرهم النبي - عليه الصلاة والسلام - إِحدي وعشرين ليلة فلما قذف الله في قلوبهم الرعب، وأَيسوا من نصر المنافقين لهم طلبوا الصلح، فأبى صلى الله عليه وسلم إلاَّ الجلاءَ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير. يحملون ما شاءُوا من متاعهم. فجلوا إِلى الشام إِلى أَريحا وأَذرعات إلاَّ أَهل بيتين منهم هما آل أَبي الحقيق وآل حيي بن أَخطب فإِنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فأَنزل الله: - تعالى - (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) إلي قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله - تعالى -: 2 - {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)}: هذه الآية بيان لبعض آثار عزته تعالى، وإحكام حكمته إثر وصفه - تعالى - بالعزة القاهرة والحكمة البالغة على الإِطلاق في الآية السابقة، وعلى هذا فالضمير راجع إِلى الله سبحانه وتعالى.

والمعنى: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وهم يهود بني النضير. أَخرجهم من ديارهم بالمدينة لأَول الحشر بمعنى عند أول إِخراج لهم، والحشر: إِخراج الجماعة من مقرهم وإِزعاجهم عنه إِلي الحرب وغيرها، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاءٌ قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إِلي الشام وغيرها، وآخر حشرهم بإِجلاءِ عمر - رضي الله عنه - إيَّاهم من خيبر إِلي الشام، وقيل: آخر حشرهم يوم القيامة. ومشروعية الإِجلاءِ كانت في ابتداءِ الإِسلام، أَما الآن كما يقول الآلوسي فقد نسخت فلا يجوز إِلاَّ القتل أو السبي أو ضرب الجزية. وكان من شأنكم أيها المسلمون أَنكم (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لشدة بأسهم، ومنعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم كما كان من شأنهم أنهم ظنوا أَن حصونهم مانعتهم من أمر الله تعالى: وكان مقتضي الظاهر أن يقال لمقابلة ما ظننتم أن يخرجوا، أن يقال: وظنوا ألاَّ يخرجوا ولكن عدل إِلي ما في النظم الجليل للإِشعار بأَن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتْي بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه بتقديم الخبر وهو (مَانِعَتُهُمْ) على المبتدأ وهو (حُصُونُهُمْ) للدلالة على الاختصاص والتوكيد فكأَنه لا حصن أمنع من حصونهم ليكون مانعًا من الوصول إِليهم (فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أَي: نزل بهم أَمر الله وقدره المقدور لهم من حيث لم يتوقعوه ولم يخطر لهم على بال وهو قتل رئيسهم كعب بن الأَشراف فإِنه ممَّا أَضعف قوتهم، وفل شوكتهم، وسلب قلوبهم الأَمْنَ والاطمئنانَ وألبسهم أردية الخضوع والاستكانة (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ) بإِلقاءِ الخوف الشديد فيها بقوة، أو من مكان بعيد (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) الجملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر تقديره: فما حالهم بعد قذف الرعب فيها أَو معه؟ فأُجيب بالجملة. والمعنى: يخربون بيوتهم من باطنها بأيديهم ليسدوا بأَخشابِهَا وأَحجارها أَفواه الأَزقة تحصينًا لها وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المسلمين والانتفاع بها بعد جلائهم عنها فيزيدهم ذلك ندمًا وحسرة، ولينقلوا ما فيها من جيد الخشب والساج معهم، كما كانوا يخربون تلك

البيوت من خارجها بأَيدي المؤمنين الذين أرادوا اقتحامها عليهم ليزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال المعركة أَمام المسلمين فيتسنى لهم الغلبة عليهم، واستئصال شأفتهم فلا تبقي لهم بالمدينة دار. ومعنى تخربيهم لبيوتهم بأَيدي المؤمنين: أَنهم لما عرضوا أَنفسهم وديارهم بنكث العهد وكانوا السبب فيه فكأَنهم أمروا المسلمين به وكلفوهم إِياَّه، وبهذا الاعتبار عطفت بأَيدي المؤمنين على بأَيديهم (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أَي: فتأَملوا يا أُولي العقول والأَلباب، واتعظوا بما جري عليهم من الأُمور الهائلة، واتقوا مباشرة ما أَوصلهم إِليه الكفر والعصيان واحذروه واعتمدوا على الله وحده حتى لا تُعاقَبوا بمثل عقابهم. 3 - {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)}: أَي: ولولا أَن كتب الله عليهم الإِخراج أو الخروج عن أَوطانهم على تلك الصورة الفظيعة (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وجيء بقوله - تعالى - (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) لبيان أَنهم إِن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل فلا نجاة لهم من عذاب الآخرة، وليس تمتعهم أَيامًا قلائل بالحياة، وتهوين أَمر الجلاء على أَنفسهم بنافع لهم، وفيه إِشارة إِلى أَن القتل أَشق من الجلاءِ لا لذاته، بل لأنهم يصلون عنده إلي عذاب النار. وفرق بعضهم بين الجلاءِ والإِخراج بأَن الجلاءَ ما كان مع الأَهل والولد، والإِخراج قد يكون مع بقاءِ الأَهل والوالد. وقال الماوردي: الجلاءُ لا يكون إِلاَّ لجماعة، والإِخراج قد يكون لواحد ولجماعة. 4 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}: الإِشارة في قوله (ذَلِكَ) تنبيء بأَن ما حاق بهم أَو ما سيحيق بسبب أَنهم عادوا الله ورسوله وخالفوهما وفعلوا من المحكي عنهم من القبائح والسيئات (وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ) الاقتصار على ذكر مشاقة الله لتضمنها لمشاقة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وليوافق قوله - تعالى -: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): أَي: يعاقبه؛ لأَنه - سبحانه - شديد العقاب

كأَنه قيل: ذلك الذي نزل بهم من العقاب أو سينزل بهم هو بسبب مشاقتهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكل من يشاق الله - تعالى - كائنًا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد. 5 - {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)}: قال الحافظ بسنده عن جابر قال: رخص لهم في قطع النخل وشدد عليهم، فأَتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علينا إِثم فيما قطعنا أَو علينا وزر فيما تركنا؟ وكان بعضهم قد شرع أَثناءَ الحصار في قطع بعض النخيل إِغاظة لهم وإِرهابًا لقلوبهم فأَنزل الله تعالى الآية. والمعنى: ما قطعتم أَي نخلة كما قال الحسن ومجاهد والراغب وجماعة، أَو أَي نخلة كريمة كما قال الثوري، كأَنها أُخذت من اللِّين، أَو تركتموها قائمة على أَصولها لم تتعرضوا لها بشيءٍ ما فذلك الذي فعلتموه من القطع أو الترك بأَمر الله - تعالى- الواصل إِليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بإِرادته - سبحانه - ومشيئته (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) أَي: وليعز المؤمنين، ويذل اليهود ويغيظهم؛ لأَنهم إِذا رأَوا المؤمنين يتحكمون في أَموالهم كما أرادوا، ويتصرفون فيها حسبما أحبوا من القطع أو الترك يزدادون غيظا، وكمدا، وحسرة، وندما، حيث إِن في القطع خزيا - بالغًا لذهابها بأَيدي أَعدائهم المسلمين وحسرة شديدة، وفي الإِبقاءِ حسرة أَشد، وخزيًا أَبلغ لكونها باقية في أَيدي أَعدائهم المسلمين يتمتعون بها وينعمون بثمرها قال بعضهم: هاتان الحسرتان تتحققان أَيضا كيفما كانت المقطوعة أَو المتروكة؛ لأَن النخل مطلقًا مما يعز على أَصحابه فلا تكاد تسمح أَنفسهم بتصرف أَعدائهم فيه حسبما شاءُوا، وعزته على صاحبه الغارس له أَعظم من عزته على صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كإِصبع من أَصابع يدي، وتحقُّق الحسرة على الذهاب إِن كانت المقطوعة نخلة كريمة أَظهر. واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم وإِحراق زروعهم زيادة لغيظهم ومضاعفة لحسرتهم. ويرى الفقهاءُ في المسأَلة أَن القطع والتحريق أَولى إِن علم بقاؤها في أَيدي الكفار، وإِلا فالإِبقاءُ أَولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة.

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} المفردات: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) الفيءُ: كل مال أُخذ من الكفار بغير قتال. (فما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) إِيجاف الخيل والركاب: سرعة سيرها، يقال: أَوجف البعير: حثه وحمله على السير السريع، والركاب اسم جمع لا واحد له من لفظه غلب على ما يركب من الإِبل كما تطلق كملة الراكب على راكبه، فلا يقال في الأَكثر الفصيح راكب لمن كان على فرس ونحوه، بل يقال: فارس، أَي فما أَجريتم على تحصيله خيلًا، ولا ركابًا. (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى): هم أَهل قرى الكفار عامة الذين أُخذت أموالهم صلحًا بغير إِيجاف خيل ولا ركاب. (وَلِذِي الْقُرْبَى): هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب. (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الدولة: ما يتداول في الأَيدي، فيحصل في يد هذا تارة وفي يد هذا أُخري، أَي: يتداوله الأَغنياءُ بينهم فلا يصيب الفقراء.

التفسير: 6 - {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}: شروع في بيان حال ما أُخذ من أَموالهم بعد بيان ما حال بأَنفسهم من العذاب العاجل والآجل، أموال الكفرة التي تكون فيئًا للمؤمنين؛ لأَن الله خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق من الأَّموال ليتوسلوا بها إلى طاعته. (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَي: إِن سنته جارية منذ الأَزل على أَن يسلط رسله على من يشاءُ من أَعدائهم يقذف الرعب في قلوبهم، وقد سلط رسوله صلى الله عليه وسلم على بني النضير تسليطًا غير مألوف من غير أَن تتحملوا مضايق الخطوب، وتقاسوا شدائد الحروب؛ لذلك فلا حق لكم في أَموالهم، ويكون أَمرها مفوضًا إِليه صلى الله عليه وسلم (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاءُ كما يشاءُ على الوجوه المعهودة تارة وأُخرى على غيرها لا يغالب ولا يمانع ولا يعجزة شيءٌ في الأَرض ولا في السماءِ. 7 - {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}: بيان لحكم ما أَفاءَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من قرى الكفار على العموم، بعد بيان حكمه فيما أَفاءَه من بني النضير. فالآية جوابٌ على سؤال مقدر ناشيء عمَّا فهم من الكلام السابق، فكأَن قائلًا يقول: قد علمنا حكم ما أَفاءَ الله من بني النضير، فما حكم ما أَفاءَ الله تعالى من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ الله على رسوله ...... الآية، ولذا لم تعطف على ما قبلها، وإِعادة عين العبارة الأُولى في الآيتين لزيادة التقرير (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قد اختلف في قسمة ما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع.

نزلت حين طلب الصحابة منه صلى الله عليه وسلم أَن يقسم بينهم أَموال بني النضير قسمة الغنائم كما حدث في بدر، فبين الله - تعالى - أنها فيءُ لا غنيمة إِذ إِنهم لم يقطعوا لها شقة، ولم يلقوا فيها مشقة، ولم يلتحموا فيها بقتال شديد، بل ذهبوا إِليها رجالًا، وكانت على ميلين من المدينة، وفتحت صلحًا، فهي للرسول خاصة يتصرف فيها كما أَمره الله سبحانه. والمعنى: ما رجع إِليكم وحصلتم عليه من أَموال بني النضير بعد رحيلهم عنها فهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيها حسبما شرعه الله تعالى، فقد أَخرج البخاري ومسلم وأَبو داود والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -: قال: كانت أَموال بني النضير ممَّا أَفاءَ اللهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم ممَّا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يتفق منها على أَهله ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع، عدة في سبيل الله يعطي منها من يشاءُ، ولذلك آثر المهاجرين بها ولم يعط الأَنصار شيئا عدا ثلاثة لفقرهم كما قال الضحاك. وخصت به صلى الله عليه وسلم لأَنها حصلت لكم صلحًا، فلم تحصلوها بكد اليمين، وعرق الجبين ولم توجفوا على الوصول إِليها خيلًا ولا ركابًا، بمعنى أَنكم لم تدفعوها دفعًا شديدًا لغزو بني النضير وإِنما ذهبتم إِليها رجالًا ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب ديارهم من المدينة، وفيما ذكر إِشعار بأَن هذه الأَموال حرية بأَن تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإِنما وقعت في أَيديهم بغير حق. فأَرجعها الله إِلى مستحقها، من فاءَ الظل: إِذا رجع، وكذلك شأن الفيءِ من أَهل القري غير بني النضير فقيل: يسدس كظاهر الآية، ويصرف سهم الله في عمارة الكعبة، وسائر المساجد، والمصالح العامة وقيل: يخمس وهو الصحيح وذكر الله للتعظيم، ويصرف سهم الرسول بعد وفاته إلي إِمام المسلمين على قول، وإِلى العساكر والثغور على قول، وإِلى مصالح المسلمين على قول. وحاصل المعنى: أَن فيءَ أَهل القرى يقسم إِلي خمسة أَسهم، فيصرف سهم منه لله وللرسول وذكره تعالى للتيمن والتبرك فإِن لله ما في السموات والأَرض كما روى عن ابن عباس والحسن عن محمد بن الحنفية، وفيه تعظيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم.

وسهم لذي القربى من بني هاشم وبني عبد المطلب دون من عداهم لقوله صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيءٌ واحد، وشبك بين أَصابعه، ويقول فيهم: لم يفارقوني في جاهلية ولا إِسلام كما في البخاري. وسهم لليتامي. وهم أَطفال المسلمين الذين فقدوا آباءَهم ولو كان لهم أَجداد، وسهم للمساكين وهو ذوو الحاجة والفقر، وسهم لابن السبيل، وهو الغريب المنقطع في سفره عن ماله، وقيل: يخمس، فيصرف خمسه كما يصرف خمس الغنيمة المذكورة في قوله - تعالى -: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (¬1) الآية، والأخماس الأَربعة الباقية يصرفها الرسول كما يشاءُ، له أَن يخصص ذلك بالفقراءِ. وصرف الفيء على النحو المذكور (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) تعليل للتقسيم السابق أي: حتى لا يكون شيئًا يتداوله الأَغنياءُ منكم، ويتعاورونه فلا يصيب الفقراءَ مع أَن حقه أَن يكون لهم. أَو حتى لا يكون دولة جاهلية بينكم، فإِن الرؤساءَ كانوا يستأثرون بفيئهم، ويقولون: من عزّ بزّ. وقرئ دولة بضم الدال وفتحها وهما بمعنى واحد. (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... ) الآية: الواو اعتراض على سبيل التأكيد، وليست عاطفة. أَي: وما أَعطاكم الرسول من الفيءِ فخذوه، وما نهاكم عن أخذه أَو عن تعاطيه فاتركوه وابتعدوا عنه، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن لقرينة المقام، وفي الكشاف: الأَجود أَن تكون الآية عامة في كل ما أَمر به صلى الله عليه وسلم ونهي عنه وذلك لعموما (ما) وأَمر الفيءِ داخل في العموم دخولًا أوليًّا (وَاتَّقُوا اللَّهَ ... ) في مخالفته - عليه الصلاة والسلام - وذلك تعميم إِثر تعميم، ويتناول كل ما يجب أن يتقى لدخوله. كما سبق في عموم (ما) روي ذلك عن ابن جريج. (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): فيعاقب كل من يخالف أَمره ونهيه عقابا شديدا ليس لهم من يدفعه عنهم من ولي أو نصير. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال من الآية: 41.

قال الإِمام بسنده عن ابن مسعود أَنه قال: لعن الله الواشمات (¬1)، والمستوشمات (¬2)، والمتنمصات (¬3)، والمتفلجات (¬4) للحسن المغيِّرات خلق الله - عز وجل - قال: فبلغ امرأَة يقال لها: أُم يعقوب فجاءَت إِليه، فقالت: بلغني أَنك قلت: كيت وكيت فقال: ما لي لا أَلعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله، فقالت: إني لأَقرأُ بين لوحيه فما وجدته، قال: إِذا كنت قرأتيه فقد وجدتيه أَما قرأَت (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت: بلي: قال: فإِن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه إِلي آخر الحديث. أَخرجه الشيخان من حديث سفيان الثوري. {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} ¬

_ (¬1) هن اللاتي يصنعن الوشم وذلك بغرز البشرة بإبرة ثم يذر عليها لون أحمر. (¬2) من يطلبن من غيرهن الوشم. (¬3) اللاتي يأمرن بترقيق حواجبهن طلبًا للزينة. (¬4) اللاتي يباعدن بين الثنايا والرباعيات بترقيق الأسنان بالمبرد.

المفردات: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ) أَي: نزلوا المدينة مقيمين بها، وأَخلصوا الإِيمان. (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا): أَي: إِن نفوسهم لم تطمح إِلي شيءِ مما أُعطي المهاجرون من الفيءِ وغيره. (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) أَي: حاجة بمعنى أنهم يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أَي: ومن أَبعده الله بتوفيقه من أَن يغلب عليه حب المال وبغض الإِنفاق كان من المفلحين، وأضيف الشح إِلي النفس؛ لأَنه غريزة فيها، وأَما البخل فهو المنع نفسه بأَن يبخل على الناس بما في يده، وقيل: الشح: بخل مع حرص. التفسير 8 - {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}: والمعنى: يقول - تعالى - مبينًا حال الفقراءِ المستحقين المال الفيءِ بأَنهم هم الذين أخرجهم الكفار من ديارهم وأَموالهم وكانوا مائة رجل كما قيل فخرجوا يبغون رزقًا منه - تعالى - في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وقد وصفوا أَولًا بما يدل على استحقاقهم للفيءِ حيث وصفوا بالإخراج من الديار والأَموال، ووصفوا ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده، ممَّا يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلام فقال: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وكانت نصرة الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم هي مقصدهم فقد قال - سبحانه -: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَي: ويضمرون في أَنفسهم عزمًا أَكيدًا بأَن يبذلوا كل مرتخص وغال في سبيل نصرة دين الله، أو فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إِلي المدينة تقارنه نصرة لله ولرسوله وأي نصرة تعدل ذلك. (أُوْلَئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأَوصاف العظيمة (هُمْ الصَّادِقُونَ) الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه في دعواهم الإِيمان، حيث فعلوا ما يدل عليه أَقوى دلالة مع إِخراجهم من

أَموالهم وأَوطانهم لأَجله - سبحانه - وهذا الوصف خاص بهم لا بغيرهم ممن آمن في مكة، ولم يخرج من داره وماله ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم من لين مع المشركين 9 - {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}: كلام مستأنف لمدح الأَنصار بخصائص حميدة من جملتها مدح محبتهم للمهاجرين ورضاهم باختصاصهم ببعض مال الفيءِ دونهم وإِيثارهم على أَنفسهم ولو كان بهم فقر وحاجة، وقد تبوءُوا الدار، والإِيمان وتمكنوا فيها أَشد تمكن، ونسبة التبوءِ إِلي الدار، والمراد بها المدينة ظاهر، لأَن التبوءَ النزول في المكان ونسبته إِلي الإِيمان باعتبار جعله مستقرًّا وموطنًا حيث استقرت به نفوسهم واطمأنت إِليه قلوبهم، والتعريف في الدار للتنويه كأَنها الدار التي تستحق أَن تسمي دارًا، وقد أَعدها الله لهم ليكون تبوؤهم إِياَّها مَدْحًا لهم، وقيل: والذين تبوءُوا الدار وأَخلصوا الإِيمان، وكان تبوؤهم للدار والإِيمان من قبل هجرة المهاجرين ولا يلزم منه سبق إِيمانهم على إِيمان المهاجرين حتى يقال الأَمر بالعكس، بل نهاية ما يلزم عليه سبق إِيمان الأَنصار على هجرة المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) من إِخوانهم المهاجرين، وقد بلغ من سماحتهم أَنهم أَنزلوهم منازلهم، وأَشركوهم أَموالهم ونزلوا لهم عن بعض ما يعز عليهم حتى قيل: إِن من كانت عنده امرأتان نزل عن إِحداهما وطلقها حتى يتزوجها رجل من المهاجرين وهم مع كل ذلك لا يجدون في أَنفسهم حسدًا أَو غيظًا ممَّا أعْطِيَ المهاجرون من الفيءِ وغيره ولا مرَّ ذلك بخاطرهم فضلًا عن أَن تطمح إِلي شيءٍ منه نفوسهم (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) بمعنى أنهم يقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات ولو كان بهم حاجة وخَلَّة، وذلك بتقديم حاجة المحاويج على حاجة أنفسهم. أَخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أَبي هريرة قال: أَتي رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد، فأَرسل إِلي نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: أَلاَ رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمة الله، فقام رجل من

الأَنصار - وفي رواية فقال أَبو طلحة: - أَنا يا رسول الله، فذهب به إِلي أَهله فقال لامرأَته: أَكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله ما عندي إلاَّ قوت الصبية. قال: إِذا أَراد الصبية العشاءَ فنوميهم وتعالي فأَطفئِي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأَنزل الله فيهما (وَيُؤْثِرُونَ ... ) الآية. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): لعل المراد بالشح البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره. أي: لا يودُّ جودَ غيره، وتنقبض نفسه منه، ويسعى في أَلاَّ يكون، وقيل: إِنه وإِضافته إِلي النفس؛ لأَنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل، وقال الراغب: الشح: بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة، وأَخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ليس الشح أَن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل، إِنما الشح أَن تطمح عين الإِنسان إِلي ما ليس له، ويفهم من الآية ذم الشح ذمًّا بالغًا، ومن يوق شح نفسه بتوفيق الله ومعونته حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإِنفاق فهؤلاء هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل وتوكيد لمدح الأَنصار والثناء عليهم لتناوله إِيَّاهم تناولًا أَصليًّا، وكانت الإشارة في قوله - تعالى -: (فَأُوْلَئِكَ) جمعًا باعتبار معنى (مَنْ) كما أَفراد الضمير في قوله - سبحانه -: (وَمَنْ يُوقَ) باعتبار لفظها. 10 - {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)}: هؤلاء هم القسم الثالث ممن تستحق فقراؤهم من مال الفيءِ، ذكرهم - سبحانه - بعد ذكر المهاجرين والأَنصار، والمراد بهم التابعون بإِحسان كما في آية براءَة (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، من الآية 100.

فالتابعون بإحسان الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، أَو المتبعون لآثار المهاجرين والأَنصار الحسنة، وأَوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية إِلي يوم القيامة، وهذا ما يشير إِليه قوله - سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ ... ) الآية لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين، ومراعاتهم لحقوق الأُخوة في الدين، والسبق بالإِيمان قائلين: ربنا اغفر لنا ولإِخواننا في الدين، والأُخوة عندهم أَعز وأَشرف من النسب، وتضرعوا إِليه تعالى أَن يطهر قلوبهم من الحقد على المؤمنين على الإِطلاق، وأَن يجعل حبهم خالصًا لله وحده: (رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) تستجيب دعاءَ الصادقين مع المبالغة في الرأفة والرحمة فحقيق بنا أَن نطمع في تحقيق ما ندعو به لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإيمان. وفي الآية حث وتوجيه وترغيب في الدعاءِ إِلي الصحابة. وتصفية القلوب من بغض أَحد منهم مع الاعتراف بفضلهم، وحسن صنيعهم وسبقهم إِلي البذل والتضحية. قال ابن كثير: ما أَحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية أَن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له من مال الغنيمة شيءٌ لعدم اتصافه بأَوصاف المؤمنين. وقد روى الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة: سئلت اليهود: منَ خير أَهل ملتكم؟ فقالوا: أَصحاب موسى، وسئلت النصاري مَن خير أَهل ملتكم؟ فقالوا: أَصحاب عيسي، وسئلت الرافضة من شر أَهل ملتكم؟. فقالوا: أَصحاب محمد. أَمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. فالسيف عليهم مسلول إِلي يوم القيامة.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)} المفردات: (نَافَقُوا): أَظهروا الإسلام وأَخفوا الكفر. (لإِخْوَانِهِم): أَمثالهم في الكفر أَو الصداقة والمولاة، وكثر جميع الأَخ - مرادًا به الموالاة والصداقة - على إِخوان، ومرادًا به الأُخوة في النسب على إخْوة. (لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ): ليفرن منهزمين وقد أَعطوا ظهورهم للعدو. (رَهْبَةً): خوفًا وهيبة. (لا يَفْقَهُونَ): لا يدركون الأُمور على حقيقتها. التفسير 11 - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)}:

هذه الآية حكاية لِمَا جرى بين الكفرة والمنافقين من الأَقوال الكاذبة، والأَحوال الفاسدة وتعجيب من سلوكهم وأَفعالهم بعد حكاية محاسن أَحوال المؤمنين، والإِشادة بأَخلاقهم الطيبة وشمائلهم الكريمة على اختلاف طبقاتهم، وترديد أَقوالهم السمحة. والخطاب في الآية للرسول - صلى الله عليه وسلم - أولا، ثم لكل أحد له حظ من تلقي الخطاب أَو الانتفاع بمضمونه. والمعنى: أَلم تتعجب يا رسول الله أَنت ومن معك من أَحوال الذين تمكن منهم النفاق فأَخفوا الكفر وأَظهروا الإيمان مثل عبد الله بن أُبيّ وأَمثاله من المنافقين، وما ذهبوا إِليه من الخيانة وما تورطوا فيه من سلوك شائن، وعمل قبيح، إِنهم يقولون لإِخوانهم المتأَصلين في الكفر، وأَصدقائهم الذين يوالونهم من يهود بني النضير مؤكدين مقسمين: لئن أُخرجتم، وأُكرهتم على ترك بلدكم ووطنكم لنخرجن معكم تضامنًا ونصرة، ولا نطيع في شأنكم أَحدًا يمنعنا عن مناصرتكم أبدًا، وإِن طال الزمان، وإِن قوتلتم من أَحد كائنًا من كان أَو عاداكم أَحد لنكونن في نصرتكم، ومعاونتكم على عدوكم، والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون في أَقوالهم، ضَالُّون مُضِلُّون في وعودهم، وإِن عززوا ذلك وأَكدوه بالأَيمان. وقوله - تعالى -: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) مبادرة بتكذيبهم إِجمالًا، بفصلها قوله تعالى: 12 - {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)}: والمعنى: إِنهم لكاذبون في وعودهم ضالُّون مُضِلُّون في أقوالهم، والله لئن أُخرج هؤلاء اليهود من بلدهم، وأُجلوا عن ديارهم لا يخرج المنافقون معهم، ولا يأبهون بهم، ولئن قوتلوا لا يكونون في نصرتهم، ولا يهتمون بما يجري عليهم أو يقع فيهم من قتل أَو هلاك وتشريد، ولئن خرج المنافقون لنصرهم أَو قاموا على سبيل الفرض والتقدير لتكونن عاقبتهم الهزيمة، وليولن الأَدبار فارين راجعين، وقد أَعطوا ظهورهم للمؤمنين إِعمالًا في الفرار، وإِمعانًا في الهروب ثم لا ينصرون أَي: ثم لا يكون هناك نصر اليهود لا تنفعهم وعود المنافقين، ويهلكهم الله، أَو ثم لا يكون هناك نصر للمنافقين ولا إِدراك لغاياتهم السيئة، وخططهم الفاسدة، ويفتضح أَمرهم، وينكشف كيدهم فينالون جزاءهم.

وقد كان الأَمر كما أَخبر القرآن، ذلك إِذ أَرسل عبد الله بن أُبي رأُس النفاق وأَعوانه إِلى بني النضير سرًّا يؤلبونهم ويغرونهم بالتمرد والعصيان، ويعدونهم بالنصر لهم، والوقوف معهم، وكان إِخبار القرآن بذلك قبل وقوعه حجة بينه على صدق النبوة، وإِعجاز القرآن 13 - {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)}: تؤكد هذه الآية عدم نصر هؤلاء المتآمرين من المنافقين واليهود بتقرير أَن المؤمنين أشد تخويفًا لهم من الله، يرهبونهم، ولا يستطيعون لقاءهم. والمعنى: لأنتم أيها المؤمنون أَشد تخويفًا وترويعًا في صدور هؤلاء من الله الذي يظهرون لكم أنهم يخافونه، ويرهبونه قوته، فهم يغلفون خوفهم منكم في الخوف منه على طريقتهم في النفاق. ذلك السلوك المشين من الخوف منكم أَشد من الخوف من الله بسبب أَنهم سفهاءُ العقول لا يفهمون الأُمور على حقيقتها، ولا يصلون في الفهم إِلى إِدراك عظمة الله وجبروته، وقوته على خلقه حتى تكون خشيته منهم فوق كل خشية، وسلطانه أَعلى من كل سلطان. {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}

المفردات: (مُحَصَّنَةٍ): ممنوعة محاطة بالأَسوار ضربت عليها الخنادق والدروب. (بَأسُهُمْ): شجاعتهم وقوتهم. (جَمِيعًا): مجتمعين ذوي مودة وأُلفة. (شَتَّى): متقطعة متفرقة. (وَبَالَ أَمْرِهِمْ): سوءَ عاقبة كفرهم. (عَاقِبَتَهُمَا): نهايتهما وآخر أَمرهما. التفسير: 14 - {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}: تصوير آخر لجبنهم وشدة خوفهم من المؤمنين، والرهبة التي تملأُ قلوبهم وتمنعهم أَن يواجهوهم بالعدواة أَو يبارزوهم في القتال. والمعنى: لا يقوي هؤلاءِ اليهود أَو المنافقون على مواجهتكم، ولا يجرأُون على مبارزتكم والإصحار (¬1) إِليكم مجتمعين جميعًا ومتفقين في موطن من المواطن إلاًّ في قرىً مسوَّرة بالأَسوار محاطة بالدروب والخنادق التي ترد هجوم العدو، وتحدّ غاراته، أَو من وراءِ الجدر التي يتحصنون خلفها، ويمتنعون بها وذلك من جبنهم وشدة خوفهم مع قوتهم وحدَّة شكيمتهم وهم فيما بينهم يظهرون بمظهر التآلف والتواد بما يفهم أَنهم متفقون متعاونون، وقلوبهم متفرقة متقاطعة. ذلك الخلق فيهم ناشيء من جهلهم وأَنهم قوم لا يفهمون آثار الفرقة، ولا عاقبة الاختلاف والتمزق. والتعقيب في هذه الآية بـ (لا يَعْقِلُونَ)، وفي الآية السابقة بـ (لا يَفْقَهُونَ) للإشارة إلي أَن إِدراك آثار الفرقة والتشتت ممَّا يعلم بمجرد العقل والتمييز، أَما معرفة الله تعالى، واستشعار عظمته وسطوته واسترهاب خشيته فمما يحتاج بعد العقل إلى فقه وفهم. ¬

_ (¬1) أصحر: برز في الصحراء.

15، 16 - {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)}: تتضمن هاتان الآيتان مثلين - مثلًا للمشركين في نهايتهم، ومثلًا للمنافقين في وعودهم لليهود. فأَما الأَول فقوله تعالى -: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... ) الآية. والمعنى: مثل مشركي مكة في كفرهم وعنادهم وما انتهى إِليه أَمرهم من القتل والفتح والإِذلال والإِهلاك كمثل الأُمم السابقة عليهم القريبة العهد منهم خاصموا رسلهم، وعادوا أَنبياءَهم، وعارضوا دعواتهم فنالوا سوءَ جزائهم وذاقوا وبال عصيانهم، ولقوا النكال الشديد والهوان البليغ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب وجع، مفرق في الأَلم لا يقادر قدره. والمثل الثاني في قوله - تعالى -: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ ... ) الآية. والمعنى: مثل المنافقين في وعودهم لليهود، وإِغرائهم لهم بالتمرد وعصيان المؤمنين، ومعارضتهم ثم تخلفهم عنهم كمثل الشيطان إِذ يوسوس للإنسان بالشر، ويزين له المعصية ويجب إِليه الفسوق والكفر؛ ولا يزال به حتى يقع فيما يريده منه فإِذا سقط ابتعد عنه، وتبرأَ منه ومن فعله، وظهر بمظهر الورع الخائف من الله النادم على عصيانه الذي يخاف عذابه ويرجو ثوابه، أَو يقول ذلك في الآخرة، وحمل الشيطان على الجنس هو الأَنسب. وما ذهب إِليه بعض المفسرين من أَن المراد بالإِنسان أَبو جهل والحوار الذي جرى يوم بدر من قوله - تعالى - على لسان الكفر: {لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (¬1)، وقوله تعالى - على لسان إبليس: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ}. (¬2) فهذا تخصيص لا ينهض عليه دليل، ولا يعين عليه النص. 17 - {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}: أَي: فكان عاقبة الشيطان والفريقين اللذين أَغراهما من اليهود والمنافقين أَنهم جميعًا إِلي النار وفي النار خالدين مخلدين فيها أَبد الآبدين ودهر الداهرين، وذلك الجزاءُ نهاية كل ظالم، وعاقبة كل طاغية متجاوز لحدود الله، خارج عن طاعته {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال من الآية 48. (¬2) سورة الأنفال من الآية: 48.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} المفردات: (لِغَدٍ): أصله غَدْو بِوَزْنِ فعل حذف آخره، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك على أَثره، ثم توسعوا فيه حتى أُطلق على البعيد المترقب، والمراد يوم القيامة. (نَسُوا اللَّهَ): انصرفوا عن طاعته وغفلوا عن ذكره. (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ): صرفهم عن العمل بما فيه نفعها ونجاتها. (خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا): متطامنًا متشققًا، وهي من قبيل التمثيل. التفسير: 18 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}: عرضت الآيات السابقة على هذه الآيات لأَحوال المؤمنين وفصَّلت طبقاتهم وما شاع في أَخلاق كل طبقة وغلب على سلوكها وما اتسمت به من الفضائل والمكارم وصدق الإيمان وسخاءِ النفس والإيثار والتحاب في الخير والنصح في الدين، كما عرضت لقبائح النفاق،

وسفه المنافقين، وأُسلوبهم في الكذب والمصانعة، وإِثارة الفتن، وإِذكاءِ التفرقة والخلاف، وكشفت حقيقتهم، وفضحت جبنهم ورهبتهم من المسلمين، وضربت لذلك الأَمثال التي تحذر سوءَ العاقبة وقبح المآل. ثم خلصت الآيات بعد ذلك للمؤمنين تناديهم في رفق، وتدعوهم في تلطف وإشفاق إِلي الاستدامة في الطاعة والعمل ليومٍ عظيم، وغد قريب يقوم فيه الناس لرب العالمين حتى تسلم لهم راحة الدنيا وثواب الآخرة. والمعنى: يا أيها الذين آثروا الإِيمان وتمكنت العقيدة من نفوسهم فطهرتها من الشرك والنفاق، ووجهتها إِلي صدق الطاعة وإِخلاص العبادة داوموا هذا العمل وامضوا فيه وأكثروا منه ليومٍ عظيم وغد قريب يجد المرءُ فيه ما قدمت يداه، ويلاقي جزاءَه عند الله، ولتنظر نفس أية نفس ما تدخَّرُه لغد ما تعدّه لهذا اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما قدمت وأَخرت وما أسرَّت وأَعلنت وإِنه لقريب. قال قتادة: "إِن ربكم قرّب الساعة حتى جعلها كغد".فاتقوا الله يا معشر المؤمنين واعملوا في طاعته لهذا اليوم العظيم الأَهوال، أو كما اتقيتم الله في أَوامره وطاعته اتقوا الله في محارمه ونواهية، فلا تعصوه فيما أَمركم، ولا يراكم حيث نهاكم لتجمعوا طرفي التقوي من المأمورات والمنهيات وتكون لكم عند الله أَعظم الدرجات، إِن الله محيطٌ بكل أَعمالكم بصيرٌ بجميع أَحوالكم وأَقوالكم يحصيها لكم، ويجزل عليها جزاءَكم. وعبَّر عن يوم القيامة بغد للتنبيه إِلي شدة قربه وإِثارة الخوف من هوله وبأسه، ولدنوّ الغد من أَمسه، أَو أَن الدنيا كيوم والآخرة غده. ونكره لتهويله وتفخيمه كما نكر كلمة نفس للعموم والتنبيه إِلي أَنه لا ينبغي أَن تغفل الأَنفس عن التفكر لغدها والعمل لآخرتها، وفيه حث على النظر والاعتبار، وتعبير بالترك والغفلة المسيطرة على أَكثر النفوس. 19 - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}: تفريع على الآية قبلها واسترسال في غرضها أي، لا تغفلوا عن العمل بطاعة الله، ولا تكونوا كالذين تركوا أداءَ حقه وناموا عن عبادته وذكره فصرفهم عن العمل بما فيه سلامة نفوسهم ونفعها، وحرمهم حظوظهم من الخير والثواب، أُولئك الذين نسوا الله فأَنساهم أَنفسهم

هم الفاسقون الخارجون من طاعة الله إِلي معصيته، المتناهون في الفسوق، المستحقون للعقاب الجسيم في دار الجحيم. 20 - {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}: المعنى: إِذا تقرر أَن المؤمنين المتقين الذين يداومون على الطاعة ويخلصون العبادة لهم الجنة، وأَن المشركين والمنافقين والذين نسوا الله فأَنساهم أَنفسهم لهم دار الجحيم، فإِن هذه الآية توضح هذا المعنى وتبرزه نصًّا صريحًا وحكمًا صحيحا، أي: لا يستوي أَهل النار والملازمون لها الذين انخرطوا في الملذات، وانهمكوا في المعاصي، وسبحوا في مهاوي الشرك، ومفاوز الضلال والكفر، ونسوا الله وتجاوزوا حدوده - لا يستوي هؤلاءِ - وأَصحاب الجنة الذين وقفوا أنفسهم على العمل لها، وقرنوا سلوكهم بالطاعة وحياتهم بالحلال الطيب - إِن أَصحاب الجنة الذين هذه أَعمالهم وهذا سلوكهم هم الفائزون بكل المطالب، الجديرون بكل الرغائب الناجون من كل المثالب والمعايب. 21 - {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}: هذه تعجيب من حال من لا يهتدي بالقرآن ولا يستجيب لهديه، وتنبيه إِلي أَنه منار هداية، ورائد طاعة، ومنهل ظمأ بما ينطوي عليه من فنون القوارع، وضرب المخاوف، ودروب الرغائب، ومناهل العرفان بحيث لو أُنزل على جبل أصم من الجبالِ الضخمة العاتية لرأَيته - مع كونه مثلًا في القسوة، علمًا في الرسوخ والثبات - متنهاويًا متداعيًا ومتشققًا، متصدعًا من قوة خشية الله وشدة جبروته لعلو شأن القرآن وبلاغة تأثيره بالزواجر والقوارع. والمراد توبيخ الإِنسان وتعنيفه على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن أَو سماعه وتدبر ما فيه وتلك الأَمثال التي ذكرناها في هذه السورة وفي غيرها نضربها للناس ونوردها لهم متعددة المقاصد مختلفة المضامين لعلهم يتفكرون في معانيها ويدركون مراميها فينعكس ذلك على سلوكهم وأَعمالهم.

{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} المفردات: (الْغَيْبِ): ما غاب عن الحس وجهلت معرفته. (الشَّهَادَةِ): ما حضر وشوهد. (الْقُدُّوسُ): البليغ في النزاهة عمَّا يوجب نقصًا. (الْمُؤْمِنُ): وأهب الأَمن. (الْمُهَيْمِنُ): المسيطر الحافظ لكل شيء، الرقيب. التفسير: 22 - {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)}: تختم سورة الحشر بذكر طائفة من أَسماءِ الله تعالى، واختصاص هذه الأَسماء بالذِّكر من بين أَسماءِ الله الحسني سر من أَسرار القرآن الكريم، ونمط من إِعجازه، ولعل لها خصائص تعظم بركتها ويعم نفعها. وحسب القارئ أَن يقرأَها ذكرًا يرطب لسانه وعظة تزكي نفسه.

والمعنى: هو الله وحده لا يشاركه غيره ولاَ إِلهَ إِلاَ هُو المحيط بعلم جميع الأَشياء ما غاب منها عن الحس وجهلت معرفته وما حضر وشوهد وتحققت معرفته، لا يغيب عنه من ذلك شيءٌ ولا يعزب عن علمه قريب أَو بعيد، ولا يحرم فضله عاجز ولا قادر، هو الرحمن الذي تنتظم رحمته في الدنيا جميع المخلوقات، الرحيم الذي يختص برحمته في الآخرة من يشاءُ من أَهل الطاعات الصالحات. وتقدم الغيب على الشهادة في الآية لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، ولأَن علم الغيب ممَّا يدق ويخفي فتقدمه في الإِخبار أَبعث للتنبيه والاعتبار. 23 - {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)}: تكرر بدء الآية بمثل البدءِ السابق: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَ هُوَ) لإبراز العناية والاهتمام بالتوحيد، وتلذذًا بذكر الله، وليكون لفظ الجلالة هو الأَساس والمدخل لبناءِ الأَسماءِ الأُخري عليه. والمعنى: هو الله وحده لاَ إِلهَ إِلاَ هُوَ السيد المالك لجميع الأَشياءِ ملكًا حقيقيًّا يتصرف فيها في وجه ليس لأَحد منعه منه أَو معارضته فيه القدوس الطاهر من كل عيب وآفة ونقص، المنزه عن القبائح، الغني عن الشريك والولد، المبارك الذي تنزل البركات من عنده، السلام من كل سوءٍ وعيب، الذي ترجي عنده السلامة من كل بلاءٍ، المؤمن الذي يهب الأَمن لكل خائف ويوفر الاطمئنان لكل موهوب مقهور، ولا يظلم عنده أَحد، المصدق لنفسه ورسله - عليهم الصلاة والسلام - فيما بلغوه عنه - جلَّ وعلاَ - المهين الرقيب الحافظ لكل شيء المسيطر الذي لا يعلو عليه أَحد، العزيز القادر الذي لا يُقْهر، المنيع الذي لا يرام ولا يمتنع عليه مرام وليس كمثله شيءٌ، الجبار العظيم الشأن في الملك والسلطان الذي يذل له كل شيءٍ ولا يستحق أَن يوصف بهذا الوصف على الإِطلاق إِلَّا الله - تعالى - فإِذا أُطلق على غير الله كان في غير موضعه، وكان ذمًّا. المتكبر المستحق لصفات التعظيم، المتعالي عن كل نقص ورذيلة.

(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَي تنزيهًا له - جَلَّ شَأنه - عن إِشراكهم بعد تعداد صفاته التي لا يشاركه فيها أحدٌ أَبدًا. 24 - {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}: المعنى: هو الله الخالق، أَي: المقدر للأَشياء بحكمته، المحدث لها على إرادته، الباريءُ الموجد لها بريئة من التفاوت فلا تري فيها اختلافًا ولا عدم تناسب، أَو مميزًا بعضها عن بعض باختلاف الأَشكال، المصور الموجد لصورها وأَشكالها كما أَراد الله وحده، هذه الأَسماء الحسنى التي اختص بها ذاته ووضح بها صفاته ما ذكر منها وما لم يذكر لدلالتها على المعانى الحسنة والفضائل العالية، والكمال المطلق - يسبح لله بهذه الأَسماءِ ويذكره بترديدها جميع ما في السموات والأَرض من خلائق وأَجرام بحاله أَو بمقاله - وإِن من شيءٍ إِلَّا يسبح بحمده - وكل قد عرف صلاته وتسبيحه وهو العزيز في ملكه، الحكيم في فعله، المتعظم لجميع الفضائل والكمالات ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية وهي إِحدي سور ثلاث بدأَت بقوله تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} المائدة والحجرات وهذه السورة، والصحيح المشهور في ضبطها أَنها بفتح الحاءِ صفة للمرأَة التي نزلت بسببها، وقد تكسر الحاء على أَنها صفة للسورة، كما قيل في سورة براءَة: الفاضحة. مناسبتها لما قبلها: وترتبط بالسورة قبلها بتقارب الهدف، وتلاؤم الغرض، فقد نعت السورة قبلها على المنافقين سلوكهم المهين وتظاهرهم لليهود، وإِخوانهم الكافرين، وجاءَ في هذه السورة نهي المؤمنين من اتخاذ الكفار أَعدائهم أولياءَ يلقون إِليهم بالمودة، على أَن مضمون سورة الممتحنة يعتبر تقريرًا وتأكيدًا لما جاءَ في سورة الحشر قبلها حتى كأنها من تمامها، ولهذا استحقت أَن توضع بين سور التسابيح أَو ذوات سبح مع اختلاف مفتتحها. مقاصد هذه السورة الكريمة: بدأَت سورة الممتحنة بنهي المؤمنين على اتخاذ أَعداءِ الله وأَعدائهم من الكفار والمشركين أَولياءَ يُصَافونهم، ويصلونهم بالمودة والتعاون، كأَن ذلك ارتباط بما سبق من التعجب من أَحوال المنافقين وموالاتهم لليهود ممَّا يشير إِلي الربط بين السورتين، وهي إِذ تنهي المؤمنين عن ذلك تنبه إِلي كفر المشركين والمنافقين بما جاءَ به الرسول وكيدهم له وللمؤمنين، ليلجئوهم إِلي الخروج عن وطنهم، ويتابعون إِيذاءَهم لمجرد أَنهم آمنوا حملًا لهم على الخروج وهذا سلوك يقتضي الحذر منهم ومقاطعتهم وذلك لأَنه إِن كان الإِيمان عن صدق وعقيدة ورغبة صادقة في الانتصار للدعوة ونصرة الرسول، فإِن هولاءِ الأَعداء لا خير فيهم ولا يجدي فيهم معروف، ولا يبقون على مودة إِلَّا ضعفًا وخديعة فإِن أَمكنتهم الأَيام من المؤمنين طالت أَيديهم بالإِيذاءِ، وبسطوها بالسوءِ مع ترقب أَن يرجع المؤمنون عن دينهم، ورغبتهم أَن يعودوا كافرين.

وتقرر الآيات أَن القرابات وصلات البنوة وغيرها لا تنفع مع كفر، ويوم القيامة يفصل بين المؤمنين والكافرين يوم يفر المرءُ من أَخيه وأُمه وأُبيه، ولن ينفع المؤمن فيه إِلا عمله: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ). ثم تلمح الآيات إِلي أَن اختلاف الدين يقطع الأَنساب ويميت الصلات بين الأَهل والأَقارب، وتسوق طرفًا من أَخبار إِبراهيم - عليه السلام - مع قومه وبراءَته من أَبيه ليكون ذلك هدايا لكل مؤمن وحافزًا له على الاقتداءِ بأَبيه إِبراهيم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) الخ. ثم تخصص الآيات النهي بالذين تمادوا في العناد، وأَمعنوا في الفساد، وتورطوا في موالاة الإِيذاءِ من المشركين، فأَما الذين سالموا وأَمسكوا عن الشر، وحبسوا أذاهم عن المؤمنين فلا بأس من التعامل معهم، والعدل في معاملتهم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الخ. ثم أَشارت الآيات إِلى قصة امتحان المؤمنات اللائي جئن إِلي الرسول مهاجرات من مكة إِلي المدينة للتأكد من صدق إِيمانهن، وحسن قصدهن. ودعت إِلى التمسك بهن والإِحسان إِليهن، والتعايش معهن بالنكاح حتى ظهر صدقهن، ثم تناولت بيعة النساءِ للرسول، ومشروعيتها وإِمضاءها والدعاء لهن. وختمت السورة بمثل ما بدئت به من النهي عن موالاة المشركين المغضوب عليهم، واتخاذهم أَولياء، فإِن الله قد غضب عليهم حتى تمكن فيهم اليأس، وانقطع الرجاءُ.

بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} المفردات: (أَوْلِيَاءَ): أَصدقاءَ أَحباءَ جمع ولي وهو الصديق. (بِالْمَوَدَّةِ): بالمحبة والإِخلاص. (يَثْقَفُوكُمْ): يتمكنوا منكم ويظفروا بكم. (يَبْسُطُوا): يمدوا ويسرفوا في مساءَتكم. (يَفْصِلُ): يقضي ويحكم.

التفسير: 1 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ... } الآية. نزلت هذه الآية في حاطب بن أَبي بلتعة - وذلك أَنه لَمَّا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة كتب حاطب إِلي أَهلها أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وأَرسله مع امرأة تدعي ساَرة مولاة بني المطلب، فنزل جبريل - عليه السلام - إِلي الرسول بخبر ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وعمارًا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإِن بها ظعينة معها كتاب حاطب إِلي أَهل مكة فخذوه منها وخلوها فإِن أبتْ فاضربوا عنقها. فأَدركوها ثمة فجحدت فسل على سيفه فأَخرجته من عقاصها - واستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال يا رسول الله ما كفرت مذ أَسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولكني كنت امرأً ملصقًا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أَهلي وأردت أن آخذ عندهم يدًا، وقد علمت أَن كتابي هذا لن يغني عنهم شيئًا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل عذره فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله أَضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد أطلع على أَهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر - رضي الله عنه - فنزلت. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمن جميع الناس يوم فتح مكة إِلا أَربعة: هذه المرأَة أَحدهم. والمعنى: يا أَيها الذين شرُفوا بالإِيمان ورفعوا مكانتهم به، وعَزُّوا بأَعماله الصالحة، وسلوكه الطيّب: لا تركنوا إِلي هؤلاءِ الراكسين في الكفر المنغمسين في الرذائل وقبح السلوك أَعدائي وأَعدائكم ولا تطمئنوا إِليهم، وتصافوهم فتتخذوهم أَولياءَ وأَصحابا تصلون إِليهم بالمحبة وتتقربون منهم وتلقون إِليهم أَسرار النبي وأَخبار المؤمنين، وهم قد كفروا بدينكم، وعارضوا دعوة رسولكم وأَنكروا ما نزل عليه من أَخبار الوحي وآيات القرآن، وجاوزوا ذلك إلي الكيد لكم وإيذائكم والإِصرار على إِخراج الرسول وإِخراجكم من وطنكم وإِجلائكم عن بلدكم؛ لأَنكم آمنتم بربكم، واتبعوا هدي نبيكم وتركتم ضلالهم وجهلهم، وقوله تعالى: (إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي) مرتب على قوله - تعالى -: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء).

والمعنى: إِن كان خروجكم عن صدق إِيمان ورسوخ عقيدة ورغبة في دين الله وابتغاءِ مرضاته فلا تتخذوا أَعدائي وأَعداءَكم أولياءَ تفضون إِليهم بالمحبة، وتهمسون لهم بأَسراركم وأَخبار تظنون أَنها خافية وقد علمتم أَن الإِخفاء والإِعلان سيَّان في علمي، وأَنا مطلع على ما أَخفيتم وأَظهرتم، ومن يفعل هذا الفعل من موالاة المشركين، وإِلقاءِ الأَسرار إِليهم فقد أَخطأَ طريق الحق والصواب، وفي الآية إِشارات منها: 1 - تقديم الرسول على المؤمنين في الإِخراج للإِشارة إِلي أَن في إِخراج الرسول قضاء على الإِسلام. 2 - من كان عدوًّا للرسول فهو عدوٌّ لجماعة المسلمين. 3 - تقديم الإِخفاء على الإِعلان في العلم مشعر بإِحاطة علم الله وكمال قدرته. 4 - أَن صدق الإِيمان يتنافى مع قبح العمل، والمعصية لا تقدح في أَصل الإِيمان. 2 - {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}: تمضي الآيات في التحذير من موالاة المشركين والتودد إِليهم فتكشف خبث طويتهم ودخلية كيدهم وعداوتهم. والمعنى: لو يتمكن هؤلاءِ المشركون منكم ويظفرون بكم تتجلى عداوتهم ويفضح غدرهم وخيانتهم ويظهرون على حقيقتهم ويرتبون على ذلك أَحكامهم ويشبعون غيظهم وتمتد أَيديهم وتطول أَلسنتهم إِليكم بالإِيذاء ضربا وشتما وتعذبيا وقتلًا، وكل ما يقدرون على عمله، مما يسيئكم، ويوقع العذاب بكم يفعلونه معكم، وتمنوا لو ترتدون كفارا عن دينكم، فهم يريدون أَن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من الشتم والقتل والتمزيق. وردكم كفارا أَسبق المضار عندهم، وأَول أَمانيهم.

3 - {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}: كان اعتذار حاطب ابن أَبي بلتعة عن عمله الإِشفاق على أَهله وقرابته في مكة فعقبت هذه الآية بيان أَن الأَحارم القرابات لا تعود بالنفع على أَهلها إِذا لم تعصمها عقيدة، ويوثقها دين. والمعنى: لن تنفعكم قراباتكم ولا أَولادكم الذين توالون من أَجلهم أَعداءَكم إِشفاقا على الرحم والولد وتلقون إِلى هؤلاءِ الأَعداءِ بالمودة لأَجلهم مراعاة لهم وحبًّا فيهم فإِن الكفر يقطع الأَنساب، يورث العداوة بين الأَهل والأَقارب والأَصحاب، فإِذا كان يوم القيامة يوم الفصل يقضي بينكم وبين أقاربكم وأَولادكم ويحكم بينكم يوم يفرُّ المرءُ من أَخيه وأَمه وأَبيه، والله مطلع وبصير بكل ما تعملونه فيجازيكم على أَعمالكم. {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}

المفردات: (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ): قدوة طيبة وخصلة حميدة. (أَنَبْنَا): رجعنا. (فِتْنَةً): معذبين بهم. (يَتَوَلَّ): يُعرض. التفسير 4 - (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... ) الآية إِلي قوله: (وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): تسوق هذه الآية طرفًا من أَخبار سيدنا إِبراهيم - عليه السلام - مع أَبيه وقومه تأكيدًا لأَمر الإِنكار والتخطئة في موالاة الكفار؛ ليعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أَوثق عرى الإيمان وأَقدس روابط المودة فلا ينبغي أَن يغفل عنهما. والمعنى: لقد كان لكم أيها المؤمنون فيما تعلمون من أَخبار أَبيكم إِبراهيم - عليه السلام - وأَصحابه الذين آمنوا به وكانوا معه وما تقرءُونه عنه وعنهم قدوة صالحة وخصلة حميدة من خصال الخير إذ قالوا لقومهم الذين كفروا بالدعوة، وأَنكروا الرسالة وآذوا رسول الله وخليله إِبراهيم - قالوا لهم -: إنا برآء منكم قاطعون لمودتكم وقرابتكم، بعيدون عن معايشتكم ومعاملاتكم منكرون لكم ولِما تعبدون من دون الله من الأَصنام والتماثيل - كفرنا بكم قرابة وأَهلا، وكفرنا بآلهتكم ومعبوداتكم واستحكمت بيننا وبينكم العداوة والبغضاءُ وبدت القطيعة والجفاءُ، وكان هذا شأننا معكم ودأَبنا في معاملتكم لا نتركه ولا نحيد عنه، فسيروا على سيرة أَبيكم إِبراهيم، والتزموا منهجة في معاداة أَعدائكم، وخذوا منه القدوة الحسنة، والأَسوة الصالحة ولا تستغفروا لهؤلاء الكفار، واعلموا أَن استغفار إِبراهيم لأَبيه ما كان إِلا عن عدة وعده إِيَّاها فوفَّى له بها طمعًا في أَن يسلم ورجاءَ أَن يهتدي فلمَّا تبين له أَنه عدو الله تبرأَ منه وأَعلن أَنه لا يملك له من الله شيئا يجلب له نفعا أَو يدفع عنه ضرًّا.

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): يحتمل أَن يكون من تمام ما نقل عن إِبراهيم - عليه السلام - ومن معه من جملة التأَسي، وأَن علينا أَن نقتدي به دائما في التوكل على الله، والإِنابة إِليه وتفويض المصير والأمور كلها الله. وتقديم المجرور لإِفادة قصر التوكل والإِنابة إِلي الله على الله وحده. ويحتمل أَن يكون كلاما مستأنفا، لبيان مجاهدتهم لأَعداءِ الله والالتجاءِ إِليه في جميع أمورهم لا سيما في مدافعة الكفرة، وكفاية شرورهم كما ينطق بذلك قوله - تعالى: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً .... ) الآية. 5 - {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)}: أَي: نسأَلك يا ربنا وندعوك ضارعين أَلَّا تسلط علينا الذين كفروا فيفتنونا بإغراءات أَو عذاب لا نطيقه يقهرنا، واغفر لنا ما فرط منا، ربنا إِنك أَنت العزيز الغالب الذي لا يذل من التجأَ إِليه، ولا يخيب رجاءُ من توكل عليه، الحكيم الذي يضع الأُمور في مواقعها، ولا يفعل إِلا عن حكمة بالغة. 6 - {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}: أُعيد طلب التأَسي للمبالغة في الحث على الاقتداءِ به - عليه السلام - والتأَسي بمناقبه وبيان أَنه السلوك المستقيم، ولذلك صدر بالقسم وذيل بقوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) بدل (لكم) للإِيذان بأَن من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك هذا الاقتداء، وأَن ترك الاقتداء بهم من مخايل عدم الإِيمان بهما - كما ينبيء عن ذلك قوله - تعالى -: (وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: ومن يعرض عن الاقتداءِ والتأَسي بهم فقد باعد بينه وبين الله، وحرم نفسه فضله ورحمته والله هو الغني عن كل شيء، المحمود بكل لسان، والله أَعلم.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} المفردات: (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ): وتقضوا إِليهم بالقسط والعدل. (الْمُقْسِطِينَ): العادلين. (وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ): وعاونوا الذين قاتلوكم وأَخرجوكم. التفسير: 7 - {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}: بعد أَن أَمر الله المؤمنين بعداوة الكفار في الآيات السابقة وامتثلوا الأَمر وتشددوا في عداوة ومقاطعة آبائِهم وأَبنائهم وجميع أقربائِهم من المشركين، وظهر منهم الجد فيه، والصِّدق والصبر والرغبة في وصل ما انقطع بينهم وبين أَقربائِهم لكفرهم رحمهم ووعدهم بتيسير ما تمنَّوه، وتذليل ما رغبوا فيه فقال - سبحانه -:

(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً): هذا وعد من الله أَن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من الكفار مودة بأَن يهديهم للإِيمان ويوفقهم إِليه فيكونوا لكم أَولياءَ وتوجد المحبة بعد البِغضة، والأُلفة بعد الفرقة، والله تام القدرة على ما يشاءُ من الجمع بين الأَشياءِ المتنافرة فيؤَلف بين القلوب المتعادية القاسية لتصبح مجتمعة متفقة قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (¬1). فلما يسّر الله فتح مكة أَظْفَرهم بأُمنيتهم فأَسلم قومهم وتمّ بينهم من التَّحابِّ والتصافي ما تم ويدخل في ذلك أَبو سفيان وأَحزابه من مسلمي الفتح. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَي: والله واسع المغفرة يغفر الكافرين كفرهم إِذا أَسلموا وتابوا وأَنابوا إِلي ربهم والله كثير الرحمة بعباده المخلصين، روي ابن أَبي حاتم أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أَبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن فلمَّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَقبل فلقي ذا الخِمار مرتدا فقاتله، فكان أَوَّل من قاتل في الرّدة وجاهد عن الدين، قال ابن شهاب: وهو ممَّن أَنزل الله فيه: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً). 8 - {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)}: أَي: لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدِّين من الكفار ولم يُخرجوكم من دياركم أَن تُحسنوا إِليهم وتكرموهم وتمنحوهم صِلَتكم وتعدلوا بينهم، إِنَّ الله يُحب أَهل البر، والتَّواصل والحق والعدل. جاءَ في الحديث الصحيح: (المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش: الذين يعدلون في حُكمهم وأَهاليهم وما وَلُوا)، وأَخرج البخاري وغيره عن أَسماءَ بنت أَبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: (أَتتني أُمِّي راغبة - وهي مشركة في عهد قريش، إِذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأَلت رسول الله أأصلها؟ فأَنزل الله - تعالى -: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 63.

(لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ ... ) الآية، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (نعم صِلِي أُمَّك)، وقال الحسن: نزلت الآية في خُزاعة وغيرها من قبائل العرب كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه وأَلا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، وعن عبد الله بن الزبير: نزلت في النساءِ والصبيان من الكفرة. والأَكثرون على أَنها نزلت في كفرة اتصفوا بما في الآية أَي: (لَمْ يُقَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَألَمْ يُخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ). 9 - {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} أَي: إِنما ينهاكم الله عن الذين حاربوكم في الدين ليصدُّوكم عنه وأَجبروكم على الخروج من دياركم وعاونوا على إِخراجكم كمشركي مكة، فإِن بعضهم سعوا في إِخراج المؤْمنين وبعضهم أَعانوا من أَخرجوهم، وإِنما ينهاكم الله عن موالاتهم وأَن تتخذوهم أَنصارا لكم وأَعوانا ويأمركم بمعاداتهم، ثم أَكدَّ الوعيد على موالاتهم فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) أَي: ومن يتخذوهم أَولياءَ لهم وأَعوانًا فأُولئك الظالمون المتجاوزون الحد لوضعهم الولاية موضع العداوة أَو هم الظالمون لأَنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي أَسلوب القصر من المبالغة ما لا يخفى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)} المفردات: (فَامْتَحِنُوهُنَّ): فاختبروهن وابتلوهن. (أُجُورَهُنَّ): مهورهن. (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ): العصم: جمع عصمة، وهو ما يعتصم به من عقد وسبب. (فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ): سبقكم. (فَعَاقَبْتُمْ): فكانت العقبى والنصر والغلبة لكم. التفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ

مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله وبين كفار قريش فكان فيه: على أَلا يأتيك منا رجل وإِن كان على دينك إِلا رددته إِلينا، وفي رواية على أَلا يأتيك منا أَحدٌ وإِن كان على دينك إِلا رددته إِلينا وهذا قول عُروة والضحاك وغيرهما. وفي هذه الآية أمر الل - عز وجل - عباده المؤمنين إِذا جاءَهم النساءُ مهاجرات من دار الشرك أَن يختبروهن لعلموا صدق إِيمانهن ومبلغ يقينهن والله أَعلم بذلك فإِنه - سبحانه - هو لمطلع على ما في قلوبهن، فإِن علموهن مؤْمنات فلا يردوهن إِلي أَزواجهن الكفار لئلا يفتنوهن عن دينهن. روِي أَنَّ أُم كلثوم بنت عُقبة بن أَبي معيط كانت أَول المهاجرات فخرج أَخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله فكلَّماه فيها أَن يردها إِليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساءِ خاصة فمنعهم الله أَن يردُّوهن إِلي المشركين وأَنزل الله آية الامتحان. قال ابن جرير: سئل ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء؟ فقال: كان يمتحنهن بأَن يقلن: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت عن أَرض إِلي أَرض وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إِلا حبًّا لله ولرسوله، ثم رواه من وجه آخر وذكر فيه أَن الذي كان يحلفهن - عن أمر رسول الله له - عمر بن الخطاب. (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ): تعليل للنهي عن إِرجاعهن إِليهم. والمعنى: لا المؤْمنات حلال للكافرين حلال للمؤْمنات، الجملة الأُولي: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأَول، والثانية (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد، والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة.

قال ابن كثير: وهذه الآية هي التي حرَّمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداءِ الإِسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان حال أَبي العاص بن الربيع زوج ابنه النبي صلى الله عليه وسلم زينب - رضي الله عنها - وقد كانت مسلمه وهو على دين قومه، فلما وقع في الأُسارى يوم بدر بعث امرأَته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأُمها خديجة، فلما رآها الرسول رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: (إِن رأَيتم أَن تطلقوا لها أَسيرها فافعلوا). ففعلوا فأَطلقه رسول الله على أَن يبعث ابنته إِليه، فوق له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إِلي رسول الله مع زيد بن حارثة - رضي الله عنها - فأَقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر وكانت سنة اثنتين، وإِلى أَن أَسلم زوجها أَبو العاص بين الربيع سنة ثمان فردَّها عليه بالكناح الأَوَّل ولم يُحدث لها صداقا. (وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا) أَي: وأَعطوا أَزواج المهاجرات من المشركين مثل ما دفعوا إِليهن من المهور. (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): أَي: ولا حرج عليكم أَن تتزوجوا هؤلاءِ المهاجرات إِذا أَعطيتموهن صداقهن. (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) أَي: ولا تتمسكوا بعقد زوجية الكافرات الباقيات في دار الشرك أَو اللاحقات بها، والمراد نهي المؤمنين أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقيات في دار الحرب عُلْقة من عُلق الزوجية أَصلًا، قال ابن عباس: من كانت له امرأَة كافرة بمكة فلا يعتد بها من نسائه (أَي لا يعتبرها من نسائه) لأَن اختلاف الدينين والدارين قطعا عصمتها منه، وأَخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن إِبراهيم النخعي أَنه قال: نزل قوله - تعالى -: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) في المرأَة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها. وتحقيقا لأَمر الله بمفارقة الكافرات نقل محمد ابن إسحاق عن الزهري: طلَّق عمر لذلك فاطمة بنت أَبي أُمية بن المغيرة فتزوجها معاوية، وأُم كلثوم الخزاعية فتزوجها أَبو جهم. (وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا) أَي: واطلبوا من الكفار ما أَنفقتم من صداق على اللاحقات بدار الشرك، وليطلبوا هم ما أَنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إِلي المسلمين.

(ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ): أَي: ذلك الحكم السابق والتشريع الرباني العادل في صلح الحديبية واستثناء النساء منه والأَمر بما سبق ذكره هو حكم الله يفصل به بينكم ويحكم به بين خلقه. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَي: والله عليم بمصالح عباده حكيم في تشريعة يشرع ما تقتضيه الحكمة، روي أَنه لمَا نزل هذا الحكم أدى المؤمنون ما أُمِروُا به من مهور المهاجرات إِلي أزواجهن وأَبي المشركون أَن يردُّوا شيئا من مُهور الكَوافر إِلي أَزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى: 11 - {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ): أَي: وإِن لحق أَحد من أَزواجكم بالكفار أَو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أَداءُ المهر كما لزم الكفار. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا): أَي: فآتوا الذين ذهبت زوجاتهم مثل ما أَنفقوا عليهن من صداق وهذا على أَن معنى (فَعَاقَبْتُمْ) من العقبة لا من العقاب (وهي في الأَصل: التوبة في ركوب أَحد الرفيقين على دابة لهما والآخرة بعده): أَي: فجاءَت عقبتكم أَي: نوبتكم من أَداءِ المهر. وجمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أَنه قال: يُعْطَى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم! وعن الزجاج أَن معنى (فَعَاقَبْتُمْ): فغنمتم، وحقيقته: فأَصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأَنه قيل: وإِن فاتكم شيءٌ من أَزواجكم إِلي الكفار ولم يؤدُّوا إِليكم مهورهن فغتمتم منهم فآتوا الذين ذهبت أَزواجهم مثل ما أَنفقوا من الغنيمة. وهذا هو الوجه دون ما سبق، ولقد كان صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس - يعطي المهر الذي ذهبت زوجته من الغنيمة (قبل أَن تُخمَّس) وَلا ينقص من حقه شيئا، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإِن الإِيمان به - عز وجل - يقتضي تقواه والعمل بأَحكامه، والتزام شريعته.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) المفردات: (يُبَايِعْنَكَ) يعاهدنك. (بِبُهْتَانٍ): يزور وكذب بإِلصاق اللقطاءِ بالأَزواج. (يَفْتَرِينَهُ): يختلقنه. التفسير: 12 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}: أَي: يا أَيها النبي إِذا جاءك المؤمنات مبايعات لك ومعاهدات على هذه الأمور (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَي: على أَلا يشركن بالله شيئا من الأَشياءِ أَو شيئا من الإِشراك، (وَلا يَسْرِقْنَ) أَي: ولا يسرقن أَموال الناس الأَجانب، فأَما إِن كان الزوج مقصرا في نفقتها فلما أَن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أَمثالها وإِن كان من غير علمه عملًا بحديث هند بنت عتبة وسيأتي، (وَلا يَزْنِينَ) ولقد ذكر في حديث رسول الله عقوبة الزنا بالعذاب الأَليم في نار جهنم، ولقد روي الإِمام أَحمد عن عائشة قالت: جاءَت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله فأَخذ عليها (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) الآية - قال: فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأَعجبه ما رآه منها، فقالت عائشة: أَقري أَيتها المرأَة فوالله ما بايعنا إِلا على هذا. قالت: نعم إِذن فبايعها بالآية (ابن كثير).

(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ): وهذا يشمل قتلهم بعد وجودهم كما كان أَهل الجاهلية يقتلون أَولادهم خشية الإِملاق، وقتلهم وهم أَجنة كما يفعله بعض الجهلة من النساءِ. (ولا يأتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) قال الفراءُ: كانت المرأَة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أَيديهن وأَرجلهن وذلك أَن الولد إِذا وضعته الأُم سقط بين يديهما ورجليها. وفي الكشاف ما يؤيد هذا المعنى. وحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إِليه الأَكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس وقال بعض الأَجلة: معناه لا يأتين ببهتان، أَي: يكذب وزور من قبل أَنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأَن معظم الأَفعال بهما، وقيل البهتان: السحر، وللنساءِ ميل شديد إِليه فنهين عن ذلك وليس بشيءٍ. (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أَي: ولا يعصينك فيما يأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أَن رسول الله لا يأمر إِلاَّ به للتنبيه على أَنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أَن طاعة أُولي الأَمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف يترك النياحة لما أَخرج الإِمام أَحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم عن أُم سلمة الأَنصارية؛ قالت امرأة من هذه السورة: ما هذا النسوة: ما هذا المعروف الذي ينبغي لنا أَلا نعصيك فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَنُحْنَ ... " الحديث، ونحوه من الأَخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأَخبار من باب الاقتصار على بعض أَفراد العام لنكته، ويشهد للعموم قوم ابن عباس وأَنس وزيد بن أَسلم: هو النوح، وشق الجيوب ووشم الوجوه، ووصل الشعر وغير ذلك من أَوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأُمور المعدودة بما ذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن (فَبَايِعْهُنَّ) أَي: فعاهدهن بضمان الثواب على الوفاءِ بهذه الأَشياءِ، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إِليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إِليها (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) واطلب لهن المغفرة من الله زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَي: واسع المغفرة عظيم الرحمة فيغفر - عَز وجلَّ - لهن ويرحمهن إِذا وفين بما بايعن عليه.

وهذه الآية نزلت على ما أَخرج ابن أَبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح، فبايع رسول الله الرجال على الصفا وعمر - رضي الله عنه - يُبايع النِّساءَ تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءَ أَنَّه - عليه الصلاة والسلام - بايع النساء أَيضا بنفسه الكريمة، أَخرج الإِمام أَحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وغيرهم عن أُميمة بنت رُقيْقة قالت: أَتيت النبي صلى الله عليه وسلم لنبايعه فأَخذ علينا ما في القرآن (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) حتى بلغ (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقال: (فيما استطعن وأَطقن) قلنا: الله ورسوله أَرحم بنا من أَنفسنا يا رسول الله أَلا تصافحنا فقال: إِني لا أُصافح النساء، إِنما قوليِ لمائة امرأَة كقولي لامرأَة واحدة. والمبايعة وقعت غير مرة، ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة. وممن بايعه - عليه الصلاة والسلام - في مكة هند بنت عتبة زوج أَبي سفيان ففي حديث أَسماءَ بنت يزيد بن السكن: كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت بنت عتبة في النساءِ فقرأَ صلى الله عليه وسلم الآية فلما قال: (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) قالت هند: وكيف نطمع أَن يقبل منَّا ما لم يقبل من الرجال، يعني أن هذا بين لزومه، فلما قال: (وَلا يَسْرِقْنَ) قالت: والله إِنِّي لأُصيب الهنة من مال أَبي سفيان لا يُدري أَيحل لي ذلك، فقال أَبوسفيان: ما أَصبت من شيءٍ فيما مضي وفيما نجد فهو لك حلال فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: (وإنك لهند بنت عتبة) قالت: نعم فاعف عمَّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: (وَلا يَزْنِينَ)، فقالت: أَوتزني الحرة؟ فقال: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ)، فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا - تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أَبي سفيان فإِنه قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقي، وتبسم رسول الله، وفي رواية أَنها قالت: قتلت الآباءَ وتوصينا بالأَولاد؟ فضحك رسول الله فقال: (وَلا يَأتِينَ بِبُهْتَانٍ)، فقالت: والله إِنَّ البهتان لأَمر قبيح ولا يأمر الله إِلا بالرشد ومكارم الأَخلاق، فقال: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)، فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أَنفسنا أَن نعصيك في شيءٍ، وكان هذا منها دون غيرها لمكان أَم حبيبة - رضي الله عنها - من رسول الله مع أَنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أَن أَول من بايع من النساءِ أُم سعيد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أُخري - رضي الله عنهن -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} التفسير 13 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}: ينهي تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهي عنها في أَولها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود والنصاري وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإِبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أَصدقاءَ وأَخلاءَ. (قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ) أَي: يئسوا من خيرها وثوابها لعنادهم الرسول المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات. (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) قال ابن كثير: - فيه ابن كثير: فيه قولان: أحدهما: كما يئس الكفار الأَحياءُ من أَقربائهم الذين في القبور - أَن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأَنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا فقد انقطع رجاؤُهم في لقائهم وذلك حسب اعتقادهم وبهذا القول قال ابن عباس، وقال قتادة: كما يئس الكفار أَن يرجع إِليهم أَصحاب القبور الذين ماتوا، وكذا قال الضحاك.

والقول الثاني معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير ينالهم في الآخرة فقوله - تعالى -: (مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) بيان للكفار. قال الأَعمش عن أَبي الضحى عن ابن مسعود (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) قال: كما يئس هذا الكافر إِذا مات وعاين عقابه واطلع عليه، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وهو اختيار ابن جرير. أ. هـ ابن كثير بتصرف. وقال الزمخشري: روي أَن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ..... ) الآية.

سورة الصف

سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة أَسماء هذه السورة: وتسمى سورة الحَواريين، وسورة عيسى - عليه السلام - وهي مدنيَّة، ويدل على ذلك ما أَخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أَصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أَي الأَعمال أحب إِلى الله تعالى لعملناه فأَنزل - سبحانه -: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}. قال عبد الله: فقرأَها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. مناسبتها لما قبلها: ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي عن اتخاذ الكفار أَولياءَ الذي تضمنته السورة السابقة (سورة الممتحنة). أهم مقاصد السورة: تخبر السورة الكريمة في افتتاحها بأَنَّ الله - سبحانه - نزهه عمَّا لا يليق به كُل ما في السموات والأَرض وهو العزيز الحكيم، ثم تبين أَنه لا يليق بالمؤمنين أَن تخالف أَفعالهم أَقوالهم؛ لأَن هذه ليست طباع المؤمنين الصادقين، بل هذا خلق يبغضه الله ويمحقه. ثم ترسم السورة لوحة جميلة، وصورة مشرقة يحبها الله للمؤمنين وهم يقاتلون في سبيل الله لإِعلان الدين صفًّا واحدًا كأَنهم بنيان مرصوص، ففي اجتماعهم قوتهم، وفي اتحادهم عزتهم ثم تُسلَّي الرسول عمَّا يحدث له، بما قد حدث لرسولين سابقين عليه جاءا إِلى بني إِسرائيل وهما: موسى - عليه السلام - فآذوه مع علمهم بأَنه رسول الله لكثرة ما جاءَهم به من المعجزات فلما أصَروا على الانحراف أَمال الله قلوبهم عن الهداية والله لا يهدي القوم الفاسقين. أَما عيسى - عليه السلام - فقد أَخبر بني إِسرائيل أَنه رسول الله إِليهم، مصدقًا لِما قبله من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أَحمد؛ فلما جاءَهم الرسول المُبَشِّر به بالآيات كفروا به وقالوا: هذا سحرٌ مبين، وتذكر السورة أَن بني إِسرائيل لكفرهم وعنادهم وضلالهم

(يُرِيدُونَ ليُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، وهم في سعيهم مخفقون وعاجزون، فهل يستطيع أَحد أَن يطفئ نور الله بفمه، هيهات هيهات {وَيَأبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1) كما تذكر أَن الله - سبحانه - هو الذي أَرسل محمد بالقرآن ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم ترشد السورة المؤمنين إِلى التجارة الرابحة التي تنجيهم من عذاب أَليم، وهي الإِيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالأَموال والأَنفس، وربحُهم من هذه التجارة، غفران الذنوب ودخولهم جنات النعيم، ولهم نعمة أُخري يُحبُّونها، وهي نصرٌ من الله وفتحٌ قريب، ثم تدعو السورة المؤمنين أَن يكونوا أَنصارًا له كما كان الحَواريون مع عيسي أَيضًا أَنصارًا لله، وتختم السورة، بأَن الله يؤيد بنصره أَولياءَه وأَصفياءَه حتى يصبحوا على عدوهم غالبين منتصرين. (بسم الله الرحمن الرحيم) {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} المفردات: (سَبَّحَ لِلَّهِ): نزهه عما لا يليق، ومجده، ودل عليه. (الْعَزِيزُ): الغالب على كل شيء. (كَبُرَ مَقْتًا): عظُم بغضا، وكره كرها شديدا. (صَفًّا): صافين أَنفسهم، أَو مصفوفين. (بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ): بنيان متلاصق محكم لا فرجة فيه. ¬

_ (¬1) سورة التوبة من الآية: 32.

التفسير 1 - {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}: يخبر الله تعالى أَن جميع ما في السموات وما في الأَرض من الحيوانات والنباتات وغيرهما يُسبحه - جلَّ وعَلاَ - وينزهه عمَّا لا يليق به ويمجده ويُقدسه ويُصلِّي له ويُوحِّده ويدلّ عليه وهو - سبحانه - وحده الغالب على كل شيء الذي خضع له كل شيء وهو ذو الحكمة البالغة يضع الشيء في موضعه. 2 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}: المعنى: يا أَيها الذين آمنوا لأَي شيءٍ تقولون بأَلسنتكم ما لا تصدقه أَفعالكم، وما لا تفعلونه من الخير والمعروف، على أَن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإِنما وُجِّه إِلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم. قال الزمخشري: هذا الكلام تناول الكذب وإِخلاف الوعد، روي أَن المؤْمنين قالوا قبل أَن يؤْمروا بالقتال: لو نعلم أَحب الأَعمال إِلى الله لعملناه، ولبذلنا فيه أَموالنا وأَنفسنا، فدَلَّهم الله على الجهاد في سبيله فَوَلَّوْا يوم أُحد فعيَّرهم، وقيل: لما أخبر الله بشهداءِ بدر قالوا: لئن لقينا قتالًا لنُفْرِغن فيه وُسْعَنا ففروا يوم أُحد، ولم يَفُوا وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وقيل: كان قد آذى المسلمين رجل فقتله صُهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصُهيب: أَخبر الرسول أَنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: ذلك يا أَبا يحيى قال: نعم فنزلت في المُنْتحِل، وعن الحسن: نزلت في المنافقين، ونداؤهم بالمؤْمنين في الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تهكم بهم وبإِيمانهم. 3 - {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)}: المعنى: كره الله كرها شديدا أن تقولوا ما لا تفعلون وأن تخالف أَفعالكم أَقوالكم.

قال الآلوسي والزمخشري: قصد في (كَبُرَ) التعجب وتعظيم الأَمر في قلوب السامعين؛ لأَن التعجيب لا يكون إِلا من شيءٍ خارج عن نظائره وأَشكاله، واختير لفظ (المقت) لأَنه أَشد البغض وأَبلغه ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأَة أَبيه - ولم يقتصر على أَن جعل البغض كبيرا حتى جعله أَشده وأَقبحه وأَفحشه، وكونه (عِند الله) فيه دلالة على أَنه أَبلغ من ذلك لأَنه إِذا ثبت كبر مقته عند الله الذي يحقر دونه كل عظيم، فقد تم كبره وشدته، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إِليه كثير من أَهل اللغة. 4 - {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}: هذا بيان لِمَا هو مَرْضِيّ عنه عند سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت لديه جل شأَنه والمشار إِليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ .... ) الآية. وظاهره يرجح أَن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون غيره. وهذا هو إِخبار من الله - تعالى - بمحبته عباده المؤْمنين إِذا صُفُّوا مواجهين أَعداءَ الله في حرمة الوغى يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، روي الإمام أَحمد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ يضحَكُ الله إِليهم: الرجل يقومُ من الليل، والقومُ إِذا صُفُّوا للصلاة، والقوم إِذا صُفُّوا للقتال). وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) أَي: كأَنهم في تَراصهم والتحام بعضهم ببعض من غير فرجة ولا خلل (بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) رُصّ وضم بعضه إِلي بعض. والمرصوص على ما قاله الفراءُ المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناءَ لاءَمت بين أَجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، وقيل: المراد استواءُ نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وتوحيد الرأي كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأَول.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} المفردات: (زَاغُوا): مالوا باختيارهم عن الحق وأَصروا على الانحراف عنه. (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ): حرمهم الله التوفيق لاتباع الحق، وأَمال قلوبهم عن قبول الهداية. (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ): مصدقا لما تقدمني وجاءَ قبلي من التوراة. التفسير 5 - {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)}: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) هذا كلام مستأنف مقرر لِمَا قبله من شناعة ترك القتال. والمراد: اذكر يا محمد لهؤلاءِ المعرضين عن القتال وقت قول موسى - عليه السلام - لقومه بني إِسرائيل حين ندبهم لقتال الجبابرة بقوله: (ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ

اللَّهُ لَكُمْ) (¬1)، فلم يمتثلوا أَمره وعصوه أَشد عصيان حيث قالوا: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) (¬2)، وقولهم: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (¬3). وأَصرُّوا على ذلك كل الإِصرار وآذوه - عليه السلام - كل الإِيذاءِ فوبخهم على ذلك بما حكاه الله عنه بقوله (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أَي: لم تؤذنني بالمخالفة والعصيان فيما أَمرتكم به ونهيتكم عنه (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أَي: والحال أَنكم تعلمون علما قطعيًّا بمشاهدة ما ظهر على يديَّ من المعجزات الباهرة التي منها إِهلاك عدوكم وإِنجاؤكم منه، تعلمون أَني رسول الله إِليكم لأُرشدكم إِلى خيري الدُّنيا والآخرة وكان مقتضي علمكم بذلك أَن تبالغوا في تعظيمي، وتسارعوا إِلى طاعتي، لا أَن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأَن من عرف الله وعظمته عظَّم رسوله، ولأَن من آذى رسول الله كان وعيد الله لاحقا به. (فَلَمَّا زَاغُوا) أَي: فلما أَصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاءَهم به موسى - عليه السلام - واستمروا على ذلك، (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أَي: صرفها عن قبول الحق وعن الميل إِلى الصواب لصرف اختيارهم للعمى والضلال (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). تذييل مقرر لمضمون ما قبله - أَي: والله لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المُصرِّين على الغواية. والمراد بهم إِما المذكورون خاصة، والإِظهار في مقام الإضمار لذمّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أَو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولًا أَوليًّا. وذهب بعضهم إِلى أَن إِيذاءَهم إِياه - عليه السلام - بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وما ذكر أَولًا هو الذي تقتضيه جزالة اللفظ الكريم لمناسبته لما قبله. ¬

_ (¬1) سورة المائدة من الآية 21. (¬2) سورة المائدة من الآية 22. (¬3) سورة المائدة من الآية 24.

6 - {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ): إِذ معطوف على إِذ الأُولى، والمعنى: واذكر يا محمد حين أَن قال عيسى ابن مريم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ولعله - عليه السلام - لم يقل: (يَا قَوْمِ) كما قال موسى، بل قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) لأَنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأَب فيهم، أَو إِشارة إِلى أَنه عامل بالتوراة وأَنه مثلهم من قوم موسى عليه السلام - هضما لنفسه بأَنه لا أَتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إِن التعبير بما ذكر لِمَا فيه من التعظيم لهم فقد كانوا يفتحرون بنسبتهم إِلى إِسرائيل - عليه السلام -. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أَي: إِني مرسل منه - تعالى - إِليكم حال كوني مصدقا لِمَا تقدمني وجاءَ قبلي من التوراة، وذكر هذه الحال لأَنه مِن أَقوى الدواعي إِلى تصديقهم إِياه - عليه السلام - وقوله تعالى - (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) معطوف على مصدقا وهو داع أَيضا إِلى تصديقه - عليه السلام - من حيث إِن البشارة بهذا الرسول واقعة في التوراة ويتضمن كلامه - عليه السلام - أَن دينه التَّصديق بكتب الله تعالى وأَنبيائه وجملة (يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاسم الجليل (أَحْمَدُ) علم لنبينا، وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن لي أَسماءً، أَنا محمد وأَنا أَحمد، وأَنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأَنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأَنا العاقب". والعاقب: الذي ليس بعده نبي، وأَحمد منقول من الفعل المضارع للمتكلم، أَو من أَفعل التفضيل من الحامدية أَو المحمودية، وبشارة عيسى - عليه السلام - بنبينا مما نطلق به القرآن المُعجز فإِنكار النصارى له ضرب من الجحود والهذيان.

ذكر الآلوسي أَنه ورد في إِنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أَنصف، وسلك الصِّراط السَّوي وما تعسف، ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح (إِن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أَبي يعلمكم كل شيء)، وقال يوحنا أَيضا: قال المسيح: (من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإِليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأَني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أَبي هو يعلمكم كل شيءٍ .... الخ). (والفارقليط) لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إِرادته صلى الله عليه وسلم من كلام عيسى - عليه السلام - ممَّا لا غبار عليه لمن كشف الله غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصاري بالحمَّاد وبعضهم بالحامد في مدلوله إِشارة إِلى اسمه - عليه الصلاة والسلام - أَحمد: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَي: فلمَّا جاءَهم عيسى - عليه السلام - بالمعجزات الظاهرة قالوا مشيرين إِلى ما جاء به عيسى، وقيل: مشيرين إِلى ما جاءَ به أَحمد - عليه الصلاة والسلام - (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءَة طلحة والأَعمش: هذا ساحر. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} المفردات: (وَمَنْ أَظْلَمُ): أَي: لا أَحد أَشد ظلما. (افْتَرَى): اختلق بادعاءِ الشركاءِ له.

(نُورَ اللَّهِ): الحق الذي جاءَ به الرسول. (بِالْهُدَى): بالقرآن. (وَدِينِ الْحَقِّ): الإِسلام. (لِيُظْهِرَهُ): ليعليه ويرفعه. (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على جميع الأَديان. التفسير: 7 - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)}: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}: أَي: أيُّ النّاس أَشد ظلما ممن يُدْعى إِلى الإِسلام الذي يُوصله إِلى سعادة الدارين فتكون استجابته الافتراءَ والاختلاق على الله بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا، والمراد أَنه أَظلم من كل ظالم، والآية فيمن كذب من هذه الأُمة على ما يقتضيه السياق، وهي إِن كانت في بني إِسرائيل الذين جاءَهم عيسى عليه السلام - ففيها تأييد لمن ذهب إِلى عدم اختصاص الإِسلام بالدين الحق الذي جاءَ به نبينا عليه الصلاة والسلام - بل الإِسلام هو كل دين جاءَ به الأَنبياءُ والمرسلون (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَي: لا يوفقهم إِلى ما فيه فلاحهم لسوءِ استعدادهم وعدم توجههم إِليه. 8 - {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}: هذا تمثيل لحالهم - وهم يجتهدون في إِبطال الحق - بحال من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها؛ تهكمًا وسخرية بهم.

والمعنى: يفتري بنو إِسرائيل الكذب على الله لكي يطفئوا نور دينه بأَفواههم ومثلهم في ذلك كمثل من يريد إِطفاءِ نور الشمس بنفخه من فيه، والله مكمل الحق ومبلغه غايته بإِتمام دينه، وعن ابن عباس وابن زيد: يريدون إِبطال القرآن وتكذبيه بالقول، وقيل: يريدون إِبطال شأن النبي وإِخفاءَ ظهوره بكلامهم وأَكاذيبهم، فقد روي عن ابن عباس: أَن الوحي أَبطأَ أَربعين يوما فقال كعب بن الأَشراف: يا معشر يهود أَبشروا أَطفأَ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره. فحزن الرسول فنزلت (يُرِيدُونَ ... ) الآية. وقوله - تعالى -: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أَي: ولو كره الجاحدون، وفيه إِشارة إِلى أنه - عز وجل - متم ذلك قسرا عنهم وإِرغاما لهم. 9 - {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}: أَي: أَن الله سبحانه وتعالى هو الذي أَرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى أَي: بالقرآن؛ أَو المعجزة عامة، وجعل ذلك نفس الهدى مبالغة، ودين الحق وهو الملة الحنيفية ودين الإِسلام ليظهره على الدين كله: أَي: ليعليه على جميع الأَديان المخالفة له، ولقد أَنجز الله - عزَّ وجلَّ - وعده، وإذْ جعله بحيث لم يبق دين من الأَديان إِلا وهو مقهور مغلوب بدين الإِسلام، فقد هزم الأَديان الباطلة ونسخ الأَديان السماوية السابقة. وعن مجاهد: إِذا نزل عيسى - عليه السلام - لم يكن في الأَرض إِلا دين الإِسلام. وقيل: المراد بالإِظهار: الإِعلاءُ بوضوح الأَدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أَبدا. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أَي: ولو كره المشركين ذلك لِمَا فيه من التوحيد الخالص وإِبطال الشِّرك.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} المفردات: (أَدُلُّكُمْ): أَرشدكم. (جَنَّاتِ عدن): جنات إقامة. (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا): أَي: ولكم من النعم نعمة أُخرى تحبونها في الدنيا. التفسير 10 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}: جاء في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة - رضي الله عنهم - أَرادوا أَن يسأَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَحب الأَعمال إِلى الله - عزَّ وجلَّ - فأَنزل الله هذه السورة ومن جملتها هذه الآية. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا هل أرشدكم إِلى تجارة عظيمة الشان تنجيكم وتخلصكم من عذاب شديد الأَلم يوم القيامة.

11 - {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}: استئناف بياني كأَنه قيل: ما هذه التجارة الجليلة الشأن؟ دلَّنا عليها، فقيل: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أَي: هذه التجارة هي أَن تثبتوا على الإِيمان بالله ورسوله وتجاهدوا في سبيل الله بأَموالكم وأَنفسكم، والمضارع في الموضعين (تُؤْمِنُون، وَتُجَاهِدُونَ) كما قال المبرد وجماعة: خبر بمعنى الأَمر، أَي: آمنوا وجاهدوا، ويؤَيده قراءَة بوقوعها (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أَي: ذلكم ما ذكرته وأَرشدكم إِليه من الإِيمان والجهاد، خيَّر لكم على الإِطلاق أَو من أَموالكم وأَنفسكم. (إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): أَي: إِن كنتم من أَهل العلم؛ إِذ الجهلة يعتد بأَعمالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل إِن كنتم تعلمون أَنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ؛ لأَنكم إِذا علمتم ذلك واعتقدتم أَحببتم الإِيمان والجهاد فوق ما تحبون أَموالكم وأَنفسكم وتخلصون وتفلحون. 12 - {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أَي: آمنوا وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم ذنوبكم - فيغفر جواب للأَمر المدلول عليه بلفظ الخير في قوله - تعالى -: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) ويجوز أَن يكون التقدير: إِن تؤْمنوا وتجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأَنهار (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً) أَي: طاهرة زكية مستلذة وهذه إِشارة إِلى حسنها بذاتها، وقوله - تعالى -: (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إِشارة إِلى حسنها باعتبار محلها (ذَلِكَ) أَي: الجزاء الذي ذكر من المغفرة وما عطف عليها (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز بعده.

13 - {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}: أَي: ولكم أَيها المؤمنون المجاهدون إِلى ما ذكر من النعم من المغفرة والرضوان في الآجلة نعمة أَخرى عاجلة تحبونها ثم فسرها بقوله: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أَي: عاجل وهو فتح مكة، وعطف (وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)؛ لأَنه خبر في معنى الأَمر كما قدمنا، كأَنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبتكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} المفردات: (الْحَوَارِيُّونَ): أَصفياءُ عيسى وخواصه. (فَأَيَّدْنَا): فقوينا. (ظَاهِرِينَ): غالبين ومنتصرين. التفسير: 14 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}:

يقول الله تبارك وتعالى آمرا عباده المؤمنين أَن يكونوا أَنصار الله في جميع أَحوالهم بأَقوالهم وأَفعالهم وأَنفسهم وأَموالهم كما كان الحواريون أَنصار الله حين قال لهم عيسى: من أَنصاري إِلى الله؟ والحواريون: هم أَتباع عيسى وأَصفياؤه وأَول من آمن به، قيل: كانوا اثني عشر رجلًا فوقهم في البلاد وبعثهم دعاة إِلى الناس في البقاع المختلفة، واشتقاق الحواريين من الحَوَرِ وهو البياض؛ لأَنه كان ملبسهم، وقيل: لأَنهم كانوا قصارين يبيضون الثبات، وقيل: لنقاءِ ظاهرهم وباطنهم، وقيل: الحواريون هم المجاهدون. وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أَيام الحج: (مَنْ رجل يؤويني حتى أَبلغَ رسالةَ ربي؟) حتى قبض الله له الأَوس والخزرج من أَهل المدينة فبايعوه على أَن يمنعوه من الأَسود والأَحمر إِن هو هاجر إِليهم بمن معه من أَصحابه، ووفوا له بما عاهدوا الله عليه، ولهذا سماهم الله ورسوله الأَنصار وصار ذلك علما عليهم - رضي الله عنهم - وأَرضاهم، وقوله - تعالى -: (فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) أَي: لَما بلَّغ عيسى - عليه السلام - رسالة ربه إِلى قومه وآزر من آزره من الحواريين اهتدت طائفة من بني إسرائيل مما جاءَ به وصَلت، فخرجت عما جاءَ به وجحدوا نبوته ورموه وأُمه بالعظائم والأَباطيل وهم اليهود - عليهم لعنة الله المتتابعة إِلى يوم القيامة - ونحلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أَعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقا وشيعا، فمن قائل: إِنه ابن الله، ومن قائل: إِنه ثالث ثلاثة - الأَب والابن وروح القدس - وقوله تعالى - (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) أَي: فنصرنا وقوينا الذين آمنوا بعيسى على عدوهم الذين كفروا به فصاروا بتقويتنا ومساعدتنا غالبين منتصرين قال زيد بن علي: ظاهرين بالحجة والبرهان. وقيل المراد: (فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) أَي: فآمنت طائفة من بني إِسرائيل بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وكفرت به طائفة أُخري، فأَيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين، والله أَعلم.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية وآياتها إِحدي عشرة الجمهور على أَن هذه السورة مدنية، ففي صحيح البخاري وغيره عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال "كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة" الحديث. وإِسلام أَبي هريرة بعد الهجرة بالاتفاق، ولأَن أَمر الانفضاض عند مجئ تجارةٍ أَو لهو الذي جاءَ في آخر السورة، وكذا أَمر اليهود المشار إِليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) لم يكن إِلا بالمدينة. صلتها بما قبلها: ووجه اتصالها بما قبلها أَنه تعالى: لَمَّا ذكر حال موسى - عليه السلام - مع قومه، ونعي عليهم إِيذاهم له، وذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أُمته تشريفًا لهم؛ لينظر الفرق بين الأُمتين، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود، ولأَنه تعالى لَمَّا ذكر في السورة السابقة قول عيسى - عليه السلام -: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال هنا: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا منْهُمْ ... ) إِشارة إِلى أَنه هو الذي بشر به عيسى، ولأَنه تعالى لَمَّا ختم السورة السابقة بالأَمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه السورة بالأَمر بالجمعة، وأَخبر أَنها خير التجارة الدنيوية، إِلى غير ذلك، من المناسبات. بعض مقاصد السورة: حكت سورة الجمعة أَنه تعالى يسبح له ما في السموات وما في الأَرض، ووصفته بأَنه الملك القدوس العزيز الحكيم، وأَنه هو الذي بعث في الأَمِّيِّين رسولًا منهم يُعَلِّمهم الكتاب والحكمة بعد أَن كانوا في جاهليتهم في ضلال مُبين، وضربت مثلًا للذين حملوا التوراة ولم يعملوا بها، أَنهم كمثل الحِمَار يَحمل أَسْفارًا وكتبًا وهو لا يعلم ولا يعمل بها، وكذبت اليهود في زعمهم أَنهم أَولياءُ لله من دون الناس، وتحدتهم بأَن يطلبوا من الله الموت إِن كانوا صادقين؛ ليكونوا في رِحاب من أَحبُّوه، وذكرت أَنهم لا يتمنونه أَبدًا بما قدمت أَيديهم من السيئات، وأَنهم يَفِرُّونَ منه وسيلاقُونه ثم يعودون إِلى الله - تعالى - فيحاسبهم ويجازيهم.

وحثت السورة المؤمنين على أَن يستجيبوا لنداءِ صلاة الجمعة ويتركوا التجارة مدة الصلاة وما يتصل بها؛ ليعودوا إِليها بعد الصلاة إِن شاءُوا، وحذَّرهم من إِيثارهم على الصلاة، ولأَمهم على الخروج من المسجد أَثناء خطبة الجمعة من أَجل اللَّهو والتِّجارة التي وصلت إِلى المدينة أَثناء الخطبة. (بسم الله الرحمن الرحيم) {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} المفردات: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ): التسبيح: التنزيه. (الْقُدُّوسِ): البالغ غاية الطهر، وهو على وزن فُعُّول من القدس وهو الطهر والقدوس من أَسماءِ الله الحسنى. (الأُمِّيِّينَ): الذين لا يقرءُون ولا يكتبون. (رَسُولًا مِنْهُمْ): رسولًا أُميًّا مثلهم.

(وَيُزَكِّيهِمْ): ويطهرهم من أَقذار العقائد والأَخلاق والعادات التي كانت لهم في الجاهلية. (الْكِتَابَ): القرآن. (وَالْحِكْمَةَ (¬1)): السنة. (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ): لفي بُعْد واضح عن الحق والحكمة، لجاهليتهم التي كانوا فيها. (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وبعثه في آخرين من الأُميين لم يؤمنوا بعد وسيؤمنون مثلهم. (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الغالب. (الْحَكِيمُ): المتقن للأَمور. (فَضْلُ اللَّهِ): إِحسانه وعطاؤه. التفسير 1 - {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}: جاءَ التعبير بلفظ المضارع (يُسَبِّحُ) ليفيد أَن تسبيح ما في السموات وما في الأَرض لله تعالى متجدد في كل وقت، والمراد من (مَا فِي السموات وما في الأَرض) جميع أَجزائهما وما استقر فيهما، وتسبيح ذلك إِما تسبيح دلالة كما في قول الشاعر: وفي كُلَّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَي أَنَّهُ الْوَاحِد وإِما تسبيح مقال، وهو في كلِّ شيءٍ بحسبه، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النور: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (¬2) وكقوله في سورة سبأ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ¬

_ (¬1) وتطلق الحكمة أيضا على حسن التصرف في الأمور. (¬2) الآية 41.

يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)، (¬1) وكقوله تعالى في سورة ص: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (¬2)، وكقوله في سورة الإِسراء: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (¬3). والمعنى الإِجمالي للآية: يسبح لله وينزهه عن الشريك وجميع صفات النقص - يسبح له - ما في السموات وما في الأَرض من أَجزائهما وما استقر فيهما، المالك لهما الغالب لكل ما سواه الحكيم المتقن لكل الأُمور، ومن كان شأنه ذلك فلا يصح أَن يعبد سواه. 2 - {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}: الأُميُّون هم الذين لا يقرءُون ولا يكتبون، نسبوا إِلى الأُم للإِيذان بأَنهم على فطرتهم التي ولدوا عليها، فقد ولدوا لا يقرءُون ولا يكتبون، ولم يطرأ على تلك الفطرة ما يغيرها، وقد كانت هذه سِمَتَهُم التي عرفوا بها بين الأُمم، وإِن كنت تري فيهم الخطباء والبلغاء والفصحاء بفطرتهم، وهذا المعنى أَخرجه البخاري ومسلم وغيرهما بأَسانيدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا مثلهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ) (¬4). قال الماوردي: فإِن قيل: ما وجه الامتنان بأَن بعث في الأُميِّين نبيًّا أُمِّيًّا، فالجواب عنه ثلاثة أَوجه: (أَحدهما) لموافقة ما تقدمت به بشارة الأَنبياء. ¬

_ (¬1) من الآية 10. (¬2) الآيتان 18 - 19. (¬3) الآية 44. (¬4) سورة العنكبوت 48، 49.

(ثانيها): لمشاكلة حاله لأَحوالهم فيكون أَقرب إِلى موافقتهم له. (ثالثها) لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إِليه من الكتب التي قرأَها والحكم التي تلاها. ونزيد على ذلك أَن الله اختاره أُمِّيًّا، لتكون أُميَّته مؤكدة لإِعجاز القرآن، وكونه آية على صدقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لأُمِّيَّته يحرك لسانه وينطق بالقرآن عقب سماعه من جبريل ليحفظه فلا يغيب عنه شيءٌ منه فطمأَنه الله - تعالى - إِذ تعهد أَن يجمعه في صدوره، بعد فراغ جبريل - عليه السلام - من تبليغه، وفي ذلك يقول سبحانه: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (¬1) وقد تضمن القرآن علوم الأَولين والآخرين، وتحدث عن الماضي والحال والاستقبال، وعن الآيات التي يستدل بها على الله، وعن أَدلة التوحيد والبعث، وأَسرار العلوم والفنون، وعن التمكين لأُمته في المشارق والمغارب، ويرحم الله البوصيري إِذ يقول: كَفَاكَ بِالعِلْم في الأُمّي مُعْجِزة ... في الجَاهِلِيَّة والتَّأدِيب في اليتم وقد اختار الله هذه الأُمة الأُمية؛ ليكون الرسول منهم؛ لأَنهم أَهل شجاعة وهمة، قادرون على الثبات أَمام الأَهوال، ولتظهر بهم قدرة الله، حيث حوَّل جاهليتهم إِلى علم وعرفان، يفوق ما عرفه البشر من العلوم والفنون. وكان كل رسول يبعث إِلى قومه خاصة، ولكن محمدًا الرسول الأُميّ بُعث إِلى الناس كافة، فدان لرسالته العرب والفُرس والرُّومان وغيرهم من أَهل المشارق والمغارب، فسبحان الله القادر على ما يشاء. وقد عينت الآية الأُمة التي بعث منها، ولم تعين الأُمم الذين أُرسل إِليهم؛ ليفهم من ذلك أَن رسالته مفتوحة لا محدودة، وقد علم عموم بعثته للعالم من قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (¬2)، وقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا .... ) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة القيامة 16 - 19. (¬2) سورة التوبة من الآية: 33. (¬3) سورة سبأ من الآية: 28.

والمعنى الإِجمالي للآية: هو الله الذي بعث في الأُمِّيَّين رسولًا منهم أُمِّيًّا مثلهم، يتلو عليهم آياته التي سمعها ووعاها من جبريل أَمين الوحي الإِلهي، ويُعَلِّم هؤلاءِ الأُمِّيَّن هذا الكتاب فيقرؤه عليهم فيحفظونه لصفاءِ فطرتهم وقوة حفظهم، ويكتبه الكتّاب منهم ويعلمهم السنة التي تشتمل على مختلف أَنواع الحكم الشرعية والنقلية والعقلية كأَسرار الكون ودلالتها على المكوّن - سبحانه وتعالى - ويطهرهم من عقائد الجاهلية وأَخلاقها، وعاداتها، وإِنهم كانوا من قبل بعثه فيهم لفي ضلال عن الحق بيِّن واضح. 3 - {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}: لفظ (وَآخَرِينَ) على لفظ الأُمِّيِّين أَو على الضمير في (يُعَلِّمُهُمْ، وَيُزَكِّيهِمْ). والآية صريحة في أَن هؤلاءِ الآخرين من الأُميين، وأَنهم لم يلحقوا بعد بمن قبلهم في الالتقاءِ بالرسول وأَخذ العلم عنه، وسيلحقون بهم بعد نزول هذه الآية كما يفيده لفظ (لَمَّا) فإِنهم تفيد نفي ما دخلت عليه حالا، وتوقع حصوله مستقبلًا، فهي تخالف (لَمْ) في ذلك، إِذ هي تفيد النفي دون توقع حصول المنفي بعدها. وعملًا بظاهر الآية نقول: إِنها نزلت قبل أَن يسلم جميع الأُميين العرب، فلا تزال حينئذ - بقية منهم في جاهليتهم، ولكنهم سيلحقون بمن قبلهم في الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، هذا ما عنَّ لنا في فهم الآية الكريمة، وهذا لا يمنع عموم رسالته المدلول عليه بما تقدم. وقد اختلف المفسرون في بيان المراد من هؤلاءِ الآخرين من الأُميين، فقال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، واستشهدوا بما جاءَ في صحيح البخاري ومسلم عن أَبي هريرة قال: (كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إِذ نزلت سورة الجمعة، فلما قرأَ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال رجل: مَنْ هؤلاءِ يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأَله مرة أَو مرتين أَو ثلاثًا قال: وفينا سلمان الفارسي. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإِيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاءِ).

وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم - يعني من بعد العرب الذين بُعِث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد ومقاتل بن حيان: هم مَن دخل في الإِسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إِلى يوم القيامة. ويرد على هذه التأويلات أَمران: (أَحدهما) أَن الضمير في (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) يعود على الأُميين في الآية التي قبلها وهؤلاءِ الذين ذكروا في التأويلات السابقة ليسوا أُميين، والأُميون هم العرب كما تقدم. (وثانيهما) أَنه صلى الله عليه وسلم لا يُعلِّم هؤلاءِ الآخرين ولا يزكيهم، وإِنما يعلمهم ويزكيهم المسلمون الذين ورثوا الكتاب والحكمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجاب عن الأَول: بأَن الذين يتوقع منهم الإسلام بعده صلى الله عليه وسلم أُمِّيُّون من جهة العلم النافع، فهم ما بين وثنيين وأَهل كتاب غيروه وبدلوه، فهم في حكم الأُميين، فلما أَسلموا تعلموا الكتاب والحكمة وطهرت نفوسهم، وبذلك زالت أُميتهم العلمية، على أَن غالبية الشعوب التي دخلها الإِسلام كانوا لا يقرءُون ولا يكتبون فهم أُميون باعتبار أَغلبيتهم. ويجاب عن الثاني: بأَن إِسلام مَنْ بعده صلى الله عليه وسلم ناشيء عما تركه فيهم من آثار رسالته من الكتاب والحكمة، فكأَنه بُعِث فيهم، ولا تغفل عما فهمناه أَولًا من نص الآية، فهو أَظهر من تلك الآراءِ التي أَجبنا على ما وجه إِليها من الاعتراضات، والله ولي التوفيق. وفي عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لمن عاصروه ولمن بعدهم إِلى يوم القيامة يقول - سبحانه -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (¬1). 4 - {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}: أَي: ذلك الذي تقدم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم في الأُميين وسواهم؛ ليهتدوا - ذلك - فضل الله وعطاؤه العظيم، يعطيه من يشاءُ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولا يشاءُ - سبحانه - لأَحد بعده، ¬

_ (¬1) سورة الصف: 9.

فهو خاتم الأَنبياءِ والمرسلين، والله صاحب الإِحسان والعطاء الجزيل الذي تُحتقر نعم الدنيا بالقياس عليه. {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} المفردات: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ): صفة اليهود الذين كلفوا العمل بالتوراة. (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا): ثم لم يعملوا بها. (أَسْفَارًا): جمع سِفر وهو الكتاب الكبير، وسمي بذلك؛ لأَنه إِذا قريءَ يسفر عن معناه. (الَّذِينَ هَادُوا): الذين دانوا باليهودية. (مُلاقِيكُمْ): موافيكم ومقابل لكم حيثما كنتم.

التفسير: 5 - {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)}: هذه الآية مرتبطة بما قبلها، فهي تشير إِلى أَن ذلك الرسول المبعوث في الأَميين، قد نَعتَه الله هنا بما نعته به في التوراة، فقد نُعِت فيها بأَنه النبي الأُمي المبعوث إِلى أَمة أميين. والمعنى: مثل من جاءَهم نعت الرسول في التوراة وهم اليهود وقد علموه ولم يؤْمنوا به كمثل الحمار يحمل أَسفارًا لا ينتفع بها، فليس له منها إِلا الحمل، (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) أَي، بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا بآيات الله ولم ينتفعوا بها، فالمثل المقدر هو المخصوص بالذم (¬1). وقد ختم الله الآية بقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَي: لا يهدي اليهود الظالمين الذين وضعوا التكذيب في موضع التصديق وأَصروا على ذلك. 6 - {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)}: قل أَيها الرسول: يأيها الذين دانوا باليهودية إِن زعمتم أَنكم أَحباء لله دون غيركم من الناس، فاطلبوا من الله أَن يميتكم وينقلكم من دار البلية إِلى دار الكرامة إِن كنتم صادقين فيما زعمتموه من أَنكم مختصون بحب الله، فإِن من أَيقن أَنه من أَهل الجنة، أَحب أَن يتخلص إِليها من دار المحن والأَكدار. وقد أَمر الرسول صلى الله عليه وسلم أَن يقول لهم ذلك إِظهارًا لكذبهم، وإِنهم كانوا يقولون: نحن أَبناء الله وأَحباؤُه، ويزعمون أَنه لا يدخل الجنة إِلا من كان هودًا، إِلى غير ذلك من سائر دعاواهم الكاذبة. ¬

_ (¬1) راجع الآلوسي.

7 - {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}: ولا يتمنى الموت هؤلاءِ اليهود - لا يتمنونه - أَبدًا، إِيثارًا للحياة الدنيا على الآخرة وخوفًا من عقابهم على ما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم. وجاءَ في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمَّا نزلت هذه الآية: "والذي نفس محمد بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إِلا مات". 8 - {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ (¬1) ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}: قل لهم أَيها الرسول: إِن الموت الذي تفرون من طلبه إِياكم فإِنه ملاقيكم عند مجيء آجالكم، ثم تردون يوم البعث إِلى الله عالم ما غاب وما حضر، فينبئكم بما كنتم تعلمون في دنياكم من المساوئ، ويجزيكم عليها أَسوأَ الجزاء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} المفردات: (نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة): دُعِيَ بالأَذن لصلاة الجمعة في يومها. (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ): فامضوا إِلى صلاتها التي يذكر فيها اسم الله ولا تتخلفوا عنها، وأَطلق لفظ (ذِكْرِ اللَّه) على الصلاة مجازًا؛ لأَنه أَهم مقاصدها. ¬

_ (¬1) جملة "فإنه ملاقيكم" خبر إِن السابقة في محل رفع، واقترنت بالفاء؛ لأن اسم إن وهو الموت لما وصف بالموصول وصلته (الذي تفرون منه) وهو في معنى الشرط، وما بعده في معنى الجزاء، فكأَنه قيل: إِن فررتم من الموت فإِنه ملاقيكم.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ): واتركوا البيع والشراءَ حتى تُصَلُّوها. (قُضِيَتْ الصَّلاةُ): أُدِّيت. (وَابْتَغُوا): واطلبوا. التفسير: 9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}: المقصود من النداءِ لصلاة الجمعة الأَذان الشرعي المعهود لما فيه من قول المؤَذِّن: "حَيَّ عَلي الصَّلاَة" أَي: أَقبلوا عليها وتعالوا لأَدائها، ولفظ الجمعة بضم الميم وتسكينها، قال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل - أَي: بالضم - والتخفيف أَي: تسكينها، فاقرءُوا جُمُعة - بضم الميم - وفتح ميمها جائز لغة ولكنه لم يرد قراءَة. وكان يقال ليوم الجمعة يوم العَرُوبة - بفتح العين - واختلف في أَول من سماه يوم الجمعة، فقيل: هو كعب بن لؤي، وهو أَول من قال: أَمَّا بعد - قاله أَبو سلمة. وقيل: أَول من سماه جمعة الأَنصار، قال ابن سيرين: جَمَّع أَهل المدينة من قبل أَن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أَن تنزل (الجمعة) وهم الذين سموه يوم الجمعة، وذلك أَنهم قالوا: إِن لليهود يومًا يجتمعون فيه في كل سبعة أَيام وهو السبت، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأَحد، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل لنا يومًا نذكر الله ونصلي فيه ونستذكر - أَو كما قالوا - فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأَحد للنصارى فاجعلوه يوم العَروبة، فاجتمعوا إِلى أَسعد بن زرارة (أَبو أُمامة) - رضي الله عنه - فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها لقلتهم، فهذه أَول جمعة في الإِسلام - ارجع إِلى الآلوسي وغيره. وروي أَنهم كانوا اثني عشر رجلا، وعلى أَي حال فإِنه سمي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه. وأَما أَول جمعة جمّعها النبي صلى الله عليه وسلم بأَصحابه فكانت في قباء، فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا حتى نزل بها، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة

أذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان - رضي الله عنه -

خلت من شهر ربيع الأَول فأَقام بها إِلى يوم الخميس وأَسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة إِلى المدينة، فأَدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، وكان المسلمون قد بنوا مسجدا، فجمَّع النبي صلى الله عليه وسلم بهم فيه، وخطب، وهي أَول خطبة خطبها بالمدنية، وقال فيها: "الحمد لله أَحمده وأَستعينه وأَستغفره وأَستهديه، وأُؤمن به ولا أَكفره، وأَعادي من يكفر به، وأَشهد أَن لا إله إلاَ الله وحده لا شريك له، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله وأَرسله بالهدي ودين الحق والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأَجل، من يطع الله ورسوله فقد شكر، ومن يعض الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالًا بعيدًا، أُوصيكم بتقوى الله فإِنه خير ما أَوصي به المسلم المسلم أَن يحضه على الآخرة .. " إلي آخر الخطبة، وهي خطبة عظيمة ومنهاج رشيد، فارجع إِليها في القرطبي في المسأَلة الثانية. أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان - رضي الله عنه - كان للرسول صلى الله عليه وسلم أَذان واحد للجمعة، فكان إِذا جلس على المنبر أذَّن المؤذن على باب المسجد فإِذا نزل صلى الله عليه وسلم أَقام المؤذن الصَّلاَة، وكان أَبو بكر وعمر على ذلك، حتى إِذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل، زاد مؤذنا آخر، فأَمر بالتأذين الأَول على داره التي تسمى زوراء، وتسمية لها باسم موضع مرتفع بسوق المدينة، فإذا جلس على المنبر أذان المؤذن الثاني، فإِذا نزل أَقام الصلاة، فلم يُعبْ ذلك. ومن محاسن الأَذان الأَول بالزوراءِ، أَنه كان ينبه الناس إِلى ترك البيع والسعي لأَداء صلاة الجمعة وهو الآذان كذلك. المراد من السعي وذكر الله: المراد من السعي المشي بدون إِفراط في السرعة، وقال قتادة: أَن تسعي بقلبك وعملك. وقد اتسع العمران في هذا الزمان، فينبغي عدم انتظار الأَذان للسعي إِلى المسجد، وأَن يبكر المصلي، ليأخذ له مكانًا فيه قبل امتلائه بالمصلين بعد أَن يكون قد اغتسل وتطيب وتزين امتثالا لقوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

وذكر الله هو الصَّلاة والخطبة قبلها، والسعي إِليها عند الأَذان الأَول واجب، وقد أَوجب الله في الآية السعي إِلى الجمعة من غير شرط، وثبت شرط الوضوءِ بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (¬1) وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور "أَما الغسل للجمعة فهو سنة وليس فرضًا لها، قال صلى الله عليه وسلم: "من توضأَ يوم الجمعة فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أَفضل" أَخرجه النسائي وأَبو داود في سننهما. وفي صحيح مسلم عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضَّأَ يوم الجمعة فأَحسن الوضوء، ثم راح إِلى الجمعة فاستمع وأَنصت غفر الله ما بين الجمعة إِلى الجمعة وزيادة ثلاثة أَيام، ومنْ مسَّ الحصا فقد لَغَا" والمقصود بمسّ الحصا الاشتغال عن سماع الخطبة بأَي شاغل وإِن صَغُر، والمراد بكلمة (لغا) أَتى بما لا يليق بالاستماع للخطبة وأَضاع ثوابه، وقال صاحب المختار: (لغا) أَي: قال باطلا، والمراد منه في الحديث ما يشمل الكلام وغيره. وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أَمر بتركه قُبَيْلَ خطبة وصلاة الجمعة، وتحريم له في وقتها، وكذلك الشراء، ولم يصرح به؛ لأَنه لا يخلو بيع من شراءٍ، فالنهي عن أَحدهما شامل لهما جميعًا، ومع كونهما محرمين عند الأَذان إِلى تمام الصلاة فإِنهما لا ينعقدان ويفسخ كلاهما، وأَجاز بعض العلماءِ البيع في الوقت المذكور، وحمل النهي على الندب، واستدل بقوله تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أَي: أَفضل لكم من البيع، وهذا هو مذهب الشافعي، وقال الزمخشري في تفسيره: إِن عامة العلماءِ على أَن ذلك لا يؤدي إِلى فسخ البيع؛ لأَن البيع لم يحرم لعينه ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأَرض المغصوبة: يعني أَنها تصح مع حرمتها ولا تسقط الجمعة لكونها يوم عيد، خلافًا للإِمام أَحمد فإِنه قال: إِذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها، واستدل على ذلك بما روي أَن عثمان - رضي الله عنه - أذِن في يوم عيد لأَهل العوالي أَن يتخلفوا ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية: 6.

عن الجمعة، وقول الصحابي الواحد إذا خولف فيه لا يعتبر حجة، والأَمر بالسعي إِلى صلاة الجمعة متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأَيام، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة (سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: وإِذَا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أَيضًا في الصلاتين. أَخرجه أَبو داود والترمذي وابن ماجه (¬1). المعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا وكنتم من المقيمين في بلد الجمعة المكلفين بالصلاة: إِذا سمعتم أذان الجمعة فعليكم أَن تمضوا إِلى مكان أَدائها وعليكم السكينة والوقار، وأَن تستمعوا إِلى خطبة الجمعة، وتصلوا صلاتها في جماعة وأَنتم متوضئون، فإِنه لا صلاة من غير وضوءٍ، وعليكم أَن تمتنعوا عن البيع والشراءِ ابتداءً من الأَذان الأَول على الأَقل؛ لتتفرغوا لسماع خطبتها وأدائها مع الجماعة، فإِن البيع والشراء حينئذ حرام، ويقول بعض العلماءِ: إِنهما باطلان؛ ذلكم خير لكم في دينكم، ففي ذلك غفران لذنوبكم ومثوبة من الله لكم، إِن كنتم تميزون بين الخير والشر والنفع والضر. 10 - {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}: فإذا فرغتم من صلاة الجمعة فمباح لكم أَن تنتشروا في الأَرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ونحو ذلك واطلبوا من رزق الله بسعيكم، واذكروا الله ذكرًا كثيرًا في جميع الأَحوال، واشكروه على توفيقكم لأَداءِ الفرائض؛ لكي تفلحوا وتفوزوا في دنياكم وأخراكم. ويقول القرطبي: كان عراك بن مالك إِذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: "اللهم إِني قد أَجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أَمرتني، فارزقني من فضلك وأَنت خير الرازقين". ¬

_ (¬1) انظر للقرطبي في شرح هذه الآية في المسألة الحادية عشرة.

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} سبب نزول هذه الآية أَخرج الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا يوم الجمعة، فجاءَت عير من الشام فانفتل الناس إِليها حتى لم يبق إِلا اثنا عشر رجلا - في رواية: أَنا فيهم - فأَنزلت هذه الآية التي في الجمعة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) وفي رواية: فيهم أَبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وقد ذكر الكلبي وغيره أن الذي قدم بالعير دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج الناس إِليه من بُرٍّ ودقيق وغيرهما، فنزل عند أَحجار الزيت (¬1) وضرب بالطبل؛ ليؤذن الناس يقدومه، فخرج الناس إِلا اثني عشر رجلا، وقيل: ثمانية رجال، وقيل أَربعون رجلا، وقيل: غير ذلك، وكانت هذه التجارة لعبد الرحمن ابن عوف، وذكر الزمخشري أَنه صلى الله عليه وسلم قال: "والَّذي نفسي بيده لو خرجوا جميعًا لأَضرم الله عليهم الوادي نارًا" كما جاءَ في القرطبي. والمراد من اللهو نفس التجارة، فاعتبر خروجهم لتلقيها لهوًا تهجينًا له، لما فيه من الإِعراض عنه صلى الله عليه وسلم ولهذا رجع الضمير مؤَنثًا في قوله: (إِلَيْهَا) - رجع - إِلى التجارة، ولم يذكر ليرجع إِلى اللهو؛ لأَنه لم يقصد لذاته بل لتقبيح خروجهم للتجارة أَثناءَ الخطبة لمشاهدة ما جاءَ فيها أَو للشراءِ منها لهوا، فإِن رزقهم منها مكتوب عند الله تعالى، فلا وجه لتركهم سماع الخطبة والانصراف إليها. ¬

_ (¬1) اسم مكان في سوق المدينة.

العدد الذي به تصح الجمعة

وقيل: إِن المعنى: وإِذا رأوا تجارة انفضوا إِليها أَو لهوا انفضوا إِليه، فحذف لدلالة ما قلبه عليه، كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأَنت بما ... عندك راض والرأي مختلف أَي: نحن بما عندنا راضون وأَنت بما عندك راض. وقال جابر بن عبد الله: كانت الجواري إِذا نُكِحْن - أَي: تزوجن - يمرون بالمزامير والطبل فانفضوا إِليها فنزلت، وإِنما ردَّ الكناية (¬1) إِلى التجارة؛ لأَنها أَهم، أَو لأَن الخروج إِليها حينئذ إِذا كان مذمومًا فهو للَّهو أَكثر ذما. العدد الذي به تصح الجمعة قال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين، وقال الليث وأَبو يوسف: تنعقد بثلاثة، وقال أَبو حنيفة: تنعقد بأَربعة، وقال ربيعة: باثني عشر رجلا، وقال الشافعي: بأَربعين رجلا، ولعل هؤلاءِ استند كل منهم إِلى إِحدي الروايات فيمن بقى مع الرسول بعد خروج من خرج لمشاهدة التجارة التي جاءَ بها دحية من الشام. وفي حاضري الصلاة بعد خروج من خرج منهم، وفي البلد الذي تقام فيه الجمعة وغير ذلك بحث واسع النطاق، فمن أَراده فليرجع إِليه في القرطبي والآلوسي وغيرها من الموسوعات. هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة؟ في ذلك خلاف بين الأئمة، ففريق يقول بصحتها بغير إِذن الحاكم أَو حضوره، وقال أَبو حنيفة: منْ شرطها الإِمام أَو خليفته، ودليل الرأي الأَول أَن الوليد بن عقبة والي الكوفة أَبطأَ يومًا، فصلى ابن مسعود بالناس من غير إِذنه، وأَن عليًّا صلى الجمعة يوم حُوصِر عثمان ولم ينقل أَنه استأذنه، إِلى غير ذلك من الأَدلة، وفي ذلك يقول الإِمام مالك: إِن الله فرائض في أَرضه لا يُضَيِّعُهَا - ولِيهَا وال أَو لم يَليِها. ¬

_ (¬1) المقصود من الكناية للضمير في (إِليها).

القيام شرط في الخطبة

القيام شرط في الخطبة دلَّ قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) على أَن القيام شرط في أَداء خطبة الجمعة، وجاءَ في صحيح مسلم عن جابر أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن نَبَّأَك أَنه كان يخطب جالسًا فقد كذب إلخ وعلى هذا الرأي جمهور الفقهاءِ. وقال أَبو حنيفة: ليس القيام بشرط فيها، وهذا مخالف لظاهر النص (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) أَو الحديث الصحيح الذي مر ذكره. أَحكام مختلفة لا تصح الجمعة من غير خطبة، وهو قول الجمهور، وقال الحسن: هي مستحبة، وبه قال ابن الماجشون وسعيد بن جبير، ويرد هذا الرأي ظاهر قوله تعالى: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا). ومن السنة أَن يتكيءَ الخطيب على قوس أَو عصا، ففي سنن ابن ماجة بسنده (أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإِذا خطب في الجمعة خطب على عصا). ويسلم الخطيب على الناس إِذا صعد على المنبر عند الشافعي وغيره، روى ابن ماجه بسنده (أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا صعد المنبر سلَّم). ويجب في الخطبة أن تكون على طهارة عند الجمهور، وللشافعي قولان (أَحدهما) الوجوب في المذهب الجديد، ولم يشترط في المذهب القديم، وهو رأَي أَبي حنيفة.

أركان الخطبة

أَركان الخطبة: الحنفية قالوا:: للخطبة ركن واحد وهو مطلق الذكر الشامل للقليل والكثير، فتكفي تسبيحة أَو تحميدة أَو تهليلة، وإِن كره الاقتصار على ذلك. والشافعية قالوا: أَركانها خمسة: الحمد لله: والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وقراءة آية في إِحدي الخطبتين والأُولى أَولى، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الثانية. والمالكية قالوا: لها ركن واحد وهو أَن تكون مشتملة على تحذير أو تبشير. والحنابلة قالوا: كقول الشافعية فيما عدا الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. والسكوت للخطبة واجب على من سمعها ومن لم يسمعها؛ ليتمكن المصلي من الانتفاع بما جاءَ فيها، ومن تكلم حينئذ فقد لغا وأَتى بالباطل، ولا تفسد صلاته. وفي الصحيح عن أَبي هريرة أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا قلت لصاحبك أَنصت يوم الجمعة فقد لَغْوتَ" يعني أَن الصمت مطلوب من جميع المصلين أَثناء الخطبة، من غير حاجة إِلى من ينبههم، ومن دخل المسجد يوم الجمعة والإِمام يخطب فلا يصلي، وهذا مذهب مالك، وبه قال ابن شهاب، وجاءَ في الموطأَ أَن خروج الإِمام من حجرته للخطبة يقطع صلاة المصلي، وكلامه يقطع الكلام، وقال الشافعي وغيره: لمن دخل المسجد والإِمام يخطب أَن يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد قبل أَن يجلس، وحجتهم في ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءَ أَحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما" أَي: يخفف في أَدائهما.

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدي عشرة آية صلتها بما قبلها: جاءَت هذه السورة بعد سورة الجمعة التي ذكر فيها المؤمنون؛ لأَنها تحكي أَحوال المنافقين الذين هم أَعداء المؤمنين، أَخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأَوسط بسند حسن عن أَبي هريرة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأَ في صلاة الجمعة سورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية سورة المنافقون فيقرع بها المنافقين). وقال أَبو حيان في مجيئها بعدها: لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلًا من المنافقين، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالمِيرَة، إِذ كان الوقت وقت مجاعة، جاءَ ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أَهل الإِيمان، وأَتبع قبائح أفعالهم بقبائح أَقوالهم. مقاصد السورة: اشتملت سورة (المُنافِقُونَ) على تكذيبهم في دعوى الإِيمان، وفي أَيْمَانِهم التي أَيدوا بها زعم إِيمَانهم، وما هم إِلا كافرون في الحقيقة صادون عن سبيل الله، وبينت أَنهم آمنوا ثم كفروا مُصِرِّين على كفرهم فطبع الله على قلوبهم وأَغلقها عن قبول الحق. وبينت أَن مظهرهم يخالف مخبرهم، فإِن رأَيتهم أَعجبتك أَجسامهم وحسبت أَنهم أَهل نجدة وهمة وصدق، ولكنهم في الحقيقة جبناء يحسبون كل صيحة عليهم، فيجزعون لها، وبينت أَنهم هم العدو وحذرت الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وبينت أَنهم لا يهمهم ما يثار ضدهم من ربهم من النفاق، فهم إِذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لووا رءوسهم واستكبروا، وذكرت أَن الله - تعالى - لن يغفر لهم نفاقهم، سواء استغفر لهم الرسول أَو لم يستغفر لهم، وبينت أَنهم الذين يقولون: (لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّي يَنفَضُّوا) وأَنهم هم الذين يقولون: (لَئِن رَجَعْنا إِلَي الْمديِنَةِ لَيُخْرِجَنَّ

الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وخُتمت السورة بنهي المؤمنين عن أَن تلهيهم أَموالهم وأَولادهم عن ذكر الله، وتحريضهم على أَن ينفقوا في سبيل الخير مما رزقهم الله، وأَن يعجلوا بذلك قبل أَن تأتيهم آجالهم فيندموا على عدم العمل لأَنفسهم قبل أَن يجيء أَجلهم. (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} المفردات: (الْمُنَافِقُونَ): هم الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويخفون الكفر منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً): اتخذوها سترة لنفاقهم. (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ): فختم عليها بالكفر. التفسير 1 - {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}:

سبب نزولها كما رواه البخاري بسنده عن زيد بن أَرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبَيّ بن سلول يقول: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" وقال: "لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجن الأَعز منها الأَذل" فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأَرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عبد الله بن أُبي وأَصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فأَصابني همٌّ لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأَنزل الله - عز وجل - (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) إِلى قوله (هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إِلى قوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فأَرسل إِليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إِن الله قد صدقك" أَخرجه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح وقد رواه الترمذي عن زيد بن أَرقم برواية أُخرى، ومما جاءَ فيها أَنهم كانوا في إِحدي الغزوات، واختلف الأَنصار مع المنافقين لمنعهم الماءَ عن الأَنصار، فقال ابن أَبي ما قاله وهذه الرواية طويلة ومفصلة، وقد ذكرها القرطبي، فمن شاءَ قراءَتها فليرجع إِلى القرطبي وسواه، وحسب القاريء ما رواه البخاري ووافقه فيه الترمذي، وهو ما تقدم ذكره. ويؤَخذ من ذلك أَن النفاق في الدين أَو في غيره مذموم، وقد جاءَ في الصحيحين عن أَبي هريرة أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آيةُ المنافق ثلاث: إِذا حَدَّث كذَب، وإِذا وعَدَ أَخلَف، وإِذا ائتُمِن خَان" وعن عبد الله بن عمْرو أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلَةٌ منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَهَا إذا ائتمن خان، وإِذا حدثَ كذب، وإِذا عاهدَ غدر، وإِذا خاصَم فَجرَ". قال الحسن: إِنما هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإِنذار للمسلمين، والتحذير لهم أَن يعتادوا هذه الخصال، شفقا أَن تفضي بهم إِلى النفاق، وليس المعنى أَن مَنْ بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أَنه منافق. ونحن نقول: إِن المقصود مما جاءَ في هذين الحديثين، أَن لا يتصفوا بهذه الصفات أَو بعضها، فإِنها شيمة المنافقين وسجاياهم، وهي لا تليق بالمؤمنين ولا بأَخلاقهم الرفيعة، فمن اتصف بهذه الخصال أَو ببعضها فهو منافق من جهة الخلق لا من جهة العقيدة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُ إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ وَفَّى".

ومعني الآية: إِذا جاءَكَ المُنَافقون - أَيها النبي - قالوا نعترف بأَنك رسول الله وتشهد بذلك، يريدون يشهادتهم هذه نفي النفاق عنهم، ودفعًا للشبه التي تحوم حولهم، والله يعلم إِنك لرسول الله كما قالوا بأَلسنتهم، والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون في ادعاء إِيمانهم، وكاذبون في أَن شهادتهم بأَلسنة توافق ما انطوت عليه قلوبهم. وقال الفراء: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ بضمائرهم، فالتكذيب راجع إِلى الضمائر. وهذا يدل على أَن الإِيمان تصديق بالقلب، وعلى أَن الكلام الحقيقي هو كلام القلب، ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب: أهـ. وتلخيصًا لما قيل فيه نقول: إِن قولهم نشهد إِنك لرسول الله صادق من جهة الواقع وكاذب بالنسبة لما في قلوبهم التي لا تشهد بذلك، فهم بشهادتهم هذه يكذبون على قلوبهم التي لا تشهد بذلك لكفرهم. 2 - {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}: هذه الآية استئناف مبين لعادتهم في نفي الشبه عن أَنفسهم، حتى لا يؤاخذوا بقول أو عمل ضد المؤمنين ومن ذلك شهادتهم بأَنهم لم يقولوا ما نسب إِليهم، فالشهادة منهم في حكم اليمين، وقد أَفادت الآية أَن المنافقين اتخذوا أَيمانهم الكاذبة سترة ووقاية عما يتوجه إِليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أَو غير ذلك قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأَموالهم ودمائهم، وقال الآلوسي: ويجوز أَن يراد بأَيمانهم شهادتهم السابقة والشهادة وأَفعال العلم واليقين أَجرتها العرب مجرى القسم، وتلقتها بما يتلقى به القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، ونحن نقول: إِن الكلام السابق أَعم وأَشمل، فتدخل فيه الشهادة كسائر الأَيمان، فإِنهم لم يتخذوا الشهادة الكاذبة وحدها سترة لهم، بل جميع أَيمانهم.

والمعنى الإِجمالي للآية: اتخذ المنافقون أَيمانهم الكاذبة سترة ووقاية لهم من العقاب الذي يقتضيه ما نسب إِليهم، فصدوا من أَراد الدخول في الإِسلام أَو فعل الطاعة مطلقًا أَو أَعرضوا (¬1) عن الإِيمان الذي هو السبيل إِلى الله، إِنهم قبح ما كانوا يعلمون من النفاق وآثاره. 3 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)}: ذلك الذي حدث من المنافقين ضد الإِسلام والمسلمين، حاصل بسبب أَنهم آمنوا باللِّسَان ثم ظهر كفرهم بالقلب وتبين بما علم من قولهم: إِن كان ما يقوله محمد حقًّا فنحن حمير وقولهم في غزوة تبوك: أَيطمع هذا الرجل أَن تفتح له قصور كسرى وقيصر وغير ذلك، وأَصروا على النفاق، فختم الله على قلوبهم وأَغلقها على الكفر، فهم لا يفقهون عظمة الإِسلام وآثاره الجليلة في الدنيا والآخرة، فلذلك نافقوا وضلوا عن سواء السبيل، والله أَعلم. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} المفردات: (تُعْجِبُكَ): تروقك وتحسن في عينك. (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ): لعنهم وطردهم من رحمته. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ): كيف يصرفون عن الحق إِلى الباطل. ¬

_ (¬1) لفظ "صد" يستعمل متعديا للمفعول كالمثال الأَول، أَو لازما بمعنى أَعرض كالمثال الثاني.

التفسير: 4 - {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ .. } الآية. بعد أَن بين الله في الآيات السابقة أَن المنافقين لكاذبون؛ لأَنهم يقولون بأَلسنتهم ما ليس في قلوبهم حيث يضمرون الكفر ويظهرون الإِسلام، وأَنهم اتخذوا الحلف والقسم وقاية من قتل وسبي المسلمين لهم جزاءَ ما يظهر منهم، وهم مع ذلك قد منعوا غيرهم من الدخول في الإسلام ونفروهم منه وأَنهم قد بلغت أَفعالهم درجةً كبيرة من الإِساءَة يتعجب منها، وأَنهم انقلبوا ونكسوا على رءُوسهم فكفروا بعد إِيمان بعد ذلك أَبان الله - سبحانه وتعالى - بعض صفاتهم الخلقية والخلقية فقال: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أَي: وإِذا نظرت إِلى هؤلاءِ المنافقين راقك منظرهم، واستحسنت هيأَتهم، وأَخذتك فصاحة أَلسنتهم وبلاغة حديثهم، وكان عبد الله بن أَبيّ رأس المنافقين في المدنية رجلًا جسيما صبيحًا فصيحا ذلق اللسان وقوم من المنافقين في مثل صفته، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه، ولهم جهارة المنظر وفصاحة الأَلسن فكان النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن حضر يعجبون بأَجسامهم ويسمعون إِلى كلامهم. وفي قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ما يدل على أَنهم في حقيقة أَمرهم لا ينتفع بهم، والشأَن فيهم أَنهم ببسط أَجسامهم وذرابة أَلسنتهم أَهل لأَن يذودوا عن الإِسلام، ويدافعوا عنه في ساحة الوغى وميادين القتال مع قدرتهم على بيان ما أَنزل الله على رسوله تبليغا لغيرهم ودعوة لسواهم إِلى الإِسلام، ولكنهم لما نافقوا كانوا كالخشب المسندة التي لا تؤدي وظيفتها وما تصلح له من عمل في سقف أَو جدار أَو باب أَو نافذة إِلى غير ذلك من مظان الانتفاع ثم هي فوق ذلك عبء على سواها؛ لأَنها تلقي بثقلها على ما تستند إِليه، وهم بذلك لا يسمعون ولا يعقلون أَشباح بلا أرواح وأَجسام بلا أَحلام (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أَي: يظنون كل صوت عال واقع عليهم وضارٌّ بهم لجبنهم وهلعهم وللرعب والخوف الذي تمكن من قلوبهم فإِذا نادي مناد بصوت في العسكر إِبان الحرب أَو انقلتت دابة أَو أُنشد وطلب شيء قد ضاع من صاحبه ظنوا ذلك إِيقاعًا، وإِنزالًا للنكال بهم، وقيل: كانوا على

وجل وخوف من أَن ينزل الله فيهم ما يهتك أَستارهم ويكشف نفاقهم ويبيح دماءَهم وأَموالهم لكفرهم ونفاقهم. (هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) أَي: هم وحدهم الذين تناهوا في العدواة وبلغوا فيها مبلغًا كبيرًا فخذ حذرك منهم، ولا تغتر ولا تنخدع بإسلام ظاهرهم؛ لأَن أَعدى الأَعداء العدو المداجي (¬1) الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداءُ الدويّ. (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ) هذا دعاءٌ عليهم بالطرد واللعن والإِبعاد من رحمته - تعالى - وهو أَيضا تعليم للمؤمنين أَن يدعوا عليهم بمثل ذلك شريطة أَلا يكون اللعن لكافر أَو منافق بذاته خشية أَن يكون ممن كتب الله لهم الإِيمان وختم به حياتهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) هذا تعجيب من جهلهم وسفاهتهم أَي: كيف يُصرفون عن الحق مع معرفتهم له وتحقيقهم منه وقال ابن عباس: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَني يكذبون. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)} المفردات: (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ): يطلب لكم من الله الصفح عما بدر منكم من العصيان وفحش القول. (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ): أَمالوها تكبرًا وإِعراضًا أَو حركوها استهزاءً. ¬

_ (¬1) المداجي: هو الذي يداري ويستر العدواة، يكاشرك: يبتسم لك.

(يَصُدُّونَ): يعرضون متكبرين، أو يمنعون سواهم. (الْفَاسِقِينَ): الخارجين عن طاعة الله البالغين في الفسق غايته. التفسير: 5 - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ... } الآية: لَمَّا أَقسم رأس النفاق عبد الله بن أَبيّ بن سلول أَنه ما دعا قومه إِلى منع الإِنفاق على فقراءِ المسلمين حتى ينصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتدوا إِلى الكفر، وأَنه ما قال عند رجوعه إِلى المدينة: ليخرجنَّ الأَعز منها الأَذل، وقصد بالأَعز نفسه ومن على شاكلته من المنافقين، وعنى بالأَذل رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والمسلمين، وقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أَن يكون قَدْ وَهِمَ، وأَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن أَرقم استيثاقا من كلامه (لَعلَّكَ غضبت عليه)؟ قال: لا قال: (فلعله أَخطأَ سمعك؟) قال لا قال: (فلعله شبه عليك)؟؟ قال لا فلما نزلت (إِذَا جَاءِكَ الْمُنَاِفقُونَ) لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا من خلفه فعرك أَذنه قال: (وفت أُذنك يا غلام إِن الله صدقك وكذب المنافقين) قيل لعبد الله بن أَبي بن سلول: لقد نزلت فيك آي شداد فاذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أَمرتموني أَن أُومن فآمنت وأمرتموني أَن أَزكي مالي فزكيت فما بقي إِلَّا أَن أَسجد لمحمد فنزلت: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ... ) الآية: والمعنى: وإِذا قيل لهذا المنافق وأَضرابه كالجد بن قيس، ومعتب بن قشير تعالوا وأَقبلوا تائبين متعذرين عما بدر منكم من سيء القول وسفيه الحديث - يطلب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه - جلت قدرته - أَن يصفح ويعفو عنكم أَبوا وأَمالوا رءُوسهم إِعراضًا واستكبارًا أَو حركوه استهزاءً وسخرية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أَي: وأَبصرت منهم أَو علمت من أَمرهم إِعراضًا عن اتباعك ومنعًا وإِبعاد لسواهم عن ذلك، وختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) للإِشعار بأَنهم لم يكرههم غيرهم ولم يجبرهم سواهم على ما فيه من كفر ونفاق وصدّ وإِعراض وإِنما كان حالهم وشأنهم أَنهم في أَنفه وعناد واستكبار.

6 - {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ... } الآية: أَي: ما دام هذا شأنهم وحالهم فإِن استغفارك لهم وعدمه يستونان؛ لأَنهم لا يرغبون فيه ولا يلتفتون إِليه ولا يعتدون به أَو لأَن الله لا يغفر لهم (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أَي لأَنه - سبحانه - لا يمنح هدايته وتوفيقه للقوم المغالين في الغش الخارجين عن دائرة الطاعة المنهمكين في أَنواع القبائح المتردين في حمأَة النفاق والشرك وهؤلاءِ قد بلغوا الغاية في ذلك وتربعوا على ذروتها وركبوا سنامها لذلك سبق في علم الله أَنهم يموتون فساقًا؛ لأَنهم اختاروا الفسق. {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} المفردات: (يَنْفَضُّوا): يتفرقوا ويتركوا الرسول. (لا يَفْقَهُونَ): لا يفهمون ولا يفطنون.

التفسير: 7 - {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ... } الآية: أَي: هؤُلاءِ الذين أَخبرك الله عنهم - يا محمد - أَنه لن يغفر لهم، ولن يصفح عنهم هم أُولئك الآثمون في قولهم المدعون أَن الأرزاق بأَيديهم، وأَن المنة لهم على فقراءِ المسلمين بالإِنفاق عليهم وأَنهم لو كفوا أَيديهم عن إِعطائهم جاعوا وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في زعمهم هذا واهمون، فما هذا هو شأن المسلمين؛ إِنهم بايعوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - على بذل النفس والنفيس بأَن لهم الجنة فكيف بهم يتفرقون عنه لعرض من أَعراض الدنيا؟ فضلًا على أَنه - سبحانه - رازقهم وقائم بأَسبابهم جميعا، فإِن خزائن السموات والأَرض ومفاتيح الرزق والمطر والنبات لله وحده لا شريك له فيها يعطيها من يشاءُ ويمنعها عمن يشاء لا مكره له ولا معقب لحكمه (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أَي: ولكن هؤلاء لا يفهمون ولا يفطنون لذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان وما تطوع لهم أَنفسهم من مختلف القول وسقط الكلام. 8 - {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}: أَي: يقول عبد الله بن أُبي رأس النفاق ومن معه عند العودة من غزوة بني المصطلق: والله لئن عدنا إِلى المدينة - لا يكون فيها مقام ولا مأوى لأُولئك المهاجرين الذين ضممناهم وآويناهم وأَطعمناهم فتطاولوا علينا ونالوا منا وهم في غربة وفقر وليس لهم ما يمنعهم منا فلنخرجنهم من ديارنا فنحن الأَعز وهم الأذل. (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أَي: ولله الغلبة والقوة ولمن أَعزه الله وأَيده من رسوله ومن المؤمنين، وعزهم كان بنصرته - تعالى - إِيَّاهم وإِظهار دينهم على سائر الأَديان. (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا ذلك ما قالوا مقالتهم هذه. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وهم الأَخصاءُ بذلك كما أَن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين، وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أَن رجلًا قال له: إن الناس يزعمون أَن فيك تيها (كبرا) فقال: ليس بتيه ولكنه عزة، فإِن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وتلا هذه الآية. قال بعض العارفين

في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أَن يذل نفسه؛ فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه وإِكرامه عن أَن يضعها لأَمور عاجلة دنيوية، كما أَن الكبر جهل الإِنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة. فإِن قيل: قال تعالى في الآية الأُولى: (لا يَفْقَهُونَ) وفي الآية الأُخرى: (لا يَعْلَمُونَ) فما الحكمة فيه؟ فنقول: ليعلم بالأَول (لا يَفْقَهُونَ) قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني (لا يَعْلَمُونَ) كثرة حماقتهم وجهلهم. (¬1) قيل: عند العودة من غزوة بني المصطفي أَراد عبد الله بن أُبي بن سلول أَن يدخل المدينة فاعترضه ابنه حباب وهو عبد الله بن (¬2) عبد الله بن أُبي - وكان مخلصا فقال لوالده: وراءَك لا تدخلها حتى تقول: رسول الله الأَعز وأَنا الأَذَل فلم يزل حبيسا في يده حتى أَمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته، وروي أَنه قال لوالده: لئن لم تُقِر لله ولرسوله بالعزة لأَضربن عنقك فقال: ويحك أَفاعل أَنت؟ قال: نعم فلما رأَى منه الجد قال: أَشهد أَن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنه: (جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا). ¬

_ (¬1) عن الفخر الرازي بتصرف يسير. (¬2) غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه إِلى عبد الله وقال: (إِن حبابا اسم شيطان).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} المفردات: (لا تُلْهِكُمْ): لا يشغلكم الاهتمام بها. (لَوْلا): هلا والمراد بها هنا التمني. التفسير: 10 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... } الآية. حذر الله المؤمنين أَن يتخلقُوا بأَخلاق المنافقين فنهاهم بقوله - سبحانه -: (لا تُلْهِكُمْ أموالكم) أَي: لا تشغلكم أَمولكم بالسعي في تدبير أَمرها والتهالك على طلب النماءِ فيها بالتجارة أَو العمل على زيادة غلتها، والتلذذ بها والاستمتاع بمنافعها. (وَلا أَوْلادُكُمْ) وذلك بفرط السرور بهم، وشدة الشفقة عليهم والقيام بما يصلحهم في أَمر معاشهم في حياتكم وبعد مماتكم وقد عرفتم - أَيها المؤمنون - قدر منفعة الأَموال والأَولاد في جنب ما عند الله لا يشغلكم ذلك (عن ذِكْرِ اللهِ) وأَداءِ ما طلبه رب العزة، منكم، ولتعلموا أَن لكلٍّ حقًّا، والمؤمن الكيس من يؤدي كل ذي حق حقه دون حيف أَو تفريط. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)

أَي: اللَّهو بها عن ذكر الله (فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: فهؤلاء هم الذين أَوغلوا في الضياع وتناهوا في الخسران حتى كأَنه لا خسران إِلا فيهم وذلك لأَنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني. 10 - {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)}: بعد أَن نهى الله المؤمنين عن التلهي والاغترار بالمال والولد أَمرهم - جل شأنه - أن يتحلوا ويتزينوا بالطاعة وذلك بإِنفاق بعض ما أَفاءَ الله عليهم ورزقهم به في سبيله - سبحانه - فكان الأَمر - كما يقولون - التخلية قبل التحلية أَي: التبري والتطهر من الذنب أَولًا ثم فعل الطاعات بعد ذلك على نقاءِ قلب وطهارة سريرة؛ ليكون ذلك أَرجى في القبول لدى الله، أَي: ابذلوا وأَعطوا من أَموالكم قبل أَن يشارف أَحدكم الموت ويرى دلائله وأَماراته فيكون منه أَن يتمنى أَن يرجيء الله أَجله ويؤخر حيْنَهُ إِلى أَمد قريب وأَجل قصير كي يتصدق، ويكون من الصالحين الأَتقياء. وعن ابن عباس: تصدقوا قبل أَن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. 11 - {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}: ولكن أَنَّى له ذلك وكيف يتحقق ما يتمناه والله العلي القدير يقول: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1). أَي: ولن يمهل الله نفسًا حان أَجلها وانتهى الزمان الذي حدد الله لها من أَول العمر - إلى آخره. ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية 18.

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أَي: عالم ببواطن أُموركم أَو خبير بمعنى مخبر أَي: يخبركم وينبئكم بما تعملونه ويجازيكم عليه. قال الفخر الرازي: فقوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) تنبيه على الذكر قبل الموت، (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) تنبيه على الشكر لذلك، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أَي: لو رُدّ إِلى الدنيا ما زكى ولا حج ويكون ذلك كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام من الآية 28.

سورة التغابن

سورة التغابن هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها مناسبتها لما قبلها: أَن الله - سبحانه - ذكر في السورة التي قبلها حال المنافقين، وكذبهم في أَيمانهم واستكبارهم على الله ورسوله، وتهديدهم المؤمنين بمنع الإِنفاق عليهم وإِخراجهم من المدينة وفي سورتنا هذه قسَّم الناس إِلى مؤمن وكافر، وأَيضًا فقد جاءَ في سورة (الْمُنَافِقُونَ) قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) وذكر هنا قوله تعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) فجاءَت هذه الآية الأَخيرة كالتعليل للآية السابقة؛ فالمناسبة بين السورتين والارتباط بينهما واضح وبيِّن. بعض مقاصد هذه السورة: 1 - أَكدت أَنه جل شأَنه - هو صاحب الملك، وأَنه وحده المستحق للحمد. 2 - وجاءَت مبينة آثار عظمة الله وقدرته في خلقه. 3 - وقسمت الإِنسان إِلى مؤمن بربه وكافر به. 4 - ولفتت نظر الكافرين إِلى مصير أَمثالهم من الأمم السابقة، وما حل بهم في الدنيا من الوبال والدمار، وأَنهم في الآخرة سيلقون جزاء عملهم في النار خالدين فيها، كل ذلك بسبب كفرهم وعنادهم. 5 - وأَمرت بطاعة الله ورسوله وبينت أَن الرسول ليس عليه تبعة أَعمالهم (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). 6 - وحذرت من طاعة بعض الأَزواج والأَولاد لعداوتهم حيث يحولون بينهم وبين عمل الخير، وقد يدفعونهم إِلى الشر والباطل مع بيان أَن الصفح والعفو والغفران عنهم أَولى وأَفضل (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

7 - وأَمرت السورة الكريمة بالتقوى جهد الطاقة، والبذل في سبيل الله إِذ أَنه وقاية من الشح والحرص: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (بسم الله الرحمن الرحيم) {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)} المفردات: (يُسَبِّحُ): يقدس وينزه. (وَصَوَّرَكُمْ): وخلقكم وبرأكم على صور وهيئات شتى يتميز بها كل واحد عن سواه. (الْمَصِيرُ): المرجع والمآل. (ذَاتِ الصُّدُورِ): ما انطوى واستتر فيها. التفسير 1 - {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}: أَي: ينزه الله تعالى - ويقدسه كل مخلوقاته عمَّا لا يليق به من كل نقص لا يتفق

وجلاله تنزيهًا مستمرًّا يتجدد كلما نظروا في بديع صنعه وعظيم فعله، وله لا لغيره - جلت قدرته - الملك قديمًا بلا ابتداء وأَبدًا بلا انتهاء فهو - سبحانه - المبدئ لكل شيء القائم به المهيمن عليه، أَما ملك غير فهو حادث وطاريء ومنتقل لا يدوم وهو في الحقيقة عطاءُ الله وفضله وتسليط منه واستخلاف. وهو - تعالت عظمته - وحده المستحق للحمد؛ لأَنه هو المعطي لأُصول النعم وفروعها، أَما حمد غيره - تبارك ربنا وتعالى - فلجريان إِنعامه على يديه، وهو - سبحانه - قدير مقتدر على كل شيء دق أَو عظم فليس بعض الأمور أَيسر عليه من غيره؛ فالكل في قبضته ووفق إِرادته لا يعجزه أَمر عن أَمر ولا يشغله شأن عن شأن. والتسبيح والتقديس يكون بهيآت المخلوقات وأَشكالها البديعة التي تدل على كمال تصويره وعظيم خلقه - سبحانه - أَو بلسانهم ونطقهم: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (¬1). 2 - {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)}: هذا بيان لبعض آثار قدرته الشاملة الغامرة، أَي: هو الذي أَوجدكم كما شاءَ على فطرة سليمة وطريقة سوية مستقيمة يشير إِلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأَبواه يهودانه أَو ينصرانه أَو يمجسانه). (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أَي: فبعضكم مختار للكفر بالله وبنعمة ومقبل على الإِلحاد راض به وذلك يكون منه انتقاضا وخروجا وتمردا على الفطرة التي فطره الله عليها، وبعضكم مختار للإِيمان به - سبحانه - ينشرح به صدره ويطمئن قلبه وهذا من المؤمن استجابة لفطرة الله وخلقته وإِذعانا لمشيئته. وفي الحق إِن كلًّا من كفر الكافر وإِيمان المؤمن بإِرادته - جل شأنه - فلا مكره له إِذ هو الخالق والموجد لكل شيءٍ، وقال تعالى: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، من الآية: 44.

فَاعْبُدُوهُ) (¬1) ولكونه - جلت قدرته - عليمًا بما خلق فقد كتب على كلٍّ ما تختار، وتميل إِليه نفسه إِذ هو أَحكم الحاكمين (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (¬2) فلا يكره أَحدًا على أَمر ويعاقبه عليه (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أَي: وهو - سبحانه - بأَعمال خلقه عليم علمًا تامًّا محيطًا لا يعتريه قصور ولا تشوبه شائبة من نقص؛ بل يجازي كلًّا بما يناسب ما قدّم في دنياه إِن خيرًا فخير وإِن شرًا فشر، وقدم الكافر على المؤمن لكثرة الكافرين وقلة المؤمنين قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (¬3). 3 - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}: أَي: أَوجد السموات والأَرض جميعا بما فيهن ما ظهر لنا وبدا وما بطن وخفي، خلقها بالحكمة العظيمة والغرض الصحيح المتضمن للمصالح الدينية والدنيوية. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أَي: برأَكم وأَخراجكم في أَحسن تقويم وأَجمل تركيب وشكلكم على صور شتى يتميز بها كل مخلوق عمن سواه، وأودع فيكم القوى والقدر والمشاعر الظاهرة والباطنة التي تتعلق وتناط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وزينكم بخلال وصفات جميل مصنوعاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أَنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، [وقد ذكر بعض المحققين: أَن الإِنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات، وبدنه الذي هو من عالم الماديات]. وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين فكل ما يشاهد من الصور الإِنسانية حسن، ولكنَّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب. فلا نحطاط بعضها ونزوله عن مراتبٍ ما فوقها انحاطًا بينًا، وإِضافتها إِلى الموفي عليها ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: من الآية 102. (¬2) سورة فصلت: من الآية 46. (¬3) سورة الأنعام: من الآية 116.

والأَفضل منها قد لا تستلمح، وإِلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه أَلا ترى أَنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أَملح منها وأَعلى في مراتب الحسن، فينبو عن الأُولي طرفك وبصرك وتستثقل النظر إِليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. قالت الحكماءُ: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان (¬1): قال القرطبي: فإِن قيل: كيف أَحسن صورهم؟ قيل له: جعلهم أَحسن الحيوان كله وأَبهاه صورة بدليل أَن الإِنسان لا يتمنى أَن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أَنه خلق منتصبًا غير منكب. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَي: إِليه وحده لا إِلى غيره استقلالا أَو اشتراكًا يكون مرجعكم ومآلكم فاصرفوا ووجهوا ما حباكم ربكم من النعم وآثركم به إِلى ما خلقت تلك النعم له كما أَمركم بذلك ولا تتخذوها عونًا على معصية الله حتى لا تتعرضوا لعذابه في الآخرة، وحتى لا يزيل الله حسنكم ويمحو جمال صوركم. 4 - {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}: أَي: يعلم - سبحانه - كل ما في السموات والأَرض من الأَمور الكلية والجزئية الجلية الواضحة والخفية المكنونة يعلمها - عزت قدرته - علمًا تامًّا محيطًا في كل أَطوارها وأَحوالها ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ولا في غيرهما مما استأثر الله بعلمه ولم يُطلع عليه أَحدًا من خلقه، كما يعلم - تعالى - ما يشتمل عليه كونه مما نراه من أَجرام ومجرات وغيرها وما بداخل الإِنسان نفسه وقد عجز عن إِدراك كنهه والوقوف على حقيقته، ويعلم ما يسر به الإِنسان إِلى غيره ويناجيه به (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (¬2) ويعلم ويحيط ¬

_ (¬1) الآلوسي بتصرف يسير. (¬2) سورة المجادلة: من الآية 7.

بما يعلنه أَي إِنسان قبل أَن يفضي ويلعنه كما علمه بعد أَن أَبانه وأَظهره (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أَي: بما يتردد وتنطوي عليه الصدور وما تتحدث به النفوس وما هو مضمر ومخزون في طيات القلوب. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)} المفردات: (وَبَالَ): عقوبة ونكال. التفسير 5 - {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)}: الخطاب هنا لأَهل مكة والاستفهام في قوله تعالى: (أَلَمْ يَاتِكُمْ) للتقرير أَي: أَنه - ولا شك - قد أَتاكم خبر وشأن من كان قبلكم من الأُمم التي كذبت برسلها كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فكانت عاقبة أَمرهم ونهاية حالهم أَنهم نالوا ضررًا ثقيلًا وخيمًا من غير مهلة ولا إِرجاء جزاء ما أَحدثوه من أَمر هائل وجناية عظيمة، وهو كفرهم الذي أَصروا عليه، وكان عقابهم في الدنيا الصيحة والرجفة والخسف والإِغراق وغير ذلك قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: الآية 40.

ولهم في الآخرة مع هذا الخزي والنكال عذاب عظيم الإِيلام لهم شديد الوقع عليهم. 6 - {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ... } الخ. أَي: هذا العذاب والتنكيل الذي ذاقوه ونالوه في الدنيا وما سيلقَونه وينزل بهم في الآخرة بسبب أَنه كانت تأتيهم رسلنا إِليهم بالمعجزات الباهرات والدلائل الواضحات (فَقَالُوا). مستهزئين بأَنبيائهم ساخرين منهم أَو متعجبين منكرين: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) أَي: أَيرشدنا ويدلنا بشر من جنسنا، أَنكروا أَن يكون الرسول بشرًا ولم ينكروا أَن يكون الإِله حجرًا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أَي: فأَسرعوا وبادروا إِلى الكفر دون تدبر ولا رويَّة وأَعرضوا وأَوغلوا في البعد عن التأَمل والتفكر فيما جاءَهم به الرسل من الآيات البينات (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) أَي: أَظهر الله غناهم عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث لم يلجئهم إِلى ذلك ولم يضطرهم إليه مع قدرته - سبحانه - على ذلك بل أَهلكهم وقطع دابرهم واستأَصل شأفتهم (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) أَزلًا وأَبدًا غير محتاج إِلى أَحد من خلقه فضلا عن إِيمانهم وطاعتهم فهو - سبحانه - قائم بذاته وقائم بأَسباب مخلوقاته وهو القاهر فوق عباده (حميد) أَي: يحمده ويثني عليه كل مخلوق بلسان حاله أَو مقاله (ففي كل شيء له آية تدل على أَنَّهُ الواحد) أَو هو - سبحانه - حقيق بالحمد مستحق له وإِن لم يحمده - جل شأنه - حامد. وفي تذييل الآية الكريمة، بهذه الفقرة ما يشير إِلى أَنه - تعالى - لم يطرأ عليه الاستغناء عن خلقه بل هو - جل شأنه - قديم الغنى أَبدي الاستغناء عنهم حيث كان، ولم يكن شيء معه.

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)} المفردات: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا): الزعم ادعاء العلم أَي: ادعوا ذلك كذبا. (يَوْمُ التَّغَابُنِ): التغابن تفاعل من الغبن وهو النقص وفوت الحظ، وقال الراغب: الغبن أَن يبخسك صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإِخفاء. وسمي يوم القيامة بذلك؛ لأَن الكافر غبن نفسه وظلمها بترك الإِيمان، أَما المؤمن فقد غبن بتقصيره في الطاعات والإِتقان. التفسير: 7 - {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}:

أَي: ادّعى هؤلاءِ الكفار دون دليل، وقالوا من غير حجة ولا برهان أَنهم لن يبعثوا من قبورهم ولن تكون لهم حياة أُخري بعد موتهم، وقد حكى القرآن الكريم قولهم فقال تعالى: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (¬1) فقولهم باطل وإِدعاؤُهم كذب وافتراء وقد جاءَ في الأَثر (زعموا مطية الكذب) وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا و (بَلَى) حرف جواب إِثبات لما بعد (لَنْ) أَي: ليس الأَمر كما زعمتم وأَقسم بربي لتخرجن قبوركم أَحياءَ ولتنشرن، ثم بعد البعث والنشور ينبئكم الله ويخبركم بما كنتم تعلمون وذلك الإِخبار إِما عن طريق الملائكة من الله أَو بما ترونه مسطورًا في كتبكم التي تأخذونها بشمائلكم ومن وراءِ ظهوركم، وتقولون عند ذلك: (يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا) (¬2) ولتحاسبن وتجزون بأَعمالكم (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أَي: وأَمر كذلك الذي يحدث يوم القيامةِ من البعث والجزاء هين على الله؛ لتحقيق قدرته - سبحانه - على ذلك؛ فلا يصرفه عنه صارف ولا يحول دونه حائل. 8 - {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}: بعد أَن تبين لكم واستقر في نفوسكم ووعته قلوبكم - وإِن كنتم تجحدونه عنادًا واستكبارا - أَن ما أَتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يخبر به صدق وحق لا مرية فيه. فأَولى بكم وأَجدر أَن تسارعوا وتبادروا بالإِيمان بالله - ربًّا وبمحمد - عليه الصلاة والسلام - رسولًا، وبالقرآن الذي أَنزلناه كتابًا هاديًا ومرشدًا وسراجًا منيرًا وفي تسمية القرآن نورًا ما يوميء ويوحي بأَن الكافر به قد عمي قلبه، وختم الله على سمعه وبصره وصار كالأَنعام بل هو أَضل، وسمي بذلك أَيضا؛ لأَنه بإِعجاز بين بنفسه مبين لغيره كما أَن النور كذلك (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أَي وهو - جلت قدرته - بالذي تعلمونه من بواطن أَموركم مهما بالغتم في إِخفائه وأَعملتم الحيل في ستره هو - سبحانه - علم به علمًا كاملا تامًّا لا تخفى عليه خافية، وقيل: خبير بمعنى مخبر أَي: يخبركم وينبئكم بما حدث منكم في الدنيا ويحاسبكم عليه وعلى هذا يكون كالتأكيد لقوله تعالى في الآية السابقة: (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: الآية 29. (¬2) سورة الكهف: من الآية 49.

9 - {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ... } الآية. المراد بيوم الجمع يوم القيامة، وهو ظرف والعامل فيه قوله (لَتُنَبَّؤُنَّ) أَي: والله لتنبؤن وتخبرن بما عملتم يوم يجمع الله فيه الأَولين والآخرين؛ ليحاسب كلًّا على ما قدم من خير أَو شر (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) أَي يوم القيامة هو يوم التغابن على الحقيقة؛ لأَنه لا يستدرك أَبدًا أَما تغابن الدنيا فهو زائل وإِن جل وعظم، وتغابن السعداء يوم القيامة على الزيادة في الإِحسان وتغابن الكفار يظهر بترك الإِيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أَحد يموت إِلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إِن كان محسنًا ندم أَن لا يكون ازداد، وإِن كان مسيئا ندم أَن لا يكون نزع" رواه الترمذي عن أَبي هريرة (¬1). وقيل التغابن ليس على الحقيقة؛ أَخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أَنهم قالوا يوم غبن فيه أَهلُ الجنة أَهلَ النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد اختير للمبالغة وهو أَمر واضح إِذ ليس هناك غبن ولا بخس ولا نقص من جانب أَهل النار لأَهل الجنة، وقال بعضهم: يوم غبن فيه بعض الناس بعضًا بنزول السعداءِ منازل الأَشقياءِ لو كانوا سعداء وبالعكس ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يدخل الجنة إِلا أُري مقعده من النار لو أَساءَ ليزداد شكرًا وما من عبد يدخل الناَر إِلا أُري مقعدة من الجنة لو أَحسن ليزداد حسرة) وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة إِذا غلب ونقص بعضهم بعضًا، وفيه تهكم بالأَشقياءِ لأَنهم لا يغلبون ولا يغبنون السعداء بنزولهم منازل الأَشقياء في النار (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا وعد من الله لمن يؤمن به - سبحانه - وتنطق جوارحهم بالعمل الصالح والكلم الطيب بأن الله يغفر ذنوبهم ويمحو زلاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأَنهار مخلدين ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي المجلد الرابع ص 29، 30 أبواب الزهد عن أبي هريرة وقال: هذا حديث إِنما نعرفه من هذا الوجه.

وباقينَ فيها أَبدًا لا ينفكون عنها ولا يزايلونها، وبأَن لهم - قوله الحق، بأَن ما سيلقونه في الآخرة من النعيم في الجنة هو الفوز والظفر العظيم والغُنْم العميم الذي لا فوز ولا مغنم وراءَه إِذ فيه النجاة من النار وهي أَعظم المهلكات. هذا مع الظفر بالجنة وهي أَجل الرغبات ومنتهى السعادات قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) (¬1). وهذا الجزء من الآية الكريمة يفتح باب الرجاءِ أَمام الكافرين حيث يبين لهم أَن رحمة الله عظيمة رحيبة تتسع وتشمل كل من يقبل عليه سبحانه مؤْمنًا به وقد قرن إِيمانه وبرهن عليه بالعمل الطيب والفعل الحسن. 10 - {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}: بعد أَن بين جزاءَ المؤمنين الصالحين أَتبعه بمآل الكافرين المكذبين؛ ليكون الناس على بصيرة من أَمرهم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وحتى لا تكون لهم على الله حُجة، أَي: والذين جحدوا وأَنكروا وجود الله المتفرد بالوحدانية والذي ليس كمثله شيءٌ، وكذبوا رسوله فيما جاءَ به من عند ربه من آيات واضحات ومعجزات باهرات أُولئك الذين تلازمهم النَّار وتصاحبهم لا يجدون عنها فكاكا ولا منها مخرجًا ولا مخلصًا. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَي: وقبح وساءَ المرجع: والمآل مصيرهم ونهاية أمرهم وأَي: مرجع أَشد سوءا من أَن تكون الجحيم هي المأوى؟ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: من الآية 185.

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} التفسير: 11 - {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)}: قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إِن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقًّا لصانهم الله من مصائب الدنيا، فبين الله - تعالى - أَن ما أَصاب من مصيبة في نفس أَو مال أَو قول أَو فعل يقتضي همًّا أَو يوجب عقابًا عاجلا أَو آجلا فبعلم الله وقضائه. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) أَي: ومن يصدق ويعلم أَنه لا مصيبة إِلا بإِذن الله وإرادته يثبت قلبه على الإِيمان ويقول عند نزول المصيبة: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وقال ابن عباس: هو أَن يجعل الله في قلبه اليقين؛ ليعلم أَن ما أَصابه لم يكن ليخطئه، وما أَخطأَه لم يكن ليصيبه، وقال الكلبي: هو إِذا ابتلي صبر، وإِذا أَنعم عليه شكر، وإِذا ظلم غفر (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَي فهو - سبحانه - بكل شيءٍ عظم وظهر أَو خفي ودق محيط وعالم علمًا تامًّا فلا يخفى عليه تسليم من أَذعن ورضي وانقاد لأَمره - تعالى - ولا سخط ولا كراهة من غضب وتمرد على قضائه وقدره. 12 - {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي: انقادوا لما طلبه ربكم منكم فأتمروا بأَمره وانتهوا عما نهاكم عنه وأَطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فخذوا ما آتاكم به من عند الله واتقوا ما خوفكم

منه احذروا أَن تخالفوا عن أَمره أَو أَن تتركوا سبيله ونهجه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ): أَي: فإِن أَعرضتم وأَدبرتم وتركم الإصغاءَ له والائتمار بأَمره فليس هذا بضارِّ الرسول شيئًا؛ فلا تناله تبعة إِعراضكم، ولا ينقص ذلك من منزلته وجزائه لدى ربه، إذ هو غير مكلف بهدايتكم ولا هو مسيطر عليكم ولا يملك إِسعادكم، وإِنما ضرر التولي والإِعراض عائد وراجع عليكم فليس على رسولنا الذي اصطفيناه واخترناه إلا أَن يرشدكم ويدلكم على الصراط المستقيم وذلك بأَن يبلغكم رسالتنا تبليغًا بينًا واضحًا ولا يكتم منها شيئًا وهو صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأَدى الأَمانة فجزاه الله عن أُمته خيرا. 13 - {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أَي الله وحده هو الإله الذي لا معبود بحق سواه وكل ما خلاه باطل ومعبوداتكم كلها مخلوقة ومربوبة له - سبحانه - ولا تضر ولا تنفع (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أَي: وعلى الله وحده دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكًا، يعتمد ويلتجيءُ المؤمنون في جميع شئونهم: لأَنه - تعالى - هو وحده القادر على عونهم والقيوم بأمورهم كلها، وليس لغيره من أَربابكم وآلهتكم المزعومة ولا لسواها شيءٌ من ذلك. قال الصاوي: وهو تحريض وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التوكل على الله والالتجاءِ إِليه، وفيه تعليم للأُمة ذلك بأَن يلتجئوا إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده. وفي هذه الآية إِيماء إِلى أَن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} المفردات: (فَاحْذَرُوهُمْ): فكونوا منهم على حذر ولا تطيعوهم. (تَعْفُوا): تتركوا العقوبة. (تَصْفَحُوا): تعرضوا عن التعبير والتأنيب. (تَغْفِرُوا): تستروا ذنوبهم وإِساءاتهم. (فِتْنَة): ابتلاء واختبار. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ): ومن يكن في وقاية وحفظ من البخل والحرص. (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): إِن تبذلوا أَموالكم ابتغاءَ وجه الله. (شَكُورٌ): عظيم الفضل والإِحسان بإِعطاءِ الجزيل على القليل.

التفسير 14 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}: أَخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قوم من أَهل مكة أَسلموا وأَرادوا أَن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأَبى أَزواجهم وأَولادهم أَن يدعُوهم فلما أَتوا رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فرأَوا الناس قد فقهوا في دينهم هَمُّوا أَن يعاقبوهم فأَنزل الله الآية وفي رواية أُخرى عنه أَنه قال: "كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأَته وولده فيقول: أَما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأَفعلن ولأَفعلن فجمع الله - عز وجل - بينهم في دار الهجرة فأَنزل الله - تعالى - الآية. وهذا وإِن كان سبب نزول تلك الآية فالعبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها؛ فتشمل كل زوج وولد يلحق الضرر بزوجه أَو بوالده، وهذا ولا نزال نسمع ونرى من الأَزواج أَزواجًا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم، ويجلبن عليهم الشر والضرر، ومن الأَولاد أولادا يعادون آباءَهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأَذى، وكما أَن الرجل يكون له ولده وزوجة عدوًا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوًا بهذا المعنى بعينه وقيل: إِن عدواتهم من حيث أَنهم قد تحملهم مودتهم والحرص عليهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة الأَزواج والأَولاد إِلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أُمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك (فَاحْذَرُوهُمْ) أَي: كونُوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرورهم (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم وتتجاوزوا عن سيئاتهم التي تقبل العفو بأَن تكون متصلة ومتعلقة بأُمور الدنيا كإضاعة المال ونحوه، أَو مرتبطة بأُمور الدين كالعقوق وسوء العشرة وترك مأمور به أَو فعل منهي عنه ولكن أَعقبتها التوبة والعفو يكون بترك العقوبة (وَتَصْفَحُوا) أَي: تعرضوا عن هذه الخطايا بترك التعيير بها والتأنيب والتثريب عليها (وَتَغْفِرُوا) أَي: تستروها بإِخفائها وتغطيتها تمهيدًا لنسيانها حتى لا يؤدي التذكير بها إلى العودة إِليها والتمادي فيها (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

رَحِيمٌ) المراد أَنه يعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم فإنه - عز وجل - عظيم الغفران واسع الرحمة، واستدل بعضهم بهذه الآية على أَنه لا ينبغي للرجل أَن يحقد على زوجة وولده إِذا أَلحقوا به ضررًا أَو جنوْا معه جناية وأَن لا يدعو عليهم. 15 - {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)}: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): أَي: ما أَموالكم ولا أَولادكم إِلا بلاء واختبار لكم قد يحملكم ويدفعكم إِلى كسب المحرم ومنع حق الله، يوقعكم في الإِثم والشدائد والمصائب الدنيوية فلا تطيعوهم في معصية الله. وقال ابن مسعود: لا يقولن أَحدكم اللهم اعصمني من الفتنة فإِنه ليس أَحد منكم يرجع إِلى مال وأَهل وولد إِلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل: اللهم إِني أَعوذ بك من مضلات الفتن، وقال الحسن في قوله تعالى: (إِن مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) أَدخل من للتبعيض؛ لأَن كلهم ليسوا أعداء ولم يذكر من في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)؛ لأَنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أَبيه قال: (رأَيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءَ الحسن والحسين - رضي الله عنهما - وعليهما قميصان أَحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله" (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أَصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ثم أَخذ في خطبته). وقدمت الأَموال في الآية الكريمة؛ لأَنها أَعظم فتنة قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لِيَطْغَي أَن رَآهُ اسْتَغْنَى) (¬1). وأَخرج الإِمام أَحمد وغيره وصححه الحاكم عن كعب بن فياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِن لكل أُمة فتنة وإِن فتنة أَمتي المال) (وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَي: وعند الله في الدنيا والآخرة ثواب جزيل وعطاء عظيم لمن آثر محبة الله ¬

_ (¬1) الآيتان: 6، 7 من سورة العلق.

ومرضاته على محبة الأَموال والأَولاد، وقدم طاعة الله على السعي والكد فيما يعود على أَولاده بالجاه والمال بوجه يخرج بهم عن مرضاة ربهم. وقيل: المراد من الأَجر العظيم هو الجنة فهي نهاية الأَرب وغاية الطلب ولا أَجر أَعظم منها وفي الصحيحين عن أَبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِن الله يقول لأَهل الجنة يا أَهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أَحدًا من خلقك؟ فيقول: أَلا أَعطيكم أَفضل من ذلك قالوا: يا رب وأَي شيء أَفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أَسخط عليكم بعده أَبدًا). 16 - {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَي: ابذلوا في تقواه - جل شأنه - جهدكم وطاقتكم ولا تدخروا منها شيئًا؛ فإِن ما عند الله خير وأَبقى. أَخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت (اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ) اشتد على القوم العمل فقامُوا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأَنزل الله - تخفيفًا على المسلمين - (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت الآية الأَولى، وعن مجاهد المراد أَن يطاع - سبحانه - فلا يعصى، قال الآلوسي، والكثير على أَن هذا هو المراد في الآية. (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ) أَي: اسمعوا كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفكر وأَطيعوا أَوامر - عز وجل - واجتنبوا نواهية وابذلوا في وجوه البر التي أَمركم - سبحانه أَن تنفقوا فيها إِنفاقا خالصًا لوجهه - تعالى - دون رياء أَو سمعه، وافْعلُوا كل عمل طيب يكن ذلك خيرًا لكم وأَنفع بكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): أَي: والذين جعلهم الله في وقاية وحفظ من بخل النفس وحرصها فأُولئك هم في فوز كبيرٍ وفلاح عظيم حتى كأَنهم وحدهم هم الذين ظفروا بذلك ونالوه.

17 - {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)}: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ... ) أَي: إن تعطوا أَموالكم وتبذلوا ابتغاءَ وجه الله طيبة بها نفوسكم فإِنها تكون محفوظة لديه - سبحانه - ينميها لكم ويربيها، وتكون مخلوفة عليكم لا يذهب ثوابها ولا يضيع جزاؤُها فهي لدي أَغنى الأَغنياء وأَكرم الكرماءِ وهو الوهاب المعطي وبيده خزائن السموات والأَرض يجعل لكم بالواحد عشرًا إِلى سبعمائة ضعف أَو أَكثر قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (¬1) وهو - سبحانه - مع ذلك يتفضل عليكم - جزاءَ إِنفاقكم - بغفران ما فرط وبدر منكم من بعض الذنوب (وَالله شَكُورٌ) أَي: وهو - تعالت عظمته - وافر الفضل والعطاءِ لعباده الذين امتثلوا أَمره وذلك بأَن يعطيهم الجزيل العظيم على النزر القليل والعمل اليسير، (حَلِيمٌ): عظيم الحلم يمهل عباده فلا يعاجلهم بالعقوبة على ما اقترفوه من آثام ويمد لهم كي يتوبوا ويرجعوا إِليه وذلك رحمة بهم. 18 - {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}: أَي: أَنه - سبحانه - يعلم ما غاب وأَخفته القلوب في أَثنائها كعلمه - جل شأنه - ما هو ظاهر وحاضر للعيان (الْعَزِيزُ) الذي لا يماثله ولا يناظره أَحد ولا يُقْهر ولا يُغلب بل هو القاهر فوق عباده (الْحَكِيمُ) الذي يُجري كل أَمر على مقتضى حكمته وتدبيره وإِرادته. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 261.

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة وتسمى سورة النساء القُصْرى. كذا سماها ابن مسعود كما أَخرجه البخاري وغيره مناسبتها لما قبلها: لمَّا ذكر - سبحانه - في السورة السابقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)، وكانت العداوة قد تفضي إِلى الطلاق ذكر - جل شأنه - هذا الطلاق، وأَرشد إِلى الانفصال منهن على الوجه الجميل ببيان الطلاق السني وكيف يكون؟ وذكر أَيضًا ما يتعلق بالأَولاد في الجملة. أَهم أغراض السورة: دعت الأَزواج إِذا تعذر استمرار العلاقة الزوجية إِلى سلوك أَفضل الطرق في الطلاق وذلك بأَن يكون عند استقبالهن العدة، وهو الطلاق السني الذي يكون في طهر لا جماع فيه كما دعت إِلى ضبط العدة بدءًا ونهاية، وحذرت من إِخراج المطلقات في بيوتهن أَو أَن يخرجن بدون سبب يدعو إِلي ذلك، وتوعدت من يتعدَّى شرائع الله ويستهين بها: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). ثم تناولت الأَحكام التي تترتب على قرب انتهاءِ العدة من إِمساكهن بمعروف أَو مفارقتهن بمعروف مع إِشهاد ذوي عدل منكم شهادة خالصة لوجه الله في حالتي الفرقة والإِمساك: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ .... ) الآية. وبينت العدة لمن لم تحض لصغرها أَو انقطع الحيض عنها لكبرها. كما بينت العدة لأُولاَت الأَحمال: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ ... ) الآية. وأَبرزت الأَمر بسكني المطلقات والنهي عن الإِضرار بهن، وأَكدت على وجوب نفقتهن حال الحمل، ووجوب أَجر الرضاع مع المسامحة والرفق والإِحسان: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ..... ) الآية.

وجهت النظر إِلى أَن تكون النفقة على قدر الطاقة سعة وضيقًا مع الرجاءِ في فضل الله "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ" الآية. وفي خلال تلك الأَحكام التشريعية كما هي سنة القرآن دعت المؤمنين إِلى تقوى الله، وذكرتهم بإِرسال رسول يتلو عليهم آياته؛ ليدخلهم جنات تجري من تحتها الأَنهار، وحذرتهم من تعدي حدود الله، والتهاون فيها، وأَشارت أَن لأُولئك عقابا شديدًا، وعذابًا نكرًا. وختمت السورة بضرب الأَمثلة بالأُمم الباغية التي عتت عن أَمر ربها فذاقت الوبال، والدَّمار، وببيان قدرة الله العظيمة التي تجلَّت في خلق سَبْع سموات طِباق ومن الأَرض مثلهن. وكلها براهين وحدانيته - جل وعلا - تبارك الله أَحسن الخالقين.

(بسم الله الرحمن الرحيم) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} المفردات: (إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ): أَي: إِذا أَردتم تطليقهن. (لِعِدَّتِهِنَّ): أَي: لاستقبالهن العدة بالابتداءِ فيها. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ): أَي: من مساكنهن إلي أَن تنقضي العدة. (وَلا يَخْرُجْنَ): بإِذن أَو بدونه في مدة العدة. (إِلا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): وتشمل الفاحشة المبينة كما قيل: النشوز والبذاء على الزوج والأَحماء، كما تشمل الزنا والسرقة وغيرهما. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): أَي: محارمه وشرائعه التي عينها لعباده.

التفسير 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}: نزلت حينما طلق ابن عمر امرأَته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأَل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر طلق امرأَته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها وقال: "إِذا طهرت فليطلق أَو يمسك" وقرأَ الآية. وتخصيص النداء به صلى الله عليه وسلم في الآية مع أَن الخطاب بالحكم عام؛ لكونه - عليه الصلاة والسلام - إِمام الأُمة ونظير ذلك ما يقال لرئيس القوم كبيرهم: يا فلان افعلوا كذا وكذا إِظهارًا لتقدمه عليهم واعتبارًا لترؤسه فيهم، وأَنه المتكلم عنهم، يصدرون عن رأَيه، ولا يستبدون بأَمر دونه لعلو قدره، وجلالة منصبه. وقيل: إِنه بعد أَن خاطبه الله - سبحانه - بالنداء، صرف عنه الخطاب لأُمته تكريمًا له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة، والكلام على هذا على تقدير القول، أَي: قل لأُمتك (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). فمعنى الآية: إِذا أَردتم تطليق النساء (¬1) وعزمتم عليه بتنزيل المشارف للأَمر منزلة الشارع فيه (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أَي: مستقبلات لها بالدخول فيها، فإِن المرأَة إِذا طلقت في طهر، فإِنه يعقبه القرءُ الأَول من أَقراءِ عِدتها على رأَي من يرى أَن العدة بالحيض (¬2)، وهي القروء المذكورة في سورة البقرة (¬3) وبذلك تكون قد طلقت مستقبلة لعدتها. ¬

_ (¬1) المراد بالنساء المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف وغيره. (¬2) كأبي حنيفة وكثير من علماء السلف والخلف، وقال ابن القيم: لم يستعمل في كلام الشارع إِلا للحيض. (¬3) من الآية 258.

وفي الكشاف أن المراد من الآية أَن يطلقن في طهر لم يجامَعْن فيه حتى لا تطول العدة عليهن إِذا حصل لهن حمل، وهذا هو أَحسن الطلاق، وأَدخله في باب السنة حتى عرف بالطلاق السني. أَما تطليقهن في الحيض فهو الطلاق البدعي، وهو محرم، والآية تنهى عنه لما فيه من الإِضرار بالمرأَة لتطويل العدة عليها إِذ أَن الحيض الذي طلقت فيه لا يحتسب باتفاق، وتفصيل تلك الأَحكام تكفل بها علم الفقه. (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (¬1) أَي اضبطوها بحفظ الوقت الذي جرى فيه الطلاق، وأَكملوها ثلاثة قروء كوامل. (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ): أَي: خافوه وابتعدوا عن الإِضرار بهن بتطويل العدة عليهن حين تختارون تطليقهن في حيض أَو في طهر وقع فيه وطء. وفي صفة تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأَمر ومبالغة في وجوب الاتقاءِ له - تعالى. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) من مساكنهن عند الفراق حتى تنقضي العدة، وإِضافة البيوت إِليهن مع أَنها للأَزواج لتأكيد النهي عن إِخراجهن ولبيان كمال استحقاقهن لسكناها كأَنها مملوكة لهن وعدم العطف في قوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ) للإيذان باستقلال النهي عن الإِخراج اعتناءَ به، والنهي عنه يتناول كل أَسبابه من إِكراه لهن على ترك المساكن أَو لحاجة الأَزواج إِلى المساكن أو لغير ذلك (لا تُخْرِجُوهُنَّ) من تلك المساكن التي كن فيها بإِذن أو بدونه، فكأَنه قيل: لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج ولا يخرجن بأَنفسهن إِن أَردن ذلك (¬2)، وقيل: المعنى ولا يخرجن باستبدادهن أَما إِذا اتفقا عليه جاز إِذ الحق لا يعدوهما. ¬

_ (¬1) المراد بقوله: "وأَحصوا" الأزواج أو الزوجات أو المسلمون، والصحيح أَنهم الأَزواج؛ لأَن الضمائر كلها لهم. (¬2) هذا في الرجعة؛ لأَنها بصدد أَن يحدث لمطلقها رأى في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج كل وقت، وأَما البائن فليس لها شيء من ذلك فيجوز لها أن تخرج إِذا دعتها إلى ذلك ضرورة.

(إِلا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): استثناء من لا تخرجوهن أَي: إِلَّا أَن يأتين بأَمر ظاهر القبح وهو ما يوجب حدًّا كالزنى والسرقة نحوهما فيُخرجن لإِقامة الحد، وكذلك إِذا طالت أَلسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أَزواجهن أَو أَحمائهن، وأَيد بما ورد عن أَبي إِلاَّ أن يفحش عليكم بفتح الياء وضم الحاء كما أَخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس وعن ابن عمر والسُّدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. ويرى الآلوسي أَن المعنى: لا يطلق لهن في الخروج إِلاَّ في الخروج الذي هو فاحشة ومن المعلوم أَنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا للخروج على أبلغ وجه وامتدح هذا الوجه الإمام ابن الهمام وقال إنه ونظائره بديع جدًّا نحو لا تزن إِلاَّ أَن تكون فاسقا. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): إِشارة إِلى ما ذكر من الأَحكام التي عينها لعباده، وأُشير إِليها بإِشارة البعيد مع قرب العهد بها للإِيذان بعلو درجتها، وبعد منزلتها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) بالاستهانة بها، والإِخلال بشيءٍ منها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) عرضها للضرر الشديد. وهذا تقبيح لمن تعدي حدود الله (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ... ) خطاب للتعدِّي بطريق الالتفات للزجر عن التعدي كأَنه قبل: ومن يتعد حدود الله فقد أَضر بنفسه فإنك لا تدري أَيها المتعدي عاقبة الأَمر لعلَّ الله يُحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أَمرًا يقتضي خلاف ما فعلت فيكون بدل بغضها محبة، وبدل الانصراف عنها إِقبالٌ عليها وبدل عزيمة الطلاق نَدَمٌ عليه ولا يتسنى تلافية برجعة أَو استئناف نكاح كأَنه قيل: التزموا حدود الله فطلقوهن لعدتهن، وأَحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن لعلكم تندمون، فتراجعون وإِبقاء المطلقة في منزل الزوج يساعد على ذلك ويجعل المراجعة أَيسر وأَسهل.

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} المفردات: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): شارفن وقاربن آخر عدتهن. (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ): عند الحاجة إِليها واجعلوا رسالتكم خالصة لوجه الله. (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا): خلاصًا ممَّا عسى يصيب الأَزواج من الغموم والمضايق. (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ): من حيث لا يخطر بباله. (فَهُوَ حَسْبُهُ): كافيه ومعينه في كل أُموره. (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ): يبلغ ما يريد ولا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب. (لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا): تقديرًا وتوقيتًا. التفسير: 3،2 - {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ

اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}: المعنى: فإِذا شارف المطلقات آخر العدة، وأَصبحن على وشك الانتهاءِ منها فأَنتم معهن بالخيار فيما بقى من زمن العدة إِن شئتم فأَمسكوهن بحسن معاشرة واتفاق لائق وود خالص وإِن شئتم ففارقوهن بإِيفاءِ الحق، واتقاءِ الضرر مثل أَن يراجعها المراجعة ثم يطلقها تطويلًا للعدة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند المراجعة أَو الفرقة قطعًا للتنازع، ومنعًا للشقاق. وهذا الأَمر للندب نظير وقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) ويروى عن الشافعي وغيره أَن قال بالوجوب عند الرجعة: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) بأَن تجعلوها لوجهه خالصة لا للمشهود عليه ولا لغرض من الأَغراض سوى إِقامة الحق، ونصره العدل، ودفع الضرر. (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) الإِشارة على ما اختاره الكشاف للحث على إِقامة الشهادة لله تعالى والأَولى كما في الكشاف أَن تكون الإِشارة إِلى جميع ما ذكر من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإِحصاءِ العدة، والكف عن الإِخراج والخروج، وإِقامة الشهادة للرجعة أَو الفرقة، وفي ذلك ملازمة قوية لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فإِنه اعتراض مؤكد لِمَا سبق في الأَحكام التي تتمثل في أَمر إِجراءِ الطلاق على السنة ووجوب مراعاة حدود الله باتقائه في تعديها، فلم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأَشهد على كل عمله، ومن التزم بذلك يجعل الله له مخرجًا ممَّا عسى أن يقع في شأَن الأزواج من الهموم والغموم ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب في الدنيا والآخرة، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يتوقع أَن تتفتح عنه أَبواب الخير وتتيسر به أَسباب الرزق، وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أَكثر من الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب) (¬1) وروي أَيضا عن ابن عباس قال: إِن عوف بن مالك الأَشجعي أَسر المشركون ابنه سالمًا فأَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أُسر ابني وشكا إِليه الفاقة فقال - عليه الصلاة والسلام -: (اتق الله وأَكثر من قول لا حول ولا قوة إِلا بالله العظيم) ففعل، فبينما هو في بيته إِذ قرع ابنه ¬

_ (¬1) رواه الحاكم 4 - 262.

الباب ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) بأَن يكل أَمره إِليه تعالى مؤثرًا له على الطمع في غيره، وعن تدبير نفسه، إِن فعل ذلك وتخلق به كان الله له معينًا وكافيًا في الدنيا والآخرة (¬1). أَخرج أَحمد في الزهد عن وهب قال: يقول الرب تبارك وتعالى: (إِذا توكل علي عبدي لو كادته السموات والأَرض جعلت له من بين ذلك المخرج). (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) بمعنى منفذ أَمره في كل ما كان وما يكون يبلغ ما يريد، ولا يفوته مراد، ولا يعجزة مطلوب (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديرًا قبل وجوده أَو مقدارًا من الزمان ينتهي إِليه، ويشير التعميم في الجملة إِلى وجوب التوكل عليه تعالى، وتفويض الأَمر إِليه؛ لأَنه إِذا عُلم أَن كل شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إِلا بتقديره سبحانه، لا يبقى إِلاَّ التسليم للقدر، والتوكل على الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} المفردات: (وَاللاَئِي يَئِسْنَ): أَي: انقطع عنهن الحيض لكبر سنهن، وقدر بستين أَو خمس وخمسين سنة. (إِنْ ارْتَبْتُمْ): إِن شككتم وجهلتم كيف تكون عدة اليائس. ¬

_ (¬1) رواه السيوطي في الدار المنثور 8 - 197 وعزاه لابن مردويه.

(يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ): يذهبها. (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا): بالمضاعفة. التفسير 4 - {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)}: روى أَن أُناسا قالوا: قد عرفنا عدة ذات الأَقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت عدة الآيسة واللَّائي لم يحضن وأُولات الأحمال، فتذكر أَن عدة اليائسة التي بلغت سن اليأس من الحيض وهي تقدر بستين سنة أَو بخمس وخمسين، ثلاثة أَشهر. إِن ارتبتم وأُشكل عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتدون؟ وكذلك تكون عدة الصغيرات اللَّاتي لم تحضن ثلاثة أَشهر (¬1)، وحذف بيان العدة في النص الكريم مع اللاتي لم تحضن ثقة بدلالة ما قبله عليه. وعدة أُولات الأَحمال أَن يضعن حملهن سواء كن مطلقات أَو متوفى عنهن أَزواجهن فقد أَخرج جماعة عن ابن عمر أَنه سئل عن المرأَة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إِن وضعت حملها حلت فأخبره رجل من الأَنصار أَن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلَّت. وذهب علي - كرم الله وجهه - وابن عباس - رضي الله عنهما - إِن الآية في المطلقات، وأَما المتوفى عنها زوجها فعدتها آخر الأَجلين أَي: الأَشهر أَو وضع الحمل وهو مذهب الإِمامية كما في مجمع البيان، وقوله: (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) خصص به عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) لتراخي نزوله عن ذلك لما هو المشهور من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - من شاءَ باهلته أَن سورة النساءِ القصرى ¬

_ (¬1) فإِذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء، انتقلت إلي الدم لوجود الأَصل كما أن السنة إِذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر وهذا إِجماع كما قال القرطبي.

نزلت بعد التي في سورة البقرة، وقد صح أَن سبيعة بنت الحارث الأَسلميةَ ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (قد حللت فتزوجي). (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) أَي: ومن اتقاه - سبحانه - في شأن أَحكامه ومراعاة حقوقها يسهل عليه أَمره، يوفقه للخير، ولكل عمل نافع وقيل: يجعل له يسرًا أَي ثوابا. 5 - {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}: إِشارة إِلى ما علم من حكم المعتدات، وما في الإِشارة من معنى البعد عن قرب العهد بالمشار إِليه للإِيذان ببعد منزلته في الفضل، وقد أَنزله إِليكم من اللَّوح المحفوظ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في تلك الأَحكام بالمحافظة عليها (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) فإِن الحسنات يذهبن السيئات، وفي الحديث: (وأَتْبعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) (¬1). (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) بالمضاعفة، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد عن أبي ذر: 5 - 153. (¬2) سورة الأنعام: من الآية 160.

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} المفردات: (مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ): الوجد مثلثة الواو الوسع والطاقة أَي: أَسكنوهن مكانًا من سكنكم وفق وسعكم وطاقتكم. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لكم): أَي المطلقات. (وَأئتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ): أَي تشاوروا وأَن يأمر بعضكم بعضًا باليسر والتسامح في الأُجرة. (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ): بأَن كان من الأَب مضايقة أَو من الأُم ممانعة. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ): ضيق عليه في رزقه. التفسير 6 - {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)}:

استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأَ عمَّا قبله من الحث على التقوى كأَنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات، فأُجيب عن ذلك بقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ .... ) الآية. أَي: أَسكنوا المعتدات مكانًا من مسكنكم الذي تسكنونه حسبما تطيقونه مع وسع وقدرة، وقد روي عن قتادة ما يؤيد ذلك حيث قال: ولتسْكُن إِذا لم يكن إِلا بيت واحد في بعض نواحيه، وهي واجبة باتفاق مع النفقة لكل مطلقة رجعية حاملًا كانت أَو حائلًا، أَما المبتوتة وهي التي طلقت ثلاثًا، وليست ذات حمل، فقد اختلف في شأنها العلماء، فعند ابن المسيب ومالك والأَوزاعي والشافعي وغيرهم ليس لها إِلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن، وحماد وأَحمد وغيرهم لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس قالت: إِن زوجها أَبتّ طلاقها فخاصمته إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: لا سكنى لك ولا نفقة، وأَمرها أَن تعتدّ في بيت ابن أَم مكتوم، ثم أَنكحها أُسامة بن زيد. وعن عمر - رضي الله عنه - أَنه طعن في هذا الحديث، فقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأَة لعلها نسيت أَو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: السكنى والنفقة، وقد طعن في حديث فاطمة أَيضًا عائشة وسليمان بن يسار وأُبو سلمة وغيرهم. وقال أَبو حنيفة والثوري: لها السكني والنفقة، بدليل قول عمر - رضي الله عنه - وقال ابن نافع: قال مالك في قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ) يعني المطلقات اللَّاتي بنَّ أَزواجهن ولا رجعة لهم عليهن، ولسن ذوات حمل، فلكل منهن السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة؛ لأَنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. فأَما من لم تَبن منهن، فإِنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إِلا أن يأذن لهن أَزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن؛ لأَن ذلك لازم على أَزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن حوامل كن أَو غير حامل. (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ): أَي: تجنبوا الإِضرار بالمعتدات، فلا تستعملوا معهن ما يؤديهن لإِلجائهن إِلى الخروج كأَن تنزلوا معهن من لا يوافقهن في الجوار، أو تشغلوا المكان بغيرهن أَو نحو ذلك.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ): وبوضع الحمل يخرجن من العدة. قال كثيرٌ من العلماءِ منهم ابن عباس، وطائفة من السلف، وجماعات من الخلف: هذا الحكم في البائن - إِن كانت حاملًا أَنفق الزوج عليها مع السكنى حتى تضع حملها قالوا: بدليل أَن الرجعية تجب نفقتها حاملًا كانت أَو حائلًا. وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإِنما نص على الإنفاق على الحامل، وإِن كانت رجعية؛ لأَن الحمل تطول مدته غالبا، فاحتيج إِلى النص على وجوب الإنفاق عليها إِلى الوضع؛ لئلا يتوهم أَنها لا نفقة لها نظرًا لذلك وليعلم حكم غيرها بالطريق الأَولى. أَما أُولات الحمل المتوفى عنهن أَزواجهن فلا نفقة لهن عند أَكثر العلماءِ، ويرى علي - كرم الله وجهه - وابن مسعود وجوب نفقتهن في التركة من جميع المال حتى يضعن، وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك الشافعي وأَبو حنيفة لا ينفق عليها إِلاَّ من نصيبها. (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) بعد انقطاع عصمة الزوجية بوضع حملهن (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على ما قمن به من إِرضاع ثم خاطب - سبحانه - الآباء والأمهات، ودعاهم إِلى أَن يتشاوروا، فيأمر بعضهم بعضًا بمعروف أَي: بجميل في الأُجرة والإِرضاع، وذلك بحديث سمح بعيد عن المماكسة من الأَب والمعاشرة من الأُم فقال تعالى: (وَأئتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، وقيل: المعروف الكسوة والدثار (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) أَي: وإِن ضيق أَحدكم على الآخر بالمشاحة والمبالغة في الزيادة أَو النقص في الأُجرة، فسترضعه مرضعة أُخرى غير الأُم، على معنى فليطلب الأَب هذه المرضعة، فإِن لم يقبل الولد ثديها، أُجبرت الأُم على الإِرضاع بأَجر المثل، وفيه معاتبة للأُم على المعاشرة كقولك لمن تستقضيه حاجة، فيتوانى سيقضيها غيرك، بمعنى ستقضي وأَنت ملوم. وخصت الأُم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير، لأَن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصًا من الأُم على الولد، ولا كذلك المبذول من

الأَب فإِنه المال المضمون عادة، فالأُم إِذن أَحق باللوم، وأَولى بالعتب خصوصًا وهي أَكثر حنوا وشفقة على الوليد، ولذلك لو رضيت الأُم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أَحق بولدها. 7 - {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}: المعنى: لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه وفق ما أَمر به من الإِنفاق على المطلقات والمرضعات (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) أَي: بقدر ما أَعطاها من الطاقة والقوة، وقيل: بقدر ما آتاها من الأَرزاق قلت أَو كثرت، وفيه تطييب واستمالة لقلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعد للفقراءِ بفتح أَبواب الرزق عليهم عاجلا أو آجلا أَو لفقراءِ الأَزواج إِن أَنفقوا ما قدروا عليه، ولم يقع منهم تقصير وهو على كلا الوجهين لتأكيد المعنى المراد من الترغيب في الإِنفاق قل مال المنفق أَو كثر.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} المفردات: (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا): استكبرت وطغت وعتا من باب قعد. (عَذَابًا نُكْرًا): منكرا شديدا والمراد عذاب الآخرة. (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا): أَي فتجرعت وخامة وسوءَ عاقبتها. (خُسْرًا): خسارا هائلا. (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا): جبريل أَو النبي أَو القرآن. التفسير 8 - {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)}:

يتوعد الله - سبحانه - من خالف أَمره، وكذب رسله، ويخبر عما حل بالأُمم السابقة بسب ذلك فيقول تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) أَي: كثير من أَهل قرية تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أَمر الله، ومتابعة رسله (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) بالاستقضاءِ والمناقشة لأَهلها في كل نقير (¬1) من الذنوب وقطمير (¬2) مما اقترفته جوارحهم فلا تجاوز لهم عن شيءٍ مهما قل (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أَي: منكرًا عظيمًا يفوق التصور حيث لم تخطر ببالهم شدته، وتعدت الاحتمال قسوته، والمراد حساب الآخرة مع ما عجل لهم في الدنيا من العذاب بالجوع، والقحط، وسائر المصائب والبلايا. والتعبير بالماضي في قوله: (فَحَاسَبْنَاهَا) وفي قوله (وَعَذَّبْنَاهَا) للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى: (وَنَادَي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ). ويجوز أَن يراد بالحساب إِحصاء جميع ذنوبهم وكتابتها في صحائف أَعمالهم لدى الحفظة، وبالعذاب ما أَصابهم عاجلا في الدنيا من العقاب، ويكون الإِتيان بالماضي في (فَحَاسَبْنَاهَا) وفي (وَعَذَّبْنَاهَا) على الحقيقة لوقوع الحساب والعقاب في دنياهم. 9 - {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)}: أَي: فذاقت عقوبة عتوها وكفرها وتمردها على أَوامر الله، وكانت نتيجة ذلك خسارًا شديدًا لا خسار وراءَه، والمراد عقوبة الآخرة، وجيءَ بلفظ الماضي؛ لأَن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقي وواقع في الحقيقة فكأَنه قد كان. 10 - {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}: تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ). ¬

_ (¬1) النقير: النكتة في ظهر النواة. (¬2) القطمير: القشرة الرقيقة التي على النواة كاللفافة.

كأَنه قيل: أَعد الله لهم هذا العذاب المترقب فليكن ذلك يا أُولي الأَلباب داعيًا لكم لتقوى الله - تعالى - وحذر عقابه، وجملة (أَعَدَّ اللَّهُ) إِلخ استئناف يشير إِلى أَن عذابهم ليس منحصرًا فيما ذكر من الحساب الشديد والعذاب النكر بل لهم بعدهما عذاب شديد آخر مُعدّ لمزيد عقابهم، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) بيان لأُولي الأَلباب (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا). وقيل: هو جبريل - عليه السلام - سمي ذكرًا لكثرة ذكره أَو لنزوله بالذكر الذي هو القرآن: كما ينبيءُ عنه إِنزال قوله تعالى (رَسُولًا) منه. وقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه الأَكثر، وإِطلاق الذكر عليه لمواظبته - عليه الصلاة والسلام - على تلاوة القرآن الذي هو ذكر، وتبليغه والتذكير به - وعبر عن إِرساله بالإِنزال؛ لأَن الإِرسال سبب عن إِنزال بالوحي عليه صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز. 11 - {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}: (رَسُولًا): بدل جاءَ للبيان من قوله: (ذِكْرًا) قال ابن جرير: الصواب أَن الرسول ترجمة عن المذكر وتبيين له وقال أَبو حبان: الظاهر أَن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم. وفي توجيه هذا الرأي أَقوال: أَشهرها أن رسولا منصوب بفعل محذوف تقديره أَرسل دل عليه أَنزل أَي: أَنزل لكم ذكرا، وأَرسل إِليكم رسولا ونحا إِلى هذا السّدي، واختاره ابن عطية. (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) نعت لقوله: "رَسُولًا" أَي: أَنه صلى الله عليه وسلم يقرأُ عليكم أَو حال من اسم الله في قوله تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللهُ ... ).

أَي: أَن الله تعالى يأمر أَمين وحيه جبريل - عليه السلام - أَن يقرأَ على رسوله آياتِ الله. القرآن. واضحات جليات تبين لكم الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من أَحكام دينكم (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور) المراد من الذين آمنوا المؤمنون بعد إِنزال الذكر، وقبل نزول هذه الآية، أَو من علم سبحانه وقدر أَنهم سيؤمنون، وعلى ذلك يكون المعنى على الأَول، ليخرج الله أَو الرسول (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإِيمان والعمل الصالح، وعلى الثاني ليخرج من علم الله وقدر أَنه يؤمن (مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أَي: من أَنواع الضلالات إلى الهدى، ومن ظلمات الكفر والجهل إلي نور الإِيمان والعلم والتعبير بالماضي في قوله سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا) عمن سيؤمن، باعتبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأَزلي، أَو باعتبار نزول هذه الآية (¬1) (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) وفق ما بُيِّن في تضاعيف ما أَنزل من الآيات الواضحات التي ورد بها بالذكر الحكيم (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) أَي: تنساب من بين قصورها الأَنهار الصافية؛ ليكمل لهم النعيم العظيم في دار البقاءِ (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) بمعنى أَن مكثهم في تلك الجنات دائم حيث لا يخرجون منها ولا يموتون (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) فيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزقه الله - تعالى - المؤمنين من الثواب وسائر المطاعم والمشارب، وكل ما لذ وطاب مما تقر به الأَعين، وتطمئن إِليه النفوس، وإِلا لم يكن في الإِخبار بما ذكر ههنا كثير فائدة. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} ¬

_ (¬1) إِذا أريد بالذين آمنوا المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية.

المفردات: (يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ): أَي: يجري أَمر الله وقضاؤُه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن. (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا): أي: أَنه سبحانه لا تخفى عليه خافية لإِحاطة علمه بكل شيء لاستحالة صدور هذه الكائنات العظيمة ممن ليس كذلك. التفسير 12 - {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}: إِخبار من الله تعالى - عن قدرته التامة، وسلطانه العظيم؛ ليكون ذلك باعثًا وحافزا على تعظيم ما شرع الله من الدين القويم، وما خلق من مخلوقات كونية على أَقصى درجة من الإِحكام والكمال، لا تحيط بعظمتها منطقة الفكر ولا دائرة العقل، ويضيق عنها نطاق الحصر، ولا أَدل على ذلك من أَنه سبحانه هو الذي خلق سبع سموات طباقًا ومن الأَرض مثلهن في العدد بمعنى أَنها طبقات سبع بعضها فوق بعض وهو رأَي الجمهور وقد وصفه القرطبي بأَنه أَصح الأَقوال وطبقات الأَرض هي الصينية والصخرية والمائية والمعدنية ونحو ذلك. وقيل: المثلية بين السموات والأَرض في الخلق لا في العدد ولا في غيره فهي أَرض واحدة مخلوقة كالسموات السبع، وأُيِّد بأَن الأَرض لم تذكر في القرآن إِلا موحَّدة، ورُد بأَنه صح في رواية البخاري وغيره "اللهم رب السموات السبع وما أَقللن ورب الأَرضين السبع وما أَظللن" الحديث كما ردُ بما ثبت في الصحيحين "من ظلم قيد شبر من الأَرض طوقه من سبع أَرضين" وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَن نافع بن الأَزرق سأَله هل تحت الأَرض خلق؟ قال نعم قال: فما الخلق؟ قال: إِما ملائكة أَو جن. وأَخيرا لعل القول بالتعدد هو المتبادر من الآية وتقتضيه الأَخبار. ويقول روح المعاني: ومع هذا هو ليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أَو المتردد فيه

وقد ذكروا تفضيلات عن جوهر كل سماء وعن المسافة بين كل سماء وأُخرى وبين كل أَرض وأُخرى. وهذا ونحوه حقيق بأَن نكل أَمره إلى الله عالم الغيب والشهادة. (يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أَي: يجري أَمر الله - تعالى - وقضاؤُه وقدره - عز وجل - بينهن، وينفذ حكمه فيهن، وعن قتادة في كل سماءِ وفي كل أَرض خلق من خلقه وقضاء من قضائه - عز وجل - وقيل: (يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) بحياة وموت وغنى وفقر. وقال مقاتل: (الأَمْرُ) هنا الوحي و (بَيْنَهُنَّ) إِشارة إِلى ما بين هذه الأَرض السفلى التي هي أَدناها وبين السماءِ السابعة التي هي أَقصاها (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَي: أَعلمتكم وأَخبرتكم بذلك من خلق سبع سموات بعضها فوق بعض ومن الأَرض مثلهن: لتعلموا أَن الله قادر على كل شيءٍ (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) لاستحالة صدور هذه المخلوقات العظيمة ممن ليس كذلك، بل هي شواهد ناطقة، ودلالات بينة. على أَن علمه الواسع قد أَحاط بكل شيء - عز أَو دقّ - وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية يعلم خائنة الأَعين وما تخفي الصدور.

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية وكما تسمى سورة التحريم تسمى المتحرم، ولم تحرم؛ وسورة النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن الزبير سورة النساءِ. مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق: أَنها متواخية معها في الافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَن السابقة مشتملة على طلاق النساءِ، وهذه على تحريم الإماء وبينهما من الملابسة ما لا يخفى. ولما كانت السابقة في خصام وطلاق نساء الأُمة ذكر في هذه خصومة نساء النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إِعظامًا لهن أَن يذكرون مع سائر النسوة فأُفردن بسورة خاصة، ولذلك ختمت بذكر آسية امرأَة فرعون، ومريم ابنة عمران. قاله السيوطي عليه الرحمة. أغراض السورة: عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم عتابًا رقيقًا لطيفًا في التحريم والتحليل قبل ورود وحي سماوي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) الآية. تناولت أَمرا على جانب من الخطورة أَلا وهو إفشاء السر الذي يكون بين الزوجين والذي يهدد الحياة الزوجية بالتردي والتوقف، وضربت المثل برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أَسَرَّ إِلى حفصة حديثًا، واستكتمها إِياه فأَفشته إِلى عائشة حتى شاع وذاع مما أَغضبه صلى الله عليه وسلم حتى هم بتطليق أَزواجه (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا .. ) الآية. حملت على أَزواجه - صلوات الله عليه - حملة عنيفة حين حدث ما حدث بينهن من التنافس (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ... ) الآية. أَبرزت الأمر بالابتعاد عن جهنم، وخوفت من عذابها بأَشد أَنواع الوعيد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .... ) الآية.

دعت دعوة قوية إِلى التوبة النصوح، وأَظهرت وعد المؤمنين بإِتمام نورهم في القيامة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا .. ) الآية. رسمت الطريق لجهاد الكفار والمنافقين حيث يكون بطريق السيف في الكفار، وبالبرهان والحجة مع المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... ) الآية. بينت أَن القرابة غير نافعة بدون الإِيمان والمعرفة، وأَن القرب من المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإِخلاص (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ .. ) الآيتين. ختمت السورة بذكر تصديق مريم ابنة عمران وما اتصفت به من عفة وتصون فكان لها من الله أَعظم الجزاءِ (وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ... ) الآية.

(بسم الله الرحمن الرحيم) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)} المفردات: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ): أَي شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقدته الأَيمان، وذلك بالكفارة أَو بالاستثناء متصلا حتى لا يحنث، وتحلة أَصلها تحللة قبل الإِدغام مصدر حلل المضعف كتكرمة من كرم. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ): أَخبرت.

(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا): أَي: فقد مالت قلوبكما عن الحق، يقال صغت الشمس مالت للغروب: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ): أَي: وإِن تتعاونا بما يسوؤُه من الإِفراط في الغيره، والوقيعة بينه وبين نسائه بإِفشاء سره. (بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ): أَي: فوج مظاهر له كأَنهم يد واحدة على من يعاديه. (قَانِتَاتٍ): مُطِيعات من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخضوع. (سَائِحَاتٍ): أَي: صائمات، وسمي الصائم سائحًا؛ لأَنه يسبح في النهار بلا زاد أَو مهاجرات. التفسير 1 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}: روي في سبب النزول أَن النبي صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها اكتمي عَلَيّ فقد حرمت مارية على نفسي، وأُبشرك أَن أَبا بكر وعمر يملكان من بعدي أَمر أُمتي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين. كما في رواية الكشاف وقيل: خلا بها في يوم حفصة وكانت قد استأذنته صلى الله عليه وسلم في زيادة أَبويها فأَذن لها فلما علمت قالت: في بيتي وعلى فراشي فأَرضاها بما حدثها به من تحريم مارية على نفسه وبما بشرها به من إِمامة الشيخين أَبي بكر وعمر واستكتمها ذلك فلم تكتمه فطلقها واعتزل نساءَه فنزل جبريل - عليه السلام - فقال: راجعها فإِنها صوامة قوامة وإِنها لمن نسائك في الجنة. وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح أَن الآية نزلت في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت في طريق صحيح، وشرب العسل كان عند زينب بنت جحش فقد روي أَنه صلى الله عليه وسلم كان يمكث عندها ويشرب عسلا فتواصت عائشة وحفصة لما وقع في نفسهما من الغيرة من ضرتهما أَن أَيَّتهما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له: إِني أَجد منك

ريح مغافير (¬1)، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب، ويكره الرائحة الكريهة، للطافة نفسه الشريفة فحرم العسل على نفسه وقد حلف وقال: لن أَعود فنزلت. والمعنى: لم تحرم أَيها النبي ما أَحل الله لك من ملك اليمين أَو شرب العسل، وفي ندائه صلى الله عليه وسلم أَيها النبي في مفتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه ما لا يخفى حيث خوطب غيره باسمه من سائر الرسل، والاستفهام ليس على حقيقته بل هو معاتبة. والمراد من التحريم الامتناع، وبما أَحل الله لك العسل على ما صححه النووي أو وطءَ سريته على ما في بعض الروايات (تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) استئناف لبيان أَن الداعي إِلى التحريم مؤذن بعدم صلاحيته لذلك كأَنه قيل: إِن الذي فُعل زلة؛ لأَنه ليس لأَحد أَن يحرم ما أَحل الله ابتغاءَ مرضاة أَزواجه على أَن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالغ الغاية في الغفران والرحمة فقد غفر الله لك ما بدر منك، وفيه تعظيم له صلى الله عليه وسلم بأَن ترك الأَولى بالنسبة إِلى مقدامه السامي الكريم يعد كالذنب وإِن لم يكن كذلك في نفسه. وأَن عتابه صلى الله عليه وسلم لم يكن إِلا لمزيد العناية به. هذا وإِن تحريم الحلال على وجهين، الأَول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام وهو محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره عن المعصوم أَصلا، والثاني: الامتناع عن الحلال مطلقًا أَو مؤكدًا باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض. وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع وإِنما عاتبه تعالى على ما بدر منه رفقًا به، وتنويهًا بقدره. وإِجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم أَن يراعي مرضاة أَزواجه بما يشق عليه مع أَنه أَلف لطف الله به. 2 - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}: ¬

_ (¬1) المغافير بفتح الميم والغين جمع مغفور بضم الميم صمغ ينضحه شجر العرفط يؤخذ ثم ينضج بالماء فيشرب وله رائحة كريهة. والعرفط شجر أو نبت له ورق عريض.

أَي: قد شرع لكم سبحانه تحليل (¬1) أَيمانكم بالكفارة أَو بالاستثناء المتصل الذي يأتي به الحالف حتى لا يحنث، والتحليل من الحل ضد العقد فكأَنه باليمين على الشيءِ عقد عليه لالتزامه، وبالكفارة يحل ذلك. وعلى القول بأَنه كان منه - عليه الصلاة والسلام - يمين كما جاءَ في بعض الروايات وهو ظاهر الآية. اختلف هل أَعطي صلى الله عليه وسلم الكفارة لمستحقيها أَو لا، فعن الحسن أَنه لم يعط؛ لأَنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر، وإِنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل أَنه صلى الله عليه وسلم أَعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أَسلم أَنه صلى الله عليه وسلم أَعطى الكفارة في تحريمه أَم ولده حيث حلف أَلا يقربها، ونقل مثله عن الشعبي. (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ): أَي: والله سيدكم ومتولي أُموركم، هو جل شأنه عظيم العلم بما يصلح لكم فيشرعه لخيركم بالغ الحكمة والإِتقان في أَفعاله وأَحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إِلا بما فيه الاستقامة والصلاح فيما أَحل وحرم. 3 - {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)}: المراد من بعض أزواجه على المشهور حفصة لا عائشة كما زَعم بعض الشيعة أَي: واذكر حديثًا أَسرَّه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أَزواجه، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم "ولكني كنت أَشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أَعود إِليه وقد حلفت لا تخبري بذلك أَحدا" أَو هو حديث مارية أَو حديث الإِمامة كما قيل (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أَي: أَخبرت بالحديث عائشة، وكانتا متصادقتين، وتناولتا نقصان حظ ضرتهما زينب من جيبهما صلى الله عليه وسلم حيث إِنه كما في البخاري وغيره: كان يمكث عندها يشرب العسل، وقد اتخذ ذلك عادة وقد استخفها السرور فنبأَت به (¬2)، (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَي: جعل سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهرًا على ¬

_ (¬1) تحليل وتحلة مصدران: الأَول قياسي والثاني سماعي لحلل المضعف العين، وأَصل تحلة تحللة قبل الإِدغام للمثلين. (¬2) حيث إِن وجوده عندها ليس لمودة قلبية كما تقصدان.

الحديث، مطلعًا عليه بواسطة جبريل - عليه السلام - أَو جعل الله الحديث ظاهرا على النبي صلى الله عليه وسلم يتبينه ويدرك كنهه. ولما أَظهر الله نبيه على الحديث أَعلم صلى الله عليه وسلم حفصة بنصه الذي أَفشته وهو قوله لها: "كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أَعود "وأَعرض عن بعضه فلم يخبرها به وهو قوله: "وَقَدْ حلفت" تكرمًا من مزيد خجلها، وهذا منه صلى الله عليه وسلم اهتمام بمرضاة أَزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك عنهن رعاية لحقهن وأَخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن أَبي حاتم عن مجاهد أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَسر إِلى حفصة تحريم مارية، وأَن أَبا بكر وعمر يليان أَمر الناس بعده فأَسرت ذلك إِلى عائشة فعرف صلى الله عليه وسلم بعضه، وهو أَمر الإِمامة. روي عن علي - كرم الله وجهه - وابن عباس قالا: إِن إِمامة أَبي بكر وعمر لفي كتاب الله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا). وقيل: عرف أمر مارية، وأَعرض عن أَمر الإِمامة مخافة أَن يفشو. روى أَنه صلى الله عليه وسلم قال لحفصة: أَلم أَقل لك اكتمي عليّ قالت: والذي بعثك ما ملكت نفسي فرحًا بالكرامة التي خص بها أَبي. وحين نبأَها بما أَفشته لتعرف هل التي كشفت الحديث عائشة أَو لا (مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) قال صلى الله عليه وسلم: (نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي لا تخفى عليه خافية لإِحاطته بخطرات النفوس ومكنونات الضمائر، فإِنه لذلك أَوفق للإِعلام (¬1). قال الآلوسي: وقصارى ما يمكن أَن يقال: يحتمل أَن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شرب عسلًا عند زينب كما هي عادته وجاءَ إِلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق - له عليه الصلاة والسلام - قبيل ذلك أَو بعيده أَن وطيءَ جاريته مارية في بيت حفصة وفي يومها وعلى فراشها، فوجدت فحرم صلى الله عليه وسلم مارية وقال لحفصه ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إِحداهما وبعضهم ¬

_ (¬1) واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل دلالة على أنه يحسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإِعراض عن استقضاء الذنب.

على نقل الأُخرى وهو كلام صادق إِذ ليس فيه دعوى كلٍّ حصر سبب النزول فإِن صح هذا هان أَمر الاختلاف أ. هـ بتصرف. 4 - {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)}: ومما يدل على أَن المرأَتين اللتين وقع منها التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عائشة وحفصة ما رواه الإِمام أَحمد بسنده عن ابن عباس (¬1) قال: لم أَزل حريصًا على أَن أَسأَل عمر عن المرأَتين من أَزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله فيهما: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإِداوة، فتبرز ثم أَتاني فسكبت على يديه فتوضأَ فقلت: يا أَمير المؤمنين من المرأتان من أَزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فقال عمر: واعجبا لك يا بن عباس هما عائشة وحفصة ثم أَنشأَ يحدثني الحديث بطوله. والآية خطاب لهما على الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب للمبالغة في العتاب، فإِن المبالغ في العتاب يصير المعاتب بعيدًا أَولا عن ساحة الحضور، ثم إِذا اشتد غضبه توجه إِليه وعاتبه بما يريد، وإِلي ذلك يشير قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أَي: مالت عما يجب عليكما من مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه إِلى مخالفته. وجملة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) تعليل لجواب الشرط ودليل عليه، والتقدير إِن تتوبا إلي الله فلتوبتكما موجب وسبب؛ لأَنه قد صدر عنكما ما يقتضيها من ميل قلوبكما عنه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الجواب محذوف والتقدير إِن تتوبا إِلى الله يمح إِثمكما وقوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) بيان لسبب التوبة وقيل: غير ذلك. والجمع في قلوبكما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد، وهو في مثل ذلك أَكثر من التثنية والإِفراد (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أَي: فلن تتعاونا عليه بما يسؤوه من الإِفراط في الغيرة وإِفشاء سره (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) بمعنى أَنه لا يعدم من بظاهره؛ فإِن الله مؤَيده وناصره، وجبريل رئيس الكروبيين (¬2) قرينه، وكل من آمن وعمل صالحًا أَتباعه وأَعوانه. ¬

_ (¬1) وقد أَخرجه أَيضا البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس. (¬2) الكروبيون بالتخفيف سادة الملائكة.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - أَراد بصالح المؤمنين أَبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - وبه قال عكرمة ومقاتل وهو اللائق بتوسطه بين جبريل والملائكة - عليهم السلام - وقيل: أريد به من بريء من النفاق، وقيل الصحابة، (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) بمعنى أَن الملائكة على كثرة عددهم، وامتلاء السماءِ بهم فوج مظاهر بعد ذلك له قدره وشأَنه ما فيهم جبريل - عليه السلام - وإِن كانت نصرتهم من نصرة الله فيما يبلغ تظاهر امرأَتين على من هؤُلاءِ ظهراؤُه وأَعظم جل جلالة شأن النصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إِما للإِشارة إِلى عظم مكر النساءِ، أَو للمبالغة في قطع حبال طمعها لعظم مكانتها عند النبي وعند المؤمنين لأُمومتهما لهم، وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأَبويهما في أَن تظاهر هما يجديهما نفعًا، فكأَنه قبل: فإِن تظاهرا عليه فلا يضره ذلك فإِن الله تعالى هو مولاه وناصره في أَمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه (وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ) مظاهِرُون له ومعينون إِياه كذلك. 5 - {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}: أَي: إِن تحقق طلاقكن فحق وواجب أَن يبدل الله رسوله أَزواجًا خيرًا منكن، والخطاب لهن جميعًا على سبيل الالتفات، وأَصله لاثنتين، ولكنه ورد عاما: لأَنهن في منزل الوحي أَو على التغليب أَو لاجتماعهن في الغيرة عليه صلى الله عليه وسلم لما أَخرجه البخاري عن أَنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عسى ربه إِن طلقهن أَن يبدله خيرًا منهن فنزلت هذه الآية وفق قول عمر. وكون المبدلات خيرًا منهن مع أَن أُمهات المؤمنين خير نساء على وجه الأَرض؛ لأَنه إِن طلقهن لإِيذانهن إِياه لم يبقين كذلك، وكان غيرهن من الموصوفات في الآية بالصفات الكاملة خَيْرًا منهن إِن تزوجهن الرسول، وهذا وعد من الله لرسوله لو طلقهن في الدنيا أَن يزوجه نساءً خيرًا منهن تخويفًا لهن كما في القرطبي.

وليس في الآية ما يدل على أَنه لم يطلق حفصة ولا ما يدل على أَن في النساءِ خيرا منهن فإِن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة، والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه. وقد روي أَنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع. وقد وصف الله هؤلاءِ الزوجات اللاتي سيبدل رسوله صلى الله عليه وسلم بهن فقال: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) مقرات مخلصات أَو منقادات مصدقات (قَانِتَاتٍ) مواظبات على الطاعة - أَو مصليات (تَائِبَاتٍ) مقلعات عن الذنب (عَابِدَاتٍ) متذللات لأَمر الرسول صلى الله عليه وسلم متعبدات (سَائِحَاتٍ) صائِمَاتٍ. سمي الصائم سائحا؛ لأَنه يسبح في النهار بلا زاد، وإِنما يأكل حيث يجد الطعام أَو مهاجرات قال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إِلاَّ الهجرة، قيل: ذاهبات في طاعة الله كل مذهب (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) والثيبات جمع ثيب وهي التي زالت عذرتها وسميت بذلك؛ لأَنها ترجع إِلى الزوج بعد زوال عذرتها. والأَبكار جمع بكر وهي التي لم تفتض ووسط العاطف بينهما لتنافيهما ولو سقط لاختل المعنى. إِن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، وترك العطف في الصفات السابقة؛ لأَنها صفات تجتمع في شخص واحد، وبينهما شدة اتصال يقتضي ترك العطف. وذُكِرَ الجنسان؛ لأَن في أَزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها ثيبا، وفيهن من تزوجها بكرا وجاءَ أَنه لم يتزوج بكرا إِلا السيدة عائشة - رضي الله عنها -.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)} المفردات: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ): وقاية النفس بترك المعاصي، ولزوم الطاعات ووقاية الأَهل بحملهم على ذلك بالنصح والتوجيه، ويراد بالحجارة الأَصنام. (غِلاظٌ شِدَادٌ): أَي: غلاظ الأَقوال شداد الأَفعال أَو الخَلق والخُلُق. (تَوْبَةً نَصُوحًا): بمعنى بالغة الغاية في النصح وقيل: هي من نصاحة الثوب أَي: خياطته بمعنى أَنها توبة قوية ترفو خروقك في دينك، وترم خللك. (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ): يقال: أَخزى الله - تعالى - فلانًا فضحه وقال الراغب: يقال: خزى الرجل لحقه انكسار إِما من نفسه وهو الحياءُ المفرط ومصدره الخزاية وإِما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي.

التفسير 6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)}: ينادي الله المؤمنين فيدعوهم إِلى الابتعاد عن نار لا تشبه نيران الدنيا في اتقادها وقسوة أَثرها، بل تربو وتزيد على ذلك حيث إِنها تتقد بالناس والحجارة كما يقول سبحانه: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وذلك بأَن تأخذوا أَنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات وتأخذوا أَهليكم بما تأخذون به أَنفسكم بجعلهم موضع عنايتكم بما تولونهم من نصح وإِرشاد حتى لا تكونوا في أَشد العذاب كما قيل: من أَشد الناس عذابًا يوم القيامة من جهل أَهلة، روي أَن عمر - رضي الله عنه - قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أَنفسنا فكيف لنا بأَهلينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "تنهوهن عمَّا نهاكم الله عنه، وتأمروهن بما أَمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار" والمراد بالأَهل كما قيل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأَمة، وأَدخل بعضهم الولد في الأَنفس؛ لأَنه بعض أَبيه واستدل بالآية على أَنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاءِ ويشير قوله تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) إِلى أَن أَمر تلك النار يدعو إِلى العجب والاهتمام لأَنها لا تتقد بالحطب كما هو شأن نيران الدنيا وإِنما تتقد بالأَجساد والأَحجار. قيل: المراد بها الأَصنام التي كانت تعبد من دون الله لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (¬1). وقال ابن مسعود وغيره: هي حجارة من كبريت زاد مجاهد أَنتن من الجيفة، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنم أَعظم من جبال الدنيا كلها" وقد أُمر المؤمنون باتقائها؛ لأَنها معدة للكافرين. (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) أَي: أَنه موكل عليها ملائكة يلون أَمرها وتعذيب أَهلها. قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، وفي أَجسامهم غلظة وشدة (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: من الآية 98.

مَا أَمَرَهُمْ) بمعنى أَنهم لا يمتنعون من الأَمر، ويلتزمونه (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فيؤدونه، ويبادرون إِليه من غير تثاقل فيه ولا توان عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله في شدة وقوة وهؤلاءِ هم الزبانية، والجملتان ليستا في معنى واحد، إِذ الأولى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) لنفي المعاندة والاستكبار عنهم، والثانية (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) لنفي الكسل والتثاقل عنهم وأَنهم يفعلون الأَمر في وقته فلا يقدمون ولا يؤخرون وعلى ذلك فلا تكرار. وفي المحصول المعنى لا يعصون الله فيما مضى والإِتيان بالمضارع لحكاية الحال الماضية، ويفعلون ما يؤمرون في الآتي. 7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)}: أَي: يقال لهم ذلك عند إِدخال الملائكة إِيَّاهم النار حسبما أُمروا به من الله تعالى ويراد من اليوم، اليوم المعهود وهو يوم الجزاء، ونهيهم عن الاعتذار؛ لأَنهم لا عذر لهم أَو لأَن العذر منهم يذهب سدي ولا ينفعهم إِذ ذاك، يوم لا ينفع المرءَ حينئذ إِلا ما قدمت يداه. وهذا النهي لإِدخال اليأْس في قلوبهم (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أَي: تجزون وتعاقبون على الكفر والمعاصي التي اقترفتموها في الدنيا بعد ما نهيتم عنها نهيًا شديدا زاجرا وأُمرتم بالإِيمان والطاعة أَمرًا كاملًا فلم تنتفعوا بترك ما حذرتم منه وفعل ما وجهتم إِليه، بل استمرأتم الضلال، وتمسكتم بالعصيان. 8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)}: أَي: توبوا معشر الذين انقادت قلوبهم إِلى توبة بالغة الغاية في النصح وقد وصفت التوبة بذلك على المجاز؛ لأَن النصح وصف التائبين، وهو أَن ينصحوا أَنفسهم بالتوبة، فيأتوا بها على طريقها المرسوم، وذلك بأَن يتوبوا عن القبائح لقبحها نادمين على فعلها مغتمين أَشد الاغتمام لارتكابها عازمين على أَنهم لا يعودون إِليها، موطنين أَنفسهم على ذلك

بحيث لا يصرفهم عنه صارف أَصلًا، ويؤيد ذلك ما أَخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: (أَن يندم على الذنب الذي أَصاب فيعتذر إِلى الله تعالى ثم لا يعود إِليه كما لا يعود اللبن إِلى الضرع). وروى تفسيرها بما ذكر عن عمر وابن مسعود وأُبيّ والحسن وغيرهم، وعن عمرو بن العلاء قال: سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح أَن تبغض الذنب كما أَحببته، وتستغفر منه إِذا ذكرته. وقال الإِمام النووي: التوبة ما استجمعت ثلاثة أُمور: أَن يقلع عن المعصية، وأَن يندم على فعلها، وأَن يعزم عزمًا جازما أَلا يعود إِلى مثلها أَبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي لزم أَمر رابع وهو رد الظلامة إِلى صاحبها أَو وارثه أَو تحصيل البراءَة منه، وركنها الأَعظم الندم، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف، وانسكاب الدمع. وفي شرح المقاصد قالوا: إِن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفرها الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف، وترك الأَمر بالمعروف، وقد تفتقر إِلى أَمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة. وظاهر الأَخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت، ويتحقق أمره عادة، ومقتضى كلام النووي والمازني وغيرهما وجوبها عند التلبس بالمعصية ولا يجوز تأخيرها سواءٌ أَكانت صغيرة أَم كبيرة. وقيل: المراد توبوا إِلى الله توبة ترفو خروقك في دينك، وترم خللك من نصاحة الثوب أَي: خياطته، وقيل: توبة خالصة من الذنوب من قولهم: عسل ناصح إِذا خلص من الشمع. {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}: قيل: إِن المراد أنه سبحانه بفعل ذلك على التحقيق، ووروده بتلك الصيغة للإِطماع جريا على سنن الملوك من الإِجابة بعسى ولعل ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، وللإِشعار بأَن تكفير الذنوب تفضُّل والتوبة غير موجبة، وأَن العبد ينبغي أَن يكون في خوف ورجاءٍ وإِن بالغ في وظائف العبادة.

وقبول توبة غير الكافر مسأَلة خلافية بين المعتزلة القائلين: بأَنه يجب على الله قبولها عقلًا، وبين إِمام الحرمين والقاضي أَبي بكر حيث يقولان: بأَنه يجب اعتقاد قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إِذ لم يثبت في ذلك نص قاطع في غفران ذنوب المسلم بالتوبة لا يقبل التأويل والدليل الظني كقوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬1)، وأَما حديث التوبة تجبُّ ما قبلها فليس بمتواتر، وقيل غير ذلك، والتفصيل تكفل به علم الكلام. وأَما توبة الكافر فالإِجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (¬2) ولأَنه إِذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإِيمان، وسوقًا إِليه، وإِذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدًّا لباب العصيان ومنعا منه. وبالتوبة النصوح يدخلكم الله - جل شأنه - جنات تجري من تحت قصورها وبين أَشجارها أَنهار تجد فيها النفس ما تهواه وما تشتهيه وذلك (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ). والمراد بنفي الإِخزاء إِثبات الكرامة والعز، وفيه تعريض بمن أَخزاهم الله من أَهل الكفر والفسوق، وحث للمؤمنين على مضاعفة الحمد والثناءِ على الله حيث عصمهم من مثل حال الكفار، ويقصد بالإِيمان نوره الكامل على ما ذكره الخفاجي (نُورُهُم سْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين عند مرورهم على الصراط. قال الضحاك: ما من أَحد إِلاَّ يُعطى نورا يوم القيامة، فإِذا انتهوا إِلى الصراط طفيء نور المنافقين، فلما رأَى ذلك المؤمنون أَشفقوا أَن يطفأ نورهم كما طفيءَ نور المنافقين فقالوا: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا)، وكون هذا القول يقوله المؤمنون إِذا طفيءَ نور المنافقين نقل أَيضا عن مجاهد وابن عباس وغيرهما، وعن الحسن أَنهم يقولون ذلك تقربا إِلى الله مع تمام نورهم، وقيل: تتفاوت أَنوارهم بحسب أَعمالهم فيسأَلون إِتمامها تفضلًا، وقيل: السابقون إِلى الجنة ¬

_ (¬1) سورة الزمر: من الآية 53. (¬2) سورة الأنفال: من الآية 38.

يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا وأُولئك هم الذين يقولون: (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا). (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَي: إِنك البالغ القدرة على كُل شيءٍ من المغفرة والعذاب، والرحمة والعقاب واستجابة الدعاء وتحقيق الرجاء. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} المفردات: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ): من الغلظة وهي الشدة أَي: واستعمل الشدة والخشونة مع الفريقين في جهادهما. (وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ): المأوى المسكن أَي: ومسكنهم جهنم. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): جهنم أَو مأواهم. التفسير 9 - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)}: المعنى: جاهد أَيها النبي الكفار بالقتال، والمنافقين بالحجة وإِقامة الحدود، واستعمل مع الفريقين الشدة والخشونة فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة، وعن الحسن أَكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان من صيغ المنافقين، فأَمر - عليه الصلاة والسلام - أَن يغلظ عليهم في إِقامة الحدود.

(وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): بمعنى أَن مسكنهم الذي يرجعون إِليه في الآخرة جهنم التي سيذوقون فيها أَشد العذاب، وأَقساه، وقبح ذلك المسكن الذي كبكبوا فيه هم والغاوون لما اشتمل عليه من شدائد وأَهوال تجعل الوالدن شيبا. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} المفردات: (فَخَانَتَاهُمَا): من الخيانة وهي مخالفة الحق نقضا للعهد بما صدر عنهما من كفر وعصيان، ونقيضها الأَمانة. ولا تفسر الخيانة بالفجور لما يأتي في الشرح. (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا): أَي: من عذابه شيئا من الإِغناءِ. (ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ): أَي: مع سائر الداخلين الذين لا صلة لهم بالأَنبياء. (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا): أَي صانته عن دنس المعصية.

التفسير 10 - {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}: ضرب المثل في مثل هذا عبارة عن إيراد حالة غريبة لتُعرف بها حالة أُخرى مشاكلة لها في الغرابة. والمعنى: مثَّل الله - عز وجل - حال الكافرين في أَنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة، ولا يجديهم نفعًا مع عداوتهم لهم، ما كان بينهم من المنسب والمصاهرة، وإِن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيًّا. مثل الله ذلك بحال امرأَة لوط حالًا ومآلًا (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) أَي: في عصمة نبيين عظيمي الشأن رفيعي القدر عندهما ليلًا ونهارًا يواكلاَنهما ويعاشرانهما متمكنين من تحصيل خيري الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما (فَخَانَتَاهُمَا) بما صدر عنهما من كفر وعصيان مع تحقيق ما ينافيهما من مرافقة كلتيهما لنبي كريم، أَما خيانة امرأَة نوح فكانت تقول للناس عنه: إِنه مجنون، وأَما خيانة امرأَة لوط فكانت تدل على ضيف زوجها إِذا نزل به. رُوي ذلك عن جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس. وأَخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن الضحاك أَنه قال: خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية أُخرى كانتا إِذا أَوحى الله تعالى بشيءٍ أَفشتاه للمشركين. ولا تفسر الخيانة بالفجور لما أَخرج غير واحد عن ابن عباس ما زنت امرأَة نبي قط ورفعه أَشرس إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال صاحب الكشاف: لا يجوز أَن يراد بالخيانة الفجور؛ لأَنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أَحد. وفي هذا تصوير لحال المرأَتين المماثلة لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإِيمان والطاعة. وقوله تعالى (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا) بيان لما أَدى إِليه خيانتهما أَي: فلم يغن الرسولان الكريمان عن المرأَتين بحق ما بينهما وبينهما من صلة الزواج إِغناءً مَا من عذاب

الله لكفرهما بالرسولين وإِفشاءِ أَسرارهما، وقيل لهما عند موتهما أَو يوم القيامَة: ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا صلة بينهم وبين الأَنبياء أَو مع داخليها من إِخوانكما من قوم نوح وقوم لوط. 11 - {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)}: المعنى: مثَّل الله حال المؤمنين في أَن وصلة الكفار لا تضرهم، ولا تنقص شيئًا من أجورهم وزلفاهم عند الله؛ بحال مرأَة فرعون، منزلتها العظيمة، ومكانتها الرفيعة عند الله ولم ينقضها أَنها كانت تحت أَعدى أَعداءِ الله وذلك (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) أَي: قريبًا من رحمتك: لأَنه تعالى منزه عن المكان، وجوز أَن يكون المراد بعندك أعلى درجات المقربين؛ لأَن ما عند الله خير لإِرادة القرب من العرش، قالت ذلك وهي تعذب بالأَوتاد الأَربعة. أَخرج أَبو يعلى والبيقهي بسند صحيح عن أَبي هريرة أَن فرعون أَوتد لإمرأَته أَربعة أَوتاد في يديها ورجليها. فكانت إِذا تفرقوا عنها أَظلتها الملائكة - عليهم السلام - فقالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). وفي رواية عبد بن حميد عن أَبي هريرة عنه أَنه قال: إِنه وتد لها أَربعة أَوتاد وأَضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إِلى السماءِ فقالت: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). روى أَنها لَمَّا قالت ذلك رأَيت بيتها في الجنة درة، وانتزعت روحها، وهي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى - عليه السلام. (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ): أَي: من نفسه الخبيثة؛ لأَنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه ثم طلبت ثانيًا النجاة من عمله تنبيهًا على أَنه الطامة الكبرى فهو الكفر،

والظلم والتعذيب، وغير ذلك من القبائح (وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط كلهم فهم تابعون له في الظلم قاله مقاتل وهم أَهل مصر إِذ ذاك. 12 - {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}: عطف قوله - سبحانه -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) على امرأَة فرعون أَي: ضرب الله مثلًا للذين آمنوا حالها وما أُوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاءِ على نساءِ عالمي زمانها مع أَن أَكثر قومها كانوا كافرين، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأَرامل وتطبيقًا لقلوبهن كما قيل وهي من أَعقاب هارون أَخي موسى - عليهما السلام - وقد صانت فرجها وحفظته من الرجال أَو من دنس المعصية (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) المخلوقة لنا بلا توسط أَصل، والنافخ جبريل - عليه السلام - وإِسناده إِليه - تعالى - على المجاز أَو على حذف مضاف بمعنى فنفخ رسولنا فيه أَي في الفرج. والذي اشتهر بين العلماءِ أَن جبريل نفخ في جيبها (¬1) فوصل أَثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى - عليه السلام -، وقد روي عن قتادة وقال الفراءُ: ذكر المفسرون أَن الفرج جيب درعها (¬2) وهو محتمل لأَن الفرج في اللغة فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأَة مشقوق فهو فرج، وهذا أَبلغ في مدحها والثناءِ عليها؛ لأَنها إِن منعت جيب درعها فهي للنفس أَمنع وفي ذلك من الوصف بالعفة ما فيه وفي مجمع البيان عن الفراءِ أَنها منعت جيب درعها عن جبريل - عليه السلام - لَمَّا تمثل لها بشرًا سويًّا وكان ذلك على ما قيل: قولها: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا) (¬3). (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ): أَي: آمنت بصحفه المنزلة على إِدريس وغيره، أَو بما أَوحي منها إلى أَنبيائه، وسماها كلمات لقصرها وصدقت كذلك بجميع كتبه والمراد بما ما عدا الصحف مما فيه طول أَو يراد بها جميع ما كتب ممَّا يشمل اللوح وغيره، وكما قيل ¬

_ (¬1) جيب القميص ما ينفخ على النحر أهـ مصباح. (¬2) الدرع القميص. (¬3) سورة مريم: من الآية 18.

يجوز أَن يراد بالكلمات وعده - تعالى - ووعيده أَو ذلك وأمره - عز وجل - ونهيه إِلى غير ذلك من أَقوال. (وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ). من عدا المواظبين على الطاعة المؤثرين لها، والتذكير على التغليب حيث لم يقل من القانتات، والإِشعار بأَن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم وهذا أَبلغ من التأنيث، وجوز أَن يكون المعنى وكانت من نسل القانتين لأَنها من سلالة هارون أَخي موسى - عليهما السلام - (وعليه تكون مِنْ لابتداءِ الغاية لا للتبعيض) ومدحها بذلك لما أَن الغالب أَن الفرع يتبع أَصله، وهي على ما في بعض الأَخبار سيدة النساء ومن أَكملهن. روي أَحمد في مسنده سيدة نساءِ أَهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة، وفي الصحيح كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساءِ إِلاَّ أَربع: آسية بنت مزاحم امرأَة فرعون، ومريم ابنه عمران، وخديجة بنت خلويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة على النساءِ كفضل الثريد على سائر الطعام، وهي حَرِيَّة بمزيد من الفضل. وحسبك أَنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت عنه ما لم يرو مثلها أَحد من الرجال. ثم لا يخفى أَن فاطمة - رضي الله عنها - وهي بضعة من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها في الفضل أَحد.

سورة الملك

سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون آية مقاصدها: تتضمن هذه السورة تنزيه الله الذي في قدرته الملك وهو على كل شيءٍ قدير، كما تصفه بأنه - سبحانه - خلق الموت والحياة ليختبرهم ويجزيهم على أَعمالهم، إِن خيرًا فخير وإِن شرًّا فشر، وتصفه بأَنه خلق سبع سموات طباقًا لا عيب فيها، وأَنه زين السماءَ الأُولى بمصابيح وهي النجوم، وتوعدت السورة الذين كفروا بربهم بعذاب جهنم، وتصف حالهم فيها واعترافهم بخطئهم في الكفر، وتعقب ذلك ببيان حسن المصير للمتقين، وأَنه - تعالى - يعلم أَعمال عباده خفية كانت أَو علنية، وأَنه ذلَّل الأَرض ومدَّها لكي تتيسر لهم الأَرزاق يسيرهم فيها طلبًا للرزق، وحذرت الكفار من أَن يخسف الله بهم الأَرض، أَو يرسل عليهم ريحًا ترميهم بالحصباءِ، ووجهت نظرهم إِلى أَنه - تعالى - سَهَّل للطير أَسباب الطيران في الجو، ولولا ذلك ما استطاعت، وأَنه تعالى لو أَمسك رزقه عن الناس فلا رازق لهم سواه، وبينت أَنه - سبحانه - خلقهم ومنَّ عليهم بالسمع والأَبصار والقلوب، وأَنه خلقهم في الأَرض وإِليه البعث والنشور بعد الموت، وبينت أَن الكفار يسأَلون رسولهم عن موعد هذا البعث وأَنه - تعالى - أَمر رسوله بإِبلاغهم أَن علم ذلك عند الله وحده، وذكرت أَنه لو أَهلك النبي ومن معه كما تمني الكفار، أَو رحِمهم بالإِبقاءِ فمن الذي يجير الكافرين من عذاب أَليم ينتظرهم يوم القيامة لكفرهم، وبينت أَنه - سبحانه هو الرحمن لمن آمن به، وهو الذي يجيرهم من عذاب أليم، وأَن الماءَ لو أَذهبه الله من الآبار فمن الذي يأتيهم بماء معين سواه، ومن كان هذا شأنه في ملكه فلا بد من الإِيمان به. صلة هذه السورة بما قلبها: لما ضرب الله مثلا للكفار في آخر السورة التي قبلها بامرأَة نوح وامرأَة لوط الكافرتين، وأَنه لم يشفع لهما كونهما زوجتيين لرسولين، وضرب مثلا للمؤْمنين بآسية امرأَة فرعون،

أسماء السورة وفضلها

ومريم ابنة عمران، ولم يضر الأُولى كفر زوجها، كما لم يضر الثانية كون أَكثر قومها كفارًا، افتتح هذه السورة بما يدل على تصرفه الكامل في ملكه فقال - سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) إلي غير ذلك من الأُمور المشتركة بينهما. أسماء السورة وفضلها: جاءَ في تعدد أَسمائها أَحاديث يؤْخذ منها أَنها تسمى "تبارك" و"المانعة" و"المنجية"و "المجادلة" كما تسمى سورة "الملك"، وقد ذكر هذه الأَحاديث الآلوسي في مستهل كلامه عنها، ولم نذكرها تجنبًا للإِطالة. وقد جاءَ في فضلها حديث أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِن سورة من كتاب الله ما هي إِلا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ). وفي حديث رواه الطبراني، وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود "مَنْ قرأَها في ليلة فقد أَكثر وأَطيب". إِلى غير ذلك من الأحاديث.

(بسم الله الرحمن الرحيم) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} المفردات: (تَبَارَكَ): تعالى وتقدس. (بِيَدِهِ الْمُلْكُ): تحت قدرته وطوع أَمره ملك السموات السموات والأَرض. (لِيَبْلُوَكُمْ): ليختبركم. (سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا): بعضها فوق بعض، جمع طبق أَو طبقة. (فُطُورٍ): شقوق وخروق. (كَرَّتَيْنِ): أَي: رجعة بعد أُخرى، فالمراد من الرجعتين التكرار بكثرة. (خَاسِئًا): صاغرًا متباعدًا عن أَن يرى شيئًا من ذلك. (وَهُوَ حَسِيرٌ): حسير بمعنى حاسِر، وهو من الحسور بمعنى الإِعياءِ والتعب.

التفسير 1 - {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}: أَي: تعالى الله الذي تحت قدرته وطوع مشيئته ملك السموات والأَرض، يدبره ويزيد فيه بحكمته وتعاظم عن كل ما سواه في ذاته وفي صفاته وفي أَفعاله، وتقدس وتنزه عن الشريك والنظر في إِبداع هذا الملك العظيم، فكل ما سوى الله مخلوق له - جل وعلا -، وهو على كل شيءٍ لم يوجد من الممكنات عظيم القدرة على إِيجاده وتحقيقه (¬1). 2 - {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}: هذه الآية استئناف لتفصيل بعض أَحكام الملك وآثار القدرة، وبيان ابتنائهما على قوانين الحِكَم واستتباعهما لغايات جليلة. والموصول هنا (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) بدل من الموصول السابق (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، وصلته كصلته في الشهادة بتعالية - عز وجل -. وجوز الطبرسي كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، أَي: هو الذي. وبين الله - تعالى - الحكمة في خلقهما بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَي: ليعاملكم معاملة المختبر ليظهر أَيكم أَصواب عملًا وأَخلصه، فيجازيكم بمراتب مختلفة من الجزاءِ حسب تفاوت أَعمالكم، وهو عليم أَزلا بما سوف يحصل منكم باختياركم: والمراد من العمل ما يشمل عمل القلب والجوارح، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الآية: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وأَورعكم عن محارم لله - تعالى - وأَسرع في طاعة الله - عز وجل -. وعلق عليه الآلوسي بقوله: أَي: أَيكم أَتم فهما لما يصدر عن جنات الله - تعالى - وأَكمل لما يؤخذ من خطابه - سبحانه -. وأَجيب بأَن المقصد الأَصلي للابتلاءِ هو ظهور كمال إِحسان المحسنين مع تحقيق أَصل الإِيمان والطاعة في الباقين أَيضًا -، لكمال تعاضد الموجبات له، وأَما العمل القبيح فبِمعْزل ¬

_ (¬1) هكذا فسر صاحب الكشاف جملة: (وهو على كل شيء قدير) لتتضمن معنى جديدا غير ما تضمنه صدر الآية.

عن الاندماج تحت الوقوع، فضلًا عن الانتظام في سلك الغاية أَو الغَرضِ - عند من يراه لأَفعال الله - عز وجل - وإِنما هو عمل يصدر عن عامله لسوءِ اختياره من غير مصحح له، وفيه من الترغيب في الترقي إِلى معارج إِلى العلوم ومدارك الطاعات ما لا يخفى. انتهى من الآلوسي بتصرف يسير. وختم الله بقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ): أَي: الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أَساء، الغفور لمن أَساءَ منهم أَو تاب. 3 - {الَّذِي (¬1) خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)}: كل ما علاك سماء، من السمو بمعنى الرفعة، ولهذا يطلق لفظ السماءِ على الغلاف الجوي الأَزرق الذي يعلو الأَرض، ويحيط بها، ويطلق أَيضًا على السحب الممطرة أو غيرها، بل يطلق على المطر نفسه مجازًا، لأنه نزل من السماء بمعنى السحاب، يقول بعض العرب: ما زلنا نطأُ السماءَ حتى أَتيناكم، أَي نطأ المطر الذي فوق الأَرض، وكذلك يطلق على النجوم والكواكب لارتفاعها. والمراد من السموات السبع غير هذا كله فهي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وهي التي عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إِليها. ولا سبيل إِلى أَن يراد منها النجوم والكواكب، لأَنها زينة للسماءِ الدنيا - أَي: الأُولى - لقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) (¬2) وقوله: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (¬3). ولا شك أَن زينة الشيءِ غير هذا الشيءِ، فمثلا زينة الفتاة غير الفتاة نفسها، والله - تعالى - يقول في سورة الكهف الآية 7: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) فالأَشجار والزروع والجبال ونحوها زينة للأَرض وليست هي الأَرض. ¬

_ (¬1) لفظ (الذي) نعت للعزيز الغفور، أو بيان، أو بدل، ولفظ (طباقا) صفة لسبع. (¬2) من الآية الخامسة لهذه السورة. (¬3) الآية السادسة من سورة الصافات.

كما أَن النجوم والجبال ليست سبعًا، لا في نفسها ولا في المجرات التي تتبعها، فهي ملايين الملايين التي لا يحصيها إِلاَّ الله - تعالى -، كما أَن عدد المجرات وعدد طبقاتها لا يحصيه إِلاَّ الله - تعالى - وليست سبعًا. وهذه الآية من أَعظم الآيات على تعاليه - سبحانه - فوق كل شيء. والمراد من التفاوت في قوله - سبحانه -: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (¬1) المراد منه الاختلاف وعدم التناسب، وفسره السُّدِّي بالعيب، وإِليه يرجع قول من قال: أَي: من تَفَاوُتٍ يورث نقصًا، والفطور هي الشقوق، جمع فَطْرٍ بمعنى شقٍّ يقال: فطره فانفطر أَي: شقه فانشق، والمراد نفي الجلل والعيب في خلقها، والخطاب في الآية لكل من يصلح له من المكلفين. والمعنى الإِجمالي للآية: الذي خلق سبع سموات بعضها فوق بعض طباقًا، ما ترى فيها أَيها الناظر من عيب أَو اختلاف في درجات الإِتقان والإِبداع، فإِن كنت في شك من ذلك فردِّدْ طرفك في نواحيها وقلبه في أَرجائها فانظر هل ترى في خلق الرحمن من عيوب؟ والتعبير بلفظ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) بدلًا من أَن يقال: مَا تَرَى فيِ خَلْقِ القادر، للإِيذان بأَنه - تعالى - خلقها بقدرته رحمة بعباده. 4 - {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}: أَي: ثم ردِّد البصر وقلبه في أَرجاءِ السماءِ، يرجع إِليك بصرك بعدهما بالصغار وعدم إِصابة الغرض من رؤْية خلل أو عيب فيها، كأَنما طردته السماءُ عن أَن يعود إِلى البحث عن عيب فيها، من خسأَ الكلب أَي: طرده. وفسر بعض اللغويين لفظ (خَاسِئًا) بـ "متحيرًا". ¬

_ (¬1) هذه الجملة نعت ثان للعزيز الغفور.

وليس المقصود من الكرتين المرتين فقط، بل المراد منه كثرة التكرير، أَي: رجعات كثيرة بعضها في إِثر بعض، كما قالوا في لبيك وسعديك: أَي إِجابات كثيرة لك يا الله لدعوتك إِيانا للحج إِلى بيتك المحرم، ومن تفسير المثنى بالكثير قول الشاعر: لو عُدَّ قَبرٌ وقبرٌ كان أَكرمَهُم ... بيتًا وأَبعدهم عن منزل الذَّامِ لأَنه يريد: عُدَّت قبور كثيرة. {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)} المفردات: (السَّمَاءَ الدُّنْيَا): السماء القربى منكم وهي الأُولى. (بِمَصَابِيحَ): جمع مصباح وهو السراج، والمراد منها النجوم، سميت بذلك لإِضاءَتها. (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا): رجوما جمع رجْم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به، أَي: وجعلنا شهبها التي هي مصدرها. (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ): أَي: وأَعددنا للشياطين أَشد الحريق، يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعيرة أَي: أَوقدتها فهي موقدة.

التفسير: 5 - {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)}: دلت الآية السابقة على أَن هذه المصابيح زينة للسماءِ الدنيا وليست هي السماء الدنيا كلها تقدم بيانه. وكلها تدور بقدرة الله في الفضاءِ على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة، ومجاريها فيه هي أفلاكها، وقد ارتبط بعضها ببعض برباط الجاذبية، ولكل منها حركات حول نفسها وحركات غير ذلك، وهي متفاوتة قربًا وبعدًا تفاوتًا لا حد له، وإن منها ما لا يصل شعاعة إِلينا إِلا بعد عدة سنين، في حين أَن شعاع شمسنا يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية، مع أَن بيننا وبينها أَربعة وثلاثين مليونًا من الفراسخ (¬1) فما أَعظم قدرة الله وحكمته في إِبداع هذا الكون العظيم. وجاءَ في الآية أَن الله تعالى جعل هذه المصابيح رجومًا للشياطين، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به - كما تقدم في بيان المفردات - والمقصود أَنها مصدر رجم الشياطين، للحيلولة بينهم وبين استراق السمع من الملائكة الذين حول الأَرض، وهم يتحدثون في بعض أَمور الغيب التي وكلت إِليهم، ولكن هذه المصابيح لا تترك مدارها، فهي باقية فيه حتى تنفطر السماءُ وتنتشر الكواكب، وتبدل الأَرض غير الأَرض، والسماوات غير السموات، وفي كون الرجم بأَجزاء صغيرة جدًّا من تلك الكواكب وتسمي شهبًا يقول الله - تعالى - في سورة الصافات: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (¬2) وفي سورة الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا ¬

_ (¬1) هذه المعلومات عزاها الآلوسي لعلماء الهيئة وقد نقلناها عنه. بتصرف يسير. (¬2) الآيات من 6 - 10.

مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (¬1). والمقصود من السماءِ التي كانوا يقصدونها الجو الذي يعلو الأَرض، فإِنه يسمى سماء لغة، لِسُمُوِّهِ، أَي: لارتفاعه. وقد عرفنا من هاتين الآيتين وغيرهما من الأَحاديث أَن الجن كانوا يسترقون السمع قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الملائكة في جو الأَرض، وينقلون ما يسمعون من الغيب إِلى كهان الأَصنام من أَجواف هذه الأَصنام، فيستغله الكهان ويضيفون إِليه ما شاءُوا من الأَكاذيب تقوية لزعامتهم الدينية. وقد دلت الآيتان على أَن السماءَ - أَي: الجو الذي حول الأَرض - ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا وأَن من يستمع الآن يجد له شهابًا يرصده فيقتله، وذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسلم الوحي من أَراجيف الشياطين، كما دل عليه قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)) (¬2) وكما دلت عليه السنة. وهذه الظاهرة التي وجدوها في حراسة السماءِ جعلتهم يبحثون عن سببها حتى سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ القرآن، ويدعو إِلى عبادة الله - تعالى - وحده فآمن منهم من آمن، وفي ذلك يقول الله - تعالى - حكاية عن هؤُلاء الجن: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) (¬3). ونزول الشهب المضيئة المحرقة ظاهرة كونية قديمة ناشئة عن انفصال أَجزاء صغيرة من هذه الكواكب وجذب الأَرض لها فتشتغل من سرعة وقوة احتكاكها بالهواءِ، والله - تعالى - ¬

_ (¬1) سورة الجن الآيتان 8، 9. (¬2) سورة الجن من الآية 26 إلي آخر السورة. (¬3) سورة الجن الآيات من 13 - 15.

هو الذي يعلم لماذا كانت تنزل قبل البعثة المحمدية ويعلم مختلف مصادرها، وقيل في معنى الآية: وجعلناها ظنونًا ورجومًا لشياطين الإِنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولكن الآلوسي رفض هذا الرأي، ونحن كذلك نرفضه لأَنه مخالف للنصوص الأُخرى التي مرّ ذكرها. وقد ذكر القرطبي ردًّا على ذلك قول محمد بن كعب: والله ما لأَحد من أَهل الأَرض في السماءِ نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا، ويتخذون الكهانة سبيلا، ويتخذون النجوم عِلَّة، ونقل أَيضا عن قتادة تعليقًا على الآية قوله: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماءِ، ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأَوقات، فمن تأَول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم. وتعقيبًا على ما قاله قتادة نقول: إِن هذه الأُمور الثلاثة مأخوذة من نصوص في القرآن الكريم، ولكنها لا تمنع أَن تكون لها غايات أَعظم غير هذه الأُمور الثلاثة، ولكن الله - تعالى - لم يصرح بها لأَنها من شئون الغيب الذي استأثر الله بالعلم به لأَن البشر ليسوا بحاجة إِلى علمها، ولأَنها فوق مستوى عقولهم. والمعنى الإِجمالي للآية: ولقد زينا السماءَ الأُولى بأَجرام شبه المصابيح في إضاءَتها فتخفف ظلام الليل، وجعلنا المصابيح مصادر للشهب التي يرجم بها الشياطين الذين يحاولون استماع الغيب من الملائكة الذين يوجدون في سماءٍ هي جوّ الأَرض إِذا لا قدرة لهم على الوصول إِلى أَي كوكب من كواكبها، فضلا عن استحالة وصولهم إِلى السماءِ نفسها. وأَعْددْنا لهؤْلاءِ الشياطين ولأَمثالهم في الكفر عذاب النار المشتعلة في الآخرة بعد الإِحراق في الدنيا لمسترقي السمع منهم بالشهب، فإن قيل: إِن الشياطين خلقوا من النَّار فكيف يعذبون بها؟ قلنا: إِن النَّار هي مادة خلقهم، ولكنهم تحولوا إِلى أَجسام أخرى قابلة للاحتراق بها، كما تحول بنو آدم من الطين إِلى أَجسام خالية من الطين. 6 - 7 - {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)}:

أَي: وللكافرين بربهم من الإِنس عذاب جهنم مثل ما للجن من عذاب، وبئس المآل والمرجع لكليهما جهنم، إذا طرح فيها هؤُلاءِ الكافرون، سمعوا لها وهي تغلي وتفور - سمعوا لها - صوتًا منكرًا يشبه في فظاعته ونكره صوت الحمير. وكما يعذب الكافرون بالنَّار يعذب عصاة المؤمنين بها، كما تدل عليه النصوص الواردة بشأنهم في آيات أُخرى، فلا حُجَّةَ للمرجئة في الاستدلال بالآية الأُولى على أَن التعذيب بالنَّار خاص بالكفرة دون عصاة المؤمنين. {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} المفردات: (تَمَيَّزُ (¬1) مِنْ الْغَيْظِ): تتقطع وينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ على أَعداءِ الله وفي هذه الجملة استعارة تصريحية أَو مكنية تخييلية، وقيل: إِنه حقيقة، وذلك بأَن يخلق الله فيها إِدراكًا فتغتاظ. (فَوْجٌ): جماعة من الكفار، (خَزَنَتُهَا): حراسها من الملائكة. (نَذِيرٌ): رسول ينذركم. (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ): نعم قد جاءَنا نبي ينذرنا سوءَ عاقبة الكفر. (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ): فبعدًا لهم عن رحمة الله. ¬

_ (¬1) أصله تتميز فحذفت التاء الأولى تخفيفا وهي تاء المضارعة.

التفسير: 8، 9 - {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}: استئناف لبيان أَحوال أَهل النَّار بعد بيان حال النَّار نفسها. والمعنى: تكاد جهنم تتقطع من شدة غضبها على الكفار، كلما أُلقي في النَّار جماعة منهم سأَلهم حراسها - وهم مالك وأَعوانه من الملائكةِ - سألوهم - موبخين قائلين: أَلم يأتكم رسول يتلو عليكم آيات الله، وينذركم لقاءَ يومكم هذا؟ أَجابوا معترفين قائلين: نعم قد جاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا فيما جاءَنَا به من الآيات: ما أَنزل الله على بشر من شيءٍ وكما قلنا لهؤُلاءِ الرسل: ما أَنتم في ادعاءِ رسالتكم عن الله إِلا في ضلالٍ وبعد كبير عن الحق والصواب، وجوز الزمخشري أَن يكون هذا من كلام خزنة النَّار للكفار. 11،10 - {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}: هذا اعتراف آخر من أَهل النَّار، وكأَن خزنة النَّار قالوا لهم، أَلم تسمعوا آيات ربكم وتعقلوها؟ فقالوا معترفين: لو كنا نسمع كلام الرسل سماع فهم وتدبر أَو نعقله، ما كنا في أَصحاب النار، أَي: في عدادهم ومن جملتهم، فكلام الرسل كان أَولى بتصديقنا لكونه جاريًا على سُنَّة الحجة، ومبنيًّا على البرهان، فكان هذا اعترافًا من الكفار بذنبهم في الإعراض عن الحق المبين، فبُعْدًا لهم عن رحمة الله. {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}

المفردات: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): عليم بما انطوت عليه الصدور من الخير والشر. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ): أَلا يعلم الله من خلقه ذاتًا وأَحوالًا. (وَهُوَ اللَّطِيفُ): العالم بالخفيات. (الْخَبِيرُ): العالم بما يكون قبل أَن يكون. التفسير: 12 - {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}: بعد أَن ذكرت الآيات السابقة أَحوال أَهل النَّار من الكفرة، جاءَت هذه الآية لتبشر المتقين بأَن لهم في الآخرة مغفرة وأَجرًا كبيرًا. والمعنى: إِن الذين يخافون عذاب ربهم غائبًا عنهم أَو غائبين عنه لأَنه مستقبل وغيب لا سبيل إِلى رؤْيته، أَو غائبين عن أَعين النَّاس غير مرائين بخشيتهم لربهم، أَو يخشونه بما خفي منهم وهو قلوبهم، لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم، وثواب كبير لا حد لكبره. 13 - 14 - {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}: الخطاب هنا لجميع عباد الله لتعريفهم سعة علمه - تعالى - من غير حدود، وأَنه لا فرق عنده - سبحانه - بين السر والجهر، فهما عنده على سواء. ومعني الآيتين: وأَسروا يا عباد الله قولكم واجعلوه خفيًّا أو اجهروا به وأَعلنوه فإِن الله تعالى بكليهما عليم؛ فهو - سبحانه - واسع العلم بمضمرات جميع الخلائق وأَسرارهم المستكنة في صدورهم لا تفارقها، فكيف تخفى أَعمالكم وأَقوالكم التي يجازيكم عليها. أَلا يعلم ذلك من أَوجد بحكمته جميع الأَشياءِ التي هي من جملتها، والحال أنه تعالى هو العالم بخفايا الأُمور، الخبير بما يستجد منها.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} المفردات: (ذَلُولًا): سهلة تستقرون عليها، والذلول: المنقاد الذي يذل ويخضع لك، والمصدر الذُّل وهو اللين والانقياد. (فِي مَنَاكِبِهَا): في جبالها كما قاله ابن عباس، أَو طرقها وفجاجها كما قاله الحسن، قال القرطبي: وأَصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، والريح النكباءُ، وتنكب فلان عن فلان - أَي: اجتنبه - والأَمر بالمشي فيها للإرشاد والطلب. التفسير: 15 - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}: والمراد من هذه الآية - على تفسير ابن عباس للمناكب - أَنه تعالى جعل الأَرض كلها سهلة السلوك لطلب الرزق سهولًا وجبالا. والمعنى عليه: هو الله وحده الذي جمل الأَرض حين خلقها سهلة منقادة للإِنسان في إِقامته وفي مشيه لطلب الرزق وسواه من الأَغراض، فلا يمتنع عليه شيء فيها حتى جبالها، فقد أَوجد فيها مسالك للمشي فيها، فامشوا في مناكبها وجبالها، وكلوا من رزقه بسعيكم إِليه في إِقامتكم وفي أَسفارهم، وإِليه تعالى رجوعكم بعد بعثكم فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأَرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ليحسن ثوابكم على شكركم، وتفسير الآية على رأي الحسن: فامشوا في طرقها وفجاجها ... إِلخ.

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)} المفردات: (يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ): يهبطها بكم إِلى أَسفل مما جاورَها. (تَمُورُ): ترتج وتهتزا اهتزازًا شديدًا، وأَصل المور: التردد في المجيءِ والذهاب. (حَاصِبًا): ريحًا تحمل الحصباءَ تقذفون بها. (نَكِيرِ): إِنكاري عليهم بإِنزال العذاب. التفسير: 16 - {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)}: الخطاب هنا لأَهل مكة، فالسورة مكية، وهم الذين كانوا يحاربون الإِسلام، والاستفهام توبيخي يقصد به النهي، كأَنه قيل لهم: لا تأَمنوا عقاب من في السماءِ. وظاهر الآية يدل على أَنه تعالى في السماءِ مع أَنه سبحانه موجود قبل خلقها، وللعلماءِ في هذا وأَمثاله مذهبان: أَحدهما (مذهب السلف) وهم يسلمون بدلالة النص (¬1)، وعليه أَئمة السلف، والآية عندهم من المتشابه، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "آمنوا بمتشابهه" ولم يقل أَوّلوه، فهم مؤمنون بأَنه عز وجل في السماءِ على المعنى الذي أَراده الله سبحانه مع كمال ¬

_ (¬1) مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث.

التنزيه، أَسند البيهقي بسند صحيح عن أَحمد بن أَبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه. وهذه طريقة الشافعي وأَحمد بن حنبل، ويقول الآلوسي: إِن هذا هو رأَي العصر الثالث، وهم فقهاءُ الأَمصار، كالثوري والأَوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم .... الخ. (المذهب الثاني) مذهب الخلف، وهم يؤولون فيقولون: من في السماء أَمره وقضاؤه فالسماء مصدر أَوامره إِلى ملائكته، ومنها يصدر قضاؤه، فكأَنه قيل: أَأَمنتم من ملكوته ومصدر أَحكامه في السماءِ، والذي دفعهم إِلى التأَويل هو تنزيهه سبحانه عن المكان. ومعني الآية إِجمالًا: هل أَمنتم يا كفار مكة مَنْ عزه ومصدر قضائه في السماءِ أَن يخسف بمن الأَرض ويهبطها وأَنتم فوقها لتهلكوا في جوفها، فإِذا هي حين الخسف ترتج وتهتز اهتزازًا شديدًا. 17 - {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)}: بل أَأَمنتم مَنْ ملكوته في السماءِ أَن يرسل عليكم ريحًا تحصبكم بالحجارة كقوم لوط، فستعلمون ما حال إِنذاري وقدرتي على إِيقاع العذاب بكم عند مشاهدتكم للمنذر به، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ، وقد نجاهم الله من هذا والذي قبله بإِيمانهم جميعًا في السنة الثامنة من الهجرة. 18 - {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)} (¬1): ولقد كذب الذين من قبل كفار مكة مثل قوم نوح وعاد، فكيف كان إِنكاري عليهم بإِنزال العذاب بهم؟! أَي: كان في غاية الهول والفظاعة، وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) الاستفهام في (كيف) للتهويل.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} المفردات (صَافَّاتٍ): باسطات أَجنحتهن. (وَيَقْبِضْنَ): ويضممنها إِلى جنوبهن. (مَا يُمْسِكُهُنَّ): ما يحفظهن من الوقوع. التفسير: 19 - {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}: أَغفلت قريش التي عبدت الأَصنام، وتركت عبادة القادر الرحمن - أَغفلت ولم تنظر إِلى الطير فوقهم باسطات أَجنحتهن صافات ريشهن ويضممنها (¬1) إِلى جنونهن للاستظهار بهذا القبض على التحرك، ما يحفظهن من الوقوع عند البسط والقبض إِلا الله الواسع الرحمة حيث خلقهن على أَشكال وخصائص، وأَلهمهن حركات مكنَّتْهنَّ من السباحة في الهواءِ، إِنه تعالى بكل شيءٍ دقيق العلم، فيعلم سبحانه كيفية إِبداع مخلوقاته حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها، وفي هذا المعنى يقول موسى لفرعون وقد سأَله: (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَي) يقول له: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) كما حكاه الله تعالى في سورة (طه). ولو شاءَ الله أَن يسقطهن على الأَرض، لعطل أَجنحتهن فيسقطهن فإِن الأَرض تجذب ¬

_ (¬1) مرة بعد أخرى.

ما فوقها إِليها، ولو شاءَ أَن يبقيهن سابحات في الجو بدون أَجنحة لفعل ومنع الأَرض من جذبها، كما منع النَّار من إِحراق إِبراهيم - عليه السلام -، ولكنه تعالى علمنا ربط المسبَّبات بأَسبابها كما يفعل الله بمصنوعاته. {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} المفردات: (جُندٌ): حزب ومنعة، ولفظه مفرد ومعناه جمع، فيصح عود الضمير عليه منفردًا باعتبار لفظه كما في الآية كما يصح عوده عليه جمعًا (¬1). (يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ): من غير الرحمن. (إِنْ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ): ما الكافرون إِلاَّ في خداع وضلال فاحش. (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ): إن حبسه عنكم. (لَجُّوا): تمادوا وأَصروا. (عُتُوٍّ): طغيان وعناد. (وَنُفُورٍ): شراد عن الحق وشدة بعد عنه. (مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ): منكسًا رأسه لا ينظر أَمامه ولا يمينه ولا شماله. (سَوِيًّا): معتدلا. ¬

_ (¬1) كأن يقال في غير القرآن: جند لكم ينصرونكم.

التفسير 20 - {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)}: هذه الآية تبكيت لقريش على عبادتهم مَن لا يقدر على نصرهم إِن حاربهم غيرهم، و (أَم) في قوله (أَم من) بمعنى بل، وذلك للانتقال من توبيخهم على ترك التأَمل فيما يشاهدونه من أَحوال الطير المنبئة عن عجيب آثار قدرته - عز وجل - إِلى التبكيت بما ذكر، والانتقال من الغيبة إِلى الخطاب للتشديد في ذلك. والمعنى: بل من هذا الحقير الذي - هو في زعمكم - ينصركم متجاوزًا نصر الرحمن؟! ما الكافرون في زعمهم أَنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم، لا بحفظه تعالى وحده لا شريك له - ما الكافرون في زعمهم هذا - إِلا في غرور وخداع فاحش من جهة الشيطان، وليس لهم من نصيب في الحق فيما يزعمون. 21 - {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}: بل من هذا الرازق المزعوم الذي يرزقكم إِن حبس الله رزقه عنكم؟! إِن هؤُلاءِ الكافرين لم يتأَثروا بآيات الله الَّذِي لا يرزقهم سواه، بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق. 22 - {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} هذا مثل ضرب للمؤمن والكافر في الدنيا توضيحًا لحاليهما، والفاءُ في قوله "أَفَمَنْ" لترتيب ما بعدها على ما قبلها والهمزة للإِنكار: والمعنى: ليس الكافر والمؤمن متساويين في حاليهما في الدنيا، أَهما متساويان فيها؟ ليس الأَمر كذلك؛ فمن يمشي منكسًا رأَسه لا ينظر أَمامه ولا يمينه ولا شماله لا يأمن من العثار والانكباب على وجهه فهو ليس كالرجل الذي يمشي سويًّا معتدلا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله، فإِنه يأمن العثار، وقال قتادة: هو الكافر أَكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه.

{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} المفردات: (وَالأَفْئِدَةَ): القلوب. (ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ): خلقكم ونشركم فيها. التفسير: 23، 24 - {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}: قل لهم أَيها الرسول: هو الله الذي أَنشأَكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأَصوات، والبصر لتنظروا به المرئيات، والقلوب لتعقلوا وتفهموا بها الأصوات والمرئيات فهلا استعملتموها وانتفعتم بها في إِدراك الآيات الدالة على صاحب تلك النعم؟ إِنكم تشكرون الله على ذلك شكرًا قليلًا مع اعترافكم بأَنه تعالى هو الذي خلقها لكم. وقيل المعنى: لا تشكرون هذا النعم أَبدًا كقولهم: قلما أَفعل كذا، أَي: لا أَفعله، قل لهم أَيها الرسول: الله هو الذي خلقكم في الأَرض ونشركم فيها وإِليه تحشرون بعد البعث للجزاء لا إِلى غيره، فلماذا لا تعتبرون؟

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)} المفردات: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ): في أَي وقت يتحقق الوعد بالحشر. (نَذِيرٌ مُبِينٌ): منذر ومخوف لكم من سوءِ العاقبة واضح الإِنذار، من أَبان بمعنى أَوضَحَ. (زُلْفَةً): قريبًا. (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا): أَصابها السوءُ بأَن علتها الكآبة والذلة. (تَدَّعُونَ): تتمنونه وتطلبونه في الدنيا وتستعجلون أَن يأتيكم. التفسير 25 - {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)}: ويقول الكافرون من فرط عتوهم وتكذيبهم: متى يحدث ويتحقق الموعد بالحشر، أَخبرونا بزمانه أَيها المؤمنون إِن كنتم صادقين في دعوى البعث والحشر. 26 - {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)}: قل لهم أَيها الرسول جوابًا على سؤالهم: ما العلم بوقت القيامة إِلا عند الله تعالى، فهو من الغيب الذي استأثر الله به، لأَن الحكمة تقتضي ذلك، وليس من وظائف النبوة إِلاَّ الإِنذار بتحققه دون بيان وقته.

27 - {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}: أَي فلما رأَى الكفار الحشر بعد البعث قريبًا منهم ظهرت الذلة والكآبة على وجوههم، لأَنهم أَدركوا ما ينتظرهم من العذاب، وقيل لهم - على سبيل التبكيت والتوبيخ -: هذا العذاب الذي يلي الحشر هو الذي كنتم به في الدنيا تطلبون كقولكم ساخرين: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (¬1) أَي: عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة، وكقولهم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (¬2). والتعبير عن العذاب الذي سوف يرونه بأَنهم رأَوه فعلًا، لتنزيل وعد الله لهم بالعذاب المحقق منزلة الذي تحقق فعلًا. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} المفردات: (أَوْ رَحِمَنَا): بالنصر عليكم. (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): فمن يحميكم منه. (غَوْرًا): غائرًا ذاهبًا في الأَرض. (بِمَاءٍ مَعِينٍ): بماءٍ جار، أَو صاف، فهو بوزن فاعل مِنْ مَعَنَ الماءُ، أَي: جرى، أَو صفا، أَو بوزن مفعول - وأَصله معيون - من عين الماء: استنبطه واستخرجه. ¬

_ (¬1) من الآية 16 من سورة (ص). (¬2) من الآية 32 من سورة الأنفال.

التفسير 28 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)}: قل أَيها الرسول لقريش: أَخبروني إِن أَماتني الله كما قلتم كذبًا: (شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنوُنَ) أَو أَهلك من معي من المؤمنين كما تمنيتم، أَو رحمنا فأَبقانا ونصرنا عليكم، فمن هذا الذي يجيركم ويحميكم من عذاب شديد الإِيلام في الآخرة؟! وحاصل المعنى: لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم إِن انقلبنا إِلى رحمة الله بالهلاك كما تمنيتم، لأَن فيه الفوز لنا بنعيم الآخرة، أَو بالنضرة عليكم وإِعزاز الإِسلام كما نرجو، لأَن فيه الظفر بالحسنيين، ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص من الكفر بالإِيمان. 29 - {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)}: قل لهم أَيها الرسول - جوابًا لتمنيهم هلاكك -: هو الله الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيجيرنا برحمته من عذاب الآخرة، ولم نكفر مثلكم حتى تمتنع إِجارته لنا، فستعلمون بعد البعث من هو مِنَّا في الدنيا والآخرة في بعد واضح عن الحق. 30 - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}: قل لهم: أَخبروني إِن أَصبح ماؤكم الذي تشربون منه وتسقون غائرًا في الأَرض واغلًا في جوفها، فمن الذي يأتيكم بماءٍ جار أَو ظاهر للعيون سهل المأخذ، لا تستطيع أَصنامكم الإِتيان به أَو بمثله، والآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي، أَنها نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي. والله تعالى أَعلم.

سورة القلم

سورة القلم هي أَول ما نزل في القرآن بعد العلق، فقد روي عن ابن عباس أَن أَول ما نزل من القرآن اقرأَ باسم ربك ثم هذه (أَي: سورة القلم) ثم المزمل، ثم المدثر، وهي مكية وآيُها ثنتان وخمسون آية بالإِجماع. ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك): أَن سورة الملك اخْتُتمت بالوعيد: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (¬1) واشتملت سورة القلم في أَوائلها عليه. قال الجلال السيوطي في ذلك: لما ذكر في آخر سورة الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في وسورة القلم بإِذهاب ثمر أَصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليها وهم نائمون، فَأصحبوا ولم يجدوا لجنَّتهم أَثرًا حتى ظنوا أَنهم ضَلُّوا الطريق إِليها. المعنى العام للسورة في السورة الكريمة قسم بالقرآن وما يُسطَّر به، والمُقْسَم عليه: ما أَنت يا محمد وقد أَنعم الله عليك بالنّبوة وفضَّلك بالرِّسالة بمجنون ولا سفيه الرأَي كما يدَّعي المشركون. ثم ساقت بِشارة له: وإِنَّ لك يا محمد على ما تبذله في تبليغ الدعوة لأَجرًا غير مقطوع ومَدْحًا كأَبلغ ما يكون المدح والثَّناء (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد أَدبَّك ربُّك فأَحسن تأديبك، وتسلية له. وعن قريب ستبصر ويبصر الكافرون أَيكم المجنون، وإِنَّ ربَّك أَعلم بمن ضَلّ عن سبيله وحاد عن طريق الحق فكفر، وهو أَعلم بالعقلاءِ المهتدين المؤمنين. ¬

_ (¬1) سورة الملك الآية: 30.

ثم ذكرت السورة توجيهاتها للرسول: فدم يا محمد على طريقتك مِنْ مُخَالفة المكذبين، لقد تَمَنّوا لو تلين لهم بعض الشَّيء وتعبد ما يعبدون ولو زمنًا قليلًا فهم يَلِينُون لك لا حُبًّا في الإِسلام ولكن طمعًا في ضَمِّك إِلى صفِّهم. ثم نهت عن طاعة كل مَن اتَّصف بهذه الصِّفات الذَّميمة، والنُّعوت القبيحة فقالت: (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ*مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) ولأَنَّه صاحب مال وبنين كذب بآياتنا وأَعرض عنها فجعل الكفران مكان الشكر والعرفان، سنسمه بسمة ونجعل على أَنفه علامة ليكون مفتضحًا بها بين الناس. واشتملت السورة على تشبيه ما وقع لأَهل مكة من العذاب والقحط بما وقع لأَصحاب الجنة الَّذين جاءَت قصتهم فيها، وعلى تبشير المؤمنين بما أُعِدَّ لهم عند ربّهم مِنْ جزاءٍ وثواب وعدم التَّسوية بينهم وبين الكافرين، وأَنكرت على المكذبين ما يدَّعون لأَنفسهم بغير حق {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)} كما جاءَ فيها وصف حال الكافرين والمُعرضين وما ينالهم من العقاب، والنُّصح لرسول الله بالصبر والاحتمال ولا يكون كأَخيه يونس - عليه السلام - في سرعة غضبه والغضب على قومه، وذكرت السورة ما كان الكفَّار يُضْمِرُونه لرسول الله من بُغْض وعداوة وقد ظهر هذا على وجوههم وهم ينظرون إِليه شزرا حين يتلو القرآن، ويرمونه بالجنون. وختمت بتمجيد القرآن وبيان فضل الرسول وقدره (وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} المفردات: (وَالْقَلَمِ): قَسَمٌ بالقلم الذي يكتب به الملائكةُ والناس. (غَيْرَ مَمْنُونٍ): غير مقطوع يقال: مننت الحبل: إِذا قطعته. (بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ): في أَي الفريقين منكم المجنون. التفسير: 1 - {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)}: (ن) حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السُّور وهي من المتشابه، ومذهب السلف أَنهم يقولون في هذا ومثله: الله أعلم بمراده، وقيل: اسم للسُّورة، وقِيل: اسم للدَّواة. وأَنكر الزمخشري ذلك قال: لا دليل عليه من لغة ولا نقل صحيح، وقيل غير ذلك ممَّا لا يُلْتَفت إِليه.

(وَالْقَلَمِ) أقسم الله بالقلم الذي يكتب به الملائكة والناس وبما يكتبونه من الخير والنفع وغير ذلك، وإِنما استحق قلم الملائكة أَن يُقْسَم به لأَنَّهم يكتبون به ما في اللَّوح المحفوظ، ويُسجِّلون به في صحائفهم أَعمال الناس، وأَمَّا استحقاق القلم الذي يكتب به الناس ذلك الشرف فلكثرة منافعه وعظيم فوائده، ولو لم يكن له مَزِيَّة سوى تسجيل كتب الله - عز وجل لكفى به فضلًا مُوجِبًا لتعظيمه، كيف لا وهو الذي يُنْشَر به العلم، وتُحَرَّر به الفنون والآداب وتذاع به المعارف والأَخلاق والفضائل. قال أَبو الفتح البستي: إِذا أَقسم الأَبطال يومًا بسيفهم ... وعَدّوه ممَّا يُكْسِب المجد والكرم كفى قلم الكتَّاب عِزًّا ورفعة ... مدى الدهر أَنَّ الله أَقْسَم بالقلم 2 - {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)}: هذا هو الْمُقْسم عليه، أَي: انتفى عنك الجُنون بسبب نعمة ربك عليك ورحمته بك، وهو الذي اصطفاك للرسالة، وأَهَّلك للنبوة لتخرج الناس من الظُّلمات إِلى النور ومن الشرك إِلى الإِيمان، والآية نزلت ردًّا على كفار مكة وتكذيبًا لهم فيما يقولون وما ينسبونه إليه من الجنون حسدًا وعدواة ومكابرة، والمقصود أَنت مُنَزّه عما يقولون لأَنك أُعْدِدت لتكون هادي البشرية كلها والقائد الخاتم للمسيرة الإِلهية. 3 - {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)}: أَي: وإِنَّ لك لِمُقَاسَاتِك أَلوان الشَّدائد وأَنواع المتاعب، وتحمُّلك أَعباء الرسالة ومشاق الدَّعوة لثوابًا عظيمًا وأَجرًا جسيمًا غير مقطوع مع عظمة، أَو غير ممنون به عليك مِن الناس لأَنَّه عطاؤه تعالى بلا وساطة، أَو من الله لأَنَّك حبيبه، وهو سبحانه وتعالى أَكرم الأَكرمين ومن شِيمة الكرام أَلا يَمُنُّوا بإِنعامهم، لا سيما إِذا كان على أَحبابهم. 4 - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}: أَي: وإِنك لمستمسك بمكارم الصِّفات ومحاسِن الخلال التي طبعك الله عليها وأدَّبك بها، لك خلق لا يُدرك شَأوه أَحد من الخلق، تحتمل من جهتهم ما لا يحتمل أَمثالك من أُولي العزم

وعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أَي: وإِنك لعلى دين عظيم هو الإِسلام، وليس أَحبّ إِلى الله تعالى ولا أَرضى عنده منه، وقال عطية: لَعَلَى أَدب عظيم. وفي صحيح مسلم سُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خُلُق رسول الله؟ قالت: كان خلقه القرآن ومعنى هذا أَنه تأدب بآدابه وتحلَّى بأَخلاقه وأَحلّ حلاله وحرَّم حرامه، هذا مع ما طبعه الله عليه من الخلق العظيم من الحياءِ والكرم والشجاعة والصفح والحكمة وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين عن أَنس قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال إِلي أُفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلته لم فعلته؟ ولا قال لشيءٍ لم أفعله ألا أَفعلته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحسن الناس خلقًا"، والأَحاديث في هذا الباب كثيرة، ولأَبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل. 5 - 6 - {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}: أَي فستعلم يا محمد علمًا يقينيا وسيعلم مخالقوك أَيكم المفتون أَي المجنون لأَنه فُتِن، أَي مُحِنَ بالجنون، وقيل المعنى: فستبصر ويبصرون بأَي الفريقين منكم الفتنة أَي المجنون أَبفريق المؤمنين أَم بفريق الكافرين وفي أَيِّهما يُوجد منْ يستحق هذا الاسم، وهو تعريض بأَبي جهل والوليد بن المغيرة وأَحزابهما وهو كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ}. (¬1) والمراد فستعلم ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، وروى ذلك عن ابن عباس، وقيل: فستبصر ويبصرون في الدنيا بظهور عاقبة الأَمر بغلبة الإِسلام وانتصارك عليهم وعلو شأنك وصيرورتهم أَذلة صاغرين. 7 - {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}: استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمَّنه من الوعد والوعيد، فهو سبحانه أَعلم بمن ¬

_ (¬1) سورة القمر الآية: 26.

حاد على طريقه المؤدي إِلى سعادة الدارين وهام في تيه الضَّلال المُفْضِي به إِلى الشَّقاوة ومزيد النَّكال وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر، وهو سبحانه أَعلم بالمهتدين إِلى سبيله الفائزين بكلّ مطلوب النَّاجِين من كل محْذُور وهم العقلاء، فَيَجْزِي كُلًّا من الفريقين بما يستحق من العقاب والثواب. وفي الكشاف: إِن ربك هو أَعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله وهو أَعلم بالعقلاءِ وهم المهتدون. {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} المفردات: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ): تمنوا لو تلين لهم بعض الشيء وتصانعهم في الدين. (مَهِينٍ): وضيع حقير، قال القرطبي: من المهانة بمعنى القلة وهي هنا القلة في الرأي والتمييز. (هَمَّازٍ): طعَّان عيَّاب للناس في وجوههم أَو مُغتاب لهم (قَتَّات). (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (¬1): نقَّال للحديث من قوم إِلى قوم على وجه الإِفساد بينهم. ¬

_ (¬1) قيل النميم جمع نميمة يريدون الجنس، وأصل النميمة: الهمس والحركة الخفيفة.

(عُتُلٍّ): غليظ القلب جاف الطَّبع، وقيل: الذي يعتل الناس فيجرهم إِلى حبس أَو عذاب مأخوذ من الْعتْل وهو الجرّ ومنه قوله تعالى: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) (¬1). (زَنِيمٍ) (¬2): دعيّ مُلصق بقوم ليس منهم، أَو شِرِّير. (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ): أَباطيلهم المسطَّرة في كتبهم. (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ): سنجعل له سمة وعلامة على الأَنف، والمراد: سنلحق به عارا لا يفارقه كالرسم على الأَنف. التفسير: 8 - {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}: الفاءُ في الآية لترتيب النهي على ما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم، وفي هذا حث له على التَّصميم والعزم على عصيانهم ومخالفتهم. والمعنى: فَدُمْ على ما أَنت عليه من مخالفة المكذبين وعدم طاعتهم، وتَشَدَّد في ذلك، ويجوز أن يكون نهيًا عن مُداهنتهم ومُداراتهم بإِظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم استجلابًا لقلوبهم، لا نهيًا عن طاعتهم حقيقة، وعُبّر عن المداهنة بالطاعة للمبالغة في التفسير. 9 - {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}: المعنى: تمنّوا وأَحبوا لو تُلاينهم وتُصانعهم وتنزل على رغبتهم أَحيانًا (فَيُدْهِنُونَ) أَي فهم يدهنون ويلاينونك ويصانعوك حينئذ، فالفاءُ للسببية داخلة على جملة اسمية مسببة عمَّا قبلها. وقيل المعنى: أَنهم يدهنون الآن طمعًا في ادهانك واستجابتك لهم ومشاركتهم في بعض عبادتهم. ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآية: 47. (¬2) أصله من الزنمة (بفتحات) وهي ما يتدلى من الجلد في العنق، أو الفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة، شبه بها الدعي لأنه زيادة معلقة في غير أهله. أهـ. آلوسي.

10 - {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)}: المعنى: وتمسك بما أَنت عليه من عدم طاعة كل كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى بهذا النهي زجرًا لمن اعتاد الحلف لأَنه جُعِل فاتحة العيوب وأَساس الباقي من الذنوب، وكثرة الحلف تدل على عدم استشعار عظمة الله - عز وجل - وذلك أَصل كل شر. (مَهِينٍ) أَي: حقير وقال الرماني: المهين: الوضيع، لإِكثاره من القبيح. وعن ابن عباس: الكذاب. 11 - {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)}: (هَمَّازٍ) أَي: عيَّاب طعَّان أَو مغتاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ): نقَّال للحديث من قوم إلي قوم على وجه الإِفساد بينهم، فهو يحرض بعضهم على بعض لفساد ذات البين وهي الحالقة. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: [إِنَّهُمَا يُعذَّبان وما يعذبان في كبير، أَما أَحدهما فكان لا يستتر من البول، وأَما الآخر فكان يمشي بالنميمة]، وروى الإِمام أَحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قَتَّات): أَي: نَمَّام. والأَحاديث في ذلك كثيرة. 12 - {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ): أَي: بخيل ممسك بالمال، من منع معروفه عنه: إِذا أَمسكه، أَو منَّاع أَهله الخير وهو الإِسلام، قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي كان مُوسِرًا وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم ولأَقربائه: من أَسلم منكم منعته رِفْدِي وعطائي. روي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضًا أَنه أَبو جهل، وقيل غيرهما. (مُعْتَدٍ): مجاوز في الظلم حَدَّه. (أَثِيمٍ) أَي: كثير الآثام، والمراد بها المعاصي والذنوب. 13 - {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)}: (عُتُلٍّ): أَي: غليظ جاف، وإِنَّمَا نهى - سبحانه - عن طاعة العُتُلّ وجعل غلظته أَشد معايبه لأَنه لقسوة قلبه وغلظ طبعه يجتريء على كل معصية.

(بَعْدَ ذَلِكَ) أَي: بعد ما عدّ له من المثالب والنقائص. (زَنِيمٍ) دَعِيّ مُلْحق بقوم ليس منهم، والمراد به ولد الزِّنا كما جاءَ بهذا اللفظ عن ابن عباس، وكذا جاءَ عن عكرمة وأَنشد: زنيم ليس يعرف من أَبوه ... بغيّ الأُم ذو حسب لئيم وإِنما نهي عن طاعة الدّعيّ لأَن الغالب أن النطفة إِذا خبثت خبث خبث الناشيء منها، وعن سعيد بن جبير: الزَّنيم الذي يُعْرَف بالشر كما تُعْرف الشاة بزنمتها وهي ما يتدلى من رقبتها كما سبق بيانه في المفردات: والزنيم، الملصق. قال ابن كثير: والأَقوال في الزنيم كثيرة، وغالبها يرجع إِلى ما ذهب إِليه سعيد بن جبير، وكثيرًا ما يكون دعيا ولد زِنا فإِنه في الغالب يتسلَّط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره. أ. هـ بتصرف. 14 - {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)}: هذا الكلام متصل بقوله - سبحانه -: (وَلا تُطِعْ ... ) الخ أَي: لا تطع مَن هذه عيوبه ونقائصه بسبب كونه موُسرًا معتدًّا بماله مُنْجِبًا مُعْتَزًّا ومتقويًّا بأَبنائه. 15 - {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)}: استئناف جري مجرى التعليل للنّهي عن اتباعه، والمعنى: إِذا يُقْرأُ عليه القرآن كَذَّب ولم يؤمن بما جاءَ به وقال: هذا قصص الأَولين وخرافاتهم وأَكاذيبهم الواردة في كتبهم، ويجوز أَن يكون قوله - تعالى -: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) متصلًا بما بعده. والمعنى: لأَن كان صاحب مال ومستظهرا بالنبين كذب بآياتنا، وأَعرض عنها إِذا يتلى عليه القرآن قال: أساطير الأَولين وأَباطيلهم، فجعل الكفر مكان الشكر والتكذيب موضع التصديق والإِيمان. 16 - {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}: أَي: سنجعل على أَنفه سمة دائمة وعلامة لازمة لا تفارقه، يُعيّر ويفتضح بها أَمام الناس فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والمهانة، لأَنَّ السِّمة على الوجه شين حتى إِنه صلى الله عليه وسلم نهى (¬1) عنه في الحيوانات، فكيف بها في الإِنسان وعلى أَكرم موضع منه وهو الأَنف ¬

_ (¬1) ذكر الزمخشري أن العباس عم النبي وسم أبا عرة في وجوهها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكرموا الوجوه" فوسمها في جواعرها (جمع جاعورة وهي ما حول الدبر كما جاء في الصحاح).

لتقدمه، لذا جعلوه مكان العز والحميّة واشتقوا منه الأَنفة، وقالوا: فلان شامخ الأَنف، وفي لفظ (الخرطوم) استخفاف به واستهانة؛ لأَنه لا يستعمل إِلا في الفيل والخنزير، ففي التعبير على الأَنف بهذا الاسم تقوية لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإِذلال، والمراد: سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإِذلال. وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إِليه جمع، وقيل: هو في الآخرة، يُوسم يوم القيامة على أَنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}

المفردات: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ): إِنَّا امتحنا أَهل مكة واختبرناهم بالقحط. (الْجَنَّةِ): البستان المشتمل على أَنواع الأَشجار والثمار والفواكه. (لَيَصْرِمُنَّهَا): ليقطعنَّ ثمرها بعد نُضجها. (مُصْبِحِينَ): داخلين في وقت الصباح مبكرين. (وَلا يَسْتَثْنُونَ): أَي: ولا يقولون: إِن شاءَ الله، وقيل: ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعل أَبوهم. (طَائِفٌ): بلاءٌ وعذاب محيط بها - نار محرقة -. (كَالصَّرِيمِ): كالليل الأَسود، وقيل: كالبستان إِذا صرمت أَي: قطعت ثماره. (صَارِمِينَ): قاصدين للصرم وقطع الثمار. (يَتَخَافَتُونَ): يتسارّون ويتشاورون فيما بينهم بطريق المُخافتة. (حَرْدٍ): منع، أَو انفراد عن المساكين، أَو غيظ وغضب. (إِنَّا لَضَالُّونَ): أَي: إِنَّا لضالُّون طريق جنتنا. (أَوْسَطُهُمْ): أَحسنهم رأيا، أَو أَوسطهم سِنا. (لَوْلا تُسَبِّحُونَ): هلا تذكرون الله وتتوبون إِليه من خبث نيتكم. (يَتَلاوَمُونَ): يلوم بعضهم بعضا. (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ): إِنا إِلى ربنا لا إِلى غيره راجون العفو طالبون الخير. التفسير 17 - {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)}: أَي: إِنا اختبرنا أَهل مكة وأَصبْناهم ببليّة وهي القحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اللهم اشدد وطأَتك على مُضَر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف).

(كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ): أَي: مثل ما بلونا أَصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم، قيل: كانت بأَرض اليمين قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها فمات فصارت إِلى ولده فمنعوا النَّاس خيرها وبخِلوا بحق الله منها، فكان ما ذكره الله تعالى. (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) أَي: إِذ حلفوا ليقطعن ثمارها بعد نضجها واستوائها وقت الصباح قبل أَن يخرج المساكين كي لا يشعر بهم المساكين، فلا يعطونهم منها ما كان أَبوهم يتصدق به عليهم منها. 18 - {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)}: قيل: أَي ولا يقولون إِن شاءَ الله، وقيل: المعنى ولا يستثنون منها حصة المساكين كما كان يفعل أَبوهم (وعليه هو معطوف على قوله تعالى: "لَيَصْرِمُنَّهَا" ومقسم عليه مثله). 19 - {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)}: المعنى: نزل على الجنة وأَحاط بها من كل جانب بلاءٌ محيط وعذاب. وعن الفرّاءِ: تخصيص الطائف بالأَمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك - على ما قال ابن جريج - عُنُقا من نار خرج من وادي جنتهم (وَهُمْ نَائِمُونَ) في موضع الحال، والمراد: أَتاها ليلا كما روي عن قتادة، وقيل: المراد أَنهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير. 20 - {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}: أَي فأَصبحت جنتهم كالبستان الذي صُرِمت ثماره وقطعت بحيث لم يبق فيها شيءٌ وقال منذر والفرّاء وجماعة: الصّريم: الليل، والمراد: أَصبحت محترقة تشبه الليل في السواد؛ ذكر ابن كثير عن ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِياكُمْ والمعاصي، وإِن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هُيِّيءَ له) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ).

22،21 - {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)}: أَي فنادى بعضهم بعضا وقت الصباح وذلك للقسم السابق: أَن اخرجوا مبكرين مقلبين على بستانكم إِن كنتم مصرين على الصرم وقطع الثمار، ويحتمل إِن كنتم أَهل عزم وإِقدام على رأَيكم من قولهم: سيف صارم. 24،23 - {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)}: أَي فاندفعوا مسرعين وهم يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمسارّة متواصين قائلا بعضهم لبعض: لا يمكن أَحد منكم اليوم مسكينا من دخول الجنة عليكم، فالنهي عن الدخول للمسكين نهي عن تمكينه من حتى لا يناله من الثمار شيء. 25 - {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)}: أَي وساروا في أَول النهار إلى جنتهم قادرين على (حرد) فيه عدة أَقوال: (1) هو المنع كما قال أبو عبيدة وغيره، من حَردت السنة: منعت خيرها، وحاردت الإِبل: منعت درها. والمعنى: وغدوا إِلى جنتهم قادرين على منع لا غير عاجزين عن النفع. (2) وقيل المراد: الغيظ، أَي: لم يقدروا إِلاَّ على إِغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (¬1) وروي هذا عن السّديّ. (3) وقيل الحرد: القصد والسرعة، وللحرد معان أُخرى ذكرها القرطبي والآلوسي والزمخشري. 26،27 - {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)}: فأَول ما وقع نظرهم عليها ورأَوها سوداءَ محترقة لا شيءَ فيها قد صارت كالليل الأَسود ينظرون إِليها كالرماد، أَنكروها وشكّوا فيها وقالوا مضطربين متحيرين: إِنَّا لضالُّون طريق ¬

_ (¬1) سورة القلم، الآية 30.

جنتا، وما هي بها (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) قالوا ذلك بعد ما تأَملوا ووقفوا على حقيقة الأَمر وتيقنوا ما فُعِل بجنتهم مُضربين عن قولهم الأَول، أَي: لَسْنَا ضَالِّين بل نحن محرومون حُرمنا خيرها بجنايتنا على أَنفسنا وسوء نيتنا وقصدنا حرمان الفقراء. 28 - {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)}: قال أَعدلهم وخيرهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) أَي: لم أَقل لكم؟! وفي التسبيح قولان: (1) قيل: المراد الذكر، أَي: هلا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كان أَوسطهم قال لهم حينما عزموا على حرمان الفقراء: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إِلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فوبّخهم، والدليل على ذلك قولهم بعد هذا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) فتكلموا بما كان يدعوهم إِلى التكلم به على إِثر مقارفة الخطيئة وارتكاب الإِثم. (2) وقيل: المراد بالتسبيح - الاستثناءُ: وهو أَن يقولوا إِن شاءَ الله، ويلتقي هذا مع الأَول في معنى التَّعظيم، لأَن الاستثناء تفويض إِلى الله، والتَّسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. 29 - {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)}: قالوا بعد أَن ثابوا إِلى رشدهم ورجعوا إِلى عقولهم: نُسبّح الله ونُنَزّهه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم ومنع المعروف عن مستحقيه والبخل بما كان يعطيه والدهم للفقراء والمساكين، وفي تركهم الاستثناء قال ابن كثير: وهكذا أَتوا بالطاعة حيث لا تنفع أَو اعترفوا حيث لا ينجع. 30 - {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)}: أَي: فأَقبل بعضهم على بعض يلوم كل منهم الآخر في القسم والحلف على منع المساكين أَي يقول: بل أَنت أَشرت علينا بهذا، فإِن منهم - على ما قيل - مَن أَشار بذلك، ومنهم من استحسنه ومنهم من سكت راضيا ومنهم من أَنكره.

31 - {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)}: أَي قالوا: يا عذابنا وهلاكنا إِنا كنا طاغين - اعتدينا وبغينا وتجاوزنا الحد عاصين بمنع الفقراء: وقال ابن كيسان: طغينا نِعَم الله فلم نشكرها كما شكرها أَبونا من قبل حتى أَصابنا ما أَصابنا. 32 - {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)}: نرجو الله أَن يعوضنا خيرا من جنتنا ويعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة إِنَّا إِلى ربنا - لا إلى غيره - راغبون: راجون العفو طالبون الخير. وعن مجاهد أَنهم تابوا فأُبدلوا خيرا منها. 33 - {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}: أَي: مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أَهل مكة من الجدب الشديد ومثل ما قصه الله علينا مما أَصاب أَهل هذه الجنة - عذاب الدنيا، والكلام وارد لتحذير أَهل مكة - وتخويفهم كأَنه لما نهى - سبحانه وتعالى - نبيه عن طاعة الكفار ورؤَسائهم، ذكر - عز وجل - أَن تمردهم هو بسبب ما أوتوه من المال والبنين، وعقّب - جل وعلا - - بأَنهم إِذا لم يشكروا المنعم عليهم يؤول حالهم إِلى حال أَصحاب الجنة مشيرا إِلى أَن خُبث النّية وإِنكار حق الفقير إِذا أَفضى بهم إلى ما ذكر من العذاب فإِن إِنكار الحق بمعاندة الرسول ذي الخلق الكريم وقطع رحمه أَولى بأَن يُفْضِي بأَهل مكة إلي البوار والخسران والعقاب. ثم ذكر - سبحانه وتعالى - عذابهم في الآخرة فقال: (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ) أَي: أَعظم وأَشد وأَشقّ وهو تحذير عن العناد، وقوله تعالى: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) نَعْيٌ عليهم بالغفلة وتقريع لهم، أَي: لو كانوا من أَهل العلم لعلموا أَنه أَكبر، ولأَخذوا منه حِذْرهم ولما وقعوا فيما وقعوا فيه.

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)} المفردات: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ): أَي: بل لكم كتاب منزل من السماءِ. (فِيهِ تَدْرُسُونَ): فيه تقرأون. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ): أَي: إِن الذي يختارونه وتشتهونه لكم مذكور في ذلك الكتاب. وتَخَيَّر الشيء واختاره: أخذ خَيْرَه، وشاع في أَخذ ما يريده مطلقا. (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ): أَي: بل أَلكم عهود ومواثيق مؤكدة بالأَيْمَان. (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ): أَي: إِنَّ لكم لَلَّذي تحكمون به لأَنفسكم. (زَعِيمٌ): كفيل وضمين.

التفسير 34 - {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)}: لَما ذكر - تعالى - حال أَهل الجنة الدنيوية وما أَصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله - عز وجل - وخالفوا أَمره، بيّن أَنَّ لمن اتَّقاه وأَطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم، أَي: جنات ليْس فيها إِلا النَّعيم الخالص من شائبة ما ينغِّصه من الأَكدار وخوف الزوال. 35، 36 - {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)}: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ): تقرير لما قبله من فوز المتقين وردّ لما يقوله الكَفَرة من صناديد قريش حين سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله به المؤمنين، يقول الكفرة: إِنْ صَحّ أَنَّا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إِلا مثل ما هي في الدنيا وإِلاَّ لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا وأَقصى أَمرهم أَن يساوونا، فقيل لهم: أَنَحِيف ونظلم في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟! ثم قيل لهم على طريق الالتفات تأَكيد للرد وتعجبا من حكمهم واستبعادا له وإِيذانا بأَنه لا يَصْدُر عن عاقل: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ): إِذا معنى ما لكم: ماذا أَصابكم، وأَي شيء حصل لكم مِنْ خَلَلِ الفكر وفساد الرأي حتى حكمتم هذا الحكم الجائر، كأَنَّ أمر الجزاء مُفَوّض لكم حتى تحكموا فيه بما شئتم. 38،37 - {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)}: يقول - تبارك وتعالى -: بل أَفبأَيديكم كتابٌ مُنَزَّل من السماءِ تقرءُونه وتدرسونه وتحفظونه وتَتَداولونه بنقل الخلف عن السلف يتضمن أَنَّ ما تختارونه وتشتهونه لكم؟ قال الآلوسي والظَّاهر مقابل لما قبله ومُلَخَّصه: أَفسد عقلكم حتى حكمتم بهذا أَم جاءَكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأَمر لكم؟! 39 - {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)}: المعنى: بل أَلكم عهود علينا ومواثيق مؤَكدة بالأَيمان باقية ثابتة إِلى يوم القيامة؟ إِنَّ لكم لَلّذِي تحكمون به وتقضون وسيصل إِليكم ما تحبون وما تشتهون.

تعالى: (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ) جواب القسم؛ لأَن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ) أَم أَقسمنا لكم. 40 - {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)}: المعنى: سل المشركين يا محمد مُبَكِّتًا لهم: أَيُّهم بذلك الحكم الذي يحكمون به لأَنفسهم منْ أَنَّهُم يعطون في الآخرة أَفضل من المؤمنين - أَيهم كفيل وقائم بتنفيذه وإِمضائه وبالاحتجاج لصحته، كما يقوم الزَّعيم المتكلِّم عن القوم المتكفّل بأُمورهم، فضلا عن أَنه حكم جائر، خارج عن دائرة المعقول، وكأَنَّه بتوجيه الخطاب لرسول الله أَسْقَطَهم مِنْ رُتبة الخطاب إِهمالا لهم. 41 - {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}: أَي: بل أَلهم أُناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه، ويذهبون مذهبهم فيه فليأتوا بشركائِهم إِنْ كانوا صادقين في دعواهم، يعني أَنَّ أَحدًا لا يُسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه، كما أَنهم لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به ويتصدى لإِنفاذه. قال العلامة الآلوسي: وقد نَبّه - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يَتَعَلَّقُوا به في تحقيق دعواهم، حيث نَبَّه - سبحانه - على نفي الدليل العقلي بقوله سبحانه: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وعلى نفي الدّليل النَّقْلي بقوله سبحانه: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) وعلى نفي أَن يكون الله وعدهم بذلك بقوله تعالى: (أَم لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَلِغَةٌ) وعلى نفي التَّقْليد الذي هو أَهْوَن الأَشياء بقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ) الخ أهـ آلوسي.

{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} المفردات: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ): كتابة عن شدة هول يوم القيامة. (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ): ذليلة منكسرة. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): تغشاهم ذلة مرهقة وخسران. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ): سنستنزلهم إِلى العذاب درجة فدرجة بالإِمهال حتى توقعهم فيه. (وَأُمْلِي لَهُمْ): وأُمهلهم بتأخير العذاب ليزدادوا إِثمًا. (كَيْدِي مَتِينٌ): تدبِيري قويّ لا يفلت منه أَحد. (مَغْرَمٍ): غرامة مالية. التفسير 42 - {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)}: لَمَّا ذكر - جلَّ شانه - أَنَّ للمتقين عند ربهم جنات نعيم بيَّن متى يكون ويقع ذلك فقال: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ... الخ) أَي: يوم يكشف عن ساقٍ كان كذا وكذا فأُضمر للتهويل البليغ وأَنَّ ثمَّ من الحوادث والأَخطار ما لا يوصف لعظمه، والمراد بذلك اليوم عند الجمهور: يوم القيامة، والساق: ما فوق القدم، وكشفها: مَثَل في شدة الأَمر وصعوبة الخطب.

وقيل: ساقُ الشيء: أَصْلُه الذي به قوامه كساق الشجرة، والمراد: يوم يُكْشف عن أَصل الأَمر فتظهر حقائق الأَشياءِ وأُصولها بحيث تصير عيانًا، وإِلى هذا يشير ما أَخرجه البيهقي عن ابن عباس قال: حين يكشف الأَمر وتبدو الأَعمال. وذهب بعضهم إِلى أَن المراد بالسَّاق ساقه - سبحانه وتعالى - وأَن الآية من المتشابه، واستدل على ذلك مما أَخرجه البخاري ومسلم غيرهما عن أَبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يَكِشفُ ربُّنا عن ساقِه فَيسجُدُ له كلُّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى مَنْ كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا). وأَنكر ذلك سعيد بن جبير فقد سئل عن الآية فغضب غضبًا شديدًا وقال: إِن أَقوامًا يزعمون أَن لله سبحانه يكشف عن ساقه وإِنما يكشف عن الأَمر الشديد، وعليه يحمل ما في الحديث (الآلوسي). (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أَي: ويدعون إِلى السجود لا تعبدًا وتكليفًا ولكن توبيخًا وتعنيفًا على تركهم إِياه في الدُّنيا وتَحِسيرا لهم على تفريطهم في ذلك، أَو امتحانًا لإِيمانهم. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ): لزوال القدرة عليه، وفيه دلالة على أَنهم يقصدونه فلا يستطيعون ولا يتأَتى منهم، والظاهر أَن الداعي هو الله تعالى أَو الملائكة وقيل: هو ما يرونه من سجود المؤمنين. 43 - {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}: بين الله - سبحانه - حال من يُدْعَوْن إِلى السجود يوم القيامة فلا يستطيعون بأَنهم خاشعة أَبصارهم، أَي منكسرة ذليلة تلحقهم وتغشاهم مهانة وندامة وحسرة، وقد كانوا يُدْعوْن إِلى السجود في الدنيا وهم سالمون مُعَافُون متمكِّنون منه أَقوى تمكُّن فلا يُجِيبون إِليه ويَأبَوْنه ويَنْفِرون منه تكبرا أَو إِعراضا، لذلك عُوقِبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، روي أَنه كلما أراد أحدهم أَن يسجد خَرّ لقفاه على عكس السجود بخلاف ما عليه المؤمن.

ذكر القرطبي أَن سعيد بن جبير قال في تفسير قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ): كانوا يسمعون (حي على الفلاح) فلا يجيبون، وقال كعب الأَحبار: والله ما نزلت هذه الآية إِلا في الذين يتخلفون عن الجماعات، وكان الربيع بن خيثم قد فُلِج وكان يُهَادَى بين الرجلين إِلى المسجد فقيل: يا أَبا يزيد لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة فقال: من سمع حَيّ على الفلاح فليُجب ولو حَبْوًا - ومعنى يُهَادَى - أَي: يمشي بينهما معتمدًا عليهما لضعفه. 44 - {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)}: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) أَي: إِذا كان حالهم ما سمعت فَكِل من يُكَذِّب بالقرآن إِليَّ فأَنا أَكْفِيكَه، قال الزمخشري: فكأَنه يقول: حسبك إِيقاعًا به وعقابا له أَنْ تكل أَمره إِليَّ وتُخَلِّي بيني وبينه فأَنا عالم بما يجب أَن يْفْعَل به مُطِيق له وقادر عليه. وذلك تسلية للرسول وتهديد للمكذبين (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ): استئناف مسوق لبيان كيفية العقاب والتعذيب، أَي: سنستنزلهم إِلى العذاب درجة فدرجة بالإِمهال وإِدامة الصحة وازدياد النعمة. (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أَي: من الجهة التي لا يشعرون أَنَّ ذلك الإِنعام عليهم استدراج بل يزعمون أَن ذلك إِيثار لهم وتفضيل على المؤمنين مع أَنه سبب هلاكهم. 45 - {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}: (وَأُمْلِي لَهُمْ): وأُمْهلهم بتأخير العذاب وأَمنحهم كثيرًا من النعم ليزدادوا إِثما وهم يحسبون أَن ذلك لإِرادة الخير بهم. (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إِن تدبيري وعذابي لقويٌّ شديد لا يُدْفع بشيءٍ فلا يفوتني أَحد ولا يعجزني، وسمّى إِحسانه وتمكينه وإِمهاله لهم كيدا كما سمَّاه استدراجًا فيما سبق لكونه في صورة الكيد والاستدراج؛ حيث كان ذلك سببًا لتورطهم في الهلاك والوقوع فيه، والله سبحانه يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرًا وهو ضرر لهم في الحقيقة لِمَا عَلِم من خُبْث نِيَّتهم وفساد طبيعتهم وتَمَاديِهِم في الكفر والعصيان، ووصف كيده بالمتانة لقوة أَثره في التَّسبُّب للهلاك.

46 - {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)}: عاد الكلام إِلى ما تقدم من قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ ... ) الآية، أَي: أَم تلتمس وتطلب منهم على هدايتك لهم ودعوتهم إِلى الله وإِرشادهم إِلى الإِيمان أَجرًا دنيويًّا وثوابًا ماديًّا فهم من غرامة ذلك مثقلون لِمَا يشق عليهم من بذل المال، فيثبَّطهم ذلك عن الإِيمان بالله والاستجابة لما تدعوهم إِليه فيعرضون عنك سبب ذلك، والأَمر ليس كذلك فليس عليهم كلفة ولا غرامة مالية، بل سيتولون بمتابعتك على خزائن الأَرض في الدنيا ويصلون إِلى جنات النعيم في الآخرة. 47 - {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)}: أَي: بل أَعندهم علم الغيب فهم يكتبون عنه ما يحكمون به لأَنفسهم مِنْ أَنّهم أَفضل منك وأَنهم لا يعاقبون وغير ذلك مِمَّا يدعون، واستغنوا بذلك عن علمك؟! وقيل المعنى: أَينزل عليهم الوحي بهذا الذي يحكمون؟! ليس عندهم شيء من ذلك. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}

المفردات (صَاحِبِ الْحُوتِ): يونس عليه السلام. (مَكْظُومٌ): مملوء قلبه غيظًا وغضبًا، وقيل: مغموم مكروب. (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ): لطرح من بطن الحوت بالأَرض الفضاء المهلكة. (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ): فاصطفاه بقبول توبته. (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ): أَي: ينظرون إِليك نظرًا شديدا يكاد يصرعك ويسقطك من مكانك لبغضهم لك. التفسير 48 - {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}: المعنى: فاصبر يا محمد لحكم ربك: وهو إِمهالهم وتأخير نصرتك عليهم مع ما تعانيه منهم من أَذى وكرب وبلاء، فإِن الله سبحانه سيحكم لك عليهم، ويجعل العاقبة لك ولأَتباعك في الدنيا والآخرة، روي أَنه صلى الله عليه وسلم أَراد أَن يدعو على ثقيف لَمَّا آذوه حين عرض نفسه على القبائل فنزلت. (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ): وهو يونس - عليه السلام - أَي: لا تكن مثله في العجلة والضجر والغضب على قومه، فكان من أَمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له وشروده به في البحار وظلمات اليم (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) حين دعا ربه في بطن الحوت فقال: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أَي: وقلبه مملوء بالغيظ والغضب على قومه) أَي: وقلبه مملوء بالغيظ والغضب على قومه إِذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلي الإِيمان فطلب من ربه تعجيل عذابهم، والمراد: ولا يكن حالك كحاله وقت ندائه، ولا يُوجد منك ما وُجِد منه من المغاضبة والدُّعاء على قومه بالعذاب؛ فتُبتلى بنحو بلائه عليه السلام.

49 - {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)}: المعنى: لولا أَن تداركته نعمة من ربه - وهي توفيقه للتوبة وقبولها - لطرح من بطن الحوت بالأَرض الفضاءِ الخالية من الأَشجار وغيرها مذمومًا مُعاقبًا على ما صدر منه، ولكن أدركته رحمة ربه وعنايته به فَطُرِح سقيمًا غير مذموم: أي، غير مبعد عن كل خير، وقيل المعنى: لولا فضلُ الله عليه بقبول توبته وتسبيحه لبقي في بطن الحوت إِلى يوم القيامة ثم نُبِذ بعراءِ القيامة مذمومًا، يدل عليه قوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬1) ذكره القرطبي. 50 - {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)}: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) أَي فتداركه نعمة من ربه فاجتباه، أَي: اصطفاه بأَن رد - عز وجل - إليه الوحي وأَرسله إِلى مائة أَلف أَو يزيدون، وقيل: استنبأَه إِنْ صَحّ أَنَّه لم يكن نبيًّا قبل هذه الواقعة، وإِنَّما كان رسولًا لبعض المرسلين (فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ) أَي: من الكاملين في الصَّلاح بأَن عصمه - سبحانه - من أَن يفعل فعلًا يكون تركه أَولى. 51 - {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)}: المعنى 1 - إِنهم لِشدَّة عداوتهم وبغضهم لك ينظرون إِليك شزرًا وحقدًا بحيث يكادون يزلُّون قدمك ويُزِيلُونك من مكانك، من قولهم: نظر إِلي نظرًا يكاد يصرعني أَو يكاد يأكلني، أَي: لو أَمكنه بنظره الصرع أَو الأكل لفعله. 2 - وقيل المعنى: إِنهم يكادون يصيبونك بالعين، ولقد كان ذلك معروفًا في بني أَسد، ذكر الآلوسي وغيره أَن الكفار سأَلوا رجلًا منهم أَن يصيب رسول الله بالعين فأَجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أَنشد الرجل: قد كان قومُك يحسبونَك سيدًا ... وإِخالُ أَنَّك سَيِّدٌ معيون ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآيتان: 143 - 144.

فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وذكر نحوه الماوردي والقرطبي وكذلك الكشاف مع اختلاف في بعض العبارات، وعبارة الكشاف: فقال الرجل لرسول الله: لم أَرَ كاليوم رجلًا - يريد بذلك أَنه لم يَرَ رجُلًا مثلَ الرسولِ - فعصمه الله. ولقد صَحَّ من عدة طرق أَن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر، فالعين حق. وذلك من خصائص بعض النفوس، ولله تعالى أَن يخص ما شاءَ منها بما شاء. قال العلامة الآلوسي في تعقيبه على ذلك: وأَنا لا أَزيد على القول بأَنه من تأثيرات النفوس (ولا أُكيِّف ذلك) فالنفس الإِنسانية من أَعجب مخلوقات الله - عز وجل - وكم طوى فيها أَسرارًا وعجائب تتحيَّر فيها العقول ولا ينكرها إِلاَّ مجنون أَو جهول. ولا يسعني أَن أُنكر العين لكثرة الأَحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأَعضاء. ولابن كثير كلام كثير في هذا المقام فليرجع إِليه من أراد. (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أَي: يزلقونك بأَبصارهم وقت سماعهم القرآن؛ وذلك لشدة بغضهم وحسدهم لرسول الله حين سماعه (وَيَقُولُونَ) لغاية حيرتهم في أَمره - عليه الصلاة والسلام - ونهاية جهلهم بما في القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس منه: (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ): أَي: ينسبونه إِلى الجنون): أَي: ينسبونه إِلى الجنون إِذا سمعوه يقرأ القرآن، أَي: حكموا بجنونه لسماعهم القرآن منه وهم يعلمون أَنه أَعقل الناس وأَحكمهم، وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم من القرآن رَدَّ - سبحانه - ذلك ببيان علو شأن القرآن وسطوع برهانه فقال: (وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ). 52 - {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}: الأُسلوب يفيد بطلان قولهم وتعجيب السامعين من جرأَتهم على التفوه بتلك الفرية العظيمة

أَي: يقولون ذلك والحال أَنَّ القرآن ذِكْرٌ للعالمين، أَي: تذكير لهم وبيان لجميع ما يحتاجون إِليه من أُمور دينهم، فكيف يحكم على من أُنْزِل عليه ذلك بالجنون وهو مطلع على أَسراره طُرًّا، ومحيط بجميع حقائقه خبرًا، وقيل: معنى الذكر: الشرف والفضل لقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (¬1) لِما فيه من الاعتناءِ بما ينفعهم. وقيل: الضمير (هُوَ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه - صلوات الله وسلامه عليه - مذكرًا وشرفًا لجميع العالمين لا ريب فيه. (والله أَعلم) ¬

_ (¬1) سورة الزخرف من الآية 44.

سورة الحاقة

سورة الحاقة هذه السورة الكريمة مكية وآياتها إِحدى وخمسون آية والدليل على أَنها نزلت من مكة المكرمة ما أَخرجه الإِمام أَحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: خرجت أَتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَن أُسلم فوجدته قد سبقني إِلى المسد، فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أَعجب من تأَليف القرآن وقلت: هذا والله شاعر، فقال الرسول: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ) قلت: كاهن، فقال: (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ. تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ .. ) إِلى آخر السورة، فوقع الإِسلام في قلبي كل موقع. مناسبة هذه السورة لما قبلها: جاءَ في سورة (نون) ذكر يوم القيامة مجملًا في قوله تعالى: (وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فبيَّن - سبحانه - في هذه السورة الكريمة نبأَ ذلك اليوم وشأنه العظيم، وذكر أَحوال أُمم كذبوا رسلهم - عليهم السلام - وما أَصاب هؤلاءِ الأَقوام بسبب ذلك التكذيب من التنكيل والعذاب؛ ليزدجر ويرتدع المكذبون المعاصرون له - عليه الصلاة والسلام -. بعض مقاصد السورة: 1 - بدأَت بذكر صفة القيامة على صورة تبعث في النفوس الهيبة والخوف والفزع منها قال تعالى (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ). 2 - تحدثت عن أَقوام من السابقين - عاد وثمود وفرعون ومن قبله وقوم لوط - وقد بلغوا في البغي والطغيان غايته - قد نكل بهم فأَبادهم وجعل بعضهم أَثرًا بعد عين، وبعضًا آخر ليس لهم من باقية ولا أَثر. 3 - جاءَ فيها ذكر بعض نعم الله على الإِنسان وأَنه نجَّاه يوم لا عاصم من أَمر الله إِلاَّ من رحم، وذلك للتذكرة والاعتبار، قال تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً).

4 - عرضت بعد ذلك لذكر أَهوال قيام الساعة: من النفخ في الصور، ورفع الأَرض والجبال وتفتتها، وانشقاق السماء وتداعيها، ووقوف الملائكة على جوانبها، إِلى غير ذلك من الأَهوال والأَحداث الجسام. 5 - عرضت السورة لمآل من فاز ونجا وأُوتي كتابه بيمينه، وبينت فرحه وافتخاره بذلك قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ) كما أظهرت عاقبة من بار وهلك وأُوتي كتابه بشماله، وأَوضحت حسرته وندمه حيث لا ينفع ذلك، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ). وفي ختام هذه السورة الكريمة جاءَ التأكيد على أَن القرآن الكريم من عند الله وليس شعرًا ولا كهانة، بل إِنه تنزيل من رب العالمين، وأَن محمدًا صلى الله عليه وسلم لو افترى وتقول على الله شيئًا لأَخذ الله بيمينه وقطع نياط قلبه، فما يستطيع أَحد أَن يمنعه من تنكيل الله به، وكانت نهاية الختام بيان أَن القرآن يُذَكر المتقين فينتفعون ويعملون بما فيه، وأَنه - سبحانه - يعْلْم المكذبين فيجازيهم على ما اقترفوا وقدموا. ثم كان الأَمر منه - سبحانه - لرسوله أَن ينزهه عمَّا لا يليق به (فَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). (بسم الله الرحمن الرحيم) {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} المفردات: (الْحَاقَّةُ): من حَق: إِذا ثبت ووجب، والمراد بها القيامة. التفسير 1 - 2 - {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)}: الحاقة؛ هي القيامة: وسميت بهذا الاسم لأَنها الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء، فهي آتية

لا ريب فيها، أَو هي التي تثبت فيها الأُمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب، أَو التي تعرف بها الأُمور على الحقيقة. وافتتحت السورة الكريمة بذكر القيامة بهذا الأُسلوب ليزيد الله المؤمنين إِيمانًا لهم بها؛ لأَنهم يعلمون أَنها الحق الثابت الذي لا يتغير، وإِن كانوا مشفقين منها وخائفين من وقعها، كما أَن هذا النسق البديع يقطع بأَن الذين يجادلون ويمارون في وقوعها أَو يتشككون في ذلك لفي بعد عن الحق وتجافٍ عن الصواب، قوله (مَا الْحَاقَّةُ) استفهام أُريد به التعظيم والتفخيم والأَصل: الحاقة ما هي؟ أَيْ: أَيّ شيء هي في صفتها وحالها؟ فوضع الظاهر (الْحَاقَّةُ) موضع المضمر تعظيمًا لشأنها وتهويلًا لأَمرها. 3 - {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}: هذا أَيضًا استفهام أُريد به التعظيم والتفخيم، أَي: أَي شيء أَعلمك بذلك اليوم؟ يعني أَنك لا علم لك بحقيقتها ومدى عظمها وشدة هولها؛ إِذ إِنها في العظم والشدة بحيث لا يصل إلي ذلك علم أَحد ولا همه، وكيفما قدرت حالها فهي أَعظم وأَشد من ذلك. هذا والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالقيامة، ولكنه لمَّا لم يعاينها ولم يشاهدها فكأَنه ليس عالمًا بها، قال يحيى بن سلام: بلغني أَن كل شيء في القرآن (وَمَا أَدْرَاكَ) فقد أراه الله إِيَّاه، وعلمه، وكل شيءٍ قال: (وَمَا أَدْرَاكَ) فهو ممَّا لم يُعَلِّمه، كما روي عن سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: (وَمَا أَدْرَاكَ) أُخبر به، وكل شيءٍ قال فيه: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإِنه لم يخبر به. - ذكره القرطبي -.

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} المفردات: (الْقَارِعَةِ): القيامة؛ سميت بذلك لأَنها تقرع الناس بالأَفزاع والأَهوال التي تحدث فيها. (الطَّاغِيَةِ): الواقعة المجاوزة للحدود، وهي الصيحة أَو الرجفة، وقيل غير ذلك. (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ): شديدة الصوت، من الصَّر، أَو شديدة البرد، من الصِّر. (عَاتِيَةٍ): شديدة العصف والعتّو فلا يستطيع أَحد ردها. (حُسُومًا): نحسات مشئومات حسمت وقطعت كل خير، أَو متتابعات، وقيل غير ذلك. (صَرْعَى): هلكى لا حراك بهم. (أَعْجَازُ نَخْلٍ): أُصول نخل قد تآكلت وخلت أَجوافها .. (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ): المنقلبات، وهي قرى قوم لوط - عليه السلام - التي رفعها جبريل وقلبها هي ومَن فيها.

(الْخَاطِئَةِ): القبيحة الشائهة. (رَابِيَةً): زائدة في الشدة. (طَغَى الْمَاءُ): تجاوز حده حتى علاَ على أَعْلَى الجبال. (الْجَارِيَةِ): سفينة نوح - عليه السلام. (تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ): تحفظها أُذن من شأنها أَن تحفظ ما سمعت به. التفسير 4 - {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)}: لما ذكر الله - سبحانه - الحاقة وبين خطرها وعظم شأنها أَتبع ذلك بذكر من كذب بها من الأُمم السابقة، مع بيان ما حل بهم من النكال والعذاب بسبب تكذيبهم وذلك تذكيرا لأَهل مكة وتخويفًا لهم من عاقبة ما هم عليه من العناد والتكذيب. والقارعة: هي التي تقرع الناس وتخيفهم وتفزعهم، وتقرع السماء بالانشقاق، والجبال والأَرض بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والسقوط، وجاءَت (القارعة) موضع الحاقة أَو ضميرها زيادة في وصف شدتها وتهويل أَمرها، كذبت ثمود قوم صالح - عليه السلام - وكذبت عاد قوم هود - عليه السلام - بهذا اليوم. 5 - {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)}: هذا بيان لما سبق وتفصيل لما أَجمل، وذلك ذكر ما حاق ونزل بهؤُلاءِ وأُولئك من العذاب فأَخبر - سبحانه - أَن ثمود قد أَهلكهم الله بالطاغية، وهي الواقعة المجاوزة للحد في الشدة والقوة، وهي الصيحة التي زادت وتجاوزت كل الصيحات، وقال بعضهم: إِنها الرجفة والزلزال المسبب عن الصيحة، وقيل: إِن المراد من الطاغية هو ذلك الرجل الذي أَقدم على عقر الناقة واسمه قُدار بن سالف، وقد أَهلكهم الله جميعا لأَنهم رضوا بفعله ومالأوه.

6 - {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)}: وهذا نوع آخر من العذاب أَنزله الله على عاد قوم هود - عليه السلام - لما كذبوا رسولهم واستهانوا به وقالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (¬1) فأَهلكهم الله بريحٍ شديدة الصوت، أَو بريح باردةٍ (¬2) كأَنها التي كرر فيها البرد وكثر حتى تحرق بشدة بردها، وهذه الريح هي الدَّبُور، ففي الحديث الذي أَخرجه البخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بِالْصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" والمراد من وصفها بالعتو أَنها قد بلغت منتهاها ووصلت غايتها في القوة والشدة، أَو عتت على عاد فلم يقدروا على ردّها بحيلة من استتار ببناءٍ أَو استناد إِلى جبل أَو اختفاءٍ في حفرة؛ فإِنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم. 7 - {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)}: هذا بيان لكيفية إِهلاكهم بالريح، أَي: سلط الله تلك الريح وأَرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أَيام متتابعات دون فتور أَو انقطاع حتى قطعت دابرهم واستأصلت شأْفَتهم، أَو أَن تلك الليالي والأَيام كانت نحسات مشئومات عليهم، وقيل إِنها هي أَيام العجوز وإِنما سميت بذلك لأَن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأَهلكتها، وقيل: هي أَيام العجز وهي آخر الشتاءِ فترى وتبصر يا من تتأَتى منك الرؤْية - إِن كنت حاضرًا حينئذ - ترى هؤُلاءِ القوم في تلك الليالي والأيام، أو في مهاب الريح موتى وهلكى، يشبهون ويماثلون أُصول نخل خالية الأَجواف لا شيء فيها؛ لأَن الريح تسلطت عليهم فكانت تدخل أَجوافهم فتصرعها وتخرج أَحشاءَهم، أَو خاوية بمعنى بالية؛ لأَنها إِذا بليت خلت أَجوافها، فشبهوا بعد أَن هلكوا بالنخل الخاوية، وتشبيههم بأَعجاز النخل يشعر بأَنهم كانوا عظامًا في خلْقِهِمْ وأَجسامهم. ¬

_ (¬1) من الآية 54 من سورة هود. (¬2) الصر - بالفتح -: مصدر (صرصرته) إِذا شددته، والصر - بالكسر -: البرد.

8 - {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}: أَي فهل ترى وتبصر لَهم من بقية؟ أَو من نفس باقية؟ أَو من بقاء؟! وذهب قوم إِلى أَن هؤُلاءِ القوم لم يبق من نسلهم أَحد واستدل بهذه الآية على قوله. 9 - {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)}: أَي وجاءَ فرعون - ذلك الجبار الطاغي - ومن سبقه من الأُمم التي كفرت كثمود وعاد ومن تبعهما من الأَعوان والجنود، وجاءَ أَيضًا أَهل تلك القرى الذين كذَّبوا نبي الله لوطا - عليه السلام - فكفأَ وقلب جبريل - عليه السلام - تلك القرى ومن فيها، وجاء هؤُلاء وأُولئك جميعًا بالفعلة ذات الخطأ الجسيم والإِثم العظيم. 10 - {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)}: بيّن الله في تلك الآية ذلك الخطأَ الشديد والفعلة الشائنة المنكرة وأَبان عقوبتها، بينها - سبحانه - بأَنها كانت عصيان كل أَمة لرسولها حيث لم ينتهوا عما نهاهم عنه مما كانوا يفعلونه من أَلوان القبائح وضروب الفواحش، فأَنزل الله بهم من العذاب الشديد ما يتوافق ويتناسب مع قبح أَفعالهم وشناعة عصيانهم؛ فأَخذهم أَخذة زائدة شديدة. 11 - {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)}: هذا بيان لفضل من الله ومنة على المؤمنين، وزجر وتهديد للكافرين، أَي: إِننا وقت أَن طغى الماءُ وتجاوز حده المعتاد حتى علا وارتفع فوق كل شيءٍ، وذلك بسبب إِصرار قوم نوح - عليه السلام - على ضروب المعاصي والكفر ومبالغتهم في الاستهزاءِ به، وفي تكذيب ما جاءَ به من الأَحكام والشرائع التي من جملتها أخبار وأَحوال يوم القيامة، إِننا بقدرتنا - وتفضلا منا - جعلناكم ذرية من نجا من الغرق بسبب إِيمانهم بالله وطاعتهم لنبيه نوح - عليه السلام - ورفعنا آباءَكم وأَنتم في أَصلابهم فوق الماءِ إِلى انقضاءِ أَيام الطوفان، ورفعنا آباءَكم في السفينة الجارية بأَمرنا وحفظنا، وأَغرقنا الكافرين ببغيهم وعصيانهم.

12 - {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}: أَي: لنجعل تلك الفعلة - وهي إِنجاءُ المؤمنين وإِغراقُ الكفرة - عظة وعبرة لكم، ولكي تحفظها في نفسها وتسمعها وتعمل بها أُذن من شأنها أَن تحفظ وتعي ما ينبغي حفظه، وذلك بأَن تتفكر فيه وتتذكره وتشيعه ولا تضيعه بترك العمل به، وعن قتادة: الواعية: هي التي عقلت عن الله - تعالى - وانتفعت بما سمعت من كتاب الله - عز وجل -. وجاءَ قوله تعالى: (أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) على الإِفراد والتنكير للإِشعار بأَن الذين يعون ويعقلون ما يسمعون ويعلمون به هم قلة في هؤلاء القوم، ولتوبيخ النَّاس ولومهم بقلة من يعي منهم، وللدلالة - أَيضًا - على أَن الأُذن الواحدة إذا وعت وعقلت من الله فهي المكرمة عند الله، وأَنَّ ما سواها لا يلتفت إِليهم وإِن امتلأَ العالم بهم. {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} المفردات: (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً): فضرب بعضها ببعض حتى اندقت وتفتتت. (وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ): انصدعت بعضها عن بعض. (وَاهِيَةٌ): مسترخية ساقطة القوى ضعيفة. (عَلَى أَرْجَائِهَا): الأَرجاءُ: جمع رجًى، وهو الجنب، أَي: على جوانبها.

التفسير 13 - {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)}: هذا شروع في بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إِثر بيان عظمة شأنها بإِهلاك مكذبيها والمراد من النفخة الواحدة - هي نفخة الملك في البوق - وقد أَكدها ههنا بأَنها واحدة لأَن أَمر الله لا يخالف ولا يمانع ولا يحتاج إِلى تكرار، والأَولى أَن يقال: إِنها النفخة الأُولى التي عندها يحصل خراب العالم. قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل: لماذا قال بعد ذلك: (يَوْمِئذٍ تُعْرَضُونَ) والعرض إِنما يكون عند النفخة الثانية؟ قلنا: جعل اليوم اسمًا للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب، فلذلك قال: (يَوْمِئذٍ تُعْرَضُونَ) كما تقول جئتك عام كذا، وإِنما كان مجيئك في وقت واحد من أَوقاته. أ. هـ. 14 - {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}: أَي: رفعت الأَرض والجبال من أَماكنها إِما بالزلزلة، أَو بريح بلغت من قوة عصفها أَنها تحمل الأَرض والجبال، أَو بملك من الملائكة، أَو بقدرة الله من غير سبب (¬1) فضربت الأَرض والجبال بعضها بعض ضربة واحدة حتى تندق وتتفتت وتصير كثيبا مهيلا: أَي، رملا رخوا لينًا بعد أَن كانت قوية صلبة متماسكة، وقيل: تنفرق أَجزاؤُها كما قال - سبحانه - {هَبَاءً مُّنبَثًّا} (¬2) وقيل: المراد فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أَرضًا لا ترى فيها عوجًا ولا أَمتا: أَي، لا تبصر فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا. 15 - {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)}: أَي: فيوم إِذ حدث ذلك من النفخ في الصور ودك الأَرض والجبال نزلت النازلة وقامت القيامة الكبرى. 16 - {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)}: أَي: وتفطرت السماءُ وتميز بعضها عن بعض، فهي في هذا اليوم مسترخية ساقطة القوة، وذلك بعد أَن كانت محكمة متماسكة. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الإمام الرازي. (¬2) الواقعة من الآية: 6.

17 - 18 - {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}: أَي: والملائكة بعد انشقاق السماء وتداعيها - وهي مسكنهم - يقفون على جوانبها وأَطرافها فزعين خائفين من عظمة الله ذي الجلال، ومن هول ذلك اليوم، ويحمل عرش الرحمن - جلَّ وعلا - ثمانية من الملائكة العظام، أَو ثمانية صفوف، ويكون العرش وحملته فوق الملائكة الذين على أَرجاءِ وأَطراف السموات، وقيل: إِن حمل العرش - يومئذ - يكون فوق ظهورهم أَو على رءُوسهم وليس بأَيديهم. وفي هذا اليوم العصيب الرهيب تعرضون على ربكم للمحاسبة والمساءَلة، قيل: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأَما عرضتان فجدال ومعاذير، وأَما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. (لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) أَي: غير خاف عليه - عز وجل - سر من أَسراركم لا في هذا اليوم ولا في غيره، وقد جاءَ النظم الكريم على هذه الصورة لمزيد تهديدهم، أَي: تعرضون على من لا يخفى عليه شيءٌ أَصلا، أَو المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مستترا في الدنيا بستر الله عليكم؛ فإِنه - سبحانه - في هذا اليوم يظهر أَحوال المؤْمنين للملأ في عرضات القيامة، فيتكامل سرورهم، ويبدي - جل شأنه - أَحوال أَهل العذاب فيظهر بذلك خزيهم وفضيحتهم وهو المراد من قول الله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} (¬1). روي أَن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: حاسبوا أَنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أَنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإِنه أَخف عليكم في الحساب غدًا أَن تحاسبوا أَنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأَكبر. ¬

_ (¬1) سورة الطارق، الآيتان: 10،9.

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} المفردات: (هَاؤُمْ): خذوا. (قُطُوفُهَا): جمع قِطف، وهو ما يجتنى من الثمر. (بِمَا أَسْلَفْتُمْ): بما قدمتم من الأَعمال الصالحة في الدنيا (¬1). (الْقَاضِيَةَ): القاطعة لأَمري ولم أُبعث بعدها. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ): بطلت حجتي التي كنت أَحتج بها في الدنيا، وقيل غير ذلك. التفسير 19 - {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)}: هذا توضيح وتبيين لما سبق إِجماله في قوله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) إِذ بالعرض تظهر أَحوال المؤمنين وغيرهم، فأَما الفريق المؤمن الذي يأخذ كتابه بيمينه فيعلم - آنئذ - ¬

_ (¬1) جاء في القاموس المحيط: السلف - محركة السين -: اسم من الإِسلاف، ثم قال: وكل عمل صالح قدمته.

أَنه من الناجين الفائزين بالنعيم، لأَن اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والمراد بالكتاب هنا: ما كتبته الملائكة وسطرته على العبد من الأَعمال خيرها وشرها، أَي فيقول كل واحد من هؤُلاءِ السعداءِ لغيره أَو لأَهل قرابته - سرورا بنجاته -: (هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) أَي: خذوا كتابي هذا فاقرءُوه حتى ينالكم ما نالني من السرور والفرح؛ ليكمل أُنسي ويزداد ابتهاجي وحبوري. 20 - {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)}: أي: إِني كنت في دنيادي أَعمل الخير وأُحسن القصد وأُتقن العمل وأَرجو منه - سبحانه - أَن يجعل عملي خالصا لوجهه غير مدخول برياءٍ أو سمعة، وإِني ظننت في الدنيا أَن ربي - جل شأَنه - سيحاسبني يوم القيامة حسابا يسيرا، وقد حاسبني - تبارك وتعالى - كما ظننت؛ فالله جلت قدرته - عند ظن عبده به، وقيل: المراد بالظن هنا اليقين والعلم وذلك بناءً على أَن الظاهر من حال المؤْمن تيقن أمور الآخرة، ولكن لمّا كان فيها من التفاوت كسهولة الحساب وشدته - مثلا - عبر عن العلم بالظن للإِشعار والإِشارة إِلى ذلك. 21 - {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)}: أَي: إِن هذا الفريق صاحب اليمين في عيشة وحياة قد رضي بها تمام الرضا واطمأن إِليها كمال الاطمئنان؛ وذلك لدوامها وعظمها وخلوصها من الشوائب والأَكدار حتى كأَن تلك العيشة نفسها راضية، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهمْ يعِيشون فَلاَ يمُوتون أَبدا. ويصِحُّون فَلا يمْرضون أَبدًا، وينْعمون فلاَ يرَوْن بؤْسًا أَبدًا، ويشِبُّون فَلاَ يَهْرمُونَ أَبَدًا". 22 - {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)}: أَي: يعيش هذا الفريق تلك العيشة الراضية ويحيا هذه الحياة الهانئة في جنة رفيعة القدر عظيمة المنزلة، وهي - كما جاءَ في تفسير ابن كثير - رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها. هذا والجنة في ذاتها عالية فهي فوق السموات غير أَن منازل بعضهم فيها فوق منازل الآخرين، وذلك لتفاوت درجات أَهلها.

23 - {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}: أَي: ثمارها قريبة التناول يدركها ويأُخذها القائم والجالس والمضطجع، أَو سهلة التناول أَخرج عبد بن حميد عن قتادة أَنه قال: دنت فلا يرد أَيديهم عنه بعدٌ ولا شوك: 24 - {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}: يقال لهم ذلك من قبل الله تعظيما لشأنهم وإِدخالا للسرور في قلوبهم، أَي: كلوا أَكلا سائغا لذيذا بلا عناءٍ ولا مشقة، واشربوا شربا رويًّا لا ظمأَ بعده، ولا يعقب هذا الأَكل والشرب شائبة من تنغيص أَو ضرر، وذلك بسبب ما قدمتم من الأَعمال الصالحة في أَيامكم التي خلت ومضت وهي أَيام الدنيا، وهذا الجزاءُ جاءَ منه - سبحانه - تفضلا عليهم وإِكراما لهم، وإِحسانا إِليهم، فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "اعملوا وسدِّدوا وقارِبُوا واعلموا أَن أَحدًا منكم لن يدخلَ بعمله الجنة" قالوا: ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أَنا إِلاَّ أَن يتغمدَني الله برحمةٍ منه وفضل"، وقيل المراد من الأَيام الخالية هي أَيام الصيام التي تقلصت فيها شفاههم وغارت أَعينهم وخمصت وجاعت بطونهم من ترك الطعام والشراب امتثالا لأَمر ربهم وابتغاءً لوجهه - سبحانه - فعوضهم عما فاتهم في صومهم. ولما بين الله حال أَصحاب اليمين وما نالوه من سعادة أَبدية في الدار الآخرة أَردفه وأَعقبه ذكر أَصحاب الشمال وما يقاسونه من ضروب الخزي وأَلوان العذاب وصنوفه، فقال: 25 - {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)}: أَي: أَن هذا الصنف الذي يعطى كتابه بشماله - وهو أَمارة النحس وشؤم الطالع - يقول - وقد ملأَته الحسرة وجلَّله الخزي والذل -: يا ليتني لم أُعط كتابي وصحيفة أَعمالي التي تذكرني بقبائح أَفعالي، إِنه من شدة خجله وفرط هوانه يتمنى لو عُذِّب بالنار دون أَن يعرض عليه كتابه حتى لا يناله ذلك العذاب الروحاني الذي هو أَشق وأَشد من العذاب الجسماني.

26 - {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)}: أَي: ولم أَعرف شيئا عن حسابي؛ إِذ لا طائل ولا نفع من وراء ذلك؛ فكتابه لم يضم ما ينجيه وليس فيه ما يغنيه من عذاب الله، إِنه قد حوى وشمل كل قبيح يشينه، وسطر فيه ما يهلكه ويرديه. 27 - {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)}: أَي: يقول - متمنيا ولا ينفع التمني - ليت الموتة التي متُّها وذقتها في الدنيا كانت هي القاطعة لأَمري ولم أُبعث بعدها ولم أَنل وأَلق ما أَلقاه من العذاب المهين، أَو ليت هذه الحالة - وهي حالة مطالعته لكتابه يوم القيامة - كانت الموتة التي قضت عليّ؛ لأَنه قد صار إِلى أَمر أَشد إِيلاما ومرارة من الموت فتمناه عنده، وقد قيل: أَشد من الموت ما يتمنى الموت عنده. 28 - {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)}: أَي: لم ينفعني ولم يغن عني ما كان لي في الدنيا من المال الوفير فضة وذهبا وخيلا مسومة وأَنعاما وحرثا وخدما وحشما، فقد وفدت وجئت إِلى ربي فردا وحيدا لا نصير لي ولا معين. 29 - {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)}: أَي: بطلت حجتي، وضاع دليلي، وضل برهاني الذي كنت أَحتج به في الدنيا على محمد صلى الله عليه وسلم حيث كذبتني الجوارح وشهدت علي بالشرك والمعاصي!! أَو ذهب ملكي وتسلطي وبطشي وجبروتي وبقيت ذليلا مهينا.

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} المفردات: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ): شدُّوه بالأَغلال. (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ): أَي: لا تدخلوه إِلا النار يقاسي حرّها. (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا): قياسها ومقدار طولها. (فَاسْلُكُوهُ): فأَدخلوه فيها، أَي: تلف على جسده، وقيل غير ذلك. (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ): أَي: لا يحث ولا يحرض غيره على إِطعام المساكين. (حَمِيمٌ): قريب مشفق يرق ويحترق قلبه له، أَو يحميه مما نزل له. (غِسْلِينٍ): هو الدم والماءُ الذي يسيل من لحوم أَهل النار. (الْخَاطِئُونَ): جمع خاطيء، وهو الذي يتعمد فعل الذنب، وهم المشركون. التفسير 32،31،30 - {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)}: هذا تفصيل لما يلقاه الأَشقياءُ يوم القيامة حيث يأمر - سبحانه - الزبانية بأَن يأخذوا كل شقيّ فيشدوه بالأَغلال والقيود ويجمعوا بها يده إِلى عنقه، ثم يأمرهم بعد ذلك أَلاَّ يجعلوه إِلا في الجحيم وفي النار التي اشتد تأَججها وزاد سعيرها وأُوارها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ)

وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة، أَي: لا تدخلوه إِلا في سلسلة مقدارها سبعون ذراعا ولفُّوها عليه حتى تنتظمه وتضمه، وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على الحركة، وقيل: إِن المعنى لا تدخلوا السلسلة إِلا فيه، ويكون المعنى أَن السلسلة هي التي تسلك وتدخل فيه، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنها تدخل في دبره حتى تخرج من فمه أَو من منخريه، وعند الله علم مقدار هذا الذراع، وجعلها سبعين ذراعا لإِرادة الوصف بالطول لأَنها إذا طالت كان الإِرهاق أَشد، ونظير ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (¬1) يريد مرات كثيرة. 34،33 - {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)}: هذا بيان للسبب الذي استحق من أَجله هذا العذاب، أَي: استوجب واستحق هذا النكال لأَنه كان في الدنيا مستمرا وقائمًا على الكفر بالله العظيم وجاءَ وصفه - سبحانه - بالعظيم ليشعر ذلك بعظم وشدة عذابه - جل شأنه - واستحق العذاب أَيضا لأَنه لا يحث ولا يحرض غيره على طعام المسكين فضلا عن أن يبذل ماله، فهو يجمع بين البخل بماله والشح على المساكين من مال غيره، وقال صاحب الكشاف: وفي قوله تعالى: (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أَحدهما عطفه على الكفر وجعله قرينا له، والثاني ذكر الحض دون الفعل ليعلم أَن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟! وعن أبي الدرداء: أَنه كان يحض امرأَته على تكثير المرق لأَجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإِيمان أَفلا نخلع نصفها الآخر؟ 37،35 - {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}: أي: فليس له في الآخرة قريب يدفع عنه ويحزن عليه لأَنهم يتحامونه ويفرون منه كقوله تعالى: (وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) والغسلين: هو غسالة أَهل النار وما يسيل من أَبدانهم من القيح والصديد والدم، أَي: ليس لهؤُلاءِ الأَشقياءِ التعساءِ طعام يطعمونه إِلا هذا الصنف ¬

_ (¬1) سورة التوبة من الآية 80.

البشع المنتن الذي لا يأَكله أَحد إِلاَّ هؤُلاءِ القوم الذين كانوا يتعمدون ويقصدون فعل الآثام والذنوب، ولذا لا يدخلون تحت عفو الله وغفرانه لأَنهم جاهروا الله بالمعاصي، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل أُمتي معافى إِلا المجاهرين": {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} المفردات: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ): فأَقسم بالمشاهدات المرئيات، والمغيبات المستورات، وقيل غير ذلك. (تَقَوَّلَ) افترى وادَّعى. (الْوَتِينَ): عرق في القلب إِذا قُطِع مات صاحبه. التفسير: بعد أَن بين - سبحانه - أَن الساعة واقعة لا محالة، وأَن الناس جميعا محاسبون على أَعمالهم، وذكر - جلت قدرته - أَحوال السعداءِ والأَشقياءِ في هذا اليوم - بعد أَن بين ذلك - ختم الكلام في هذه السورة الكريمة بتعظيم القرآن فقال:

39،38 - {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)}: أَي: فأُقسم وأَحلف بما تبصرونه وتشاهدونه مما خلق الله وأَبدعه وجعله دليلا على كمال قدرته وعظيم إِتقانه وإِبداعه، وأُقسم بما لا تبصرونه مما خفى واستتر عنكم من مثل: ذاته سبحانه وأَسرار قدرته وبعض مخلوقاته التي لم يأذن لكم في الاطلاع عليها، وما خفي ودق من نعمة الباطنة وكلمة (لاَ) على هذا في قوله: (فَلا أُقْسِمُ) لتأكيد القسم وليست للنفي، وقيل: إِنها نافية للقسم، كأَنه قال: لا أُقسم على أَن القرآن قول رسول كريم لأَن الأَمر لوضوحه يستغني عن القسم والحلف عليه وقيل: (لاَ) لكلام سبق، أَي: ليس الأَمر كما يقوله المشركون، ثم ابتديء بعد ذلك بالقسم. 40 - {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}: أَي: إن القرآن الكريم يقوله ويتكلم به رسول من عند الله، أَي: يبلغه عن الله وليس لهذا الرسول بعد ذلك ولا قبله شأن فيه، والظاهر أَن المراد من الرسول في الآية الكريمة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأَنه هو الذي كان يصفه قومه بالشعر والكهانة وقيل هو جبريل - عليه السلام -. 41 - {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)}: أَي وليس القرآن بقول شاعر لأَنه يباين ويختلف عن ضروب الشعر وأَغراضه، إذ إِنه التشريع المحكم، والقول الفصل، والجد الذي ليس بالهزل، أَما الشعر فإِنه يخوض في الأُمور كلها جدها وهزلها، فالشعراء في كل واد يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) أَي: أَنهم لا يؤْمنون أصلا؛ فالعرب تقول:: قلَّما يأتينا وهم يريدون أَنه لا يأتينا، أَو أَنهم يؤْمنون ولكنهم سرعان ما يرجعون عن إِيمانهم، وذلك كما حدث من الوليد بن المغيرة فإِنه بعد أَن وصف القرآن الكريم ونعته بأَنه ليس من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، وأَنه ليعلو ولا يُعلى عليه ... إِلى آخر ما قال، رجع واستكبر فقال: إِن هذا إِلاَّ سحر يؤْثر.

وقال الفخر الرازي في قوله تعالى: (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ): إِلاَّ أَنكم لا تقصدون الإِيمان فلذلك تعرضون عن التدبر، ولو قصدتم الإِيمان لعلمتم كذب قولكم: إِنه شاعر لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر. 42 - {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)}: أَي: ليس القرآن - أَيضا - بقول كاهن؛ لأَن الكهان تلهمهم وتمدهم الشياطين بالغي والضلال وقد نزل القرآن بسب الشياطين وشتمهم؛ فلا يعقل أَن يكون من مدهم وإِلهامهم غير أنكم أَيها المكذبون لا تتذكرون كيفية نظم القرآن واشتماله على شتم الشياطين ولعنهم والتحذير منهم، ولو تذكرتم ذلك لأَدركتم أَنكم تتخبطون في أَقوالكم وتكذبون أَنفسكم. 43 - {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}: أَي: أن القرآن العظيم كلام رب العالمين؛ لأَنه تنزيله، أَما أَنه ينسب قوله إِلى جبريل - عليه السلام - فلأَنه نزل به من عند الله، أَو أَنه قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلأَنه أَنذر وبشر الخلق به، فكل من جبريل - عليه السلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم لا دخل في القرآن الكريم إِلا بالنزول به من عند الله بالنسبة لأمين الوحي جبريل - عليه السلام - وبتبليغ ما أَنزل عليه للناس كافة بالنسبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. 47،46،45،44 - {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)}: أَي: لو ادعى ونسب إِلينا محمد من قبل نفسه لم نقله لمنعناه بالأَخذ بيمينه، وهذا تصوير للانتقام منه على أَبشع صورة كما يفعل الجبابرة بمن يريدون التنكيل بهم، من ذلك: بأَن نسلبه قوته، أَو ننتقم منه بالحق بأَن نقيض ونهيء له من يعارضه فيه ويبطل قوله حتى يظهر كذبه لئلا يشتبه الصادق بالكاذب، ثم كانت عاقبته أَننا نقطع العرق المتصل بقلبه حتى يقضى عليه ويموت (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) أَي: فلا يقدر أَحد من الناس أَن يحجزنا ويمنعنا ويحول بيننا وبينه في أَخذ بيمينه، أَو في قطعنا وتينه؛ إِذ ليس ذلك في قدرة أحد أَو في إِمكانه.

ولما لم يحدث من ذلك شيء كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله يبلغ عنه - سبحانه - إِنذار وتبشيرا، وسميت الأَقوال المفتراة المتقولة أَقاويل تحقيرا لها وتصغيرا لشأنها، كقولهم الأعاجيب والأَضاحيك (¬1). {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} المفردات: (تَذْكِرَةٌ): عظة وتذكير. (لَحَسْرَةٌ): لحزن وندامة عظيمة. (حَقُّ الْيَقِينِ) عين اليقين: وقيل غير ذلك. التفسير 48 - {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}: أَي: وإِن القرآن الكريم لتذكرة وعظة للمؤْمنين الذين يخشون ربهم ويتقون المعاصي، وخص - سبحانه - المتقين بذلك لأَنهم هم المنتفعون بالقرآن العظيم. 49 - {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)}: هذه الآية الكريمة وعيد شديد وتهديد للمكذبين، أَي: ونحن نعلم أَن منكم من يكذب بالقرآن مع وضوحه وإِعجازه ويزعم أَنه شعر وكهانة وأَساطير الأَولين، وسنجازي هؤلاءِ المفترين على الله الكذب بما يستحقونه من عقاب ونكال. ¬

_ (¬1) عن الفخر الرازي.

50 - {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}: وإِن هذا القرآن الكريم ليورث الكفار الأَسف العظيم ويجلب لهم الندامة والحزن الشديد وذلك في الآخرة إِذا رأوا وشاهدوا ثواب المؤمنين به والقائِمين على حدوده، أَو يصيبهم ذلك في الدنيا عندما يشاهدون ما عليه المصدقون به من عز ومنعة ودولة وسلطان، أَو حين لم يقدروا على معارضته والإِتيان بسورة من مثله عندما تحداهم بذلك. 51 - {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)}: أَي: وإِن القرآن العزيز لحق لا بطلان فيه، ويقين لا ريب ولا شك فيه ونقل الآلوسي عن بعضهم أنه قال: إِن أَعلي مراتب العلم حق اليقين، ودونه عين اليقين، ودونه علم اليقين، فالأول كعلم العاقل الموت إِذا ذاقه، والثاني كعلمه عند معاينة ملائكته - عليهم السلام - والثالث كعلمه به في سائر أَوقاته. 52 - {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}: أَي: فسبح الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له وتقديسا عمّا لا يليق به من السوءِ والنقائص، وإِبعادا لعظمته عما لا يتفق وجلاله وسلطانه، واشكره شكرا جزيلا على ما أَوحاه إِليك من هذا القرآن الرفيع القدر الجليل الشأن، وما حباك به - سبحانه - وأَعطاك من آلائه الوفيرة ونعمة العظيمة.

سورة المعارج

سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون آية صلة هذه السورة بما قبلها: هذه السورة الكريمة كالمتممة والمكلمة لسورة الحاقة إِذ إِن كلًّا منهما تعرض وتبين أَحوال البشر يوم القيامة. بعض مقاصد السورة: 1 - إِنها - في أَولها - تنذر الكافرين بعذاب نازل وواقع بهم لا محالة. 2 - إِنها تصور يوم الحساب بأَنه شاق وعسير على الكافرين فمقداره عليهم خمسون أَلف سنة، أَما المؤمن فإِن الله يخففه عليه حتى يكون أَخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. 3 - تبين السورة في بعض آياتها السماء يوم القيامة بأَنها تكون بيِّنة الكدورة، وأَنها كعكر الزيت في أَسفل إِنائه، وأَن الجبال تتفتت وتصير كالصوف المنفوش إِذا طيرته الريح. 4 - توضح السورة أَن كل واحد يوم القيامة ينشغل بنفسه (وَلاَ يسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)، وأَن المجرم يتمنى لو كان بنوه وأَهله ومن في الأَرض جميعًا تحت يده يبذلهم في فداءِ نفسه ثم ينجيه ذلك من عذاب الله ومقته ولكن هيهات أَن تكون له نجاة. 5 - تبين الآيات أَن الإِنسان جبل وفطر على الحزن والجزع عند المصيبة والبلاء كما خلق على الشح والبخل عند النعماء والاستغناء، ولكن الله تعبَّده (¬1) بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره، وأَرشده إِلى ما يثبته ويصبره عند النوازل فلا يجزع، وإِلى ما يدفعه إِلى البذل والعطاء إِذا استغنى فلا يشح ولا يمنع (إلاَ الْمُصَلِّينَ). ¬

_ (¬1) تعبده: أي اتخذه عبدا، التعبد: التنسك.

6 - تجيءُ الآيات بعد ذلك معلنة أَن الله قادر على أَن يهلك الكافرين المكذبين ويستبدل بهم قومًا أَفضل منهم؛ لأَنه - سبحانه - لا يفوته شيءُ ولا يعجزه أَمر أَراده. وفي ختام السورة يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أَن يترك هؤلاءِ الكفرة المكذبين ولا يلقي بالا إِلى ما يخوضون فيه من الباطل واللَّهو حتى يصيروا إِلى يوم الحساب الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين وقد خضعت وذلت أَبصارهم واتجهت إلي الأَرض فلا يرفعونها خجلًا وخزيًا فضلًا عمَّا يغشاهم ويجللهم من الذل والمهانة، وهذا هو اليوم الذي هُدِّدوا به في الدنيا ولكنهم كانوا يسخرون به ويكذبون، وفي هذا اليوم يشاهدون جزاء عملهم وعاقبة تكذيبهم: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ). (بسم الله الرحمن الرحيم) {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} المفردات: (سَأَلَ سَائِلٌ): طلب ودعا داعٍ. (وَاقِعٍ): نازل وحاصل. (دَافِعٌ): مانع يردّه. (الْمَعَارِجِ): جمع معرج، وهو المصعد، أَي: صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماءٍ، وقيل غير ذلك. (وَالرُّوحُ): هو جبريل - عليه السلام -.

التفسير 4،3،2،1 - {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}: أَي دعا داعٍ وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب، من قولهم: دعا بكذا إِذا استدعاه وطلبه، والسائل هو النضر بن الحارث، فإنه لمَّا خوَّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نزول العذاب قال - استهزاءً وإِنكارًا -: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (¬1) فكانت عاقبته العاجلة في الدنيا - جزاء استخفافه واستهزائه - أَن أُهلك يوم بدر فضلًا عما ينتظره يوم القيامة من نكال هو أَشد وأَنكى. وقال بعضهم: هذا المسائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد استعجل عذاب الكافرين، فبيَّن الله له أَن هذا العذاب واقع بهم ولا دافع له، قالوا: والذي يشير إِلى هذا التفسير قوله بعد ذلك: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وهذا يدل على أَن ذلك السائل هو الذي أَمره الله بالصبر الجميل. وهذا العذاب نازل بالكافرين في الآخرة لا محالة، وواقع بهم سواءٌ طلب أَو لم يطلب ولا يدفعه عنهم أَحد؛ لأَنه من جهته - تعالى - وهو صاحب الدرجات والمصاعد التي تصعد فيها الملائكة والروح وهو جبريل - عليه السلام - أَفرد بالذكر لتميزه وفضله، وقال مجاهد: الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لنبي آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا، وقيل: ملك عظيم الخلقة يقوم وحده يوم القيامة صفًّا ويقوم الملائكة كلهم صفًّا. وهؤلاءِ الملائكة والروح تعرج وتصعد من سماءٍ إِلى سماء إِلى عرش الرحمن حيث تهبط منه أَوامره - سبحانه - وقيل: المراد من المعارج هي الفضائل والنعم لأَن لوجوه إِنعامه وأَياديه - جل شأنه - درجات وهي تصل إِلى الناس على مراتب مختلفة فهم في نعم الله عليهم متفاوتون. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، من الآية: 32.

وفي قوله: (مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) ما يدخل الخوف والرهبة في قلوب الكافرين؛ إِذ إِن كل المخلوقات تحت قهر سلطانه، والملائكة - ذلك الخلق العظيم - تصعد إِليه في معارج السموات {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1) فما أَشد بطشه وما أَعظم أَخذه {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬2). (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) من سني الدنيا: أَي، أَن هذا العذاب سيكون في يوم قدره خمسون أَلف سنة وهو يوم الحساب إِلى أَن يستقر أَهل الجنة في الجنة وأَهل النار في النار، وإِلاَّ فيوم القيامة لا نهاية له، ثم بعد ذلك ينتقل الكفار إِلى نوع آخر من العذاب. وهذا الطول وتلك الشدة تكون على الكافرين والعاصين فحسب، وأَما المؤمنون فإِن الله يخفف عليهم، يدل على ذلك ما أَخرجه الإِمام أَحمد وغيره عن أَبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ل -: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين أَلف سنة ما أَطول هذا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "والذيِ نَفْسِي بيده إِنه لَيُخفَّفُ على المؤْمنِ حتى يكونَ أَهون عليه من صلاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا". {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)} المفردات: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) الصبر الجميل: هو ما لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. ¬

_ (¬1) سورة التحريم، من الآية: 6. (¬2) سورة هود، من الآية 102.

(كَالْمُهْلِ): كالعدن المذاب، أَو كعكر الزيت. (الْعِهْنِ الْمَنفُوشِ): كالصوف المتناثر، أَو المصبوغ الذي طيرته الريح. التفسير 5 - {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}: أَي: احبس نفسك يا محمد على تحمل أَذَى قومك ولا تضجر من استهزائهم وسخريتهم. أَو فاصبر ولا تستعجل عذابهم الذي سأَلته لهم؛ فإِنه كائن ونازل بهم لا محالة، والصبر الجميل: هو ما لا شكوى فيه لغير الله، وقال بعضهم: إِنه يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو. 6، 7 - {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}: أَي: أَن الكفار يرون العذاب الواقع بهم، أَو يرون يوم الحساب بعيدًا عن الإِمكان ويعتقدون أَن وقوعه محال، أَو أَنه لا يقع أَصلًا وإِن كان ممكنًا في ذاته، ونحن بإِحاطتنا وعلمنا نراه قريبًا هيِّنًا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر. 9،8 - {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)}: أَي يقع هذا العذاب على هؤلاءِ المجرمين يوم تكون فيه السماءِ - بعد تشققها وتداعيها - قد تغير لونها من الخضرة إِلى الحمرة. والمهل: هو عكر الزيت في أَسفل إِنائه، أَو هو ما يذاب من المعادن. والمراد يوم تكون السماء واهية وتصير الجبال متناثرة متطايرة في الجو تشبه الصوف المنفوش، وعن الحسن: تسير الجبال مع الرياح ثم تنهدّ ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء. وقال صاحب الكشاف: المراد بالعهن المنفوش: هو الصوف المصبوغ أَلوانًا؛ لأَن الجبال جدد بيض وحمر مختلف أَلوانها وغرابيب سود، فإِذا بُسَّت وطيرت في الجو أَشبهت العهن المنفوش إِذا طيرته الريح.

هذا هو شأن الله في السموات والأَرض، أَما حال الخلائق في هذا اليوم فقد بينته الآيات التالية: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)} المفردات: (وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا): الحميم: هو الصديق أَو القريب المشفق، قال الراغب: فكأنه الذي يحتد حماية لذويه. (يُبَصَّرُونَهُمْ): يرونهم ويعرفونهم. (وَفَصِيلَتِهِ): عشيرته الذين فصل عنهم. (الَّتِي تُؤْويهِ): تضمه انتماء إِليها في النسب، أَو يلجأُ إِليها ويتمسك بها في النوائب. التفسير: 10 - {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)}: أَي: ولا يسأَل صديق أَو قريب مشفق صديقًا أَو قريبًا كان يعطف ويحنو عليه ويحتد حماية له، لا يسأله عن شأنه وحاله، عدم السؤَال إِما لاشتغال كل أَحد بنفسه فهو كقوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) (¬1) وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ) (¬2) أَو: ولا يسأَل حميم حميمًا شفاعة أَو إِحسانًا إِليه أَو رفقًا به ¬

_ (¬1) سورة الحج، من الآية: 2. (¬2) سورة عبس، من الآية: 37.

أَو نصرًا له لعلمه أَنه لا يجد ذلك عنده، ونظرا إِلى أَنه قد يتبادر إِلى الذهن أَن عدم السؤال قد يرجع إِلى أَنه لا يرى بعضهم بعضًا فقيل: (يُبَصَّرُونَهُمْ) أَي: يرونهم ويعرفونهم ولكنهم لتشاغلهم بأَنفسهم لم يتمكنوا من تساؤلهم أَو لأَنهم لا يرون جدوى في ذلك. 11، 12، 13، 14 - {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}: أَي: هذا المجرم الآثم الظالم الذي تناهى إِجرامه بكفره بربه واستكباره عن عبادة مولاه يحب ويتمنى - فداءً لنفسه من العذاب - أَن يقدم أَبناءَه وزوجه وأَخاه وعشيرته الخارج منها المتفرع عنها التي تؤريه وتضمه إِليها إِذا أَلمت به ملمة أو نزلت به نازلة، ويقدم أَيضًا جميع من الأَرض، والمراد أَن ذلك الكافر والمذنب يود لو يفتدي نفسه بهذه الأَشياءِ ثم يؤدي ذلك إلى نجاته. وجاءَت (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ يُنجِيهِ) لاستبعاد الإِنجاء، يعني يتمنى لو كان هؤُلاءِ جميعًا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، ولكن هيهات أن تكون له نجاة. {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}: المفردات: (لَظَى): علم لجهنم منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص. (لِلشَّوَى): لجلدة الرأس، وقيل: للأَطراف وسيأتي. (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى): تطلب من أَعطى ظهره للحق وأَعرض عن الطاعة للدخول فيها.

(وَجَمَعَ فَأَوْعَى): جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤَد حقه. (¬1) التفسير 16،15 - {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)}: (كَلَّا): ردع وزجر للمجرم عن أَن يود ذلك، وتنبيه له على أَنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب (إِنَّهَا لَظَى) أَي: إِن النَّار شديدة السعير عظيمة التلظي لا تأخذها رحمة ولا شفقة ولا هوادة في أَخذ المجرمين وتعذيبهم؛ فتنزع وتقتلع أَطرافهم أَو جلدة رءُوسهم تنزعها نزعًا فَتُبَتِّكها وتقطعها ثم تعاد؛ قال تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (¬2). 18،17 - {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}: أَي: تدعو جهنم وتطلب من أَدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان، تدعوهم بلسان حالها حيث هيأَت لكل واحد من الكافرين جانبًا وناحية منها يرجع إِليها حتى كأَن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم، أَو أَن الله - سبحانه - يخلق لها لسانًا تدعوهم به؛ فتقول قولا صريحًا: إِليّ يا كافر، إِليّ يا منافق، ثم تلتقطهم التقاط الحب، روي ذلك عن ابن عباس، أَو أَن زبانية النَّار وحراسها تدعوهم أَو أَن معنى (تَدْعُو) تهلك، وذلك من قول العرب: دعاه الله، أَي: أَهلكه، ومنه: دعاك الله من رجل بأَفعى. (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) أَي: جمع المال واختزنه وكنزه وأَحكم وكاءَه وأَوثق وعاءَه، ومنع حق الله فيه؛ فلم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيه، وتشاغل به عن دينه، وزها باقتنائه، وتكبر وتجبّر فكان جموعًا منوعًا. ¬

_ (¬1) قال الراغب: الوعي حفظ الحديث ونحوه، يقال: وعيته في نفسي قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} والإيعاء: حفظ الأمتعة في الوعاء، قال: (وجمع فأوعى). (¬2) سورة النساء من الآية 56.

* {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)} المفردات: (هَلُوعًا): الهلع: شدة الجزع وسرعته عند مس المكروه، وسرعة المنع عند حصول الخير، من قولهم: ناقة هلوع: سريعة الجري، وهلع من باب فرح، يقال: هو هلِع وهلوع. (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ): أَي: مواظبون عليها مستمرون على أَدائها لا يشغلهم عنها شاغل. (فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ): أَي: قدر معين يستوجبونه على أَنفسهم تقربًا إِلى الله وقيل: هو الزكاة. (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): أَي: لمن يسأل النَّاس الصدقة ولمن يتعفف عن سؤالهم فيُظن أَنه غني فيحرم.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): وهو يوم الجزاء، والمراد من التصديق به: الإِتيان بأَعمال الطاعات البدنية فوق الاعتقاد القلبي. (مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ): أَي: خائفون وجلون مع ما قدموا من عمل صالح. (فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ): المتجاوزون الحلال إِلى الحرام. (لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ): لا يُخِلُّوْنَ بشيءٍ مما اؤتمنوا عليه ولا مما أَعطوا عليه العهد للوفاء به. التفسير: 21،20،19 - {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}: هذا إِخبار من الله - تعالى - عن الإِنسان، وعما هو مجبول عليه من أَخلاق ذميمة، إِلا من عصمه الله - سبحانه - ويراد بالإِنسان الجنس، أَو الكافر، أَي: شأَنه وطبيعته أَن يكون سريع الجزع إِذا مسه شر وضر أو لحق ضيق وعنت، شديد الحرص والمنع إِذا صادفه رخاء ويسر (¬1). سئل ابن عباس عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله تعالى: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلبًا عنه، فقال: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أَبين من تفسيره سبحانه، يعني قوله تعالى: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) الآية أَي: إِذا مسه الفقر أَو المرض ونحوهما كان مبالغا في الجزع مكثرا منه، لا صبر له على ما نزل به يتجرعه حزينًا كئيبًا تكاد تتقطع نفسه، وينخلع قلبه. قال الراغب: الجزع أَبلغ من الحزن؛ فإِن الحزن عام، والجزع حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده، ويقطعه منه لقوة أَثره فيه حتى صرفه عمَّا عداه. (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) أَي: كان مبالغًا في البخل والإِمساك، لا ينفعه في طاعة، ولا يعرف فيه حق الله، أَخرج الإِمام أَحمد بسنده عن عبد العزيز بن الحكم قال: سمعت أَبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ". ¬

_ (¬1) لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه جعلا كأَنهما أَمر خلقي وضروري غير اختياري.

22 - {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)}: لَمَّا وصف سبحانه فيما سبق كل من أَدبر عن الحق وتولى عن الطاعة بما يستحقونه من النعوت القبيحة معللا ذلك بهلعهم وجزعهم. استثنى المتصفين بالأَوصاف الجليلة الآتية التي تنبيء عن كمال تنزههم عن الهلع: من الاستغراق في طاعة الحق، والإِشفاق على الخلق، والإِيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإِيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل مُعَدِّدًا تلك الصفات التي اتصف بها المصلون: 23 - {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)}: أَي: مواظبون مستمرون على أَدائها في وقتها، لا يغفلون عنها ولا يشتغلون بغيرها، وقد أَخرج ابن حبان عن أَبي سلمة قال: حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُون، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا". قالت: فكان أَحب الأَعمال إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام عليه وإِن قل، وكان إِذا صلى صلاة دام عليها، وقرأَ أَبو سلمة: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)، قيل: دائمون، أَي: لا يلتفتون فيها، وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر. أَخرج ابن المنذر عن أَبي الخير أَن عقبة قال لهم: من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا: الذين لا يزالون يصلون. قال: لا ولكن الذين إِذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال. وإِليه ذهب الزجاج. وقيل: المراد بالدوام السكون والخشوع كقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (¬1)، والمراد بالصلاة - على ما أخرج عبد بن حميد عن إِبراهيم التَّيْمي -: الصلاة المكتوبة، وقيل: النافلة، وقيل: ما أُمروا به مطلقًا منها، على سبيل الوجوب أَو الندب وهو الظاهر. ¬

_ (¬1) المؤمنون (أَول السورة).

25،24 - {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}: أي: والذين يجعلون في أَموالهم نصيبًا معينا يستوجبونه على أَنفسهم تقربا إِلى الله، وإِشفاقا على العباد، وهو ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أَو كل شهر مثلًا كما روي عن الإِمام أَبي عبد الله - رضي الله تعالى عنه - وقيل: هو الزكاة لأَنها مقدرة معلومة، ورد هذا بأَن السورة مكية، والزكاة إِنما فرضت وبُيِّنَ مقدارها في المدينة، وقيل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين، وهذا القدر المعين الذي اختاره المتصدقون، وجعلوا إِخراجه لزاما عليهم يعطي (لِلسَّائِلِ) وهو حق له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند أَحمد: "للسائِل حقٌّ وإِن جاءَ عَلَى فَرَس" (وَالْمَحْرُومِ) يعطي أَيضا، وهو الذي يتعفف فلا يسأل الناس شيئًا، وبذلك يخفى أَمره فلا يُفطن له، ويُحسب أَنه غني، فيحرم، ولا يتصدق عليه بما هو حق له، ويشير إِلى ذلك قوله تعالى: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ) (¬1)، واستعمال المحروم في المتعفف على سبيل الكناية. 26 - {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)}: وهو يوم الجزاء والحساب، والمراد من التصديق به: أَن يشغلوا أَنفسهم بأَداءِ الأَعمال الصالحة طمعًا في المثوبة الأخروية بحيث يستدل بذلك على تصديقهم الأَكيد بيوم الجزاءِ وحبهم الصادق له، لأَن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين، لا امتياز فيه لأَحد منهم على غيره. 27 - {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)}: أَي: خائفون على أَنفسهم أَن يمسهم عذاب ربهم مع ما لهم من الأَعمال الفاضلة استقصارًا لها واستعظاما لجنابه - عز وجل - كقوله تعالى - (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (¬2) فهم بذلك قد بلغوا الغاية في بلوغ أَعلى مراتب الخشية، وأَسمى آيات الطاعة؛ فكان جزاؤهم أَن يكونوا من الآمنين يوم الفزع الأَكبر. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 273. (¬2) المؤمنون، آية رقم: 60.

28 - {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}: اعتراض بين الكلام المتصل في وصف المصلين مؤذن بأَنه لا ينبغي لأَحد أَن يأمن مكر الله وعذابه، وإِن كان له في الطاعة قدم ثابتة، وفي الإِخلاص جهد لا يُبَاَرى كهؤلاء، ولذا كان السلف الصالح - وهم هم - خائفين وجلين حتى قال بعضهم: يا ليتني كنت شجرة تعضد، وقال آخر: يا لَيْتَ أُمي لم تلدني. 30،29 - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)}: أَي: أَنهم ممسكون لفروجهم غير مرسلين لها على أَحد إِلاَّ على أَزواجهم أَو ما ملكت أَيمانهم وفيه إِيذان بأَن شهوتهم قوية دافعة تدعوهم إِلى بذل الجهد في صدها لمنعها من استيفاءِ مقتضياتها، وبذلك يتحقق لهم كمال العفة. والمراد بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ): الإِماءُ المملوكات. (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ): تعليل لما يفيده الاستثناءُ القاضي بعدم حفظ فروجهم عن الزوجات والمملوكات، أَي: فإِنهم ليسوا أَهلًا للوم والتأنيب على عدم حفظ فروجهم بإِرسالها على أَزواجهم أَو ما ملكت أَيمانهم وفق نص الشارع الحكيم. 31 - {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)}: أَي فمن تجاوز الذي ذكر من القدر المعلوم وهو نكاح أَربع من الحرائر، وما شاءَ من الإِماء، فقد تعدى حدود ما أَحل الله له إِلى ما حرمه عليه قال الطبري: من التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته أَو ملك يمينه ففاعلو ذلك هم العادون الذين تعدوا ما أَحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، وهم الملومون، أَما الذين لم يقربوا سوى أَزواجهم التي أَحلها الله لهم، وما ملكت أَيمانهم من السراري، فهم غير ملومين كما أَشارت إِلى ذلك الآية السابقة.

32 - (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ): أَي: أَنهم إِذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإِذا عاهدوا لم يغدروا، بل كانوا مثالا كاملاً في حفظ الأَمانة، ورعاية حقوقها، والوفاء بالوعد، والإِخلاص فيه، وبذلك تنزهوا عما اتصف به المنافقون في الحديث الصحيح " آية المنافق ثلاثٌ: إِذا حَدَّت كذبَ، وإِذا وعَد أَخْلفَ، وإِذا اؤْتمِنَ خان " وكأَنه لكثرة الأَمانة جمعت، ولم يجمع العهد لأَنه ليس كالأَمانة كثرة، ويدل علي كثرتها ما روي عن الكلبي: كل أَحد مؤتمن علي ما افترض عليه من العقائد، والأَقوال، والأحوال، والأَفعال، ومن الحقوق في الأَموال وحقوق الأَهل والعيال، وسائر الأَقارب، والمملوكين، والجار، وسائر المسلمين. قال السدي: إِن حقوق الشرع كلها أَمانات قد قبلها المؤتمن، وضمن أَداءَها بقبول الإِيمان، ونص غير واحد أَن الخيانة في الأَمانة، وكذا الغدر بالعهد من الكبائر، وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن أَنس قال: ما خَطَبَنا رسول الله- صلي الله تعالي عليه وسلم - إِلا قال:" لا إِيمانَ لمن لا أَمانَةَ له، ولا دين لمن لا عَهْدَ له ". 33 - (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ): أَي: أَنهم محافظون عليها، لا يزيدون فيها، ولا ينقصون عنها، غير منكرين لها أَو لشيءِ منها، وإِنما يقيمونها علي وجهها، بدون ميل إِلي قريب أَو شريف، أَو ترجيح لقوي علي ضعيف: إِظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إِحياءِ حقوق المسلمين، وتعظيما لله - عز وجل - فيما يتعلق بحقوقة - سبحانه - من أَنه واحد لا شريك له وأَن محمداً عبده ورسوله،، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد، وذكر أَنها مندرجة في الأَمانات إِلاَّ أَنها خصت بالذكر لإِبانة فضلها، وعلو قدرها، وجمعت لاختلاف الأَنواع. 34 - (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): أَي: يراعون شرائطها، ويكملون في فرائضها، وسننها، ومستحباتها، وذلك باستعارة الحفظ من الضياع للإِتمام والتكميل، والحفظ غير الدوام في قوله - سبحانه - فيما سبق (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) فلا تكرار.

وفي افتتاح الأَوصاف بما يتعلق بالصلاة أولًا وآخرا دلالة على الاعتناءِ بها، والتنويه بشأنها وفضلها على سائر الطاعات لأَنها معراج المؤمنين، ومناجاة رب العالمين، ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين. 35 - {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}: إِشارة إِلى أَن الموصوفين بالأَوصاف الكريمة التي تنبيء عن علو أَقدارهم عند ربهم، واستحقاقهم لإِكرامه وفضله مكرمون في جنات النعيم، وما في الإِشارة من معنى البعد في قوله تعالى: (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أَنهم مستقرون في جنات لا يقادر قدرها، ولا يدرك شأَنها. مكرمون فيها بكل أَنواع التكريم. {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}

المفردات: (قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أَي: مسرعين نحوك مادي أَعناقهم إِليك. مقبلين بأَبصارهم عليك وفعله (أَهطع) بمعنى مد عنقه، وصوب رأَسه، ومهطع كمحسن: من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره، والمادة تدل على السرعة. (عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ): أَي: جماعات في تفرقة كما قال أَبو عبيدة: كل فرقة تعتزي وتنتسب إِلى غير من تنتسب له الأخرى، وهي جمع عزة بمعنى فرقة، والفرقة من ثلاثة أَشخاص أَو أَربعة. (كَلَّا) كلمة لردع المشركين عن الطمع في الجنة. (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ): أَي: مشارق الشمس والكواكب ومغاربها. (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): أَي: بمغلوبين إِن شئنا تبديلهم بخير منهم. (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا): أَي: اتركهم للدخول في باطلهم الَّذِي تعودوا الدخول فيه واقترافه والحديث عنه، ولا تعبأ بلعبهم في دنياهم فإِنه لا يجدي. (مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا): أَي: مسرعين، والأَجداث: جمع جدث وهو القبر، مثل سبب وأَسباب، وهي لغة تهامة، ولغة نجد جدف بالفاءِ. (إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ): النصب: ما نصب فعبد من دون الله، وهو عند الكثيرين مفرد، وقيل: هو جمع نصاب ككتاب، وقال الأَخفش: جمع نصْب كَرهْن ورُهن، والأَنصاب جمع جمع، و (يُوفِضُونَ): يسرعون، من الإِيفاض، وقيل: هو مطلق الانطلاق. (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): أَي: تغشاهم ذلة شديدة تجعلهم في منتهى الضعف والهوان. التفسير 37،36 - {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)}: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويقرأُ القرآن، فكان المشركون يجتمعون حوله حلقًا وفرقًا يستمعون ويستهزئون بكلامه - عليه الصلاة والسلام - ويقولون: إِن دخل هؤُلاءِ الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، فلندخلنها قبلهم، فنزلت الآيات.

والمعنى: أَي دافع دفع هؤُلاءِ الكافرين إِلى أَن يسيروا نحوك مسرعين مادي أَعناقهم إِليك مقبلين بأَبصارهم عليك؛ يحلقون عن يمينك وشمالك حلقًا متعددة، يكوِّنون فرقًا شتى كل فرقة تعتزي وتنتسب إِلى غير من تعتزي له الأَخرى. ينكر الله تعالى على المشركين الَّذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى، وأَيده به من المعجزات الباهرة، ثم هم مع هذا كله معرضون عنه مبالغون في تلمس ما يتخذونه هزءًا به، وسخرية منه حينما يرونه يصلي عنه الكعبة ويقرأُ القرآن قائلين: إِن دخل هؤُلاءِ الجنة - كما يقول محمد - فلندخلنها قبلهم، وقد رد عليهم سبحانه فأَبطل زعمهم حيث يقول عز وجل. 39،38 - {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}: إِنكار لقولهم وردع لهم عن طمعهم الكاذب في دخولها بلا إِيمان، لأَنا خلقناهم من أَجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإِيمان والطاعة، أَما من لم يستكملها بذلك، فهو بمعزل عن أَن يتبوأَ متبوأَ الكاملين، فمن أَين لهم أَن يطمعوا في دخول الجنة، وهم مكبون على الكفر والفسوق، وإِنكار البعث وهو معلوم لهم باعتبار سماعهم عنه من النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المعنى: إِنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أَلا يدخل أَحد الجنة إِلاَّ بالإِيمان فلِم يطمع أَن يدخلها من لا إِيمان له؟ وفيه من الإِنكار عليهم والردع لهم ما فيه. وقيل: الأَقرب أَنه كلام مستأنف (¬1) قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته على أَن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم بالرسول والقرآن، وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وأَن ينشيءَ بدلهم قومًا آخرين خيرًا منهم، فإِن قدرته سبحانه على ما يعلمون من أَنه أَنشأَهم النشأَة الأُولى حجة واضحة على قدرته على ذلك. كما تفصح عنه فاء الفصيحة في قوله سبحانه: ¬

_ (¬1) وهو قوله: (إنَّا خَلَقْنَاهُم).

41،40 - {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}: المعنى: إِذا كان الأَمر كما ذكرنا من أَنه سبحانه أَنشأَهم إِنشاءً من النطقة المذرة كما يعلمون ولم يكونوا شيئًا مذكورًا: فلا أُقسم (¬1) برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها على قدرتنا البالغة على أَن تهلكهم حسبما تقتضيه جناياتهم، ونعيدهم يوم القيامة بأَبدان أَطوع لله، وأَمثل منهم؛ وذلك لظهور الأَمر واستغنائه عن التحقيق والتأكيد بالقسم لأَن الإِعادة أَهون من البدءِ كقوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (¬2) أَي: بالبعث. أَو أَنَّ "لاَ" رد لكلام سبق للمشركين واجهوا به الرسول وأَصحابه سخرية منهم، واستهزاءً بهم، وطمعًا استحوذ عليهم في دخول الجنة قبلهم، ثم استؤنف فقيل: (أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ) الخ: أي: أَقسم بأَن قدرتنا العظيمة على البعث حقيقة لا شك فيها، وقد شاهدوا من بالغ قدرتنا ما هو أَكبر منه وهو خلق السموات والأَرض، تسخير ما فيها من المخلوقات كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (¬3) فحقيق بهم أَن يدعوا الجحد والعناد، ويؤمنوا إِيمانًا لا مرية فيه ولا ارتياب بأَننا قادرون على أَن نبدلهم خيرًا منهم، (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين إِن أَردنا ذلك، لكن إِرادتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأَخير عقوبتهم. 42 - {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)}: أَي: فدعهم يا محمد غير مكترث بهم وبما يصنعون من تكذيبهم وباطلهم الذي تعودوا اقترافه ولا تبعأُ بما يأتون به في دنياهم من أَعمال لا نفع فيها، ولا خير منها، وإِنما هي لهو ولعب، واشتغل بما أُمرت به، والأمر في الآية لتهديد المشركين ووعيدهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، وفي ذلك فسيلقون عاقبة ما علموا، ويذوقون وباله، ويتجرعون أَهواله التي لا تنفع معها توبة ولا يجدي عندها ندم ¬

_ (¬1) على أن (لا) نافية للإِقسام. (¬2) الأعراف، من الآية: 29. (¬3) غافر، من الآية: 57.

44،43 - {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}: أَي: إِن يومهم الذي وقع لهم فيه الوعد بما يلاقونه من أَهوال وشدائد لخوضهم ولعبهم، هو يوم قيامهم من القبور إِذا دعاهم الرب - جل وعلا - إِلى موقف الحساب، فإِنهم ينهضون مسرعين يسبق بعضهم بعضًا كما كانوا في الدنيا يهرولون إِلى النصب الَّذي تصبوه للعباده من دون الله، وقد كانوا إذا ما أَبصروه (يُوفِضُونَ) أَي: يسرعون إِليه أَيهم يستلمه أَول وهذا مرْويٌّ عن مجاهد، ويحيى بن كثير وقتادة والضحاك والربيع بن أَنس وابن أَبي زيد وغيرهم وكان الإِسراع إِلى المعبودات الباطلة وسائر الطواغيت من عادة المشركين، وفي تشبيههم عند خروجهم من قبورهم للحساب بما ذكر تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ). أَي: خاضعة منكسرة لمهانتهم، ووصفت الأَبصار بالخشوع مع أَنه وصف الكل؛ لظهور آثاره فيها (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أَي: تغشاهم، وتعم ذواتهم ذلة شديدة وهوان في مقابل ما استكبروا عنه في الدنيا من الطاعة وتظاهروا به من المعصية، وتمادوا فيه من العناد بإِنكار البعث والمعاد. (ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ): أَي: ذلك الذي ذكر ما سيقع فيه من الأَحوال الهائلة والشدائد المذهلة هو اليوم الذي كان يقع لهم الوعيد به في الدنيا (¬1) فكانوا يقابلون هذا الوعيد بالاستهزاء والسخرية والتكذيب، واليوم يرون عذابهم واقعًا، وجزاءَهُمْ محققًا، وكل ما هددوا به ماثلا، وقد عز عليهم النصير، وامتنع المعين. ¬

_ (¬1) بقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ).

سورة نوح

سورة نوح عليه السلام مكية، وهي ثمان وعشرون آية وسميت سورة نوح لذكره في مفتتحها ومختتمها. وجه اتصالها بما قبلها: ووجه اتصالها بما قبلها - على ما قال جلال الدين السيوطي - وأَشار إِليه غيره بأَنه: سبحانه كما قال في المعارج: (إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) عقَّبه تعالى بقصة نوح - عليها السلام - المشتملة على إِغراقهم عن آخراهم، فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى القاضية باستبدالهم خيرًا منهم. أَهم مقاصد السورة: بدأَت بأَمر نوح - عليه السلام - أَن يدَعُوَ قومه إِلى عبادة الله وأَن ينذرهم ويخوفهم من عذابه، وقد وعدهم المغفرة على استجابتهم، والتأخير إِلى أَجل مُسَمًّى، الآيات من أَول السورة إلى قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). ثم ذكرت شكايته عن إِعراضهم عنه، وعنادهم له بعد أَن أمعن في شغل جميع أَوقاته بدعائهم ونصحهم واستنفذ معهم كل وسائل الدعوة جهرية وسرية فلم تزدهم إلا فِرَارًا وإِصرارًا (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) الآيات. ثم وجهت الأَنظار إِلى دلائل القدرة في خلق السموات والكواكب، وفي خلق الأَرض وبسطها وما يتصل بها (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا .. ) الآيات. ثم سجلت إِصرارهم على عبادة الأَصنام حتى استحقوا عذاب الله وكان ذلك بإِغراقهم (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا ... ) الآيات. وختمت السورة ببيان أَن نوحًا - عليه السلام - لما يئس من قبولهم الدعوة دعا عليهم بالهلاكِ والانقراض. (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ... ) الآيات. ودعا لنفسه بالمغفرة ولأَبوبه ولمن دخل بيته مؤْمنًا وللمؤْمنينَ والمؤْمِنَاتِ.

(بسم الله الرحمن الرحيم) {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} المفردات: (إِلَى قَوْمِهِ): هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم. (عَذَابٌ أَلِيمٌ): شديد موجع عاجل، وهو ما حل بهم من الطوفان أَو آجل وهو عذاب النار. (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ): منذر موضح من أَجل نفعكم من غير أَن أَسأَلكم على ذلك أَجرا. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ): أَي: بعض ذنوبكم التي سبقت في الجاهلية. (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): أَي: يمد في أَعماركم إِلى الأَمد الأَقصى الذي قدره الله لكم. (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ): أَي: ما قدره - عز وجل - لكم وأَنتم على ما أنتم عليه إِذا جاءَ لا يؤخر. التفسير 1 - {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)}: نوح - عليه السلام - اسم أَعجمي معرب: معناه بالسريانية، الساكن، والمشهور أَنه - عليه السلام - ابن لَمْك - بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف - بن مَتُّوشَلَخَ - بفتح الميم

وتشديد التاءِ مضمونة وفتح الشين واللام والخاء - بن أَخنوخ، وفيه عن ابن عباس: كان بين آدم ونوح - عليها السلام - عشرة قرون. بعثه الله لأَربعين سنة، ومكث يدعو قومه أَلف سنة إِلاَّ خمسين عامًا، ومع ذلك لم يؤْمنْ به إِلا قليل، وهو من أُولي العزم، وكان في زمن شاع فيه الكفر وذاع، وقد اشتهر قومه بعباده الأَوثان، وأَكثروا من البغي والظلم والعصيان، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثر الناس وانتشروا، وفي التهذيب للنووي - رحمة الله تعالى - أَنه أَطوال الأَنبياء عمرًا، وقيل: إِنه أَطول الناس جميعًا عمرًا مطلقًا، وهو - على ما قيل - أَول من شرعت له الشرائع، وسنت له السنن، وأَول رسول أَنذر على الشرك، وأَهلكت أُمته، ويقول ابن كثير: الحق أَن آدم - عليه السلام - كان رسولًا أرسل إِلى زوجته ثم إِلى بنيه، وكان في شريعته الإِنذار على الشرك، ويقال لنوح: شيخ المرسلين، لأَنه أَطولهم عمرًا، وآدم الثاني. أَرسله الله إِلى قومه وهم - كما قيل -: سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم، لا أَهل الأَرض كافة؛ لاختصاص نبينا - عليه الصلاة والسلام - بعموم البعثة من بين الرسل جميعًا، والذي كان لنوح - عليه السلام - بعد قصة الغرق حدث بمحض الاتفاق لعدم وجود أَحد على الأَرض سوى قومه الناجين مع في السفينة، وفي إِسناد الفعل في قوله سبحانه: (إِنا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ) إِلى ضمير العظمة مع تأكيد الجملة، ما لا يخفى من الاهتمام والاعتناء بإِرساله عليه السلام (أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ) أَي: بأَن أنذرهم وخوفهم عاقبة كفرهم من الإِنذار، وهو إِخبار فيه تخويف وترويع، وتكون (أَن) مصدرية فإِن كانت مفسرة كان المعنى: إِنا أَرسلنا نوحًا إِلى قومِهِ، أَي: قلنا له أَمرًا، أَي: أَنذر قومك لما في الإِرسال من معنى القول دون حروفه، فلا محل للجملة من الإِعراب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) موجع شديد عاجل وهو ما حل بهم بالطوفان كما قال الكلبي أَو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس أَو المراد خوف قومك، وحذرهم مما ينزل بهم إِن لم يؤْمنوا حتى لا يكون لهم عذر أَصلا يعتذرون به يوم يؤخذون أَخذ عزيز مقتدر.

4،3،2 - {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)} قول نوح - عليه السلام - استئناف مبني على سؤال نشأَ عن حكاية إِرساله - عليه السلام - بالوجه المذكور وهو الإِنذار، فكأَنه قيل: ماذا فعل عليه السلام؟ فقيل: قال لهم (يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) بين النذارة ظاهر الأَمر واضحه، لم أَدخر وسعًا في سبيل نصحكم، وهدايتكم إِلى طريق الرشاد؛ من أَجل نفعكم من غير أَن أَسألكم على ذلك أَجرًا وقوله: (أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) متعلق بنذير في قوله سبحانه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) على مصدرية (أَن) أَو تفسيريتها، فعلى المصدرية يكون المعنى: إِنِّي نذير لكم بعباده الله وتقواه وإِطاعتي إِلى ما أدعوكم إِليه من الصلاح والفلاح، وعلى تفسيريتها يكون المعنى: إِن نذارتي هي: أَن اعبدوا الله واتقوه وأَطيعون، أَي: قولي، أَي: اعبدوا الله وحده واجتنبوا مآثمه، وأَطيعوني فيما دعوتكم إِليه، وأَمرتكم به وما نهيتكم عنه من عبادة الأَوثان والأَصنام. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أَي: يمح الله عنكم بعض ذنوبكم وهي التي حصلت قبل الإِيمان لأَن الإِيمان يجُبُّ ما قبله كما يرى بعض العلماءِ، كما في قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (¬1) وقيل: إِن المراد بالبعض المغفور قبل الإِيمان، هو ما يتعلق بحقوق الله فقط دون ما يتعلق بحقوق العباد كالقصاص ونحوه، أَو هي الذنوب العظام التي وعدكم الله عليها الانتقام - كما قال ابن كثير - وقيل المعنى: يصفح الله لكم عن ذنوبكم، واختاره ابن جرير على أَنَّ (مِنْ) بمعنى (عَنْ) وقد تابت عنها، أَو (من) بيانية بمعنى: يغفر لكم أَفعالكم التي هي الذنوب، كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ) (¬2) فهي لبيان مبهم وهو أَفعالهم. وللتوفيق بين هذه الآية (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وقوله تعالى: (إِنَّ الله يِغَفْرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ونحوها لا يبعد أَن الله يغفر الذنوب جميعها لقوم، وبعضها لآخرين، وقيل: جيءَ بمن مع الكفرة مطلقًا في خطابهم دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين. ¬

_ (¬1) الأَنفال، من الآية: 38. (¬2) الحج، من الآية: 30.

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) المراد به الأَمد الأَقصى الذي قدره الله بشرط الإِيمان والطاعة (¬1) وراءَ ما قدره الله لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان، وكونهم لا يؤخرون إِلى الأَمد المسمى إِلا بشرط الإِيمان والطاعة صريح في أَن لهم أَجلا آخر لا يجاوزونه وهو ما قدر لهم إِن لم يؤمنوا، وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إِن الطاعة، والبر، وصلة الرحم تزيد العمر. ذكره ابن كثير، لما ورد به الحديث: (صِلَة الرَّحِم تزيدُ في العُمر). (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير إلي الأَجل المسمى على الإِيمان، أَي: لأَن أَجل الله الذي قدره سبحانه لكم على تقدير بقائكم على الكفر إِذا جاءَ وأَنتم على حالكم لا يؤَخر عن وقته المقدر له، فبادروا إِلى الإِيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه وهو بقاؤكم على الكفر، وقيل: المراد بتأخيرهم إِلى الأَجل المسمى تأَخير وقت عذابهم، وذلك بإِمالهم والتجاوز عنهم في الدنيا، فلا يوقع العذاب بهم مدة بقائهم إِلى أَن يأَتيهم العذاب المذكور في قوله تعالى: (مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَهُمْ عَذَابٌ أَليِمٌ) فإِنه أَجل مؤقت حتمًا، وأَما الأَجل بمضي العمر، فهو محدود لا يتقدم ولا يتأَخر كما قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (¬2). ولو كنتم من أَهل العلم لسارعتم لما أَمركم به نبيكم من الإِيمان والطاعة ليتحقق لكم البقاء إِلى أَجل مسمى، ولكنكم لستم من أَهله في شيء، فلذا لم تسارعوا لما أُمرتم به وآثرتم الكفر والضلال، أَو لو كنتم من أَهله لعلمتم بأَن الأَجل لا يؤَخر لو جاءَ وقته المقدر له، ولكنكم جهلتم ذلك فظللتم في غيكم سائرين. ¬

_ (¬1) حثا لهم على الإيمان بنوح - عليه السلام - وبترك الإِمعان في الكفر والعناد، قيل: إِن الله قضى لهم: إِن آمنوا عمرهم، وإِن كفروا أَهلكهم. (¬2) الأعراف، الآية: 34.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} المفردات: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا): تباعدا من الإِيمان وإِعراضًا عنه. (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ): سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة، ووضع أَناملهم فيها كناية عن ذلك. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ): بالغوا في التغطي بها، واستغشى على وزن استفعل. والصيغة تدل على المبالغة لما فيها من الطلب. (وَأَصَرُّوا) أي: أَكبوا وأَقاموا على الكفر والمعاصي، من الإِصرار على الذنب: وهو الامتناع من الإِقلاع عنه وأَصله من الصَّرة. وهي الشدة. التفسير 6،5 - {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)}: يخبر الله - عز وجل - عن عبده ورسوله نوح - عليه السلام - أَنه توجه إِليه - سبحانه - مناجيًا وحاكيًا له بقصد الشكوى - وهو أَعلم بحاله - ما لقي من قومه، وصبره عليهم، وما جرى بينه وبينهم من القليل والقال في تلك المدد الطوال، بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود، وجاوز في الإِنذار كل حد معهود، وسلك معهم مختلف الحيل بعزم وتصميم فلم يُجْدِ

معهم كل ذلك نفعًا، ولم يؤث ثمرا، حكى كل هذا لربه مناجيًا وشاكيًا فقَال: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) أَي: دعوتهم إلي الإِيمان والطاعة دعاءً متواصلا. شغل ليلي ونهاري من غير فتور ولا توان امتثالا لأَمرك (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا) أَي: هَرَبًا مني وبعدا عني، وعما نصحتهم به، ودعوتهم إِليه، وإِسناد الزيادة إِلى الدعاء لسببيته لها على سبيل المجز، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (¬1). 9،8،7 - {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)}: تتابع الآيات ذكر تمادي هؤُلاءِ الكفرة في الضلال واندفاعهم في الإِعراض والتكذيب مما جعله - عليه السلام - يستمر في حكاية شكواه لربه فيقول: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ ... ) الخ أَي: كلما دعوت قومي إِلى الإِيمان وللاستجابة إِلى ما أَدعوهم إِليه من ترك الشرك والعصيان لتغفر لهم ذنوبهم، وتتجاوز عن سيئاتهم، وتدخلهم يوم الجزاءِ مدخلا كريمًا (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) أَي: سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة إلي الحق. فجعلهم الأَصابع في الآذان كناية عن انصرافهم عن الحق، وقد أَخبر الله من كفار قريش أَنهم كانوا يصنعون مثيل هذا عند استماعهم للقرآن الكريم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (¬2). ولا مانع من حمل قوله سبحانه: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) على إِرادة الحقيقة بسدها بالأَصابع. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) بالغوا في التغطي. بها كأَنهم طلبوا منها أن تغشاهم كراهة النظر إِليه من فرط نفورهم من الدعوة، ومقتهم لها، وقال ابن جريج عن ابن عباس: تنكروا له لئلا يعرفهم، وقال سعيد بن جبير والسّدي: غطوا رءُوسهم لئلا يسمعوا ما يقول. ¬

_ (¬1) الأنفال، من الآية رقم: 2. (¬2) فصلت، آية رقم: 26.

(وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) أَي: أَكبوا على ما هم عليه من الكفر بإِصرار والتزام، وقد صار الإِصرار حقيقة عرفية في الملازمة، والانهماك في الأَمر. قال الراغب: الإِصرار: التعمد في الذنب، والتشديد فيه، والامتناع من الإِقلاع عنه، وقد استكبروا عن اتباع نبيهم - عليه السلام - استكبارًا عظيمًا، وقيل: استكبروا نوعًا من الاستكبار غير معهود قبلهم، والاستكبار: طلب الاتصاف بالكبر من غير استحقاق له. وحاصل المعنى: أَن نوحًا - عليه السلام - كان كلما دعاهم إِلى دين الحق ليظفروا بمغفرة ربهم عطَّلوا مسامعهم عن سماع الدعوة فجعلوا فيها أصابعهم على الكناية أَو على الحقيقة. وبالغوا في التغطي بثيابهم كراهة النظر إِليه، ولئلا يعرفهم فيدعوهم إِلى ترك الكفر الذي أَقاموا عليه، وتمسكوا به، واستكبروا عن اتباعه - عليه السلام - والانقياد لدعوته استكبارًا عظيمًا ليسوا أَهلا له. {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} أَي: إِني دعوتهم تارة بعد أُخرى ومرة عقب غيرها. يعني أَنها دعوات متتابعة، على وجوه متخالفة، وأَساليب متغايرة، بعد أَن دعاهم في أَوقات متنوعة، وفي ذلك تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم أَوقاتها، و (ثُمَّ) لتفاوت وجوه الدعوة وأَساليبها لا للتراخي الزمني وقوله سبحانه: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) يشعر بأَن الجهر وقع مسبوقًا بالسر وهو الأليق بمن همُّه الاستجابة؛ لأَنه أَقرب إِليها لما فيه من اللطف بالمدعو عند دعوته به: أَي: أَنه - عليه السلام - افتتح الدعوة بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنَّى بالمجاهرة، فلما لم تؤَثر ثلَّث بالجمع بين الإِسرار والإِعلان. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}

المفردات: (يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا): غزيرًا متتابعًا، وهي من صيغ المبالغة التي يشترك فيها المذكر والمؤنث. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ): أَي حدائق وبساتين. التفسير: 10 - {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)}: روي أَن رجالا أَتوا إلي الحسن، فشكوا إِليه ما نزل بهم، فقال لكل منهم: استغفر الله، وفقيل له أَتاك رجال يشكون أَلوانًا، ويسأَلون أَنواعًا، فأَمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من نفسي شيئًا إنما اعتبرت قول الله - عز وجل - حكاية عن نبيه نوح - عليه السلام - أَنه قال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) الآية. أَي: استغفروه بالتوبة عن الشرك والمعاصي، لتنعموا بخيري الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: (رَبَّكُمْ) تحريكًا لداعي الاستغفار (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) بمعنى أنه غفار للتائبين دائم المغفرة وكثيرها، كأَنهم تعالوا قالوا: إِن كنا على الحق فكيف نتركه؟ وإِن كنا على الباطل فكيف يقبلنا ويتلطف بنا بعد ما عكفنا على الباطل دهرًا طويلا؟ كأَنه استبعاد منهم، فأَمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي، ويجلب إِليهم النافع، وذلك هو الاستغفار الذي وعدهم عليه تحقيق أُمور هي أَحب إِلى نفوسهم، وأَوقع في قلوبهم من الأمور الأُخروية لديهم، وهي الرغبات الدنيوية التي جبلوا على حبها، والتعلق بها لما فيها من الفوائد العاجلة التي يشير إِليها قوله تعالى: 11 - {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)}: قال قتادة: كانوا أَهل حب للدنيا، فاستدعاهم إِلى الآخرة من الطريق التي يحبونها، وقيل: لما كذبوا بعد تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأَعقم أَرحام نسائهم أَربعين سنة وقيل: سبعين سنة، فوعدهم إِن آمنوا أَن يرزقهم الله تعالى الخصب، ويرفع عنهم ما كانوا فيه - ولا شك أَن نزول المطر - ولا سيما إِذا كان عزيزًا - من أَعظم النعم التي تتعلق بها نفوسهم

وتهفوا إِليها قلوبهم في مواطنهم التي يشيع فيها الجفاف، وينتشر بها القحط، وقد استدعاهم بذلك إِلى الآخرة، ويراد من السماء: السحاب أَو المطر. 12 - {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)}: أَي: ويزدكم الله مالا وبنين، وكانوا يحبوهما، ويعلمون على الاستكثار منهما، فحركوا بما يُفيئه الله عليهم منها إِلى الإيمان، كما حركوا كذلك بأن يجعل سبحانه لهم في ديارهم بساتين وحدائق فيها أَنواع الثمار التي تحقق لهم كل مناعم الحياة ويجعل لهم أَنهارًا جارية أَو مطلقة لتحيا بها مزارعهم، وبساتينهم، وليجدوا فيها كل منافعهم، وأَعيد الفعل (يَجْعَلْ) مع الأَنهار للاعتناء بها، لما أَن لها مدخلا عاديًّا أَو أَكثريا في وجود الجنات ورعاية في بقائها الذي هو أَهم من أَصل وجودها، وترك إِعادة (وَيُمْدِدْكُمْ) مع البنين لأَنه لا تكمل المنفعة والسعادة إلا باجتماع كل من الأَموال والبنين معًا؛ لذلك ترك إِعادة العامل (يُمْدِدْكُمْ) بينهما لأَنهما كالشيءِ الواحد. قال البقاعي: المراد بالجنات والأَنهار في الآخرة، والجمهور على أَن ذلك في الدنيا تحريكًا لهم على الإِيمان. وبعد أَن دعاهم بالترغيب، عدل بهم إِلى الدعوة بالترهيب فقال: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} المفردات: (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا): أَي: لا تعتقدون لله عظمة، على أَن الرجاءَ بمعنى الاعتقاد. والوقار بمعنى العظمة: أَو، لا تخافون لله عظمة. فيكون الرجاءُ بمعنى الخوف، قال الأَخفش: الرجاءُ هنا: الخوف؛ لأَن مع الرجاءَ طرفًا من الخوف: ونقل أَيضًا عن ابن عباس كونه بمعنى الخوف. (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا): جمع طور، أَي: تارات وكرات، حيث خلقكم أَولا ترابًا ثم نطفًا ثم علقًا ثم مضغًا ثم عظامًا ولحومًا ثم خلقًا آخر.

التفسير: 14،13 - {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)}: إِنكار لأَن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله وقارًا، أَي عظمة، بمعنى أَي سبب حصل لكم حتى جعلكم غير خائفين عظمة الله. أَو غير متعقدين لله عظمة موجبة لتعظميه - سبحانه - بالإِيمان به والطاعة له، وقيل: المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إِياكم في دار الثواب، ويراد على هذا بالوقار التوفير، وهو تعظيم، وكونه من الله بمعنى رضاه عنهم وتفضله عليهم بأَسمى الجزاء (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) أَي: الحال أَنكم تعلمون أَنه - عز وجل - خلقكم مُدْرجًا لكم في كرات وأَدوار متعاقبة، وحالات مختلفة. فبدأَكم نطفًا ثم علقًا ثم مضغًا ثم عظمًا ولحومًا ثم خلقا آخر، فتبارك الله أَحسن الخالقين، وبمثل هذا قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم، والإِخلال بتوقير مَنْ هذا شأنه في القدرة القادرة والإِحسان العام مع العلم به، لا يكاد يصدر من عاقل، والجملة (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) مقررة لإِنكار أَي سبب مبرر لما وقع منهم من عدم رجائهم لله وقارًا، بعد أَن تفضل عليهم بالتكوين والإِيجاد، وبكل مقومات حياتهم من نعم وآلاء. {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}

المفردات: (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا): متطابقة بعضها فوق بعض كالقباب من غير مماسَّة. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا): أَي: مصباحًا يستضيء به أَهل الدنيا كما يستضيءُ النَّاس بالسراج في بيوتهم. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا): أَي كالبساط في رأَي العين؛ لأَن الكرة العظيمة يري كلُّ من عليها ما يليه مسطحًا. (سُبُلًا فِجَاجًا): أَي: طرقًا واسعات. والفجاج: جمع فج، وهو الطريق الواسعة، وقيل: هو اسم للمسلك بين جبلين. التفسير: 16،15 - {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)}: بيان الآيات كونية للاستدلال بها على ما يوجب توقير الله وتعظيمه - جل شأَنه - والمعنى: أَلم تشاهدوا أَيها القوم عظمة الله، وكمال قدرته فيما أَبدع من آيات كونية، وتنظروا إِليها نظر تفكر واعتبار، كيف خلق الله العظيم سبع سموات متطابقة من غير مماسَّة، بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِحكام والإِتقان وإِبداع الصنع، كما قال - سبحانه - في سورة الملك (مَا تَرىَ فيِ خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت) الآية (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) ليزيل ظلمة اللَّيل تمكينًا للنَّاس من أَداءِ مهامهم وفق ما تدعوا إِليه شئون حياتهم. "قال الفخر: القمر في السماءِ الدنيا وليس في السموات بأَسرها" وإِنما قال: فيهن لأَنها محاطة بالسموات كلها، فما فيها يكون كأنه في جميعها (¬1)، وقدَّر - سبحانه القمر - منازل وبروجًا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يتناقص حتى يستتر؛ ليدل على مضي الشهور والأَعوام كما قال تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (¬2). ¬

_ (¬1) أو، لأن كل واحدة منها شفافة، فترى كلها كأنها سماء واحدة. فساغ أن يقال: فيهن. (¬2) يونس، من الآية رقم: 5.

(وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) أَي: كأَنها مصباح مضيء لوجه الأَرض وسائر الآفاق كما يستضيئون بالسرج في بيوتهم ليبصروا في ضوئها ما يحتاجون إِليه. ولما كان نور الشمس أَشد وأَتم وأَكمل في الانتفاع به من نور القمر عبَّر عنها بالسراج لأَنه يضيءُ بنفسه، وعبر عن القمر بالنور لأَنه يستمد نوره من غير، ويؤيد هذا - كما قيل - ما تقرر في علم الفلك من أَن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرض مستمد من نورها، وتلك ولا شك آيات ناطقة بالقدرة البالغة، والعظمة الكاملة التي تدعو إِلى توقير الله وتعظيمه. 18،17 - {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)}: بعد أن ذكر - عز وجل - الأَدلة الكونية أَتبعها بذكر ما في الأَنفس من براهين وآيات، وفي ذكر هذه الأُمور دلالة بينة على عظمة الله، وكمال قدرته، والمعنى: أَن الله - سبحانه وتعالى - أَنشأَكم من الأَرض، وأَخرجكم منها، فاستعير الإِنبات للإِنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوّن من حيث إِنه محسوس مشاهد، وقد أَكد (أَنبَتَ) بقوله: (نَبَاتًا) أَي: أَنشأَكم منها إِنشاء لا شك فيه، وأَخرجكم من ترابها كما يخرج النبات من خلاله، وهم وإِن لم ينكروا الإِنشاءَ والحدوث، فقط جعلوا بإِنكار البعث كمن أَنكر الإِنشاء والحدوث، وفي ذلك إِشارة إِلى خلق آدم - عليه السلام - حيث خلق من ترابها ثم جاءَت من آدم ذريته. قال المفسرون: لمَّا كان إِخراجهم وإِنشاؤهم إِنما يتم بتناولهم عناصر المواد الغذائية النباتية والحيوانية المستمدة من الأَرض، كانوا مشابهين للنبات الذي ينمو بامتصاص غذائه من الأَرض فلذا سمى سبحانه خلقهم وإِنشاءَهم إِنباتًا (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) أَي: في الأَرض بالمواراة فيها إذا متم (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) محققًا لا ريب فيه عند البعث وكان العطف بثم في قوله سبحانه: (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) لما بين الإِنشاء والإعادة من الزمن المتراخي الواقع فيه التكليف الذي استحقوا به الجزاءَ بعد الإِعادة، وكان العطف بالواو دون ثم في قوله: (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) مع ما بينهما من الزمان المتراخي، لأَن أَحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد، فهي لاتصالها وتحقق وقوعها لا محالة، لم يعتبر فيها التراخي في الزمن لأَنها تشبه أَن تكون قضية واحدة.

20،19 - {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}: أَي: إِنه سبحانه جعل الأَرض فسيحة ممتدة كالبساط تتقلبون عليها كما تتقلبون على بطنكم في بيوتكم، وليس في الآية ما يدل على أَن الأَرض ليست كروية كما في البحر وغيره لأَن الكرة العظيمة يري كلُّ من عليها ما يليه مبسوطًا (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) أَي: خلقها الله لكم لتسقروا عليها، وتسلكوا فيها أَين شئتم من نواحيها وأَرجائها، وأَقطارها طرقًا واسعات في أَسفاركم وتنقلكم، وقيل: هي المسالك بين جبلين: وكل هذا ممَّا ينبههم به نوح - عليه السلام - على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأَرض، ونعمة عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأَرضية، وفي إِنشائهم من الأَرض، ثم إِعادتهم إِليها، وإِخراجهم منها بالبعث؛ لذلك فهو وحده الذي يجب أَن يعبد، ويوجد ولا يشرك به أَحد حيث إِنه لا نظير له، ولا كفء، ولا ند، ولا صاحبه، ولا ولد، ولا وزير، ولا مشير، بل هو العلي الكبير. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)} المفردات: (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ): ولَد محركة مفردة، ووُلْد - بضم الأَول وسكون الثاني - قيل: هو مفرد كذلك، وقيل: هو جمع ولد كأسد وأُسْد. (مَكْرًا كُبَّارًا): بالغ الغاية في الكِبر. (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ): أَي: التزموا عبادتها ولا تتركوها على الإِطلاق.

(وَدًّا وَلا سُوَاعًا ... ): هي أَصنام خمسة من أَصنامهم وخصت بالذكر مع أَن لهم غيرهما لأَنها أَعظم معبوداتهم وأَكبرها. التفسير 22،21 - {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)}: يقول تعالى مخبرًا عن نوح - عليه السلام -: إِن نوحًا أَنهى إِلى ربه - وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء - أَن قومه عصوه مع أَنه سلك معهم في دعوته إِلى الله الأساليب المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أُخرى، ومع كل ذلك لم يتبعوه، بل خالفوه، وأَسلموا قيادهم لأَبناءِ الدنيا ممن غفل عن أَمر الله، ومُتع بأَموال وأَولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإِمهال وليست لتفضيل وإِكرام. لهذا قال مناجيًا ربه وشاكيًا: (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أي: داوموا على عصياني. (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا) أَي: استمروا في إِقبال ورغبة على اتباع رؤسائهم الذين أَبطرتهم أَموالهم وغرتهم أَولادهم وصار ذلك سببًا لزيادة خسارهم في الآخرة زيادة جعلتهم أَهلًا لأَن يكونوا أُسوة وقدوة لأتباعهم في الخسار، وفي أَنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الحياة الفانية على الدار الباقية، وفي وصفهم بما ذكر إِشعار بأَن الأتباع إِنما اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأَموال والأولاد، لا لما شاهدوا فيهم من نهج قويم يدعو إِلى اتباعهم. (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا): باتباعهم. قال ابن زيد: أَي كبيرًا في الغاية، ويراد به احتيالهم في الدين، وصدهم للناس عنه وإِغراؤهم وتحريضهم على أَذِيَّة نوح - عليه السلام - ولهذا كان (كُبَّارًا) أَبلغ من (كبير) وإِذا اعتُبر التنوين في (مَكْرًا) للتفخيم زاد أَمر المبالغة في مكرهم وفي عطف هذه الجملة على جملة الصلة وهي قوله تعالى: (لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ ... ) إِشارة إِلى أَنهم ضموا إلي ضلالهم إِضلال الأتباع في تسويلهم لهم بأَنهم على الحق والهدىة، وأَنهم على شيء نافع. روي أَن بعض الأعراب الجفاة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال: ما أَفصح ربك يا محمد.

24،23 - {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)}: أَي: وقالوا: لا تتركوا عبادة آلهتكم مطلقًا إِلى عبادة رب نوح - عليه السلام - ولا تتركوا عبادة هؤلاءِ الأصنام المذكورة، وخصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق من النهي عن ترك عبادة الآلهة جميعًا لأَنها كانت أَكبر معبوداتهم الباطلة وأَعظمها، وإِن كانت متفاوتة في العظم حسب زعمهم كما يوحي إِليه إِعادة (لا) مع بعضها وتركها مع بعضها. أَخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأَوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أَما وَدّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأَما سواع فكانت لهذيل، أما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأَما يعوق فكانت لهمذان، وأَما نسر فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أَسماء رجال صالحين من قوم نوح - عليه السلام - فلما هلكوا أَوحى الشيطان إِلى قومهم أَن انْصبُّوا إِلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصبابا، وسموها بأَسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إِذا هلك أُولئك ونسخ العلم عبدت. أهـ: ابن كثير. وقيل: هي أَسماءُ رجال صالحين كانت بين آدم ونوح - عليهما السلام -، وقيل: هم من أَولاد آدم، فلما ماتوا قال إِبليس لمن بعدهم: لو صورتهم صورهم فكنتم تنظرون إِليهم وتتبركون بهم ففعلوا. فلما مات أَولئك قال لمن بعدهم: إِنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم. وذكر المفسرون في ذلك روايات وقِصصا كثيرة، فمن أَرادها فليرجع إِليها في كتب التفسير.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) أَي: أَضل هؤلاءِ الرؤساءُ خلقًا كثيرًا قبل الذين أَوصوْهم بأَن يتمسكوا بعبادة الأَصنام، فهم ليسوا بأَول من أَضلوهم، ويشعر بذلك المعنى في قوله تعالى: (وَقَدْ أَضَلُّوا) والاقتران بعد حيث أَشار ذلك إِلى أَن الإِضلال استمر منهم إلي زمن الإِخبار بإضلال الطائفة الأَخيرة. وقال الحسن:: وقد أَضلوا، أَي: الأَصنام التي اتخذوها آلهة خلقًا كثيرًا من الناس. فهو كقول الخليل - عليه السلام -: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ) (¬1) وعود ضمير العقلاءِ عليها وهو واو الجماعة في قول الحسن لتنزيل الأَصنام منزلتهم عندهم وفي زعمهم. (وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالًا) أَي: قال: رب إنهم عصوني .. الخ، وقال: (وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالًا) والغرض الشكاية وإِبداءُ العجز واليأس منهم وطلب النصرة عليهم، والمراد بالضلال الذي دعا عليهم بزيادته: إِما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم، فيكون دعاء عليهم بعدم الاهتداء إِلى تيسير أُمور أُخراهم، وإما الضلال بمعنى الضياع والهلاك كما في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (¬2)، وهو مأَخوذ من الضلال في الطريق لأَن من ضل فيها هلك. ووضع الظاهر وهو قوله: (وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ) موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، ولتعليل الدعاء عليهم به. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، من الآية: 36. (¬2) سورة القمر، الآية: 47.

{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} المفردات: (رَبِّ لا تَذَرْ): أَي: لا تترك من الكافرين. (دَيَّارًا): من يسكن دارا، أَو من يدور ويتحرك في الأَرض ذهابًا وإِيابًا من الدار، أَو الدوران، والمراد: لا تترك منهم أَحدا، والديار من الأَسماءِ التي لا تستعمل إِلاَّ في النفي العام يقال: ما بالدار ديار، أَي: ما بها أَحد. (إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا): أَي: من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إِليه لوثوقه بذلك نتيجة لتجربته الطويلة. (وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا): أَي: هلاكًا، يقال: تبر يتْبَر من بابي: قتل وتعب: إِذا هلك، ويعدى بالتضعيف فيقال: تبّره الله: إِذا أَهلكه.

التفسير 25 - {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)}: المعنى: إِن هؤلاء الكفار بسبب كثرة ذنوبهم وعتوهم، وإِصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أُغرقوا بالطوفان (فَأُدْخِلُوا نَارًا) هي نار البرزخ، ويراد بها عذاب القبر، أَي: انتقلوا من برودة الماءِ إِلى حرارة النار، ومن مات في ماءٍ أَو نارٍ أو أَكلته السباع أَو الطير مثلًا أَصابه ما يصيب المقبور من العذاب أَو النعيم؛ قال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب، ولا غرابة في ذلك؛ فالله يجمع بين الماءِ والنار كما قال ابن الأَنباري والتعقيب ظاهر على أَن المراد إِدخالهم بعد الإِغراق نارًا هي نار البرزخ، أَما إِذا أُريد بها نار الآخرة كما قيل: فيكون التعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإِغراق وإِدخال نار جهنم من زمن لاتصاله وتحقق الإِدخال. وتنكير النار إِما لتعظيمها وتهويلها أَو لأَنه - عز وجل - أَعد لهم نوعًا من العذاب على حسب خطيئاتهم. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا): أَي: لم يكن لأَحد منهم مغيث ولا معين ولا مجير ينقذه من عذاب الله كقوله تعالى: (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ) (¬1) وفيه تعريض بأَن آلهتهم التي اتخذوها آلهة من دون الله تعالى غير قادرة على نصرهم، وفي ذلك من التهكم بهم ما فيه. 26 - {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)}: معطوف على نظيره (قَالَ نْوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) وقوله تعالى: (مَّمِا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا ... ) الآية. اعتراض بين الدعاءين للإيذان من أَول الأَمر بأَن ما أَصابهم من الإِغراق والإِحراق لم يصبهم إِلاَّ من أَجل خطيئاتهم التي عدها نوح - عليه السلام - وأَشار إِلى استحقاقهم العذاب لأَجلها، والمعروف أَن هذا الدعاءَ كان قبل هلاكهم. ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 43.

والمعنى: ربِّ لا تترك على الأَرض من الكافرين أَحدًا يسكن دارًا، أَو لا تترك منهم من يدور ويتحرك على الأَرض لأَنهم استحقوا الهلاك بما اقترفوا من آثام وبما استمسكوا به من كفر وطغيان، ويراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إِلى الإِيمان والطاعة فلم يجيبوا. 27 - {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)}: أَي: إِنك إِن تترك أَحدا منهم يضلوا عبادك عن طريق الحق، ولعل المراد بهم من آمن به - عليه السلام - وبإِضلالهم إِياهم: ردهم إِلى الكفر بنوع من الخداع والمكر، أَو المراد بهم من ولد من المؤمنين، وبإِضلالهم إِياهم: صدهم عن الإِيمان، أَو من ولد من الكافرين ولم يبلغ حد التكليف، فكانوا يحولون بينهم وبين الإِيمان بغرس العدواة والبغض في قلوبهم لنوح - عليه السلام - وفي بعض الأَخبار: أَن الرجل منهم كان يأتي بابنه إِلى نوح - عليه السلام - ويقول: احذر هذا فإِنه كذاب، وأَبي أَوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأَ الصغير على ذلك. قيل: ومن هنا قال - عليه السلام -: (وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) أَي: من سيفجر بعمله ويكفر بقلبه، فوصفهم بما يصيرون إِليه من الفجور والكفر لاستحكام علمه بما يكون منهم، ومن أَعقابهم بعد ما جربهم واستقرأَ أَحوالهم أَلف سنة إِلاَّ خمسين عامًا، ومثله قوله - عليه السلام -: (إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ)، وقيل: أَراد بقوله: (وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) أَي: من طبع وجُبل على الكفر والفجور، وقد علم ذلك بوحي كقوله - سبحانه -: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ) (¬1) وكأَنَّ قوله: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ ... ) الآية. اعتذار منه - عليه السلام - ممَّا عسى يرد عليه من أَن الدعاءَ عليهم بالاستئصال مع احتمال أَن يكون من ذريتهم من يؤْمن، وذلك ممَّا لا يليق بالأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام. وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وغيرهم أَنه - عليه السلام - ما دعا عليهم إِلا بعد أَن أَخرج الله كل مؤْمن من الأَصلاب وأَعقم أَرحام النساء، وقد استجاب الله دعاءَه، فأَهلك ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 36.

جميع من على وجه الأَرض من الكافرين حتى ولده من صلبه الذي اعتزل عن أَبيه وقال: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ) (¬1) الآية. 28 - {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}: خص - عليه السلام - والديه أَولًا بالدعاء بالمغفرة، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات؛ لأَنهما أَحق وأَولى نسبًا ودينًا وكانا مؤمنين، ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة، وقيل: أَراد بهما آدم وحواء. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا) قال الضحاك: يعني دخل مسجدي، وبه قال الجمهور وابن عباس، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها، وهو أَنه دعا بالمغفرة لمن دخل منزله وهو مؤمن كما قال ابن كثير، وقيل: المراد بالدعاء لمن دخل سفينته أَو شريعته، وقيد الداخل بكونه مؤمنًا، لأَنه علم أَن من دخل مؤمنًا لا يعود إِلى الكفر، وبهذا القيد خرجت امرأَته، وابنه كنعان، ولكن لم يجزم بخروجه إِلاَّ بعد ما قيل له: إِنه ليس من أَهلك (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) من كل أُمة إِلى يوم القيامة، وذلك يعم الأَحياءَ منهم والأَموات وهو تعميم بعد تخصيص، واستغْفر ربه - عز وجل - إِظهارًا لمزيد الافتقار إِليه سبحانه وحبًّا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين. (وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا) قال السدي: إِلا هلاكًا، وقال مجاهد: إِلا خسارًا في الدنيا والآخرة. قيل: هلك معهم أَولادهم أَيضًا لكن لا على وجه العقاب لهم، بل لتشديد عذاب آبائهم وأمهاتهم بهلاك أطفالهم الذين كانوا أَعز عليهم من أَنفسهم، وسئل الحسن عن ذلك فقال: قد علم الله براءَتهم فأَهلكهم بغير عذاب لهم. وقيل: لم يكن معهم أَطفالهم حين غرقوا؛ لأَن الله سبحانه أَعقم أَرحام نسائهم وأَيبس أَصلاب آبائهم قبل الطوفان بأَربعين أَو سبعين عاما، وقد دعا - عليه السلام - دعوتين: دعوة على الكافرين بالتبار، ودعوة للمؤمنين بالمغفرة، وحيث استجيبت له الأُولى في حق الكفار، فاستحال أَلاَّ تستجاب له الثانية في حق المؤمنين، وهو سبحانه أَكرم الأَكرمين. والله أَعلم. ¬

_ (¬1) سورة هود: من الآية: 43.

سورة الجن

سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون آية صلتها بما قبلها: لَمَّا ذكر الله تعالى في سورة نوح: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، وقال هذه السورة في شأن كفار مكة: (وَأَنْ لوِ اسْتَقَاموا عَلَي الطَّريِقَة لَأسْقَيْنَاُهُم مَّاءً غَدَقًا). فالاتصال بالله سبب لرغد العيش. كما أَن هناك توافقًا بين قوم نوح والعرب في أَن كلًّا منهما كانوا عبدة أَوثان، وتزيد سورة الجن أَنَّها جاءَت لتبكت العرب وتوبخهم على تباطئهم في الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الجن خيرًا منهم إِذْ أَقبل على الإِيمان مَن أَقبل منهم وهم من غير جنس الرسول - عليه الصلاة والسلام -. بعض مقاصد هذه السورة: 1 - تحدثت السورة في أَولها عن أن الله - سبحانه - أَوحى إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن فريقًا من الجن استمعوا إِلى القرآن الكريم وأَنَّه قد أَعجبهم، وأَخذتهم قوة بلاغته وجميل هدايته فدفعهم ذلك إِلى الإِيمان به فور سماعهم له، وعاهدوا أَنفسهم أَلا يشركوا بالله أَحدًا، وأَنهم عظموا ربهم وقدسوه ونزهوه عن اتخاذ الصاحبة والولد. 2 - أَبانت السورة بعد ذلك أَن الجن - بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أَردوا أَن يَصلوا إِلى السماءِ لاستراق السمع فوجدوها قد ملئت بالملائكة لحراستها، وأَن الشهب الثاقبة ترصدهم، وترجمهم إِذا ما حاولوا الدنو منها. 3 - أَوضحت السورة أَن كلًّا من الجن والإِنس فريقان، فريق مؤمن تقي قد اهتدى إِلى الصراط المستقيم، وفريق كافر شقي. 4 - نبهت السورة مشركي مكة على أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لهم ضرًّا ولا رشدًا، وإِنما الذي يملك ذلك هو الله وحده، وأَنه لا يمنعه ولا ينقذه من عذاب الله أَحدٌ إِن عَصَاه

1 - الملائكة

وخالفه، وأَنه لن يجد له ملجأً ومَعاذًا يلجأُ إِليه وينتصر به من دون الله إِلا إِذا قام بتبليغ رسالة ربه فأَنذرهم وبشرهم. 5 - جاءَت خاتمة السورة ونهايتها ببيان أَن الله وحده - جل شأنه - هو العليم بمعرفة الغيب فلا يظهر أَحدًا على غيبه إِلا من اختاره واصطفاه لنبوته ورسالته فيظهر له ما يريد من الغيب، وأَنه يحفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ويصون رسالته من استراق الشياطين وتخليطهم: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا). ونرى قبل التفسير أَن نعرض لمسائل: 1 - الملائكة: وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أَمرهم ويفعلون ما يؤمرون، خلقهم الله من نور وفطرهم على الطهر وناط بهم أَمورًا كثيرة؛ فمنهم رسل الله إِلى أَنبيائه، ومنهم حملة عرش الرحمن، والحفظة، والكتبة، وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، إِلى غير ذلك ممَّا لا يعلمه إِلا الله، وأَنهم - عليهم السلام - قد أَمدهم الله بالقدرة الشديدة على الأَعمال العظيمة التي لا تدانيها قدرة ولا يصل إِليها الإِنس والجن، وقد أَمكنهم الله من التشكل والتصور بالأَشكال الجميلة التي لا تحكم عليهم، ويراهم الناس عليها، ويراهم الناس عليها، أَما صورهم الأَصلية فلا يبصرهم عليها إِلا من شاءَ الله من عباده كالأَنبياء والمرسلين. 2 - الجن: واحده (جني) كروم ورومي وترك وتركي: وهو جنس من خلق الله ذوو أَجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد لذلك قوله تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِن نَّارٍ)، وهي قابلة للتشكل بالأَشكال المختلفة التي تحكم عليهم، ومن شأنها الخفاء، وترى بصور غير صورها الأَصلية التي لا يراهم عليها إِلاَّ الأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومن شاءَ الله - تعالى - من خواص عباده، ولها قوة على الأَعمال الشاقة العظيمة التي يعجز عنها عامة

3 - الشياطين

البشر، قال تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ)، ومنها طوائف كريمة محبة للخير، وأُخرى دنيئة خسيسة محبة للشر. (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، ولا يعرف أَنواعهم وأَصنافهم إِلاَّ الله ومن أَطلعه الله على ذلك من عباده. وأَكثر الفلاسفة ينكرون الجن، ونفي وجودهم كفر صريح؛ لأَنه الله قد ذكرهم في القرآن الكريم في أَكثر من موضع، ومنه ما هو مذكور في هذه السورة الكريمة. وجهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين، وإِن اختلفوا في حقيقتهم ويسمونهم بالأرواح السفلية. 3 - الشياطين: ذهب قوم إِلى أَنهم ولد إِبليس - عليه اللعنة - ولا يموتون إلَّا مع أَبيهم، فهم على هذا القول جنس مستقل، أَشرار بجبلتهم وطبعهم. وذهب آخرون إِلى أَن الشياطين هم الأَشرار والمرَدة من الجن، ويطلق اسم الشيطان على الشرير المتمرد من الإِنس أَيضًا، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ولكل وجهة. والله أَعلم.

(بسم الله الرحمن الرحيم) {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} المفردات: (أُوحِيَ): الوحي: بمعنى الإِيحاء لغة: الإِعلام بالشيء على وجه الخفاء والسرعة، ومعناه في الشرع: إِعلام الله لأَنبيائه ما يريد إِبلاغه إِليهم من الشرائع والأَخبار بطريق خفي، ويكون بطريق الإِلقاءِ في القلب دفعة أَو بالكلام من وراءِ حجاب بحيث يسمع النبيُّ كلاَمَ الله ولا يراه، أَو بإِرسال الملك إِلى رسول وهو المراد هنا. (نَفَرٌ): جماعة ما بين الثلاثة إِلى العشرة. (عَجَبًا): بديعًا مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه. (الرُّشْدِ): الصواب، وقيل: التوحيد والإِيمان. (جَدُّ رَبِّنَا): عظمته وجلاله، أَو ملكة وسلطانه، أَو غناه. (سَفِيهُنَا): السفه: خفة العقل، أَو الحمق والجهل. (شَطَطًا): الشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره.

التفسير 1 - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)}: أَي: قل لهم يا محمد: إِن الله أَخبرني على لسان جبريل - عليه السلام - أَن نفرًا من الجن قد أَلقوا بسمعهم إِلى القرآن الذي كنت أَتلوه، فلما سمعوه قالوا: إِنا سمعنا كلامًا جليل القدر عظيم الشأن ليس على نمط غيره من الكتب، بديعًا في حسن نظمه ودقة معانيه. 2 - {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}: أي: وهو مع علو منزلته يدل ويرشد إِلى الطريق الحق والصراط المستقيم، ويدعو إِلى الإِيمان بالله وتوحيده فبادرنا فور سماعنا له باعتقاد ما جاءَ به، ولرسوخ ذلك في قلوبنا، واطمئناننا إِلى أَنه منزل من عند ربنا لن نعود إِلى الإِشراك بالله أَبدًا، بل نفرده وحده بالأُلوهية والربوبية. 3 - {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)}: الجد معناه: العظمة، وفيه الحديث: "كان الرجل إِذا قرأَ سورة البقرة جدَّ فينا" أَي: جل قدره. أَي: وأَنه - سبحانه - تعالت عظمته وتسامى جلاله قد تنزه عن أَن يتخذ صاحبه أَو ولدًا يحتاج إِليهما ويستأنس بهما؛ فالشأن فيهما ذلك، إِذ الرب - جل شأنه - يتعالى عن هذا وأَمثاله كما يتعالى ويتعاظم ويتنزه عن الأَندادِ والنظراءِ. 4 - {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)}: أَي: وأن الأَحمق فينا والجاهل منا - وهو الذي خف عقله وذهب صوابه - كان يقول على الله قولا شططًا بعيدًا عن الحق والصدق والصواب؛ إِذ قد أَشرك به، ونسب إِليه الصاحبة والولد والله - سبحانه - منزه عن ذلك. وقيل: المراد من السفيه هو إِبليس، أَو كل ما رد من الجن كافر بالله.

5 - {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}: أَي: وأَننا حسبنا وظننا أَن أَحدًا من الإِنس والجن لن يجتريء على الله ويفتري عليه وينسب إِليه الصاحبة والولد كذبًا، فلما سمعنا القرآن كانوا يظنون أَن إِبليس أَو المتمرد من الإِنس والجن صادق في نسبه الصاحبة والولد لله، فلما سمعوا القرآن أَيقنوا أَنَّه كان كاذبًا في ذلك فسموه سفيهًا وهنا يجمل بنا أَن نتعرض لاجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجن ورؤيته لهم لوثوق الصلة بينه وبين ما جاءَ في هذه السورة فنقول: اختلفت الروايات في أَنه صلى الله عليه وسلم رأَى الجن وكلمهم على قولين: فقالوا الأَول: وهو مذهب ابن عباس، أنه - عليه الصلاة والسلام - ما رآهم: قال: إِن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فيسمعون أَخبار السماءِ ويلقونها إِلى الكهنة، فما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حرست السماءُ وحيل بين الشياطين وبين خبر السماءِ وأُرسلت الشهب عليهم فرجعوا إِلى إِبليس - عليه اللعنة - فأَخبروه بالقصة، فقال: لا بد لهذا من سبب، فاضربوا مشارق الأَرض ومغاربها واطلبوا السبب، فوصل جمع من أُولئك الطالبين إِلى تهامة فرأَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأَصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا والله هو الذي حال بينكم وبين حال السماءِ، فهناك رجعوا إِلى قومهم وقالوا: يا قومنا (إِنَّا سمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) فأَخبر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك الغيب وقال: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) كذا وكذا، قال: وفي هذا دليل على أَنه صلى الله عليه وسلم لم ير الجن، إِذ لو رآهم لمَا أُسند معرفة هذه الواقعة إِلى الوحي، فإِن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إِثباته إِلى الوحي. والقول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود: أَن الرسول صلى الله عليه وسلم أَتاه داعي الجن فذهب معه وقرأَ عليهم القرآن، وأَن ابن مسعود سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انطلق به وبغيره بربه آثار الجن وآثار نيرانهم.

وطريق التوفيق بين المذهبين أَن ما ذكر ابن عباس وقع أَولًا، فأَوحى الله إِلى رسوله بهذه السورة، ثم أُمر صلى الله عليه وسلم بالخروج إِليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود. هذا، وفي أمر الله رسوله أَن يظهر لأَصحابه ما أَوحاه الله إِليه به في واقعة الجن فوائد: منها أَن يعرف الصحابة أَنه - عليه الصلاة والسلام - كما بعث إِلى الأَنس بعث إِلى الجن، وأَن تعلم قريش أَن الجن مع تمردهم لَمَّا سمعوا القرآن عرفوا إِعجازه فآمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي هذا تعريض بهم لأَنهم يعرفون ذلك فإِن القرآن الكريم قد نزل بلغتهم ولم يستطيعوا معارضته والإِتيان بمثله أَو بسورة من مثله مع تحديهم بذلك، ولكنهم - لظلمهم بآيات الله يجحدون، ومنها أَن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيله إِلى الإِيمان به (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ) (¬1)، ومنها أَن الجن يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} المفردات: (يَعُوذُونَ): يلتجئون، من العَوْذ، وهو الالتجاء إِلى الغير والتعلق به. (رَهَقًا): الرهق: غشيان المحارم وإِتيانها. ¬

_ (¬1) من الآية 31 من سورة الأحقاف.

(لَمَسْنَا السَّمَاءَ): اللمس: المس، فاستعير للطلب، لأَن الماسَّ طالب متعرف أَي: طلبنا بلوغ السماء. (شُهُبًا): جمع شهاب، وهو النجم المحرق. (رَصَدًا): راصدًا ومستعدًّا ومترقبًا له. التفسير: 6 - {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}: قيل: إن الرجل من العرب في الجاهلية كان إِذا أَمسى في قفر من الأَرض قال: أَعوذ بسيد هذا الوادي أَو بعزيز هذا المكان من شر سفهاءِ قومه، يريد الجن وكبيرهم، فيبيت في جواره حتى يصبح. قال مقاتل: كان أَول من تعوذ من الجن قوم من أَهل اليمن ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاءَ الإِسلام عاذوا بالله وتركوهم. أَي: وأَنه كان رجال من الإِنس يلجأُون ويستجيرون بالجن رجاء رعايتهم وأَملًا في حفظهم من شرور سفهاءِ الجن ومردتهم فزاد الإِنسُ الجنَّ بسبب استعاذتهم بهم تكبرًا وصلفًا وعتوًّا حيث قالت الجن: سُدْنا الإِنس والجن، أَو أَن الجن زادوا الإِنس بسبب هذا الالتجاءِ من الإِنس زادوهم فرقًا وخوفًا، بل زادوهم كفرًا بالله، إِذ الاستعاذة بغير الله كفر. 7 - {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}: أَي: وقال الجن بعضهم لبعض: إِن كفار الإِنس حسبوا وظنوا كما حسبتم - يا معشر الجن أَن الله - سبحانه - لن يبعث أَحدًا بعد الموت، وأَنهم كانوا يقولون: (إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (¬1) فقد أَنكروا البعث كما أَنكرتموه أَنتم، أَو أَن الإِنس ظنوا كظنكم أَن الله لن يرسل رسولًا إِلى أَحد من العباد، وقد أَخطأَ الإِنس وأَخطأتم معشر الجن، فالله قد أَرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأَنزل عليه هذا القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) من الآية 29 من سورة الأنعام.

8 - {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)} أَي: وأَننا طلبنا بلوغ السماءِ واستماع كلام أَهلها فأَصبناها وصادفناها ملئت بالحفظة من الملائكة الشداد الذين يحرسونها وبالشهب والنجوم المحرقة التي كانت تنقض على الجن عند استراق السمع، قال بعضهم: إِن رمي الجن بالشهب كان بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إِحدي آياته، والصحيح أَن ذلك كان قبل مبعث الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلما بعث زاد ذلك إِنذارًا بحاله وتنبيهًا إِلى إِرساله، أَي: زيد في حرس السماءِ حتى امتلأَت من الملائكة والنجوم كما يشعر بذلك قوله تعالى: (مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا): قال ابن عباس: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أَصحابه إِذْ رُمِيَ بنجم فاستنار، فقال: "ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية"؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أَو يولد عظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنها لا ترمي لموت أَحد ولا لحياته ، ولكن ربنا - سبحانه وتعالى - إِذا قضى أَمرًا في السماءِ سبَّح حملة العرش ثم سبَّح أَهل كل سماءٍ حتى ينتهي التسبيح إِلى هذه السماءِ، ويستخبر أَهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أَهل كل سماءٍ حتى ينتهي الخير إِلى هذه فيتخطف الجن فيرمون؛ فما جاءُوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه، وقال ابن قتيبة: كان (الرمي) ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأَحوال فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت (الجن) من ذلك أَصلًا. 9 - {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}: أي: وأَنا كنا قبل ذلك نتخذ من السماءِ مواضع للسمع نجدها خالية من الحرس والشهب، أَو صالحة للترصد والاستماع، فالآن ملئت المقاعد والمواضع كلها بالملائكة والشهب فمن يحاول أَن يقترب للاستماع يجد له شهابًا قد أُرصد له ليرجم به وقال مقاتل: رميًا بالشهب ورصدًا من الملائكة.

{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} المفردات: (دُونَ ذَلِكَ) أَقل منهم صلاحًا، أَو غيرهم في الصلاح. (طَرَائِقَ قِدَدًا): طرائق: مذاهب، قددًا: جمع قِدَّة، من قَدَّ، كالقطعة من قَطَع أَي: كنا ذوي مذاهب مختلفة. (نُعجِزَ اللَّهَ): نفوته ونتفلت منه. (بَخْسًا) البخس: نقض الشيءِ على سبيل الظلم. (رَهَقًا): ظلمًا ومشقة عليه بالزيادة في آثامه وسيئاته. (الْقَاسِطُونَ): الجائرون والمائلون عن طريق الحق. (تَحَرَّوْا): قصدوا وتوخَّوْا طريق الحق والصواب.

التفسير 10 - {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}: أي وأَننا - معشر الجن - لا نعلم ما الله صانع بأَهل الأَرض بسبب امتلاءِ السماء بالحرس والشهب وانقضاضها وتهافتها، وتغير الحال عما أَلفناه، أَحَدَثَ ذلك لعذاب وشر يريد - سبحانه - أن ينزله بأَهل الأَرض؟ أَم لخير يريده الله لهم؟ أَو أَننا لا ندري أَن إِرسال محمد الذي من أجله منع استراقنا للسمع وقعودنا في مواضع في السماءِ، أَيكون ذلك نذير عذاب لهم، فإِنهم قد يكذبونه فيهلكونه بتكذيبه كما هلك من كذَّبوا رسلهم من الأُمم السابقة أَم يكون ذلك بشير خير لهم فإِنهم قد يؤمنون به ويهتدون، ولا يخفى ما في قول الجن: (أَشَرٌّ أُرِيدَ) من الأَدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إِلى الله - عز وجل - كما صرحوا به في الخير والرشد وإِن كان فاعل الكل هو الله - تعالى - فقد جمعوا بين جم الأَدب وحسن الاعتقاد. 11 - {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}: أَي: وأَنا منا الأَبرار المتقون، ومنا قوم دون ذلك في الصلاح وهم المقتصدون غير الكاملين فيه، أَو: ومنا سوى ذلك وهم الطالحون الفاسدون الذين ليس لهم صلاح وهم الكافرون. (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أَي: كنا في اختلاف أَحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا ذوي مذاهب متفرقة؛ فالطرائق - وقد وصفت بالقِدَد - تدل على معنى التقطع والتفرق والاختلاف كأَن كل طريق لامتيازها مقطوعة عن غيرها. 12 - {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}: أَي: وأَننا علمنا وتيقَّنَّا بالاستدلال والتفكر في آيات الله وبما شاهدنا من قدرته أَننا في قبضته وقهره، ولن نعجزه في الأَرض مع بسطها وسعتها وكثرة فجاجها وتشعب طرقها، فلا نفوته إِذا أَراد بنا أَمرًا أَينما كنا فيها، ولن نستطيع أَن نفلت منه - عز وجل - هربًا إلى السماء، وإِن هربنا فلن نخلص منه؛ وذلك لشدة قدرته وعظيم سلطانه.

13 - {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)}: هذا عود ورجوع من الجن إِلى تذكر نعمة الله عليهم بالإِيمان به واهتدائهم بسماع آيات القرآن وافتخارهم بذلك، وفي الحق إنه لمفخرة وشرف رفيع لهم. أَي: وأَننا حين سمعنا القرآن العظيم اهتدينا به وآمنا بالله الذي أَنزله، وصدقنا محمدًا صلى الله عليه وسلم في رسالته من غير تردد ولا تريث (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) أَي: فمن يصدق بالله فإِنه لا يخشى نقصانًا من حسناته، وإِنما يجازي عليها كلها الجزاءَ الأَوفى، ولا يخاف - كذلك - أَن يرهق ويشق عليه بالزيادة في آثامه وسيئاته أَو تغشاه ذلة، فَعَدْلُ الله يأتي ذلك قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (¬1). 15،14 - {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ (¬2) فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}: أَي: وأننا - معشر الجن بعد سماعنا القرآن - مختلفون ومتفرقون؛ منا من انقاد وأَسلم وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومنا من جار وعدل عن الحق، وحاد عن الطريق القويم. وقد رُوي عن سعيد بن جبير - رحمه الله - أَن الحجاج بن يوسف الثقفي - قال لسعيد حين أَراد قتله: ما تقول فيَّ؟ قال سعيد: قاسط عادل، فقال القوم: ما أَحسن ما قال؛ حسبوا أَنه يصفه بالقِسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة؛ إِنه سماني ظالمًا مشركًا، وتلا لهم قوله تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)، وقوله - عز شأنه -: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ). (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) أَي: فمن انقاد واختار الإِسلام واتبع الرسول - عليه الصلاة والسلام - فأولئك الذين قصدوا الصواب والحق، وتوخَّوْا سبيل النجاة حتى اهتدوا إِلى رشد عظيم لا يبلغ كنهه ومداه إِلا الله. ¬

_ (¬1) الآية 40 من سورة النساء. (¬2) من قسط قسطًا بالفتح، وقسوطًا: إِذا جار وعدل عن الحق، والقسط بالكسر، والإِقساط: العدل.

(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) أَي: وأَما الكافرون الجائرون البعيدون عن الحق والإِيمان فكانوا في سابق علم الله الأَزلي، كانوا حطبًا للنار وقودها الناس، والحجارة؛ تسعر بهم كما تسعر بكفرة الإِنس. {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} المفردات: (غَدَقًا): كثيرًا. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ): لنعاملهم معاملة المختبر الممتحن لنعلم علم ظهور ما يكون من أمرهم: أَيكفرون أَم يشكرون. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ): هو من قولهم: أَعرضت عنه، بمعنى أَضربت وتوليت وصددت عنه، أَي: أخذت عَرْضًا، أَي: جانبًا غير الجانب الذي هو فيه.

(يَسْلُكُهُ) يدخله. (صَعَدًا): شاقًّا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. (كَادُوا): قاربوا. (لِبَدًا): جمع لِبدة، وهي الجماعات، شبهت بالشيءِ المتلبد المتراكم بعضه فوق بعض، من ازدحامهم عليه. (لَنْ يُجِيرَنِي): لن يمنعني ولا يغيثني من الله أَحد. (مُلْتَحَدًا): ملجأً وحرزًا. التفسير 17،16 - {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}: أَي: وأَن لو سار الكفار من الجن والإِنس معتدلين دون ميل أَو جور على الطريقة المثلى والنهج القويم والصراط السوي وهو ما جاءَ به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه لأَسقاهم الله المطر الغدق الكثير، والغيث العميم الذي يحيي الله به نفوسهم، وينبت لهم به الزرع، ويدر الضرع، ويغمرهم في دنياهم بوافر النعم وجليل الخيرات، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ): لنعاملهم معاملة المختبر لنعلم ما يكون من أَمرهم: أَيكفرون أَم يشكرون، أَي: لنعلم ذلك حاصلًا وواقعًا منهم بعد أَن علمناه قديمًا أَزلا، حتى لا يكون للناس على الله حجة، بعد أَن يظهر ذلك للخلائق، والقول بإِغداق الخير عليهم لاستقامتهم مصداقه قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (¬1)، وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (¬2). ¬

_ (¬1) من الآية 96 من سورة الأَعراف. (¬2) من الآية 66 من سورة المائدة.

وقيل المعنى: وأَن لو استقام الجن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل سماع القرآن ولم ينتقلوا عنها إِلى الإِسلام واستمروا على كفرهم لوسعنا عليهم الرزق، وأَغدقنا عليهم من الخير استدراجًا لهم وإِمهالًا وإِملاءً حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} (¬1) وقال - سبحانه -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} (¬2). والرأَي الأَول أَولى وأَحق بالاعتبار لأَن كلمة (الطريقة) المعرَّفة بالأَلف واللام إِنما ترجع إِلى الطريقة المعروفة المعهودة وهي طريقة الهدى والرشاد. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا). أَي: ومن يتولَّ ويَنْأَ عن عبادة ربه ويتجافَ عنها فيجعلها في جانب وهو في جانب يدخله الله في عذاب يعلو طاقة ذلك الشقي المعذب ويشق عليه ويغلبه فلا يطيقه. 18 - {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)}: قال مجاهد: كان اليهود والنصاري إِذا دخلوا بِيَعَهُمْ وكنائسهم أَشركوا بالله فيها؛ وذلك أَن النصارى تقول: المسيح ابن الله، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فأَمر الله - عَزَّ وجلَّ - نبيَّه والمؤمنين أَن يخلصوا العبادة لله وحده، وأَلاَّ يدعوا مع الله أَحدًا إِذا دخلوا المساجد كلها، هذا وإِن الأَرض جميعًا مساجد للرسول صلى الله عليه وسلم ولأَمته، فقد ورد في حديث جابر عن عبد الله الذي أَخرجه البخاري: "وجعلت لي الأَرض مسجدًا وطهورًا، فأَيما رجل من أَمتي أَدركته الصلاة فليصل" وعلى هذا قال: فالمساجد جمع مسجِد - بكسر الجيم - وقيل: المراد بها الأَعضاء السبعة التي يسجد عليها، واحدها مسجَد - بفتح الجيم - ¬

_ (¬1) الآيات - 33،34، 35 من سورة الزخرف. (¬2) الآية 178 من سورة آل عمران.

وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه، وروي أَن المعتصم سأَل أَبا جعفر محمد بن علي ابن موسى الكاظم - رضي الله عنهم - عن ذلك فأَجاب بما ذكر، وقيل: المراد المساجد السجدات، على أَن المسجَد - بفتح الجيم - مصدر ميمي، قال الحسن؛ من السنة إِذا دخل الرجل المسجد أَن يقول: لا إِله إِلاَّ الله: لأَن قوله: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) في ضمنه أَمر بذكر الله ودعائه. وقيل المعنى: أَفردوا المساجد لذكر الله ولا تتخذوها هزوًا ومتجرًا ومجلسًا ولا طرقًا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبًا، وفي الصحيح: "من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردَّها الله عليك؛ فإِن المساجد لم تبن لذلك". هذا، وقد روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كان، إِذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى وقال: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) اللهم أَنا عبدك وزائرك، وعلى كل مَزُور حق، وأَنت خير مَزوُر، فأَسأَلك برحمتك أَن تفك رقبتي من النار" وإِذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال: "اللهم اصْبُبْ عليَّ الخير صبًّا، ولا تنزع عني صالح ما أَعطيتني أَبدًا، ولا تجعل معيشتي كدًّا، واجعل لي في الأَرض جَدًّا) أَي: عِنًى وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة المساجد لأَن كل أَحد يسجد إِليها، أَي: يتخذها قبلة له. 19 - {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)}: أَي: وأَن الله أَوحى إِلى رسوله أَنه حين قام صلى الله عليه وسلم عابدًا ربَّه - عزَّ وجَلَّ - في صلاة الفجر في بطن نخلة، أَو في سوق عكاظ يؤم أَصحابه كاد الجن يلتصقون يركب بعضهم بعضًا تزاحمًا وتراكمًا عليه؛ متعجبين مما رأَوه من عبادته واقتداء الصحابة به قائمًا وراكعا وساجدًا، وإِعجابًا بما تلاه من القرآن العظيم، لأَنهم رأَوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، وقيل المراد: أَن الرسول لما قام يعبد الله تلبدت وتجمعت الإِنس والجن، أَو المشركون، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءَ به ويطفئوا نور الله، فأَبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وينصره ويظهره على من عاداه.

20 - {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)} سبب نزولها: أَن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنك جئت بأَمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن بخيرك؛ فنزلت. فأَمر الله رسوله أَن يجيبهم على قولهم هذا: بأَن ما ترونه من عبادتي لله ورفضي الإِشراك به ليس مما يتعجب منه، وإِنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكًا، أَو أَن يقول لمن تظاهروا وتمالئوا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءَ به: (إِنَّمَا أَدْعُو) يريد ما جئتكم بأَمر مستنكر ولا مستهجن إِنما أَعبد ربي وحده (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) وليس ذلك مما يوجب اجتماعكم على مقتي وعداوتي. 21 - {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)}: أَي: قل يا محمد في محاجة هؤُلاءِ وجدالهم: إِني لا أَقدر أَن أضركم ولا أن أَدفع عنكم ضرًّا، ولا أَستطيع أَن أَجلب لكم نفعًا، إِنما الضار والنافع والمرشد والمُغوي هو الله - عز وجل - وأَن أَحدًا من الخلق لا قدرة له على ذلك. 23،22 - {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}: أَي: قل لهم يا محمد: إِنَّني لن يستطيع أَحدٌ أَن يأخذني في جواره ويعيذني ويمنعني من الله إِن أَراد بي أَمرًا وهذا لأَنَّهُمْ قالوا له: اترك ما تدعو إِليه ونحن بخيرك. وإِنني لن أَظفر بملجأ أَركن إِليه أَو معاذٍ أَحتمي وأَلوذ به من غير الله؛ إِذ ملجأَ ولا منجى منه إِلاَّ إِليه، وأَن المخْلصَ والنجاة لا تكون إِلا بأَن أَتبع ما أَمرني به ربي، فأُبلغكم ما أرسلت به إِليكم ولا أَكتم شيئًا كلفني به - سبحانه - وأَوجب عليَّ أَن أُسْمِعَه لكم من غير زيادة أَو نقصان أَمَّا عياذي بكم والتجائي إِليكم - كما تؤملون وترجون - أَو اعتمادي على نفسي في الفِرار من جزاءِ ربي وحسابه فإِنه لا جدوى منه ولا نفع فيه، وقيل المراد: قل لا أَملك لكم إِلاَّ أَن أُبلغكم رسالة ربي، أَما الكفر والإِيمان فلا أَملكهما. (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أَي: ومن يتمرد على الله ويَأبَ الإِيمان به ربًّا

وبمحمد رسولا فإن له لا لغيره - من الطائعين الأَتقياء - له عذاب جهنم يخلد ويبقى فيه لا ينفك عنه ولا يزول ولا يبيد. {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} المفردات: (نَاصِرًا): معينًا. (أَمَدًا) زمانًا بعيدًا أَو قريبًا. (الْغَيْبِ) ما خفي واستتر. (ارْتَضَى): اختار واصطفى. (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): الرصد: الحفظة. (أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ): علمه علمًا تامًّا. (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا): ضبط كل شيءٍ معدودًا محصورًا.

التفسير 24 - {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)}: هؤُلاءِ الكفار لا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم ويستقلُّون عددهم، حتى إِذا رأَى هؤُلاءِ المشركون ما تهددهم الله وتوعدهم به من صنوف العذاب وفنونه في الآخرة، أَو من خذلانهم وهزيمتهم في الدنيا - كما حدث في غزوة بدر الكبري - فسيتبين ويظهر لهم من هم الأَضعف ناصرًا ومعينًا وأَقل نفرًا وجندًا وعددًا؟ هل هم أَم المؤمنون بربهم المصدقون برسالة نبيَّهم؟ لا شك ولا مرية َأن الكافرين لا وليّ ولا ناصر ولا شفيع لهم، قال تعالى: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) (¬1) وأَنهم هم الذين ينصرف وينفض عنهم أَهلوهم وذووهم يوم القيامة. أما المؤمنون فلهم في الآخرة العزة والكرامة والكثرة قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (¬2)، والملك القدوس - جل شأَنه - يسلم عليهم، قال تعالى: (سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (¬3) ولهم عز النصر واجتماع الشمل وعلوّ الشأن. 25 - {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)}: عندما سمع المشركون ما نزل في الآية السابقة قالوا - إِنكارًا له واستهزاءً به: متى يكون ذلك الموعود؟ فأَمر الله رسوله أن يبلغهم - تبكيتًا لهم وتهديدًا - أَن العذاب الذي أُوعِدُوا وهُددوا به كائن وحاصل، لا محالة، وأَن وقوعه متيقن، أَما وقته وزمن نزوله بهم فلا أَعلم متي يكون: أهو حالٌّ متوقع في أَية ساعة أَم مؤجل قد ضرب الله له غاية وَوقَّتَ له زمنًا معينًا؟ إِن الله - سبحانه - قد استأَثر بعلم ذلك. ¬

_ (¬1) من الآية 18 من سورة غافر. (¬2) من الآية 23 والآية 24 من سورة الرعد. (¬3) الآية 58 من سورة يس.

هذا، والأَمد: الزمان مطلقًا بعيدًا كان أَو قريبًا، والمراد به هنا: البعيد؛ بقرينة المقابلة بالقريب. 27،26 - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)}: أَي أَنه - سبحانه - هو الذي يعلم كلَّ ما خفي واستتر؛ لأَنه خالق كل شيءٍ: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (¬1) ومن ذلك الغيب: العذاب والنكال الذي يقع عليهم ويلحق بهم، وَأنه - جل شأَنه - لا يطلع ولا يظهر على غيبه أَحدًا إِلا من يختاره ويصطفيه للنبوة والرسالة فيطلعه على بعض ما يريد سبحانه أَن يظهره له، لأَن الرسل - عليهم السلام - مؤيدون بالمعجزات ومنها الإِخبار عن بعض الغيبيات، قال تعالى - حكاية عن عيسى - عليه السلام - (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (¬2) وفي قوله تعالى: (إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) إِشارة إِلى إِبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأَنَّ أَصحابها أَبعد شيءٍ عن ارتضاء الله وأَدخل ما يكون في سخطه وغضبه. روي أَن مسافر بن عوف قال لأَمير المؤْمنين على بن أَبي طالب - رضي الله عنه - لَمَّا أَراد لقاءَ الخوارج: يا أَمير المؤْمنين؛ لا تُسِرْ في هذه الساعة وَسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال له علي - رضي الله عنه -: ولم؟ قال: إِن سرتَ في هذه الساعة أَصابك وأَصاب أَصحابك بلاء وضر شديد، وإِن سرت في الساعة التي أَمرتك بها ظفرت وظهرت وأَصبت ما طلبت فقال عليّ - رضي الله عنه -: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أَن يكون كمن اتخذ من دون الله نِدًّا أَوضِدًّا، اللَّهم لا طير إِلاَّ طيرك ولا خير إِلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أَقبل على الناس فقال: أَيها الناس: إِياكم وتَعَلُّمَ النجوم إِلا ما تهتدون به في الظلمات البر والبحر، وإِنما المنجم كالساحر، والساحر ¬

_ (¬1) الآية 14 من سورة الملك. (¬2) من الآية 49 من سورة آل عمران.

كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أَنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأَخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة (النهروان) الثابتة في الصحيح لمسلم، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أَمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل: سار في الساعة التي أَمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البدان ثم قال: يا أَيها الناس: توكلوا على الله وثقوا به؛ فإِنه يكفي عمن سواه (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، أَي: فإِذا أَراد الله إِظهار شيءٍ من غيبه على رسوله فإِنه يحيط الرسول إِحاطة تامة من جميع جوانبه بحرس وحفظة من الملائكة يحفظونه من تعرض الجن لما يريد إِطلاعه عليه؛ لئلا يسترقوه ويهمسوا به إِلى الكهنة قبل أَن يبلغه الرسول، وذلك ليصل الوحي إِلى الناس خالصًا من تخليط الجن وعبثهم. 28 - {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}: أي: أَخبرنا وأَنبأنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أَن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق، وأَنه حفظ كما حفظوا من الجن، أَو ليعلم النَّاس أَن الرسول والرسل قبله - عليهم السلام - قد أَبلغوا رسالات ربهم كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان، أَو ليعلم الله أَن الرسل قد أَبلغوا الرسالة وأَدوا الأَمانة كاملة لم يكتموا منها شيئًا، أَي: ليعلم ذلك مشاهدًا وحاصلا وواقعًا كما علمه غيبًا وأَزلًا في علمه القديم. (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ): أَي: علم - سبحانه - بما عند الرسل ظاهرًا وباطنًا من الأَحكام والشرائع وغير ذلك لا يفوته منها شيءٌ ولا ينسى منها حرفًا؛ فهو المهيمن عليها والحافظ لها (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أَي: ضبط كل شيءٍ ضبطًا تامًّا لا يعتريه خلل ولا يناله نقص، أَحصاه - سبحانه - معدودًا محصورًا، وذلك مثل القطر والمطر والرمال وورق الأَشجار وزيد البحار وأَنفاس خلقه وغير ذلك مما نعلمه ومما لا نعلمه، ومَنْ هذا شأنه كيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ إِنَّه - سبحانه - المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيءٍ لا تأَخذه سنة ولا نوم.

سورة المزمل

سورة المزمل هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية مناسبتها لما قبلها: لما ختم الله - سبحانه - سورة الجن بذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في قوله تعالى: (لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغْوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) افتتح هذه السورة بما يتعلق ويتصل بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث بدأَها بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وقال الإِمام الآلوسي: لا يخفى اتصال أَولها (قُمْ اللَّيْلَ). إِلخ بقوله - تعالى - في آخر تلك (سورة الجن): (وَأَنَّهُ لَمَّا قَاَمَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ) وبقوله - سبحانه -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله) الآية. بعض مقاصد هذه السورة: 1 - إِن هذه السورة الكريمة تتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم في بدءِ الرسالة، وأَنه أَمر فيها بقيام الليل وترتيل القرآن فيه؛ ليكون ذلك أَعون له على تحمل أَعباءِ الرسالة: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلًا ... ) إلي قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرتِيلًا). 2 - جاءَت السورة تأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالصبر على إِيذاء قومه له، وعدم التعرض لهم بأَذى أَو تعييب أَو شتم، وذلك قبل أَن يؤذن له في قتالهم، وأَن يتركهم لله وحده ينتقم له منهم في الدنيا بالهزيمة والقتل كما حدث في غزوة بدر، وفي الآخرة بالأَنكال والجحيم والطعام الذي يعترض في حلوقهم فلا يخرج ولا ينزل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرهم هجرًا جَمِيلًا) إِلى قوله: (إِن لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا) الخ. 3 - جاءَ ختام السورة ببيان فضل الله ورحمته على رسوله وعلى المؤمنين، وذلك بالتخفيف عنهم في التهجد وقيام الليل؛ لأَنه - سبحانه - علم أنهم لن يطيقوه لمرض بعضهم؛ وحاجة آخرين إِلى السعي في الأَرض ابتغاءَ الرزق أَو للقتال في سبيل الله، ورفع عنهم وجوب ذلك وأَمرهم بإِقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة، وأَن يقرضوا الله قرضًا حسنًا، وذلك بفعل الطاعات ابتغاء وجهه - سبحانه - دون رياءٍ أَو سمعة، ووعدهم بأَنهم سيجدون عند الله خير الجزاء

ما جاء في سبب النزول

وجزاء الخير على ما يقدمونه من بر وطاعة: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}. (بسم الله الرحمن الرحيم) {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} المفردات: (الْمُزَّمِّلُ): المتزمل الذي تزمل بثيابه، أَي: تلفف بها، وقيل: غير ذلك. (اللَّيْلَ): هو من غروب الشمس إِلى طلوع الفجر. (وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا): (الترتيل): التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل إِذا كان حسن التنضيد. التفسير: 4،3،2،1 - {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}: ما جاء في سبب النزول: ورد في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينما أَنا أَمشي إِذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإِذا الملَك

الذي جاءَني بحراءَ جالس على كرسيّ بين السماءِ والأَرض، فرغبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، فأَنزل الله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنِذرْ) إلي قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فحمى الوحي وتتابع، وقال المفسرون: وعلى أَثرها نزلت (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). أَي: يا أَيها المتلفف بثيابك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا بالليل متزملا في قطيفة فناداه ربّه بذلك تأنيسًا له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته وحالته التي هو عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم - لعليّ - كرم الله وجهه - حين غاضب زوجه فاطمة الزهراءَ - رضي الله عنها - فأَتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب: "قم أَبا تراب" وكذلك قوله - عليه الصلاة والسلام - لحذيفة: "قم يا نومان" وكان نائمًا، ونداء الله له بذلك قصدا لرفع الحجاب وطيًّا لبساط العتاب وزيادة في الإِدلال والترأَف تنشيطًا له صلى الله عليه وسلم ليتلقى ما يكلف به من عمل يشق عليه بهمة عالية وعزيمة صادقة لا تعرف كلالا أَو تعبا. وقيل: يا أَيها المزمل بالنبوة والملتزم بالرسالة. وقيل: المزمل بالقرآن. (قُمْ اللَّيْلَ) أَمره - سبحانه - بالقيام والتشمر في الليل لإِحيائه بالصلاة والعبادة وتلاوة القرآن، وترك الهجوع إِلى السجود والركوع، وهجر المنام إِلى ما فيه نيل البغية وبلوغ المرام، إِنه - عزَّ وجلَّ - يعدُّه ويهيئه بقيام الليل وفيه ما فيه من المجاهدة والمصابرة ليؤهله إِلى أَداء الرسالة لقوم قوى مراسهم واشتد عنادهم. (إِلا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أَي: قم نصف الليل (¬1) أَو أَقل من النصف أَو أزيد منه واختلف في المراد من ذلك: فذهب أَكثر المفسرين إِلى أَنه صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين قيام نصف الليل أَو ثلثه أَو ثلثيه، وقال آخرون: هو مخيّر بين قيام نصف الليل أَو ربعه أَو ثلاثة أَرباعه (¬2) والرأي الأَول أَجدر وأَولى لوضوحه وبيانه ولاتفّاقه مع ما جاءَ في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ). ¬

_ (¬1) هذا على أن كلمة (نصفه) بدل بعض من كل من الليل. (¬2) أي: قم نصف الليل أو انقص من هذا النصف قليلا يعني انقص نصفه فيكون الربع، أَو زد على النصف قليلا، يعني نصفه، فيكون المجموع ثلاثة أرباعه.

وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ) تنبيه لكل متزمل راقد ليله أَن يقوم الليل ويذكر الله فيه؛ لأَن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة. هذا. وهل كان قيام الليل فرضًا على رسولنا صلى الله عليه وسلم وحده؟ أَو كان فرضًا عليه وعلى الأَنبياءِ قبله؟ أَو كان فرضًا عليه وعلى أُمته؟ أَقوال أَرجحها أَنه كان فرضًا عليه وعلى أُمته، وهو قول عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما - فقد ورد في صحيح مسلم عن زرارة بن أَوفى: أَن سعد بن هشام بن عامر أَراد أَن يغزو في سبيل الله ... وفي هذا الحديث فقلت (أَي: سعد بن هشام) لعائشة: أَنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أَلست تقرأُ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قلت: بلى، فقالت: فإِن الله - عزَّ وجلَّ - افترض قيام الليل في أَول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأَصحابه حولا، وأَمسك خاتمتها اثنى عشر شهرًا في السماءِ حتى أَنزل الله - عز وجل - في آخر هذه السورة التخفيف (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) فصار قيام الليل تطوعًا بعد الفريضة. نقول: والظاهر أَن النسخ والتخفيف كان في حق الأُمة وبقيت فريضة قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) وهذا رأَي كثير من المفسرين والفقهاءِ. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) أَي: اقرأ القرآن على تمهل وتؤدة وذلك بإِشباع الحركات وتبيين الحروف بحيث يُمَكنُ السامع من عدها، وذلك من قولهم: ثغر رتل إِذا كان مفلجًا لم تتصل أَسنانه بعضها ببعض، وعن عليٍّ - كرم الله وجهه - أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: "بيِّنْهُ تبيينا ولا تنثره نثر الدقل (¬1) ولا تهذّه هذَّ الشِّعر، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة". ¬

_ (¬1) الدقل: أردأ التمر.

هذا، ومراتب التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم أَربع: 1 - الترتيل: وهو القراءَة بطمأنينة وإِخراج كل حرف من مخرجه مع إِعطائه حقه من جميع الصفات والمخارج، ومع التدبر في معاني القرآن الكريم والتأَمل لما فيه من حكم ومواعظ. 2 - التحقيق: وهو مثل الترتيل إِلا أَنه أَكثر اطمئنانًا منه، وهو المأخوذ به في مقام التعليم. 3 - الحذر: وهو الإِسراع في القراءَة مع مراعاة أَحكام التجويد وضبطها. 4 - التدوير: وهو مرتبة تتوسط الترتيل والحدْر مع مراعاة الأَحكام كذلك. وقال علماءُ القراءات والتجويد: إِن أَفضل هذه المراتب هو الترتيل؛ للأَمر به في قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا). ولقراءَة النبي صلى الله عليه وسلم به، فعن عائشة - رضي الله عنها - أَنها قالت: "كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أَطول من أَطول منها" وعنها - وقد سئلت عن قراءَة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "لا كسردكم هذا، لو أَراد السامع أَن يعدّ حروفه لعدّها" وعن أُم سلمة - رضي الله عنها - أَنها قالت: "كان يقطع القرآن آية آية" أَي: يقف على آخر كل آية ليعلم أَصحابه رضي الله عنهم - أَن الآية قد تمت. {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} المفردات: (قَوْلًا ثَقِيلًا): يثقل حمله، والمراد به قيام الليل، أَو القرآن. (نَاشِئَةَ اللَّيْلِ): العبادة في الليل، وقيل غير ذلك.

(أَشَدُّ وَطْئًا): أَثقل وأَغلظ وأَشد على المصلي من صلاة النهار. (وَأَقْوَمُ قِيلًا): وأَثبت قراءَة وأَبين مقالا. (سَبْحًا): تصرفًا وتقلبًا في شواغلك. التفسير 5 - {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}: أَي: إِنا سنوحي إِليك باقتراض قيام الليل قولا ثقيلا يثقل حمله، لأَن مِنْ شأن الذي يقوم به أَن يجهد بذلك وينوء بحمله، لأَن الليل وقت الإِخلاد إلي الراحة والنوم، فمن أَمر بقيامة لم يتهيأ له ذلك إِلا برياضية شديدة لنفسه وتذليل وقهر لها، ومجاهدة للشيطان، وقيل: إِنا سنوحي إِليك القرآن العظيم وهو ثقيل بثقل العمل بشرائعه وأَحكامه ووعده ووعيدة وحلاله وحرامه، أَو أَنه ثقيل، أَي: مبارك في الدنيا على صاحبه ويثقل ميزانه يوم القيامة، وقيل: ثقيل تلقيه؛ فقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - "أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا أَوحي إِليه وهو على ناقته وضعت جِرانها (¬1) فما تستطيع أَن تتحرك حتى يُسرَّى عنه" أَي: الوحي، وتلت قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). كما روى الشيخان ومالك وغيرهم أَنها قالت: "لقد رأَيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإِن جبينه ليتفصد عَرَقًا" هذا، وإِن النص القرآني الكريم ليتسع لذلك كله ولغيره. 6 - {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)}: أي: إِن قيام ساعات الليل وإِحياءَها بالعبادة من ذكر صلاة وتفكر وتدبر، أَو: إِن العبادة التي تحدث وتنشأُ في الليل هي أَشد وأَثقل على القائم ليلة من عبادة النهار؛ لأَن القائم في الليل يجاهد نفسه ويهجر مهده، ويتجافى عن المضجع جنبه، وهي كذلك أَصواب قولا وأَحسن لفظًا؛ لأَن الليل فيه تهدأ الأَصوات، وتنقطع الحركات، ويخلص القول ويفرغ ¬

_ (¬1) الجران: مقدم عنق البعير من مذبحه إِلى منحره، فإذا برك ومد عنقه على الأرض قيل: ألقى جرانه بالأرض.

القلب، ولا يكون هناك مانع أو حائل دون تفهم القرآن وتدبره، وفي هذه الآية الكريمة بيان لفضل صلاة الليل، وأَن الاستكثار منها وزيادة القراءة فيها يعظم الثواب ويجزل الأَجر. وقيل: المراد بالناشئة هي النفس التي تنشأَ من مضجعها إِلى العبادة، أَي: تنهض، وذلك دون ناشئة النهار. واختلف العلماءُ في وقت (ناشئة الليل) فقال ابن عمر وأَنس بن مالك - رضي الله عنهما -: هي ما بين المغرب والعشاءِ تمسكًا بأَن لفظ (نشأَ) يعطي الابتداء، وكان علي بن الحسين - رضي الله عنهما - يصلي بين المغرب والعشاءِ ويقول: هذه ناشئة الليل، وقيل: هي الليل كله، وقيل: هي القيام بالليل بعد النوم، وهذا مروي عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا يتفق مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "إِن الله - عز وجل - يمهل حتى يمضي شطر الليل الأَول، ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطي؟ " فهذا الحديث بيّن الأَوقات التي هي جديرة بالإِحياءِ والإِقامة، وأَيضًا فإِنه يتناسب مع قوله تعالى: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) لأَن الصلاة بعد نوم فيها الكثير من أَخذ النفس بالشدة والحزم ورياضتها على الأَعمال الشاقة التي تكسب صاحبها ثوابًا عظيمًا وأَجرا جزيلا، فقد ورد في الأَثر: "أَفضل العبادات أَحمزها "أَي أَشقها. 7 - {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}: أَي: إِن لك في النَّهار سغة من الوقت تتصرف فيها من مهامك وشواغلك ونومك وراحة بدنك، فاجعل ليلك خالصًا لعبادة ربك، وعليك بمناجاته التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل، أَو: إِن لك تصرفًا في أُمور معاشك وتقلبًا في حوائجك وما يعرض لك من أَمر دنياك، فلا تستطيع أَن تتفرغ للعبادة الخالصة في النهار فعليك بها في الليل، وقيل: إِن فاتك في الليل شيءٌ من العبادات فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه، ويؤيد هذا المعنى ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أَنها قالت: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا صلى صلاة أحب أَن يداوم عليها، وكان إِذا شغله عن قيام الليل نوم أَو وجع أَو مرض صلى من

النهار ثنتى عشرة ركعة" هذا من حديث طويل رواه الإِمام أَحمد، وقد أَخرجه مسلم في صحيحه من حديث قتادة بنحوه. وهذه الآية الكريمة تبين الداعي والدافع الخارجي إِلى قيام الليل وهو اتساع النهار لأَمر الدنيا فضلا على ما في قيام الليل من الدافع الذاتي وهو ما يناله القائم ليلا من رضا الله وثوابه. {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} المفردات: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا): وانقطع إِلى ربك بعبادته، وجرد نفسك عما سواه. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا): جانبهم ودارهم ولا تكافئهم على إِيذائهم لك. التفسير 8 - {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)}: أَي: ودم واثبت على ذكر ربك ليلا ونهارا، أَي: ادعه بأَسمائه الحسنى ليكون لك مع صلاة الليل العاقبة المحمودة والدرجة العالية الرفيعة، وقيل: اذكره على أَي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءَة قرآن وغير ذلك من أَلوان الطاعات وصنوف العبادات، وفسر الأَمر في قوله: (وَاذْكُرْ) بالدوام والاستمرار؛ لأَنه عليه الصلاة والسلام حتى ما منامه لم ينس ربه - عز وجل - حتى يؤمر بذكره: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا): هذا أَمر منه - سبحانه - لرسوله أَن ينقطع لله ويخلص له العبادة ويفرده بها، ويراقبه مراقبة

تستغرق قلبه وتسيطر على باطنه، كما أَمره - عز وجل - أَن يعبده ظاهرا ويذكره بلسانه في قوله (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ) ليكون الظاهر والباطن مشغولا بالله وحده. هذا، واتفق أَئمة الإِسلام وعلماؤُه على مشروعية طلب ذكر الله، كما اتفقوا على أَن كلمة (لا إِله إِلا الله) هي أَفضل ما قاله الرسول والنبيون من قبله - صلى الله عليه وسلم - ولكن ما المراد من ذكر الله؟ هل يشمل ويضم كل العبادات؟ أَو هو نوع معين منها؟ ثم ما مقداره؟ وما هي أَفضل الأَوقات التي يطلب فيها وتكون أَرجى في الإِجابة؟ وهل هو مطلوب على سبيل الندب أَو على سبيل الحتم والوجوب؟ وما الحالة التي ينبغي أَن يكون عليها الذاكر عند ذكر ربه؟ أُمور اختلفوا فيها ولكل وجهة. والذي يتضح لنا أَن الذكر هو عمل من أَعمال اللسان، وأَن لكل جارحة عبادتها الخاصة بها، وذلك عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث: "أَوصاني ربي بتسع ... " الخ الذي جاءَ فيه: "وأَن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرا"، وأَيضا فإِن إِطلاق الذكر على كل ما نطق به اللسان من العبادات فيه ضرب من التجوز؛ إذ قد عطف الأَمر بالتسبيح (وهو من عمل اللسان أَيضًا) على الأَمر بالذكر في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) والعطف - كما يقولون - يقتضي المغايرة، نسأَل الله حسن التوفيق إِلى ما يحبه الله ويرضاه. 9 - {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}: أَي: هو سبحانه - رب المكان الذي تشرق فيه الشمس وتغرب؛ فهو رب الأَرض جميعًا ومالكها، ومدبر أَمرها وأَمر ما فيها، لا معبود بحق إلا هو، وما دام - سبحانه - مختصًا بالربوبية والأُلوهية فقد وجب على كل عاقل أَن يتخذه وكيلًا؛ فيسلم نفسه إِليه، ويعتمد ويتوكل عليه، ويفوض كل أَمره إِليه، فهو - جل شأنه - نعم الوكيل ونعم المولى والنصير، قال بعضهم: من رضي بالله - تعالى - وكيلا وجد إِلى كل الخير سبيلا. 10 - {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}: أَي: احبس نفسك على ما يصيبك من أَذى قومك وسفاهتهم التي يرمونك بها من صفات التعييب والتنقيص كقولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون إِلى غير ذلك مما

كانوا ينسبونه إِليه استهزاءً به وسخرية منه صلى الله عليه وسلم، واجعل نفسك في جانب وهم في جانب، واصبر على ما يبدر منهم؛ فالهجر الجميل: هو أَن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم مع حسن المخالفة والمداراة والإِغضاء وترك المكافأَة. {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} المفردات: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ): خل بيني وبينهم، وارض بي لعقابهم. (أُولِي النَّعْمَةِ): أَصحاب التنعم وغضارة العيش. (أَنكَالًا): جمع نكل، وهو القيد الثقيل أَو الشديد. (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ): وطعامًا يعترض وينشب في الحلوق. (تَرْجُفُ الأَرْضُ): تضطرب وتتزلزل. (كَثِيبًا): رملا مجتمعًا. (مَهِيلًا): رخوًا ليِّنًا. التفسير 1 - {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}: أَي: خل بيني وبين هؤلاءِ المكذبين المفترين أَرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة الأَولاد، وارض بي لعقابهم وإِنزال النكال بهم؛ فإِن لدي ما يفرغ بالك ويجلي همك،

والمراد من المكذبين أُولي النعمة: هم صناديد قريش وزعماؤُها (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي: ولا تضق ذرعًا بهم واتركهم زمانًا قليلًا وهو مدة حياتهم في الدنيا، أَو المدة الباقية لهم إِلى يوم بدر، وبعدها فسيهلكهم الله ويكفيك شرهم. وفي قوله تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إِدخال مزيد اطمئنان على قلب الرسول الكريم بأَنه - سبحانه - آخذ هؤُلاءِ لا محالة بشديد عقابة جزاءَ تكذبيهم، وإِلاَّ فهل يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أَو غيره مهما علا سلطانه واشتد جبروته وقوى طغيانه أَن يحول بين الله وأَحد من خلقه؟! 13،12 - {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}: أَي: إِن عندنا ما ننتقم به منهم، وإِن لدينا قيودًا ثقيلة لا يستطيعون منها فكاكًا ولا معها تحركًا، كما أعتدنا لهم نارًا شديدة الاشتعال والاتقاد يلقون فيها وتسعر بهم، وهيأنا لهم طعامًا من الضريع والغسلين والزقوم يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج، كما أَن لهم نوعًا آخر من العذاب شديد الإِيلام لا يعرف كنهه ولا قدره إِلاَّ الله - عزَّ وجلَّ -. 14 - {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}: أَي: ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم تضطرب الأَرض والجبال وتزلزل حتى تصير الجبال رملا مجتمعًا رخوًا لينا بعد أَن كانت صخرًا صلبًا وحجارة صماء. هدد الله - سبحانه - المشركين وخوفهم بهذا العذاب الأَليم وذلك المآل المخزي يوم القيامة إِذا استمروا على شركهم وعنادهم.

{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)} المفردات: (وَبِيلًا): ثقيلًا غليظًا رديءَ العاقبة. (مُنْفَطِرٌ بِهِ): متشقق ومتصدع بشدة ذلك اليوم. التفسير 16،15 - {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}: أَي: إِنا بعثنا إِليكم أَيها المكذبون من أهل مكة رسولا يخبرنا يوم القيامة بما شاهده وعاينه من كفركم وعنادكم وعصيانكم؛ حتى لا تكون لكم حجة، وستواجهون بما قدمتم من جرائم الأَعمال وقبيح الفعال، وتكذيبكم له صلى الله عليه وسلم وفِعْلُنَا هذا هو سنة قد أَجريناها على الأُمم قبلكم (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (¬1) فقد أَرسلنا إِليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم كما أَرسلنا إِلى فرعون رسولا وهو موسى - عليه السلام - (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) كما عصيتم رسولكم وكذبتموه (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) أَي: انتقمنا منه انتقامًا ذريعًا وعذبناه عذابا ثقيلا غليظًا، وسيكون عقاب المكذبين منكم أَشد وأَقسى ¬

_ (¬1) الآية 62 من سورة الأحزاب.

من عقاب ذلك الفرعون وقومه: لأَن رسولكم يشهد عليكم عند ربكم، ولو آمنتم لكانت شهادته لكم. وقد جاءَ في هذا الوضع ذكر قصة موسى وفرعون دون سائر الرسل والأُمم؛ لأَن أَهل مكة استهزأُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم واستخفوا به لأَنه ولد فيهم وتربى بينهم، كما أَن فرعون ازدرى موسى لأَنه ربَّاه وولد - عليه السلام - فيما بينهم، وهو قوله: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (¬1). 17 - {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)}: هذا توبيخ وتقريع، أَي: إِذا بدا لكم وجال بخاطركم أَنكم لن تؤْخذوا بأَعمالكم السّيئة وفعالكم القبيحة وتكذبيكم رسول الله كما أخذ فرعون أخذًا شديدًا وعذَّبه عذابًا غليظًا، فكيف تَقُونَ أَنفسكم وتحفظونها من هول يوم القيامة وما أَعد لكم فيه من القيود والأَغلال إِن دمتم على ما أَنتم فيه حتى زهقت أَرواحكم وأَنتم كافرون؟ وما ينبغي لكم يا أُولي الأَحلام والنُّهَي أَن تكونوا كذلك وقد جاءَكم من الله نور وكتاب مبين، أَو: كيف لكم بالتقوى، وأَنَّى لكم بها يوم القيامة إِن كفرتم في الدنيا (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) هذا مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأَطفال، والأَصل أَن الهموم والأَحزان إِذا تفاقمت واشتدت على الإِنسان أَسرع فيه الشيب، وقال أَبو الطيب: والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم وقيل: إِن الكلام على الحقيقة استنادًا إِلى ما جاءَ في حديث الشفاعة، وفيه أَن الله - سبحانه - يأمر آدم - عليه السلام - (أَن يخرج بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعين، فيخرجون ويساقون إِلى النار سوقًا مُقَرَّنين زُرْقًا) قال ابن مسعود: "فإِذا خرج بعث النار شاب كل وليد". ¬

_ (¬1) الآية 18 من سورة الشعراء.

18 - {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)}: المراد من السماءِ: كل ما فوقك من السموات والكواكب والنجوم وغيرها مما أَظلك وعلاك، والمعنى: السماء مع عظمها وإِحكامها تتصدع وتتشقق وتتداعى من هول ذلك اليوم، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ أو: أَن السماءَ مثقلة به إِثقالا يؤَدي إِلى انفطارها وتصدعها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (¬1)، (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) أَي: كان وعد ذلك اليوم واقعًا لا محالة؛ لأَن حكمة الله وعلمه يقتضيان إِيقاعه وحصوله، أَو أَن وعد الله واقع لا محالة لأنه - سبحانه - منزه عن الكذب (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا) (¬2). 19 - {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}: أَي: إِن هذه الآيات التي سبقت في هذه السورة وفيها ما فيها من القوارع والزواجر هي تذكرة ومواعظ اشتملت على أَنواع الهداية والرشاد، فمن شاءَ وأَراد اتعظ بها واتخذ طريقًا إِلى الله بالتقوى والخشية والتقرب والتوسل إِليه - سبحانه - بالاشتغال بالطاعات والاحتراز والبعد من المعاصي والسيئات. ¬

_ (¬1) من الآية 187 من سورة الأعراف. (¬2) من الآية 122 من سورة النساء.

* {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} المفردات: (تَقُومُ): تصلي. (أَدْنَى): أَقل. (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ): علم أَن لن تطيقوا ضبط وقت قيام الليل. (فَتَابَ عَلَيْكُمْ): فخفف عليكم ورفع التبعة عنكم في ترك قيامه المقدر. (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ): أَي: فصلوا ما تسير لكم من صلاة الليل، وقيل: الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن. (يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ): يسافرون فيها للتجارة ونحوها.

(وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): وذلك بإِنفاق ما سوى المفروض من المال في سبيل الخير عن طيب نَفس. (هُوَ خَيْرًا): هو خيرًا مما خلفتم وما أَبقيتموه لأَنفسكم في الدنيا. التفسير: 20 - {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}: في أَول السورة الكريمة جاءَ الأَمر الإِلهي لرسول الله بقيام قدر من اللَّيل، وخضع الرسول، لأَمر ربه، ولبى نداءَ السماء، ومعه جماعة من أَصحابه اقتدوا به، ثم خفف الله عنهم في آخرها بقوله تعالى (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) وأمرهم بالصلاة والزكاة والصدقة والاستغفار. ومعنى الآية: إِن ربك الذي رباك على موائد كرمه يعلم أَنك يا محمد تقوم من الليل أَقل من ثلثيه حينًا وتقوم نصفه حينًا وتقوم ثلثه حينًا آخر، وتقوم معك طائفة من أَصحابك تأَدبوا بآدابك وحَذَوْا حَذْوَك ونسجوا على منوالك واهتدوا بهديك ومنهم من كان لا يدري كم صلَّى في الليل وكم بقى منه، ولا يدري متى نصف اللَّيل من ثلثه فكان يقوم الليل كله احتياطيًّا مخافة أَن يخطيء حتى انتفخت أَقدامهم، وامتقعت أَلوانهم سنة أَو أَكثر فرحمهم الله وخفف عنهم فقال: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أَي: يعلم مقادير اللَّيل والنهار على حقائقها وأَنتم تعلمون بالتَّحَرِّي والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ، ولا يقدر على تقدير الليل والنهار وضبط ساعاتهما كما هي إِلا الله وحده (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) علم الله أَنَّ الشَّأن لن تقدروا على تقدير الأَوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات، ولا يتأَتى لكم حسابها إِلا أن

تأَخذوا بالأَكثر والأَوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أَي: فرجع بكم إِلى التخفيف بالترخيص في ترك القيام المُقَدّر ورفع التبعة عنكم في تركه كما ترفع التبعة عن التائب، وعاد إِليكم بالعفو، وهذا يدل على أَنَّه كان فيهم من ترك بعض ما أُمِر به، وقيل: فتاب عليكم من فرض القيام إِن عجزتم، وأَصل التوبة الرجوع، فالمعنى رجع بكم من تثقيل إِلى تخفيف، ومن عسر إِلى يسر، وكانوا أَمروا بحفظ الأَوقات على سبيل التحري فخفف عنهم ذلك التحري. (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) أَي: فَصَلُّوا ما يتيسر لكم من صلاة الليل، وعبّر عن الصلاة بالقراءَة كما عبر ببعض أَركانها فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (¬1) أَي أَقيموا الصلاة، وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءَة القرآن بينهما قال السدي: مائة آية، وقال سعيد: خمسون. ومن ذهب إِلى الأول قال: إِن الله فرض قيام مقدار معين من الليل في قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) الآية إِلى قوله: (أَو زِدْ عَلَيْهِ) ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) فالأَمر في الموضعين للوجوب إِلا أَن الواجب أولا كان معينًا محدودًا، والثاني كان بعضًا مطلقًا ثم نسخ وجوب القيام على الأُمة مطلقًا بالصلوات الخمس وغيرها. ومن ذهب إلي الثاني قال: إِن الله رخص لهم في ترك القيام وأَمر بقراءَة شيء من القرآن ليلًا فكأَنه قيل: فتاب عليكم ورخص في التَّرك فاقرءوا ما تيسر من القرآن إن شق عليكم القيام فإِن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءَة ثواب القيام، وصرح جمع أَن قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا) على هذا أَمر ندب بخلافه على الأَول. قال العلامة الآلوسي: واعلم أَنهم اختلفوا في أَمر التهجّد: 1 - فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان مفروضًا بمكة قبل أَن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بها إِلا ما تطوعوا به، ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر، وقد روى ذلك ¬

_ (¬1) سورة الحج من الآية: 77.

أَيضا في حديث سعد بن هشام عندما سأَل السيدة عائشة عن قيام رسول الله وقد سبق ذلك في أَول السورة. 2 - وقيل: كان نفلا بدليل التخبير في المقدار، وبدليل قوله تعالى: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) (¬1). 3 - وعن ابن عباس: سقط قيام الليل عن أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار تطوعًا وبقى ذلك فرضًا على رسول الله. بقى هنا بحث: وهو أَن الإِمام أَبا حنيفة - رضي الله عنه - استدل بقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) على أَن - الفرض - في الصلاة مطلق قراءَة ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها - وهو ظاهر على القول بأَنه عبّر في الآية عن الصلاة بركنها وهو القراءة. كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع - وقدّر ما تيسر من القرآن بآية. وخص الشافعي ومالك وما تيسر من القرآن بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءَتها في الصلاة بحجج كثيرة، فعن أَبي هريرة عنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" أهـ آلوسي مع التلخيص والتصرف (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسرة ضبط الأَوقات التي يطلب منكم قيام الليل فيها، أَي علم أَن الشأن سيكون منكم مرضى يشق عليهم الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). أَي: وآخرون يسافرون في الأَرض وينتقلون بين أَجزائها للتجارة والعمل يطلبون رزق الله وخيره وقيام الليل يشق عليهم (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَي: وآخرون يجاهدون في سبيل الله لإِعلاءِ كلمته ونشر دعوته. وفي قَرْنِ الْمُسَافرين لابتغاءِ فضل الله الطالبين للتجارة والعمل بالمجاهدين في سبيل الله إِشارة إِلى أَنهم كمثلهم في الأَجر وهكذا ¬

_ (¬1) من الآية 79 من سورة الإسراء.

الإسلام جعل العمل عبادة بل جعله من أَعظم أَنواع العبادات وأَفضلها لأَنه قرن العمل بالجهاد في سبيل الله. وهكذا الإسلام سعى لإِقامة حياة سعيدة قوامها العمل الجاد النافع للناس، والجهاد لنشر دين الله، وحاول الفلاسفة والمصلحون من البشر إِقامتها فعجزوا وأَقامها محمد صلى الله عليه وسلم وأَصحابه الذين نشروا دعوته وأَقاموا منهج السماء في الأَرض. أَخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإِيمان وغيرهما أَن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قال: ما من حال يأتيني عليه الموت - بعد الجهاد في سبيل الله - أَحبّ إِليّ من أَن يأتيني وأَنا بين شعبتي جبل أَلتمس من فضل الله - ثم تلا هذه الآية: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) .. إلخ. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جالب يجلب طعامًا إِلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر وقته إِلاَّ كانت منزلته عند الله ثم قرأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). قال ابن كثير: وهذه الآية - وهي قوله تعالى -: (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شُرِع بعد، فهي من أَكبر دلائل النبوة؛ لأَنَّهَا من باب الإِخبار بالمغيبات المستقبلية. وإِذا كان الأَمر كما ذكر وتعددت مقتضيات الترخيص (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أَي: فاقرءوا ما تيسر من القرآن من غير تحمل مشقة، وقال ابن كثير: قوموا بما تيسر عليكم منه، وهو مذهب الحسن البصري كان يرى حقًّا على حملة القرآن أَن يقوموا ولو بشيءٍ قليل منه في الليل، ولو بقراءة خمس آيات، وقال القرطبي: أَي: فَصَلُّوا ما أَمكن فأَوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإِيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَي: واظبوا على أَداءِ الصلاة المفروضة (وَآتُوا الزَّكَاةَ) أَي: وأَعطوا الزكاة الواجبة عليكم لمستحقيها، وقيل: المراد من الزكاة: زكاة الفطر، وقيل: صدقة

التطوع (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يجوز أَن يراد بهذه الآية الإِنفاق في سائر الصدقات، أَو أَن يُراد أَداء الزكاة على أَحسن وجه من إِخراج أَطيب المال وأَكثره نفعًا للفقراءِ، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إِلى المستحق، أو أَن يراد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال فالله يجازي عليه أَحسن الجزاء وأَوفره، وعن عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا): قال ابن كثير: أَي: جميع ما تقدمونه بين أَيديكم وأَنتم أَحياءٌ فهو لكم حاصل ثوابه، وهو خير ممَّا أَبقيتموه لأَنفسكم في الدنيا وممَّا تركتم وخلفتم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيكم ماُلُه أَحبُّ إِليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أَحد إِلا ماله أَحب إِليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إِلاَّ ذلك يا رسول الله، قال: إِنما مال أَحدكم ما قدَّم ومال وارثه ما أَخر" رواه البخاري. (وَأَعْظَمَ أَجْرًا): وأَجزل ثوابًا - قال القرطبي: قال أَبو هريرة: هو الجنة، وقيل: لإِعطائه بالحسنة عشرًا أو أَكثر. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أَي: اطلبوا منه المغفرة في كافة أَحوالكم، فإِن الإِنسان قلما يخلو ممَّا يعد تفريطًا بالنسبة إِليه، وعَدّ من ذلك الصوفية رؤية العابد، عبادته، قيل: ولهذه الإِشارة أَمَر بالاستغفار بعد الأَوامر السابقة بإِقامة الصلاة وإِيتاءِ الزكاة والإِقراض الحسن. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): وهو سبحانه يغفر ذنب من استغفره، ويرحمه - عز وجل - وفي حذف المعمول دلالة على العموم، نسأَل الله عظيم مغفرته ورحمته، قال القرطبي: (غَفُور) لِمَا كان قَبْلَ التوبة (رَحِيمٌ): لكم بعدها: قاله سعيد بن جبير.

سورة المدثر

سورة المدثر سورة المدثر مكية، وآياتها ست وخمسون آية مناسبتها لما قبلها: سورة المدثر متفقة مع سورة المزمل التي قبلها في الافتتاح بنداءِ النبي صلي الله عليه وسلم في كل منهما، كما بدئت سورة المزمل بالأَمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة، وبُدِئت سورة المدثر بالأَمر بالإِنذار وفيه من التكميل ما فيه. أَول ما نزل من القرآن: قال الآلوسي: أَخرج أَحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن يحيى بن أَبي كثير قال: سأَلت أَبا سلمة بن عبد الرحمن عن أَول ما نزل من القرآن فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). قلت: يقولون: (اقْرَأ باسْم رِبَّكَ الَّذِي خَلَقَ). قال أَبو سلمة: سأَلت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر: لا أُحدثك إِلاَّ ما حدثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فُنودِيت فنظرت عن يميني فلم أَر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أَر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أَر شيئًا، فرفعت رأَسي فإِذا الملك الذي جاءني بحراء جالس علي كرسي بين السماءِ والأَرض فجئثت (¬1) منه رعبًا، فرجعت فقلت: دثروني، فنزلت: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وظاهر ذلك الخبر أَن سورة (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) نزلت قبل سورة (اقْرَأ باسْم رِبَّكَ الَّذِي خَلَقَ). والْمَرْوي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أَنَّ قوله تعالى: (اقْرَأ باسْم رِبَّكَ الَّذِي خَلَقَ) أَول من نزل من القرآن، وهو الذي ذهب إِليه أَكثر الأَئمة، حتى قال بعضهم: هو الصحيح، ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب للتوفيق بينهما فذكر (صاحب الإتقان): خمسة أَجوبة منها: 1 - أَن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة، فَتبَيَّن أَن سورة المدثر نزلت بتمامها قبل تمام سورة اقرأْ، فإِن أَول ما نزل منها صدرها: من أَول السورة إِلى قوله تعالى: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). ¬

_ (¬1) فجئثت - أي: ذعرت وخفت.

من مقاصد السورة

2 - أَن مراد جابر بالأَولية أَولية مخصوصة بما يعد فترة الوحي لا أَولية مطلقة -انتهى ملخصًا. من مقاصد السورة: تبدأَ السورة الكريمة بنداءِ النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لإِنذار قومه وتعظيم ربه وتخلقه بكريم الخصال، ثم بحديث عن القيامة وأَهوالها، ثم بأَمر من الله لنبيه بترك الجاحد لنعم الله عليه المكذب بالآيات؛ لأَن الله وحده سيكفي الرسول أَمره وسيتولى عقابه، وتُصَوِّر باقي السورة الكريمة أَحوال هذا المكذب وهو يفكر فيما يقول في القرآن تصويرًا دقيقًا فتقول: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ). يا سبحان الله؟ بعد كل هذا التفكير العميق عاد ذلك الجاحد يردد ما قاله المكذبون من قبله!! وتذكر الآيات عقابه سقر وأَوصاف سقر، ثم بينت السورة الحكمة في جعل خزنة النار من الملائكة والسر في كونهم على هذه العِدّة المذكورة في القرآن، ووضحت الآيات أَن كل نفس مرهونة بعملها من خير أَو شر، وأَن أَصحاب اليمين في جنات يتساءَلون عن المجرمين قائلين لهم تبكيتًا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) فذكروا لهم ما فعلوه من ذنوب في الدنيا عوقبوا عليها يوم القيامة، وجاءَ في الآيات تشبيه الكفار لإِعراضهم عن الحق بهذا التشبيه المهين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ). وختمت السورة بالحديث عن القرآن ووصفه بأَنه تذكرة لمن شاءَ أَن يتذكر، وبالثناءِ على الله بأَنه أَهل التقوى وأَهل المغفرة.

بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)) المفردات: (الْمُدَّثِّرُ): لابس الدثار، وهو ما فوق القميص، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قُمْ): أَي: قم من مضجعك، أَو قم قيام عزم وتصميم. (فأَنذِرْ) أَي: فحذر الناس وخوفهم من عذاب الله. (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ): وخُص ربك بالتكبير والتعظيم، أَو يقول: الله أَكبر. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): كناية عن التخلق بالأَخلاق الحسنة، أَو تقصير الثياب لتسلم من النجاسة ومن الخيلاءِ. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ): اترك المآثم الموجبة للعذاب كالشرك. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ): ولا تعط مستكثرًا -أَي: رائيًا ما تعطيه كثيرًا- أَو طالبًا الكثير. (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ): ولوجه ربك وابتغاء مرضاته فتخلق بالصبر. (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ): فإِذا نُفِخ في الصُّور للبعث والنُّشور -والنَّاقور- فَاعُول من النقر، بمعنى التصويت -وأَصله: القرع الذي هو سببه، ومنه منقار الطائر لأَنه يقرع به.

التفسير: 1 - (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ): أَي: المتلفف بثوبه المتغشي به، واللفظ -على ما قيل- دائر على معنى السَّتْر على سبيل الشمول. نودي صلى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها وقت نزول الوحي عليه؛ ملاطفة له؛ وبعثًا للأنس في نفسه، وطلب تَدَثُّره - عليه الصلاة والسلام - لما اعتراه من خوف وأَصابه من رعب حين رأَى الملك الذي جاءَه بحراء، فرجع وقال لأَهل بيته: (دثروني) فنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فأَنذِرْ). وقيل: المراد بالمدثر: المتدثر بالنبوة والكمالات النفسية، على معنى: المتحلي بها، والمتزين بآثارها، وقيل: الظاهر أَن يُرَاد بالمدثر وكذا بالمزَّمل، الكناية عن المستريح الخالي البال البعيد عن الشواغل؛ لأَنه في أَول البعثة، فكأَنه قيل له - عليه الصلاة والسلام -: قد مضى زمن الراحة وجاءَتك أَعباءُ الدعوة. 2 - (قُمْ فأَنذِرْ): (قُمْ) أَي: قم من مضجعك، أَو: قم قيام عزم وتصميم وشمر عن ساعد الجد، فقد جاءَ الأَمر الإِلهي الآن باصطفائك رسولًا، فقد جاءَ الأَوان لتباشر مهمتك وتنشر رسالتك وتقود البشرية إِلى بر السلامة، وتلزمها منهج الله، ولذا جاءَ قوله تعالى: (فأَنذِر) أَي: فحذِّر الناس وخوِّفهم من عذاب الله وعقابه إِن لم يؤمنوا، ولم يقل هنا: (وبشِّر) لأَنه كان في ابتداءِ الرسالة، والإِنذار هو الغالب إِذ ذاك، أَو هو من باب الاكتفاء؛ لأَن الإِنذار يلزمه التبشير. 3 - (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ): أَي: واخصص ربك ومالكك ومتولى أَمرك بالتكبير: وهو وصفه تعالى بالكبرياءِ، والعظمة اعتقادًا وقولًا.

ويروى أَنه لَمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أَكبر فكبَّرت خديجة، وأَيقنت أَنه الوحي، وذلك لأَن الشيطان لا يأَمر بذلك، وبعد الأَمر السابق في قوله: (قُمْ فَأَنذِرْ) ذكرت جملة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) مقدمة على سائر الجمل والأَوامر التي تأتي بعدها إِشارة إِلى مزيد الاهتمام بأَمر التكبير، وإِيماء -على ما قيل- إِلى أَن المقصود الأَول مِن الأَمر بالقيام أَن يكبر ربه ويعظمه وينزهه عن الشرك: فإِن أَول ما يجب على العبد معرفة الله تعالى، ثم تنزيهه عمَّا لا يليق به، وقد يقال: لعل ذكر هذه الجملة أَولا لتشجيعه - عليه الصلاة والسلام - على الإِنذار وعدم مبالاته بما سوى الله - عز وجل - حيث تضمنت الإِشارة إِلى أَن نواصي الخلائق بيده تعالى، وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته، فلا ينبغي أَن يرهب إِلا منه، ولا يرغب إِلاَّ فيه، فكأَنه قيل: قم فأَنذر، واخصص ربَّك بالكبير والتَّعظيم، ولا يصدنك شيء على الإِنذار، قيل: ويجوز أَن يحمل قوله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) على التكبير في الصلاة - ذكر ذلك القرطبي والآلوسي والزمخشري -. 4 - (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): 1 - أَمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أَن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأَن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة، وهي الأَولى في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أَن يحمل خبثًا. 2 - وقيل: هو أَمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول علامة الكبر والخيلاء، فوق ما تتعرض له من الإِصابة بالنجاسة. 3 - وقيل: هو أَمر بتطهير النفس ممَّا يستقذر من الأَفعال ويستهجن من العادات، يقال: فلان طاهر الثياب: إِذا وصفوه بالنقاء من العيوب ودنس الأَخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر. 5 - (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ): أَي: والعذاب فاترك، والمعنى: دم على ترك ما يوصل إِلى العذاب من عبادة الأَوثان والتخلق بالأَخلاق الرديئة، فقوله سبحانه: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كلام جامع في مكارم

الأَخلاق، فكأَنه قيل: اهجر الجفاءَ والسّفه وسوء الخُلُق وكل شيءٍ يقبح: كالأَصنام وعبادة الأَوثان؛ فإِنها تنتهي بصاحبها إِلي العذاب. 6 - (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ): 1 - قال ابن عباس: المعنى: لا تُعْط العطية تلتمس أَكثر منها، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأَنه مأَمور بَأجمل الأَخلاق وأَشرف الآداب. 2 - وقال الحسن البصري: ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير. 3 - وعن مجاهد: ولا تضعف أَن تستكثر من الخير؛ وقال: " (لا تمنن) في كلام العرب. لا تضعف". 4 - وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأَخذ عليها عرضًا من الدنيا. 5 - وقيل: ولا تعط مستكثرًا، أَي: رائيًا لما يعطيه كثيرًا. فهذه أَقوال، والأَظهر القول الأَول. 7 - (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ): أَي: ولوجه الله: مربيك ومالكك فاقصد جهته وجنابه وابتغاء مرضاته وطلب ثوابه، فتجمل بالصبر على وجه العموم؛ ليفيد كل مصبور عليه ومصبور عنه، أَو يراد: الصبر على أَذي المشركين لأَنه أَحد ما يتناوله العام، لا لأَنه وحده هو المراد. وفضائل الصبر لا تحصي، ويكفي في ذلك قوله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: "إِذا وجهتُ إِلى عبدٍ من عبيدي مصيبةً في بدنِه أَو مالهِ أَو ولدِه ثم استقبلَ ذلك بصبرٍ جميل استحييتُ منه يومَ القيامةِ أَن أَنصبَ له ميزانًا، أَو أَنشرَ له ديوانًا". - (1) من الآية 10 من سورة الزمر.

8، 9، 10 - (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)): الفاءُ في قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ) للسببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم؛ فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك. والفاءُ في قوله تعالى: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ) للجزاء، والعامل في (إذَا) ما دل عليه قوله تعالى: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: فإذا نقر في الناقور صعب الأَمر وعسر على الكافرين و (ذلك) إشارة إلى وقت النقر المفهوم من قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ) والمراد به يوم القيامة، والمعنى: فإذا نفخ في الصور فذلك الوقت يومئذ شديد على الكافرين غير سهل ولا ميسر، فلا يتسنى لهم أن يخلصوا ممَّا هم فيه وما يلاقونه من مناقشة الحساب وغيره من الأهوال التي يجدونها في ذلك الوقت العصيب الرهيب. وفائدة قوله تعالى: (غيرُ يَسيرٍ) بعد قوله تعالى: (عَسيرٌ) -وهو مفهم له- تأكيد لعسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه كما يشعر بتيسيره على المؤمنين، كأَنه قيل: عسير على الكافرين غير يسير عليهم، كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة للمؤمنين وتسليتهم، ومع هذا لا يخلو قلب المؤمن من الخوف، أخرج ابن سعد والحاكم عن بَهزِ بن حكيم قال: أمَّنا زرار بن أَوفى فقرأَ المدثر، فلما بلغ قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) خَرَّ ميِّتًا، فكنت فيمن حمله، وأخرج ابن أَبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: لمَّا نزلت (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحَنَى جبهته يستمع متى يؤمر؟ قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكلنا -ذكر ذلك الآلوسي وغيره. واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأُولى، أو يوم النفخة الثانية، ورجح أَنه يوم الثانية لأَنه الذي يختص عسره بالكافرين، وأما وقت النفخة الأُولى فحكمه الذي هو (الصعق) يعم البر والفاجر، وهو على المشهور مختص بمن كان حيًّا عند وقوع النفخة.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)) المفردات: (ذَرْنِي): اتركني ودعني. (مَمْدُودًا): مبسوطًا كثيرًا دائمًا غير منقطع. (وَبَنِينَ شُهُودًا): وبنين حضورًا معه لا يفارقون للتكسب لغناهم عنه. (وَمَهَّدْتُ لَهُ): وبسطت له النعمة والرياسة والجاه، والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة ومنه مهد الصبي. (كَلاَّ): كلمة زجر وردع له عن طمعه وقطع لرجائه الخائب، أَي: لست أَزيده مع كفره بالنعم. (لآيَاتِنَا): أَي: آيات الله المنعم، وهي دلائل توحيده، أَو القرآن. (عَنِيدًا): جاحدًا لها مكذبًا بها مُعرضًا عنها.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا): سأُكلَّفه بصعود عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقي من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق. (إِنَّهُ فَكَّرَ): إِنه فكر ماذا يقول في شأْن القرآن والرسول من الاختلاف. (وَقَدَّرَ): وَرَتَّب وهيَّيأَ في نفسه قولا كاذبًا في القرآن والنبي، والعرب تقول: قدرت الشيءَ: إِذا هيأْته. (فَقُتِلَ): لُعِن وكُذِّب وقُهر وغُلب. (كَيْفَ قَدَّرَ): كيف هيأَ هذا الطعن، وذلك تعجيب من تقديره وإِصابته الغرض الذي يرجوه قومه. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ): ثم استحق الهلاك؛ كيف أَعد في نفسه هذا الطعن. (ثُمَّ عَبَسَ): ثم قطَّب وجهه وقبض بين عينيه. (وَبَسَرَ): اشتد في العبوس وكلوح الوجه. (سِحْرٌ يُؤْثَرُ): سحر يُرْوى ويُنقل عن السحرة. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ): سأُدخله جهنم ليحترق فيها. وسميت جهنم بسقر، من: سَقَرَتْهُ الشمس: إِذا أَذابته ولوَّحته وأَحرقت جلدة وجهه. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ): مبالغة في وصفها، أَيْ: أَيّ شيء أَعلمك ما جهنم؟! (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ): لا تبقي شيئًا يلقى فيها إِلاَّ أَهلكته، وإِذا هلك لم تذره هالكًا حتى يعاد. (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ): أَي: يتولي أَمر النار، ويلي تعذيب أَهلها تسعة عشر ملكًا، أَو صَفًّا، أَو صنفًا.

التفسير: 11 - (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا): قال ابن عباس وغيره: نزلت هذه الآية وما بعدها في الوليد بن المغيرة، بل قيل: إِن هذا القول متفق عليه، والمعنى: يقول الله تعالى متوعدًا هذا الخبيث الذي أَنعم الله عليه بنعم الدنيا فجحد بها وبدَّلها كفرًا وقابلها بالإنكار لها والافتراءِ عليها. (وَحِيدًا): أَي: دعني وحدي مع من خلقته فأَنا أَكفيك أَمره وأُغنيك في الانتقام منه عن كل منتقم. وفي الأَسلوب ما فيه من التهديد والوعيد، حسبك أَن الذي سيتولى جزاءَه وعقابه هو الله. أَو المعنى: اتركني مع من خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أَحد فأَنا أَهلكه ولا أَحتاج إِلى ناصر ومساعد في إِهلاكه، أَو ذرني ومن خلقته وحيدًا فريدًا لا مال ولا ولد، ولقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد، فتهكم الله به وبلقبه وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناءِ عليه إِلى جهة ذمه وعيبه، وهو أَنه خلق وحيدًا لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأَشرك به واستهزأَ بدينه!! أَو: وحيدًا في الخبث والشر، أَو وحيدًا عن أَبيه لأَنه كان لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة. 12 - (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا): اَي: ووليته وأَعطيته مالا مبسوطًا كثيرًا، أَو ممدودًا بالنماءِ، قيل: كان له الضرع والزرع والتجارة، وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من النعم والجنان، والعبيد، وقيل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثمارة صيفًا ولا شتاءً. 13 - (وَبَنِينَ شُهُودًا): أَي: ومنحته ورزقته بنين شهودًا، أَي: حضورًا معه بمكة يتمنع بمشاهدتهم لا يفارقونه بالسفر في عمل أَو تجارة، لوفور نعمهم وكثرة خدمهم، أَو حضورا في الأَندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم، أَو تسمع شهادتهم فيما يُتَحَاكم فيه، واختلف في عددهم: فعن مجاهد

أَنهم عشرة، وعن السدي والضحاك: كانوا اثني عشر، سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف، وقيل غير ذلك، وكلهم رجال، أَسلم منهم ثلاثة: 1 - الوليد بن الوليد. 2 - وخالد. 3 - وهشام. 14 - (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا): أَي: وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى أَقام ببلدته مطمئنًا مترفهًا يُرْجع إِلى راية، فأَتممت عليه نعمة المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أَهل الدنيا، وأَصل التمهيد في التسوية والتهيئة، وتُجُوِّزَ به عن بسطة المال والجاه، وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأَعين يلقب ريحانة قريش، وكذلك كانوا يلقبونه بالوحيد، بمعني: المتفرد باستحقاق الرياسة. 15 - (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ): أَي: ثم يطمع أَن أَزيده على ما أَعطيته وأَديته له من المال والولد والجاه مع عدم الشكر، وهو استبعاد لنيله ما يريد، واستنكار لشدة طمعه وحرصه، إِما لأَنه في غني تام لا مزيد على ما أُوتي سعة وكثرة، أَو لأَنه مناف لما هو عليه من كثرة النعم ومعاندة المنعم، واستعمال (ثم) للاستبعاد كثير، وقيل: معنى (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أَي: يطمع أَن أَترك ذلك في عقبه. 16 - (كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا): (كَلاَّ): ردع وزجر له عن طمعه وقطع لرجائه، أَي: لست أَزيده (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا): جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لتعليل ما سبق، كأَنه قيل: لِمَ زُجِر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته؟ فَقِيل: إِنه كان معاندًا لآيات المنعم كافرًا بها، وآيات الله هي دلائل توحيده، أَو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال، والمعاندة تمنع من الزيادة، بل هي تستوجب الحرمان، قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك، وعن مجاهد: (عَنِيدًا): مجانبًا للحق معاندًا له معرضًا عنه، والعرب تقول: عَنَد الرجل: إِذا عَتَا وجاوز قدره.

17 - (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا): الإِرهاق في كلام العرب: أَن يُحْمل الإِنسان على الشيءِ. والمعنى: سأُكلفه في النار بما لا يقدر عليه، وأَحمله على صعود عقبة شاقة المصعد، أَو: هو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، وروى أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكلف أَن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت، وإِذا رفعها عادة، وإِذا وضع رجله ذابت، فإِذا رفعها عادت. وذكر القرطبي أَن معني الآية -كما قال ابن عباس: سأُكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه. 18 - (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ): تعليل للوعيد السابق واستحقاقه له، كأَن الله عاجله بالفقر بعد الغي والذل بعد العز في الدنيا لعناده، ويعاقبه في الآخرة أَشد العذاب وأَعظمه لبلوغه بالعناد غايته وأَقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحرًا، والمعنى: أَن الوليد فكر وزوَّر في نفسه وأَعد وهيأَ ما يقوله من الطعن في القرآن والرسول، فاستحق بذلك العذاب وذلك أَنه لما نزل قوله تعالى: (حم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) إِلى قوله تعالى: (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) على النبي صلى الله عليه وسلم سمعه الوليد يقرؤُها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإِنس ولا هو من كلام الجن وإِن له لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِن أَعلاه لمثمر، وإِن أَسفله لمغدق، وإِنه ليعلو ولا يُعْلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش: صبأَ الوليد لَتَصْبُوَنَّ قريش كلها، فقال أَبو جهل: أَنا أَكفيكموه فمضى إِليه حزينًا فقال له: ما لي أَراك حزينًا؟ فقال له: وما لي لا أَحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون أَنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أَبي كبشة -يعني بذلك رسول الله- وابن أَبي قحافة -يقصد أَبا بكر- لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وتكبر وقال: أَنا أَحتاج إِلى كِسْر محمد وصاحبه؟ فأَنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعُزَّي ما لي حاجة إِلى ذلك، وإِنما أَنتم تزعمون أَن محمدًا مجنون فهل رأَيتموه قط يَخْنُق، قالوا: لا والله

قال: فتزعمون أَنه كذاب فهل جربتم عليه كذبًا قط؟ قالوا: لا والله، قال: فتزعمون أَنه كاهن فهل رأَيتموه تكهن قط، وقد رأَينا للكهنة أَسجاعًا وتَخَالُجًا (1) فهل رأَيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله. وكان النبي يسمى الصادق الأَمين من كثرة صدقة، فقالت قريش للوليد: من هو؟ ففكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إِلا ساحر. أَما رأَيتموه يفرق بين الرجل وأَهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إِلا سحر يأَثره عن مسيلمة وعن أَهل بابل، فارتج النادي فرحًا وتفرقوا مُعْجَبِين بقوله مُتَعَجَّبين منه، فذلك قول الله (إِنَّهُ فَكَّرَ) أَي: في أَمر محمد والقرآن. (وَقَدَّرَ) في نفسه ماذا يمكنه أَن يقول فيهما. 19 - (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ): تعجيب من تقديره وإِصابته المحزَّ ورميه الغرض الذي كانت تتمناه وتتوقعه قريش وتتطلبه منه، أَو ثناء عليه تهكمًا، أَو حكاية لما كروه على سبيل الدعاءِ عليه عند سماع كلمته الحمقاء، فالعرب تقول: قتله الله ما أَشجعه، وأَخزاه الله ما أَشعره: يريدون أَنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأَن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. ومعنى (قُتِلَ) أَي: لُعِن، وكان بعض أَهل التأويل يقولون معناها: فقُهر وغُلِب، وقال الزهري: عُذِّب، وهو من باب الدعاء. 20 - (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ): ثم استحق العذاب واللعن والهلاك كيف أَعد في نفسه هذا الطعن على القرآن؟! أَو على أَي حال قدر، والتكوير للمبالغة كما هو عادة من أَعجب غاية الإِعجاب، والعطف يتم للدلالة على تفاوت الرتبة وأَن الثانية أَبلغ من الأُولي، فكأَنه قيل: قتل بنوع ما من القتل، لا: بل قيل بأَشده وأَشده، والإِطراء في الإِعجاب بتقدير الوليد بن المغيرة يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بخلاصة تفكيره. - (1) تخالجا: تجاذبا يمينًا وشمالًا.

21 - (ثُمَّ نَظَرَ): أَي: ثم نظر في وجوه قومه، أَو فيما يقدح به في القرآن ويعيبه عليه ويذمه به، وقيل: نظر بمؤخر عينه تكبرًا وتغيظًا، أَو: فكر في أَمر القرآن وبأَي شيءٍ يرده ويدفعه. 22 - (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ): (ثُمَّ عَبَسَ) أَي: ثم قطب في وجوه الناس لمّا لم يجد في القرآن مَطْعَنًا وضاقت به السبل وأَعيته الحيل، ولم يدر ماذا يقول في القرآن. وقيل: نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه، وقيل: نظر إِلى رسول الله ثم قطب في وجهه -عليه الصَّلاة والسَّلام- (وَبَسَرَ) أَي: أَظهر العبوس قبل أَوانه أَو في غير وقته، من الْبَسْر: وهو الاستعجال بالشيء، وفسره بعضهم بأَشد العبوس، من بسر؛ إِذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، ويستعمل البسر بمعنى العبوس. 23 - (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ): أَي: ثم رجع معرضًا وانْصَرَفَ عن الحق مدبرًا وتولى مستكبرًا عن الانقياد للقرآن، والاتباع لمحمد لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء: قوله: (إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ) وهم أَن يرمي بها -وصف القرآن أَشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط استهزاء به، وقيل: قدر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل، ولم يدر ما يقول، ثم أَدبر عن الحق وأَعرض عنه وتكبر وتعاظم أَن يعترف به وقال ما قال فيه. 24 - (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ): السحر: الخديعة، وقيل: السحر: إِظهار الباطل في صورة الحق، والمعنى: ما هذا الذي أَتي به محمد صلى الله عليه وسلم إِلا سحر يأَثره عن غيره ويتعلمه منه، ويروى وينقل عن الأَولين مثل سحرة بابل وغيرهم، والفاء في قوله تعالى: (فَقَالَ) للدلالة على أَن هذه الكلمة الكاذبَة كما خطرت ببال ذلك المكذب بها من غير تلعثم ومُكْث وانتظار؛ فهي للتعقيب من غير مهملة.

25 - (إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ): أَي: ما هذا إِلا كلام المخلوقين تعلمه محمد منهم، ثم ادعي أَنه من عند الله، وخدع به القلوب كما تُخْدع بالسحر، وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الأَولى؛ لأَن المقصود منهما نفي كونه من كلام الله تعالى، ثم الذي يظهر من تتبع أَحوال الوليد أَنه قال ما قال عنادًا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال. 26 - (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ): أَي: سأُدخله جهنم كي يصلى حرها ويحترق بنارها، وقال ابن كثير: سأغمره فيها من جميع جهاته، وإِنما سميت جهنم سقر من: سقرته الشمس: إِذا أَذابته ولوحته وأَحرقت جلدَ وجهه. 27 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ): أَيْ: أَيّ شيءٍ أَعلمك ما سقر؟! وهذا الأُسلوب مبالغة في وصفها، وتهويل وتعظيم بشأنها، ثم وصفها وفسر حالها فقال: 28 - (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ): أَي: لا تترك لهم عظمًا ولا لحما ولا دمًا إِلاَّ أَحرقته، وكرر اللفظ تأكيدًا، وقيل: لا تُبْقي منهم شيئًا إِلا أَهلكته، ثم يعادون خلقًا جديدًا فلا تلبث أَن تعاود إِحراقهم هكذا أَبدًا. 29 - (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ): أَي: مُقَيِّرة للبشرات مُسَوِّدة للجلود ومحرقة لها، وفي بعض الآثار أَنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أَشد سوادًا من الليل، واعترض بأَن لا يصح وصفًا بما ذكر من تسويدها لظاهر الجلود في سبحانه (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) الصريح في الإِحراق. وأَجيب بأَنها في أَول الملاقاة تُسَوَّد الجلد ثم تحرقه وتهلكه، وقد يجاب بأَن المراد ذكر أَوصافها الفظيعة من

غير ترق من شديد إِلى أَشد، وكونها "لواحة" وصف من أَوصافها، ولعله باعتبار أَول الملاقاة. وقال الحسن وابن كيسان والأَصم: (لواحة) بتاء مبالغة من (لاَحَ) إِذا ظَهَر، والبشَرُ بمعنى الناس، أَي: تظهر الناس لعظمها وهو لها كما قال تعالى: "وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى" (1). 30 - (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ): أَي: بلي أَمرها ويتسلط على أَهلها بالعذاب تسعة عشر ملكًا، أَلا تري العرب الفصحاء كيف فهموا منه ذلك؟ فقد روي عن ابن عباس أَنها لما نزلت (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) قال أَبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أَسمع أَن ابن أَبي كبشة يخبركم أَن خزنة النار تسعة عشر وأَنتم الدَّهْم (أَي: العدد) والشجعان، أَيعجز كل عشرة منكم أَن يبطشوا برجل فيهم؟، فقال أَبو الأَشد بن أَسيد كَلَدَه الحُمَحي: أَنا أَكفيكم سبعة عشر فاكفوني أَنتْم اثنين، فأَنزل الله (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً) أَي: وما جعلناهم رجالًا من جنسكم يطاقون، والجمهور على أَن المراد بهم النقياء، فمعنى كونهم عليها: أَنهم يتولون أَمرها وتعذيب أَهلها وإِليهم رئاسة زبانيتها، وأَما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون أَلف زمام، مع كل زمام سبعون أَلف ملك يجرونها". وذهب بعضهم إِلى أَن التمييز المحذوف: صفًا، أَو صنفًا أَي: عليها تسعة عشر صَفًّا أَو صنفًا. - (1) الآية 36 من سورة النازعات.

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)) المفردات: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً): أَي: وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون. (فِتْنَةً): اختيارًا وامتحانًا، أَو سبب فتنة وضلال. (لِيَسْتَيْقِنَ): ليستبين، أَو ليوقن. (وَلا يَرْتَابَ): ولا يشك. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): أَي: شك ونفاق. (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا): ما الذي أَراده الله بهذا العدد المُسْتَغْرب استغرب المثل. (كَذَلِكَ): أَي: مثل إِضلال المنكر لهذا العدد كأَبي جهل وأَحزابه، وهدي مُصَدِّقه.

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ): الجنود: جمع جند اشتهر في العسكر، اعتبارًا بالغلظة، من الجند، أَي: الأَرض الغليظة التي فيها حجارة، ويقال لكل جمع: جند أَي: وما يعلم جموع خلقوه التي من جملتها الملائكة إِلا هو -عز وجل-. (وَمَا هِيَ): أَي: وما سقر -كما قال مجاهد. (إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ): إِلا تذكرة للبشر وتخويف لهم. (كَلاَّ): ردع لمن يُنْذَرُ بسقر ولم يخف، وقيل: زجر عن قول أَبي جهل وأَصحابه. (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): قسم بالليل إِذْ ولى وذهب. (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ): قسم بالصبح إِذا أَضاءَ وانكشف وأَشرق. (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ): أَي: إِن سقر لإِحدى الدواهي العظيمة. (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ): تَخويفًا للبشر. (أَنْ يَتَقَدَّمَ): إِلى الجنة أَو الخير بالإِيمان. (أَوْ يَتَأَخَّرَ): إِلى النَّار أَو الشر بالكفر. التفسير: 31 - (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ): (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً): أَي وما جعلنا خزنة النَّار إِلا ملائكة لأَنهم خلاف جنس المعذَّبين من الإِنس والجن فلا يأْخذهم ما يأَخذ المُجَانِس من الرأَفة والرحمة ولا يستروحون إِليهم، ولأَنهم أَقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له فتؤمن هوادتهم، ولأَنهم أَشد خلق الله بأَسًا وأَقواهم بطشًا فلا يقدر أَهل النار عليهم ولا يستطيعون مغالبتهم.

(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَي: وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إِلا اختبارًا منا للذين كفروا. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): أَي: ليحصل اليقين للذين أُوتوا الكتاب من النصاري واليهود بأَن ما يقوله القرآن على لسان محمد عن خزنة جهنم وعددهم إِنما هو حق من الله تعالى؛ حيث وافق ذلك ما في كتبهم. (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا): أَي: ويزداد إِيمانهم بما رأَوا من تسليم أَهل الكتاب وتصديقهم أَن عدد الخزنة كذلك، أَو بانضمام إِيمانهم بذلك إِلى إِيمانهم بسائر ما أَنزل. (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ): هذا الكلام تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإِيمان، ونفي لما قد يعترى المستيقن من شبهة وشك، أَي ولا يشك في ذلك الذين أَعطوا الكتاب والمؤمنون المصدقون من أَصحاب محمد في أَن عدَّةَ خزنة جهنم تسعة عشر، فإِذا جمع لهم إِثبات اليقين ونفي الشك كان آكد وأَبلغ لوصفهم بسكون النفس، ولأَن فيه تعريضًا بمن عداهم كأَنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين والمرتابين من أَهل النفاق والكفر. (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ) أَي: وليقول الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي المدينة الذين سينجمون ويظهرون بعد الهجرة والكافرون بمكة المصرون على التكذيب، ويجوز أَن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأَن أَهل مكة كان أَكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب. (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أَي: ما الذي أَراده الله بهذا العدد (تِسْعَةَ عَشَرَ) المستغرب استغراب المثل. قال الزمخشري: أَي: أَي شيءٍ أَراد الله بهذا العدد العجيب؟ وأَي حكمة قصدها في أَن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين؟ ومرادهم إِنكار هذا الأَمر من أَصله وأَنه ليس من عند الله وأَنه لو كان من عند الله لما جاءَ بهذا العدد الناقص. أهـ: يتصرف.

وعنوا بالإِشارة (بهذا) التحقير، وغرضهم نفي أَن يكون ذلك من عند الله على أَبلغ وجه، وليس مرادهم الاستفهام حقيقة عن الحكمة. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ذلك: إِشارة إِلى ما قبله من معنى الإِضلال والهداية، أَي: مثل ذلك المذكور من الإِضلال والهداية يضل الله ويخزي الكافر لصرف اختياره حسب السمَّاع إِلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالهدي، ويهدي ويرشد المؤمن لصرف اختياره الحسن عند مشاهدة تلك الآيات. (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ): أَي: وما يعلم جنود ربك وما عليه كل جند من العدد، والحكمة في كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عقد ناقص، لا يعلم ذلك إِلا هو سبحانه، ولا سبيل لأَحد إِلى معرفة ذلك، كما لا تعرف الحكمة في أَعداد السموات والأَرض وأَيام السنة والشهور والبروج وعدد الصلوات والركعات، أَو ما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إِلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، وهو يعلمها. روي الترمذي أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَطَّت (1) السماءِ وحُقّ لها أَن تَئِطّ؛ ما فيها موضع أَربع أَصابع إِلا ومَلَك واضع جبهته لله ساجدًا" -ذكره القرطبي-. قال الآلوسي: وهذه الآية وأَمثالها من الآيات والأَخبار تشجع على القول باحتمال أَن يكون في الأَجرام الأُخري جنود من جنود الله لا يعلم حقائقها وأَحوالها إِلا هو -عزَّ وجل- ودائرة ملك الله -جلَّ جلاله- أَعظم من أَن يحيط بها نطاق الحصر، أَو يصل إِلى مركزها طائر الفكر، وفي كل يوم تظهر لنا الكشوف عجائب وغرائب وبدائع من عجيب خلق الله وصنعه، وصدق الله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ). واختلف في المخصص لهذا العدد -أَعني تسعة عشر- والذي مال إِليه أَكثر العلماءِ أَن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إِلا الله، وهو كالمتشابه يؤمن العبد به ويفوض علمه - (1) الأطيط: صوت الأقتاب - وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها.

إِلى الله (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) أَي: وما سقر إِلا تذكرة وعظة للبشر وتخويف للخلق، وقيل: وما هذا العدة (إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) ليتذكروا بها ويعلموا كمال قدرة الله وأَنه لا يحتاج إِلى أَعوان وأَنصار. 32 - (كَلاَّ وَالْقَمَرِ): (كَلاَّ):: ردع وزجر لمن أَنذر بسقر ولم يخف. (وَالْقَمَرِ) وما بعده مقسم به. 33، 34 - (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ): (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): قسم بالليَّل إِذا ولي وذهب. (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ): قسم بالصبح إِذا أَضاءَ وانكشف، وفي الحديث "أَسفروا بالفجر فإِنه أَعظم للأَجر" أَي: صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إِلى الإِسفار، أَي: الإِنارة وظهور الضوء. 35، 36 - (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيرًا لِلْبَشَرِ): أَي: إِن سقر لإِحدي اللواهي الكبر إِنذارًا وتخويفًا للبشر، على معنى أَن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها، قال الآلوسي: فيكون في ذلك إِشارة إِلى أَن بلاءَهم غير محصور فيها، بل تحل بهم بلايا غير متناهية، وقال الحسن: والله ما أَنذر الخلائق بشيء أَدهي منها!!. 37 - (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ): أَي: نذيرًا لمن شاءَ منكم أَن يتقدم إِلى الخير والطاعة، أَو يتأَخر إِلى الشر والمعصية قال الحسن: هذا وعيد وتهديد، وإِن خُرِّج مُخْرَج الخير كقوله تعالى: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (1) وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإِعلام: أَن من يتقدم إِلى الطاعة والإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأَخر عن الطاعة وكذب محمدًا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابًا لا ينقطع. - (1) من الآية 29 من سورة الكهف.

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)) المفردات: (رَهِينَةٌ): مرهونة عند الله بكسبها مأخوذة بعملها. (يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ): يسأَلون عن الكافرين، أَو يسأَل بعضهم بعضًا عنهم. (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ): ما أَدخلكم في النار؟ (نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ): نشرع في الباطل مع الشارعين فيه لا نبالي به، والخوض في الأَصل: ابتداءُ الدخول في الماءِ والمرور فيه، ويستعمل مجارًا في الشروع في الباطل. (الْيَقِينُ): الموت ومقدماته.

(فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ): فما لأَهل مكة عن العظة بالقرآن منصرفين. (حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ): حمر وحشية شديدة النفار. (مِنْ قَسْوَرَةٍ): من مُطَارديها من أَسد أَو صائد، وقيل: القسورة: الأَسد، فَعْوَلة من القسر والغلبة. (صُحُفًا مُنَشَّرَةً): قراطيس واضحة مكشوفة. (كَلاَّ): ردع لهم عما أَراده، وزجر لهم عن اقتراح الآيات، أَو بمعني: حقًّا، أَي حقًّا إِن القرآن عظة. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى): أَي: الله -سبحانه- حقيق بأَن يُتَّقى عذابه ويؤمَنَ به ويُطَاعَ. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): حقيق بأَن يغفِر لمن آمن به وأَطاعه. التفسير: 38، 39 - (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ): رهينة مصدر بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم. والمعنى: كل نفس محاسبة على كسبها مأخوذة بما قدمت من خير أَو شر، رهن بعملها إِماَّ خلَّصها وإِما أَوبقها وأَهلكها. (إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ): وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وغيره، ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإِنهم فاكُّون رقابهم بما أَحسنوا من أَعمالهم كما يفكُّ الراهن رهنه بأَداءِ الدَّيْن، ونقل عن علي بن أَبي طالب وابن عمر أَنهم أَطفال المسلمين. وعن ابن عباس أَنهم الملائكة، قال العلامة الآلوسي: الظاهر سياقًا وسباقًا أَن يراد بهم طائفة من البشر المكلفين. 40، 41، 42 - (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ): (فِي جَنَّاتٍ): الجملة استئناف وقع جوابًا عن سؤَال نشأَ مما قبله، كأَنه قيل: ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات وبساتين لا يكتنه كنهها ولا يدرك وصفها. (يَتَسَاءَلُونَ

عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أَي: يسأَلون عن الكافرين، أَو أَسال بعضهم بعضًا عن المجرمين قائلين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أَي: أَيّ شيءِ أَدخلكم النَّار؟! والسؤال سؤَال توبيخ وتحسير، وقيل: إِن المؤمنين يسأَلون الملائكة عن هؤُلاءِ المجرمين، فتسأَل الملائكة المشركين فيقولون لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). 43، 44 - (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ): أَي: قال المجرمون من أَهل النار مجيبين للسائلين مبينين لهم أَسباب دخولهم النار يقولون: لم نك من المصلين كما كان يصلي المسلمون المخلصون. (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أَي: ولم نك نعطي المسكين ما يجب إِعطاؤه، ولم نك نتصدق عليه ونطعمه، وهو من بني جنسنا وإِخوتنا في الإِنسانية -كما يفعل المسلمون- وهكذا لم يقوموا بالواجب عليهم نحو الله بعبادته بالصلاة، ولا بالواجب الاجتماعي نحو إِخواتهم بالزكاة كما يفعل المسلمون الصالحون، وهدموا بذلك ركنين من أَركان الإِسلام وهما الصلاة: حق الله، والزكاة: حق العباد. 45 - (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ): ومن أَخلاق المجرمين الذين استحقوا بها دخول النار ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) أَي: وكنا ننغمس في الباطل والزور ونندفع فيه، ونخالط أَهله دون اكتراث أَو مبالاة. والمراد بالخوض هنا: الشروع في الباطل، وأُريد بالباطل ما لا خير فيه وما لا ينبغي من القول والفعل، وعُدّ من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا، وحكاية أَحوال الفَسَقَة على وجه الالتذاذ بها، ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة لغير غرض شرعي، بل لمجرد أَن يتواصل بها إِلى طعن وتنقيص، والتكلم بالكلمة الفاحشة يُضحك بها الرجل جلساءَه، إِلى غير ذلك ممَّا لا يُحصْى، وكان ذكر قوله تعالى: (مَعَ الْخَائِضِينَ) إِشارة إِلى عدم اكتراثهم بالباطل وترك مبالاتهم به، فكأَنهم قالوا: كنا لا نبالي بباطل.

46، 47 - (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ): (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ): هذه هي الصفة الرابعة من صفات المجرمين التي بها استحقوا دخول النار، وهي تكذبيهم بيوم الدين وهو يوم البعث والحساب والجزاء، وتأْخير جنايتهم هذه في الذكر مع كونها أَعظم من الكل لتفخيمها كأَنهم قالوا: وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنًا لسائر جناياتهم المعدودة إِلى آخر عمرهم جاءَ قوله تعالى: (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) أَي: حتى نزل بنا الموت ومقدماته، كما ذهب إِليه جُلُّ المفسرين، ومنه قوله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ الْيَقِينُ" (1)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَما هو) يعني عثمان بن مظعون (فقد جاءَه اليقين من ربه)، وقال ابن عطية: اليقين عندي: صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، والظاهر أَن مجموع ما ذكر من الصفات هو سبب لدخول مجموعهم النار، فلا يقدح في ذلك أَن بعض أَهل النار من لم يكن قد وجب عليه إِطعام مسكين كفقراءِ -الكفرة المعدمين. 48 - (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ): أَي: لو شفع لهم الشافعون جميعًا من الملائكة والنبيين وغيرهم لم تنفعهم شفاعتهم، والكلام على الفرض؛ لأَن الشفاعة لمن ارتضاه الله، وأَمَّا من لَقِيَ الله كافرًا يوم القيامة فإِن له النار لا محالة خالدًا فيها، لأَنه مسخوط ومغضوب عليه، والمعنى المقصود: لا شفاعة لهم. 49 - (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ): أَي: فمل لهؤلاءِ الكفرة عمَّا تدعوهم إِليه من الدين وتذكرهم به من القرآن وغيره من المواعظ معرضين ومنصرفين -قال مقاتل: الإِعراض عن القرآن من وجهين: 1 - الجحود والإِنكار. 2 - والوجه الآخر ترك العمل به. - (1) الآية 99 آخر سورة الحجر.

50، 51 - (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ): المعنى: تشبيه هؤلاءِ الكفار في فرارهم من الرسول وإِعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشِرَادهم عنه ونفورهم من بحُمُر وحشية جَدَّت في نِفارها ممن طاردها من أَسد، أَو رَوَّعها من قانص، أَو أَفْزَعَها من صائد أَو حبالة، وقال ابن الأَعرابي وثعلب: القسورة أَول الليل، أَي: كأَنهم حمر وحشية فرت من ظلمة الليل، وجمهور اللغويين على أَن القسورة الأَسد -فَعْوَلَةٌ: من القسر، وهو القهر والغلبة، وروى ذلك عن ابن عباس كما روى عنه غير ذلك، وفي تشبيههم بالحمر مَذَمَّة ظاهرة وتهجين بيَّن لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. 52 - (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً): الآية معطوفة على مقدر يقتضيه المقام -كأَنه قيل: إنهم لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها، بل يريد كل واحد منهم أَن يُؤتَي قراطيس مفتوحة واضحة مكشوفة تنشر وتقرأ، أَو كتبًا كتبت في السماءِ ونزلت بها الملائكة عليهم ساعة كتبت منشرة ومبسوطة على أَيديها غضة رطبة لم تُطْو بعد. وذلك أَن أَبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها إِني قد أَرسلت لكم محمدًا -نظيره "وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه" (¬1)، وقال مجاهد: أَرادوا أَن ينزل على كل واحد منهم كتاب من السماءِ فيه من رب العالمين: إلى فلان بن فلان؛ يؤمر فيه باتباعك. 53 - (كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ): (كَلاَّ): ردع لهم عمَّا أَرادوا وزجر لهم عن اقتراح الآيات. (بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ): لا أُعطيهم ما يتمنون لأَنهم لا يخافون الآخرة اغترارًا بالدنيا، وإِنما أَفسدهم عدم إِيمانهم بالآخرة وتكذيبهم بوقوعها؛ فلذلك يعرضون عن التذكرة ويفتَنُّونَ في طلب الآيات واقتراحها، وليس ذلك ناشئَا عن الامتناع عن إِيتاءِ الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون. ¬

_ (¬1) من الآية 93 من سورة الإِسراء.

54 - (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ): (كَلاَّ) ردع لهم عن إِعراضهم (إِنَّهُ) أَي: القرآن، أَو التذكرة السابقة في قوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) و (ذكر) لأَنه بمعنى القرآن أَو الذكر. (تَذْكِرَةٌ): أَي: عظة وأَي عظة، وقيل: المعنى: حقًّا إِن القرآن لعظة بالغة نافعة كافية. 55 - (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ): أَي: فمن شاءَ قرأَه فاتعظ به، وقيل: فمن شاءَ أَن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل ذلك واتعظ به؛ فإِنه نفع ذلك راجع إِليه. 56 - (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): (وَمَا يَذْكُرُونَ): أَي: وما يذكرون بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) إِذ لا تأْثير لمشيئة العبد وإِرادته في أَفعاله: (إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وهذا تصريح بأَن أَفعال العباد بمشيئة الله - عز وجل - ومثله: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" (1). (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى) أَي: هو حقيق بأَن يتقى عذابه ويؤُمن به ويطاع. (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): وحقيق بأَن يَغْفِر لمن آمن به وأَطاعه. أَخرج أَحمد والترمذي -وحسنه- والحاكم -وصححه- والنسائي وابن ماجه وخلق آخرون: عن أَنس: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأَ هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فقال: "قال ربكُم: أَنا أَهل أَنْ أُتَّقَي؛ فلا يُجْعَلُ معي إِله، فَمَنِ اتقاني فلم يَجْعَلْ معي إِلهًا آخَرَ فأَنا أَهلٌ أَن أَغِفَرَ لَه" والله أَعلم. - (1) الآية 29 من سورة التكوير.

سورة القيامة

سورة القيامة ويقال لها سورة (لاَ أُقْسِمُ) وهي مكية وعدد آياتها أَربعون مناسبتها لما قبلها: لمَّا ذكر تعالى في السورة التي قبلها وهي (سورة المدثر) قوله سبحانه: "كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ" (1) بعد ذكر الجنة والنار، وكان عدم خوفهم من الآخرة لإنكارهم البعث، ذكر جلّ وعلا في هذه السورة (سورة القيامة) الدليل على البعث بأَتم وجه وأَقوى حجة. بعض مقاصد السورة: 1 - بُدِئت السورة الكريمة بالقسم بيوم القيامة وبالنَّفس اللَّوَّامة على أَنَّ البعث حق وآتٍ لاَ ريب فيه، ووصفت يوم القيامة وأَحواله وأَهواله: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ .. ) إلخ ... فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ... ) الخ. 2 - ولمَّا كان الرسول حريصًا على تلقي الوحي وحفظ القرآن فقد طمأَنته الآيات على أَن الله قد تكفَّل له بأَن يجمع القرآن في صدره، وأَن ييسره لتلاوته على الوجه الذي تلقاه عن جبريل، وأَن يُفَسَّره ويوضِّح معناه له: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الخ. 3 - ثم زجرت الآيات المنكرين للبعث وبينت أَن سببَ إِنكارهم له حُبُّهم للعاجلة، وإِقبالهم على ملذَّاتها الفانية وتركهم للآخرة ونعيمها الباقي: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) الخ. 4 - وتحدثت السُّورة الكريمة عن المؤمنين يوم القيامة وأَن وجوههم تكون ناضرة، كما تحدثت عن أَن وجوه الكافرين تكون باسرة كالحة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ .. ) إلخ. وذكرت أَحوال المُحْتضر وما يلاقيه من أَهوال عظام وشدائد جسام جزاءَ عصيانة لله وللرسول وتقصيره في الواجبات حتى إِنه ظن أَلاَّ حساب عليه: (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي .. ) الخ.

5 - وخُتِمَت السُّورة بذكر الدليل الذي يُوجِب الإِيمان بالبعث لأَن الذي خلق الإِنسان من نطفة وسَوَّاه بشرًا سويًّا قادر على أَن يحيَى الموتى يوم القيامة لحسابهم على أَعمالهم لأَنَّ الإِعادة أَهون من البدءِ في قياس العقل وهو سبحانه على كل شيءٍ قدير: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ... ) الخ. بسم الله الرحمن الرحيم (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)) المفردات: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ): قيل: إِن (لاَ) نفى لكلام ورَدٌّ له قبل القسم .. والمعنى: أقسم -على سبيل التوكيد- بيوم القيامة، وقيل: إِن (لاَ) هنا لتوكيد القسم وتقويته. (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ): النفس التي تلوم صاحبها على الخير لِمَ لَمْ تستكثر منه وعلى الشر لِمَ فعلته؟

(أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ): أَيظن الكافر أَنَّا لا نقدر على إِعادة عظامه وجمعها من أَماكنها المتفرقة. (نُسَوِّيَ بَنَانَهُ): في القاموس البنان: الأَصابع أَو أَطرافها وتسويتها إِعادتها كما كانت مع صغرها. (بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ): يريد الكافر أَن يدوم على الفجور مدة عمره. (يَسْأَلُ): أَي يسأَل سؤال استهزاءٍ وتكذيب. (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ): متى تقوم الساعة؟ (بَرِقَ الْبَصَرُ): بفتح الراءِ وكسرها: دهش وتحير فزعًا ممَّا رأَي من أَهوال يوم القيامة. (وَخَسَفَ الْقَمَرُ): ذهب ضوؤه أَو غاب. (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ): قُرِن بينهما في الطلوع من المغرب. (أَيْنَ الْمَفَرُّ): المَفَرّ بفتح الفاءِ وبه قرأَ الجمهور مصدر أَي أَين الفرار من أَهوال يوم القيامة؟ وبكسر الفاءِ وبها قرأَ ابن عباس المكان الذي يُفَرّ إِليه من ملجأ أَو موئل. (كَلاَّ): ردع عن طلب الفرار أَو المَفرّ. (لا وَزَرَ): لا ملجأَ وكل ما التجأْت إِليه من جبل أَو غيره وتحصنت فهو وزَرَ. (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ): أَي استقرار العباد أَو مستقرهم أَي وضع قرارهم من جنة أَو نار في يوم القيامة إِلى ربك وحده. (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ): أَي يُخبر الإِنسان يومئذ بما قدم من عمل عمله وبما أَخر فلم يعمله. (عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ): حجة واضحة بينة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأَعمال.

(وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ): أَي ولو جاءَ بكل معذرة ما قبلت منه. والمعاذير: جمع مَعْذِرة بمعنى العذر على خلاف القياس، وقيل: اسم جمع، وقال السدي والضحَّاك: المعاذير: السُّتور بلغة أَهل اليمن واحدها مِعْذار. التفسير: 1 - (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ): قال الزمخشري: إِدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأَشعارهم قال امرؤ القيس: فلا وأبيكِ ابنه العامِريِّ ... لا يَدَّعِي القوْم أَني أَفر وفائدتها توكيد القسم، والوجه أَن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك أَنه لا يُقسم بالشيءِ إِلاَّ إِعظامًا له بذلك، وعليه قوله تعالى: "فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (1) فكأَنهُ بإِدخاله حرف النفي يقول: إِن إِعظامي له بإِقسامي به كلا إِعظام، يعني أَنه يستأْهل فوق ذلك، وقيل: إِن (لاَ) نفي لكلام ورَدٌّ له قبل القسم، كأَنهم أَنكروا البعث فقيل: (لاَ) أَي ليس الأَمر على ما ذكرتم، ثم قيل: أُقسم بيوم القيامة ... أهـ كشاف ملخصًا بتصرف. قال القرطبي: حكى أَبو الليث السمرقندي أَنه قال: أَجمع المفسرون أَن معنى (لا أُقْسِمُ): أُقسم والإِتيان بلا صلة، أَي زيادة يجري كثيرًا في كلام العرب وقد ورد منه في القرآن قوله تعالى: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ" (2) أَي أَن تسجد: والمعنى أُقسم وأُؤكد القسم بيوم القيامة أَي بيوم يقوم الناس فيه لربهم للجزاءِ والحساب. - (1) سورة الواقعة الآيتان 75، 76. (2) سورة الأعراف من الآية 12.

2 - (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ): أَي: أُقسم وأُؤَكد القسم بالنفس اللَّوامة، والنفس اللَّوَّامة (كما قال مجاهد): هي النفس الخَيِّرة التي تلوم صاحبها على الشر لِمَ فعله؟ وعلى الخير لِمَ لَمْ يستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإِن اجتهد في الطاعات. فالمبالغة جاءَت لدوام اللَّوم. وقيل: المراد بالنفس اللَّوامة، نفس آدم فإِنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة، قال الآلوسي: وأَكثر الصوفية على أَن النفس اللَّوامة فوق الأَمَّارة وتحت المطمئنة وعرفوا اللَّوامة بأَنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سِنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم جِبلَّتها الظلمانية أَخذت تلوم نفسها ونفرت عنها - أهـ آلوسي. وقيل: المراد باللَّوَّامة: الْمَلُومة المذمومة وهي النفس الفاجرة الجشعة اللَّوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأَغراضها. وجاءَ نحوه في رواية ابن عباس، وهذا قول من نفى أَن يكون الكلام قسمًا إِذ ليس للمعاصي قدر وشرف يقسم به. وقيل: المراد بالنفس: جنس النفس الشاملة التقية والفاجرة، وضعف الآلوسي القولين الأَخيرين. 3 - (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ): هذا جواب القسم أَو دليل الجواب، أَي لتبعثن بعد جمع ما تفرق من عظامكم وصيرورتها رميمًا رُفاتًا مختلطًا بالتراب. والمراد بالإِنسان الجنس والهمزة لإِنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه، أَي: أَيحسب الإِنسان أَن الشأْن أَلن نجمع عظامه بعد تفرقها، والمعنى لِمَ يكون هذا الحسبان الكاذب المُنَافِي لحق اليقين وصريحه، والنسبة إِلى الجنس لأَن فيه من يحسب ذلك، بل لعله الأَكثرون، وقيل: المراد بالإِنسان جنس الكافر المنكر للبعث، وجوز أَن يكون التعريف للعهد. والمراد بالإِنسان هنا عدي بن أَبي ربيعة ختن الأَخنس بن شريق -وهما اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: (اللَّهُم اكفني جاري السوء) فقد روي أَنَّ عَديَّا جاءَ إِليه

عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد، حدثني عن يوم القيامة متى يكون؟ وكيف يكون أَمره؟ فأَخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أُصدقك يا محمد ولم أُؤمن به، أَوَيجمع الله هذه العظام؟ فنزلت، وقيل: هو أَبو جهل فقد روى أَنه كان يقول: أَيزعم محمد أَن يجمع الله هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقًا جديدًا فنزلت. قال الآلوسي: وذكر العظام -وإِن المعنى على إِعادة الإِنسان وجمع أَجزائه المتفرقة- لِمَا أَنها قالب الخلق. 4 - (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ): أَي: نجمع العظام بعد تفرقها وصيروتها رميمًا ورفاتًا في بطون البحار وبين الأَودية، والقفار حال كوننا قادرين على تأليف جمعها وإِعادتها إِلى التركيب الأَول وعلى أَن نسوي أَصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه، أَو على أَن نسوي ونضم سلامياته على صغرها بعضها إِلى بعض كما كانت أَوَّلًا من غير زيادة ولا نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام وما ليس في الأَطراف منها، وقيل المعنى: بل نجمعها ونحن قادرون على أَن نسوي أَصابع يديه ورجليه، أَي: نجعلها مستوية شيئًا واحدًا كخف البعير وحافر الحمار لا نفرق بينها فلا يمكنه أَن يعمل بها شيئًا ممَّا يعمل بأَصابعه المفرقة ذات المفاصل والأَنامل من فنون الأَعمال والقبض والبسط والتأَتي لما يريد من الحوائج، وروى هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة -اهـ آلوسي والكشاف-. ولا يخفى أَن في الإِتيان بلا أَوَّلًا في (لا أُقْسِمُ) ممَّا يزيد في تأكيد الكلام وتقويته، وحذف جواب القسم لتأْخذ النفس فيه كل مأْخذ، والإِتيان بقوله: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ) من إِيثار لفظ الحسبان على لفظ العلم، والإِتيان بهمزة الإِذكار سندًا إِلى الجنس وبحرف الإِيجاب في (بَلَى) والحال بعدها (قَادِرِينَ) -في الإِتيان بهذه من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتوبيخ المعرض عن الاستعداد ما تبهر عجائبه، ثم الحسن كل الحسن فيما يتضمنه حرف الإِضراب في قوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ). -آلوسي- بتصرف.

5 - (بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ): عطف على أَيحسب -جيءَ به للإِضراب عن إِنكار الحسبان إِلى الإِخبار عن حال الإِنسان الحاسب بما هو أَدخل في اللوم والتوبيخ من الأَول، كأَنه قيل: دع تعنيفه فإِنه أَشَط من ذلك وأَنَّى يرتدع وهو يريد أَن يقيم ويستمر على فجوره فيما بين يديه من الأَوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن مجاهد وابن جبير وغيرهما في معنى الآية: إِن الإِنسان إِنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أَبدًا قدمًا راكبًا رأْسه ومطيعًا أَمله ومسوفًا لتوبته حتى يأْتيه الموت على شر حاله وأَسوأ أَعماله، وروى عن ابن عباس في معنى الآية: هو الكافر يكذب بيوم الحساب. قال ابن كثير وهذا هو الأَظهر ولهذا قال بعده: 6 - (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ): قال ابن كثير: أَي يقول: متى تكون القيامة؟ وإِنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه. وتكذيب لوجوده، كما قال تعالى: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ" (1) قال العلامة الآلوسي: وفيه أَن من أَنكر البعث يرتكب أَشد الفجور لا محالة. 7 - (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ): فإِذا تحير بصرهم فزعًا فهم ينظرون من الهلع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيءٍ من شدة الرعب، وأَصله، من بَرق الرجل إِذا نظر إِلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة: ولو أَن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مَيٌّ سافرًا كاد يَبْرَق وقيل: هو من البريق، والمعنى لمع من شدة شخوصه. والمراد أَن الأَبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأَهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من أُمور. ونقل عن مجاهد أَنه قال: فإِذا بَرِق البصر عند الموت والاحتضار. - (1) سورة سبأ الآيتان 29، 30.

8 - (وَخَسَفَ الْقَمَرُ): أَي: وذهب ضوء القمر، والخسوف في الدنيا إِلى انجلاءٍ بخلاف الآخرة فإِنه لا يعود ضوؤه، ويحتمل أَن يكون المعنى ذهب واختفى ومنه قوله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) (1). 9 - (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ): قال القرطبي: أَي يجمع بينهما في ذهاب ضوئهما، وعن ابن عباس يجمع بينهما في طلوعهما من المغرب أَسودين مُكَوَّرين، وقيل: تجمع الشمس والقمر فلا يكون ثَمَّ تعاقب ليل ولا نهار. قال الآلوسي: وأَحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي، وحوادثه أُمور وراءَ الطبيعة. 10 - (يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ): أَي: إِذا عاين ابن آدم هذه الأَهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر. ويقول: أَين المفر؟ أَي هل من ملجأَ أَو موئل، قال الماوردي: ويحتمل هذا وجهين، أَحدهما: أَين المفر من الله حياءً منه، الثاني: أَين المفر من النار حذرًا منها، ويحتمل أَن يكون هذا القول من الإِنسان على وجهين، أحدهما: أَن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن ليتَنَعَّم المؤمن ببشري ربه، الثاني: أَن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. 11 - (كَلاَّ لا وَزَرَ): (كَلاَّ) ردع عن طلب المفر وتمنِّيه. (لا وَزَرَ): أَي لا ملجأَ يُتَحصن به وليس لكم مكان تعتصمون فيه -وأَصل الْوَزَر محركة- الجبل المنيع، وقد كان مفرًّا في الغالب لفرار العرب، واشتقاقه من الوِزْر وهو الثِّقْل (2)، وصار حقيقة لكل ملجأ من جبل أَو حصن أَو سلاح أَو رجل أَو غير ذلك. - (1) سورة القصص من الآية 81. (2) في القاموس المحيط الوزر: الثقل والسلاح والحمل الثقيل.

12 - (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ): أَي: إِليه تعالى وحده لا إِلى غيره استقرار العباد، أَي: لا ملجأً ولا منجى لهم غيره عز وجل، أَو إِلى حكمة استقرار أَمرهم لا يحكم فيه غيره، أَو إِلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أَو نار، فمن شاءَ أَدخله الجنة ومن شاءَ أَدخله النار. والظاهر أَن قوله تعالى: (كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) من تمام قول الإِنسان، كأَنه بعد أَن يقول: أَين المفر؟ يعود على نفسه فيستدرك ويقول: (كَلاَّ لا وَزَرَ ... ) إلخ. وقيل: هو من كلام الله تعالى، يقال للقائل: أين المفر؟ لا حكاية عن الإنسان، ويجوز أن تكون (كلَّا) في قوله تعالى: (كَلاَّ لا وَزَرَ) بمعنى أَلاَ الاستفتاحية أَو بمعني حقًّا. 13 - (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ): المعنى: يخبر الإِنسان يومئذ -وذلك عند الأَكثرين- عند وزن الأَعمال بما قدم وأَخَّر، أَي: بما قدم من عمل عمله وبما أَخر منه فلم يعمله، أَو بما قَدم من ماله فتصدق به وبما أَخره فخلفه للورثة، أَو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أَخر من سنة حسنة أَو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد بأَول عمره وآخره. 14 - (بَلْ اَّلإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ): أَي: بل الإِنسان حجة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه، تلزمه بما فعل أَو ترك، وجعل الحجة بصيرة لأَن صاحبها بصير بها، أَو هي بمعنى دالة مجازًا، كما وصفت الآيات بالإِبصار في قوله تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً" (1). والتاءُ في بصيرة للمبالغة مثلها في علاَّمة ونسَّابة، أَو لتأْنيث الموصوف، أَي حجة، وقيل: لأَن المراد بالإِنسان هنا الجوارح: أَي جوارحه على نفسه بصيره، أَي مشاهدة عليه بعمله، ونسب هذا للعتبي والمعنى: يُنَبَّأُ الإِنسان بأَعماله، بل فيه ما يُجزئ عن الإِنباءِ لأَنه عالم بتفاصيل أَحواله شاهد على نفسه بما عملت، لأَن جوارحه تنطق بذلك. ومثله في كتاب الله قوله تعالى: - (1) سورة النمل من الآية 13.

"يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (¬1)، وقال القرطبي: قيل المراد من البصيرة الكاتبان اللَّذان يكتبان الأَعمال. 15 - (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ): أَي: هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو طرح معاذير وبسطها لا يمكنه أَن يتخلص منها، أَو ينبأ بأَعماله ويجازي لا محالة ولو أَتى بكل عذر، فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى: (يُنَبَّأُ الإِنسَانُ) إلخ -والمعاذير جمع معذره بمعنى العذر على خلاف القياس، والقياس معاذر، وأَطلق عليه الزمخشري اسم الجمع فالمراد بالمعاذير الإِدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب. وقال السُّدِّي والضحاك: المعاذير الستور بلغة أَهل اليمن واحدها معذار، وحكى ذلك عن الزجاج قال الشاعر: ولكنها ضنت بمنزل ساعة ... علينا وأَطت (¬2) فوقها بالمعاذر فيكون قوله تعالى: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) أَي: ولو أَرخي ستوره، والمعنى أَن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يغني عنه شيئًا، لأَن عليه من نفسه بصيرة. قال الزمخشري: سمي الستر بلغة أَهل اليمن معذارًا لأَنه يمنع صورة المحتجب به كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب. ¬

_ (¬1) سورة النور الآية 24. (¬2) حركت.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)) المفردات: (لِتَعْجَلَ بِهِ): لتأخذه على عجلة لئلا ينفلت منك. (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ): أَي إِن علينا جمعه في صدرك أَي تكفلنا بذلك. (وَقُرْآنَهُ): أَي جريانه على لسانك -والقرآن- القراءَة. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ): أَي أَتمنا قراءَته عليك بلسان جبريل المبلَّغ عنا. (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ): فكن مقفِّيا له، وقيل: فاستمع لقراءَته وأَنصت له ثم اقرأه كما أَقرأك جبريل. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): ثم إِن علينا توضيح ما أُشكل عليك من معانيه وأَحكامه. (كَلاَّ): أَداة استفتاح بمعنى أَلا، أَو ردع لمن أَنكر البعث. (نَاضِرَةٌ): حسنة مشرقة متهللة من النضرة أَو النضارة، يقال: نضرهم الله ينضرهم نضارة ونضرة، وهو الإشراق والعيش الناعم والغنى، ومنه الحديث: (نضَّر الله امرأَ سمع مقالتي فوعاها). (بَاسِرَةٌ): متغيرة الأَلوان مسودة شديدة الكُلُوحة والعبوس.

(فَاقِرَةٌ): داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فَقَرَهُ أَصاب فِقاره، وقال أَبو عبيدة: فاقرة -من فقرت البعير إِذا وسمت أَنفه بالنار. التفسير 16 - (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ): قال ابن كثير: هذا تعليم من الله -عز وجل- لنبيه صلى الله عليه وسلم في طريقة تلقيه الوحي من الملك، فإِنه كان يبادر إلى أَخذه، ويسابق المَلَك في قراءَته، فأَمره الله -عز وجلَّ- إِذا جاءَه المَلَك بالوحي أَنه يستمع إِليه، وتكفل له سبحانه أَن يجمعه في صدره وأَن ييسره لأدائه على الوجه الذي أَلقاه إِليه، وأَن يبينه له ويفسره ويوضحه. قال الآلوسي: أَخرج الإِمام أَحمد والبخاري وغيرهم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أَن ينفلت منه يريد أَن يحفظه فأَنزل الله سبحانه: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) إلخ. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إِذا أَتاه جبريل - عليه السلام - أَطرق، وفي لفظ استمع، فإِذا ذهب قرأَه كما وعد الله - عز وجل - فالخطاب في قوله تعالى: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ" للنبي صلى الله عليه وسلم والضمير في (بِهِ) للقرآن للدلالة عليه من السياق، مثل قوله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ" (¬1) أَي: لا تحرك بالقرآن لسانك عند إِلقاء الوحي عليك من قبل أَن يُقْضَي إليك وحيه (لِتَعْجَلَ بِهِ) أَي: لتأْخذه على عجلة مخافة أَن ينفلت منك على ما يقتضيه كلام ابن عباس، وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أَداء الرسالة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يحرك لسانه بقراءَة القرآن ما دام جبريل يقرأ بل ينصت إِليه ملقيًا إِليه بقلبه وسمعه حتى يُقضي إِليه وحيه ثم يُقَفِّيه ويتبعه بالقراءَة والدراسة حتى يرسخ في نفسه. 17 - (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ): ثم علل النهي عن العجلة بقوله: إِن علينا جمعه أَي: جمعه في صدرك بحيث لا يذهب ¬

_ (¬1) سورة القدر الآية 1.

ولا يتفلت شيء منه عليك (وَقُرْآنَهُ) أَي: وإِثبات قراءَته في لسانك بحيث تقرأَه كما شئت وقيل: وقراءَتك إِياه أَي جريانه على لسانك، فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدر كالرجحان بمعنى القراءَة كما قال الشاعر: ضحَّوْا بأَشمط (¬1) عنوان السجود به ... يقطَّع الليل تَسبيحًا وقرآنا 18 - (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ): المعنى: فإِذا أَتممنا قراءَته عليك بلسان جبريل - عليه السلام - المبلغ عنا فكن مقفيا لا مباريا له، وقيل: فإِذا قرأناه فاتبع بفكرك وذهنك قرآنه، أَي: فاستمع وأَنصت. وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس، وعنه أَيضًا وعن قتادة والضحاك أَي قاتبع في الأَوامر والنواهي قرآنه، وقيل: اتبع قرآنه بالدرس على معنى فكرّره حتى يرسخ في ذهنك، وفي الإِسناد المجازي في قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) واختيار نون العظمة مبالغة في إِيجاب التَّأَني في قراءَة القرآن. 19 - (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): أَي: ثم إن علينا بعد حفظه وتلاوتك أَن نبيِّنه ونوضحه لك ونلهمك معناه على ما أَردنا وشرعنا ونبين لك ما أُشكل عليك من معانيه وأَحكامه. قال الزمخشري، كأَنه كان يعجل في الحفظ والسؤَال عن المعنى جميعًا كما ترى بعض الحُرّاص على العلم، ونَحْوُه قولُه تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ) (¬2). 20، 21 - (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَة، وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ): (كَلاَّ) إِرشاد من الله - جل وَعَلاَ - لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأَخْذٌ له وبعد به عن عادة العجلة وترغيب له في الأَناة، ولمزيد حبه إِياه أَتبعه قوله تعالى: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ ¬

_ (¬1) أشمط من الشمط وهو بياض الرأَس يخالط سواده والمراد أَنه كبير السن. (¬2) سورة طه من الآية 114.

الآخِرَةَ) وذلك تعميم الخطاب للكل كأَنه قيل: بل أَنتم يابني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبِلتم عليه تعجلون في كل شيءٍ، ولهذا تحبون العاجلة أَي الدار الدنيا والحياة فيها، وتذرون الآخرة أَي: وتتركون الآخرة والعمل لها، وقيل: الآخرة الجنة ويتضمن استعجالك حين تتلقى الوحي؛ لأَن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة، وفيه أَيضًا أَن الإِنسان وإِن كان مجبولا على ذلك إلا أَن مثله صلى الله عليه وسلم ممن هو في أَعلى منصب وهو مقام النبوة لا ينبغي أَن يحمله مقتضى الطباع البشرية على ذلك. ومن هذا يعلم أَن هذا متصل بقوله سبحانه: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) فإِنه مشير ومُلَوِّح إِلى معنى بل تحبون العاجلة .... إلخ. وقوله عز وجل: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) إلخ متوسط بين حُبِّى العاجلة -حبها الذي تضمنه (بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) تلويحًا، وحبها الذي آذن به قوله تعالى: (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) إلخ تصريحًا- لحسن التخلص منه إِلى المفاجأَة والتصريح في التفريع. قال العلامة الآلوسي: والصحيح المأْثور الذي عليه الجمهور أَن الخطاب في قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) للرسول صلى الله عليه وسلم والظاهر أَن التحريك قبل النهي إِنما صدر عنه عليه السلام بحكم الإِباحة الأَصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأَنبياء بهذه الآية -اهـ آلوسي بتصرف-. 22 - (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ): لما ردع الله -سبحانه وتعالى- عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إِلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوءِ مغبة حب العاجلة فقال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) أَي: وجوه المؤْمنين المخلصين يوم القيامة حسنة جميلة متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم. 23 - (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ): أَي: وجوه المؤْمنين إِلى ربها ناظرة يوم القيامة بدون تحديد بصفة أَو جهة أَو مسافة، أَي يرى المؤْمنون ربهم عيانًا يوم القيامة.

وقد ثبتت رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة في الأَحاديث الصحاح من طرق متواتر عند أَئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها، وفي الصحيحين عن جرير قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى القمر ليلة البدر فقال: (إِنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) وأخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: (إِذا دخل أَهل الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئًا أَزيدكم؟ فيقولون: أَلم تبيض وجوهنا؟ أَلم تدخلنا الجنة؟ وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الله تعالى الحجاب فما أَعطوا شيئًا أَحب إِليهم من النظر إِلى ربهم) -ذكره الآلوسي-. وقيل: الكلام على تقدير مضاف أَي إِلى مُلك أَو رحمة أَو ثواب ربها ناظرة، والنظر يكون على معناه المعروف، أَو على تقدير مضاف والنظر يكون بمعنى الانتظار فقد جاءَ لغةً بهذا المعنى أَي إِلى نعم ربها منتظرة، وتعقب بأَن الحذف خلاف الظاهر ولا داعي إِليه، وبأَن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل بنفسه، وبأَن لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر، والمتبادر من الإِسناد إِسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية، وهو يعني إِرادة الوجه على الحقيقية. 24 - (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ): أَي: ووجوه يوم القيامة كالحة شديدة العبوس متغيرة الأَلوان مسودة وهي وجوه الكفار. 25 - (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ): أَي: تتوقع أَن يفعل بها فعل هو في شدته وفظاعته فاقرة أَي داهية تقصم فقار الظهر كما توقعت الوجوه الناظرة إِلى ربها أَن يفعل بها كل خير. والظن: قيل: أُريد به اليقين واختاره الطيبي، وقيل: على معناه الحقيقي والمراد أَن الوجوه تتوقع ذلك. قال العلامة الآلوسي: وجيءَ بفعل الظن هنا دلالة على أَن ما هم فيه وإِن كان غاية الشر فإِنهم يتوقعون بعده أَشد منه وهكذا أَبدًا، وذلك أَن المراد بالفاقرة ما لا يُكْتَنَهُ ولا يتصور من العذاب، فكل ما يفعل بهم من أَشده ينبئُ بتوقع أَشد منه، وإِذا كان ظانًا كان أشد

عليه مما كان عالمًا موطِّنا نفسه على هذا الأَمر، فهذا وجه الإِتيان بفعل الظن، ولم يؤت بفعل ظن أَو علم بالنسبة للمؤمنين لأَنهم وصلوا إِلى ما لا مطلوب وراءَه، وهو النظر إِلى وجه الله سبحانه وتعالي أ. هـ. بتصرف. (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)) المفردات: (كَلاَّ): ردع عن إِيثار العاجلة على الآجلة. (بَلَغَتِ): أَي الروح أَو النفس. (التَّرَاقِيَ): أَعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، جمع ترقوه، وقيل: عظام الحلق. (مَنْ رَاقٍ)؟: أَيكم يرقيه ليشفى -من الرُّقْية-: وعن ابن عباس مَنْ يَرْقَى بروحه إِلى السماءِ. مِنَ الرُّقِي. (وَظَنَّ): وتيقن المحتضر.

(أَنَّهُ الْفِرَاقُ): أَن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا. (وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ): والتصقت ساقه بساقه والتوت عليها عند رعدة الموت، فالساق حقيقية، وقيل: عبارة عن الشدة، قال القرطبي: لا تذكر الساق إِلا في المحن والشدائد العظام، ومنه قامت الدنيا على ساق وقامت الحرب على ساق. (الْمَسَاقُ): المرجع - أَو سوق العباد إِلى الجزاءِ. (يَتَمَطَّى): يتبختر في مشيته اختيالا وعجبا، وأَصله يتمطط أَي يتمدد، لأَن المتبختر يمد خطاه، وقيل: من المطا وهو الظهر لأَنه يلويه. (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى): تهديد ووعيد أَي: هلاك لك أَيها المكذب فهلاك، ثم هلاك دائم لك فهلاك، أَو وليك ما تكره ثم وليك ما تكره. وفي الصحاح عن الأَصمعي: قاربه ما يهلكه أَي نزل به. (سُدًى): مهملا فلا يكلف بالشرائع ولا يجازي - يقال: إِبل سدى أَي مهملة ترعى حيث شاءَت بلا راع. (نُطْفَةً): قال القرطبي: النطفة الماءُ القليل، يقال نطف الماء إِذا قطر، والمراد بها نطفة الرجل يصب ويراق من الأَصلاب في الأَرحام. (فَسَوَّى): فعدله وكمله ونفخ فيه الروح (الزَّوْجَيْنِ): النوعين. التفسير: 26 - (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي): (كَلاَّ) ردع عن إِيثار العاجلة على الآجلة، كأَنه قيل: ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أَيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة، وتنتقلون إِلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين.

(إِذَا بَلَغَتْ): الضمير في بلغت للنفس أَو الروح وإِن لم يَجْرِ لها ذكر، لأَن الكلام يدل على ذلك، كما قال تعالى: "حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ" (¬1) أَي الشمس ولم يتقدم لها. ذكر وقول حاتم: أَما ويّ ما يُغني الثراءُ عن الفتى ... إِذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر أَي الروح أَو النفس (التَّرَاقِي): العظام المكتنفة لتغرة النحر عن يمين وشمال. ذكّرهم صعوبة الموت الذي هو أَول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ويدنو خروجها وزهوقها وقال الحاضرون لصاحبها وهو -الْمُحْتَضَر-: (مَنْ رَاقٍ). 27 - (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ): أَي: قال من حضر صاحبها -الَّذِي أَشْرَفَ عَلَى المَوْتِ-: من يرقيه وينجيه مما هو فيه -من الرُّقْية- وهي ما يستشفي بها الملسوع واللديغ والمريض من الكلام المعد لذلك ومن آيات الشفاءِ، ولعله أُريد به مطلق الطبيب، أَعم من أَن يُطِب بالقول أَو بالفعل، والاستفهام عند بعض العلماءِ حقيقي، وقيل: هو استفهام استبعاد وإِنكار أَي بلغ مبلغا لا أَحد يرقيه، كما يقال عند اليأْس: من الذي يقدر أَن يرقى هذا المشرف على الموت؟ وروى ذلك عن عكرمة وابن عباس، وقيل: هو من كلام الملائكة -أَي أَيكم يَرْقي بروحه أَملائكة الرحمة أَم ملائكة العذاب؟ من -الرُّقِيّ- وهو العروج، وروى هذا عن ابن عباس ولسليمان التيمي، والاستفهام عليه حقيقي. 28 - (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ): أَي: وظن الإِنسان المُحْتضر أَن ما نزل به هو الفراق للدنيا ونعيمها، وقيل: فراق الروح للجسد، والظن هنا عند أَبي حيان على بابه، وأَكثر المفسرين على تفسيره باليقين، قال الإِمام الرازي: ولعله إِنما سمى اليقين هنا بالظن لأَن الإِنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة بشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤُه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاءِ الحياة، أَو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم. ¬

_ (¬1) سورة ص من الآية 32.

29 - (وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ): الساق بمعناها الحقيقي والمعنى: والتصقت ساق بساق والتوت عليها عند هلع الموت. وقال ابن عباس: التفَّتْ شدة فراق الدنيا بشدة إِقبال الآخرة، ونحوه قول عطاء: اجتمع عليها شدة مفارفة المأْلوف من الوطن والأَهل والولد والصديق وشدة القدم على ربه -عز وجل- لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة وهي مثل في ذلك. 30 - (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ): أَي: سوق العباد إِلى الله -عز وجل- لا إلى غيره، والكلام على تقدير مضاف هو حكم أَو موعد. والمراد به الجنة والنار، وقيل: سوق هؤُلاء العباد للجزاء مُفَوّض إِلى ربك لا إلى غيره، وقال ابن كثير: (الْمَسَاقُ) المراجع والمآب. وذلك أَن الروح ترفع إِلى السماءِ فيقول الله - عز وجل -: ردوا عبدي إِلى الأَرض فإِني منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أُخرجهم تارة أُخرى. كما ورد في بعض الأَحاديث وكما قال تعالى: "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ" (¬1) وجواب إِذا في قوله تعالى: (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي) مضمر دل عليه ما ذكر، أَي كان ما كان أَو انكشفت للمرءِ حقيقة الأَمر، أَو وجد الإِنسان ما عمله من خيرٍ أَو شرٍّ. 31 - (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى): (فَلا صَدَّقَ): أَي: فلا صدق ما يجب تصديقه بما جاءَ به الله -عز وجل- والرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي أَنزل عليه (وَلا صَلَّى) أَي: ولا صلى ما فرض عليه، أَي: لم يصدق ولم يصل والضمير في الفعلين في قوله تعالى: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) للإِنسان المذكور في قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) والجملة عطف على قوله تعالى: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) على ما ذهب إِليه الزمخشري، فالمعنى بناءً على ما علمت من أَن السؤَال في قوله تعالى: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) سؤال استهزاء واستبعاد، واستبعد هذا الإِنسان البعث وأَنكره فلم يأْت بأَصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأَهم فروعه وهو الصلاة ثم أَكد ذلك بذكر ما يضاده ويخالفه بقوله: (وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّي) وأَثبت له التكذيب. ¬

_ (¬1) سورة الأَنعام من الآية 62.

32 - (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى): أَي: ومع ذلك أَظهر الجحود والتولي عن الطاعة فكذب بالقرآن وأَعراض عن الإِيمان والعمل التشريعة. 33 - (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى): أَي: ثم ذهب إِلى أَهله يتبختر مباهيًا بذلك مختالا مفتخرًا به، ومن صدر عنه هذا ينبغي أَن يخاف من حلول غضب الله عليه فيمشي خائفًا متطامنا لا فرحا متبخترا. قيل: نزلت الآية في أَبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى: (يَتَمَطَّى) فإِنها كانت مشيته ومشية قوم من بني مخزوم. 34، 35 - (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى): (أَوْلَى) من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأَصل، غلب استعماله في قرب الهلاك ودعاءِ السوء كأَنه قيل: هلاكا أَولى لك، بمعنى أَهلكك الله تعالى هلاكًا أَقرب لك من كل شر وهلاك، واختار قوم أَنه أَفعل تفضيل، والتقدير: النار أَولى لك أَي أَنت أَحق بها وأَهل لها (فَأَوْلَى) (¬1). (ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) تكرير للتأكيد، والظاهر أَن الجملة تذييل للدعاءِ. قال القرطبي: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد، فهو وعيد أَربعة لأَربعة كما روى أَنها نزلت في أَبي جهل الجاهل بربه فقال تعالى: 1 - فلا صدق. 2 - ولا صلي. 3 - ولكن كذب. 4 - وتولى. أَي أَنه لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي ربه فصلى، ولكن كذب رسول الله تولى، فتركُ التصديق خصلة وترك الصلاة خصلة والتكذيب خصلة والتولي عن الله خصلة، فجاءَ الوعيد أَربعة (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ... ) إِلخ - مقابلة لترك الخصال الأَربعة والله أَعلم. ¬

_ (¬1) أولى فعل ماضي مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق واللام مزيد كما قيل، وقيل فعل ماض دعائي من الولي أَيضا إلا أن الفاعل ضميره تعالى واللام زائدة أي: أولاك الله ما تكره وقيل: اسم فعل مبني ومعناه وليك شر بعد شر. أ. هـ آلوسي.

قيل: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم فاستقبله أَبو جهل على باب المسجد مما يلي بني مخزوم فأَخذ رسول الله بيده فهزه مرة ومرتين ثم قال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، فقال أَبو جهل: أَتهددني؟ فوالله إِني لأَعز أَهل الوادي وأَكرمه فنزل على رسول الله كما قال لأَبي جهل، وهي كلمة وعيد. 36 - (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى): أَي: أَيظن الإِنسان أَن يترك مهملًا فلا يكلف ولا يبعث، قال ابن كثير: والظاهر أَن الآية تعم الحالين، أَي لا يترك في هذه الدنيا مهملًا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث، بل هو مأْمور منهي في الدنيا محشور إِلى الله في الآخرة، والمقصود هنا إِثبات المعاد والرد على من أَنكره من أَهل الزيغ والجهل والعناد، والاستفهام إِنكاري، وكان تكريره بعد قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) لتكريرهم إِنكار الحشر مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه، حيث إِن الحكمة تقتضي الأَمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل، والتكليف لا يتحقق إِلاَّ بمجازاة، وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة، وجعل بعضهم هذا استدلالًا عقليًّا على وقوع الحشر. 37 - (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى): استئناف وارد لإِيطال الحسبان المذكور في الآية السابقة فإِن مداره: لما كان استبعادهم للإِعادة والبعث دفع ذلك ورد عليه ببدءِ الخلق وكيفية النشأَة الأُولى فقال: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) أَي: أَلم يك الإِنسان ناشئًا من قطرة ماءٍ مهين يمنى ويراق ويصب في الأَرحام فالاستفهام للتقرير. 38 - (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى): أَي: ثم صار المني علقة وهي قطعة من دم ثم مضغة وهي قطعة من لحم ثم شكله الله ونفخ فيه الروح وعدله وكمله فصار خلقًا آخر سويًّا سليم الأَعضاءِ في أَحسن تقويم بإِذن الله وتقديره.

39 - (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى): (فَجَعَلَ مِنْهُ): أَي: فجعل من الإِنسان أو المني (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين والنوعين (الذَّكَرَ وَالأُنثَى) بدل من الزوجين، يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر تارة أُخري. 40 - (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى): أَليس ذلك العظيم الشأْن الذي أَنشأَ هذا الإِنشاءَ البديع من هذه النطفة الضعيفة قادرًا أَن يعيده كما بدأَه، ويحيي الموتي بعد جمع عظامهم للحساب والجزاءِ، ولقد جاءَت عدة أَخبار أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأَ هذه الآية قال: سبحانك وبلى، وفي بعضها سبحانك اللهم فبلي، ومن حديث أَخرجه أَحمد وأَبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأَ لا أُقسم بيوم القيامة فانتهي إِلى أَليس ذلك بقادر على أَن يحيى الموتي فليقل بلي) والله أَعلم.

سورة الإنسان

سورة الإِنسان مدنية وآياتها إِحدى وثلاثون نزلت بعد الرحمن وتسمي سورة الدهر والأَبرار والأَمشاج، وهل أَتى مناسبتها لما قبلها: ختمت السورة السابقة (سورة القيامة) بذكر بعض أَطوار خلق الإِنسان للدلالة على البعث لأَن من قدر على البدءِ قدر على الإِعادة، كما ذكرَت جزاءَ المؤمنين وما أُعد من عذاب للكافرين، وفي هذه السورة (سورة الإِنسان) تضمنت الكلام على خلق الإِنسان وذكرت ما أُعد للعاصين، وفصلت ما هيأَه الله للمتقين. بعض مقاصدها: 1 - بدئت السورة الكريمة بالكلام على خلق الإِنسان واختياره بالتكاليف. 2 - بينت السورة بعض أَنواع عِقاب العصاة، وما هُيِّئ للمتقين من أَنواع النَّعيم بتفضيل وإِسهاب. 3 - في السورة أَمر للرسول بالصبر لحكم الله وعدم طاعة الكافرين بعد أَن امتنت عليه بنزول القرآن. 4 - وضحت السورة أَنها عِظَة (وكذلك القرآن) وعلَّقت الانتفاع بها على مشيئته سبحانه وتعالى.

(بسم الله الرحمن الرحيم) (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) المفردات: (هَلْ أَتَى): هل بمعنى قد، والمعنى قد أَتى، على التقرير والتقريب جميعًا. (الإِنسَانِ): آدم - عليه السلام - أَو الجنس من ذريته. (حِينٌ): وقت وزمان غير محدود وقد يجيءُ محدودًا. وقال الآلوسي: طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل. (الدَّهْرِ): الزمان الممتد غير المحدود، ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين. (مِنْ نُطْفَةٍ): أَي من ماءٍ يقطر وهو المني - وكل ماءٍ قليل في وعاءٍ فهو نطفة. (أَمْشَاجٍ): جمع مَشَج بفتحتين كسَبَب وأَسباب أَو مَشِج بفتح فكسر ككَتِف. وأَكتاف -أَي أَخلاط جمع خِلْط بمعنى مختلط، يقال: مشجت الشيءَ إِذا خلطته، وعن مجاهد أَمشاج: أي أَلوان، وعن عكرمة وابن عباس أَمشاج: أَي أَطوار. (هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ): بَيَّنَّا ووضَّحْنَا له طريق الحق والضلال. (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا): إِما مؤمنًا وإِما كافرًا.

التفسير: 1 - (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا): قال الآلوسي: أَصله على ما قيل -أَهل- على أَن الاستفهام للتقرير، أَي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه والْمُقَرَّر والذي يطلب تقريره هو من ينكر البعث، وقد علم أَنهم يقولون: نعم قد مضى على الإِنسان حينٌ من الدَّهر لم يكن كذلك، فيقال فالذي أَوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إِحياؤه بعد موته، وقيل: هل بمعنى قد، وهي للتقريب، أَي تقريب الماضي من الحال. والمعنى: قد مضى على الإِنسان ومر عليه أَزمنة مختلفة قبل أَن ينفخ فيه الروح وما كان شيئًا مذكورًا باسم ولا يعرف ما يراد منه. والمراد أَنه معدوم لم يوجد بنفسه -بل كان الموجود أَصله ممَّا لا يسمى إِنسانًا ولا يعرف بعنوان الإِنسانية، وقيل: المراد بالإِنسان آدم - عليه السلام - وأَيَّد الأَول بقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ونُقل القول بأَن المراد بالإِنسان آدم - عليه السلام - عن جماعة منهم ابن عباس، وحكى الماوردي عنه أَن الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره، وروى نحوه عن عكرمة فقد أَخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أَنه قال: إِن من الحين حينًا لا يدرك وتلا الآية فقال: والله ما يدرى كم أَتى عليه حتى خلقه الله تعالى، وقيل: إِن المراد من الحين مادة الحمل وهي تسعة أَشهر. والذي فهمه أَجلة من الصحابة -رضوان الله عليهم- من الآية الإِخبار الإِيجابي (أي قد أَتى). 2 - (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا): أَي: إِنَّا خلقنا الإِنسان من نطفة مختلطة ذات عناصر شتى، ومعنى نطفة مختلطة عند الأَكثرين نطفةٌ اختلط فيها وامتزج الماءَان ماء الرجل وماء المرأَة. وعن عكرمة وابن عباس (أَمْشَاجٍ): أَي أَطوار -أَي ذات أَطوار مختلفة، فإِن النطفة تصير علقة ثم مضغة .. وهكذا إِلى تمام الخلقة ونفخ الروح (نَبْتَلِيهِ): أَي نختبره بالتكليف فيما بعد (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أَي: فجعلناه بسبب ذلك الابتلاء ذا سمع يسمع به الهدى وذا بصر يبصر به الحق ليختار الطاعة والمعصية بعد التكليف.

3 - (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا): (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ): جملة استئنافية تعليلية لِمَا قبلها في معنى لأَنا هديناه: أَي بَيَّنَّا له وعرفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل والآيات الكونية والدلائل النفسية فآمن أَو كفر كقوله تعالى: "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (¬1)، وقال مجاهد: السبيل إِلى الشقاءِ والسعادة، وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدى إِليها بطبعه وكمال عقله، وعن مجاهد وغيره أَنهم قالوا: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ): أَي سبيل الخروج من الرحم (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا): أَي أَيهما فعل فقد بَيَّنَّاهُ له، يقال: هديته السبيل وللسبيل وإِلى السبيل، والمشهور الأَول أَي هديناه إِلى ما يوصل إِلى البغية في حالتيه جميعًا من الشكر والكفر. قال القرطبي: لم يأْت بصيغة المبالغة في الشكر فيقول: (إِمَّا شَكُورًا) كما أَتى بها في الكفر فقال: (وَإِمَّا كَفُورًا) نفيًا للمبالغة في الشكر وإِثباتًا لها في الكفر، فإِن شكر الله تعالى لا يؤدي على الوجه الأَكمل فانتقمت عنه المبالغة ولم ينتف عن الكفر المبالغة فقلة شكره لكثرة نعم الله عليه وعجزه عن القيام بشكرها، وكثرة كفره وإِن قل لعظم الإِحسان إِليه -حكاه الماوردي- أهـ قرطبي بتصرف. ولَمَّا ذكر الفريقين (الشاكر والكفور) أَتبعهما الوعد والوعيد فقال: ¬

_ (¬1) سورة البلد: الآية 10.

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلًا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)) المفردات: (سَلاَسِلَ): قيودًا بها يسحبون في جهنم. (وَأَغْلالًا): جمع غل - تغل بها أَيديهم إِلى أَعناقهم. (الأَبْرَارَ): جمع بَرّ أَوبار، وهم المطيعون. (كَأْسٍ): خمر، أَو زجاجة فيها خمر. قال الراغب: (الكَأْسِ): الإِناءُ بما فيه من الشراب، ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأْسًا. (مِزَاجُهَا): ما تمزج الكأْس به وتخلط. (كَافُورًا): ماء كافور. (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): يُجْرُونها حيث شاءُوا من منازلهم إِجراءً سهلًا. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ): أَي إِذا نذروا طاعة فعلوها.

(شَرُّهُ): عذابه وضرره. (مُسْتَطِيرًا): فاشيًا منتشرًا. (يَوْمًا عَبُوسًا): اشتد عبوس من فيه، أَو تكلح فيه الوجوه لهوله. (قَمْطَرِيرًا): شديدًا صعبًا كأَنه التف شره بعضه ببعض. التفسير: 4 - (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلًا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا): بين سبحانه حال الفريقين وأَنه تعبَّد العقلاء وكلَّفهم ومكَّنهم ممَّا أَمرهم به، فمن كفر فله العقاب، ومن وحّد وشكر فله الثواب، وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله عمَّا أَعدَّه وهيَّأَه للكافرين به من خلقه سلاسلَ يقادون بها في جهنم، كل سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا كما في سورة (الْحَاقَّة)، وأَغلالًا تُغَلّ بها وتقيد أَيديهم إِلى أَعناقهم وكان أَبو الدرداءِ يقول: ارفعوا هذه الأَيدي إِلى الله قبل أضن تُغَلّ بالأَغلال، قال الحسن: تجعل الأَغلال في أَعناق أَهل النار لا لأَنهم أَعجزوا الله، ولكن إِذلالًا لهم، كما أَعَدَّ تعذيبًا لهم نارًا موقدة مُسَعَّرة بها يُحرقون، وتقديم وعيدهم مع تأَخرهم في الذِّكر في قوله تعالى: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) للجمع بينهما في الذِّكر كما في قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (¬1)، ولأَن الإِنذار أَنسب بالمقام، وحقيق بالاهتمام، ولأَن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤْمنين أَنسب، ولَمَّا ذكر ما أَعده لهؤلاءِ الأَشقياءِ من العذاب والسعير قال بعده: 5 - (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا): شروع في بيان حسن الشاكرين إِثر بيان سوءِ حال الكافرين (وَالأَبْرَارَ) جمع بار أَو بَرّ وهو المطيع المتوسع في فعل الخير، وقيل: من يؤدي حق الله ويوفي بالنذر -هؤلاءِ الأَبرار يشربون في الآخرة من خمر أَو من زجاجة بها خمر، (كَانَ مِزَاجُهَا): أَي ما تمزج ¬

_ (¬1) سورة آل عمران من الآية 106.

بها الخمر وتخلط (كَافُورًا) أَي: ماء كافور في أَحسن أَوصافه، وهو اسم عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبروده لأَن الكافور لا يشرب. 6 - (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): قال ابن كثير: أَي هذا الذي مزج لهؤلاءِ الأَبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا بلا مزج ويروون بها، وقوله تعالى: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): أَي يتصرفون فيها حيث شاءُوا، وأَين شاءُوا من قصورهم وديارهم ومجالسهم ومحالهم، ويُجْرونها كما أَرادوا إِجراء سهلًا لا يمتنع عليهم. 7 - (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا): استئناف مسوق لبيان ما لأَجله يرزقون هذا النعيم، مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأَبرار إِجمالًا، كأَنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية، فقيل: (يُوفُونَ ... ) إِلخ وأُفيد أَنه استئناف للبيان ومع ذلك فلعل السر في أَنه عدل عن أَوفوا إِلى المضارع (يُوفُونَ) للاستحضار والدلالة على الاستمرار. والوفاءُ بالنذر: كناية عن أَداءِ الواجبات كلها فإِن من أَوفى بما أَوجبه على نفسه كان إِيفاؤه بما أَوجبه الله تعالى عليه أَهم له وأَحرى، وجعل هذا كناية هو الذي يقتضيه ما روى عن قتادة حيث قال: يوفون بما فرض عليهم من الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك من الواجبات، وعن عكرمة ومجاهد إِبقاؤه على الظاهر: أَي إِذا نذورا طاعة فعلوها، ولا يخلفون إِذا نذروا، والنذر ما أَوجبه المكلف على نفسه من شيءٍ يفعله (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا): أَي يخافون يومًا كان عذابه وضرره البالغ فاشيًا منتشرًا في الأَقطار غاية الانتشار، من استطار الحريق والفجر، وفي وصفهم بذلك إِشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم المعاصي لأَنهم يتركون المحرمات التي نهاهم الله عنها خيفة من سوءِ الحساب يوم الميعاد، وهو اليوم الذي ضرره خطير وشره مستطير: أَي منتشر عام على الناس إِلاَّ من رحم الله. قال قتادة: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأَ السموات والأَرض.

8 - (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا): (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) أَي: ويطعمون الطعام على حب الطعام: أَي مع اشتهائه والحاجة إِليه والرغبة فيه، وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد. أَوعلي حب الإِطعام: بأَن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف، وإِليه ذهب الحسن ابن الفضل وهو حسن، أَو على حب الله تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاءَ مرضاته وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأَبو سليمان الداراني، ورجح الآلوسي وابن كثير الأَول. قال ابن كثير: والأَظهر أَن الضمير في قوله تعالى: (عَلَى حُبِّهِ) عائد على الطعام، أَي: ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، قال مجاهد ومقاتل واختاره اين جرير كقوله تعالى: "وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ" (¬1) وكقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" (¬2)، وفي الصحيح: (أَفضلُ الصدَقةِ أَنْ تَصدقَ وأَنت صحيحٌ شحيح تأْملُ الغنَى وتَخشَى الفقَر): أَي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إِليه. والظاهر أَن المراد بإِطعام الطعام حقيقته، وقيل: هو كناية عن الإِحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأَي وجه كان وإِن لم يكن ذلك بالطعام بعينه، فكأَنهم ينفعون بوجوه المنافع. (مِسْكِينًا) أَي: فقيرًا عاجزًا عن الكسب، (وَيَتِيمًا): صغيرًا فقد أَباه ولم يبلغ مبلغ الرجل ولا مال له (وَأَسِيرًا) قال سعيد بن جبير وغيره: الأَسير من أَهل القبلة يكون عند الكفار، وقال ابن عباس: كان أَسراهم يومئذ مشركين، ويشهد لهذا أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمر أَصحابه يوم بدر أَن يكرموا الأَسارى، فكانوا يقدمونهم على أَنفسهم عند الفداءِ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، واختاره القرطبي أَيضًا، وقال: ويكون إِطعام الأَسير المشرك قربة إلى غير أَنه من صدقة التطوع، أَما المفروضة فلا، وقال عكرمة هم العبيد، ولقد وصى رسول الله بالإِحسان إِلى الأَرقاءِ في غير ما حديث، حتى إِنه كان آخر ما أَوصى به أَن جعل يقول: (الصلاة وما ملكت أَيمانكم)، وقيل الأَسير: -المحبوس في حق- وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأَنصار أَطعم في يوم واحد مسكينًا ويتيمًا وأَسيرًا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية 177. (¬2) سورة آل عمران من الآية 92.

9 - (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا): (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) أَي: إِنما نطعمكم لطلب ثواب الله ورجاءِ جزائه ورضاه قائلين ذلك في أَنفسهم بلسان الحال لما يظهر عليهم من أَمارات الإِخلاص. وعن مجاهد: أَما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأَثنى به عليهم أَيُرغب فيه راغب، أَو بلسان المقال دَفْعًا وإِزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأَة المنقصة للأَجر وعن عائشة - رضي الله عنها - أَنها كانت تبعث بالصدقة إِلى أَهل البيت ثم تسأَل الرسول: ما قالوا فإِذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصًا عند الله - عز وجل -. (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا): أَي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها لا بالأَفعال كعوض وهديّة، ولا بالأَقوال كشكر وثناءٍ علينا عند الناس، وهذا تقرير وتأكيد لما قبله. 10 - (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا): أَي: إِنا نخاف من ربنا يومًا اشتد عبوسُ وكلوحُ وَجْهِ مَن فيه وقطبوا وجوههم وجباههم من هول شدته وشدة قسوته وصعوبته وطوله، ووصف اليوم بالعبوس لعبوس أَهله، روى أَن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، قال الآلوسي: وهذه الجملة وهي قوله تعالى: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) جوز أَن تكون علة لإِحسانهم وفعلهم المذكور، كأَنه قيل: نفعل بكم ما نفعل لأَننا نخاف يومًا صفته كيت وكيت، فنحن نرجو بذلك أَن يقينا ربنا - جل وعلا - شر ذلك اليوم، وأَن تكون علة لعدم إِرادة الجزاءِ والشكور، أَي: إِنا لا نريد منكم المكافأَة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأَة على الصدقة. 11 - (فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا): (فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ): أَي: فحفظهم الله وصانهم من شدائد ذلك اليوم وآمنهم مما خافوا منه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) أَي: وأَعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة

وحسنا وبهجة ونورًا في الوجوه وسرورًا في القلب، لأَن القلب إِذا سرَّ استنار الوجه، قال كعب ابن مالك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سرَّ استنار وجهه كأَنه فلقة قمر). 12 - (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا): (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا) أَي: وكافأَهم وأَعطاهم بسبب صبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات (جَنَّةً) بستانًا عظيمًا يأْكلون منه ما شاءوا (وَحَرِيرًا) لباسًا حسنًا ناعم الملمس يلبسونه ويتزينون به، وهذا يدل على أَن الآية بسبب صبرهم أَدخلهم الله الجنة وأَلبسهم الحرير عوضًا عن حرير الدنيا. (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)) المفردات: (الأَرَائِكِ) (¬1) جمع أَريكة وهي سرير منجد مزين في قبة أَو بيت وقيل: الأَرائك: الفراش على السرر. (زَمْهَرِيرًا): بردًا شديدًا أَو قمرًا. ¬

_ (¬1) وقيل: الأرائك: هي كل ما اتكئ عليه من سرير أَو فراش أو منصة، وكانت تسميته كذلك لكونه مكانا للإقامة أخذا من قولهم: أرك بالمكان أروكا: أقام، وأصل الأروك: الإِقامة على رعي الأراك وهو الشجر المعروف ثم استعمل في غيره من الإقامات. أهـ آلوسي.

(وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا): قريبة منهم ظلال أَشجارها. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا): أَدنيت وسخرت ثمارها لهم، والقُطُوف: الثمار جمع قِطْف بكسر القاف سمي به لأَنه يقطف. (بِآنِيَةٍ): الآنية جمع إِناءِ ككساءٍ وأَكسية وهو ما يوضع فيه الشيء، والأَواني جمع الجمع. (وَأَكْوَابٍ): جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراعب، وفي القاموس: كوز لا عروة له أولا خرطوم له. (قَوَارِير): جمع قارورة وهي إِناءٌ رقيق من الزجاج يوضع فيه الأَشربة. (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا): أَي: قدرها السُّقاة أَو الشاربون في أَنفسهم فجاءَت كما قدروا لا تزيد على ذلك ولا تنقص. (زَنجَبِيلًا): قال الدينوري: الزنجبيل نبت في أَرض عمان وهو عروق تسري في الأَرض وليس بشجرة يوجد لذعا في اللسان إِذا مزج بالشراب، وعن قتادة ومجاهد اسم لِعَيْنٍ في الجنة (سَلْسَبِيلًا) قال القرطبي: السلسبيل: الشراب، اللذيذ وهو فَعْلَلِيل من السلاسة تقول العرب هذا شراب سلسل وسَلسِل وسلسال وسلسبيل بمعنى - أَي: طيب الطعم لذيذه. وفي الصحاح ماءٌ سلس وسلسال سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه. التفسير 13 - (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا): يخبر الله عن أَهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أُسبغ عليهم من الفضل العظيم فقال: متكئين في الجنة على السرر وهم في تمام الراحة والنعيم (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) أَي: لا يجدون في الجنة حرًّا شديدًا ولا قُرّ، وقيل: الزمهرير: القمر في لغة طيءٍ، والمعنى على هذا أَن الجنة ضياءٌ ونور لا يحتاج فيها إِلى الشمس ولا إِلى قمر.

14 - (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا): (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا) أَي: قريبة منهم ظلال أَشجارها، والمراد أَن ظلال أَشجار الجنة قريبة من الأَبرار مظلة عليهم وذلك زيادة في نعيمهم (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) أَي: سُخِّرت ثمارها لتناولها، وسهل أَخذها، من الذُّل ضد الصعب. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إِن كان الإِنسان قائمًا تناول الثمر دون كلفة، وإِن كان قاعدًا أَو مضجعًا فكذلك فهذا تذليلها لا يَرُدٌّ اليد عنها بُعْدٌ ولا شوك، قال الماوردي وذكره القرطبي: يحتمل أَن يكون تذليل قطوفها. أَن تبرز لهم من أَكمامها وتخلص لهم من نواها. 15 - 16 - (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا): أَي: ويدور الخدم في الجنة على هؤلاءِ الأَبرار بأَواني الطعام وأَوعيته وهي من الفضة وبأَكواب الشراب كُوِّنت قوارير شفافة، قوارير مخلوقة ومصنوعة من فضة فلها بياض الفضة وحسنها وصفاءُ القوارير وشفيفها، قال ابن عباس وغيره في هذه الأَكواب: هي من الفضة ومع هذا شفافة يُروي ما في باطنها من ظاهرها وهذا مما لا نظير له في الدنيا. قال الآلوسي: أَخرج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ليس في الجنة شيء إِلا أَعطيتم في الدنيا شبهه إِلا قوارير من فضة، قال الزمخشري: ومعنى (كانت) في الآية الكريمة هو من (يكون) في قوله تعالى: (كُن فَيَكُونُ) (¬1) أَي: تكونت قوارير بتكوين الله تفخيمًا لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفة الجوهرين المختلفين. (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) أَي: قدروا تلك القوارير في أَنفسهم فجاءَت حسبما قدروا واشتهوا وتمنَّته أَنفسهم، والضيمر في قدروها للأَبرار المُطَاف عليهم، أَو قدروا شرابها على قدر الري وهو أَلذ للشارب - قال ابن عباس: أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئًا ولا يشتهون بعدها شيئًا، وعن مجاهد تقديرها أَنها ليست بالملأَي التي تفيض ولا الناقصة التي تفيض فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليهم بقوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ). ¬

_ (¬1) سورة مريم الآية 35.

17 - (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا): أَي: ويسقي الأَبرار في الجنة في هذه الأَكواب خمرًا كان يُمْزَج بها ويُخْلط الزنجبيل فتارة يمزج الشراب للأَبرار بالكافور وهو بارد، وتارة يمزج بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأَمر، وأَما المقربون فإِنهم يشربون من الكافور والزنجبيل صرفًا، قال قتادة وغيره: وكانت العرب تستلذ من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ولأَنه يُحْدِثها لذعًا في اللسان ويهضم المأْكول ولهذا يذكرون في وصف رضاب النساءِ فَرُغِّبُوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب، وقال قتادة، الزنجبيل اسم للعين التي منها شراب الأَبرار. 18 - (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا): أَي: عينًا في الجنة تسمى سلسبيلا لطيب شرابها وسهولة مساغه، وانحداره في الخلق بسهولة ويسر، قال الزجاج: السلسبيل في اللغة اسم لما كان في غاية السلاسة فكأَن العين سميت بصفتها، وقال أَبو العالية ومقاتل: إِنما سميت سلسبيلا لأَنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم. وقال الزمخشري: سميت العين زنجبيلًا لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه (سَلْسَبِيلًا) لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعني أَنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة، يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقيل: تسمي (سَلْسَبِيلًا) أَي: أَنها مذكورة عند الملائكة وعند الأَبرار وأَهل الجنة بهذا الاسم جعلنا الله من أَصحابها بِمَنِّهِ وكرمه آمين.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)): المفردات: (يَطُوفُ): من قولهم: طاف بالشيءِ: دار حوله، ومنه الطائف، وهو الذي يخدمك برفق وعناية. (وِلْدَانٌ): جمع وليد، وهو الصبي والعبد. (مُخَلَّدُونَ): باقون دائمون لا يهرمون، وقيل: غير ذلك. (ثَمَّ): هناك في الجنة. (سُندُسٍ): ما رقَّ من ثياب الحرير. (إِسْتَبْرَقٌ): ما غلظ من ثياب الحرير. (طَهُورًا): بالغًا في الطهر غايته، وقيل: غير ذلك وسيأْتي. (مَشْكُورًا): مقبولًا لدي الله مُثابًا عليه منه.

التفسير 19 - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا): أَي: ويدور حولهم ويقوم على خدمتهم بلطف ورفق وحسن عناية غلمان وصبيان، ولعل الحكمة في أَن الله فطرهم وخلقهم على تلك الصورة. أَنهم في سنهم هذه يكونون أَخف في الخدمة وأَسرع في الاستجابة؛ تلبية لمخدوميهم وإِرضاءً لهم، وهم مع ذلك باقون ودائمون على ما هم عليه من الشباب والغضاضة والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون، وقيل: مزينون ومحلَّوْنَ بالأَساور والأَقراط ليكون ذلك أَدخل في إِيناس مخدوميهم، وإِذا نظر إِليهم ورآهم أَي راءِ ظنهم وحسبهم -لفرط حسنهم وجمالهم وصفاءِ أَلوانهم وإِشراق وجوههم وتفرقهم في مجالس مخدوميهم- ظنهم دُرًّا منشورًا مفرقًا في جنبات المجلس وباحاته وساحاته فالدر المنثور يكون أَكثر صفاءً منه منظومًا في سلك، أَو مسلوكًا في خيط. وفي التعبير بلفظ: (إِذَا رَأَيْتَهُمْ) للدلالة على حصول هذا الأَمر ووقوعه، أَي أَنه حاصل لا محالة. 20 - (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا): أَي: وإِذا نظرت أَيها الرائي هناك في الجنة التي عرضها السموات والأَرض رأَيت من أَنواع النعيم وأَلوانه ما لا عين رأَت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم يتوج ذلك ويجمله ويرتفع ويسمو به أَن وجوههم ناضرة إِلى ربها ناظرة. (وَمُلْكًا كَبِيرًا): والملك الكبير ينظر فيه صاحبه فيرى أَقصاه كما يرى أَدناه، يبصر فيه ما يملؤه بهجة ويزيده سرورًا، وأَي ملك أَكبر وأَبهى من ملك تدخل عليهم الملائكة فيه من كل باب قائلة تحية لهم: "سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ" ويرسل الله لهم ملائكته بالتحف والحلل ويدعوهم إِلى النظر إِلى وجهه الكريم. فسبحانك ربي صاحب الفضل العظيم والعطاءِ الجليل، ما أَكثر منّك وما أَجلَّ نعمك.

21 - (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا): أَي: ويعلوهم ويجمل أَبدانهم ثياب من رقيق الحرير، وثياب أُخرى فوقها من عظيمه وغليظه لونها أَخضر؛ ليكون ذلك أَكمل لسرورهم؛ لأَن الخضرة تكسب النفس اطمئنانًا وتملأُ الجوانب فرحًا وحبورًا، كما يزينهم ويجملهم بالحليِّ من أَساور الفضة. هذا وقد جاءَ في آيات أُخرى أَنهم يحلون بالذهب والؤلؤ، وذلك إِما أَن يكون على المعاقبة فتارة يحلَّون بهذا وتارة يحلَّون بذاك أَو كانت الزينة هنا بالفضة ليناسب ذلك ويتوافق مع ما يطاف به عليهم من آنية الفضة وأَكوابها (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) وذلك ليكمل التناسق ويتم التوافق بين ما يأكلون ويشربون فيه، وما يلبسون ويتزينون به، وقيل: يكون لكل قوم ما تميل إِليه نفوسهم، أَو أَنه يجمع لهم بين الذهب والفضة والؤلؤ. (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) أَي: وكما جمل ظاهرهم باللباس والحلي طهر باطنهم بشراب قد تناهي في الطهر وبلغ فيه الغاية حتى إِنه يطهر سواه وينقيه ويُذْهبُ ما به من كَدَر وأَذى وقذر وغل وحسد ليَكْمُلَ ويَتمَّ لهم جمال الظاهر ونقاء الباطن، وفي تفسير الإِمام القرطبي: قال عليٌّ - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا): إِذا توجه أَهل الجنة إِلى الجنة مرُّوا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إِحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تتغير أَبشارهم ولا تتشعث أَشعارهم أَبدًا، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأَذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم: "سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِيَن". وفي نسبة السقي إِلى الله - سبحانه - في قوله: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ) ما يدل على مزيد فضل هذا الشراب على ما سواه من الكافور والزنجبيل والسلسبيل؛ إِذ إِنه إِتحاف منه - جل شأْنه - دون وساطة أَحد من خلقه.

22 - إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا): أَي: إِن هذا الذي أَنعم به عليكم في الجنة كان جزاءً وثوابًا على ما قدمتم من أَعمال صالحة وأَفعال مبرورة في دنياكم، نظيره قوله تعالى: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" (¬1). يقال لمن يعاقب: هذا بعلمك السيء الردئ فيزداد غمه وأَلم قلبه، ويقال للمثاب: هذا لك بطاعتك، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره. (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) أَي: وكان عملكم الذي عملتموه في الدنيا مقبولًا لدى الله ومرضيًّا منه -سبحانه- فيكون بهذا قد جمع الله لعباده الطائعين بين منزلة رضاهم عن ربهم بالثواب العظيم في الجنة، وبكونه -عز شأْنه- رضي عنهم بقبول عملهم وشكرهم عليه فتكون نفوسهم في تلك الحالة قد وصلت إِلى أَنها راضية مرضية، وهذه هي أَعلى الدرجات وأَرفع المقامات؛ فكانت جديرة أَن يختم الله بها مراتب الأَبرار وأَحوال المتقين والصديقين الأَطهار. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)) المفردات: (آثِمًا): ذا إِثم وذنب، أَو المبالغ في ارتكاب الذنوب. (كَفُورًا): الكفور: المتناهي في الكفر الداعي إِليه. (بُكْرَةً): أَول النهار. (أَصِيلًا): الأَصيل: هو الوقت بعد العصر إِلى المغرب. ¬

_ (¬1) الحاقة: الآية 24

23 - (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا): أَي: إِننا نحن -لا غيرنا- قد نزلنا عليك هذا القرآن العظيم فهو من لدنَّا، وما افتريتَه ولا جئتَ به من عندك ولا من تلقاءِ نفسك كما يدَّعي المشركون والمكذبون ذلك ويزعمون أَنه من عندك (إِن يَقْولُونَ إِلاَّ كّذِبًا) وقد أُنزل هذا الكتاب الجليل الكريم بما يشتمل ويتضمن ما يحتاج إِليه الناس في أَمر معاشهم ومعادهم، وليس بسحر ولا كهانة ولا شعر، بل إِنه الحق، وفي ذلك من إِزالة الوحشة الحاصلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب طعن الكفار في القرآن الكريم، فيكون المعنى: إِذا كان بعض الجهال قد طعن فيما أَنزلته عليك إِلاَّ أَن جبار السموات والأَرض قد عظمه وصدقه. قال الإِمام ابن عباس: أَنزل الله القرآن مفرقًا آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة؛ فلذلك قال: "نَزَّلْنَا". 24 - (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا): أَي: فاحبس نفسك واصبر على كل ما حكم به ربك سواءٌ كان ذلك تكليفًا خاصًّا بك من العبادات والطاعات ونحوها، أَو متعلقًا بتبليغ الرسالة وأَداءِ الأَمانة وتحمل المشاق الحاصلة والناشئة عن ذلك. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) أَي: ولا تتبع سبيل من كان منهم مغرقًا في الإِثم مفرطًا فيه ولا من تناهي في الكفر ودعا إِليه، سواءٌ أُريد شخص بعينه أَو كان مرادًا به كل آثم وكفور. وقد جاءَت (أَوْ) هنا للعطف بدل الواو؛ للإِيذان بأَن كلاًّ من الآثم والكفور وحده حقيق وجدير أَن يُعصى ولا يُطاع؛ فكيف وقد جمع بينهما في النهي عن طاعتهما معًا. قال الزجاج: إِن (أَو) هنا أَوكد من الواو؛ لأَنك إِذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأَطاع أَحدهما كان غير عاص، فإِذا أبدلتها بأَو فقد دللت على أَن كل واحد منهما أَهل أَن يعصى، ويعلم منه النهي عن إِطاعتهما معا كما لا يخفي. 25 - (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا):

أَي: ودوام على ذكر ربك بلسانك مستحضرًا ربوبيته ورعايته لك وأَنك مخلوق له يقوم على أَمرك ويتولى شأنك إِذ هو قيوم السموات والأَرض، , وأَن يكون الذكر في أَول النهار مبتدئًا به يومك ليعمك الخير وتُهدى إِلى البر ويشملك التوفيق، وتذكره كذلك في وقت الأَصيل وهو من العصر إِلى المغرب، أَو من الزوال إِلى غروب الشمس، أَي: املأً نهارك كله بذكر الله. 26 - (وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا): أَي: وفي جزءٍ من الليل اخضع لربك وصلِّ له واقترب منه؛ فإِن العبد أَقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، وقيل: المراد من الذكر في البكرة صلاة الصبح، وفي الأَصيل صلاة الظهر والعصر، ومن قوله: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) صلاة المغرب والعشاء. (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أَي: سبح ربك وقَدِّسْهُ ونَزِّهْهُ عمَّا لا يليق بجنابه الكريم، ومقامه السامي الرفيع في هزيع وجزءٍ من الليل؛ لأَن الليل وقت المناجاة، وصفاءِ النفس، والبعد عن شواغل الحياة، وهو أَيضا وقت نزول الرحمات، وبخاصة في آخره -فإِن رحمة الله تنزل إِلى سماءِ الدنيا ليغفر ربنا -سبحانه- لمن استغفره، ويعطي من سأَله، ويستجيب لمن دعاه، ولعل المراد من السجود المأْمور به في الآية هو صلاة الليل وهي التهجد الذي هو مندوب إِلاَّ في حقه صلى الله عليه وسلم فإِنه واجب عليه، اختصه الله به ليرفعه إِلى الدرجات العلا والمنزلة العظمى، قال تعالى: "وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (¬1). ¬

_ (¬1) الآية 79 من سورة الإسراء.

(إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)) المفردات: (الْعَاجِلَةَ) الدنيا. (يَوْمًا ثَقِيلًا): عسيرًا شديدًا وهو يوم القيامة. (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ): الأَسر في الأَصل: هو الشد والربط، والمراد: وأَحكمنا ربط أَجزائهم بعضها بعض. التفسير: 27 - (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا): هذا تفريع وتوبيخ للمشار إِليهم وهم أَهل مكة، وقيل: إِنها نزلت في يهود، أَي أَنهم بسبب الشهوة والمحبة لهذه اللَّذات الجسدية والمتع الدنيَّة البدنية يفرحون ويحبون الدنيا العاجلة التي تُؤذِنُ بانصرام، وتُعْلِمُ بانقضاءٍ وانتهاءٍ، ويتركون ويدعون خلف ظهورهم دون انتباه إِليه أو التفات نحوه يذرون يومًا شديدًا عسيرًا يثقل حمل ما فيه، ويضعف الإِنسان عن تحمل مشاقه وصعابه وهو يوم القيامة وما فيه من نشر وحشر وحساب. 28 - (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا): أَي: نَحن -لا غيرنا- خلقناهم من طين بدءًا من آدم - عليه السلام - وفي أَصلاب آبائهم وأَرحام أُمهاتهم، وأَعطيناهم القُوَى والقُدَرَ وشددنا وربطنا مفاصلهم وأَوصالهم بعضهم ببعض ربطناها بالأَعصاب والعروق، وذلك في إِحكام حكيمٍ وربط وثيق لا يهتدى إِليه أَحد

سوانا، فكل المخلوفات قَهْر عظمتنا، والأَسر في الأَصل: هو الشد والربط، وأُطلق على ما يشد ويربط به، وكانت الأَعصاب والعروق للشد والربط لأَنها تشبه الجبال التي يربط بها، والمراد: شدة الخلق وكونه موثقًا حسنًا، قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ" (¬1) والكلام هنا جاءَ للامتنان وبيان فضل الله عليهم، وذلك بإِسداء النعم الجليلة التي قابلوها بالمعصية، أَي: سويت خلقكم وأَحكمته ومددتكم بالقوى وكَرَّمتكم ثم تكفرون بي؟! (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا): هذا تهديد لهم بالإِهلاك، أَي: وإذا أَردنا إِهلاكهم وتدميرهم جئنا بأَمثالهم في شدة الخلق وإِحكام الصنع ممن يطيعنا ويمتثل أَمرنا؛ فقدرتنا صالحة لذلك لا يتأَبَّي عليها شيءٌ من الممكنات ما دامت إِرادتنا قد تعلقت به. (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)) المفردات: (تَذْكِرَةٌ): موعظة. (سَبِيلًا): طريقًا إِلى مرضاة الله. (أَعَدَّ لَهُمْ): هيأَه لهم. ¬

_ (¬1) الآية 6 من سورة الانفطار.

29 - (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): أَي: إِن هذه السورة بما فيها من الترتيب العجيب والنسق البديع والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب تذكرة وموعظة للمتأَملين، وتبصرة للمستبصرين، فمن شاءَ وأَراد الخير لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ رسلك طريقًا إِلى ربه بالتقرب إِليه بما يحبه ويرضاه. 30 - (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): أَي: لا يقع ما تريدونه ولا يتم ما تشاءُونه بإِرادتكم، فأَعمالكم التي لكم فيها الاختيار لا تتم ولا تقع وفق اختياركم لها، وإِنما ذلك مرهون وموقوف على مشيئة الله لذلك، فما شاءَ -سبحانه- كان وحصل، وما لم يشأْ لا يكون ولا يحدث، قال تعالى: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (¬1) وقال ابن كثير: لا يقدر أَحد أَن يهدي نفسه ولا يدخل في الإِيمان، ولا يَجُرّ لنفسه نفعًا إِلاَّ بمشيئته -تعالى-. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أَي: أَنه -سبحانه- حكيم في تدبيره يحيط إِحاطة تامة ويعلم علمًا كاملًا بمن هو أَهل لأَن يمنحه الهداية ويذلل له طريقها فييسرها له، كما يعلم -جل شأْنه- من ليس أَهلا لإِكرامه وإِنعامه -وقد اختار الضلالة وآثر المعصية- فييسر له سبيل الغواية، ويمهد له طريق الضلال، قال تعالى: "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" (¬2). 31 - (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا): هذه الآية كالمترتبة على ما سبق من قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أَي: أَن دخول الجنة يكون بمحض مشيئته وفضله ورحمته -سبحانه- وَأن تعذيب الله للظالمين من عصاة وكافرين يكون أَيضًا بعدل الله وإِرادته؛ فلا مكره له -سبحانه- وقد أَعد وهيأَ لهؤُلاءِ الفاسقين الظالمين عذابًا موجعًا شديد الإِيلام ينتظرهم وهو -جل شأْنه- لا معقب لحكمة ولا راد لقضائه وهو أَحكم الحاكمين. ¬

_ (¬1) الآية 18 من سورة الأنعام. (¬2) الآيات 5 - 10 من سورة الليل.

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكية، وآياتها خمسون هذه السورة الكريمة من السور الخمس التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود وأَخواتها" وهذه السور هي: هود، والواقعة، والمرسلات، والنبأ، والتكوير؛ وذلك لما في تلك السور من إِظهار عدل الله المطلق وبطشه، وشديد عذابه، وقوة سلطانه. قال ابن مسعود: نزلت تلك السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن نسير معه حتى أَوينا إِلى غار بمنى فنزلت، فبيمنا نحن نتلقاهم منه وإِن فاه لرطب بها -إِذ وثبت حيَّة فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وقيتم شرها كما وقيت شركم) وهذا الغار يعرف بغار المرسلات. وهذه السورة هي التي قرأَها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب وما صلي بعدها حتى قبض (¬1). صلتها بما قبلها: أَن الله قد ذكر في آخر سورة الإِنسان ظرفًا من تهديد الكفار بالعذاب في الآخرة "إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا" وأَتي في أَول سورة (والمرسلات) بمزيد من الوعيد والعذاب للكفار حتى استغرق هذا أَكثر السورة، وذلك من أَولها إِلى الآية الأَربعين، فكأَن هذه الآيات من سورة (المرسلات) امتداد لآخر سورة الإِنسان، كما أَن سورة الإِنسان قد ضم أَكثرها جزاءَ المحسنين بدءًا من الآية الخامسة "إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأَسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا" إِلى الآية الثانية والعشرين: "إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا". وفي سورة المرسلات جاءَ ذكر ثواب المتقين في صورة مجملة: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُون ... ) فالسورتان تلتقيان في وعد المؤمنين ووعيد الكافرين. ¬

_ (¬1) حديث قراءته -صلى الله عليه وسلم- في المغرب بالمرسلات وهي آخر صلاة صلاها متفق عليه من حديث أَم الفضل.

أهم مقاصد السورة

أَهم مقاصد السورة: 1 - جاءَ أَولها مبينًا لعظيم قدرة الله وأَنه هو -سبحانه- المالك لجميع خلقه، يرسل ما شاءَ على من يشاء، وينشر من شاءَ في فسيح ملكه وملكوته، وينزل الرحمة والآيات بوساطة الذين يريدهم ويختارهم من خلقه على من اصطفى من عباده وارتضاهم لرسالته: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ... ): 2 - جاءَت السورة بعد ذلك تهدد المكذبين وتبين لهم أَن الله أَباد وأَهلك قومًا بعد قوم من الضَّالين المكذبين: (أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ ..... ). 3 - أَبانت السورة الكريمة أَن أَمر العباد إِليه وحده من أَول خلقهم إِلى نهاية آجالهم: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ): 4 - ذكرت السورة بعضًا من نعم الله على عباده، ثم أَنذرات من كذب منهم بالعذاب الشديد: (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا). إلى قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). وكان ختام السورة ضربًا من إِرخاءِ العنان للمكذبين المجرمين وإِمهالهم ليتمتعوا ويأْكلوا ثم تكون عاقبتهم الويل والثبور والهلاك والبوار (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)): المفردات: (وَالْمُرْسَلاتِ): الريح، وقيل غير ذلك. (عُرْفًا): متتابعة بعضها في إِثْرِ بعض. (فَالْعَاصِفَاتِ): الريح والشديدة. (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا): الملائكة تنشر أَجنحتها عند نزولها، أَو تنشر وتحيي نفوس الجهلة والكفار، وقيل غير ذلك. (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا): الملائكة تفرق بين الحق والباطل. (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا): الملائكة تلقي الوحي من عند الله وتنزل به على أَنبيائه. (عُذْرًا): من عذر: إِذا محا الإِساءَة، وقيل غير ذلك. (نُذْرًا): من أَنذر: إِذا خَوَّفَ. التفسير: 1 - 7 - (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ): أَقسم الله -سبحانه- في أَول تلك السورة الكريمة بأَشياءَ عظيمة من خلقه ذكر - عز وجل - صفاتها ولم يذكر أَسماءها، لذا اختلف المفسرون في تعيينها وبيان المراد منها اختلافًا كثيرًا،

والذي يتضح أن المقسم به هنا شيئان، وهما: الريح، والملائكة؛ لأَن الله قد فصل بينهما بالعطف بالواو لإِشعار ذلك بالمغايرة، لأَن الشأن أَن يكون المعطوف بالواو غير المعطوف عليه. أَقسم -عز شأْنه- أَولًا بالريح المرسلة على الكفار لعذابهم واستئصالهم، والريح -كما بين القرآن الكريم- يرسلها الله للعذاب، قال تعالى: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (¬1) كما توصف الريح بالعصف -وهو الشدة- لإِهلاكها من ترسل عليهم، أَو لأَنها تأتي بالعصف. وهو ورق الزرع وحطامه، أَو تُنْعَتُ بذلك لسرعتها في مُضِيِّهَا لتنفيذ أَمره قال تعالى: "وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا" (¬2) ويجوز أَن يراد من المرسلات ما يشمل ويضم -أَيضا- رياح الرحمة التي تسوق وتثير السحاب وتلقح النبات وتكون مبشرات بالخير؛ لأَن هذه الرياح قد ورد في القرآن الكريم أَن الله يرسلها كما يرسل ريح العذاب، قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" (¬3) وقال: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ" (¬4) وقال: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ" (¬5). فكل من ريح العذاب ورياح الخير والرحمة جند من جند الله "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ" (¬6). هذا، وعطف العاصفات على المرسلات بالفاءِ للإِيذان والتنبيه على أَنه من عطف الصفات أَي: من عطف صفة على صفة أُخرى لموصوف واحد. ¬

_ (¬1) من الآية 16 من سورة فصلت. (¬2) من الآية 81 من سورة الأَنبياء. (¬3) من الآية 48 من سورة الروم. (¬4) من الآية 22 من سورة الحجر. (¬5) من الآية 46 من سورة الروم. (¬6) من الآية 31 من سورة المدثر.

وأَقسم -سبحانه- ثانيًا بالملائكة وهي من أَشد خلق الله قوة، ووصفها بالناشرات لأَنها تنشر أَجنحتها في الجو عند نزولها بالوحي، أَو لنشرها وإِحيائها النفوس التي تشبه المولى بسبب ما فيها من الكفر والجهل، وذلك بما تنزل به من لدن ربها على الأَنبياءِ والرسل من الوحي الذي تحيا القلوب به، كما نعتها بالفارقات لأَنها تفرق بين أَصالة الحق وزيف الباطل، وذلك بما تنزل به من عند ربها إِلى الرسل، ووصفها كذلك بالملقيات ذكرا لإِلقائها الذكر وهو الوحي على الأَنبياءِ ليبلغوا ذلك لأُممهم إِعذارًا وإِنذارًا، وهنا أَيضًا عطف (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) على (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) لبيان أَن تلك الصفات لموصوف واحد وهم الملائكة. والمعنى: أَقسم -سبحانه- بكل من الريح التي يرسلها لعباده عذابًا لهم أَو رحمة بهم متتابعة ومتتالية كالعرف وهو ما يكون من شعر وريش على العنق من الفرس ونحوه، وأَقسم -كذلك- بالملائكة التي تنشر أَجنحتها عند النزول بأَمر الله أَو تنشر رحمته وتفرق بين الحق والأَبلج والباطل الزائف "عُذْرًا" أَي: تلقى الوحي على رسل الله لإِزالة إِساءة المسيئين الذين: أَخلصوا التوبة وأَنابوا إِلى ربهم، وذلك بقبول الله لأَعذارهم، قال الراغب: عذرت فلانًا: أَزلت نجاسة ذنبه بالعفو عنه، كقولك: غفرت له، أَي: سترت ذنبه. أَو المراد أَن الله يزيل عذرهم ويقطع حجتهم التي قد يحتجون بها لدى الله كادعائهم أَن الله لم يرسل لهم من يرشدهم ويهديهم، فأَرسل إِليهم الرسل وذلك على حد قوله: "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (¬1). (أَوْ نُذْرًا) أَي: لإِنذار المبطلين والعصاة وتخويفهم وترهيبهم. (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ): هذا هو جواب القسم، أَي: إِن الذي توعدون به على لسان الرسل من مجيء يوم القيامة وما فيه من نشر وحشر وحساب ثم إِلى جنة أَو إِلى نار هو واقع بكم ونازل عليكم لا محالة لأَنه الحق. ¬

_ (¬1) من الآية 165 من سورة النساء.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)) المفردات: (طُمِسَتْ): محقت ومحيت. (فُرِجَتْ): فتحت وشقت فكانت أَبوابًا. (نُسِفَتْ): فرقتها الريح بسرعة. (أُجِّلَتْ): أَخِّرَتْ. (وَيْلٌ): هلاك، وقيل: هو واد في جهنم. التفسير: 8 - 15 - (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): هذا بيان لأَمارات يوم القيامة وعلامات عليه، أَي: إِذا النجوم قد ذهب ضوؤُها ومحى نورها، أَو محقت ذواتها وانتثرت وانكدرت، وإِذا السماء فتحت وشقت وتصدعت فكانت أَبوابًا، وإِذا الجبال نسقت كما ينسف الحب بالمنسف، وذلك كقوله تعالى: "وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا" وقيل: إِزالتها من مقارّها وأَماكنها بسرعة، من انتسفت الشيء:

إِذا اختطفته، وإِذا الرسل بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة، أَو: وإِذا الرسل عُين وحُدد لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أُممهم، إِذا حصل هذا ووقع ما سبق كان ذلك أَمارة وعلامة على أَن القيامة قد أَظلتهم ونزلت بهم، فهذه الأُمور هي مقدماتها وسابقتها. (لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) الضمير في قوله: (أُجِّلَتْ) راجع إِلى ما جاءَت به الرسل - عليهم السلام - أَي: لم أَخرت الأُمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وتنعيم المؤمنين وما كانت الرسل تذكره وتحدث به من أُمور الآخرة وأَحوالها وأَهوالها؟ ويجوز أَن المراد من الضمير (أُجِّلَتْ) لما سبق من طمس النجوم وتشقق السماءِ ونسف الجبال وتأقيت الرسل. وهذه الآية الكريمة جاءت وسبقت على طريق الاستفهام الذي يفيد التعظيم والتعجيب من هول وشدة ذلك اليوم (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أَي: أَجلت هذه الأَمور ليوم الفصل والقضاء بين الخلائق، وذلك مثل قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (¬1) (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ): هذا تهويل وتعظيم آخر، أَي: وما أَعلمك بيوم الفصل وشدته ومهابته وقوة وقعه على النفوس (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): وهذا أَيضًا تهويل ثالث لما يحدث في هذا اليوم، أَي: هلاك كبير وبوار عظيم للمكذبِين بالتوحيد والجاحدين للنبوة والمعاد، وبكل ما ورد عن الأَنبياءِ والرسل وأَخبروا به. وجاءَت هذه الآية: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في السورة الكريمة عشر مرات، ولعل سر تكرارها أَنها تذكر في كل مرة متصلة بالجرم والذنب الذي جاءَت للتحذير والتخويف منه والتهديد والوعيد عليه، فيكون لها بذلك أَكبر الأَثر في الزجر والمنع؛ لأَن الذنب إِذا قارئه عقابه واتصل به عذابه كان ذلك آكد في الزجر وأَقوى من الردع، وأَدعى إِلى العبد والتنأني عنه. ¬

_ (¬1) الآية 40 من سورة الدخان. هذا والمعهود في مثل هذا المقام أَن تأتي كلمة (ويل) وما يماثلها منصوبة على أَنها مصدر ساد مسد فعله، أَي: نائب عنه يقصد به الدعاء، كأن يقال مثلا: ويلا لهم، أَي هلاكا لهم، ولكنه عدل به إلى الرفع على الابتداء "ويل" للدلالة على أن الهلاك والثبور ثابت لهم ودائم عليهم لا يزايلهم ولا يتجاوزهم؛ لأن الجملة الاسمية -كما هو معروف- تدل على الثبوت والدوام.

ومعلوم أَن هذه الآية في كل مرة قد جاءَت مهددة ومنذرة من ذنب وجرم غير الذي جاءَت به في أَي من المواضع الأُخرى. وجاءَ في تفسير الإِمام القرطبي عند تفسير هذه الآية: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ما نصه: وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذَّب؛ لأَنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإِن لكل مكذب بشيءٍ عذابًا سوى تكذيبه بشيء آخر، وربَّ شيءٍ كذَّب به هو أَعظم جرمًا من تكذيبه بغيره لأنه أقبح في تكذيبه وأَعظم في الرد على الله، فإِنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه وهو قوله: (جَزَاءَ وِفَاقًا) أهـ. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "عُرِضَتْ عَلَيَّ جهنم فلم أَر فيها واديًا أَعظم من الويل" وعلى كل حال فمآل الكافرين الهوان والعذاب والثبور والهلاك. (أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)): المفردات: (أَلَمْ): هذا استفهام عن انتفاء إِهلاك الله للمجرمين، جاءَ على وجه الإِنكار، فأَفادَ إِثبات الإِهلاك وإِيجابه، فكان معناه: أَهلكنا الأَولين. وقال الراغب: (لم) نفيٌ للماضي وإِن كان يدخل على الفعل المستقبل، ويدخل عليه أَلف الاستفهام للتقرير. (ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ): أَي: نلحق الآخرين بالأولين. التفسير: 16 - 19 - (أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: قد أَهلكنا الأَولين السابقين جميعًا ممن كذبوا بالرسل، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، وإِهلاكُهم وتدميرُهم أَمر ثابت مقرر قد وقع وحصل.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ): هذا وعيد وزجر لأَهل مكة ومن على شاكلتهم من المشركين والكافرين، أَي: سنفعل بكم مثل هذا النكال، وننزل بكم نظير هذا العذاب إِن بقيتم على ما أَنتم عليه من الشرك والضلال، فهذه هي سنتنا وطريقتنا في عقاب كل من يجرم ويكفر: نأخذه ونهلكه مثل إِهلاكنا من سبق من المجرمين المكذبين، وعلى هذا فالمراد من (الأَوَّلِينَ) كل من كذَّب من الأُمم السابقة، والمراد من (الآخِرِينَ) هم أَهل مكة وأَضرابهم. وقيل المعنى: إِننا أَهلكنا الأَولين من قوم نوح وعاد وثمود، ثم فعلنا ذلك بالآخرين ممن أَتى بعدهم ونهج نهجهم كقوم شعيب وقوم لوط وقوم موسى، ومثل ذلك الفعل الباطش الشديد والعذاب الأَليم نفعل بكل مجرم عات جبار، وعلى هذا الرأَي الأَخير يكون المقصود من (الأَوَّلِينَ) أَقوامًا سبقوا بالكفر كقوم نوح وغيرهم، بالآخرين أَقوامًا سواهم ممن سلف من المجرمين كقوم شعيب ولوط ومن كان يناظرهم، ويكون قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) قد جاءَ إِنذارًا وتخويفًا من عاقبة الكفر وسوء أَثره كي يرتدع وينزجر أَهل الشرك والكفر بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وإِلاَّ كان مآلهم التدمير والهلاك؛ لأَن الله قد أَهلك من أَهلك لكونهم مجرمين، فهذا الحكم عام في جميع المجرمين؛ لأَن عموم العلة -وهي الإِجرام- يقتضي عموم الحكم وهو العذاب. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أَي: إِن هؤلاءِ وإِن أَهلكوا وعذبوا في الدنيا فلن يكون هذا نهاية هوانهم وعذابهم، فالمصيبة العظمى والطامة الكبري معدة ومهيأَة لهم تنتظرهم يوم القيامة.

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)): المفردات: (مَاءٍ مَهِينٍ): ماء ضعيف حقير وهو النطفة. (قَرَارٍ مَكِينٍ): مكان حصين حريز وهو الرحم. (إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ): إِلى أَن نصوِّره ونسويه، أَو إِلى وقت الولادة. (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ): قَدَّرنا ذلك وأَحكمناه، أَو قَدَرنْا على ذلك وتمكنا منه. التفسير: 20 - 24 - (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: خَلقناكم من ماءٍ حقير وهو النطفة المذرة، وجعلنا هذه النطفة وثبتناها في مكان حصين وهو رحم المرأَة، إِلى أَن يتم خلقه وتصويره وتسويته فينزل من ذلك الرحم في وقت معلوم وزمن مقدر وهو وقت الولادة (فَقَدَرْنَا) أَي: قَدَّرنا ذلك ودبرناه وأَحكمناه فجاءَ بشرًا سويًّا، أَو تمكنا من ذلك وقدرنا عليه لأَنه في قبضتنا وتحت سلطاننا وقهرنا (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ): فنعم المقدرون لذلك نحن، أَي: قدرتنا هي المدح والثناء على الله منه -سبحانه- لأَنه صاحب المن والفضل، وهو مولى النعم والحكيم الخبير، فليس أَحد يدانيه في ذلك، أَو: فنعم القادرون على ذلك نحن إِذ لا يقدر عليه أَحد سوانا، فإِلينا يرجع الأَمر كله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): بعد أَن بين الله لهم عظيم إِنعامه عليهم بخلقهم وتصويرهم في أَحسن هيئة وأَبدع صورة جاءَ تخويفهم بالويل والهلاك؛ لأَن النعمة إِذا

جلَّت وعظمت كانت جنايتهم في حقه -تعالى- بالإِنكار والتكذيب أَقبح وأَفحش، وكان العقاب على ذلك أَشد وأَفظع. (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)): المفردات: (كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا): ضامة وجامعة للأَحياءِ على ظهورها. وللأَموات في بَطْنها. (رَوَاسِيَ): ثوابت. (شَامِخَاتٍ): طوال. (مَاءً فُرَاتًا): عذبًا حلو المذاق. التفسير: 25 - 28 - (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: قد جعلنا الأَرض ضامة وجامعة لكم في حياتكم؛ فلذللها لتمشوا في مناكبها وتسيروا في جنباتها وطرقها. وتسكنوا في منازلها ودورها، وجعلها أَيضًا جامعة لما تحتاجون إِليه من أَمر معاشكم. كما جعلها ضامة وكافتة للأَموات يدفنون في جوفها. وجاءَ التنكير في قوله: (أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا) للتفخيم والتكثير. أَي: تضم وتكفت أَحياءً لا يعدُّون وأَمواتًا لا يحصرون. كما أَوجدنا وخلقنا في الأَرض جبالًا ثوابت عاليات كي لا تميد الأَرض ولا تضطرب بكم؛ لتسلكوا فيها سبلًا فجاجًا وطرقًا كثيرة. وذلك في أَمن ويسر وفضلًا عن

أَن في الجبال بعد ذلك من الفوائد الجليلة ما يعطف القلب ويلفت النظر إِلى التفكر في مزيد فضل الله على الإِنسان، إِذ أَن هذه الجبال تنزل الأَمطار عليها وترتطم بها السحب الركامية ويحدث من ذلك السيول الجارفة التي تشق طريقها في الأَرض وتتكون الأَنهار العذبة فيسقي الله منها الإِنسان والحيوان، وينبت الزرع ويدر الضرع، وتحيا الأَرض بعد موتها، وذلك ممَّا يدعو إِلى التبصر والاعتبار، وجاءَ قوله تعالى: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) أَي: عذبًا سائغًا شرابه، جاءَ كالأَثر الطيب المبارك المترتب على تذكير الله لهم بنعمة خلق الجبال وإِيجادها. (وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أَي: عذاب شديد للمنكرين لهذه النعم التي لا يخفى نفعها ولا ينكر أَثرها العظيم إِلاَّ كلُّ مكذب جاحد. (انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)) المفردات: (انطَلِقُوا): سيروا واذهبوا. (ظِلٍّ): دخان. (لا ظَلِيلٍ): غير مظل من حر الشمس. (وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ): اللهب: ما يعلو على النار إِذا اضطرمت، أَي: لا يدفع من لهب جهنم شيئًا. (بِشَرَرٍ): جمع شررة، وهو ما يتطاير من النار متبددا في كل جهة.

(كَالْقَصْرِ): كالبناءِ العالي العظيم، وقيل: غير ذلك. (جِمَالَةٌ): جمع جمل، وقيل: غير ذلك وسيأتي. التفسير: 29 - 31 - (انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ): أَمر الله هؤلاءِ المكذبين -أَمر إِهانة وتوبيخ وتقريع- أَن يذهبوا ويسيروا إِلى ما كانوا يجحدون به وينكرونه من عذاب يوم القيامة؛ أَمرهم بذلك أَولًا أَمرًا عامًّا ولم يبين لهم فيه كنه العذاب ولا صفته ولا صورته، ثم أَمرهم -ثانيًا- بقوله: (انطَلِقُوا) أَي: اذهبوا لتلقي أَول مراتب هذا العذاب ومنازلة، الذي وضحه -سبحانه- بقوله: (إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أَي: إِلى الاستظلال بدخان جهنم الذي قد انقسم وتفرق -لعظمه وشدته- إِلى ثلاث شعب؛ شعبة وطائفة منه تكون من فوقهم، وأُخرى من تحتهم، وثالثة تحيط بهم من كل جانب، وذلك كقوله: "لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ" (¬1)، وقوله " يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ" (¬2) أَو شعبة على يمينهم، وشعبة على يسارهم، وشعبة ثالثة من فوقهم. ويحتمل أَن تكون تلك الشعب الثلاث للمنافقين، وللكافرين، وللعصاة من المؤمنين، لكل فريق شعبة توافق وتناسب جرمه وذنبه، فتظلهم تلك الشعب حتى يفرغ من حسابهم، أَما المؤمنون فهم في هذا الوقت في ظل عرش الله. (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ): جاءَت هذه الآية قاطعة لرجائهم ومخيبة لآمالهم من أَن يكون في ذلك الظل راحة لهم؛ إِذ قد بين -سبحانه- أَنه غير مظل وغير مفيد ولا مسعد من يستظل به من حر الشمس، ففي الأَثر: إِن الشمس تقرب يوم القيامة من رءُوس ¬

_ (¬1) من الآية: 16 - من سورة الزمر. (¬2) من الآية: 55 من سورة العنكبوت.

الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس ولا كفان فتلفحهم الشمس وتسفعهم (¬1)، وتأخذ بأَنفاسهم، ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إِلى ظلٍّ من ظلِّه، فهناك يقولون: فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم، ويقال للمكذبين: انطلقوا إِلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه: كذلك لا يدفع عنهم هذا الظل لهب النار، وقيل: لا يحول بينهم وبين العطش (¬2) الذي تنالهم شدته وإنما سمى ما هم فيه ظلاَّ على طريق التهكم بهم والسخرية منهم. 32 - (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ): أَي: إِن النار ترمي وتقذف بشرر -وهو ما يتطاير من النار متبددًا في كل جهة- كل شررة منه في عظمها كالقصر. وهو البناءُ العالي العظيم، أَو الحِصن المنيع -وقيل: المراد من القصر: جمع قَصْرة، وهي الحطب الجزل الغليظ، أَو هو أُصول النخل والشجر العظام وأَيًّا ما كان الأَمر فإِنها النار التي وقودها الناس والحجارة التي تكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غضبها على الكفار "تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ" (¬3). 33 - (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ): الجمالة: جمع جمل، لحقت به التاءُ لتأنيث الجمع. أَو أَن جمالة: جمع جمال، وجمال: جمع جمل، فيكون من قبيل جمع الجمع. وإِذا كانت الشررة مثل القصر الضخم أَو الحصن العالي العظيم أَو كأُصول الشجر العظام فكيف يكون حال النار التي ترمي بذلك؟ أَعاذنا الله منها. وشبه الشرر -أَولًا- بالقصر لعظمه وضخامته، ثم شبه -ثانيًا- في اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر، أَي: السود التي تضرب إِلى الصفرة، قال ¬

_ (¬1) الكفان: وقاء كل شيء ولفحت النار بحرها: أَحرقت. وسفح السموم وجهه: لفحة لفحا يسيرا. (¬2) قال قطرب: اللهب هنا: العطش، يقال: لهب لهبا ورجل لهبان؛ وامرأة لهبى. (¬3) من الآية: 8 من سورة الملك.

(هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37))

الفراءُ: لا ترى أَسود من الإِبل إِلاَّ وهو مشوب بصفرة، والشرر إِذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أَشبه بالجمل الأَسود الذي يشوبه شيءٌ من الصفرة. وقال الإِمام الفخر الرازي: وزعم بعض العلماءِ أَن المراد هو الصفرة لا السواد؛ لأَن الشرر إِنما يسمى شررًا ما دام يكون نارًا، ومتى كان نارًا كان أَصفر، وإِنما يصير أَسود إِذا انطفأ، وهناك لا يسمى شررًا، وهذا القول عندي هو الصواب أهـ. 34 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: خزي وهوان وعذاب لهؤلاءِ الذين ينكرون ويجحدون هذا الوعيد أَو يسخرون منه. (هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)) المفردات: (لا يَنطِقُونَ): لا يتكلمون ولا ينطقون بشيءٍ ينفعهم. (فَيَعْتَذِرُونَ): فليس لهم عذر يعتذرون به ويحتجون. التفسير: 35 - (هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ): الإِشارة في قوله: (هَذَا يَوْمُ) إِلى وقت دخولهم النار، أَو مشاهدتهم لها، أَي: هذا يوم لا يتكلمون فيه بشيءٍ وذلك لعظم دهشتهم وفرط حيرتهم واضطرابهم، ولا ينافي أَن لهم نطقًا وكلامًا في موطن وموضع آخر؛ لأَن يوم القيامة طويل، له مواقيت، ففي بعضها ينطلقون وفي بعضها لا ينطقون، أَو أَنهم لا ينطقون بشيءٍ ينفعهم؛ فجعل نطقهم كلا نطق قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإِن كانوا ينطقون.

(هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40))

36 - (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ): أَي: أَنهم لا يؤذن لهم في العذر والتنصل ممَّا أَتوا به من جرائم وقبائح (فَيَعْتَذِرُونَ) وهم أَيضًا لم يعتذروا؛ وكونهم لهم يعتذروا ليس راجعًا إِلى عدم الإذن لهم في الاعتذار، ولكنه راجع إِلى عدم العذر في نفسه، أي أَنه لا عذر لديهم يعتذرون ويحتجون به، ويستندون إِليه. وقال الزمخشري: (فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على (يُؤْذَنُ) منخرط في سلك النفي. أَي: أَن النفي يشملهما وينصب عليهما معًا. 37 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: هوان لهم، وخزي يلحقهم من انقطاع عذرهم وافتضاح أَمرهم على رءُوس الأَشهاد يوم القيامة، بالإِضافة إِلى رؤيتهم المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، وقد فازوا بالثواب العظيم من رب العالمين، أَما هم فقد باءُوا بالنكال والذل بمشاهدتهم النار وأَهوالها التي هي مشواهم وبئس المصير. (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)) المفردات: (وَالأَوَّلِينَ): السابقين لكم. (كَيْدٌ): حيلة ومكر تمكرون به. التفسير: 38 - (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ): أَي: هذا يوم يفصل الله فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من البطل، ويفضل بين الرسل وأُممهم؛ كيَلا يكون لأَحد حُجَّة. (جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ): أَي: جمع الذين كذبوا محمدًا والذين كذبوا النبيين من قبله.

39 - (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ): هذا تهديد شديد ووعيد أَكيد، أَي: فإِن قدرتم على الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا، وأَنَّي لكم ذلك؛ فإِن الحيل والمخادعة في هذا اليوم قد انقطعت وأَصبحت غير ممكنة أَو فإِن تمكنتم من أَن تتخلصوا من قبضي وتنجوا من حكمي فافعلوا، ولكنكم لا تقدرون، وذلك كقوله تعالى: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ" (¬1)، وقوله -سبحانه- في الحديث القدسي: "يَا عبادِي إِنكمْ لَنْ تَبْلُغوا نَفْعِي فَتنفعونِي، ولَن تَبلغوا ضُري فَتَضرونِي". فخطاب الله لهم في هذه الحالة نهاية في تخجيلهم وتقريعهم وتوبيخهم، لذا جاءَ عقيبه قوله تعالى: 40 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: هوان وإِيلام لهم، لأَن التوبيخ لهم في هذا الموطن ضرب ولون من أَلوان العذاب (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)) المفردات: (مِمَّا يَشْتَهُونَ): ممَّا يتمنون. (هَنِيئًا): لا يشوبه سقم ولا تنغيص. التفسير: بعد أَن أَبان -سبحانه- ما ينتظر الكفار والعصاة من بعثهم ودفعهم (إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبِ * لا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ... ) إِلخ ما جاءَ في تهديدهم ووعيدهم، أَخبر ¬

_ (¬1) الآية 33 من سورة الرحمن.

-جل شأْنه- بما يصير إِليه المتقون وينعمون به، فبيَّن أَنه -سبحانه- قد أَعدًّ وهيأَ لهم أَنواعًا من نعمة فقال: 41، 42 - (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ): كأَنه قيل: ظلال الكافرين ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية لهم عن اللهب والعطش أَما المتقون فظلالهم ظليلة؛ لأَنهم في ظلال الأَشجار وظلال القصور في الجنة وفيها عيون عذبة مغنية لهم من العطش، ومانعة وحاجزة بينهم وبين اللهب، ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها. 43 - (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ): أَمرهم -جل شأْنه- أَمر تكريم وإِعزاز فقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أَي: كلوأَكلًا، واشربوا شربًا خالص اللَّذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص وذلك جزاءِ عملكم الحسن وطاعتهم لله في الدنيا دار التكليف، وفي هذا من إِدخال السرور والرضا على نفوس المؤمنين، وفيه من التبكيت والتحسير للمكذبين؛ لأَنه يذكِّرُهم بما فاتهم من النعم العظيمة ليعلموا أَنهم لو كانوا من المتقين المحنسين لفازوا وظفروا بمثل تلك الخبرات، ونالوا عظيم الدرجات، ولكنهم كانوا في سخط الله وغضبه وعظيم عذابه؛ بسبب كفرهم وتكذيبهم. 44 - (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ): أَي: مثل هذا الجزاء الحسن العظيم نكافئ ونجزي المحسنين لا بخس ولا نقض. والمحسنون: هم الذين أَحسنوا في تصديقهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأَحسنوا في أَعمالهم في الدنيا. 45 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: نكال وخزي على الكافرين حيث يرون السعادة للمؤمنين، أَما هم ففي العذاب خالدون. (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47))

المفردات: (مُجْرِمُونَ): كافرون أَو عاصون. التفسير 46 - (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ): أَي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك يوم القيامة؛ تذكيرًا لما كان يقال لهم في الدنيا وتحسيرًا وتخسيرًا لهم؛ وهم جديرون أَن يخاطبوا بذلك حيث تركوا الحظ الوفير، والنصيب الجليل الكثير الدائم، إِلى القليل الحقير، والنزر اليسير، وآثروه وهو الزائل الفاني على الدائم الباقي، و (المجرمون) هم الكافرون، وقيل: كل مكتسب فعلًا يضره في الآخرة من الشرك والمعاصي، وفيه دلالة على أَن كل مجرم نهايته تمتع أَيام قليلة ثم يبقى عذاب وهلاك أَبدًا. 47 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: هلاك لهم يوم القيامة بسبب أَكلهم وتمتعهم في الدنيا بطعام وشهوات ذهبت لذاتها، ويذوقون الآن حسراتها وشدائدها. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)) المفردات: (ارْكَعُوا): صلوا، وقيل: غير ذلك. التفسير: 48 - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ): أَي: وإِذا قيل لهؤلاءِ المشركين: أَطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا له -عز وجل- وذلك بقبول وحيه -تعالى- واتباع دينه، وارفضوا الاستكبار وحمية الجاهلية، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويصرون على ما هم عليه من التولي والإِعراض والاستكبار، وهذه حكاية

عمَّا كانوا عليه في الدنيا يذكرون بها في الآخرة؛ ليشتد ندمهم وتزيد حسرتهم وأَلهم، وقيل: وإِذا قبل لهم: صلوا لا يصلون؛ إِذا المراد من الركوع هو الصلاة؛ لأَنه من أَهم أَركانها، ويطلق عليها -كثيرًا- في لسان الشرع. روي عن مقاتل: أَن الآية نزلت في ثقيف، فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: حط عنا الصلاة فإِننا لا ننحني؛ فإِنها مسبّة علينا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لاَ خَيْرَ في دينٍ لَيْسَ فيهِ ركوعٌ ولا سجودٌ"، وعن ابن عباس أَنه قال: هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أَجل أَنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. ويذكر أَن الإِمام مالكًا - رحمة الله - دخل المسجد بعد صلاة العصر -وهو ممن لا يدري الركوع بعد العصر- فجلس ولم يركع، فقال له صبيٌّ: يا شيخ قم فاركع، فقام فركع ولم يحاجّه بما يراه مذهبًا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أَن أَكون من الذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ). 49 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): أَي: ويل وثبور لمن يكذب هؤلاءٍ الأَنبياءَ الذين يرشدونهم إِلى ما يجمع لهم من خيرات الدنيا والآخرة. 50 - (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ): أَي: إِن لم يصدقوا بهذا القرآن العظيم الذي جاءَ بلغتهم وتحداهم أَن يأْتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم هاجهم وأَثارهم بقوله تعالى: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (¬1) ولكنهم أَصابهم العي والحصر، وعمهم وشملهم العجز، أَي: إِن لم يصدقوا ويؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليتها ووضوحها فبأَي شيءٍ يصدقون ويذعنون له بعد ذلك؟! إِنه العمى في أَبصارهم، والرَّان والطمس على قلوبهم، والجحد والحسد في نفوسهم، وصدق الله العظيم: "فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" (¬2). والله أَعلم. ¬

_ (¬1) الآية 88 من سورة الإسراء. (¬2) من الآية 33 من سورة الأنعام.

سورة النبأ

سورة النبأ مكية، وعدد آياتها أَربعون آية وتسمى أَيضا "عم" وعم يتساءلون مناسبتها لما قبلها: أَنها ركزت على إِثبات القدرة على البعث، وكان محور السُّورِ السابقة عليها هو تكذيب الكفرة به وذلك بالرد عليهم وإِثبات جهالتهم، كما أَنها تشترك مع ما قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار ووصف يوم الفصل الذي ذكر هنا مفصلا وفيما قبلها مجملا. مقاصد السورة: ابتدأَت بالحديث عن يوم القيامة، والبعث والجزاءٍ، ذلك الموضوع الذي شغل الكثيرين من كفار مكة حتى صاروا ما بين مصدق به وشاكٍّ ومكذب (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ .. ) الآيات. أَقامت الأَدلة على إِمكان البعث بما عرضت من مظاهر القدرة التي تشير إِلى أَن من قدر على هذا الإِبداع، لا يعجزه إِعادة خلق الإِنسان (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا ... ) الآيات. أَبرزت تأَكيد البعث بذكر بعض علاماته التي تنبئ بوقوعه لا محالة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ... ) الآيات. تحدثت عن جهنم التي أَعدها الله للطاغين، وما فيها من أَلوان العذاب وصنوف العقاب: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا .. ) الآيات. تحدثت عن المتقين بيان ما يتمتعون به من أَنواع النعيم الدائم (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ... ) الآيات. أَشارت إِلى قيام الروح والملائكة بين يدي رب العالمين، وبينت حالهم في هذا الموقف العظيم: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ... ) الآية. وختمت السورة بالإِنذار والتخويف من هذا اليوم الرهيب الذي حمل رُعْبُهُ كلَّ كافر على أَن يقول: يا ليتني كنت ترابًا (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ... ) الآية.

(بسم الله الرحمن الرحيم) عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)): المفردات: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ): الأَصل: عن ما يتساءَلون، أُدغمت النون في الميم، وحذفت أَلف ما في الاستفهام تخفيفًا لكثرة الاستعمال. (عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ): عن الخير الذي له شأْن وخطر. (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا): ممهدة للخلائق ذلولًا لهم. (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا): أَي: كالأَوتاد أَرسينا بها الأَرض حتى قرَّت وثبتت كما يرسي البيت من الشعر ونحوه بالأَوتاد. (نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): قاطعًا عن الحركة، من السبب: وهو القطع؛ لأَنه يقطع الإحساس والحركة.

(اللَّيْلَ لِبَاسًا): يستركم بظلامه كما يستركم اللباس. (النَّهَارَ مَعَاشًا): تتقلبون فيه فهو وقت تحصيل عيشكم. (سَبْعًا شِدَادًا): أَي: سبع سماوات قوية الخلق بديعة الصنع. (سِرَاجًا وَهَّاجًا): مشرقًا متلأْلئًا من وهجت النار إِذا اتقدت، والمراد به: الشمس. (وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ): وهي السحائب حانت وقاربت أَن تعصرها الرياح فتمطر. (مَاءً ثَجَّاجًا): شديد الانصباب، يقال: ثَجَّ الماء: إِذا سال بكثرة، وثجه: أَساله، ورد لازمًا ومتعديا. (حَبًّا وَنَبَاتًا): الحب: ما يقتات به نحو الحنطة والنبات: ما يؤكل خضرًا رطبًا من التبن والحشيش. (وَجَنَّاتٍ) المارد بها: كل بستان يستر بأَشجاره الأَرض،، من الجَنِّ وهو الستر. (أَلْفَافًا): ملتفة تداخل وتشابك بعضها ببعض، وهو اسم جمع لا واحد له، أَو جمع لفيف بمعنى ملفوف، كشريف وأَشراف، أَو ليف كجِذْغ وأَجذاع. التفسير: 1 - 3 - (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): أَي: عن أَي شيءٍ يتساءَلون. والضمير لكفار مكة وإِن لم يسبق ذكرهم وفي ترك ذكرهم إهانة واحتقار لهم، وكانوا يتساءَلون فيما بينهم عن البعث ويخوضون فيه إِنكارًا له واستهزاءً به لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أَحواله، ووصف من أَوصافه. وقيل: كانوا يتساءَلون، أَي: يسأَلون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بطريق السخرية والتكذيب ويجيء (تفاعل) بمعنى فَعل كتواني زيد، بمعنى ونَى، وتَدانَى الأَمرُ، بمعنى دنَا، وتعالى الله عما يشركون، بمعنى علا، ومنه تساءَل بمعنى سأَل.

وليس المراد بالاستفهام في بدءِ السورة الاستعلام وإِنما أَريد به تفخيم المسئول عنه بإِبهام أَمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتشويقهم إِلى معرفة شأْنه، فإِن إِيراده من علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية، تنبيه على أَنه خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأَن يعتني بمعرفته، ويسأل عنه، كأنه قيل: عن أَي شيءٍ يتساءَلون؟ ثم قيل بيانًا للمسئول عنه بطريق الجواب يتساءلون (عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أَي: عن الخبر الذي له شأنه وخطره وهو البعث، ثم وصف بالعظيم لتأكيد ذلك وقد ورد الجواب على منهاج قوله تعالى: "لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" (¬1) حيث كان السؤال والجواب من الله تعالى. (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): وصف ثان للنبأ بعد وصفه بالعظيم تأْكيدا لخطره؛ فهو تأْكيد إِثر تأكيد للمبالغة، أَو إِشعارًا بالباعث على التساؤل عنه، وإِيثار أَن تكون صلة الموصول جملة اسمية للدلالة على الثبات، أَي: هم راسخون في الاختلاف فيه فمنهم منكر جازم باستحالته يقول: "إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" (¬2) ومنهم شاكٌّ يقول: "مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ" (¬3) ومن الاختلاف أَن منهم من ينكر الْمعَاديْنِ: البعث والقيامة كهؤُلاءِ، ومنهم من ينكر البعث الجسماني فقط، وحمل بعضهم الاختلاف في كيفية الإِنكار، فمنهم من ينكر البعث لإِنكار الصانع المختار، ومنهم من ينكره بناءً على استحالة إِعادة المعدوم بعينه، وقيل: إِن الضمير في (يَتَسَاءَلُونَ) للمسلمين والكافرين، وكانوا جميعًا يتساءَلون عنه: فالمسلم يسأل ليزداد خشية واستعدادًا، والكافر يسأَل ليزداد كفرًا وعنادًا. 4 - (كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ): بدأَت الآية الكريمة بقوله -سبحانه وتعالى-: (كَلاَّ) لردع منكري البعث عن التساؤُل عنه، وعن مخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إِنكارهم له أَوشكهم في وقوعه، ¬

_ (¬1) غافر، الآية 16. (¬2) المؤمنون، الآية 37. (¬3) الجاثية، من الآية 32.

وقوله تعالى: (سَيَعْلَمُونَ) وعيد لهم وزجر على ما حدث منهم من تساؤُل، واستهزاء وتعليل للردع بطريق الاستئناف، والسين للتقريب والتأكيد، أَي: ليرتدع هؤُلاءِ عَمَّا هم فيه، فإِنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إِذا حل بهم العذاب والنكال، ونزلت بهم الدواهي ومختلف العقوبات وفي ذلك من الوعيد ما فيه، وقيل المعنى: سيعلمون ما يتساءَلون عنه وهو البعث فيخجلون استخزاءً من تساءُلهم واستهزائهم بين يدي ربهم - عز وجل. 5 - (ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ): تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة فيها، فكأنه قيل: لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان، ثم قيل: بل لهم يومئذ عذاب أَشد وأشد، وثم للتفاوت في رتبة العذاب بين الردع الأَول والثاني، وقيل: إِن الجملة الأُولى تشير إِلى ما يكون عند النزع، وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء، والجملة الثانية تشير إِلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب، وملاقاة شديد العقاب، وعلى هذا فـ (ثُمَّ) في مكانها من إِفادة التراخي لما بين الأَمرين من البعد الزماني. 6 - (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا): استئناف مَسوق لتحقيق النبأ العظيم بتعداد بعض الدلائل الناطقة بكمال قدرته - تعالى - والتي لا يسعهم إِنكارها، ولا مناص لهم من الإِقرار بها فكيف يُنكرون على هذه القدرة إِعادة خلق الإِنسان علمًا بأَن مَنْ قدر على الإِنشاء كان على الإِعادة أَقدر. وجوز أَن يكون بتقدير (قُلْ) كأَنه قيل: قل كيف تنكرون البعث أَو تشكون فيه وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة، والعلم المحيط، والحكمة الباهرة المقتضية لا يكون ما خُلِق عبثًا؟! والاستفهام في الآية للتقرير بما بعده، كأَنه قيل لهم: قد جعلنا الأَرض التي تسكنونها موطأَة لكم كالفراش للاستقرار عليها، والتقلب في أَنحائها للانتقاع بسهولها الواسعة، واستخراج كنوزها المتنوعة، فَأَقِرُّوا بفضل الله عليكم.

7 - (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا): أَي: هي للأَرض كالأوتاد التي تُشَد بها البيوت من الشعر ونحوه، صيانة لها من أَن تتقاذفها الرياح، أَو تتلاعب بها العواطف، وعلى ذلك فالجبال لتثبيت الأَرض واستقرارها، حتى لا تميد بكم أَو يختل توازنها في دورانها فلا تصلح لسكناكم، مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأَرض لمثلها، وشبهت بالأوتاد لبروزها، أَو لأَنها تحفظ الأَرض من الْمَيَدَانِ والاضطراب. 8 - (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا): أَي: مزدوجين ذكرًا وأُنثى ليتم الائتناس، والتعاون، وحفظ الجنس، وينتظم أَمر المعاش، وقيل: أَصنافًا من اللون، والصورة، واللسان. 9 - (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): أَي: جعلناه كالسبات -وهو الموت- من السبْت: وهو القطع، ووجه تشبيه النوم به لما فيه من قطع الحركة والعمل، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (¬1) وهذا اختيار المحققين، وقد قيل: النوم أَحد الموتتين، وفي البحر: جعلناه سباتًا، أَي: سكونًا وراحة ... يقال: سبت الرجل: إِذا استراح. 10 - (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا): أَي: ساترا لكم بظلمته كما يستركم اللباس، ويقول الآلوسي: (ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به، ما يُستتر به عند النوم كاللحاف ونحوه، فإِن تشبيه ستر الليل به أَكمل، واعتباره في تحقيق المقصد أَدخل) وهو كون الظلام محيطًا بكم كإِحاطة ما يستتر به عند النوم. والرأَي الذي اختاره غير واحد: إِرادة الأَعم من الذي يستتر به عند النوم وغيره، وأَن المعنى: جعلناه ساترًا لكم بظلمته عن العيون، وللناس في هذا الستر فوائد اللباس، فكما ¬

_ (¬1) الأنعام، من الآية: 60

أَن اللباس يستر العورات عن النظر كذلك اللَّيل يستركم عن العيون إِذا أَردتم هربًا من عدو، أَو فرارًا من حيوان مفترس، ويختفى فيه الكامن للوثوب على عدوه للتخلص منه، والنجاة من شره، ويتقي به كل من أراد أَلا يُطلع الناس على كثير من أُموره. 11 - (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا): أَي: وقت حياة تُبعثون فيه من نومكم الذي هو أَخو الموت، ولما جعل -سبحانه- النوم موتًا مجازًا جعل -سبحانه- اليقظة حياة كذلك، والنهار زمن هذه الحياة، فهو وقت معاش، يستيقظون فيه ويتقلبون في حوائجهم ومكاسبهم، قال ابن كثير: أَي: جعلناه مشرقًا منيرًا وضيئًا ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك. 12 - (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا): وهي السموات السبع جعلها -سبحانه- محكمة متقنة وزينها بالكواكب، ومع اتساعها وارتفاعها لا يسقط منها شيءٌ، ولا تتأَثر بمرور الأَزمان، وتتابع الدهور لشدتها البالغة، والتعبير عن خلقها بالبناءِ مبني على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق عند النظر إِليها. 13 - (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا): أَي: وخلقنا وأَبدعنا كوكبًا مضيئًا متلأْلئًا، وهو الشمس التي يتوهج ضوؤها لأَهل الأَرض كلهم دائمة الحرارة والتَّوقُّدِ، قال المفسرون: الوهاج: المتوقد الشديد الإِضاءَة ويلتهب من شدته، وقال ابن عباس: المنير المتلألئُ. 14 - (وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا): أَي: أَنزلنا الماء من السحائب التي أَعصرت، بمعنى قاربت وشارفت أَن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه: أَعصرت الجارية: إِذا قاربت أَن تحيض. قال في التسهيل: المعصرات: هي السحب، مأْخوذة من العصر لأَنها تنعصر فينزل الماءُ. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة:

إِن المعصرات الرياح؛ لأَنها، تعصر السحاب فيمطر، ولما كان المطر يسببها سميت معصرات والأَصل في المطر تكاثف أَبخرة المياه المتصاعدة من المحيطات والبحار ونحوها على شكل سحب، وتحويلها إِلى نقط من الماء أَو حبات من الثلج، أَو هما معًا. (مَاءً ثَجَّاجًا) أَي: منصبًا بكثرة متتابعًا كما قال مجاهد وقتادة والثوري وابن زيد. 15 - (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا): أَي: لنوجد بهذا الماء الكثير المنافع ما يدخر للأَناسي والأَنعام ويقتات به كالقمح والشعير وما يؤكل خضرًا ويابسًا كالحشيش والتبن، وتقدم الحب مع تأَخره في الإِخراج عن النبات لأَصالته وشرفه، لأَن غالبه غذاء الإِنسان. 16 - (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا): أَي: ولنخرج به بساتين وحدائق، وأُطلِق عليها (جَنَّاتٍ) لأَن بكل منها أَشجارًا تستر وجه الأَرض، وقال الفراء: الجنة: ما فيها النخيل، والفردوس: ما فيه الكْرم. (أَلْفَافًا): أَي: إِن هذه الجنات ذات الثمار المتنوعة والألوان المختلفة والطعوم المتميزة والروائح الطيبة قد التفت أَغصانها، وتشابكت أَفنانها وتداخل بعضها ببعض، لتقارب أَشجارها وتكامل نموها. (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا (30))

المفردات: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ): وهو يوم القيامة؛ لأَن الله يفضل فيه بين خلقه. (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ): المراد: النفخة الثانية، والصور: البوق وهو معروف. (أَفْوَاجًا): أَي: أمما كل أُمة معها إِمامها، أَو زُمَرًا وجماعات متباينة. (فَكَانَتْ أَبْوَابًا): شقوقًا وشروخًا كالأَبواب. (فَكَانَتْ سَرَابًا): أَي: مثل سراب، وهو ما تراه نصف النهار كأنه ماء فإِذا جئته لم تجده شيئًا. (كَانَتْ مِرْصَادًا): أَي: موضع رصد وترقب، ترقب فيه خزنة النَّار الطاغين لتعذيبهم. (مَآبًا): أَي: مآلا ومرجعًا. (مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): دهورًا متتابعة لا نهاية لها، جمع حُقُبٍ -بضم وسكون، وبضمتين- وفسر بالدهر أَو السنة أَو السنين، وعن ابن مسعود أنه ثمانون سنة، وعن أَبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم أَنه سبعون سنة. (حَمِيمًا): الحميم: هو الماء البالغ الغاية في الحرارة. (وَغَسَّاقًا): وهو ما يسيل من أَهل النار من الصديد، وفي القاموس: البارد المنْتِن. (كِذَّابًا): أَي: تكذيبًا شديدًا، ومجيء (فِعَّال) بمعنى (تفعيل) في مصدر (فَعَّلَ) سائغ في الفصيح، وعن الفراء أَنها لغة يمانية. التفسير 17 - (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا): بعد أَن بين الله لهم بهذه الدلائل المشاهدة قدرته الباهرة ليزمهم الحجة في أَمر البعث حتى لا يجدوا سبيلا إِلى جحوده، بعد ذلك هددهم أَشد التهديد ببيان أَن الساعة آتية لا محالة، وفيها فصل القضاء بين الحق والباطل، والحساب والجزاء، فقال تعالى:

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا): أَي إِن يوم القيامة مؤقت بأَجل محدود في علم الله لبعث الأَوَّلين والآخرين لا يزاد عليه ولا ينقص عنه كما قال -سبحانه-: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (¬1) وفي ذلك رد على من كانوا يستعجلون قائلين: "مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ" (¬2). 18 - (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا): الآية وما يتلوها نوع تفصيل لكيفية وقوع يوم القيامة وما يقع فيه من أَهوال، و (يَوْمَ) في قوله تعالى: (يَوْمَ يُنفَخُ) وقع بدلان من يوم الفصل، أَو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، أَي: أَن يوم الفصل هو يوم النفخ في الصور الذي يحدث فيه ما يحدث، والمراد، النفخة الثانية لإسرافيل -عليه السلام- في الصور، وهو القرن الذي أُعد لذلك، وقيل: هذا تصوير لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إِلاَّ نفخة في بوق يصدر عنها صوت عظيم بعيد المدى. وعلينا أَن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أَن نعلم ما هي حقيقة هذا الصور، والبحث في هذا لا يسوغ، وليس علينا من حرج في تركه، ولا ضير في تأَخير الفصل عن النفخ حسب وقوعه -فإِن زمان القيامة زمن ممتد يقع النفخ في أَوله، وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) أَي: فتبعثون من قبوركم فتأَتون إلى الموقف -عقب ذلك بغير مهلة أصَلا- أُمما، كل أَمة بإِمامها كقوله تعالى: "يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ" (¬3) أَو زُمَرًا وجماعات مختلفة الأَحوال متباينة الأَوصاف حسب اختلاف الأَعمال وتباينها. 19 - (وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا): أَي: شقوقًا اتخذها الملائكة طرقًا ومسالك لنزولهم، كقوله تعالى: "وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ¬

_ (¬1) هود، الآية 104. (¬2) يس، من الآية: 48. (¬3) الإسراء، من الآية 71.

السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا" (¬1) فإِذا شققت السماء لوقوع الاضطراب في نظامها وذهاب التماسك بينها، فهي كالأبواب، وقد فسر الفتح بالشق لقوله تعالى: "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" وقوله: "إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ" ولعل نكتةَ التعبير بالفتح عن الشق الإِشارةُ إِلى كمال قدرته -تعالى- حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة، أَو على التشبيه البليغ، أَي: فصارت شقوقها لسعتها كالأَبواب، أَو فصارت من كثرة شقوقها كأَنها ليست إِلا أَبوابًا مفتحة، وفي هذا تصوير لما يحدث في هذا اليوم من شدائد وخطوب. 20 - (وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا): تمثيل لِمَوْرِ الأَرض في ذلك اليوم حيث تفتتت الجبال بعد اقتلاعها من مقارها، وسيرت في الجو على هيئاتها، كما يعرب عنه قوله تعالى: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ" (¬2). أَي: أَنك تراها رأْي العين فتحسبها ساكنة في أَماكنها مع أَنها تمر مر السحاب الذي تسيره الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أَن الأَجرام العظيمة إِذا تحركت نحوًا من الأَنحاء لا تكاد تظهر حركتها وإن كانت في غاية السرعة، ولا سيما من بعيد، ويشير تشبيه سرعة الجبال في سيرها بسرعة الحساب إِلى تشبيه آخر، وهو تشبيه حالها بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق بذلك قوله تعالى: "وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" (¬3). وهذا الصنيع العظيم عند حشر الخلائق ليشاهدوما ثم يفرقها -سبحانه- في الهواء، وذلك قوله تعالى: (فَكَانَتْ سَرَابًا) أَي: فصارت بعد تَسييرها مثل سراب، فترى كأَنها جبال، وليست بجبال، وإِنما هي غبار عظيم متراكم يحسبه الناظر إِليه من بعيد جبلا، ولكنه ليس بشيءٍ كالسراب يحسبه الرائي وقت الظهيرة ماءً، حتى إِذا جاءَه لم يجده شيئًا. ¬

_ (¬1) الفرقان، الآية: 25 (¬2) النمل، من الآية: 88 (¬3) القارعة، من الآية: رقم 5

فالكلام على التشبيه البليغ، والجامع بين المشبه والمشبه به أَن كلا من الجبال والسراب يُرَى على شكل شيءٍ وليس هو بذلك الشيءٍ، والجبال وإِن اندكت انصدعت عند النفخة الأُولى لكن تسييرها وتسوية الأَرض إِنما يكون عند النفخة الثانية، ويشير إِلى ذلك قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي" (¬1) واتباع الداعي وهو إِسرافيل -عليه السلام- يكون بعد النفخة الثانية. 21 - (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا): شروع في وعيد المكذبين، وبيان ما يلاقونه من عذاب ونكال في جهنم دار إِقامتهم إِلى لا يبر حونها أَبدًا أَي: إِنها موضع ترصُّد وترقُّب، ترصد فيه خزنة النًّار الكافرين ليعذبوهم، وترصد الجنة المؤمنين ليحرسوهم من قبحها في مجازهم عليها، وقيل: ترصد الملائكة الطائفتين، لتنفذ إِحداهما وهي المؤمنة، وتعذب الأُخرى وهي الكافرة، وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق، وهو أَحد معانيه، فيكون للطائفتين، قال الحسن، وقتادة في قوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) أَي: إِنه لا يدخل أَحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإِذا كان معه جواز نجا، وإلا احتبس، وقيل: اعلموا أنه لا سبيل إِلى الجنة حتى تقطع النار. ذلك لأَنها مجاز وممر للجميع. 22 - (لِلْطَّاغِينَ مَآبًا): أَي: إِنها تكون للمردة العصاة المخالفين للرسل مقرًّا ومرجعًا يرجعون إِليه، ويقيمون فيه. يتجرعون فيه عذابًا غليظًا، وعقابًا شديدا كلما نضجت جلودهم بدلهم الله غيرها ليستمر إِحساسهم بالأَلم وشعورهم به. 23 - (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): أَي: ماكثين فيها يصلون سعيرها دهورًا متتابعة، كلما مضى منها حقب تبعة آخر ¬

_ (¬1) طه، الآيات: 105 - 107 وصدر الآية: 108

إِلى ما لا نهاية فلا يخرجون منها أَبدًا، ولا يخفف عنهم من عذابها، ويؤيد ذلك ما روى عن الحسن أَنه قال: الحقب زمان غير محدود. 24، 25 - (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا): أَي: لا يذوقون في جنهم شيئاً ما من برد، ويراد به برد النسيم الذي يريحهم، وينفس عنهم حر النار وقيل: يراد به النوم، فقد ورد عن بعض العرب: منه البردُ البردَ، أَي: النوم، ولا يذوقون شيئًا من شراب يروى غلتهم، ويسكن عطشهم فيها، (إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا): لكن يتجرعون فيها حميمًا، وهو الماء الحار البالغ غاية الحرارة، وغساقًا وهو ما يسيل من جلود أهل النار من صديد، وقيح، وعرق، ودموع، وفي الحديث: (إِنَّ الرجلَ منهم إِذا أَدنَى ذلكَ من فيهِ سقطَ أَديمُ وجْهِه حتى يبقَى عظامًا تَقَعْقع) ذكره الآلوسي. 26 - (جَزَاءً وِفَاقًا): أَي: الذي صاروا إِليه من العذاب جزاء موافق لأَعمالهم السيئة في الدنيا، بمعنى أَنَّه يقدرها في الشدة والضعف لا يزيد عليها ولا ينقص عنها، كما يقتضيه عدل الله ورحمته. 27 - (إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا): تعليل لاستحقاقهم هذا العذاب، أَي: لأَنهم كانوا لا يخافون أنَ يحاسبوا بأَعمالهم التي اقترفوها. إِمعانًا منهم في الكفر والطغيان، أَو لم يكونوا يعتقدون أَن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون. 28 - (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا): المعنى: أَنهم كانوا يكذبون بآيات الله الدالة على البعث، أَو التي أَنزلها على رسله تكذيبًا شديدًا مفرطًا. 29 - (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا): أَي: وكل شيءٍ من الأَشياء التي من جملتها أَعمالهم. قال أَبو حيان: وكل شيءٍ مما يقع

عليه الحساب والعقاب فهو عام مخصوص (أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) أَي: حفظناه وضبطناه بإِحصائنا له إِحصاءً تامًا، وقد جعل قوله: (كِتَابًا) مصدرًا مؤكدًا لأَحصينا، لأَن الكتابة والإِحصاءِ يتشاركان في معنى الضبط، وأَصل الإِحصاء: من لفظ (الحصا) وكانوا يعتمدون عليها في العد ضبطًا قويًّا تامًّا. ويجوز أَن يكون المراد: وكل شيءٍ أَحصيناه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، أَو في صحف الحفظة، والظاهر أَن الكلام على حقيقته، والكتابة هنا على النحو الذي يليق بتنزيه الله تعالى، وهو أَعلى من كتابتنا التي نعرفها، وأَشد ضبطا، وقال بعضهم: إِنه تمثيل لصورة ضبط الأَشياءِ في علمه تعالى بضبط المحصى المجد المتْقن للضبط بالكتابة، وهذا التمثيل لتفهيمنا، وإِلا فالانضباط في علمه تعالى أَجل وأَعلي من أَن يمثل بشيءٍ. والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق الذي بدئ به بقوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) لبيان أَن ذلك كان لا محالة لأَن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يواجهون بها يوم الجزاءِ. 30 - (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا): ذلك مسبب عن كفرهم بالحساب والجزاء، وتكذيبهم الآيات. روى قتادة عن أَبي أَيوب الأَزدي عن عبد الله بن عمر أَنه قال: لم ينزل على أَهل النار آية أَشد من هذه، فهم في مزيد من العذاب أَبدًا، وأَخرج عبد بن حميد، وجماعة عن الحسن أَنه قال: سأَلت أَبا برزة الأَسلمي عن أَشد آية في كتاب الله تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا) ووجه الأَشدية على ما قبل: إِنه تقريع في يوم الجزاء، وغضب من أَرحم الراحمين، وتأْييس لهم. واستشكل أَمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزاء موافقًا للأَعمال كما في قوله تعالى: (جَزَآءً وِفَاقًا) وأَجيب بأَن العذاب لما كان للكفر والمعاصي، وهي متزايدة في القبح في كل آن، وعلم الله لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك، اقتضى حالهم زيادة العذاب وشدته يومًا فيومًا وقيل: لما كان كفرهم أَعظم كفر، اقتضى أَشد عذاب، والعذاب المزيد يومًا فيومًا من أَشد العذاب، وقيل غير ذلك.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)) المفردات: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا): أَي: فوزًا وظفرًا بطلباتهم ورغباتهم، أو محل فوز بذلك وهو الجنة. (وَأَعْنَابًا): جمع، عنب، ويقال للكرم نفسه ولثمرته. (كَوَاعِبَ): جمع كاعب، وهي التي برز ثدياها واستدارَا مع ارتفاع يسير. (أَتْرَابًا): متساويات في العمر تشبيهًا لها في التساوي والتماثل بالترائب وهو ضلوع الصدر. (وَكَأْسًا دِهَاقًا): مملوءَة. يقال: دهقت الكأْس وأَدهقتها، والكأْس إِناءٌ يشرب فيه أَو ما دام الشراب فيه كما في القاموس. (لَغْوًا): ما لا يعتد به من الكلام. التفسير 31 - (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا): شروع في بيان أَحوال المؤمنين الأَبرار إِثر بيان سوء أَحوال الكافرين أَهل النار، أَي: إِن للمتقين الذين تمسكوا بطاعة ربهم، واتقوا الكفر، إِن لهؤُلاءِ فرزًا وظفرًا في الدنيا بكل محبوب، ونجاة وسلامة من كل مكروه، أَو أَن لهم موضع فوز وظفر بجنات النعيم، وخلاص ونجاة من عذاب الجحيم. ثم بين سبحانه هذا الفوز فقال:

32 - (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا): أَي: بساتين فيها أَنواع من الأَشجار المثمرة، والأَزهار المتفتحة، وأَعنابًا وهي الثمار المعروفة أَو أَشجارها وخصت بالذكر مع اندراجها في البساتين إِشارة لأَهميتها والاعتناء بها. 33 - (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا): أَي: بنات قد استدارت نهودهن مع ارتفاع يسير، متساويات في العمر مع التماثل في صفات الجمال والكمال، والتمتع بالبنات المتصفات بذلك في الجنة على صورة لا نعلم حقيقتها، وغاية ما يجب أَن نصدق به، وأَنه تمتع فائق اللذة على وفق ما يناسب ذلك العالم الأُخروي. 34 - (وَكَأْسًا دِهَاقًا): أَي: وكأْسًا من الخمر مملوءَة مترعة. صحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أَنه قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وأَخرج ابن جرير عن عكرمة أَنه قال: دهاقًا: أَي صافية، وقال القرطبي: المراد بالكأْس الخمر، كأَنه قال: وخمر ذات دهاق: أَي: عُصرت وصُفَّيت. 35 - (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا): أَي: إن أَسماع أَهل الجنة مصونة عن سماع ما لا يعتد به من الكلام، وهو الذي يُورد ويقال لا عن رَوِيَّة وفكر كما قال الراغب، لأَنه يجري مجرى اللُّغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير، وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، وكذا كل ما لا يعتد به مطلقًا عن روية أَو غيرها، كما أَنها مصونة عن سماع الكذب من القول لأَنها دار السلام وكل ما فيها نقي من الباطل والنقص، وقد تضمنت هذه المذكورات أَنواعًا من اللذات الحسية كما هو واضح.

36 - (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا): أَي: إِن الجزاءَ الذي جوزى به المتقون حصل لهم بتوفيق ربك -أَيها النبي- وتأْييده ويشير إِضافة الرب إِليه صلى الله عليه وسلم دونهم إِلى تشريفه -صلوات الله عليه- (عَطَاءً) أَي: تفضلا وإِحسانًا منه تعالى: إِذ لا يجب عليه -سبحانه- شيء (حِسَابًا) أَي: كافيًا لهم وافرًا شاملا، من قولهم: أحسبهُ الشيء: إِذا كفاه حتى قال حسبي، ومنه: حسبي الله. وقيل: معناه: كون الجزاء على حسب أَعمالهم. أَي: مقسطًا على قدرها، وروى ذلك عن مجاهد، وكأَن المراد بذلك مقسط بعد التضعيف، وبذلك يندفع ما قيل: إِنَّه غير مناسب لتضعيف الحسنات، ولهذا لم يقل هنا (وِفَاقًا) كما قيل في الآية السابقة: (جَزَاءً وِفَاقًا). (رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)) المفردات: (خِطَابًا) أَي: لا يقدر أَحد أَن يخاطبه سبحانه في رفع بلاءِ أَو دفع عذاب في ذلك اليوم، هيبة وجلالًا.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ): هو جبريل - عليه السلام - وقد ورد ذكره كثيرًا بذلك. واختلف المفسرون في المراد من الروح ما هو، على أَقوال، منها ما روي عن ابن عباس أَنه قال: إِنهم أَرواح بني آدم، وقيل: إنه ملك عظيم أَو إِنهم أَشراف الملائكة، أَو أَنه جبريل - عليه السلام - قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك، ويستشهد لهذا القول بقوله تعالى: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ) (¬1) وهذا الرأَي أَوفق الآراء. (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): أَي: مرجعًا. (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا): يتمنى الكافر أَن لو كان في الدنيا ترابًا فلم يُخْلَق بشرًا، ولم يكلف. التفسير: 37 - (رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا): أَي: إِن هذا الجزاء الموفور من ربك العظيم فاطر السموات والأَرض وما بينهما على غير مثال يحتذيه (الرَّحْمَنِ) الذي وسعت رحمته كل شيءٍ، ولا شك أَن في ذكر ربوبيته تعالى لجميع الخلق، ورحمته الواسعة إِشعارًا بمقدار الجزاء المذكور (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) استئناف مقرر لما أَفادته الربوبية العامة من غاية العظمة والكبرياءِ، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاءِ والعطاءِ، فلا يكون لأَحدنا قدرة عليه، وضمير (لا يَمْلِكُونَ) لأَهل السموات والأَرض، والمراد نفي قدرتهم على أَن يخاطبوه تعالى بشيءٍ من نفص العذاب أَو زيادة الثواب بغير إِذنه على أَبلغ وجه وآكده، كما قال تعالى: "يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (¬2) 38 - (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا): ¬

_ (¬1) الشعراء، الآيتان: 193، 194 (¬2) هود، من الآية رقم: 105

المعنى أَنه في هذا اليوم الرهيب، يقف جبريل - عليه السلام والملائكة - مخلوقات الله الغيبية -مصطَفِّينَ، فيقف جبريل وحده صفًّا، والملائكة صفًّا آخر، وقيل: صفوفًا؛ لقوله تعالى: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (¬1) وذكر قيامهم واصطفافهم لتحقيق سلطانه وكبرياءِ ربوبيته، وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إِلى آخرها. (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) الضمير في (لا يَتَكَلَّمُونَ) لأَهل السموات والأَرض الذين من جملتهم الروح والملائكة، والآية استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) ومؤَكد له على معنى أَن أَهل السموات والأَرض إِذا لم يقدروا حينئذ على أَن يتكلموا بشيءِ من جنس الكلام إِلا من أَذن الله له منهم في التكلم مطلقًا، وقال ذلك المأْذون قولا صوابا أَي: حقًّا من الشفاعة لمن ارتضى. وإِظهار (الرَّحْمَنُ) في موضع الإِضمار للإِيذان بأَن مناط الإِذن الرحمة البالغة، لا أَن أَحدًا يستحق ذلك عليه سبحانه وتعالى. 39 - (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): ذلك إِشارة إلى يوم قيام الروح والملائكة على الوجه الذي ذكر، وما في الإِشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إِليه للإِيذان بعلو درجته، وبعد منزلته في الهول والفخامة أَي: إِن ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الروح والملائكة مصطفين غير قادرين هم ولا غيرهم على التكلم فيه من الهيبة والجلال، هو يوم القيامة الذي أَخبر عنه -سبحانه- بأَنه الحق، أَي: الثابت المتحقق الذي لا ريب في وقوعه من غير صارف يلويه، ولا عاطف يشنيه. (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) أَي: إِذا كان الأَمر كما ذكر من تحقيق اليوم وإِتيانه بلا شك في وقته المعين له، فمن شاءَ أَن يتخذ مرجعًا إِلى ثواب ربه فليفعل ذلك بالإِيمان والعمل الصالح، وهو حث وترغيب، في سلوك الطريق القويم، وتقدير المضاف وهو لفظ (ثَوَاب) قبل لفظ (رَبِّهِ) لاستحالة الرجوع إِلى ذاته تعالى. ¬

_ (¬1) سورة الفجر، الآية رقم: 22

40 - (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا): الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث. والمعنى: إِنا خوفناكم بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بما في البعث وما بعده من الدواهي. أَو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم (عَذَابًا قَرِيبًا) هو عذاب الآخرة، وقربه لتحقق وقوعه حتمًا، فقد قيل: ما أَبعد ما فات، وما أَقرب ما هو آت، أَو لأَنه قريب بالنسبة إِليه تعالى: "إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا" (¬1). (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أَي: إِن الذي أَنذرناكم به عذاب كائن يوم يشاهد المكلف مؤمنًا أَو كافرًا ما قدمه من خبر أَو شر مثبتًا في صحائف أَعماله كقوله تعالى "وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا" (¬2) وقوله سبحانه: "يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ" (¬3) وقوله: "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ" (¬4) إِلى غير ذلك من الآيات، وما اليوم الذي يحدث فيه ذلك إِلا يوم القيامة. (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) أي: ويتمنى الكافر فيه أَن لو كان ترابًا في الدنيا فلم يخلق ولم يكلف، أَو يتمنى ذلك في هذا اليوم فلم يبعث حتى ينجو من الحساب والعقاب، وعن أَبي هريرة وابن عمر ومجاهد أن الله يحضر البهائم فيقتص من بعضها لبعض، ثم يقول لها: كوني ترابًا، فتعود جميعًا ترابًا، فإِذا رأَى الكافر ذلك تمنى مثله، وفي ذكر قول الكافر تخصيص لأَحد الفريقين اللذين تناولهما لفظ (الْمَرْءُ) الذي ذكر في الآية وأُريد منه الكافر والمؤمن كما قيل على المشهور. ¬

_ (¬1) المعارج، الآيتان: 6، 7 (¬2) الكهف، من الآية: 49. (¬3) القيامة، الآية: 13 (¬4) آل عمران من الآية: 30.

سورة النازعات

سورة النازعات مكية وعدد آياتها ست وأربعون آية وكما تسمى النازعات تسمى أيضًا الساهرة، والطامة مناسبتها لما قبلها: قال ابن عباس: إِن أَولها يشبه أَن يكون قسمًا لتحقيق ما في سورة عَمَّ، أَو ما تضمنته كلها من بعث النَّاس وقيامهم للحساب والجزاء، وفي البحر: لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإِنذار بالعذاب يوم القيامة أَقسم -عز وجل- في هذه على البعث في ذلك اليوم الذي يقع الإنذار بالعذاب فيه. أَهم مقاصد السورة: افتتحت بالقسم بطوائف الملائكة الأَبرار على تحقيق البعث، تُزلزِل النفخة الأُولى جميع الكائنات، تتبعها النفخة الثانية لتهب الخلائق قيامًا للجزاءِ والحساب: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) الآيات. ثم تحدثت عن استبعاد المشركين للبعث والنشور ولا سيما بعد أَن بليت أَجسامه الموتى وتفتت عظامهم، وصاروا أَثرًا بعد عين، ثم ذكرت الرد عليهم بما يسقط حجتهم، ويبطل عجبهم أَمام القدرة العظيمة. (يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ... ) إِلخ. ثم تناولت قصة فرعون الذي ادعى الأُلوهية، وتمادى في الطغيان والجبروت، فكانت عاقبته الدمار والهلاك وعذاب الآخرة والأَولى هو وقومه الذين كانوا أَعوانًا له في ظلمه وبغيه، وذلك لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أَهل مكة: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَي .. ) الآيات، ثم ذكَّرت الإِنسان بسعيه، وأَظهرت ما ينتظر الطغاة أَهل مكة، وما أُعد لمن خاف مقام ربه (فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ... ) الآيات، ثم أَنكرت ونعت على منكري البعث تكذيبهم به، وهم في منطق الحق والواقع ليسوا بأَشد خلقًا من السماءِ والأَرض وتوابعهما من مظاهر القدرة البالغة (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا .. ) الآيات.

وضحت السورة بالحديث عن وقت الساعة، وأَن بيانه الله وحده، وأَمَّا وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي الإِخبار -عن قربها، التذكير بها وبما يكون فيها من أَهوال لا يَعيَّن وقتها (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ... ) الآيات. كما أَشارت في الختام أَيضًا إِلى أَن ما أَصابهم من فزع، أَنساهم الزمن الذي مر بهم حتى حسبوا أَن الوقت بين إِنذارهم بالبعث إِلى قيامهم من قبورهم للجزاءِ، عشية أَو ضحى من يوم واحد (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا .. ) الآية. (بسم الله الرحمن الرحيم) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)) المفردات: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) أَي: الملائكة التي تنزع أَرواح الكفار من أَقاصي أَجسامهم نزعًا بالغ الشدة، يقال: أَغرق في الشيءِ يغرق فيه: إِذا أَوْغَل وبلغ أَقصى غايته. (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا): الملائكة تنشط وتقبض أَرواح المؤمنين برفق ولين من النشط وهو الإِخراج بيسر وسهولة، ومنه بئر أَنشاط: قريبة القاع يُخْرج منها الدلو بجذبة واحدة.

(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): الملائكة تسرع بما أَمرت به، ومنه قيل للجواد المسرع: سابح. (الرَّاجِفَةُ): النفخة الثانية التي تردف وتتبع الأُولى، وبها يبعث الموتى بأَمره تعالى، يقال: ردفه كسمع ونصر: إِذا أَتبعه كأَردفه. (وَاجِفَةٌ): شديدة الاضطراب من الخوف والفزع يقال: وجف القلب يجف وجْفًا ووجيفاُ: إِذا اضطرب من شدة الفزع. (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ): يقال: رجع فلان في حافرته وعلى حافرته، أَي: طريقه التي جاءَ فيها. (نَخِرَةً): بالية متفتتة، من نخر العظم ينخر من باب تعب: إِذا بلي وتفتت. (خَاسِرَةٌ): أَي: رجعة غير رابحة من الكر وهو الرجوع. (بِالسَّاهِرَةِ): وهي وجه الأَرض، والعرب تسميه ساهرة؛ لأَن فيه نوم الحيوان وسهره. التفسير: 1 - (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا): هذه أَولُ الطوائف الخمس من الملائكة الموكلين بأَعمال جسام بأَمره تعالى، وهم الذين أَقسم سبحانه على أَن الخلق لا بد أَن يبعثوا ويحاسبوا، وجواب القسم أَشار إِليه مضمرا، كأَنه قال: لتبعثن ولتحاسبن، وذلك لمعرفة السامعين بالمعنى، وقيل غير ذلك. والطائفة الأُولى وهي ملائكة العذاب التي تنزع أَرواح الكفار بقسوة وشدة من أَقاصي أَجسامهم نزعًا بالغا غاية الصعوبة والعسر كما يشير إِلى ذلك قوله: (غَرْقًا) أَي: إِغراقًا ومبالغة فيما يؤلمهم ويؤذيهم، وتختص هذه الطائفة بأُولئك الكفار على ما أَخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وعن على -كرم الله وجهه- قال ابن مسعود: تنزع الملائكة روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت الأَظافر وأُصول القدمين، ثم تفرقها في جسده ثم تنزعها حتى إِذا كادت تخرج تردها في جسده وهكذا مرارًا.

2 - (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا): وهي ملائكة الرحمة التي تنشط أَرواح المؤمنين برفق ولين، وذلك مما يشير إِلى مسرعة الإِخراج وعدم حاجته إِلى معالجة وجهد، يقال: بئر أَنشاط، أَي: قريبة القاع يخرج منها الماء بجذبة واحدة. فالمادة تدل على الرفق والسهولة. 3 - (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): الملائكة التي تنزل من السماءِ بأَمر الله ووحيه كالذي يسبح في الماءِ مسرعين لتنفيذ أَمره، وقال بعض السلف: همُ الملائكة يسلون أَرواح المؤمنين سلًّا رقيقًا، ثم يتركونها حتى تستريح رويدًا ثم يستخرجونها برفق ولطف، كالذي يسبح في الماء، فإِنه يتحرك برفق، فهم يرفقون في هذا الاستخراج لئلا يصل إِلى المؤمن أَلم وشدة. 4 - (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا): الملائكة تَسبق بأَرواح المؤمنين إِلى الجنة بسرعة، قال الحسن: هي الملائكة التي سبقت إِلى الإِيمان والتصديق بالبعث. 5 - (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا): الملائكة تدبر شئون الكون من السماءِ إِلى الأَرض بأَمره تعالى من الرياح، والأَمطار، والأَرزاق، والأَعمار، وغير ذلك من شئون الدنيا، وتنكير قوله: (أَمْرًا) للتهويل والتفخيم، وعطف الآيتين بالفاء للإِشارة إِلى ترتيبها على ما قبلها من غير مهلة، وقيل: إِن الإِقسام هو بِخَيْل الغزاة التي تنزع في أَعنتها نزعًا تفوق الأَعنة لطول أَعناقها لأَنها عراب، وبالتي تخرج من دار الإِسلام إِلى دار الحرب من قولك: ثورنا شط: إِذا خرج من بلد إِلى بلد، وبالتي تسبح في جريها فتسبق إِلى الغاية، فتدبر أَمر الغلبة والظفر، وإِسناد أَمر التدبير إليها لأَنها من أَسبابه.

وقيل: إِن الإِقسام بالنجوم السيارة التي تنزع من المشرق إِلى المغرب، أَي: تسير، وإِغراقها في النزع: أَن تقطع الفلك كله على ما يبدو للناس حتى تخط في أَقصى الغرب، وبالتي تنشط، أَي: تخرج من برج إِلى برج، وبالتي تسبح في الفلك فتسبق، فندبر أَمرًا نيط بها كاختلاف الفصول، وتقدير الأَزمنة، وظهور مواقيت العبادات، والمعاملات المؤجلة إِلى غير ذلك، وقيل غير ما ذكر، إِلاَّ أَن القسم بطوائف الملائكة هو ما عليه أَكثر المفسرين بل قال ابن عطية: لا أَحفظ خلافا في أَنها الملائكة، وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أَعلم. ويقول الآلوسي: وما ذكرته أَولا الإِقسام بالملائكة هو المرجع عندي نظرًا للمقام. 6، 7 - (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ): أي: لتبعثن يوم تتحرك الراجفة رجفة شديدة تهتز وترجف عندها الأَجرام الثانية كالأَرض والجبال، وبها يختل الأَمر، ويضطرب النظام، ويصعق كل شيءٍ بَأمره تعالى، وهي النفخة الأَولى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أَي: الواقعة والصيحة التي تردف الأُولى. وإِسناد الرجف إِليها على أَنها فاعلته إِسناد مجازي وجوز أَن التفسير الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة، لأَن (رجف) يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس. وتتبعها وهي النفخة الثانية التي بها يسرع الخلق قيامًا من قبورهم ينتظرون الجزاءَ والحساب والمراد لتبعثن في اليوم الذي تقع فيه النفخة الأُولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها لا قبلها باعتبار امتداد ذلك اليوم لاحتواء النفختين واعتبار امتداده مع أَن البعث لا يكون إِلا عند وقوع النفخة الثانية لتهويل اليوم ببيان كونه موقعًا لداهيتين عظيمتين، لا يبقى عند وقوع الأُولى حيَّ إِلاَّ مات، ولا عند وقوع الثانية ميت إِلا بعث، وقيل المعنى: لتبعثن، كأنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اذكر لهم يوم النفختين فإِنه وقت بعثهم. 8، 9 - (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ): أَي: قلوب منكري البعث في ذلك اليوم مضطربة خائفة وجلة، وعند السدي: زائلة من أَماكنها كما في قوله تعالى: "إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ" (¬1) يعني نزول من مكانها لتصل إِلى الحناجر. ¬

_ (¬1) غافر، من الآية: 18.

(أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) أَي: أَبصار أَصحاب هذه القلوب ذليلة حسيرة مما عانت من الأَهوال والشدائد، وقد أُريد من وجيف القلوب شدة الخوف الواقع بأَربابها فهي كناية عنهم. 10 - (يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ): حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به إِثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمى، وذكر مقدماته الهائلة، وما يعرض عند وقوعها القلوب والأَبصار. والمعنى: إِن منكري البعث يقولون -إِنكارًا له، واستبعادًا لوقوعه إِذا قيل لهم في الدنيا إنكم مبعوثون: (أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) يعنون الحياة التي كانوا عليها أَول الأَمر قبل موتهم يقال لمن كان في أَمر فخرج منه ثم عاد إِليه: رجع في حافرته، أَي: في طريقه التي جاءَ منها فحفرها، بمعنى أَثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أَنها محفورة، لنسبتها إِلى الحفر، أَو على المجاز كما في قوله تعالى: "فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ" (¬1) أَي: منسوبة إِلى الرضا، أو على المجاز وقيل: إنه -تعالى شأْنه- لما أَقسم على البعث، وبين ذُلَّهم وخوْفَهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث، وردهم إِلى الحياة بعد الموت، فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإِنكار والجملة استئناف لبيان ما يقولون إِذ ذاك. 11 - (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً): تأْكيد لإِنكار البعث بذكر حالة منافية لحصوله أَي: أَئذا كنا عظاما بليت وتفتت واختلطت بتراب الأَرض نُرد ونُبعث مع كون تلك الحالة أَبعد شيءٍ من الحياة، ذلك أَمر بعيد الحصول. وفرق بين العظام الناخرة والنخرة -حيث إِن النخرة فسرت بالأَشد بِلي، قال عمرو بن العلاءِ: النخرة: التي بليت، والناخرة التي لم تنخر بعدُ، ونقل اتحاد المعنى عن غيره. ¬

_ (¬1) الحاقة، آية 21. والقارعة آية: 7

12 - (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ): حكاية لكفر آخر من منكري البعث متفرع عن كفرهم السابق الذي أَنكروا فيه البعث، أَي: قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إِلى ما أَنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع: (تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) أَي: رجعة ذات خُسْر، أَو خاسر أَهلها، بمعنى إِذا صحت تلك الرجعة وعدنا إِلى ما كنا عليه من الحياة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها، وأَبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد من الاستهزاءِ والسخرية. 13 - (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ): تقليل لإِنكارهم إِحياء الموتى الذي عبروا عنه الكرَّة ولما كان مدار إِنكارهم للكرَّة استصعابهم لها، رد عليهم سبحانه بالآية الكريمة: لا تحسبوا تلك الكَّرةَ صعبة على الله -عز وجل- فإِنها سهلة هينة لأَنها ما هي إِلا صيحة واحدة تحصل بها الرجعة وتتحقق، وهي النفخة الثانية، وعبر عنها بالزجرة تنبيها على كمال اتصالها بها كأَنها عينها، وبهذه النفخة التي ينفخها إسرافيل - عليه السلام - في الصور يبعث الله الأَولين والآخرين فإِذا هم قيام بين يدي الرب - عز وجل - ينظرون، كما قال سبحانه: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا) (¬1) وكما قال جل وعلا: "وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ" (¬2). 14 - (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ): بيان لترتيب الرجعة على الزجرة مفاجأَة، أَي: فإِذا هم حضور في الموقف على وجه الأَرض بعدها كانوا أَمواتًا في جوفها، قال ابن عباس: الساهرة: الأَرض كلها، وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة، وحكى الراغب في الساهرة قولين: الأَول: أَنها وجه الأَرض، والثاني أنها أَرض القيامة، وفي الكشاف: الأَرض البيضاء التي لا نبات فيها المستوية، سميت ¬

_ (¬1) الإسراء، من الآية: 52. (¬2) سورة القمر، الآية: 50.

بذلك لأَن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة: جارية الماء، وفي ضدها: عين نائمة، أَي: أَن سالكها لا ينام خوف الهلكة، إِلى غير ذلك من الأَقوال التي ذكرها المفسرون. (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)) المفردات: (بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ): الوادي المطهر المبارك. (طُوًى): اسم للوادي المقدس على الصحيح. (إِنَّهُ طَغَى): جاوز الحد في الظلم والطغيان. (إِلَى أَنْ تَزَكَّى): إِلى أَن تسلم وتطيع وتطهر من الذنوب. (الآيَةَ الْكُبْرَى): هي قلب العصا حيَّة، أَو هي اليد البيضاء. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى): ثم تولى وأَعرض عن الإِيمان مجدًّا في معارضته. (فَحَشَر): فجمع السحرة من المدائن، أَو الجند، أَو هما معًا (فَحَشَر): من الحشر، وهو إِخراج الجماعة من مقرهم، وتوجيههم إِلى الحرب ونحوها.

(نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى): وهو عذاب الآخرة بالإِحراق، وعذاب الأُولى بالإِغراق، والنكال: مصدر بمعنى التنكيل. التفسير: 15 - (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى): بخير الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم عن عبده موسى -عليه السلام - أَنه ابتعثه إِلى فرعون، وأَيده بالمعجزات البينات، ومع ذلك استمر عدو الله على كفره وعصيانه سادرًا في بغيه وظلمه حتى أَخذه الله أَخذ عزيز مقتدر، وكذلك عاقبة من خالفك، وكذب بما جئت به، وفي هذا تسلية لرسوله -صلى الله عليه وسلم - من تكذيب قومه، وتهديدهم له بأَن يصيبهم مثل ما أَصاب من كان أَقوى منهم وأَعظم. ولهذا قال سبحانه في آخر القصة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) والاستفهام في الآية لحمل رسوله صلى الله عليه وسلم أَن يستمع إِلى أَمر يعرفه قبل ذلك، كأَنه قيل: أَليس قد أَتاك حديث موسى عليه السلام؟! أَو الاستفهام ترغيب لسماع القصة إِن اعتبر أَن هذا أَول ما أَتاه من حديثه - عليه السلام - كأَنه قيل: هل أَتاك حديثه؟ أَنا أَخبرك به، والأَول هو المتبادر. 16 - (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى): أَي: كَانَ حديث موسى في الوقت الذي: ناداه ربه سبحانه بالوادي المبارك المطهر وهو واد في أَسفل جبل طور سيناء من برية الشام، (طُوًى): اسم لذلك الوادي المقدس مرة بعدة أُخرى. 17 - (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى): على إِرادة القول، أَي: قائلا له: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ) الآية، أَو تفسير للنداء، أَي: ناداه (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ) ... إِلخ. (إِنَّهُ طَغَى): جاوز الحد في الطغيان على رعيته من بني إِسرائيل، وعلا في الكبر والعظمة ظنًّا منه أَن هذا من مظاهر الأُلوهية، والجملة تعليل للأَمر بالذهاب إِليه، أو لوجود الأَمر بالامتثال بما أَمر به.

18 - (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى): أَي: فقل له: هل لك رغبة في أَن تتطهر من دنس الكفر والعصيان، ورذائل الأَخلاق والعادات؟ وهو استفهام يقصد به العرض والطلب، وهو أَفضل أَنواعه، وأَوفقها باللطف والأَدب في الدعوة. وقدَّم طلب التطهر على طلب الهداية في الآية التالية، لأَنها تخلية، وهي مقدمة على التحلية. 19 - (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى): أَي: وهل تحب أَن أَدلك وأَرشدك إِلى معرفة ربك فتعرفه؟ (فَتَخْشَى): بأَن يصير قلبك خاضعًا لله مطيعًا بعد ما كان قاسيًا خبيثًا بعيدًا عن الخير، وبأَن يمتلئ علمًا بجلاله وعلو شأْنه كما قال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (¬1) فمن اتقاه أَمن عقابه، والخشية: ملاك الأَمر، وغاية الهداية، ومن تمسك بها أَتى منه كل خير، ومن تركها اجترأَ على كل شر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أَبي هريرة: "مَنْ خافَ أَدلجَ (¬2) ومَن أَدلجَ بلغَ المنزلَ" وعن بعض الحكماءِ: اعرف الله، فمن عرف الله لم يقدر أَن يعصيَهُ طرفهَ عين. 20 - (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى): أَي: لما لم يقتنع فرعون بالدليل القولي، أَظهر -سبحانه- له آية ودليلا يراه بعينه بعدما جرى بين موسى - عليه السلام - وبينه من المحاورات إِلى أَن: "قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ" (¬3) والمراد بالآية الكبري على ما روي عن ابن عباس: قلب العصا حيَّة، فإِنها كانت المقدمة والأَصل، والأُخريات كالتبع أو على ما روي عن مجاهد: ذلك واليد البيضاء، فإِنها باعتبار الدلالة كالآية الواحدة، وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى في سورة طه: "اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي" باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأُمور التي كُلٌّ منها آية لقوم يعلمون، وكونها كبري باعتبار معجزات من قبله ¬

_ (¬1) سورة فاطر: من الآية 128 (¬2) الدلج محركة، والدلجة بالضم والفتح: السير من أول الليل، وقد أدلجوا. أهـ: قاموس، والمراد مواصلة العمل لبلوغ الغاية. (¬3) الأعراف، من الآية: 106

من الرسل - عليه السلام - ولا مساغ لحمل "آياتي" في الآية المذكورة على مجموع معجزاته فإِن ماء هاتين الآتيتين من الآيات التسع إِنما ظهرت على يده - عليه السلام - على مهل بعد ما غلب السحرة. وترتيب حشد السحرة لم يكن إِلا على إِرادة هاتين الآيتين. 21 - (فَكَذَّبَ وَعَصَى): أَي: فكذب فرعون بموسى - عليه السلام - واعتبر معجزاته الباهرة سحرًا (وَعَصَى) الله -عز وجل- بالتمَرد على نبيه بعد ما علم صحة الدعوة أَشد عصيان وأَقبحه؛ مما دعاه إِلى إِنكار وجود الله رب العالمين، وكان هو وقومه مأْمورين بعبادته عز وجل، وترك العظمة التي يدعيها ويقبلها من فئته الباغية. 22، 24 - (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى): أَي: ثم تولى عن موسى، وأَمعن في تكذيبه مجتهدًا في مكايدته، أَو لما رأَى الثعبان أَدبر مرعوبا يسرع في مشيته من هول ما رأَى، حيث رآه ضخمًا قويًّا، فاغرا فاه متجها نحوه وتبعه قومه -يعلوهم الفزع والاضطراب منهزمين (فَحَشَرَ فَنَادَى) أَي: فجمع السحرة، ويشير إِلى ذلك قوله تعالى: "فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ" (¬1) وقوله تعالى: "فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى" (¬2) أَي: فجمع ما يكاد به من السحرة وآلاتهم، وقيل: جنوده، ويجوز أَن يراد جميع النَّاس في مملكته، وبعد أَن جمعهم وقف فيهم خطيبا، فنادى بنفسه أَبو بواسطة المنادى، والأَول هو المناسب لقوله تعالى: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) لا رب فوقي، وكانت لهم أَصنام يعبدونها. 25 - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى): أَي: فأَهلكه الله ونكل به تنكيل الآخرة، وهو الإِحراق، وتنكيل الأُولى، وهو الإِغراق، وعمل الآخرة والأُولى على الدارين هو الظاهر. ¬

_ (¬1) الشعراء، من الآية: 53 (¬2) سورة طه، الآية: 60

وروى عن الحسن وابن زيد وغيرهما، وعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والشعبي أَن الآخرة قولته: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) والأُولى قولته: "مَا عَلِمْتَ لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرِي" وعن مجاهد أَنهما عبارتان عن أَول معاصية وآخرها، وعلى ذلك، فالتنكيل به والتعذيب له يسببهما ما وقع منه، وما سيقع. 26 - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى): أَي: إِن فيما ذكر من قصة فرعون، وما اقترف من آثام، وما عوقب به من تنكيل وتخذيل لموعظة لمن شأْنه أَن يخشى، أَي: لمن له عقل يتدبر به عواقب الأُمور ومصائرها، فينظر في حوادث الماضين، وأَحوال الحاضرين ويتعظ بها. (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (33)) المفردات: (رَفَعَ سَمْكَهَا) السَّمْكُ: العلو والارتفاع، يقال: سَمَكْتُ الشيءَ: رفعتُه في السماءِ، وبناءٌ مَسْموكٌ: عال مرتفع. (فَسَوَّاهَا): جعلها ملساءَ مستوية. (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا): أي: أَظلمه، يقال: غطش اللَّيل من باب ضرب، وأَغطش: صار مظلما وأَظلمه الله. (دَحَاهَا): بسطها ومدَّها من الدحو أَو الدحي يعني البسط.

التفسير 27، 28 - (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا): الاستفهام للتقريع والتوبيخ لأَهل مكة المنكرين للبعث بناءً على صعوبته في زعمهم، أَي: أَخَلْقُكُمْ بعد موتكم أَشق وأَصعب أَم خلق السماءِ على عظمها، وانطوائها على الأَعاجيب والبدائع التي يحار العقل في إِدراك كنهها؟! (بَنَاهَا): يضم أَجزائها المتفرقة بعضها لبعض بعد أَن خلقها بقدرته مع ربطها بما يمسكها حتى تكون بنية واحدة، وهكذا صنع -سبحانه- بالكواكب، ووضع كلا على نسبة من الآخر مع ما يمسكه في مداره التي كان منها عالم واحد في النظر سمى باسم واحد وهو السماء التي تعلونا، وعدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف عليه من الأَفعال للتنبيه على تعينه وتفخيم شأْنه -عز وجل- ما لا يخفى (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) بيان للبناءِ، أَي: رفع جرمها، وأَعلى قبتها وجعل مقدار ارتفاعها من الأَرض، وذهابها إِلى جهة العلو مديدًا رفيعًا، قال ابن كثير (¬1) أَي: جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأَرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء (فَسَوَّاهَا) بوضع كل جرم في موضعه حسبما اقتضته الحكمة، وقيل: فسواها بجعلها ملساء مستوية لا ارتفاع فيها ولا انخفاض. 29 - (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): أَي: جعل الله ليلها مظلمًا؛ لأَنه يقال: أَغطش الليل، كما يقال: أَظلم، ونسبة الليل إِلى السماء لأَنه يكون بمغيب كوكبها وهو الشمس (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) أَي: وأَبرز نهارها، والضحى في الأَصل على ما يفهم من كلام الراغب: انبساط الشمس، وامتداد النهار، ثم سمى به الوقت المعروف، وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة بالليل، وعبر عن النهار بالضحى لأَنه أَشرف أَوقاته وأَطيبها وفيه من انتعاش الأَرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث، وإِعادة الأَرواح إِلى أَبدانها، وإِضافة الضحى إِلى السماء لأَنه يحدث بسبب طلوع الشمس. ¬

_ (¬1) في مختصره.

30 - (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا): أَي: بعد تسوية السماء على الوجه السابق، وإغطاش اللَّيل، وإِخراج النهار (دَحَاهَا) أَي: بسطها ومهدها لسكنى أَهلها وتقلبهم في أَقطارها، ويشير إِلى أَن معنى الدحْو أَو الدحي البسط قول أُمية بن أَبي الصلت: وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطَّانها حتى التنادي وقيل: دحاها: سواها. والأَكثرون على الأول، والظاهر أَن دحوها بعد خلقها، وقيل: معه، أَي: خلقها مدحوة، وروى الأَول عن ابن عباس، ولعل المراد من خلقها أَولا ثم دحوها ثانيًا، خلق مادتها أَولا ثم تركيبها وإِظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة، كما قيل في قوله تعالى: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ" إِلى قوله: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" (¬1) أَي: إِن السماءَ خلقت مادتها أَولا ثم سويت وأُظهرت على صورتها اليوم. 31 - (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا): أَي: أخرج -سبحانه- من الأَرض الماء وذلك بتفجير الينابيع والعيون، وإِجراء الأَنهار، كما أَخرج منها المرعى، ويقع على الرَّعْي وهو الكلأُ، أَو المراد به كل ما يرعى المرعيّ مما يأَكله الناس والأَنعام، وتجريد الجملة عن العاطف لأَنها بيان وتفسير لـ (دَحَاهَا) وتكملة له، فإن السكنى لا تتأَتي بمجرد البسط والتمهيد، بل لا بد من تسوية أَمر المعاش من المأكل والمشرب. 32 - (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا): أَي: أَثبت الله الجبال في مكانها، وجعلها وقاية للأَرض أَن تميد بأَهلها، والتعبير ¬

_ (¬1) فصلت، من الآية رقم 11 ومن الآية رقم 12.

عنها بالرواسي في كثير من آيات التنزيل ليس لأَن الرسو المنسوب إِليها من مقتضيات ذواتها، بل هو بإِرسائه - عز وجل - ولولاه لما ثبتت في أَنفسها فضلا عن إِثباتها للأَرض: 33 - (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ): أَي: فعل -سبحانه- ذلك كله ليتمتع به الناس والأَنعام، حيث إِن فائدة البسط والتمهيد، وإِخراج الماء والمرعى واصلة إِليهم، وعائدة عليهم وعلى أَنعامهم. وحاصل المعنى: أَفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تَحْيَوْن، ورافع السماءِ فوقكم وباسط الأَرض تحتكم قادرًا على بعثكم؟! وهل يليق به -سبحانه- أَن يترككم سُدى بغير حساب وجزاءٍ بعد أَن دبركم هذا التدبير ووفر لكم ذلك الخير الكثير، وهو لا يصعب عليه بعثكم - كما تزعمون- بعد أَن شاهدتم الأَعاجيب التي أَوجدتها قدرة القادر العظيم؟! (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46))

المفردات: (الطَّامَّةُ الْكُبْرَى): كالْعَلَمِ على يوم القيامة، وسميت بذلك لأَنها تطم على كل أَمر مفظع، أَي: تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا، ومن طمَّ الشيءِ، يطُمُّه طَمًّا: غمره، وكل ما كثر وعلا حتى غلب فقد طم. (فَأَمَّا مَنْ طَغَى): جاوز الحد في العصيان والكفر. (هِيَ الْمَأْوَى): المقر والمرجع. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى): أَصل الهوى: مطلق الميل، وشاع في الميل إِلى الشهوات. (أَيَّانَ مُرْسَاهَا): أَي: متى يقيمها الله ويثبتها، والمرسى: من رسا بمعنى ثبت. (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا): أَي: ليس علمها إِليك ولا إِلى أَحد من الخلق. التفسير 34 - (فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى): شروع في بيان معادهم إِثر بيان معاشهم، كقوله تعالى: (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكْمْ) والطامة الكبرى: هي الداهية العظمى التي تطم على ما سواها، أَي: تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا، وهي كالْعَلَم ليوم القيامة، وروى كونها اسمًا من أَسمائها عن ابن عباس، وروى عنه أَيضًا وعن الحسن أَنها النفخة الثانية، وقيل: إِنها الساعة التي يساق فيها أَهل الجنة إلى الجنة وأَهل النار إلى النار، وقيل: هي ساعة يساق أَهل النار، ووصفت بالكبرى لأَنها أَعظم الدواهي مطلقًا. 35 - (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى): المراد: يوم يتذكر كل امرئ ما عمله من خير أَو شر بأَن يشاهده مدونا في صحيفة أَعماله، وقد كان نسيه من فرط الغفلة، أَو طول الأَمد، أَو لشدة ما لقي، أَو لكثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى: "أَحْصَاُه الله وَنَسُوهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) المجادلة، من الآية رقم 6.

36 - (وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى): عطف على (جَآءَتْ) من قوله سبحانه: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) أَي: أُظهرت إِظهارًا بينًا فلا تخفى على أَحد (لِمَنْ يَرَى) أَي: لمن شأْنه الرؤْية كائنا من كان، روى أَنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر. 37 - 39 - (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى): تفصيل لجواب (إِذَا) من قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) وهو مقدَّر بنحو: وزع الجزاء على العمل، أَو ظهرت الأَعمال ونشرت الصحف، أَو وقع ما لا يدخل تحت حصر. (فَأَمَّا مَنْ طَغَى) أَي: عتا وتمرد على الطاعة، وجاوز الحد في العصيان (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) أَي: فضل لذائذها وشهواتها، وأَتْبع نفسه هواها، ولم يستعدّ للحياة الأخروية الأَبدية بالإِيمان والتقوى (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) أَي: دارُ العذاب مأْواه ومستقره، ويتجرع فيها نارًا يتأَجج لظاها تشوي الوجوه، وتنضج الجلود، وكلما نضج جلده بدله الله جلدًا غيرهُ ليذوق العذاب، قيل: نزلت الآية في النضر وأَبيه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والعصيان. 40 - 41 - (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى): أَي: وأَما عن عرف بسطة السلطان الإِلهي، فخاف مقامه بين يدي ذي الجلال الرفيع يوم الطامة الكبرى وزجر نفسه عن هواها الباطل الذي يميل بها إِلى اقتراف الآثام بحكم الجبلة البشرية، وأَهمل متاع الحياة الدنيا وزخافها التي تعمى وتصم، ولم يغتر بزهرتها وزينتها علمًا منه بوخامة العاقبة. هذا وقد شاع الهوى في الميل إِلى الشهوة، وسمى بذلك -على ما قال الراغب- لأَنه يَهْوِي بصاحبه في الدنيا إِلى كل واهية، وفي الآخرة إِلى الهاوية، ولذلك مدَح مخالفه، قال بعض الحكماء: إِذا أَردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقال الفضيل: أَفضل الأَعمال مخالفة الهوى، إِلى غير ذلك من الأَقوال الداعية إِلى مجافاته

والبعد عنه (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) له لا غيرها أَي: نزله الذي يتمتع فيه بالنعم المقيم، والسعادة الدائمة، وعن ابن عباس أَن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأَخيه مصعب ابن عمير رضي الله عنه كان الأَول كافرًا مؤثرًا الحياة الدنيا، وكان مصعب خائفًا مقام ربه ناهيًا النفس عن الهوى، وقد وفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أُحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت السهام في جسمه، فلما رآه -عليه الصلاة والسلام- متشحطًا (¬1) في دمه قال: عند الله أَحتسبك .. إِلخ القصة، رواها الآلوسي. 42 - 44 (يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا): كان أَهل العناد والكفر من قريش يسأَلون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة متى إِرساؤُها؟ أَي: إِقامتها وإِثباتها يريدون بسؤالهم له صلى الله عليه وسلم أَن يبين لهم الزمان الذي يقيمها فيه ويبثها جل وعلا. وجوز أَن يكون السؤال عن المكان الذي تنتهي إِليه، أَي: متى مستقرها ومنتهاها؟ كما أَن مرسى السفينة حيث تنتهي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد في نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أَمكنه الجواب عما يسأَلون كما هو شأْن الحريص على الهداية، الجاهد في الإِقناع، فهناه ربه عن تمنى ما لا يرجى، وجاءَ النهي على صورة الاستفهام، حيث قال -سبحانه-: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) بمعنى في أَي شيءٍ أَنت من مداومة تذكرها والتطلع إِلى إِخبارهم بوقتها؟ فإِن ذلك ليس من شأنك (¬2)، أَو الاستفهام إِنكار ورد لسؤال المشركين عنها، أَي: في أَي شيءٍ أَنت من أَن تذكر لهم ¬

_ (¬1) مضطربًا فيه. ومنه تشحط الطفل في السلى -وزان الحصى: اضطرب فيه، والسلى: هو ما يكون فيه الولد. المصباح المنير. (¬2) أخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها) فكف عنها، وعلى هذا فالاستفهام تعجيب من كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم.

وقتها. وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها -فما أَنت من ذلك في علم به، كقولك: ليس فلان في شيءٍ أَي: في علم. وقيل: (فِيمَ) إِنكار ورد لسؤالهم، وما بعده (أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) استئناف لتعليل الإِنكار، وبيان لبطلان السؤال، أَي فيم هذا السؤال، ثم ابتدئ فقال: (أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا) أَي: إِرسالك وأَنت خاتم النبيين المبعوث في نسم الساعة (¬1) علامة من علاماتها ودليل يدلهم على العلم بقرب وقوعها، فحسبهم هذه المرتبة من العلم. (إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) أَي: إِلى ربك وحده ينتهي علمها، ليس لأَحد منه شيءٌ كائنا من كان، أَو إِليه تعالى يرجع العلم بكنهها، وتفاصيل أَمرها ووقت وقوعها لا إِلى غيره سبحانه، وإِنما وظيفتهم أَن يعلموا بقربها ومشارفتها، وقد حصل لهم ببعثك الذي هو علامة من علاماتها، فما معنى سؤَالهم عنها بعد ذلك؟! 45 - (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا): جاءَ هذا لدفع ما قد يتوهم -حسب الظاهر- من أَنه صلى الله عليه وسلم ليس له أن يذكرها بوجه من الوجوه، فأُزيح ذلك ببيان أَن المنفي عنه -عليه الصلاة والسلام- ذكرها بقصد تعيين وقتها لهم حينما كانوا يسأَلونه عنها، والمراد إِنما شأْنك أَن تنذر من يخشاها فتنبهه من غفلته حتى يستعد لما يلقاه يومها من أَهوال وشدائد، فوظيفتك الامتثال بما أَمرت به من بيان اقترابها لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إِليك، فلا تشغل نفسك بما عنه يسأَلون. وتخصيص الإِنذار بمن يخشى -مع عموم الدعوة- لأَنه المنتفع بالإِنذار بها، والتخويف منها. 46 - (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا): أَي: كأَنهم يوم يرون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إِلا عشية يوم أَحد أَو ضحاه، والعشية: من الزوال إِلى الغروب، والضحى: من طلوع الشمس إِلى الزوال، والمراد: أَنهم يستقصرون بعد قيامهم من قبورهم وذهابهم إِلى الحشر -يستقصرون- مدة الحياة ¬

_ (¬1) في أوائل علامات الساعة.

الدنيا حتى كأَنها عندهم كانت عشية من يوم أَو ضحاه، وقال قتادة: ذلك وقت الدنيا حين عاينوا الآخرة وما فيها. قيل: إذا جاءَت الساعة ذهبت صورة كل زمان مضى من أَذهانهم سواءٌ طال أو قصر، فحسبوا أَنهم لم يمكثوا من يوم خلقهم إلى بعثهم إلا عشية أو ضحاها، أي: طرف من أطراف النهار لا نهارًا كاملا؛ لما هم فيه من خوف وهلع. وإنما صح إضافة الضحى إلى ضمير العيشة لما بينهما من الملابسة لكونهما في نهار واحد. والآتية رد لما أَدمجوه في سؤالهم، فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء لها قصدًا إلى الاستهزاء بها كما حكى عنهم "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ" (¬1) ومثل هذه (¬2) قوله تعالى: "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" (¬3) والله أعلم. ¬

_ (¬1) يس، الآية رقم: 48 (¬2) الإشارة إلى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرونها ............... ) الآية. (¬3) سورة الأحقاف من الآية: 35

سورة عبس

سورة عبس مكية وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية وتسمى أيضا الصاخة، والسفرة صلتها لما قبلها: لما ذكر سبحانه في السورة التي قبلها (سورة النازعات) "إِنَّما أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ذكر -عز وجل- في هذه مَنْ ينفعه الإِنذار. أهم مقاصد السورة: بدأَت السورة بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منه من إِعراضه عن ابن أُم مكتوم وعبوسه في وجهه حين جاءَه راغبًا في العلم والهداية، وكان -صلوات الله عليه- مشغولا بدعوة سادات قريش إِلى الإسلام رجاءَ أَن يسلموا، فيسلم بإسلامهم خلق كثير. (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) الآيات. ثم ذكرت شرف القرآن وأَنه محفوظ مصون من عبث العابثين، وتطاول المفتوتين (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) الآيات. ثم أَظهرت جحود الإنسان وإنكاره البعث والقيامة، وأنه بذلك أَهل لأَن يلعن ويطرد من رحمة الله لشدة كفره بربه الذي خلقه، وتفضل عليه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى: (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) الآيات. ثم أَقامت البرهان من حال النبات على البعث وإِحياءِ الموتى، وتناولت دلائل القدرة في هذا الكون حيث يسر الله للخلق سبيل العيش في هذه الحياة بما أَخرجه لهم من زروع وفواكه وأَعشاب متاعًا لأَنفسهم ودوابهم: (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) الآيات. ثم تحدثت عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من فزع شديد يحمل المرءَ على أن يتنكر لأحب الناس إليه وأَقربهم من: (فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات.

وخُتمت ببيان حال المؤمنين وحال الكافرين في هذا اليوم العصيب، وما بينهما من تفاوت: فأَهل الدرجات يعلو وجوههم النور والسرور والبشر بنعيم الله، وأهل الدركات تغشى وجوهم الظلمة والسواد من غضب ربهم، وهم الكفرة الفجرة: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ .... ) الآيات. (بسم الله الرحمن الرحيم) {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} المفردات: (عَبَسَ): قطَب، من باب ضرب، أي: جمع بين عينيه. (يَزَّكَّى): يتطهر بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة. (أَوْ يَذَّكَّرُ): يتعظ بنصائحك. (تَصَدَّى): تعرض له مقبلا عليه مهتمًا به.

(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى): أَي: مسرعًا يبتغي ما عندك من الهدى. (تَلَهَّى): تُعرض وتتشاغل، يقال: لهى عنه كرضى ورمى، والْتهى وتَلَهَّى: تشاغل. (إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ): أَي إِن آيات القران الكريم موعظة يجب أن يتعظ بها. (ذَكَرَهُ): أَي: حفظ القرآن الكريم فاتعظ به. (مَرْفُوعَةٍ): عالية القدر، أَو مرفوعة إِلى السماء. (سَفَرَةٍ): أَي: كَتَبَةٍ، جمع سافر بمعنى كاتب، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، أَو هم السفراءُ بين الله ورسله، جمع سافر بمعنى سفير. التفسير 1 - 4 - (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى): روي أَن ابن أُم مكتوم -واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرون- وينتهي نسبه إلى لؤي القرشي، وقيل: هو عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري، وقيل غير ذلك، والأول هو المشهور كما يقول الآلوسي. وأُم مكتوم كنية أُمه، واسمها: عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وقد أَسلم بمكة قديمًا وكان أعمى، وقد عمي بعد إبصار، وقيل، ولد أَعمى، أَتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش وأشرافها: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأُمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وكان مجتمعًا بهم يدعوهم إلى الإسلام -رجاءَ أن يسلم بإسلامهم خلق كثير- فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِهَ -صلوات الله عليه وسلامه- قطْعَهُ لكلامه، وظهرت الكراهيةُ في وجهه، فعبس وأَعرض عنه، فنزلت هذه الآيات عتابًا

للرسول صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء حديثه معهم، وذهابه إلى أهله. وقيل: نزلت في أَثنانه فكان الرسول بعد ذلك يكرمه إذا رآه، ويقول له: "مرحبا بمن عاتبنى فيه ربي" ويبسط له رداءَه ويقول: "هل لك من حاجة؟ " واستخلفه على المدينة مرتين، فكان يصلي الناس، وهو من المهاجرين الأَولين. هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم ومات شهيدًا بالقادسية يوم فتح المدائن في عهد عمر - رضى الله عنه - وقيل: رجع إلى المدينة فمات بها. والمعنى: قطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وأَعراض عن ابن أُم مكتوم بجسمه أَو بترك الإصغاء إليه حينما جاءَه يطلب منه أَن يقرئه، ويعلمه مما علمه الله ليزداد هداية، فقطع بطلبه كلامه - صلى الله عليه وسلم - أَثناء تشاغله مع أشراف قريش، والتعبير عنه بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم مع القوم، وفي ذلك عتاب له صلى الله عليه وسلم مع أَن الالتفات إلى الخطاب في قوله -سبحانه-: (وَمَا يُدْرِيكَ) إيناس بعد إيجاش، وإقبال بعد إعراض، أَي: ولو كنت درايًا بحاله لما بدر منك من عبوس وإعراض، ولعلمت بما هم مترقب منه من ترَكٍّ وتذكر، والتعبير عنه بالأَعمى مقترنًا بأَل الجنسية دفع لتوهم الاختصاص بالأَعمى المعين، وإيماءً إلى أَن كل ضعيف من مثله يستحق الإقبال عليه والرأْفة به (لَعَلَّهُ يزَّكَّى) أي: يتطهر من أَوضار الإثم بما يسمع منك من نصح وإرشاد، وعلم ومعرفة (أَو يَذَّكر فَتَنفعَهُ الذِّكرَى) أي: يتعظ بتذكيرك إياه فتنفعه ذكراك وموعظتك وإن لم تبلغ إلى درجة التزكى التام. والترجى في الآية للدلالة على أَن رجاءَ تزكيه أَو كونه ممن يرجى منه ذلك كافٍ في الامتناع عن العبوس له، والإعراض عنه، فكيف وقد كان تطهره محققًا لأَنه من السابقين إلى الإسلام؟ وفي الآية تعريض وإشعار بأَن من تعرض صلى الله عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من أَشراف قريش لا يرجى منهم التزكى والتذكر أصلا. 5 - 7 - (أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى): تفصيل لما وقع منه صلى الله عليه وسلم أي: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) بماله وقوته عن سماع القرآن، والاتعاظ به، وعما عندك من العلوم والمعارف التي تهدي إلى خيري الدارين (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى)

أَي: تتعرض بالإِقبال عليه، والاهتمام بإصلاحه وإِرشاده مع أنه معرض عن دعوتك، وفي ذلك مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبة هؤلاء: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أَي: ليس عليك بأس في ألا يتطهر بالإسلام، حتى تحرص على الاهتمام بأمره، والاعتراض عمن أَسلم وتطهر، مع أن المستغني قد رضي لنفسه دنس الكفر والعصيان ظَانًّا في ماله غنى عن هداية لله وطاعته، ويقول الآلوسي: "والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإِقبال على غيره، والاهتمام بأَمره حرصًا على إسلامه". 8 - 10 - (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى): أَي: وأَما الذي جاءَك مسرعًا يبتغي عندك ما تتوق إليه نفسه، ويتعلق به قبله من أحكام الدين، وخصال الخير (وَهُوَ يَخْشَى) الله تعالى، ويخاف الغواية، وما دفعه إليك إلا حبه لأن يتطهر من الجهل، وخوف الوقوع في ظلمات الضلال، وقيل: يخشى أذي الكفار في إتيانه إليك. وقيل: يخشى العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي: تتشاغل -عن إجابته إلى طلبه- بصناديد قريش، بمعنى: لا ينبغي أن تتصدى للمستغني عما عندك من الحكمة، والموعظة الحسنة، وتتلهى به عن الفقير الطالب للخير. وفي تقديم ضمير صلى الله عليه وسلم وهو "أنت" على الفعلين: (تَصَدَّي) و (تَلَهَّى) تنبيه على أن مناط العتاب خصوصيته - عليه الصلاة والسلام- وتقديم (لَهُ) و (عَنْهُ) على الفعلين أَيضًا للعناية والاهتمام بمضمونهما: لأَنهما منشآ العتاب له صلى الله عليه وسلم روى أَنه -صلوات الله عليه-: ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني. وبعد أن فصَّل -سبحانه- في الآيات السابقة حاله صلى الله عليه وسلم مع المستهدي والمستغني أتبعها بقوله جل شأنه. 11 - 12 - (كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ): المعنى: كلمة "كَلاَّ" للردع والزجر، أتى بها للمبالغة في إرشادة صلى الله عليه وسلم إلى عدم العودة. إلى ما عوتب عليه من الاهتمام بمن استغني عما دعوته إليه من الإيمان والطاعة،

وما يوجبها من القرآن الكريم، والإعراض عمن جاءَك مستهديًا ومسترشدًا، أي: لا تعد إلى مثل ما وقع منك. (إنَّها تَذكِرَةٌ) أي: القرآن الكريم تذكرة وموعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها، وأنث الضمير العائد عليه لتأنيث الخبر، وقيل: الضمير المؤنث يراد به الهداية المودعة في سائر الكتب السماوية وأَجلُّها القرآن جعلها الله تذكرة وإرشادًا إلى الطريق المستقيم. وهذه الجملة المؤكدة تعليل للردع (بكلَّا) عما ذكر، ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى صلى الله عليه وسلم له، وتحقيق أن شأنه أن يكون موعظة حقيقة بالاتعاظ، فمن رغب فيها اتعظ بها كما نطق به قوله تعالى: "فمن شاء ذكره" أي: حفظه واتعظ به، ومن رغب عن حفظه والاتعاظ به -كما فعل المستغني- فلا حاجة لك إلى الاهتمام بأمره، وذكَّر الضمير لكونه عائدًا على القرآن أو على التذكرة لأنها بمعنى التذكير والوعظ، والجملة جيءَ بها للترغيب في القرآن، والحث على حفظه والاتعاظ به. 13 - 16 - (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ): أي: إن آيات القرآن مثبتة في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ مكرمة عند الله -جل وعلا- وقيل: مثبتة في صحف الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء -عليهم السلام- كقوله تعالى: "وإنَّه لَفِي زُبُرِ الأوَّلِين" هذه الصحف (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) أي: عالية القدر شريفة، وقيل: مرفوعة في السماء السابعة منزهة عن مساس أيدي الشياطين، أو من كل دنس، كما روي عن الحسن، أو عن الشُّبه والنقص (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) وهم الملائكة -عليهم السلام- ومعنى كونها بأيديهم أن الله -سبحانه- جعلهم سفراءَ بينه وبين رسله يحملون إليهم الكتب المنزلة عليهم، جمع سافر بمعنى سفير، أو هي بأَيدي الأنبياء -عليهم السلام- لأنها تنزيل عليهم الوحي، وهم يبلغونها للناس. فكل من الملائكة والأنبياء يصح إطلاق السفير عليه، كما يصح إطلاق الرسول على كل منها، أو السفرة: الكتبة من الملائكة، قال مجاهد وجماعة: فإنهم ينسخون الكتب في اللوح المحفوظ، جمع سافر، أي: كاتب. (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) أي: مكرمين معظَّمين عند الله -تعالى- من الكرامة بمعنى التوقير، أو أنهم

متعطفون على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى الخير والكرامة، وهم كذلك متصفون يصنع المكارم، أتقياء أو مطيعون لله تعالى، من قولهم: فلان يبر خالفه، أي: يطيعه. {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)} المفردات: (قُتِلَ الإِنْسَانُ) أي: لعن وطرد. (مَا أَكْفَرَهُ): ما أشد كفره، وهو تعجيب من إفراطه في الكفران، وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه. (فَقَدَّرَهُ): أي فهيأَه لما يصلح له ويليق به، أو فقدره أطوارًا من حال إلى حال. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي: سهل له طريق الخير، وطريق الشر، وأقدره على اختيار أيهما. (فَأَقْبَرَهُ) أي: جعله ذا قبر يُوارَى فيه، ويقال: قَبَرَ الميتَ يَقْبُرُهُ وَيَقْبِرُهُ من بابي: نصر وضرب: إذا دفنه بيده، ويقال: أقبره: إذا أمر بدفنه أو مكَّن منه. (أَنْشَرَهُ) أحياه بعد موته للحساب والجزاء. التفسير 17 - (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ): دعاء عليه بأشنع دعواتهم على ما هو المعروف في لسانهم، وهو كناية عن قبح حاله وأنه قد بلغ منه مبلغًا لا يستحق معه أن يبقي حيا. (ما أكفره): تعجيب من إفراطه في الكفر

والتكذيب بالمعاد، وبيان لاستحقاقة الدعاء عليه، أي: ما أشد كفره الذي حمله على نسيانه لما يتقلب فيه من النعم، وذهوله عن مسديها ومانحها حتى إذا ذكر به، فهو يعرض عن الذكرى، والمراد بالإنسان إما أَن يكون استغنى عن القرآن العظيم، فكفر بربه الذي نُعت بالصفات الجليلة التي تستوجب الإقبال عليه بالإيمان به، وإما أن يكون للجنس باعتبار انتظامه واشتماله على من استغنى وعلى أمثاله من أقرانه، ويرجح هذا أن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة: في عتبة بن أبي لهب: غاضب أَباه فأَسلم ثم استصلحه أبوه، وأعطاه مالًا، وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إلى آخر القصة، وقد تحقق فيه الدعاء. ويقول الآلوسي: ثم إنَّ هذا كلام في غاية الإيجاز إشارة إلى الآية، وقال جار الله: لا ترى أُسلوبًا أغلظ منه، ولا أَدل على سخطه، ولا أَبعد شوطًا في المذلة مع تقارب طرفيه، ولا أَجمع للأَئمة على قصر متنه، وقال الإمام: إن الجملة الأولى (قُتِل الإنسانُ) تدل على استحقاقهم أَعظم أنواع العقاب عرفًا، والثانية (مَا أكفَرَهُ) تدل على أَنهم اتصفوا بأَعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعًا. 18 - 20 - (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ): شروع في بيان إفراطه في الكفران؛ ببيان ما أفاض الله عليه وتفصيله من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة، بدل ما تمسك به هذا الإنسان من الإمعان في الكفر والتكذيب، وفي الاستفهام التقريري عن مبدأ خلقه ثم بيانه بقوله تعالى: (من نطفة خلقه) تحقير له وتوبيخ، أي: من أي شيءٍ حقير مهين خلق الله ذلك الكافر الجحود الذي يتكبر ويتعظم على ربه بترك الإقرار بتوحيده؟ خلقه من نطفة قذرة (فَقَدَّرَه) أي: فهيأَه لما يصلح له ويليق به من الأَعضاء والأشكال، أو فقدره أطوارًا من حال إلى حال إلى أن تم خلقه واكتمل تكوينه بأعضاء متناسبة تلائم حاجاته مدة بقائه، وأَودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت له، وجعل كل ذلك بمقدار محدود على ما يقتضيه كمال نوعه. (ثُم السَّبيل يَسَّره) أي: ثم سهل له

مخرجه من البطن بأن فتح له رحم أُمه، وألهمه أن ينتكس فتكون رأسه إلى أسفل، وأحاطه بكل أنواع الرعاية، أو ثم سهل له طريق الخير والشر، ومكنه من السلوك فيها بأن أقدره -عز وجل- على كلٍّ ومكَّنَهُ منه. والإقدارُ على ما يريده الإنسان نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خبريته وشريته في ذاته وبهذا الاعتبار كان تيسير السبيل إليهما نعمة من نعمة -جل وعلا- وهذا مثل قوله تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (¬1). 21 - 23 - (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ): أي: جعله ذا قبر يواري فيه بعد موته تكرمة له، حتى لا يبقى مطروحًا على وجه الأرض، فيصير جيفة يستقذرها كل من يراها، ويتأذى مما ينبعث منها من روائح كريهة، ويكون نهيًا للسباع والطير وغيرهما. والمراد من جعله ذا قبر أنه - عز وجل - أمر بدفنه ومكَّن منه، كما ينطق به معنى (فَأَقْبَرَهُ). وفي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الميت من الآناسي بلا خوف، أما حرقه -كما يفعل بعض الوثنيين- فمناف للتكرمة، ومجافٍ للسنة الإسلامية، على ما فيه من البشاعة والشناعة، وأما دفن غير الإنسان والحيوانات فقيل: هو مباح، وقد يطلب على سبيل الوجوب لأَمر مشروع يقتضيه، وذلك لدفع الأذى البالغ الذي يترتب على ترك جيفها مطروحة، فتفسد الجو بروائحها الكريهة، وتتكاثر عليها الجراثيم الضارة التي تفتك بصحة الإنسان، وتودي بحياته. والإتيان بالفاءِ في قوله تعالى: (فَأَقْبَرَهُ) للإشارة بتعجيل دفن الميت عقب موته فهي في موضعها، وَعُدَّتِ الإمانة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم. (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ): أي: إن الله تعالى ينشره ويبعثه بعد موته وإقباره في الوقت الذي تتعلق به مشيئته، وفي تعلق الإنشار بالمشيئة إيذان بأن وقته غير معين أصلا، بل هو راجع للمشيئة، بخلاف ¬

_ (¬1) سورة الإنسان الآية 3

الإمانة فإن وقتها فيه نوع تعيين في الجملة على ما هو المعهود في متوسط الأعمار الطبيعية. (كلا لما يقض ما أمره): (كلا) ردع للإنسان الكافر عما هو عليه من الطغيان البالغ، أي: ليس الأمر كما يقول من أنه أدى حق الله عليه في نفسه وماله (لما يقض ما أمره) بيان بسبب الردع، أي: أنه لم يؤَد شيئًا مما أمره به ربه من ترك الكبر المفرط، ومن ترك التأمل في الآيات، والإيمان بالله مع ما يتقلب فيه من النعم العظيمة. روي عن مجاهد وقتادة أن المراد أنه لم يقض جميع ما أمره الله به من أَول زمان تكليفه إلى زمان إماتته وإقباره. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} المفردات: (صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا): أنزلناه من السماءِ إنزالا عجيبًا كأَنه مراق من إناءٍ، يقال: صب الماء يصبه، أي: أراقه، من باب قتل. (ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا) أي: ثم شققناها بالنبات شقًّا بديعًا ملائمًا له في حجمه. (قَضْبًا) أي: علفًا رطبًا، وسمى قضبًا لأنه يقضب بعد نموه، أي: يقطع مرة بعد أخرى كالبرسيم مثلا. (غُلْبًا): كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان، جمع غلباء.

(وَأَبًّا) الأبُّ: الكلأُ والمرعى، وهو ما تأْكله البهائم، من أبَّهُ: إذا أمَّه، وقصده، أو مِن أبَّ لكذا: تهيأ له. التفسير 24، 25 - (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا): بعد أن ذكر -سبحانه- الأمور المتعلقة بخلق الإنسان امتنَّ عليه بذكر الأُمور المتعلقة ببقائه في الدنيا ليعتبر ويقابل النعمة بالشكر، فقال سبحانه: (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) بمعنى: إذا كان حاله وهو أنه لا يزال إلى الآن سادرًا في غيه، لم يؤد شيئًا مما أمر به مع أن النعم السابقة من أقوى الدوافع إلى الامتثال والاستجابة، فحتم عليه أن ينظر نظر تفكير وإمعان إلى طعامه الذي عليه يدور أمر بقائه كيف دبرناه وهيأْنا له أسباب وجوده وعددنا أنواعه ليكون متاعًا له ولأَنعامه، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) أي: أنزلناه من السماء إنزالا عجيبًا، ينبئُ بقدرة القادر العظيم، وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس، وجوز بعضهم الأعم كماء العيون وتحوه وتأْكيد الجملة للاهتمام بمضمونها، والظاهر أن المراد من الطعام: المطعوم بجميع أنواعه، واقتصر عليه، ولم يذكر المشروب، لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب. 26 - (ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا): أي: شققناها شقًّا بديعًا لائقًا بما يشقها من النبات: صغرًا وكبرًا، وشكلا وهيئة، وشق الأَرض بالنبات بعد نزول المطر يكون على التراخي المعهود كما يتضح ذلك من التعبير بـ (ثم). 27 - 32 - (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ): هذا استمرار في تعداد النعم التي أفاضها الله -سبحانه- على وجه بديع خارج عن العادات امتنانًا على هذا الكافر الذي بالغ في الإعراض والجحود، وأهمل ما تستدعيه تلك

النعم من الامتثال والإقبال على خالفه الذي أَنزل الغيث من السماء، فصبه صَبًّا على الأَرض التي انشقت بالنبات المتنوع، فنما وترعرع، فكان منه كما يقول تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فيها حَبًّا) يقتاب به الناس ويدخرونه، ومن نحو القمح والشعير (وَعِنَبًا وَقَضْبًا) أَي: عنبا يتفكه به، وقضبا، أَي: علفا رطبا للدواب، وقيده بذلك الخليل وقال: إذا جف فهو التبن، وسمى قضبا، لأَنه يقضب، ويقطع مرة بعد أُخْرى كالبرسيم ونحوه. وقيل: هو ما يقضب ليأْكله ابن آدم غضا كالبقول وبعض الخضروات. (وزَيْتُونًا وَنَخْلًا) الزيتون معروف ويؤكل بكل أنواعه، ويؤتدم بعصيره، ويستشفى به، والنخل تؤكل تمرته بلحًا كانت أو يسرًا أو رطبًا أو تمرًا. (وحَدَائِقَ غُلْبًا) وهي الأشجار المثمرة التي أُحيطت بسور يجمع بين أجزائها. فإن لم تحط به، فليست بحدائق بل هي بساتين، ومنه قيل: أحدقوا به، أي: أحاطوا ووصف الحدائق بقوله تعالى: (غُلْبًا) لتكاثفها، وكثرة أشجارها، وتشابك أغصانها، أو لأنها ذات أشجار ضخمة عظيمة، وكونها كذلك للإشعار بأَن النعمة في جملتها لا في ثمرتها فحسب، فمن أخشابها ما ينتفع به في الإحراق والصناعة، ومن أوراقها ما تأكله الحيوانات حفاظاً على حياتها، وهذا أكمل في الانتفاع بها. (وفاكهة وأبًّا) ذكرت الفاكهة مع أنها تدخل في الامتنان بالحدائق؛ للاعتناء بشأْن ما يتفكه به من ثمارها المتنوعة، من كل ما حسن مذاقه، وطاب ريحه، وكبر حجمه، ولا شك أن ذلك أَدْخَلُ في الامتنان. والأَبُّ: كما نقل عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى، وسمي بذلك لأنه يُؤَمُّ ويُقصد، والأَبّ: القصد، وقيل: هو ما أنبتته الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الإنسان، وقال الضحاك: كل شيءٍ أنبتته الأرض سوى الفاكهة. روي أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه - سئل عن الأّبِّ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تلقني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟! وفي صحيح البخاري في رواية

عن أَنس أَن عمر - رضي الله عنه - قرأَ هذه الآية وقال: فما الأَبُّ؟ ثم قال: ما أُمرنا بهذا، أَو ما كلفنا بهذا، أي: بتتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته، بمعنى: لا تتشاغلوا عن أَعمالكم بطلب معنى الأَبِّ والبحث عنه، ومعرفة النبات الخاص به إِلى أَن يبين لكم في غير هذا الوقت، واكتفوا بالمعرفة الجملية (¬1)، ثم وصى الناس أَن يجروا على هذا السنن فيما أَشبه ذلك من مشكلات القرآن، ليكون أكبر همهم ما هو أَهم: من الشكر له -عز وجل- على نعمه العظيمة (مَتَاعًا لَكُم ولأنْعَامِكُم): فعل ذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم، فاشكروه على آلائه، وجزيل عطائه فقد ضمن لكم ولأنعامكم الحياة والمتاع. {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} المفردات: (الصَّاخَّةُ): هي الداهية العظيمة التي يصخ لها الخلائق، من صخ لحديثه: إذا أصاخ واستمع لشدة صوت ذي النطق كما يقول الراغب. (وَصَاحِبَتِهِ): أي وزوجته. (شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي: له شأْن يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره. التفسير 33 - (فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّة): شروع في بيان معادهم إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، أي: إذا جاءَ وقت الصاخة، ¬

_ (¬1) ليس في ذلك نهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على ذلك.

وهي صيحة القيامة سميت بذلك لأَنها تصخ الأَسماع، أَي: تبالغ في إِسماعها حتى تكاد تصمها، وقال الخليل: هي صيحة تضخ الآذان صخا لشدة وقعها، وأَيًّا ما كان فهم اسم من أَسماءِ يوم القيامة كما يقول ابن عباس: الصاخة اسم من أَسماءِ يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده، وقد وصفت بها النفخة الثانية لأَن النَّاس يصيخون لها، أَي: يستمعون، تدفعهم شدتها إِلى أَن يسرعوا قيامًا ينظرون، وجواب (إِذا) مقدر، والمعنى: فإِذا صخت الصاخة شغل كل إِنسان بنفسه. 34 - 36 - (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ): يوم: تفسير للصاخة، أَي: في هذا اليوم الذي ذهبت فيه هذه الحياة الدنيا، وجاءَت الصاخة يكون شأْن ذلك الإِنسان مع المذكورين في الآيات، أَنه يعرض عنهم حينما يراهم، ويفر منهم ولا يسأَل عنهم كما في الدنيا؛ لأَن الهول وعظيم والخطب جسيم. قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أَي بعل كنتُ لك؟ فتقول: نِعْمَ البعل كنتَ، وتشنى بخير ما استطاعت، فيقول لها، فإِني أَطلب إِليكِ اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أَنجو مما ترَيْنَ. فتقول له: ما أَيسر ما طلبت، ولكني لا أُطيق أَن أُعطيك شيئًا؛ فإِني أَتخوف مثل الذي تخاف. وإِن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني أَي والد كنتُ لك؟ فيشني بخير، فيقول له: يا بني إِني احتجت إِلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أَنجو مما تري، فيقول ولده: يا أَبت ما أَيسر ما طلبت، ولكني أَتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أَستطيع أَن أُعطيك شيئًا. يقول الله تعالى. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ... ) الآيات. وفي الحديث الصحيح: "إِذا طلب إِلى كلٍّ من أُولي العزم أَن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أَسأَلك اليوم إِلا نفسي ... إِلى آخر الحديث" قال في التسهيل: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أَحبابه ورتبهم على مراتبهم في الحنو والشفقة، فبدأَ بالأَقل وختم بالأَكبر، وذلك بذكر الأَخ والأَبوين لأَنهما أَقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأَنهما أَحب. قيل: أَول من يفر من أَخيه هابيل، ومن أَبويه إِبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط،

ومن ابنه نوح -عليه السلام- وفرار هؤُلاءِ ليس من قبيل هذا الفرار؛ لأَنه وقع بغضا لهم وحذار من لقائهم، كما يروي عن ابن عباس. 37 - (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ): استئناف لبيان سبب الفرار. أَي: لكل ممن ذكروا في الآيات السابقة شغل شاغل، وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به، ويصرفه عن غيره، أَخرج الطبراني وابن مردويه والبيقهي والحاكم وصححه عن أُم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر النَّاس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا (¬1)، قد أَلجمهم العرق، وبلغ تخوم الآذان، قلت: يا رسول الله واسوأتاه!! ينظر بعضهم إِلى بعض؟ قال: شُغل النَّاس عن ذلك، وتلا: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ .. ) الآية وفي حديث آخر: "ما أَشغل النَّاس عن النظر" وهناك أَحاديث أُخرى تدور حول هذا المعنى فمن أَرادها فليرجع إِلى تفسير ابن كثير وغيره. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}: المفردات: (مُسْفِرَةٌ): مشرقة مضيئة. (غَبَرَةٌ): عليها غبار ودخان. (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ): تغشاها ظلمة وسواد. ¬

_ (¬1) (جمع (أغرل) وهو غير المختون.

التفسير 38، 39 - (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ): الآيات الخاتمة للسورة تبين حال الناس يوم يقفون بين يدي رب الأَرباب، وأَنهم ينقسمون إِلى السعداءِ والأَشقياءِ، وقد بدأَت بالقسم الأَول الذي آثر الحياة الباقية فعمل لها وأَقبل عليها، ورغب فيها رغبة الحريص عليها، فقال سبحانه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أَي: مضيئة متهللة من البهجة والسرور، وعن ابن عباس: إِن ذلك من قيام الليل، وعن الضحاك: من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأُمة نظرًا لأَن الوضوءَ من خواصها بالنسبة إِلى الأُمم السابقة، وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة جزاءَ إِيمانها، وما قدمت من صالح أَعمال، وشكر آلاءِ ونعم. 40 - 42 (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ): بيان الحال القسم الثاني الذي أَهمل عقله، وشغل نفسه بالأَهواء والأَباطِيل فرضي جَهْلَه، واتبع حُمْقَه، واختار الفانية، وأَفرغ جهده في الإِقبال عليها، والتمسك بها، حتى كان شأْنه ما يفصح عنه قوله تعالى: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) أَي: يعلوها غبار ودخان ويكون ذلك على الحقيقة، أَو يراد المجاز، أَي: مذلة وهوان: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أَي: يعلوها سواد وظلمة على الحقيقية، أَو غم وحزن على المجاز، وقيل: لا تري أَقبح من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، بمعنى أَن على وجوههم غبارًا وكدورة فوق غبار وكدورة: إِظهارا لشدة القبح (أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أَي: أَولئك المتصفون بالكدورة والسواد الجامعون بين الكفر والفجور.

سورة التكوير

سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون آية ويقال لها سورة كورت، أو سورة إذا الشمس كورت صلتها بما قبلها: أنها شرحت حال يوم القيامة وبينت ما يقع فيها من أحداث عند قيام الساعة وبعد قيامها، وذلك ما تضمنته آخر السورة التي تقدمت عليها (سورة عبس). أهم مقاصدها: بدأت بتصوير الأحداث الهائلة التي تقع يوم القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كوني، يشمل الشمس والنجوم، والجبال والبحار، والأَرض والسماء، والإنسان والحيوان، والجنة والنار حتى لا يبقى شيءٌ إلا وقد تغير وتبدل إيرازًا لمظاهر القدرة العظيمة (إذَا الشَّمس كُوِّرَت * وَإِذَا النُّجُوم انكَدَرتْ .. ) الآيات. ثم أكدت بالقسم شَأْنَ القرآن الكريم، ونفت عنه الفرية، وبينت أنه منزل من رب العالمين، نزل به الروح الأمين جبريل - عليه السلام - الذي وصف بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين (فَلَا أُقْسِمُ بالخنس، الجوار الكنس .. ) الآيات. ثم نزهت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقوله المتقولون عليه كذبًا وبهتانًا، وأكدت بالقسم أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام في صورته الملكية بالأفق الأعلى الواضح، ونفت عنه أن يكون مقصرًا أو متهمًا في تبليغ رسالة ربه التي أَداها بصدق وأمانة (وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين). ثم كذبت مزاعم المشركين حول القرآن العظيم، وأبطلتها ببيان أنه موعظة من الله لعباده، ينتفع بها أهل الاستقامة، وهم بصنيعهم كمن ترك الطريق المستقيم الموصل للغاية، وسلك طريق المخاوف والمهالك (وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون ... ) الآيات.

ثم ختمت السورة برد أمر الناس جميعًا لمشيئة الله (وما تشاءون إلا الله أن يشاء الله رب العالمين). (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} المفردات: (كُوِّرَتْ): أي: لُفَّت، ويلزم ذلك ذهاب ضوئها المنتشر في الآفاق، ومنه تكوير العمامة أي: لفها على الرأس. (انكَدَرَتْ): سقطت وتناثرت. (وَإِذَا الْعِشَارُ): جمع عُشَرَاءَ، كنفاس جمع نُفساء، وهي الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر، وهذا اسمها إلى أن تضع لتمام السنة. (عُطِّلَتْ) أي: أُهملت لاشتغالهم بأنفسهم وكانت موضع عنايتهم واهتمامهم لأنها أنفس أموالهم. (حُشِرَتْ) أي: جمعت من كل جانب، وقال ابن عباس: حشرها: موتها.

(سُجِّرَتْ): مملئت نارًا، من سجر التنور: إذا ملأَه بالحطب. (الْمَوْءُودَةُ): التي دفنت حية. (كُشِطَتْ): نزعت وقلعت، يقال: كَشَطت جلد الشاة: إذا نزعته وفصلته عنها. (سُعِّرَتْ): أُوقدت إيقادًا شديدًا. (أُزْلِفَتْ): قربت وأُدنيت من المتقين. التفسير 1 - (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ): هذه الآية والآيات التالية لها تصوير لأَهوال القيامة ومباديها، وما يصاحب ذلك من شدائد وآلام، وما يعترى الكون والوجود من مظاهر التبديل التي صورت تصويرًا رائعًا، وبينت بيانًا واضحًا. والمعنى: أن الشمس قد أزيل نورها فأَظلمت حينما كورت بلفها، على أن المراد بذلك إما رفعها وإزالتها من مقرها، فإن الثوب إذا أُريد رفعه يلف ويطوي، ونحوه قوله تعالى: "يوم نطوي السماء" وإما يلف ضوئها بعد انتشاره وانبساطه في الآفاق، وقال مجاهد: كورت، أي: اضمحلت وذهبت، وذلك يحصل عند خراب العالم الذي يعيش فيه الحي حياته الدنيا، فإنه عالمه الآخر الذي ينقلب إليه لا يبقى فيه شيءٌ من هذه الأجرام. 2 - (وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ): أي: انتشرت وتساقطت، كقوله تعالى: "وإذا الكواكب انتشرت" (¬1) فذهب نورها، وانحمى لأْلاؤُها. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- لا يبقى يومئذ نجم إلا سقط في الأرض، أو تغيرت وانطمس ضوؤُها لما غشيها من كدرة وسواد. ¬

_ (¬1) الانفطار، الآية رقم 2

3 - (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ): أي: اقتلعت وأُبعدت عن أماكنها بالرجفة الأولى التي تنشق لها الأرض، وتضمحل، وتتزلزل زلزالًا شديدًا، فتتقطع أوصالها، وتفصل منها جبالها، قيل: تسير مقذوفة في الفضاء، وقد تمر على الرءُوس مع السحاب. 4 - (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ): أي: أهملت وسيبت، وتركها أهلها بلا راع، تسير حيث تشاءُ مع أنها أَنفس أَموالهم وأكرمها؛ وذلك لاشتغالهم بأنفسهم لشدة الكرب، وعظم الهول، وقيل: العشار من السحائب فإن العرب تشبهها بالحوامل، ومنه وقوله تعالى: "فالحاملاتِ وقرًا" (¬1) وتعطيلها عدم إمطارها، وقال القرطبي: الكلام على التمثيل؛ إذ لا عشار حينئذ. والمعنى: أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم. 5 - (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ): أي: جمعت من كل ناحية كما قال تعالى: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (¬2) قال ابن عباس: حشرها: موتها وهلاكها. وقال قتادة: يحشر كل شيءٍ حتى الذباب للقصاص، فإذا قضى بينهما ردت ترابًا، وقال حجة الإِسلام الغزلي وجماعة: إنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفًا ولا أهلا للكرامة بوجه، وليس هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليه يدل على حشر غيرهما، ويقول الآلوسي: وإلي هذا القول أميل، ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول وهو حشر الجميع لأن لهم ما يصلح مستندًا في الجملة، ويشير بذلك إلى الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماءِ من الشاة ¬

_ (¬1) الذرايات، الآية: 2 (¬2) الأنعام، الآية: 38

القرناء" وزاد أحمد بن حنبل: "حتى الذرة من الذرة" ويقول، حجة الإسلام وجماعة: الحديث المروي عن مسلم والترمذي وإن كان صحيحا إلا أنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام. 6 - (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ): أي: ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون ملحها وعذبها بحرًا واحدًا، من سَجَرَ التنور: إذ ملأهُ بالحطب ليوقده، وقال ابن عباس وغير واحد: يرسل عليها الدَّبُور فتسعرها وتصير نارًا تأَجج لتعذيب أهل النار، وقيل: أحميت بالنار حتى تبخر ماؤُها وظهرت النَّار في مكانها، وقريب من هذا قول الضحاك وقتادة: غاص ماؤها فذهب ولم يبق منه قطر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى مُلكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول، وأنسب المعاني لمقام الوعيد قول ابن عباس وغير واحد. 7 - (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ): أي: قرنت كل نفس بشكلها: الصالح منها مع الصالح في الجنة، والطالح مع الطالح في النَّار, أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر - رضي الله عنه- أنه مثل عن ذلك فقال: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك تزويج، فلذلك تزويج الأَنفس. وقيل: تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، وقيل: تقرن كل نفس بكتابها. وقيل: الأزواج بأزواجهم. وقيل: بعملها. وأيًّا ما كان فالنفس بمعنى الذات، والتزويج بمعنى الاقتران، ويحصل الاقتران عند البعث. 8، 9 - (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ): كان من عادات بعض العرب الفاشية فيهم. أنه إِذا ولد لأحدهم بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها أمسكها مهانة لها واستخفافا بها إلى أن تقدر على الرعي، ثم ألبسها جبة من

صوف أو شعر وأرسلها في البادية ترعى له إبله وغنمه، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية (¬1) فيقول لأُمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها (¬2)، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول: انظري فيها، فيدفعها، من خلفها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض، وقيل: كانت الحامل إذا أوشكت على الوضع حفرت حفرة، فتمخض على رأْس الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها فيها، وإن ولدت ابنًا حسبته. وكان الدافع لهم على تلك الجريمة الشنعاء، التي اقترفوا إثمها، وباءوا بقبحها، الدافع لهم خشية الإملاق، وخوف الاسترقاق لهن، وإنها لقسوة شديدة وغلظة بالغة، زينت لهم دفن فلذات أكبادهم أحياءً، وهن ينظرون إليهم نظرة ضراعة واستعطاف، ولكن هيهات للقلوب المتحجرة أن تلين، واستمروا مستمسكين بفعلتهم المنكرة إلى أَن جاءَ الإسلام قاقتلع عن قلوبهم بذور الشر والطغيان وملأَها رأْفة ورحمة. فما أَعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها. (سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) توجيه السؤَال لها دون وائدها مع أنه مقترف الذنب. لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ منه والسخط عليه بإسقاطه عن درجة الخطاب مبالغة في تبكيته، فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني عن الذنب الذي من أجله استحق هذه الجناية والعقاب الذي نزل به، كان ذلك باعثًا للجاني على التفكير في حال نفسه، وحال المجني عليه، فيرى براءَة ساحة المجني عليه وأنه هو المستحق للعقاب، وهذا نوع من الاستدراج وقع عن طريق التعويض. وسؤَال الموءودة عن سبب القتل هو سؤَال تلطف، لتقول: قتلت بلا ذنب، أَو لتدل على قاتلها، أو التوبيخ ذلك القاتل يصرف الخطاب عنه تهديدًا له، فإذا سئل المظلوم فما بال الظالم؟! ¬

_ (¬1) سداسة، أي: بلغت ست سنوات. (¬2) أقارب الزوج أو الزوجة.

قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة فمن زعم أنهم في النار فقد كذب، يقول الله - عز وجل-: (وَإذَا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت). أهـ. 10 - (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ): أي: وإذا فتحت صحف الأَعمال؛ لأَن صحيفة كل إنسان تطوى عند موته ثم تنشر عند الحساب، فيعطى صحيفته بيمينه أو شماله وفق عليه الذي سجلته عليه الملائكة، وقيل: نشرت، أَي: فرقت بين أصحابها، وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم، أي: مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال كذا قيل. 11 - (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ): أي: قطعت وأُزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور به. 12 - (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ): أي: أُوقدت إيقادًا شديدًا للكفار، وقال قتادة: سعرها غضب الله، وخطايا بني آدم. 13 - (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ): أي: أُدنيت وقربت من المتقين، كقوله تعالى: "وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد" (¬1). 14 - (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ): أي: تبين لكل نفس جميع ما عملته من خير وشر وذلك بإحضار تلك الأعمال مدونة في الصحف ويراد من إحضارها: اطلاع صاحبها عليها مفصلة في صحفها بحيث لا يشذ ¬

_ (¬1) سورة ق، من الآية رقم 31

منها شيءٌ، كما ينبئُ عنه قوله - تعالى - حكاية عنهم -: "مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا" (¬1). وقد يراد من إحضارها أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة، فإن كانت صالحة على صورة أحسن مما كانت تدركها في الدنيا؛ لأن الطاعات لا تخلو فيها من نوع مشقة، وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا فإنها كانت مزينة لها موافقة لهواها. والآية جواب (إذا الشمس كورت) وما عطف عليها: على أن المراد بها زمان ممتد يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال مبدؤه النفخة الأولى، ومنتهاه فصل الخطاب بين الخلائق، بمعنى أن علمها بما علمته وقع في جزء من هذا الزمن وهو وقت نشر الصحف، وإنما نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كل هذه الدواهي تهويلا للخَطْبِ، وتفظيعًا للحال. ونسب الإخصار إلى النفس، مع أنها تحضر بأمر الله -تعالى- كما يؤذن به قوله تعالى: "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ" (¬2) لأنها لما عملتها في الدنيا، فكأَنها أحضرتها في الموقف. وجوز أن يكون التعبير بقوله تعالى: (عملتْ نفسٌ .. ) بالتنكير .. الآية؛ للإشعار بأنه إذا علمت نفس من النفوس ما أحضرت عند قيام الساعة، وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي التي عملت، أي: إن العاقل يجب عليه أن يتجنب أمرًا يخشى منه الندم والمؤاخذة. ¬

_ (¬1) الكهف، من الآية رقم: 49. (¬2) آل عمران، من الآية رقم: 30.

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} المفردات: (بِالْخُنَّسِ): جمع خانس. من خنس: إِذا رجع، بينما ترى النجم في آخر البرج، إذ ْكرَّ راجعًا إلى أوله، وقيل الخنوس: الانقباض والاستخفاء؛ لأن هذه النجوم عند طلوعها يكون ضوؤُها خافتًا، خنس إبهامه: كنصر وضرب، خنوسًا: قبضه. (الْجَوَارِي): جمع جارية، وهي النجوم السيارة، من الجري وهو المر السريع. (الْكُنَّسِ): جمع كانس وكانسة، وهي التي تستتر وتغيب تحت ضوء الشمس، يقال: كنس الظبي: دخل كناسه، وهي مستترة في الشجر الذي يأوي إليه. (عَسْعَسَ): أقبل ظلامه أو أَدبر، والمعنَيان مأثوران. (تَنَفَّسَ): أَقبل وأَضاءَ. (لَقَوْلُ رَسُولٍ) الرسول: جبريل عليه السلام وقوله: تبليغه. (بِضَنِينٍ): بكسر الضاد وفتحها - أي: ليس ببخيل، بمعنى أنه لا يبخل بالوحي، ولا يقصِّر في التبليغ والمراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(رَجِيمٍ) أي: مطرود من رحمة الله، من الرجم: وهو الطرد، أَو مرجوم بالشهب، أي: أنه ليس بعض المتسرقة للسمع. التفسير 15، 16 - (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ): شرع في بيان شأْن القرآن العظيم، والنبوة الخاتمة، بعد إثبات المعاد. والمعنى: أنه -سبحانه- أقسم قسمًا مؤكدًا على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام - فقال: (فلا أُقْسِمُ) وهي عبارة من عبارات العرب يراد به تأكيد الخبر وتقريره، كأنه في ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم، ويقال إنه يؤتى بكلمة "لا" في القسم إذا أُريد تعظيم المقسم به. (بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ) وهي النجوم الجواري التي تخنس بالنهار، أي: ترجع، ويختفي ضوؤُها فيه عن الأبصار مع طلوعها وكونها فوق الأُفق، وتكنس بعد ظهورها في الليل، أي: تستتر في مغيبها، وتخفى فيه، فتكون تحت الأُفق بعد أن كانت فوقه. كما تستتر الظباءُ في كُنُسِها، وهي مُسْتَتَرَهَا في الشجر الذي تأْوي إليه، فخنوس تلك النجوم: رجوعها وخفاؤُها بحسب الرؤية، وكنوسها: دخولها في المغيب بعد ظهورها نهارًا. قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل وتكنس وقت غروبها، أي: تستتر. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير -كرم الله وجهه- أنه قال: هي خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد، وصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري وتسير مع الشمس والقمر، وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها، وعن ابن مسعود: أنها بقر الوحش، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعبد بن حميد، وروى ذلك أيضًا عن ابن جرير والضحاك قالوا: الخَنَس تأخر الأنف مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف بقر الوحش والظباء.

وإنما أقسم - تعالى - بالخنس الجواري الكنس لدلالتها بهذه الأحوال المختلفة، والحركات المنسقة على عظيم قدرة مبدعها ومصرفها -عز شأنه- وإرشاد تلك الحركات على ما في الكون من بديع الصنع، وإحكام النظام. 17، 18 - (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ): عطف على القسم السابق، أَي: لا أُقسم بعظمة الليل إذا أَقبل ظلامه أَو أَدبر، فكلمة "عَسْعَسَ" من الأضداد، قال الفراء: أَجمع المفسرون على أَن معنى (عَسْعَسَ اللَّيْلُ): أَدبر وقيل: هي لغة قريش، وقيل المعنى: أقبل ظلامه، وذلك أَوفق للآية التالية، لما بين إقبال الليل وتنفس الصبح من المناسبة، (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أي: لا أُقسم كذلك بعظمة الصبح إذا تبلج وأَضاءَ، وامتدَّ حتى صار نهارًا بيِّنا أَزال غمة الظلام التي كانت تغمر الأَحياء فاستقبلوا يومهم مستبشرين بحياة جديدة في يوم جديد. والتعبير بقوله سبحانه: (تَنَفَّسَ) لأَن الصبح إذا أَقبل: أَقبل بإقبال روح ونسيم فجعل ما يصاحبه نفسًا له على المجاز. 19، 21 - (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ): ذلك جواب القسم وهو المقسم عليه المراد توكيده وتقريره، أي: إن هذا القرآن العظيم الناطق بما ذكر من العظائم الهائلة (لقول رسول كريم) كرمة الله وعظمة، وهو جبريل -عليه السلام- كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور، وقد قاله من جهة ربه -سبحانه وتعالى- وإنما أُسند قوله إليه، لأَنه حامله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناقله إليه من مراسل عز وجل (ذِي قُوَّةٍ) أي: قدرة على ما يكلف به لا يعجز ولا يضعف، كما قال سبحانه في سورة النجم: "شَدِيدُ القُوَى، ذُو مِرَّةٍ" بمعنى أَنه مع قوته يتصف بالحصانة في العقل والرأْي. جاءَ في قوله أنه -عليه السلام - بعث إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملها بمن فيها من الأرض السفلى، ثم هوى

بها فأَكلها، وقيل المراد: القوة في أَداء الطاعة لله تعالى وترك الإخلال بها. (عندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ) أي: له مكان رفيعة، ومنزلة سامية، وشرف عظيم عند صاحب العرش جل شأْنه والعندية عندية تشريف وإكرام لا عندية مكان، ولما كانت حال المكانة على حسب حال المكين قال -سبحانه-: (عند ذي العرش مكين) ليدل على عظم منزلته ومكانته بما لا يدع مجالا لشك أَو مماراة (مطاع ثم أمين) أي: مطاع هنالك في العالم الإلهي بين الملائكة المقربين -عليهم السلام- يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأْيه، وهو أمين على الوحي، لا يزيد فيه، ولا ينقص مما أمر بتبليغه، وفي رواية عنه - عليه السلام- قال: "أمانتي أني لم أُومَر بشيءٍ فَعَدَوْته إلى غيرِه" 22 - (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) صاحبهم هو نبينا صلى الله عليه وسلم نفى الله عنه الوصف بالجنون لأن بعض قريش كان يرميه بذلك عند ما يسمع منه غريب الخبر عن اليوم الآخر وغيره من مواضع العبر ما لم يكن معروفًا عندهم، ولا مأْلوفًا لعقولهم، والتعبير عنه بصاحبكم أبلغ في استدلال عليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم نشأَ بينهم من صغره إلى كبره، وما عرفوا منه إلا كمال العقل، والتبريز في الفضل، وأنه كملهم وصفًا وأَصفاهم ذهنًا، فكيف يوصف بالجنون عندما تأْتيه الرسالة من ربه؟ ولا يصفه بذلك إلا من سفه نفسه وتملكه الحمق والجنون. 23 - (وَلَقَدْ رَأَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ): أي: وبالله إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل - عليه السلام- بالأفق الأعلى الواضح المُظهِر لما يُرى فيه (¬1) من جهة المشرق كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان، وهي الرؤية الأولى بمكة، الواقعة في غار حراء، رآه بالصورة التي خلفه الله عليها، وعن مجاهد أنه صلى الله عليه وسلم رآه نحو جياد وهو مشرق مكة، وقيل غير ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية: رآه بصورته عند سدرة المنتهى، والأفق - على هذا- بمعنى الناحية، أي: ناحيتها. ¬

_ (¬1) الأفق بالضم وبضمتين: الناحية، والجمع: آفاق. أهـ: قاموس.

24 - (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ): أَي: وما رسول الله صلى الله عليه وسلم ببخيل بما يأْتيه من الوحي، ولا بمقصر في تبليغه لكم وتعليمكم إياه. وسمى الوحي غيبًا، لأَنه لا يعرفه، ولا يعلم حقيقته من البشر إلا الذي يوحي إليه، أو المعنى أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم على الغيب، بل هو صادق في كل ما أخبر به عن الله تعالى -وكما لم يعرف عنه الكذب في ماضي حياته، فهو غير متهم فيما يحكيه عن جبريل - عليه السلام - وذلك على قراءَة بظنين. 25 - (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ): أي: ليس القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بقول شيطان مسترق للسمع من الملأ الأعلى حتى تقولوا إنه كهانة، ولا يتأتى أن يكون كذلك، لأن صاحبكم قد عرف بصحة العقل وبالأمانة على الغيب، فلا يكون ما يحدثكم به من أخبار الآخرة، ومن الشرائع والأحكام قول شيطان رجيم؛ قال تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (¬1). 26 - (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ): بتهمهم بالضلال واعتبارهم ضلال فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم، أي: فأي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة بوضوح آياته، وسطوع براهينه، وأَحاط بكم الحق من كل جوانبكم، وذلك كما يقال لتارك الجادة اعتسافًا أو ذهابًا في بنيات (¬2) الطريق: هذا الطريق الواضح، فأَين تذهب؟! مثلث حالهم في تركهم الحق مع وضوحه وظهوره، وعدولهم عنه إلى الباطل مع قبحه ومقته، بحالة من ارتكب شططًا في سيره. وقيل: فأَين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه من عند الله ¬

_ (¬1) الشعراء، الآيات: 210 - 212. (¬2) وهي الطرق الصغيرة المتفرعة المتشعبة من الجادة.

عز وجل - كما قال الصديق - رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة حين قدموا مُسْلِمين، وأَمرهم فَتَلَوْا عليه شيئًا من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة. فقال: ويحكم أين يذهب بعقولكم؟! والله إن هذا الكلام لم يخرج من إله. وقال قتادة: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي: عن كتاب الله وعن طاعته، وقال الزجاج: معناه فأَي طريق تسلكونه أَبْين من هذه الطريقة التي بينت لكم، وقال الجنيد: فأَين تذهبون عنا وإن من شيء إلَّا عندنا. 27، 28 - (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) / أي: ما هذا القرآن إلَّا ذكر لجميع الناس يتذكرون به ما وقر في قلوبهم من الميل إلى الخير، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من أَنواع السوء التي تحدثها أَمراض التقلب في الحياة (لِمَن شَاءَ منِكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) بدل من العالمين، أَي: إنه ذكر يتذكر به من وجه إرادته للاستقامة على الجادة الواضحة، بملازمة الحق والعدل، وتحري الصواب، وأما من صرف نفسه عن ذلك ولم يرد إلَّا الاعوجاج والانحراف، فذلك الذكرُ لا يؤَثر فيه، ولا يخرجه عن غفلته هذا، وقد فرض الله على المكلف أَن يوجه فكره نحو الحق ليطلبه وأن يحفز عزمه إلى الخير ليكسبه. 29 - (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ): روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت (لمن شاء منكم أن يستقيم) قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا، وإن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: (وما تشاءون .. ) الآية. أي: وما تشاءُون الاستقامة مشيئة نافعة لسبب من الأسباب، أو في وقت من الأوقات إلا أن يشاء الله تلك المشيئة المستتبعة للاستقامة، فإن مشيئتكم لا تستتبع الاستقامة بدون مشيئة الله تعالى، فهو سبحانه خلق العبد وأحاط علمه بكل ما يصدر عنه ويضمره من خير وشر، واستقامة وضلال وفق اختياره، وبدافع من مشيئته واستعداده فإن فعل

بسبب ذلك خيرًا أعانه الله عليه، وإن كان شرًّا لم يُعِنْهُ وتركه للشياطين يضلونه، ولهواه يتحكم فيه، ولهذا يكون مسئولا عن كل ما يفعله لأنه فعله مختارًا حسب استعداده الذي عَلِمَهُ الله فيه عند خلقه، كما قال تعالى: "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (¬1). وهو سبحانه: (رَبُّ العَالَمِينَ) أي: مالك الخلق ومربيهم، ومانحهم كل ما يتمتعون به من القوى والقُدَرِ، وصاحب السلطان عليهم، تبارك اسمه، وعلا علوًّا كبيرًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الملك، الآية: 14.

سورة الانفطار

سورة الانفطار هي سورة مكية وآياتها تسع عشرة آية صلتها بما قبلها: هذه السورة الكريمة تتفق مع السورة التي قبلها وهي سورة التكوير في أن كلا منها تتحدث عمَّا يصيب الكون من تغيّر وتبدّل قبيل القيامة، ففي التكوير يأْتي قوله تعالى: "إذا الشمس كورت" إلى قوله -جل شأنه-: "وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت" وفي سورتنا هذه يجيء قوله -عز من قائل-: (إذا السماء انفطرت) إلى قوله تعالى: (وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت) فهدف السورتين يكاد يكون متفقًا على غرض واحد: وهو بيان ما يحدث قبيل يوم القيامة من أحوال عظام وأحداث جسام. بعض مقاصد السورة: 1 - تحدثت السورة في أَولها عما يحدث عند قيام الساعة من انفطار السماء وتشققها، وانتشار الكواكب وتفرقها، وانتزاعها من أماكنها، وتفجير البحار وامتزاج مياهها وتفرقها في جنبات الأرض، وإزالة ما بينهما من البرازخ والحواجز، ثم بعثرة القبور وإخراج ما فيها من الأموات وقد عادت لهم الحياة، وما يعقب ذلك من حشر وحساب وجزاءٍ (إذا السماء انفطرت) إلى قوله تعالى: (علمت نفس ما قدمت وأخرت). 2 - ثم تذكر السورة الكريمة اغترار الإنسان وانخداعه بإمهال الله وترك عقابه على ما يبدر منه من شرك ومعاص حيث لا يقر له بنعمة، ولا يعرف له سبحانه حقه في إفراده بالوحدانية، بل يصير كنودًا جحودًا لنعم الله عليه: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك) ثم يوضح ويبين -سبحانه- سبب هذا الجحود والكفران وأنه هو التكذيب وعدم الإقرار بيوم القيامة، أو بالإسلام فيقول: (كلا بل تكذبون بالدين).

3 - ثم بعد ذلك قسمت النَّاس إلى طائعين أَبرار، وإلى عاصين فجار، وبينت مآل وعاقبة كل فريق منهم: (إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم). وكانت نهاية السورة في عرض أهوال اليوم الآخر: (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين)، ثم ختمت بأن الملك له وحده، وأن الأمر أمره، فليس لأحد في هذا اليوم حكم ولا أمر: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله). (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} المفردات: (انفَطَرَتْ): تشققت وتصدعت. (انتَثَرَتْ): تساقطت متفرقة. (فُجِّرَتْ): من الفَجْرِ: وهو شق الشيء شقًّا واسعًا، والمراد: فتح بعضها على بعض فاختلط العذب بالملح. التفسير: 1، 5 - {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}:

أي: إذا السماء انشقت وتصدعت وصارت أبوابًا وذلك لنزول الملائكة، وإذا الكواكب تساقطت متفرقة منتشرة كجواهر ولآلئ قطع سلكها وبتر خيطها، وإذا البحار فتحت وشقت جوانبها وزال ما بينها من الحواجز والبرازخ واختلط ماؤها العذب بمائها الملح الأُجاج حتى صارت بحرًا واحدًا ثم تنشف الأرض جميعًا وتجف وتيبس فتصير بلا ماءٍ ويقضي على أسباب الحياة فيها، وإذا القبور قلب ترابها وصار أعلاها أَسفلها، وأُخرج مَنْ دفن فيها (علمت نفس ما قدمت وأخرت) هذا وجوب (إذا السماء انفطرت) وما عطف عليه، أي: إذا حصل هذا علمت كل نفس مكلفة علمًا تفصيليا عند نشر صحف أعمالها ما قدمته من عمل خير أو شر، وما أخَّرته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعد ذلك، أو ما قدمته من أموال لنفسها مما أنفقته في سبيل الله، وما أخرته وتركته لورثتها يستمتعون به وينتفعون وتحاسب هي عليه، أما العلم الإجمالي لذلك فإنه يحصل قبل ذلك؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاء في أول الأمر. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} المفردات: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ): ما خدعك وجرَّأَك على عصيان ربِّك. (فَسَوَّاكَ): فجعل أعضاءك سويَّة سليمة مهيأَة لمنافعها. (فَعَدَلَكَ): فساوى بين أعضائك فلم تتفاوت في طول أو قصر. أو لون أو شكل من: عدل فلانًا بفلان: إذا ساوى بينهما، وقيل غير ذلك وسيأْتي. (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ): وضعك وجعلك في أي صورة اقتضتها مشيئته.

التفسير: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} هذا النداء للكافر الذي جحد بربه، أو هو عام يشمل العصاة أيضًا، أي: أي شيء خدعك وسوّل لك وجرأك على عصيان الله والمخالفة عن أمره، وقد رباك بنعمه ورعاك بكرمه في جميع أطوارك ومختلف أحوالك، فجعلك خليفة في أرضه، وميزك بالعقل والتكليف وحمّلك الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجيال من حملها، وسخَّر لك ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه ثم كان منك أن أعمتك النعمة وشغلتك عن المنعم حتى جحدته وكذبت رسوله، والأجدر بك أن تقابل الإحسان بالطاعة، والنعم بالشكر، فالغرور أمارة الحمق وآية الجهل، روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" فقال: "غره الجهل" وقاله عمر - رضي الله عنه - أيضًا وقرأ: "إنه كان ظلومًا جهولًا". (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ): هذه صفات مقررة للربوبية مبينة وموضحة لكرم الله على الإنسان، مشيرة إلى أن ما كذبوا به من البعث والجزاء هو حق ثابت؛ لأن من قدر على الخلق بدءًا كان أَقدر عليه إعادة، والتسوية: جعل الأعضاء سليمة سويّة معدّة لقيامها بمهامها وأدائها لمنافعها على وفق حكمته - تعالى - ومشيئته. قال ذو النون: سواك، أي: سخّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مُسَخَّرًا لشيء منها. ثم أنطلق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، وسرك بالإيمان، وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا (فَعَدَلَكَ) أي: فعدل أعضاءك ببعضها حتى اعتدلت وتساوت من غير تفاوت، فلم يجعل إحدى اليدين أو الرجلين أطوال، ولا إحدى العينين أو الأُذنين أو المنخرين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، بل لقد تم التناسق والتناسب بينها في كمال إبداع، وعظيم إِحكام، أو صرفك عن خلقة غير ملائمة لك إلى خلقة مستوية مستقيمة لا منكسة كالبهائم، وجعلك تتناول طعامك بيدك، وأكرمك بأمور بأُمور كثيرة

ونعم عديدة: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" (¬1) أو صرفك عن خلقة غيرك وجعلك على صورة وخلقة حسنة مفارقة لسائر الخلائق. هذا وإن تفاوت النَّاس في الحسن مما يدل على كمال اقتدار الله -سبحانه- وعظيم إبداعه. (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) أي: خلقك وكوَّنكَ وجعلك في أي صورة من الصور التي اقتضتها مشيئته، وأرادتها حكمته من الصور المختلفة في الحسن، والذكورة والأُنوثة والطول والقصر، وغير ذلك من الصفات التي تتفاوت الناس فيها، أو ركبك ما شاءَ من التراكيب كيبا حسنا. {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} المفردات: (كَلاَّ): ردع وزجر وإبطال لقول من يقول. (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ): وإن عليكم من الملائكة لمحصين رقباءَ لأَعمالكم لا يفوتهم منها شيءٌ. (كِرَامًا): ذوي أَفعال ظاهرة محمودة ومحاسن كبيرة. التفسير 9 - (كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ): (كَلَّا) حرف للردع والزجر، أي: انزجروا وارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتعلق به وجعله وسيلة وذريعة إلى الكفر والعصيان مع كونه موجبًا للشكر والطاعة، ومانعًا من ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، من الآية 34.

الفسوق والتمرد وذلك عند ذوي الفطر السليمة، والطبائع المستقيمة أما أن تكون عاقبة ومآل إكرام الله لكم هو النكران والجحود فذلك آية على دنس النفس، وخبث الطوية، وسوء السريرة، ولؤْم الطبع، وانحطاط الهمة، ولله در القائل: إذا أنت أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ ... وإن أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تَمَرَّدَا هذا، وقد روي أن أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- دعا غلامًا له مرات فلم يجبه، فنظر أمير المؤمنين فإذا الغلام بالباب، فقال له: لِمَ لَمْ تجِبني؟ فقال الغلام: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه وأَعتقه. ونقول: إن أغلب الظن أن أمير المؤمنين لم يستحسن جوابه وإنما أعتقه للؤمه وخسة طبعه، ولعله -كرم الله وجهه- أعتقه رغبة عن معاشرة من يقابل الإحسان بالكفران؛ إذ الطبائع السليمة والفطر المستقيمة يأسرها المعروف، ويملكها ويأخذ بأعناقها إسداء الخير وجميل الفعل. (بل تكذبون بالدين): الكلام يشير إلى أن هنا جملة مقدرة، كأنه قيل: وأنتم لا ترتدعون ولا تنزجرون عن الاغترار بكرم الله، بل تجترئون وتسرعون بالهجوم على ارتكاب ما هو أشد منه وأعظم جرمًا حيث تكذبون بالجزاء والبعث، وفيه من الترقي والانتقال من الأهوان -وهو الغرور- إلى ما هو أفظع وأغلظ وهو التكذيب، أي: أنهم تجاوزوا الغرور إلى ما هو أدهى منه وأَمَرُّ. وقال الراغب: (بَلْ) هنا لتصحيح الثاني -وهو تكذيبهم بالجزاءِ والحساب- وإِبطال الأَول -وهو الاغترار بكرم الله- كأَنه قيل: ليس هنا مقتض لغرورهم، ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه. 10 - (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ): أي: تكذبون وتجحدون بالجزاءِ يوم القيامة والشأْن والحال أَن عليكم من قبلنا لحافظين لأَعمالكم لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أَحصوها عليكم.

11 - (كِرَامًا كَاتِبِينَ): أَي: إِن هؤُلاءِ الملائكة الحفظة كرام لدينا ذوو محاسن كبيرة ومنزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وهم يكتبون كل ما يصدر منكم ويسطرونه في صحائف أَعمالكم. وفي تعظيم الله لهؤُلاءِ الكرام الكاتبين بالثناءِ عليهم تعظيم وتفخيم لأَمر الجزاء وأَنه عند الله من جلائل الأَعمال؛ حيث استعمل هؤُلاءِ الكرام لديه - تعالى - في ضبط وإِحصاء ما يحاسب الناس عليه، وحقًّا: إِن العظائمَ كُفْؤُها العظماء. وقال الإِمام الآلوسي نقلا عن المهدوي: "ومن يكتب الأَعمال ملكان: كاتب الحسنات وهو على المشهور على العاتق (¬1) الأَيمن، وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأَيسر، والأَول أَمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إِلا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها، ويكتبان كل شيءٍ حتى الاعتقاد والعزم، وحتى الأَنين في المرض، وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح، ويفارقان المكلف عند الجماع، ولا يدخلان مع العبد الخلاء، أَخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله يَنهَاكُم عن التَّعرِّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إِلا عند إِحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل". 12 - (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ): من الأَفعال قلَّ أَو كثر، دق أَو عظم، وليس ذلك إِلاَّ للجزاءِ وإِقامة الحجة على الناس، وإِلاَّ كان عبثًا يُنَزَّهُ ويُقَدس عنه -جل شأْنه-. ¬

_ (¬1) العاتق: موضع الرداء من المنكب، والمنكب: مجمع عظم العضد والكتف.

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} المفردات: (الأَبْرَارَ): جمع بار، مشتق من البر: وهو التوسع في عمل الخير. (لَفِي نَعِيمٍ): النعيم في الأَصل: النعمة الكثيرة، والمراد هنا: الجنة لما فيها من ضروب النعم. (الْفُجَّارَ): جمع فاجر: وهو من شق ستر الدين وجاهر بالعصيان، من الفَجْرِ: وهو شق الشيءِ شقًّا واسعًا. (لَفِي جَحِيمٍ): الجحيم: مأْخوذ من الجحمة: وهي شدة تأَجج النَّار، والمراد به هنا: النَّار في الآخرة. (يَصْلَوْنَهَا): يقاسون حرها، أَو يدخلونها. التفسير: 13 - (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ): الأَبرار: مشتق من البر، وهو التوسع في فعل الخير وأَداء الطاعات، وفي سنامها وقمتها طاعة الله ورسوله، ثم بر الوالدين، وقد روي أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البر؟ فتلا قوله تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"

إِلى قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ" (¬1) فهؤُلاءِ الأَبرار الطائعون الأَخبار يشملهم الله برضوانه ويدخلهم في نعيمه وجناته، ويقيهم عذابه، ويحفظهم من سخطه وعقابه. 14 - (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ): أَي: وإِن الفجرة الذين شقوا وهتكوا ستر الدين، وجاهروا الله بالمعاصي ولم يستحيوا منه سبحانه إِن هؤُلاءِ لمحاطون بالنار تضمهم وتشملهم وقد اشتد تأَججها وعَظُمَ لهيبها. 15 - (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ): أَي: يدخلونها ويقاسون حرها ولظاها يوم الجزاء والحساب الذي كانوا به يكذبون. 16 - (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ): هذه الآية الكريمة قد جاءَت قطعًا لرجاءِ الفجار وتيئيسا لهم من أَن ينقطع عنهم العذاب، وأَن ينالوا برد الراحة، أَي: أَنهم ليسوا بمنأًى عن النار وعذابها طرفة عين، وهو كقوله تعالى: "وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا" (¬2) وذلك للدلالة على سرمدية العذاب ودوامه. وقيل معناه: وما كانوا غائبين عن النار قبل ذلك بالكلية، بل كانوا يجدون سَمومها ولَفْحها ولظاها في قبورهم، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "القبُر روضةٌ من رياض الجنة أَو حُفْرةٌ من حُفَر النار". وفي تنكير النعيم والجحيم ما يشير إِلى التفخيم والتعظيم في شأْن نعيم الأَبرار، وإِلى التهويل والتبشيع في حق عذاب الفجار. قيل: أَخبر الله في هذه السورة أَن لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وهي حالته في الدنيا، وحال الآخرة التي يجازي فيها، وحال البرزخ وهو قوله تعالى: "وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ". ¬

_ (¬1) من الآية: 177 من سورة البقرة. (¬2) من الآية: 37 من سورة المائدة.

17 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): هذا تفخيم وتعجيب وتعظيم لشأْن يوم الجزاءِ وتهويل له، أَي: ما أَعلمك ما هو يوم الدين؟ وأَي شيءٍ هو في شدته وهوله؟ 18 - (ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): ذلك تفخيم لهذا اليوم إِثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب أَي: إِن أَمره لعجيب، وشأْنه لعظيم بحيث لا يستطيع أَحد أَن يدرك حقيقته أَو يقف على كنهه لهوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان. قال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيءٍ من القرآن من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ) فقد أَدراه للرسول، وكل شيءٍ من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ) فقد طوي عنه. 19 - (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ): أَي: في ذلك اليوم وهو ما من الشدة والهول لا يملك ولا يستطيع أَحد أَن يجلب لغيره نفعًا أَو يدفع عنه ضرًّا، بخلاف ما كان عليه الحال في الدنيا؛ فإِن أَهلها كانوا يتغلبون على الملك، ويعين بعضهم بعضًا، ويحمي بعضهم بعضًا، فإذا كانت القيامة بطل ملك بني الدنيا وزالت رياستهم، فلا يحمي أَحدٌ أَحدًا، ولا يغني عنه شيئًا ولا يتغلب أَحد على ملك غيره، وهنا وعيد عظيم وتخويف شديد حيث عرفهم أَنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأَعوان وشفعاء، فالأَمر كله في هذا اليوم لله وحده، فقد انقطعت الأسباب وذهبت الوسائل، وزالت الأَغيار، والله وحده هو صاحب الملك والسلطان، وذلك كقوله: (لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (¬1) وقال قتادة: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قال: والأَمر -والله- اليوم لله -يريد في الآخرة- وقال الواحدي: والمعنى أَن الله - تعالى - لم يملِّكْ في ذلك اليوم أَحدًا شيئًا من الأُمور كما ملكهم في دار الدنيا. ¬

_ (¬1) سورة غافر من الآية 16

هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بَنِي عبدِ المطلبِ اشتروا أَنفسَكم مِن اللهِ، يا صفيةَ عمةِ رسول الله، يا فاطمةَ بنت رسول الله اشترِيا أَنفسَكما من اللهِ لا أُغني عنكما من اللهِ شيئًا، سَلاَنِي من مالي ما شئتما" وصدق الله ورسوله.

سورة المطففين

سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون آية صلة هذه السورة بما قبلها: أَنها تنذر بالويل والثبور والعذاب بالنار في الآخرة، وتهدد الظالمين الذين ينتقصون حق غيرهم فهي تتلاقى مع السورة قبلها في وعيد المخالفين الضالين، كما أَنها تبيّن ما أَجملته سورة الانفطار من عذاب الفجار، وثواب الأَبرار. بعض مقاصد السورة: 1 - جاءَت السورة في أَولها مهددة منذرة هؤُلاءِ الذين يجورون ويظلمون سواهم بالاستيلاءِ على حقهم، واستلاب أَموالهم ضاربين بعقاب الله لهم في الآخرة عرض الحائط: (وَيْلٌ لِّلْطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاس ... ) إِلى قوله: (أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ). 2 - تحدثت السورة عن مآل الفجار، وأَنَّهُمْ سيحاسبون على أَعمالهم التي سجلت عليهم في كتاب قد حفظ في مكان حريز ضيق في أَسفل جهنم، لا يزاد فيه ولا ينتقص منه، وأَنهم لا ينعمون بفضل الله ورحمته ولا يسعدون برؤيته يوم القيامة، وأَنهم مع ذلك يصْلَوْنَ جهنم ويعذبون بعذابها الأَليم: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) إِلى قوله: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ). 3 - ثم أَتت السورة بنعيم الأَبرار الذين جمعوا خصال الخير، وأَبانت سعادتهم في الآخرة، وأَنهم في مرضاة ربهم وكرمه: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) إِلى قوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ). 4 - وفي ختام السورة يجيء ويظهر ما يلقاهُ المجرمون من سخرية المؤمنين واستهزائهم بهم جزاءَ ما كان المجرمون يفعلونه بالمؤمنين في الدنيا من الإيذاءِ والسخرية جزاءً وفاقًا:

سبب نزول السورة

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)) سبب نزول السورة: عن ابن عباس قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا أَخبث الناس كيلا فأَنزل الله - عز وجل -: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأَحسبوا الكيل بعد ذلك". (بسم الله الرحمن الرحيم) (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) المفردات: (وَيْلٌ): هلاك وبوار، أَو مقر في الجحيم. (لِلْمُطَفِّفِينَ): المطففون: جمع مطفف، وهو الذي يبخس وينقص في الكيل والوزن، وأَصله: من الطفيف، وهو الشيءُ اليسير. (يُخْسِرُونَ): ينقصون ويظلمون غيرهم. التفسير 1، 3 - (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) أَي هلاك وبوار، أَو مقر في النار لهؤُلاءِ الذين إِذا أَخذوا حقهم من سواهم أَخذوه كاملا غير منقوص، وهم بعملهم هذا يحرصون أَن ينالوا حقهم دون حيف أَو ظلم من أَحد عليهم،

ولو أَدى ذلك إِلى أَن يحملوهم ويقسروهم على ذلك قسرًا وحملًا، ومع ذلك فهم في إِيفاء سواهم ما في ذمتهم من حق وما عليهم من تبعة يخسرون غيرهم وينقصونهم، وينالون من حقهم لديهم، لا يبرئون ذمتهم، ولا يتحللون من تبعتهم؛ إِذا قد تملكتهم الأَثرة واستولى عليهم حبهم لأَنفسهم، وهذا آية جشع نفوسهم، وتمكن الطمع منهم، وتسلط الظلم عليهم، وإِلاَّ لأنصفوا النَّاس منهم، وأَقاموا العدل فيهم، فأَعطوهم مثل ما أَخذوا منهم وهذا الوعيد بالويل والثبور وإِن جاءَ في حق البخس والنقص فيما يكال ويوزن إِلا أَن النص الكريم يتسع ويتناول غير ذلك من سائر الحقوق التي يتداولها الناس فيما بينهم. قال القشيري: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إِظهار العيب وإِخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف؛ ويقال: من لم يرض لأَخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة، والذي يري عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أَحد لنفسه حقًّا أ. هـ. وفي التعبير بالمطففين ما يشير إِلى أَن الذي يطمع في حق سواه إِنما يأْخذ حقيرًا وينال تافهًا قليلًا؛ فالمطفف مأْخوذ من الطفيف: وهو النزر القليل، وقال الزجاج: إِنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأَنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إِلا الشيءَ الطفيف الخفيف. وروى ابن قاسم عن الإِمام مالك أَنه قرأَ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فقال: لا تطفف ولا تَخْلِبْ (لا تخدع) ولكن أَرسل وصب عليه صبًّا، حتى إِذا استوفى أَرسل يدك ولا تمسك. وقال ابن الماجشون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف وقال: "إِن البركة في رأْسه" وقال: بلغني أَن كيل فرعون كان مسحًا بالجديدة. ولعل السر في مجيء (عَلَى) بدل (مِنْ) في قوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) للإِشعار والإِيذان بأَن عملهم هذا فيه إِضرار بالمكتال منهم وتحامل عليهم. وقال الفراءُ: (مِنْ) و (عَلَى) يتعاقبان في هذا الموضع؛ فإِذا قال: اكتلت عليك، فإِنه قال: أَخذت ما عليك، وإِذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك.

هذا، وقد تهدد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد من يفعلون ذلك والذين يماثلون من الفجرة بما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس بخمس، ما نقضَ قومٌ العهدَ إِلاَّ سلط الله عليهم عدوَّهم، وما حكموا بغيرِ ما أنزلَ الله إِلاَّ فشا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهرتِ الفاحشةُ فيهم إِلا ظهر فيهم الطاعونُ، ولا طففوا الكيلَ إِلاَّ مُنعوا النباتَ وأَخذوا بالسنين، ولا مَنعوا الزكاةَ إِلاَّ حبسَ اللهُ عنهم المطرَ" وقال مالك بن دينار: دخلت على جارٍ قد نزل به الموت فجعل يقول: جبلين من نار! جبلين من نار! فقلت: ما تقول؟ أَتَهْجُر؟ (أَتهذي) قال: يا أَبا يحيى: كان لي مكيالان أَكيل بأَحدهما وأَكتال بالآخر، قال مالك: فقمت فجعلت أَضرب أَحدهما بالآخر حتى كسرتهما، فقال: يا أَبا يحيى: كلما ضربت أَحدهما بالآخر ازداد عظما، فمات من وجعه. (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)) المفردات: (أَلا يَظُنُّ): الظن: هو إِدراك الطرف الراجح، ويراد به هنا: التردد والتخمين، وقيل غير ذلك. قال الراغب: الظن: اسم لما يحصل من أَمارة، ومتى قويت أَدت إِلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم تتجاوز حد الوهم. التفسير 4 - (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)) هذا إِنكار لفعلهم وتقبيح لصنيعهم وتعجيب عظيم لحالهم في الاجتراء على التطفيف حتى كأَنهم لا يخطرونه ببالهم، ولا يمرونه بخاطرهم، ولا يظنون ظنا أَنهم مبعوثون ومنشورون من قبورهم أَحياء فمحاسبون على مقدار الذرة والخردلة، فالظن والحدس في

هذا المقام كاف لمنعهم وردعهم عن اقتراف البخس والنقص في الكيل والوزن أَخذًا بالأَحوط، ودفعًا لما عساه أَن ينالهم من نكال وعقاب جزاءَ بخسهم ونقصهم، فما بالهم لو علموا وأَيقنوا أَنهم ملاقون ربهم فمجازيهم على ما اقترفوه من ظلم وما فعلوه من جرم وإِثم. 5 - (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ): وهو يوم القيامة، فعظمه كبير لا يقادر قدره، وقد وصف بذلك لعظم ما فيه من الأَهوال والشدائد الجسام. 6 - (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ): أَي: يقومون لحكمه وقضائه ولمحض أَمره وطاعته لا لشيءٍ آخر، وروى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: "حتى يغيبَ أَحدُهم في رشحهِ إِلى أَنصاف أُذنَيْه" وقد ورد أَنه المراد من قوله تعالى: "تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّروحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنه ليخفَّف عن المؤمنِ حتى يكونَ أَخفّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" وهو مروي عن ابن عباس وإِسناده صحيح. والآية تدل على التهديد والوعيد؛ حيث أَبانت أَن الناس تقوم لرب العالمين، والقيام في هذا اليوم لا يكون إِلاَّ مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والخوف والرهبة من جلال الله وغضبه هذا مع وصف نفسه -جل شأْنه- بأَنه رب العالمين؛ فهو مالك نواصيهم، والقاهر فوقهم والمتصرف فيهم تصرفًا تامًّا ولا معقب لحكمه. (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)

المفردات: (الفُجَّارِ): جمع فاجر، وهو من شق وهتك ستر الدين وتجرأَ عليه. (سِجِّينٍ): جب في جهنم، وقيل: في حبس وضيق شديد، فِعِّيل من السجن، وقيل غير ذلك. (مَرْقُومٌ): مكتوب كالرقم في الثوب لا يمحى، وقيل غير ذلك. (مُعْتَدٍ): فاجر جائر عن الحق. (أَثِيمٍ): كثير الإِثم منهمك في الشهوات. (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ): أَكاذيب وخرافات الأَوائل سطروها وزخرفوها في كتبهم. التفسير: 7 - 9 - (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ): (كَلاَّ): ردع وزجر وانتهار لهم، أَي: ارتدعوا وانزجروا عن تطفيف الكيل والوزن، أَو عن التكذيب بالآخرة (إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ): هذا تهديد لهم وتأْكيد على أَن أَعمال الفجار وهم من هتكوا ستر الدين وتجرأُوا عليه وبارزوا الله وجاهروه بالمعاصي أَي: أَن أَعمال هؤُلاءِ مسطورة ومكتوبة في شر موضع، إِنها في جب أَسفل الجحيم، أَو في حبس وضيق شديد، وكان أَمره على هذا النحو للدلالة على خساسة وحقارة منزلتهم، لأَن كتابهم يحل وينزل بسبب الإِعراض عنه والإِبعاد له محل الزجر والهوان، وقال القيشري: سِجِّينٍ: موضع في السافلين يدفن فيه كتاب هؤُلاء فلا يظهر، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون، وهذا دليل على خبث أَعمالهم، وتحقير الله إِياهم، ولهذا قال في كتاب الأَبرار: يشهده المقربون (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) أَي: مكتوب كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى.

وقال قتادة: مرقوم، أَي: مكتوب رقم لهم بشر لا يزاد فيهم أَحد ولا ينقص منهم أَحدٌ. 10 - 12 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ): أَي: هلاك شديد وبوار ثابت لا يزول ولا يحول لهؤُلاءِ المكذبين الجاحدين (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) وصفهم -سبحانه- وكشف عن حقيقة تكذبيهم، وبيّن أَنهم هم الذين يكذبون بيوم القيامة: يوم الحساب والجزاءِ (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) جاءَ سبحانه في هذه الآية بما يؤكد ذمهم وتجريمهم، أَي: وما يكذب بهذا اليوم إِلا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار بآيات الله المتلوّة والمنظورة، أَو كل من تعدى حدود الله وفجر وجار عن الحق وطرحه وراءَ ظهره فلم يعمل به، وكان كثير الإِثم عظيم الذنب منهمكا في شهوات الدنيا الفانية حتى شغلته عما وراءَها من اللذات التامة الباقية في الآخرة، وحملته ودفعته إِلى جحدها وإِنكارها. 13 - (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)): أَي: إِذا سمع ذلك الكافر الفاجر كلام الله - تعالى - من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -مكذبًا-: إِنَّ ما تقوله وتتلوه يا محمد هو أَكاذيب وخرافات الأَوائل سطروها وزخرفوها في كتبهم نَسَبْتَها زورًا وبهتانًا إِلى الله، فهي ليست منزلة من عنده -سبحانه-. (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17))

المفردات: (رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ): غطَّى وغَشَّى قلوبهم ما اقترفوه من الذنوب فلم يهتدوا إِلى الحق. (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ): إِنَّهُمْ لممنوعون عن رؤْية الله في الآخرة. (لَصَالُوا الْجَحِيمِ): لدخلوا النار، أَو لمقاسون حرها وسعيرها. التفسير 14 - (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): أَي: ليس الأَمر كما زعموا وادعوا أَن القرآن أَساطير وأَكاذيب الأَولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإنما حجب قلوبهم عن الإِيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم وغطاها من كثرة الذنوب والخطايا، فعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ العبدَ إِذا أذنب ذنبًا كانتْ نكتة سَوداءَ في قلبه، فإِن تابَ صقل قَلبه، فإِنْ زادَ زادت" فذلك قول الله -تعالى-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت. 15 - (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ): أَي: حقًّا إِنَّهُمْ مع ما يلقونه من الضيق الشديد في سجن مقيم وعذاب أَليم هم أَيضًا محجوبون وممنوعون من رؤْية ربهم وخالقهم في الآخرة، قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أَن الله - عزَّ وجل- يُرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت (¬1) منزلة الكفار بأَنهم يحجبون، وقال -جل ثناؤُه-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (¬2) فأَعلم الله - جل ثناؤُه- أَن المؤمنين ينظرون إِليه، وأَعلم أَن الكفار محجوبون عنه. وقال مالك بن أَنس: لما حجب أَعداءَه فلم يروه تجلى لأَوليائه حتى رأَوه. وقال الشافعي ¬

_ (¬1) خس الشيء يخس: من بابي ضرب وتعب، خساسة: حقر فهو خسيس. المصباح المنير. (¬2) سورة القيامة، الآيتان: 22، 23

لما حجب قومًا بالسخط دل على أَن قومًا يرونه بالرضا، ويرى قوم أَنهم محجوبون وممنوعون عن رضاه، قال مجاهد في قوله تعالى: (لَمَحْجُوبُونَ) أَي: عن كرامته ورحمته ممنوعون، وقال قتادة: هو أَن الله لا ينظر إِليهم برحمته ولا يزكيهم ولهم عذاب أَليم، والجمهور على الرأْي القائل بأَنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه. 16 - (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ): أَي: ثم مع هذا الحرمان من رؤية الرحمن هم كذلك أَيضًا من الملازمين لنار اشتد تأججها يحترقون فيها، وغير خارجين منها. 17 - (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ): ثم يقال لهم من قبل الله القهار -وذلك على سبيل التقريع والتصغير والتحقير-: هذا العذاب الذي تَذوقونه وتصلونه وتتقلب وجوهكم فيه هو ما كان الرسول يحذركم ويخوفكم وينذركم به، فكنتم تستكبرون وتستهزئون وتكذبون به، وها هو ذا قد لحقكم فلا تستطيعون له دفعًا ولا منه فكاكًا. (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) المفردات: (عِلِّيُّونَ): عَلَم على ديوان الخير الذي كتب فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، وقيل غير ذلك. (مَرْقُومٌ): رقم وكتب فيه بالنجاة من الحساب يوم القيامة. (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ): يحضره ويحفظه المقربون من الملائكة، أَو يشهدون بما فيه يوم القيامة.

التفسير 18 - (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ): لما ذكر -سبحانه- حال الفجار المطففين أَتبعه بذكر حال الأَبرار الذين لا يجورون ولا يظلمون فقال: (كَلاَّ) أَي: ليس الأَمر كما يزعمه هؤُلاءِ الفجرة من إِنكار البعث ومن أَن القرآن الكريم خرافات وأَكاذيب الأَولين، ثم قال: (إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أَي: إِن ما يفعله الأَبرار من أعمال الخير والطاعة مسطور ومكتوب في ديوان الخير الذي يكتب فيه كل ما عملته الملائكة وصالحو المؤمنين من الإِنس والجن، وسمي بذلك لأَنه سبب الارتفاع إِلى الجنات؛ إِذ يرقى الأَبرار ويرتفعون من درجة إِلى أُخرى حيث يشاءُ الله من رضوانه وقربه، وقيل: إن (عِلِّيِّينَ) جمع عِلِّيّ عَلى (فِعِّيل) من العلو للمبالغة في سموه ورفعة شأْنه، وقال آخرون: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة قد عظمها الله وأَعلى شأْنها. وقيل: إِن لكل من الأَبرار والفجار كتابًا خاصًّا بهم تكتب فيه أَعمالهم، ثم يضم كتاب الأَبرار إِلى كتاب أَعظم وأَشمل يحويه كما يحوي ويضم كل كتاب من كتب الأَتقياء والصلحاءِ من الثقلين وكتب الملائكة. أَما كتاب الفجار فهو وما على شاكلته من كتب الأَشقياءِ والمردة والشياطين فيوضع ويسجن في كتاب خسيس حقير في مكان ضيق مهين وهو سجِّين (¬1). 19 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ): أَي: ما الذي أَعلمك يا محمد أَي: شيءٍ عِلِّيُّونَ؟ وذلك تفخيمًا لشأْنه وتعظيمًا لمنزلته، إِنه في الدرجة الرفيعة والمنزلة السامية. ¬

_ (¬1) فهو من ظرفية الكل للجزء، قال الآلوسي: وقيل: الكتاب على ظاهره، والكلام نظير أَن تقول: إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني، لما يشتمل على حسابها وحساب أَمثالها.

20 - (كِتَابٌ مَرْقُومٌ): أَي: إِن علَّيِّين كتاب قد رقم وسطر فيه ما أُعد لهم من الثواب ومما يوجب سرورهم وبهجتهم. 21 - (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ): أَي: يحضره ويشهده الملائكة المقربون ويحفظونه، أَو يشهدونه عند صعوده كرامة للأَبرار المتقين، أَو يشهدون بما فيه يوم القيامة تزكية للأبرار وتكريما لهم. أَخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن الملائكةَ يرفعون أَعمالَ العبدِ من عباد الله - تعالى - يستكثرونَهُ حتى يبلغُوا به إِلى حيثُ شاءَ اللهُ - تعالى - من سلطانه، فيوحِي الله - تعالى- إِليهم: إنكم حفظةٌ على عمل عبدِي وأَنَا رقيبٌ على ما في نفسه، إِن عبدِي هذا لم يُخِلصْ لي عملَه فاجعلوه في سجِّين، ويَصعدونَ بعمل العبدِ يستقلونَهُ ويستحقرونَهُ حتى يبلغوا بِه إِلى حيْث شاءَ الله - تعالى - من سلطانهِ فيوحِي اللهُ - تعالى - إِليهم: إِنكم حفظةٌ على عملِ عبدي وأنا رقيبٌ على ما في نفسه، إِن عبدِي هذا أَخلص لي عمله فاجعلوه في عِلِّيين". وقال الإِمام الفخر الرازي: إِن العلو والفسخة والضياءَ والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة، فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أَسفل السافلين وفي أَضيق المواضع إِذلالَ الفجار وتحقيرَ شأْنهم، كان المقصود من وضع كتاب الأَبرار في عليين، وشهادة الملائكة بذلك إِجلالَهم وتعظيمَ شأْنهم. (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))

المفردات: (نَعِيمٍ): نعم كثيرة. (الأَرَائِكِ): جمع أَريكة، وهي سرير منجّد في بيت أَو قُبَّة زينت بفاخر الثياب والستور سميت بذلك لأَنها قد تتخذ من خشب شجر الأَراك، أَو لكونها مكانا للإِقامة من قولهم: أَرك بالمكان أُروكًا: أَقام. (نَضْرَةَ النَّعِيمِ): بهجة التنعم وماءه ورونقه. (رَحِيقٍ): الرحيق: الشراب الخالص الذي لا غشَّ فيه، وقيل غير ذلك. (خِتَامُهُ مِسْكٌ): خاتمة شربه وآخر طعمه مسك. (فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ): التنافس، أَصله التغالب في الشيءِ النفيس، كأَن كل واحد من الشخصين يريد أَن يستأْثر به. (وَمِزَاجُهُ): مزج الشراب خلطه، والمزاج: ما يمزج به. (تَسْنِيمٍ): اسم العين بعينها في الجنة. التفسير 22 - 24 - (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ): لما عظم الله كتابهم في الآية المتقدمة، وأَنه في عليين ويشهده المقربون، عظم بهذه الآية منزلتهم فبيّن -سبحانه- أَنهم في تنعيم وتلذذ، وتحيطهم السعادة ويغمرهم الفرح من كل جانب وأَظهر ذلك - جل شأَنه - في أَنهم وهم على الأرائك والسرر التي زينت وجمّلت بفاخر القرش وعظيم الستور يرون وينظرون ما أَعده الله لهم، وهيأَه من أَلوان النعيم في الجنة من الحور والولدان، والقصور والأَنهار والأَشربة والأَطعمة والملابس والمراكب، أَو ينظرون إِلى أَعدائهم وهم يعذبون في النار، أَو إِذا اشتهوا شيئًا نظروا إِليه فيحضرهم، ويرى الإِمام الفخر الرازي: أَنهم ينظرون إِلى ربهم، قال: ويتأَكد هذا التأويل بما أَنه

-تعالى- قال بعد هذه الآية: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) والنظر المقرون بالنضرة: هو رؤْية الله -تعالى- على ما قال: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبَّهَا نَاظِرَةٌ"، ومما يؤكد هذا التأْويل أَنه يجب الابتداءُ بذكر أَعظم اللذات وما هو إِلا رؤْية الله -تعالى- أهـ. ويستبين ويظهر فرحهم وسرورهم -أَيضًا- بما يبصره ويشاهده الرائي في وجوههم من الضحك والاستبشار والبهجة، قال تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ" (¬1) أَوَ أَن الله يزيد في وجوههم من النور والحسن والبياض ما لا يستطيع أَن يصفه واصف لتناهيه في ذلك. 25 - (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ): وختم الله أَمارات وعلامات تنعمهم بأَنهم يسقون من خمر لا غش فيها ولا شيءَ يفسدها أَو يغتال عقل شاربها، أَو من شراب خالص نقيّ، وقد ختم على قواريره وأوانيه -تكريما له- بالصيانة والحفظ على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وقد خص الله به الأبرار لشرفهم وعلو منزلتهم مع أَن في الجنة أَنهارًا من خمر لذة للشاربين؛ لأَن هذا المختوم أَشرف وأَعلى قدرًا من الخمر الجاري في الأَنهار. 26 - (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ): أَي: أَن الذي يختم به ويسد به رأْس قَوَاريره وأَوانيه هو المسك، أَو أَن المراد من (خِتَامُهُ) هو أَن عاقبته وآخره ريح المسك، فإِذا رفع الشارب فمه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك لذاذة وذكاءَ رائحة مع طيب الطعمِ، فالختام آخر كل شيءٍ ومنه ختمت القرآن والأَعمال بخواتيمها. (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) أَي: وفي ذلك الأَمر العظيم والثواب الجزيل فليتسابق المتسابقون، وليرغب ويبادر الراغبون؛ لأَنه النعيم الجليل الأَبدي الدائم الذي ¬

_ (¬1) الآيتان: 38، 39 من سورة عبس.

يصيبه الفناءُ، ولا يناله الكبر والفساد كشراب الدنيا، والتنافس يكون بفعل الطاعات واستباق الخيرات والانتهاء عن المعاصي والسيئات. 27 - (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ): أَي: ومزاج ذلك الرحيق من شراب ينصب وينهل عليهم من علوّ، والتسنيم: هو أَشراف وأَطيب شراب في الجنة، وقد بين حاله وشأْنه فقال -تعالى-: 28 - (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ): أَي: تجري من علوّ إِلى أَسفل كما يشعر به الاسم؛ إِذ التسنيم في اللغة: الارتفاع، ومنه سنام البعير لعلوه عن بدنه، وهذه العين يشرب منها ملتذًّا بها أَهل جنة عدن، وهم أَفاضل أَهل الجنة يشربون منها صرفًا خالصًا لا يخالطها شيءٌ، ويمزج ويخلط منها كأْس أَصحاب اليمين فتطيب. {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} المفردات: (أَجْرَمُوا): الجرم: قطع الثمرة، ثم استعمل لكل اكتساب إِثم وذنب. (يَتَغَامَزُونَ): أَصل الغمر: الإِشارة بالعين أَو الحاجب أَو اليد طلبًا إلى ما فيه نقيصة يشار بها إِليه.

سبب النزول

(انقَلَبُوا): انصرفوا ورجعوا. (فَكِهِينَ): معجبين بما هم فيه من الشرك، أَو من ذكر المسلمين بالسوءِ. (هَلْ ثُوِّبَ): من الثواب وهو الجزاءُ، أَي: هل جوزى الكفار وأُثيبوا على فعلهم؟! سبب النزول: روي أَن عليًّا -كرم الله وجهه- وجمعا من المسلمين مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا .. ) إِلخ، قبل أَن يصل عليٌّ -كرم الله وجهه- إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. التفسير: 29 - 32 - (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ): والمراد من الذين أَجرموا أَكابر المشركين كأَبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص ابن وائل السهمي، وقد حكى الله عنهم أَفعالا قبيحة وأَعمالا شائنة، وذلك أَنهم كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤْمنين وبدينهم، ويشيرون إِليهم بحواجبهم وأَيديهم إِمعانًا في السخرية والتهكم بهم، ويعيبونهم، ويقولون في حق المؤْمنين: انظروا إِلى هؤلاءِ يتبعون أَنفسهم ويحرمونها لذاتها ويخاطرون في طلب ثواب لا يتيقنونه، رميًا للمؤمنين بالسفه والحمق، وإِذا انقلب هؤلاءِ الكفار ورجعوا من مجالسهم إِلى أَهلهم انصرفوا معجبين بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم في الدنيا، أَو يتفكهون بذكر المسلمين بسوءِ القول وفحش الحديث، وهم كلما رأَوا المؤمنين أَينما كانوا أَمنعوا في سبهم ورميهم بالضلال والبعد عن الطريق السوي لاختيارهم الإِسلام دينًا، وترك عبادة الأَصنام!! 33 - (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ): أَي: قال الكفار ما قالوه في حق المؤمنين وتغامزوا عليهم وعابوهم والشأْن والحال أَن الكفار لم يبعثهم الله رقباءَ على المؤمنين يحفظون ويحصون عليهم أَعمالهم وأَحوالهم،

ويتفقدون ما يصنعونه من حق أَو باطل؛ بل إِنما أَمر الله الكفار أَن يقوموا على إِصلاح أَنفسهم والتبصر والتفكير فيما جاءَهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. 34، 35 - (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ): أَي: فاليوم الذي تعرض فيه الأَعمال وتنشر الكتب وتحاسب كل نفس بما كسبت وهو يوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار -جزاءً وفاقًا - بسبب ما هم فيه من أَنواع العذاب والبلاءِ، مع ما لحقهم من الحسرة والندامة بعد ما علموا أَنهم كانوا في الدنيا في ضلال وعمى عندما باعوا الآخرة الباقية بمتاع الدنيا الفانية، فضلا عن أَن المؤْمنين قد فرحوا بفوزهم بالنعيم المقيم، ونالوا بالتعب اليسير راحة الأَبد ودخلوا الجنة، وجلسوا على السرر المرفوعة ينظرون إِلى الكفار وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، وكيف يعذبون في النار وهم يصطرخون فيها ويدعون بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضًا. وقيل: يفتح للكفار باب إِلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إِليها فإِذا وصلوا إِليها أُغلق دونهم، ويفعل ذلك بهم مرارًا فيضحك المؤمنون منهم. 36 - (هَلْ ثُوِّبَ (¬1) الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ): أَي: هل جوزى وأُثيب هؤُلاءِ الكفار على فعلهم؟! وكأَن الله يقول للمؤْمنين: هل أَثبنا وجازينا هؤُلاءِ على ما كانوا يفعلونه بكم من الهزءِ والسخرية وذلك بالعذاب المقيم وتمكينكم من الضحك عليهم كما أَثبناكم على ما كنتم تعملون من الأَعمال الصالحة بهذا النعيم الجزيل الدائم والجزاء العظيم؟ والثواب -وإِن كان يستعمل في المكافأَة بالشر والخير إِلاَّ أَنه هنا يحمل على المجازاة بالخير، وأُطلق على عقاب الكفار تهكمًا بهم وسخرية منهم كما في قوله تعالى: "ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ" (¬2). والآية الكريمة تزيد في سرور المؤمنين وتدل على كريم منزلتهم وعظيم مكانتهم والله أَعلم. ¬

_ (¬1) ثوب: من الثوب، وهو ما يثوب، أي: يرجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر. (¬2) سورة الدخان الآية رقم: 49

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون آية ويقال لها سورة (انشقت) مناسبتها لما قبلها: قال بعض العلماء في بيان وجه ترتيب السور الثلاث - الانفطار - المطففين - الانشقاق ما يأْتي: جاءَ في سورة الانفطار التعريف بالحفظة الكاتبين الذين يكتبون أَعمال الناس في قوله تعالى: "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ" (¬1) وفي السورة التي تليها (سورة المطففين) بيان مقر كتبهم، في قوله تعالى: "كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ إِنَّ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" "كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّين" (¬2) وفي هذه السورة (الانْشِقَاق) عرض هذه الكتب، وإِعطاؤُها لأَصحابها يوم القيامة في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِيِنِهِ) (¬3) إِلخ. هذا، مع ما اشتملت عليه سورة الانشقاق وما قبلها (سورة المطففين) من ذكر بعض مظاهر يوم القيامة وما يناله المؤمنون من تكريم، وما يصيب الكافرين من عذاب أَليم. بعض مقاصد السورة: 1 - بُدِئت السورة الكريمة بذكر بعض علامات الساعة وأَشراطها، وخضوع كل ما في السموات والأَرض لأَمر الله بتغيير نواميسها وقوانينها، وعند ذلك يلقى كل إِنسان جزاءَ ما عمل (إِذا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) إِلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ). 2 - بينت السورة أَن عمل الإِنسان في الدنيا مسجل عليه في كتاب سيلقاه يوم القيامة، فمن أَخذ هذا الكتاب بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرا، ومن أَخذ كتابه وراءَ ظهره فسوف يتمنى هلاك نفسه لما يلقاه من عذاب شديد، لأَنه كان في الدنيا لاهيًا عن العمل ¬

_ (¬1) الآيتان 10، 11 من سورة الانفطار. (¬2) الآيتان 7، 18 من سورة المطففين. (¬3) الآية رقم 7 من سورة الانشقاق.

للآخرة ظَانًّا أنه لن يرجع إلى ربه فيحاسبه: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) إِلى قوله تعالى: (بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا). 3 - ثم أَقسم -سبحانه- ببعض الآيات الكونية التي تشهد بقدرته وتدعو إِلي الإِيمان به والتصديق باليوم الآخر وبما يكون فيه من أَهوال: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) إِلى قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ). 4 - ثم بيّن - جل جلاله - أَنه مع ما ذكر من آيات وأدلة بينات في هذه السورة وفي غيرها من السور: فالكافرون يكذبون بالقرآن ولا يؤمنون به (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إِلى قوله: (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ). 5 - وختمت السورة بتهديد الكفار بأَن الله عليم بما يضمرون وقد أَعَدَّ لهم العذاب الأَليم، كما أَعد للمؤمنين الطائعين الأَجر الدائم الذي لا ينقطع (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) إِلى قوله تعالى: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)} المفردات (انشَقَّتْ) انصدعت، وذلك عند قيام الساعة. (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا): استمعت له وانقادت، من قولهم: أَذِن له؛ أَي: استمع وأَطاع. (وَحُقَّتْ): انقادت وهي جديرة بالانقياد. (مُدَّتْ): زيدت سعَةً وذلك بِدَكّ جِبَالِهَا وإِزالة آكامها. (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا): رمَت ما في جوفها.

(وَتَخَلَّتْ): وَخَلَتْ عَمَّا فِيها غاية الخلو. (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ): أَي: إِنَّك مجتهد جَادٌّ في عملك إِلى لقاء ربك وهو الموت وما بعد، والكدح كما قال الزمخشري والآلوسي: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤَثر ذلك في النفس، من كَدَح جلدَه: إِذا خدشه. (فَمُلاقِيهِ): أَي: فملاقي جزاءَ عملك لا محالة. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ): وأَما من يُعطاه ويؤْتاه بشماله من وراء ظهره وهو الكافر. (يَدْعُو ثُبُورًا): ينادي ويقول: يا ثبوراه؛ والثبور: الهلاك. (ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ): ظن أن لن يرجع إِلى ربه فيحاسبه -يقال: لا يحور ولا يحول؛ أَي: لا يرجع ولا يتغير قال: وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رَمَادًا بعد إِذ هو ساطع أَي: يرجع رمادًا. وعن ابن عباس: ما كنت أَدري معنى (يحور) حتى سمعت أَعرابية تقول لينية لها: حورى، أَي: ارجعي ذكره الكشاف. التفسير 1 - (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ): أَي: إِذا السماء انصدعت، قيل: تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى: "وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ" (¬1) قال الزمخشري: أَضمر جواب (إِذا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) وما عطف عليه، ولم يذكره ليذهب السامع في تقديره كل مذهب، وفي هذا من التهويل ما فيه، وقيل: جوابها ما دل عليه قوله تعالى: (فَمُلاقِيهِ) أَي: إِذا السماءُ انشقت لاقى الإِنسان جزاءَ عمله وكَدْحِهِ. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآية 16

2 - (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ): (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا) أَي: واستمعت السماءُ لربها واستجابت له، وأَطاعت أَمره فيما أَمرها الله به من الانشقاق وذلك يوم القيامة (وَحُقَّتْ) أَي: وحق لها أَن تطيع أمره وتنزل على إِرادته وحكمه؛ لأَنه العزيز الذي لا يُمَانع ولا يغالب قد قهر كل شيءٍ وذل له لأَنه القادر الحقيقي. 3 - (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ): قال الضَّحَّاك: مُدّت الأَرض، أَي: بُسطت بِانْدِكَاكِ جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أَمْتًا. وقال بعضهم: مُدَّت أَي: زيدت سعة وبسطة، من مده بمعنى أَمده، أَي: زاده. أَخرج الحاكم بسند جيد عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "تُمد الأَرضُ يومَ القيامةِ مَدَّ الأَديمِ، ثم لا يكونُ لابن آدمَ منها إِلا موضع قدميْه". 4 - (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ): (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا): أَي: ولفظت ما في جوفها ورمت ما في بطنها من كنوز وموتى. (وَتَخَلَّتْ) أَي: وتكلفت في الخلو أَقصى جهدها حتى لم يبق شيءٌ في بطنها. وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها وأَحيائها. 5 - (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ): أَي: وانقادت الأَرض لربها وأَطاعته ونزلت على حكمه في زيادة سعتها، وإِلقاءِ ما فيها وتَخَلِّيها عنه، وحقيق وجدير بها ذلك!! وإِذا حدث كل ما تقدم -وذلك يوم القيامة- لقي كل إِنسان جزاءَ عمله.

6 - (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ): أَي: يا أَيها الإِنسان إِنك ساع إِلى ربك سعيًا جادًّا، وعامل عملا شاقَّا صعبًا (فَمُلاقِيهِ) أَي: فإِنك ستلقى جزاءَ ما عملت من خير أَو شر، ويشهد لذلك ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال جبريلُ: يا محمدُ -عِشْ ما شئت فإِنك مَيِّت، وأَجبِبْ منَ شئتَ فإِنك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإِنكَ ملاقِيه". ومن الناس من يعيد الضمير وهو الهاء في (فَمُلاقِيهِ) على الرب في قوله تعالى: (رَبَّكَ) أَي: فملاق ربك، ومعناه: فيجازيك على عملك ويكافئك على سعيك. قال الآلوسي: والمراد بالإِنسان الجنس، كما يؤذن به التقسيم في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) إِلخ. وقال مقاتل: المراد به: الأَسود بن هلال المخزومي؛ جادل أَخاه أَبا سلمة في أَمر البعث، فقال أَبا سلمة: والذي خلقك لتركبن الطبقة، ولتوافين العقبة، قال الأَسود: فأَين الأَرض والسماء وما حال الناس؟! وكأَن مقاتلا أَراد أَنها نزلت فيه أَولًا. وقيل: المراد أَبيٌّ ابن خلف؛ كان يكدح في طلب الدنيا وإِيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإِضرار على الكفر. 7، 8 - (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا): أَي: فأَما من أُعْطِي كتاب عمله بيمينه -وهو المؤمن- فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، والحساب اليسير: السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل، وفسره صلى الله عليه وسلم بالْعَرْض، وبالنَّظَر في الكتاب مع التجاوز، فقد أَخرج الشيخان والترمذي وأَبو داود عن عائشة أَن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "ليس أَحدٌ يحاسَبُ إِلاَّ هلَك" قلت: يا رسول الله -جعلني الله فداءَك- أَليس الله تعالى يقول: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟! قال: "ذلك العرض، يعرضون، ومَن نوقش الحسابَ هلك". وأَخرج أَحمد وعبد بن حميد والحاكم وصححه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهمَّ حاسِبني حسابًا يَسيرًا" فلما انصرف

-عليه الصلاة والسلام- قلت: يا رسول الله: ما الحساب اليسير؟ قال: "أَن ينظَر في كتابه فيتجاوز له عنه". 9 - (وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا): المعنى: ويرجع إِلى عشيرته المؤمنين فرحًا مبتهجًا بحاله قائلا: "هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ" (¬1) وقيل: يرجع إِلى فريق المؤمنين مطلقًا وإِن لم يكونوا عشيرته، إِذ كل المؤمنين أَهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الإِيمان. 10 - (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ): أَي: وأَما من أُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره -وهو الكافر- قيل: تُغَلُّ يمناه إِلى عنقه، وتجعل شماله وراءَ ظهره، فَيُؤْتَى كتابه بشماله، وروى أَن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراءِ ظهره فيؤتى كتابه بها، وإِذا كان هذا وهو قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) واردًا في الكفار، وما قبله وهو قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) واردًا في المؤمنين المتقين، فلا تعرض هنا للعصاة من المؤمنين، قال الآلوسي: لا بُعْدَ في إِدخال العصاة من المؤمنين في أَهل اليمين لأَنهم يُعْطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن عطية. وقيل: إِن العصاة المؤمنين يعطون كتبهم بشمالهم، ويختص الكفرة بكونهم يعطون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم. أهـ آلوسي مع التلخيص والتصرف. ولعل السر في إِعطاء الكفار كتبهم من وراء ظهورهم لأَن من يُعْطُونَهم كتبهم من الملائكة لا يُطيقون مُشَاهدة وجوههم لشدة بشاعتها، أَو لعظم بغضهم إِياهم، أَو لأَنهم نبذوا كتاب الله وراءَ ظهورهم، فأَخذوا كتبهم كذلك على هذه الصورة تحقيرًا لهم وامتهانًا لشأْنهم. 11، 12 - (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا): (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا) أَي: فسوف يدعو الكافر ويطلب ثبورًا ويناديه ويقول: ¬

_ (¬1) الحاقة من الآية رقم 19.

يا ثبوراه تَعَالَ فهذا أَوانك، والثُّبُور: الهلاك والخسران والويل، وهو اسم جامع لأَنواع المكاره، والمعنى: أَنه يتمنى موته وهلاك نفسه. (وَيَصْلَى سَعِيرًا): ويدخل جهنم يحترق بنارها، أَو يقاسي شدة حرها ولهيبها. 13 - (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا): أَي: إِنَّ الكافر الذي يدعو الثبور ويصلى السعير إِنما استحق ذلك لأَنه كان في الدنيا بين عشيرته وأَهله فَرِحًا بَطِرًا مترفًا، لا ينظر في العواقب كعادة الفُجّار من أَهل الدنيا الذين لا يهمهم أمر الآخرة، ولم يكن متفكرًا في حاله ومآله كعادة وطبيعة الصلحاء المتقين الذين حكى الله عنهم فقال: "قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ" (¬1) وهذه الآية استئناف لبيان سبب ما استحقوه من عذاب. 14 - (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ): هذه الآية تعليل لسروره في الدنيا بين أَهله وعشيرته. أَي: إِن هذا الكافر كان مسرورًا في الدنيا ولا يبالي بشيءِ لأَنه كان يكذب بالبعث يعتقد أَنه لن يرجع إِلى الله تعالى، فلا يعيده ربه بعد موته للحساب، والحور: الرجوع مطلقًا، والمراد هنا -كما قال ابن عباس وقتادة وغيرهما-: الرجوع إِلى الله للجزاء بقرينة المقام. 15 - (بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) (¬2): المعنى: بلى يحور ويرجع البتة؛ لأَن الله - عز وجل - الذي خلقه كان به وبأَعماله الموجبة للجزاء بصيرًا بحيث لا تخفى عليه -سبحانه- منها خافية، فلا بد من رجوعه وحسابه ومجازاته. ¬

_ (¬1) سورة الطور، الآية: 26. (¬2) (بلي): إيجاب لما بعد النفي في (لن يحور) و (إن ربه كان به بصيرًا) تحقيق وتعليل له.

{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} المفردات: (الشَّفَقِ): الحمرة التي ترى بالأفق بعد غروب الشمس، وقيل: البياض الذي يلي تلك الحمرة. (وَمَا وَسَقَ): وما جمعه الليل وستره وضمه إِليه من الدواب وغيرها. (اتَّسَقَ): اجتمع نوره وتمَّ. (لَتَرْكَبُنَّ): لتلاقن. (طَبَقًا): الطبق ما طابق غيره، ومنه قيل للغطاء: الطبق، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق. (عَن) بمعنى بَعْد، كما في قولهم: سادوك كابرا عن كابر، أَي: بعد كابر. (بِمَا يُوعُونَ) أَي: بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد، أَو بما يجمعونه في صحفهم من أَعمال السوء. (فَبَشِّرْهُمْ): فأَخبرهم. والتبشير في المشهور: الإِخبار بِسَارٍّ، والتعبير به هنا للتهكم بهم. (غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع ولا منقوص.

التفسير: 16 - (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ): أَي: فأَقسم قسمًا مؤكدًا -كما يشعر بذلك ذكر "لاَ"- (بِالشَّفقِ): وهو الحمرة التي تشاهد في الأُفق بعد الغروب، وبسقوط الشفق يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماءِ، إِلا ما ورد في بعض الروايات عن أَبي حنيفة، وقيل الشفق: البياض الذي يلي تلك الحمرة، وبه قال أَبو هريرة، وهو إِحدى الروايات عن أَبي حنيفة. وصح عن مجاهد أَنه قال في هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) قال السفق: هو النهار كله وإِنما حمله على هذا قَرْنُ الشفق بقوله تعالى: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) كأَنه أَقسم بالضياءِ والظلام. 17 - (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ): أَي: وأَقسم على سبيل التأكيد باللَّيل وما جمعه وضمه وآوى إِليه من الدواب وغيرها. وعن مجاهد: ما يكون فيه من خير أَو شر، وقيل: وما ستره وغطى عليه بظلمته. 18 - (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ): أَي: وأَقسم قسمًا مؤكدًا بالقمر إِذا اجتمع نوره وتمَّ وتكامل وصار بدْرًا وذلك -كما قال الزمخشري-: هي ليلة أَربع عشرة. 19 - (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ): هذا الكلام خطاب لجنس الإِنسان المنادَى أَولا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ) إِلخ .. باعتبار شموله لجميع أَفراد الإِنسان والمراد بالركوب: الملاقاة، وبالطبق الحال المطابقة لغيرها، والمعنى: لتلاقن أَيها النَّاس حالا بعد حال، كل حال مطابقة لغيرها في الشدة والهول.

وقيل: الطبق: جمع، وهي المرتبة، والمعنى: لتركبن أَحوالا بعد أَحوال هي طبقات في الشدة بعضها أَعظم من بعض، وهي الموت وما بعده من مشاهد القيامة وأَهوالها. وفسر بعضهم الأَحوال التي يلاقيها النَّاس بما يكونون عليه في الدنيا من كونهم نطفة إِلى الموت وما يكونون عليه في الآخرة من البعث إِلى حين استقرارهم في إِحدى الدارين الجنة أَو النَّار. أَخرج البخاري عن ابن عباس أَن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعليه يراد: لتركبن أَحوالا شريفة بعد أُخرى من مراتب القُرْبِ، أَو من مراتب الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه في تبليغ الرسالة، أَو الكلام عِدَةٌ بالنصر وتبشير بالمعراج، أَي: لتركبن سماءً بعد سماءِ، واختار ابن كثير هذا القول -وقال: والصواب من التأْويل قول من قال: لتركبن يا محمد حالا بعد حال وأَمرًا بعد أَمر من الشدائد، والمراد بذلك- وإِن كان الخطاب موجهًا إِلى رسول الله -جمع الناس، وأَنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأَحواله أَهوالا- أهـ: ابن كثير. 20 - (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ): الفاء في قوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يجوز أَن تكون لترتيب ما بعدها من الإِنكار والتعجيب على ما قبلها من أَحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إِليها بقوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) أَي: إِذا كان حالهم يوم القيامة كما أُشير إِليه فأَي شيءٍ يمنعهم من الإِيمان بالله ورسوله وسائر ما يجب الإِيمان به بعد ذكر ما يلقاه كل مخالف من الأَهوال؟ ويجوز أَن يكون لترتيب ما بعدها على ما قبلها من عَظيم شأْنه -عليه الصلاة والسلام- المشار إِليه بقوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) على أَن المراد بالمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَي: إِذا كان هذا حاله صلى الله عليه وسلم كما أُشير إِليه فأَي شيءٍ يمنعهم من الإِيمان به - عليه الصلاة والسلام؟! 21 - (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ): هذه الآية معطوفة على الآية السابقة، والمعنى: وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله

وسمعوا كلامه -وهو القرآن العظيم- لا يستكينون ولا يخضعون بأَن يُؤمنوا به لإِعجازه، فالمراد بالسجود: الخضوع والاستكانة، وقيل: المراد به الصلاة، وقيل: المقصود به سجود التلاوة، ويكون المراد بما قبله (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ) أَي: وفيه آية سجدة. أَخرج مسلم وغيره عن أَبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في (وإِذا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) و (اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). 22 - (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ): هذه الآية انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءَة القرآن وسماعهم له إِلى أَنهم يكذبون به صريحًا، وقيل المعنى: بل هؤُلاءِ من سجيتهم التكذيب بالبعث وغيره، والعناد والمخالفة للحق تعاليًا عنه وتكبرًا. 23 - (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ): أَي: والله أَعلم بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي، أَو: والله أَعلم بما يجمعونه في صحفهم من أَعمال السوءِ فيجازيهم عليها، وقال بعضهم: المعنى -والله أَعلم بما يضمرون في أَنفسهم من أَدل صدق القرآن فيكون المراد المبالغة في عنادهم وتكذيبهم بالقرآن مع علمهم بصدقه. 24 - (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ): الفاءُ في قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والمعنى: فبشر الكفار يا محمد بأَن الله عز وجل قد أَعَدَّ لهم عذابا مؤلمًا موجعًا لتكذيبهم بالقرآن أو لعلمه -سبحانه وتعالى- بما يضمرون في أَنفسهم من الشرور والآثام. والتعبير بالتبشير في هذا المقام مع أَنه في المشهور يكون للإِخبار بأَمر سارٍّ -للتهكم والسخرية بهم.

25 - (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): لكن الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم لهم أَجر في الآخرة غير ممنون، وقال ابن عباس: أَي: غير منقوص، وقيل: غير مقطوع عنهم كما قال تعالى: "عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة هود، من الآية: 108.

سورة البروج

سورة البروج وهي مكية، وآياتها ثنتان وعشرون آية، نزلت بعد الشمس مناسبتها لما قبلها: اشتمالها - كالسورة التي قبلها (سورة الانشقاق) على وعد المؤْمنين، ووعيد الكافرين. والتنويه بشأن القرآن ورفعة شأْنه. كما اشتملت أَيضًا -كالسورة التي قبلها- على بيان أَن العاقبة والغلبة والظفر للمؤمنين الصابرين مهما لاقوا من عذاب وأَهوال، وأَن الهزيمة والخيبة في الدنيا والعذاب في الآخرة للكافرين المكذبين مهما اشتد بطشهم وعظم سلطانهم. هذه السورة عظة وتحذير لكفار قريش وغيرهم، وتثبيت لمن يعذبون من المؤمنين. أَهم مقاصد السورة: 1 - أَقسم الله -سبحانه- في أَول السورة ببعض مظاهر قدرته على أَن الكافرين الذين يؤذون المؤمنين ليردوهم عن دينهم مطرودون كما طرد من سلك مسلكهم ممن سبقهم: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) إِلى قوله تعالى: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). 2 - بينت السورة أَن الصامدين من المؤمنين الذين عُذبوا ما كان ذنبهم إِلا إِيمانهم بالله، وذكرت الوعيد للكافرين، والوعد للمؤمنين الصابرين: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إِلى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). 3 - ذكرت السورة بعض صفاته - تعالى - كقُوَّته وبطشه بالجبابرة، وبالجموع الطاغية من قوم فرعون وثمود وغيرهم من المكذبين، وأَن قوم الرسول يكذبونه والله من ورائهم محيط: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) إِلى قوله: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِهِمْ مُحِيطٌ). 4 - وخُتِمت السورة ببيان عظمة القرآن وأَنه في لوح محفوظ لا تصل إِليه يدٌ بتحريف، ولا قوة بتغير: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} المفردات: (الْبُرُوجِ): منازل الشمس والقمر سائر الكواكب. (الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): يوم القيامة. (وَشَاهِدٍ): ومن يشهد يوم القيامة ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه. (وَمَشْهُودٍ): وما يحضر ويشاهد في ذلك اليوم من العجائب. (قُتِلَ): لُعِن أَشد اللعن. (الأُخْدُودِ): الشق المستطيل في الأَرض، ويجمع على أَخاديد. (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ): إِذ هم على حَافَّةِ النار وحولها قعود. (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ): وما عابوا عليهم وأَنكروا منهم - وفي مفردات الراغب: يقال: تقمت الشيءَ: إِذا أَنكرته بلسانك أَو بعقوبة.

التفسير 1 - (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ): أَقسم الله تعالى - بالسماءِ ذات البروج، أَي: ذات المنازل التي تنزلها الكواكب من شمس وقمر وغيرهما من أَثناءٍ سيرها، وقيل: البروج: الكواكب العظام. 2 - (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): وأَقسم -سبحانه- باليوم الموعود، أَي: الموعود به للحساب والجزاءِ، وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، وقيل لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم، فقد قال سبحانه: "يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ" (¬1). أَو يوم طي السماءِ كطي السجل للكتب، وقيل: يمكن أَن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على ما أَشار إِليه قوله تعالى: "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (¬2). ولا يخفى أَن جميع ذلك دخل في يوم القيامة. 3 - (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ): وأَقسم - سبحانه وتعالى- بشاهد، أَي: بمن يشهد ذلك اليوم -وهو يوم القيامة- ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه. (وَمَشْهُودٍ) أَي: وبما يحضر فيه من الأهوال والعجائب، وهكذا يقسم الله - عز وجل - بيوم القيامة وما يكون فيه؛ تعظيمًا لذلك اليوم وإِرهابًا لمنكريه. أَخرج الترمذي وجماعة عن أَبي هريرة مرفوعًا: "الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوه عرفة" وعن ابن عباس: الشاهد: محمد -عليه الصلاة والسلام- مستدلا بقوله ¬

_ (¬1) سورة المعارج، الآيتان: 43، 44. (¬2) سورة الإِسراء، من الآية 79.

تعالى: "وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا" (¬1) (والمشهود) يوم القيامة مستدلا بقوله تعالى: "ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ" (¬2). قال الزمخشري: قد اضطربت أَقوال المفسرين في المراد بهما. وقال الآلوسي: جميع الأَقوال في ذلك -على ما وقفت عليه- نحو من ثلاثين قولا، وأَختار القول الأَول وهو أَن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. 4 - (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ): هذه الجملة جواب القسم أَو دليله، كأَنه قيل: أَقسم بهذه الأَشياءِ: بالسماءِ ذات البروج، وباليوم الموعد وبشاهد ومشهود أَن كفار قريش المعذبين للمؤمنين لَمَلْعُونُونَ كما لعن أَصحاب الأُخدود الذين أَلقوا المؤمنين والمؤْمنات فيه. وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أَذى أَهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من مؤمني الأُمم السابقة -من التعذيب على الإِيمان وإِلحاق أَنواع الأَذى بهم، ولكنهم صبروا، وذلك لكي يقتدوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، وليعلموا أَن كفارهم عند الله بمنزلة أُولئك المُعَذَّبين الْمُحْرِقين بالنار، وهم ملعونون مطرودون من رحمة الله، فالقتل هنا عبارة عن أَشد اللعن والطرد والسخط. وقال بعضهم: الأَظهر أَن يقدر: إِنهم لمقتولون -أَي: كفار قريش- كما قتل أَصحاب الأُخدود، فيكون وَعْدًا له صلى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين -لإِعلاءِ دينه- ويكون معجزة بقتل رءُوسهم في غزوة بدر. قال ابن كثير: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ): أَي؛ لعن أَصحاب الأُخدود - وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إِلى من عندهم من المؤمنين بالله - عز وجل - فقهروهم وأَرادوهم أَن يرجعوا عن دينهم، فأَبوا عليهم، فحفروا لهم في الأَرض أُخدودًا وأَجّجوا فيه نارًا وأعدوا له وقودًا يسعرونها به، ثم أَرادوهم على الكفر فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها. ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية: 41. (¬2) سورة هود، من الآية: 103.

5 - (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ): (النَّارِ): بدل اشتمال من الأُخدود، أَي: أَصحاب النار (ذَاتِ الْوَقُودِ)، وصف لها بأَنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأَبدان الناس، وهي تلك النار التي أضرمها الكفار وسعروها لعذاب المؤمنين. 6 - (إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ): أَي: لُعِن الكفار الذين صنعوا الأخاديد حين أَحرقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأُخدود وجوانبه. فـ (عليها): بمعنى (حولها) كقول الأعشى. وبات على النار الندي والمحلق. 7 - (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ): (وَهُمْ) أَي: الكفار على ما يفعلون بالمؤمنين من تعذبيهم بالإِلقاءِ في النار إِن لم يرجعوا عن دينهم (شُهُودٌ) أَي: حضور لا يَرقُّونَ لهم؛ لشدة قسوة قلوبهم، وقيل: (شُهُودٌ) أَي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أَحدًا لم يقصر في أَداءِ ما أَمر به، أَو يشهدون على أَنفسهم بذلك يوم القيامة: يوم تشهد عليهم جوارحهم بأَعمالهم. 8 - (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): أَي: وما أَنكروا منهم وما عابوا عليهم وما كان ذنبهم عندهم إِلا إِيمانهم بالله، إِنْ عُدَّ ذلك ذنبًا وجرمًا يستحق الإِنسان عليه العقاب والمؤاخذة، وهو من باب تأْكيد المدح بما يشبه الذم، على منهاج قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أَن سيوفهم ... بهن فلوا من قراع الكتائب (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): ذكر -سبحانه - الأَوصاف التي يستحق الله بها أَن يُؤمَن به وأَن يُعْبَد، وهو كونه عزيزًا غالبًا قادرًا يُخْشَى عقابه، حميدًا مُنْعِمًا يجب له الحمد على نعمته ويُرْجَى ثوابه.

9 - (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): الله الذي له -وحده- ملك السموات والأَرض، فكل ما فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له -سبحانه- وما نقموه منهم هو الحق الذي لا ينقمه إِلا مبطل منغمس في الغي، وأَن الناقمين أَهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يَعْدِلُه عذاب. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): هذا وعد المؤمنين، ووعيد لمعذبيهم، فإِن علم الله -جل شأْنه- الجامع لصفات الجلال والجمال شامل ومحيط بجميع الأَشياءِ التي من جملتها أَعمال الفريقين، وسيجازي كلا منهما على عمله. 10 - (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ): المعنى: إِن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات في دينهم بالأَذى والإِحراق بالنار لِيرتدوا عن دينهم ثم لم يرجع هؤُلاءِ عن فتنة المؤمنين وتعذبيهم، ولم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أَسلفوا فلهم في الآخرة عذاب جهنم جزاء كفرهم، ولهم عذاب الحريق جزاء إِحراقهم المؤمنين. قيل: يجوز أَن يكون المراد بـ (الَّذِينَ فَتَنُوا) أَصحاب الأُخدود خاصة، وبـ (الَّذِين آمَنُوا) المطروحين في الأُخدود. وقال بعضهم، المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات بكل أَنواع العذاب كعمار وياسر وبلال، والأَصواب العموم، ليشمل كل من صد عن سبيل الله وعذب المؤمنين ليرجعوا عن دينهم.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)) المفردات: (بَطْشَ رَبِّكَ) البطش: الأَخذ بالعنف، فإِذا وصف بالشدة فقد تَضَاعف وتفاقم. (هُوَ يُبْدِئُ): إِنه وحده يخلق ابتداءً بقوته. (وَيُعِيدُ): يبعث الموتى يوم القيامة بقدرته. (الْوَدُودُ): المحب كثيرًا لمن أَطاعه. (ذُو الْعَرْشِ): صاحب العرش وخالقه ومالكه. (الْمَجِيدُ): العظيم المستحق لكل صفات العلو والكمال. (مُحِيطٌ): عالم بأَحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه.

التفسير 11 - (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ): المعنى: إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأَنهار لجمعهم بين الإِيمان والعمل الصالح، وذلك النعيم الذي جُوزُوا وكُوفِئوا به من دخولهم الجنات وتمتعهم بما فيها هو الفوز الكبير الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الْمُتَع والرغائب، وكيف لا وقد ظفروا بكل خير ونجوا وسلموا من كل شر! 12 - (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ): استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إِيذانًا بأَن لكفار قومه نصيبًا موفورًا منه؛ كما ينبئ عنه ذكر الرب مع الإِضافة إِلى ضميره -عليه الصلاة والسلام- أَي: إِن أَخذ ربك الجبابرة والظَّلَمَةَ بالعذاب بالغ الغاية في الشدة والقوة والعنف والبطش؛ لأَنه بطش ربك القادر على كل شيءِ. 13 - (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ): أي: أَنه - عز وجل وحده - هو الذي يُبْدِئ الخلق بالإِنشاءِ، وهو -سبحانه - يعيده بإِحيائه يوم القيامة للحشر والجزاءِ، ودل باقتداره على البدءِ والإِعادة على شدة بطشه. أَو بيدئُ البطش بالكفرة في الدنيا، ثم يعيده في الآخرة. 14 - (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ): وهو -سبحانه- الغفور لذنوب من يشاءُ من عباده المؤمنين، وقيل: لمن تاب إِليه وأَطاع أَمره. (الْوَدُودُ): أَي، كثير المحبة لمن أَطاعه وأَحبه، وعن ابن عباس: المتودد إِلى عباده بالمغفرة. 15 - (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ): (ذُو الْعَرْشِ) أَي: صاحب العرش، والمراد: مالكه أَو خالقه، والعرش أَعظم المخلوقات،

وجاءَ في الأَخبار عن عظمه ما يبهر العقول، وقال القفال: ذو العرش: ذو الملك والسلطان. (الْمَجِيدُ): العظيم في ذاته وصفاته - سبحانه وتعالى - فإِنه - جلّ شأَنه - واجب الوجود، تام القدرة، كامل الحكمة. 16 - (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ): لأَن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى، أي: أَنه -سبحانه- لا يعجزه شيءٌ، ولا معقب لحكمه، ولا يسأَل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته كما روي عن أَبي بكر الصديق أَنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا فما قال لك؟ قال: قال لي: إِني فَعَّال لما أُريد -يريد أَن الطبيب على الحقيقة هو الله- فهو سبحانه فعال لما يريد؛ لا يتخلف عن قدرته مراد. 17 - (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ): تقرير لكونه - سبحانه وتعالى - فعالا لما يريد، وكذلك لشدة بطشه بالظَّلَمَةِ والعصاة والكفرة الْعُتاة، وتسلية له صلى الله عليه وسلم بالإِشعار بأَنه سيصيب كفار قومه ما أَصاب الجنود، والمراد بالجنود هنا: الأَقوام والجماعات الذين تجندوا على أَنبياءِ الله واجتمعوا على أَذاهم. والمعنى: هل بلغك يا محمد ما أَحلّ الله بهم من البأْس وأَنزل عليهم من النقمة التي لم يردّها عنهم رَادٌّ ولم يدفعها عنهم دافع؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أَي: إِذَا أَخذ الظالم أَخذه أَخذًا أَليمًا شديدًا: أَخذ عزيز مقتدر، عن عمر ابن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأُ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) فقال: "نَعَمْ جَاءَني". 18 - (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ): قوم فرعون وثمود (بدل من الجنود) والمراد بحديثهم: ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال. والمعنى: قد أَتاك حديث قوم فرعون وثمود، وعرفت ما فعلوا وما فُعِلَ بهم، وما حل بهم من جزاءِ تماديهم في الباطل، فَذَكر قومك بأَيام الله وأَنذرهم أَن يصيبهم مثل ما أَصاب

أَمثالهم ممن خرجوا عن طاعته، وحاربوا رسله، وكذبوا بأنبيائه، وهذا تنبيه لمن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذَّب بالقرآن ليتعظ. 19 - (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ): أَي: بل الذين كفروا من قومك في تكذيب، وهذا إِضراب انتقالي عن مماثلة كفار قريش لمن سبقهم من الأُمم المكذبة، وبيان لكونهم أَشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبئُ عنه العدول عن (يكذبون) إِلى قوله تعالى: (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) المفيد لإِحاطة التكذيب بهم في كل جانب، مع ما في تنكير (تكذيب) من الدلالة على تعظيمه وتهويله، فكأَنه قيل: ليس قومك مثلهم، بل هم أَشد منهم فإِنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم، فهم أَدنى منهم في استحقاق العذاب. 20 - (وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِهِمْ مُحِيطٌ): أَي: والله - سبحانه تعالى - متمكن منهم، عالم بهم، قادر عليهم، قاهر لهم لا يفوتونه ولا يعجزونه، والإِحاطة بهم من ورائهم قيل: لأَنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشَّيءُ من الشَّيءِ المحيط به، فالكلام تصوير لعدم نجاتهم من بأْس الله. 21 - (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ): هذا رد لكفرهم، وإِبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أَي: بل هذا الذي جئتهم فكذبوا به كتاب شريف عالي المنزلة في الكتب السماوية في نظمه وإِعجازه، فلا يحق تكذيبه والكفر به. 22 - (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ): المعنى: أَن القرآن محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، كما قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (¬1) وقيل: مكتوب ومحفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إِليه، واللوح المحفوظ نحن نؤمن به، ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وحقيقته وكيفية كتابته ونحو ذلك. والله أَعلم. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، الآية 9.

سورة الطارق

سورة الطارق وهي مكية، وآياتها سبع عشرة آية، نزلت بعد سورة البلد صلتها بما قبلها: لما ذكر - سبحانه وتعالى - تكذيب الكفار للقرآن في السورة السابقة (سورة البروج) في قوله تعالى: "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ" (¬1) نبّه - سبحانه وتعالى- في هذه السورة: (سورة الطارق) على نشأة الإِنسان وبدءِ خلقه، ثم ذكر قدر هذا القرآن وعلو شأنه الذي كذَّب به هذا الإِنسان الضعيف. أَهم مقاصد السورة: 1 - بُدئَت السورة الكريمة بالقسم السماءِ وما حوت من نجم وكواكب على أَن كلَّ نفس عليها رقيب يحصى أَعمالها (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) إِلى قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ). 2 - دعت السورة الإِنسان أَن يفكر وينظر في نشأته ومم خلق؟ ليعلم أَن الذي أَنشأه بقدرته قوي قادر على إِعادته بعد موته للحساب (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) إِلى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ). 3 - في السورة قسم آخر بالسماءِ ذات المطر، والأَرض التي تنشق عن النبات على أَن القرآن فاصل بين الحق والباطل وهو خير كله، ومن حقه -وقد وصفه الله بهذا- أَن يكون معظَّما يترفع به قارئه وسامعه عن أَن يلم بهزل أَو يتفكه بمزاج، ومع ذلك فقد اشتد الكفار في عداوته وإِنكاره والكيد له، وقد رَدَّ الله كيدهم بكيد أَشد لا يقدرون على دفعه (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) إِلى قوله تعالى: (وَأَكِيدُ كَيْدًا). 4 - ختمت السورة بطلب إِمهال الكافرين حتى يأَتيهم العذاب: (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا). ¬

_ (¬1) سورة البروج الآية: 19

(بسم الله الرحمن الرحيم) (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)) المفردات: (الطَّارِقُ): كل آت ليلا، ومنه النجوم؛ لطلوعها ليلا، والطارق في الأَصل: اسم فاعل من الطَّرق بمعنى الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت. (النَّجْمُ الثَّاقِبُ): النجم المضيءُ. (حَافِظٌ): رقيب ومحاسب. (دَافِقٍ): مدفوق ومصبوب بدفع وسرعة. (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ): الصلب: الظهر. (وَالتَّرَائِبِ): جمع تَرِيبة، وهي عظام الصدر أَو الأَطراف. (رَجْعِهِ): إِعادة خلقه بعد فنائه وموته. (تُبْلَى السَّرَائِرُ): تكشف وتظهر مكنونات القلوب، وأَصل الابتلاء: الاختبار.

التفسير: 1 - (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ): أَقسم الله - سبحانه وتعالى - بالسماء وما جعل فيها من الكواكب التي تضيءُ عند طلوعها ليلا، وتختفي نهارًا. 2 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ): هذا الأَسلوب للتنويه بشأن الطارق بعد تفخيمه وتعظيمه، بالإِقسام به، وتنبيه على أَن رفعة قدره وعلو شأنه مرتبة لا ينالها ولا يصل إِلى معرفتها عقول الخلق؛ فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم. والمعنى: وأَي شيء أَعلمك بالطارق وما حقيقة هذا الكوكب؟ 3 - (النَّجْمُ الثَّاقِبُ): أَي: النجم المضيءُ كأنه يثقب الظلام بضوئه وينفذ فيه، وروى لأَنه يدرأُ الظلام، أَي: يدفعه، وقال الغراءُ: الثاقب: المرتفع. 4 - (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): المعنى: ما كل نفس إِلا عليها حافظ، أَي: مهيمن ورقيب وهو الله -سبحانه وتعالى - كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (¬1). وقيل: معنى (حَافِظٌ): من يحفظ عملها من الملائكة ويحصى عليها ما تكسب من خير أَو شر، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) (¬2) وروى ذلك عن ابن سيرين وقتادة. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، من الآية: 52 (¬2) سورة الانفطار، الآيتان: 10، 11.

وقيل: (حَافِظٌ) أَي: عقل يرشده إِلى مصالحه ويكفه عمَّا يضره. والجملة جواب القسم. 5 - (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ): لَمَّا أَثبت -سبحانه- أَن على الإِنسان حافظًا ورقيبًا منه -تعالى - أو من ملائكته، حثه على النظر في نشأته الأُولى حتى يعلم أَن من أَنشأهُ على هذه النشأة قادر على إِعادته وجزائه، فليعمل ليوم الإِعادة والجزاء، وليُرْضِ ربه ولا يُملى على حفظته إِلا ما يسره في آخرته وعاقبة أَمره. وأَما على تقدير أَن المراد بالحافظ العقل، فلأنه لَمَّا أَثبت -سبحانه- أَن للإِنسان عقلًا يرشده إِلى مصالحه ويكفه عن مضاره، حثه على استعماله فيما ينفعه، وعدم تعطيله وإِلغائه، كأَنه قيل: فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأَ خلقه حتى تتضح له قدرة واهبه - سبحانه - وأَنه إِذا قدر على إِنشائه من مواد ليس فيها حياة ظاهرة فهو -سبحانه- على إِعادته أَقدر وأَقدر، فليعمل بما يُسَر به حين الإِعادة والرجوع إِلى مولاه. 6 - (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ): أَي: خُلق الإِنسان من ماءٍ دافق مصبوب بدفع وسرعة في الرحم، والمراد بالماءٍ الدافق: التي الذي يحمل الحيوانات المنوية التي تلقح بويضة المرأَة ويتكون الجنين. 7 - (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ): أَي: يخرج هذا الماءُ (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) وهو الظهر. (وَالتَّرَائِبِ): وهي عظام الصدر. قال الآلوسي: لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد.

ولعلماءٍ العصر كلام في ذلك يمكن الرجوع إليه لمعرفة الاجتهادات القديمة والحديثة ولا يجوز تفسير القرآن بما لا يصل إِلى حد العلم القطعي، مع الدعوة إِلى الفكر والنظر ومداومة البحث الذي قد يوصل إِلى الحقيقة التي لا تقبل الشك وذلك ممكن غير مستحيل. قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (¬1). 8 - (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ): أَي: إِن الله - سبحانه وتعالى - الذي خلق الإِنسان ممَّا ذكر لقادر على إِعادته بعد موته، وبعثه بعد هلاكه، لا يصعب عليه ذلك ولا يعجز عنه سبحانه. 9 - (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ): في يوم القيامة تبلي السرائر، أَي: تظهر وتبدو، ويصير السر علانية والمكنون، مشهودًا، وسواءٌ منه ما أَسِرَّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أَخفي من الأَعمال، حيث يميز بين ما طاب منها وما خبث. 10 - (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ): المعنى: فما للإِنسان المنكر للبعث من قوة في نفسه يمتنع بها من العذاب، ولا ناصر يمنعه ويحميه فيدفع العذاب عنه. ¬

_ (¬1) سورة فصلت من الآية: 53

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)) المفردات: (ذَاتِ الرَّجْعِ): ذات المطر لرجوعه كل حين، أَو لرجوعه إِلى المصدر الذي تبخر منه وتكاثف ونزل ماء. (ذَاتِ الصَّدْعِ): ذات الانشقاق عن النبات. (إِنَّهُ) أَي: إِن القرآن. (لَقَوْلٌ فَصْلٌ): لقول فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له: فرقان. (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) أَي: وما القرآن باللعب والباطل. (يَكِيدُونَ كَيْدًا): يمكرون مكرًا بالغ الغاية لصد الناس عن القرآن. (وَأَكِيدُ كَيْدًا): أُجازيهم على فعلهم بالاستدراج لهم. التفسير: 11 - (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ): أَقسم -سبحانه وتعالى - بالسماء التي ينزل منها المطر، وسمي المطر رجعًا لأن العرب كانوا يرون أَن السحاب يحمل بخار الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إِلى الأَرض، أَو سموا

المطر بذلك تفاؤلا ليرجع، أَو لأَن الله يرجعه بين الفينة والفينة ليشرب الناس ويسقوا زرعهم ودوابهم، ولولا ذلك لهلك الجميع، وعن مجاهد: تفسير السماء بالسحاب، والراجع بالمطر، وقيل: الرجع: الملائكة - عليهم السلام - سُمُّوا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد. 12 - (وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): وأَقسم -سبحانه- بالأَرض ذات الصدع، أَي: ذات الانشقاق عن النبات الذي يخرج منها. 13 - (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ): المعنى: إِن القرآن الذي أُنزل على الرسول لقول فاصل بين الحق والباطل، والهدي والضلال، قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأَنه نفس الفصل. 14 - (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ): أَي: ليس في القرآن شائبة لعب ولا باطل، بل كله جد محض، فمن حقه أَن يهتدى به الغُوَاة، وتخضع له رقاب العُتَاة، ومن الواجب نحو القرآن -وقد وصفه الله بذلك- أَن يكون مَهِبيًا في الصدور، مُعَظمًا في القلوب، ويترفع به قارئه وسامعه أَن يُلِم بهزل -أَو يتفكه بمزاح، وأَن يلقى ذهنه إِلى أَن جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويقف عند وعده ووعيده، حتى إِنه إِن لم يخف من الله ولم يخش عذابه فالأَولى به أَن يكون جادًّا غير هازل وفي الحكم على القرآن بأنه فصل أَخرج الترمذي وغيره عن على - كرم الله وجهه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنها ستكونُ فتنةُ، قلتُ: فمَا المخْرجُ

منها يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: كتابُ اللهِ؛ فيه نبأُ مَن قبلكمُ، وخَبرُ ما بعدكمُ، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصلُ ليسَ بالهزلِ .. " إِلخ الحديث. 15 - (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا): ثم أَخبر -سبحانه- عن الكافرين المكذبين بالقرآن الذين يصدون عن سبيل الله وعن الحق فقال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ) أَي: يمكرون بالناس في دعوتهم إِلى مخالفة القرآن والإِعراض عنه، ويُعْمِلُونَ المكايد في إِبطال أَمره وإِطفاءِ نوره ويبذلون جهدًا كبيرًا في هذا الكيد، وهم وإِن بلغوا الغاية في كيدهم فقدرتهم ضعيفة، وقوتهم محدودة. 16 - (وَأَكِيدُ كَيْدًا): أَي: أَقابل كيدهم بتدبير قوى لا يمكن رده ولا يستطاع دفعه وذلك بمثل إِملائهم -واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وانتظار الميقات الذي وقَّته للبطش بهم والانتقام منهم، وإِعلاءِ شأن القرآن وانتشار الدين ورفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم. 17 - (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (¬1): (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) أَي: فَتَأَنَّ وانتظر الانتقام منهم، ولا تستعجل به ولا تدع عليهم بالهلاك، ولا تيأَس من عقابهم، والفاء في قوله تعالى: (فَمَهِّلِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أَي: أَن الله هو الذي سيتولى كيدهم ولن يهملهم، فلا تشغل نفسك بالتصدي والتعرض لمكايدهم، وذِكْرُ (الْكَافِرِينَ) وعدم الاكتفاءِ بضميرهم لذمهم ونعتهم بأَبي الخبائث وأَساس جميع الشرور وهو الكفر. ¬

_ (¬1) (روايدا): مصدر مؤكد لمعنى العامل -وهو في الأَصل مصغر (رود) أي: مهل- أو (إرواد) على الترخيم -أي: أمهلهم إمهالا قربيا، أو قليلا. أهـ.

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا): بدل من (مَهِّل) والمعنى: أَمهل الكافرين إِمهالا رويدًا، أَي: قليلا، أَو قريبًا. وعن السدي أَنه قال: أَمهلهم حتى آمر بالقتال، وآتيك فيهم بأمر حاسم، أَي: أَمهل الذين كفروا بدعوتك التي واجهتهم بها، ولعله المراد بالإِمهال القريب أَو القليل، واختار بعضهم أَن يكون المراد الإِمهال إِلى يوم القيامة ليعم من واجههم بالدعوة ومن كفروا بها بعد، لأَن ما وقع بعد الأَمر بالقتال -كالذي وقع بالكفار يوم بدر وفي سائر الغزوات- لم يعم جميع الكفار، وما يكون يوم القيامة يعمهم جميعًا، والتقريب يكون باعتبار أَن كل آت قريب. والظاهر ما قاله السدي، وقد أَصابهم بعد الأَمر بالقتال ما أَصابهم من قتل أَبطالهم وقهرهم وإِذلالهم، وظاهر كلام أَبي حيان أَن الأَمر الثاني (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) تأَكيد للأَمر الأَول (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) والمخالفة بين اللفظين بين "مَهِّل" و"أَمْهِل" لزيادة تثبيته صلى الله عليه وسلم وتصبيره -عليه الصلاة والسلام- ودلت الزيادة المشعرة بالتغاير على أن كلاًّ من اللفظين كلام مستقل بالأمر بالثاني فهو أَوكد من مجرد التكرار، والله أَعلم.

سورة الأعلى

سورة الأعلى وتسمى سورة سبح، وهي مكية، وآياتها تسع عشرة آية مناسبتها لما قبلها: لما ذُكر في سورة طارق خلق الإِنسان، وأُشير إِلى خلق النبات في قوله تعالى: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) وذُكر هاهنا خلق الإِنسان في قوله تعالى: (خَلَقَ فَسَوَّى) وخلق النبات في قوله تعالى: (أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) ناسب أَن يقرن بينهما. مقاصد السورة: 1 - تنزيه ذات الله الأَعلى، وصفاته، عما لا يليق بها (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى). 2 - بيان الإِبداع فيما خلق -سبحانه- فجعله مستويًا في إِحكام وإِتقان، وقدر لكل شيءٍ خلَقه ما يصلحه، فهداه إِليه: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى). 3 - توجيه العقول والأَبصار إِلى صنيع القدرة في إِخراج النبات من الأَرض التي تنشق عنه وتدُرجه من أَخضر نافع إِلى أَن يصير يابسًا أَسود وجعله رعيًا للدواب: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى). 4 - إِخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأَن الله سيقرئه القرآن فيحفظه ولا ينسى منه شيئًا إِلا ما شاءَ الله، وأَنه صلى الله عليه وسلم ميسر لليسرى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ ... ) الآيات. 5 - أَمْرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم أَن يُذَكِّر بالقرآن وبما يوحَى إِليه ليذَّكر من يخاف الله ويرجو ثوابه: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى). 6 - إِعلامه صلى الله عليه وسلم بأَن الأَشقى المصر على العناد والكفر سيرفض دعوتك، ويعرض عنك فلا تحزن، وسيصلى النَّار الشديدة، فلا يستريح من العذاب بالموت، ولا يحيا حياة نافعة: (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ... ) الآيات.

7 - تأْكيد حصول الفلاح، والظَّفَرَ بالنجاة لمن تطهر من الشرك والمعاصي وذكر اسم خالقه بقلبه ولسانه، فصلى في خشوع وامتثال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). 8 - التنصيص على أَن الذي ذكَّر به، ودعا إِليه صلى الله عليه وسلم ثابت في الصحف الأُولى صحف إِبراهيم وموسى. فهو مما توافقت عليه الأَديان، وسجلته الكتب السماوية: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). (بسم الله الرحمن الرحيم) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)) المفردات: (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى): التسبيح؛ التنزيه، أَي: نزه اسمه - عز وجل - عن الإِلحاد فيه بالتأويلات الزائفة، وعن كل ما لا يليق به.

(فَسَوَّى) أَي: فجعل المخلوقات كلها سواء في الإِحكام والإِتقان. (وَالَّذِي قَدَّرَ) أَي: جعل الأشياء كلها على مقادير مخصوصة. (الْمَرْعَى): ما ترعاه الدواب أَخضر غَضًّا. (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) أي: جافًّا يابسًا، وأصل الغشاء: الهالك البالي من ورق الشجر، ومنه غثاء السيل. (حْوَى): أسود من القدم. (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) أَي: يبتعد عنها ولا ينتفع بها الكافر فكان أَشقى الناس. (يَصْلَى النَّارَ): يدخلها ويذوق حرها. التفسير 1 - (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى): أَي: جعل أَسماءَه - جل شأْنه - منزهة عن كل ما لا يليق بها فلا تطلقها على غيره على وجه يشعر بتشاركهما فيها، كأَن تقول لمن أَعطاك شيئًا: إِنه رزقني على وجه يشعر بالتشارك، ولا تسم بها غيره - تعالى - إِذا كانت متخصصة به كلفظ الجلالة "الله" والرحمن، ولا تذكرها في موضع لا يليق بها، أَو على وجه ينافي التعظيم والإِجلال، وهذا الوجه من التفسير مبني على الظاهر من أَن لفظ (اسم) غير زائد وذهب كثير إِلى أَنه زائد أَي: ذكر تأْكيدًا لضرب من التعظيم على سبيل الكناية. وعليه فالمعنى: نزه ربك عما لا يليق به من الأَوصاف في ذاته وأَفعاله وأَسمائه، واستدل لهذا الرأْي بما أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، وابن ماجه وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" (¬1) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: اجعلوها في سجودكم، ومن المعلوم أَن المجعول ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية: 74.

فيهما: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأَعلى دون ذكر لفظ (اسم) كما استدل أَيضًا على أَن (اسم) زائد بما أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، والطبراني، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأَ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأَعلى. وقوله -سبحانه - (الأَعْلَى) صفة للرب، وهو الأَظهر، وأُريد بالعلو: أَنه -سبحانه- يعلو بقدره واقتداره لا بالمكان؛ لاستحالته عليه، ويجوز أَن يكون لفظ الأَعلى صفة للفظ (اسم) والمراد بعلوه حينئذ: تَرَفُّعُهُ عن أَن يشاركه اسم في حقيقته. 2 - (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى): صفة ثانية، وحذف مفعول (خلق) لقصد التعميم. أَي: خلق كل شيءٍ فجعل خلقه متساويًا كما تقتضيه حكمته وإِتقانه. ويتنسى لهذا المخلوق أَن يؤدي ما خلق له على أَكمل وجه، وقال في البحر، خلق كل شيء فسواه بحيث لم يأْت متفاوتًا بل مناسبًا في إِحكام وإِتقان للدلالة على أَنه من عالم حكيم. 3 - (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى): صفة أُخرى، وكذا حال ما بعده، أَي: جعل الأَشياءَ مقدرة على مقادير مخصوصة في أَجناسها، وأفرادها، وأَفعالها، وآجالها، وهدى كلا منها إِلى ما يصدر عنه، وينبغي له طبعًا واختيارًا، ويسره لما خلق له بخلق الإِلهامات، ونصب الدلالات، وإِنزال الآيات، ولو تأَملت في خلق الإِنسان وأَحوال النباتات والحيوانات لرأَيت عجبًا مما تحار فيه العقول، وتعجز عن إِدراك الأَلباب، وحسبك أَنه -سبحانه - وأَدع في الإِنسان عقلًا يميز به بين الخير والشر، والضار والنافع، وسخر له كنوز الأَرض وخيراتها وجعل كل ما عليها طيِّعا له منقادًا، ووجه الحيوانات إِلى مراتعها، والطيور إِلى مآكلها، والهوام إِلى حاجاتها، وأَما فنون هداياته في غير ذلك فمما لا يعلمه إلاَّ العليم الخبير. وعن السدي: قدر للولد في البطن تسعة أَشهر أَو أَقل أَو أَكثر، وهداه للخروج منه للتمام.

4، 5 - (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى): أَي: أَنَّه - جل وعلا - أَنبت ما ترعاه الدواب أَخضر غضًّا يكاد يبرق ويتلأْلأُ من طراوته، ثم جعله بعد ذلك (غُثَاءً) أَحوى: يابسًا جافًّا كأَوراق الشجر البالية، والحشائش والأَخلاط مما يقذف به السيل على جانب الوادي، ومنه: غثاء السيل. والعرب تسمي القوم إِذا اجتمعوا من قبائل شتى أَخلاطًا وغثاءً (أَحْوَى): من الحوة: وهي سواد يضرب إِلى الخضرة؛ إِشارة إِلى بلوغه الغاية في القدم، فهو صفة مؤكدة للغثاءِ لأَن الغثاءَ إِذا قدم وأَصابته المياه حتى اسود وتعفن صار أَحوى. وتفسر الحُوَّة بشدة الخضرة، ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد، لأَن شدة الخضرة ترى في بدءِ النظر إِليها كالسواد، والمعنى: أَخرج المرعى حال كونه أَحوى من شدة الخضرة، فجعله غثاءً بعد ذلك. 6، 7 - (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى): بيان لهداية الله - تعالى - الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم إِثر بيان هدايته -تعالى- العامة لسائر مخلوقاته، وهي هدايته - علية الصلاة والسلام - لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الكريم الذي هو هدى للعالمين، وتوفيقه لهداية الناس أَجمعين. والسين إِما للتأْكيد، وإِما لأَن المراد: إِقراءُ ما أَوحَي إِليه حينئذ، وما سيوحي إِليه بعد ذلك. والمعنى. ستقرئك ما أُوحي إِليك الآن، وما يوحى إِليك بعد ذلك على لسان جبريل عليه السلام وذلك بأَن يقرأَ جبريل عليه السلام ما يقرأُ على الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وهو أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأُ فيحفظه ولا ينساه في وقت من الأوقات: لفترة الحفظ والإِتقان، ليكون ذلك آية أُخرى للرسول صلى الله عليه وسلم وجُوِّزَ أَن يكون المعنى: سنجعلك قارئًا بإِلهام القراءَة بدون تعليم أَحد إِياك كما هي العادة، ولما كان الوعد بعدم الإِنساءِ على وجه

قد يشعر بالتأييد واللزوم وربما يوهم استحالة نسيانه، جاءَ نسيانه، جاءَ الاستثناءُ في قوله تعالى: (إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) أَي: إِنه -سبحانه- إِذا أَراد نسيانك شيئًا لم يعجزه ذلك وهو لم يشأْ أَن ينسيه شيئًا فيكون القصد نفي نسيانه رأْسًا. روي أنه صلى الله عليه وسلم أَسقط آية في قراءَته في الصلاة فحسب أُبيٌّ أَنها نسخت، فسأله، فقال -عليه الصلاة والسلام-: نسيتها. والذي ذكره أُبيُّ عن نسيانه صلى الله عليه وسلم إِن صح ذلك فهو في غير ما يتعلق بالأَحكام التي أُمر بتبليغها، وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول الغافلين. والاستثناءُ بشارة من الله لنبيه، وبالجملة: ففائدة هذا الاستثناءِ أَن يعرِّف الله -تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم قدرته حتى يعلم -صلوات الله وسلامه عليه- أَن عدم نسيانه من فضله وإِحسانه - تعالى. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى): تأْكيد لوعده - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم أَي: إِن الذي وعدك بأَنه سيقرئك، وأَنه سيحفِّظك ما تقرأُ عالم بالسر والجهر فلا يفوته شيءٌ مما يكون في نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافي سرك. وفي قدرته أَن يحفظ عليك ما وهبك، ولو شاءَ لسلبه، ولن تستطيع دفعه لأَنك لا تستطيع أَن تخفى عنه شيئًا. وقيل: إِن الآية تعليل للآية السابقة: أَي: لأَنه يعلم ما ظهر وما بطن من الأُمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إِليك بأَسره، فينسيك ما شاءَ إِنساءَه، ويبقى لك محفوظًا ما شاءَ إِبقاءَه لما يناط ويتعلق بكل منهما من المصالح والحكم التشريعية. 8 - (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى): عطف على قوله -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ) الآية، أَي: نوفقك توفيقًا مستمرًّا للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، وعلى العقول فهمها في كل باب من أَبواب الدين علمًا وتعليمًا واهتداءً وهداية مما يتعلق بتكميل نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره، فيندمج فيه تيسير الطريق إِلى تلقي الوحي، والإِحاطه بما فيه.

وتعليق التيسير به صلوات الله وسلامه عليه -مع أَن الشائع تعليقه بالأُمور المسخرة للفاعل- كما في قوله تعالى: "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي" (¬1). للإِيذان بقوة تمكينه -عليه الصلاة والسلام - من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأَنه صلى الله عليه وسلم فطر عليها. كما في قوله - صلوات الله عليه: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ). وبعد ما وعد الله سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم أَخذ يأْمره بتذكير عباده وتنبيههم من غفلاتهم، وتوجيههم إِلى ما هو خير لهم من تنزيه اسم الله تعالى والاستعداد لامتثال أَوامره، والتزام أَحكامه فقال - سبحانه: 9 - (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى): أَي: فذكِّر الناس بما يوحى إِليك من القرآن الكريم وغيره من الوحي، واهدهم إِلى ما في ثناياه وتضاعيفه من الأَحكام الشرعية ودم على ما تفعله، وأَشار -سبحانه- بقوله: (إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى) إِلى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُذَكِّرُ أَهل الباطل ويفرغ في تذكيرهم غاية الجهد، ويتجاوز فيه كل حدٍّ معهود حرصًا على الإِيمان وتوحيدًا للملك الديان، وما كان ذلك يزيد بعضهم إِلاَّ كفرًا وعنادًا وتمردًا وفسادًا، فأُمِرَ - عليه الصلاة والسلام، تخفيًا عليه- بأَن يخص التذكير بتوقع النفع في الجملة، وذلك بأَن يكون من يذكِّره كلا أَو بعضًا ممن يرجى منه الاستجابة والانتفاع، ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إِلا عُتُوًّا ونفورًا، من الذين طبع الله على قلوبهم، وتمسكوا بما ورثوا عن آبائهم من جهل وجحود، كما في قوله -تعالى -: "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ" (¬2) وقوله تعالى: "فَأَعْرِضْ عَمَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا" (¬3) وقد أَعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمن طبع على قلبه فلم تنفذ إِليه الهداية. ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 26. (¬2) سورة (ق) من الآية: 45. (¬3) سورة النجم، من الآية: 29.

وقيل: إِن المعنى ليس كما ذكرنا، وإِنما هو استبعاد النفع بالنسبة إِلى هؤُلاءِ المذكورين والمطلوب تذكير الجميع سواء انتفعوا بالذكرى أو لم ينتفعوا كأَنه قيل: افعل ما أُمرت به لتؤجر وإِن لم ينتفعوا به، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم. 10 - (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى): أَي إِن الذكرى نافعة حتمًا في فريق من الناس، وهو من يخشى الله -تعالى - حق خشيته فيتفكر في شأْن ما تُذَكِّرُهُ به، وتوجهه إِليه فيقف على حقيقته، فيؤمن به وبكل ما تدعوه إِليه، وترشده إشل اتباعه. 11 - (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى): أَي: يتجنب الذكرى ويتحاماها، ولا ينتفع بها الكافر المصر على كفره، وهو الذي غلبه شقاؤُه، فأَعرض عن النور الساطع، والبرهان القاطع، وخلا قلبه، من خشية الله. فكان أَشقى أنواع الكفرة. وقيل: المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقيل: إِن الآية نزلت فيهما. والمتوغل في عداوة الرسول أَشقى من غير المتوغل فيها. 12 - (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى): أَي: إِن هذا الكافر الذي هو أَشقى أَنواع الكفرة: جزاؤُه أَن يعذَّب بالنَّار الكبرى التي هي الطبقة السفلى من أَطباق النار، كما قال الفراء، ولا بُعْد في تفاوت نار الآخرة وفي أَن بعضها أَكبر من بعض، وأشد حرارة، والنار الكبرى هي نار الآخرة، والصغرى هي نار الدنيا ولا شك في أَن نار الآخرة أَقوى أَثرًا وأَشد إِيلامًا لمن يعذبون بها من هذه النار التي نعرفها، ففي الصحيحين عن أَبي هريرة مرفوعًا "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". ثم إِن من شقى وذاق عذابه بتلك النَّار الكبرى يخلد فيها ولا ينقطع عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، كما قال تعالى:

13 - (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا): أَي: لا يموت الأَشقى في نار جهنم فيستريح من العذاب، ولا يحيا فيها حياة طيبة تنفعه كما قال - تعالى-: "لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا" (¬1). و (ثم) للتراخي في مراتب الشدة؛ لأَن التردد في النار بين الموت والحياة، الذي أُشير به إِلى الخلود في النار الكبرى أَفظع من نفس الصلى وهو دخول النار، فهو متراخ عنه أَي: عن الصلى في مراتب الشدة، ونفي الحياة في الآية لا يناقض نفي الموت، لأَن الحياة المنفية هي الحياة التي يرغب فيها، ويتمنى صاحبها أَن تدوم، وحياة المعذب بتلك النار الكبرى ممقوتة عنده، يتمنى في كل لحظة تمر عليه لو فقدها، فكأَنها ليست بحياة. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)) المفردات: (قَدْ أَفْلَحَ) أَي: نجا من المكروه، وفاز بالمطلوب. (مَنْ تَزَكَّى) أَي: تطهر من الشرك واتعظ بالذكرى. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أَي: كبر لافتتاح الصلوات الخمس، أَو هي وما يتيسر من النوافل. التفسير 14، 15 - (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى): أَي: قد فاز بالمطلوب، وظفر بكل ما يرجوه في دينه ودنياه مَنْ تطهر من الكفر والشرك بتذكره وامتثاله، وحمْلُه على ذلك مروي عن أَبي عباس وغيره، وأَخرج البزار وابن مردويه ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 36.

عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال في ذلك: "من شهد أَن لا إِله إِلا الله، وخلع الأَنداد، وشهد أَني رسول الله". واعتبر بعضهم في التزكي أَمرين، فقال: أَي تطهر من الشرك والمعصية. وقيل: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أَي: تكثَّر من التقوى والخشية، من الزكاء: وهو النماءُ، وقيل: تطهر للصلاة، وقيل: أَتى الزكاة، وروى هذا عن جماعة منهم أَبو الأَحوص وقتادة. (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أَي: ذكر اسمه تعالى بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب، وقيل: المراد بهذا الذكر تكبيرة الإِحرام (فَصَلَّى) أَي: الصلوات الخمس كما أَخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس، وقيل: الصلوات الخمس وما تيسر من النوافل، وإِنما اقتصر على ذكر الصلاة، لأَن الفرائض والواجبات الدينية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أَهم ما نزل -إِن كان نزل غيرها- كذا قيل وعن على - كرم الله وجهه- (تَزَكَّى): تصدق صدقة الفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ): كبَّر يوم العيد فصلى العيد، وقال أَبو الأَحوص: إِذا أَتى أَحدهم سائل وهو يريد الصلاة فليقدم بين يدي صلاته زكاة. فإن الله يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). 16، 17 - (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): الخطاب لكفار مكة، كأَنه قيل لهم: أَنتم الأَشقياءُ لا تفعلون ذلك من التطهر من الشرك وذكر اسم الله تعالى، بل تفضلون الحياة الفانية وترضون بها وتطمئنون إِليها، وتعرضون عن الآخرة إِعراضًا كليًا كما في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا" (¬1) ويحتمل أَن يكون الخطاب لجميع الناس، والمراد بإيثارها ما هو أَعم مما ذكر، ومما لا يخلو عنه الناس غالبًا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي والإِقبال عليها، وعن ابن مسعود ما يؤيد ذلك، والالتفات من الغيبة حسبما يقتضيه السياق -إِلى الخطاب لتشديد التوبيخ للأَشقياءِ الذين وبخوا فيما سبق بقوله ¬

_ (¬1) سورة يونس من الآية: 7.

- تعالى -: (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) على أَن الخطاب خاص بهم، أَما إِذا أُريد بالخطاب ما يعم ويشمل الكفار والمسلمين، فيكون في حق الكفار لتشديد التوبيخ كما سبق، وفي حق المسلمين لتشديد العقاب. (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أَي: تؤْثرون الدنيا على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها، فتعيمها مع كونه في غاية اللذة وأَنه خالص عن شائبة ما يكدر صفوه، أَبَديٌّ لا انصرام له، والدنيا مع ذلك فانية لا بقاءَ لها، فكيف يؤْثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبًا، ويترك الاهتمام بدار البقاءِ والخلد؟! قال ابن جرير في روايته عن ابن مسعود أَنه استقرئ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) فلما بلغ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ترك القراءَة، وأَقبل على أَصحابه فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة؟! فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا رأَينا زينتها، ونساءَها، وطعامها، وشرابها، وزُويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل. وقال الإِمام أحمد بسنده عن أَبي موسى الأَشعري: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحب دنياه، أَضَرَّ بآخرتهِ، ومَن أَحبَّ آخرتَه أَضَرَّ بدنياه، فآثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى". (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19))

التفسير 18، 19 - (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)): الإشارة إلى السورة كلها، عن ابن عباس: لما نزلت (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: كلها في صحف إِبراهيم وموسى، وقيل: الإِشارة إِلى قوله - تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) حتى قوله - تعالى-: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وروي ذلك عن قتادة. والإِشارة إِلى ما في السورة كلها، أي: إِلى مضمونها ومقاصدها؛ فإِن ذلك ثابت في الصحف الأُولى التي هي صحف إِبراهيم وموسى، وفي إِبهامها ووصفها بالأُولى ثم بيانها بقوله - سبحانه-: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) إِشارة إِلى أَنها قد بلغت الغاية في التفخيم، وعلو الشأْن، وكانت صحف إِبراهيم عشرة، وكذا صحف موسى - عليه السلام - أُنزلت عليه قبل التوراة وكانت عبرًا ومواعظ، روي عن أَبي ذر أَنه قال: قلت: يا رسول الله: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرًا كلها. قلت: فما كانت صحف إِبراهيم؟ قال: أَمثال كلها. والله أَعلم.

سورة الغاشية

سورة الغاشية هذه السورة مكية، وعدد آياتها ست وعشرون آية مناسبتها لما قبلها: لَمَّا أَشار - سبحانه وتعالى - في السورة السابقة إِلى المؤمن والكافر والجنة والنار إِجمالًا، ناسب أَن تأْتي هذه السورة عقبها لبسط هذا الكلام وتوضيحه. مقاصد السورة: بدأَت بالحديث عن يوم القيامة بأُسلوب يُشَوق إِلى سماعه؛ لبيان ما فيه من أَهوال وشدائد، وبلاءٍ وعناءٍ مشيرة إِلى أَن الناس يوم القيامة فريقان، فمنهم من لا يرون فيه كرامة عند استقبالهم، وإِنما يلقون كل مهانة وعنت ومذلة، ثم يدخلون نارًا حامية، وَيُسْقَوْنَ من عين آنية، ومنهم من يستقبلون ذلك اليوم فرحين مستبشرين بمظاهر الرحمة الواسعة والنعيم المعدِّ لهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ .... ) الآيات. ثم ساقت السورة الكريمة الأَدلة والبراهين الواضحة على قدرة الله الباهرة على البعث بما يشاهدونه بأَعينهم، والسماء العظيمة، والجبال الشاهقة، والأَرض المنبسطة: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ... ) الآيات. ثم أَبرزت أَمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير؛ لأَن مهمته الأُولى بالنسبة إِليهم مبينة أَنه ليس مُسَلَّطًا عليهم فيجبرهم على الإِيمان: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ). وكان ختام السورة بيان أَن من تولى وكفر بعد هذا التذكير، فسوف يأخذه الله بذنبه ويعذبه العذاب الأَكبر حين يرجع إِليه بعد الموت، لأَن رجوعهم جميعًا إِليه، وحسابهم عليه: (إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ... ) الآيات.

(بسم الله الرحمن الرحيم) (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)) المفردات: (الْغَاشِيَةِ): من أسماءِ يوم القيامة من غَشِيَهُ الأَمرُ: إِذا غطاه. (خَاشِعَةٌ): أَي: ذليلة، يقال: خشع في صلاته: إِذا تذلل ونكَّس رأْسه. (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) أَي: عملت عملًا شاقا تعبت فيه في الدنيا، ولا جدوى له في الآخرة. (تَصْلَى) أَي: تدخل. (آنِيَةٍ) أَي: بلغت أَناها -بفتح الهمزة وكسرها- وهو غاية حرها. (إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ): وهو شجر في النار يشبه الشوك أَمَرُّ من الصبر وأَنْتَنُ من الجِيفةِ، وقيل غير ذلك كما سيأْتي في الشرح. التفسير: 1 - (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ): هل استفهام أُريد به التعجيب من حديث القيامة، والتشويق إِلى سماعه والإِشعار بأَنه من الأَحاديث البديعة التي حقها أَن تتناقلها الرواة، ويتنافس في تلقيها الدعاة من كل

حاضر وباد. وهي اسم من أَسماءِ القيامة .. قال ابن عباس، وقتادة وابن زيد وسفيان -والجمهور، وأَطلق عليها (الغاشية) لأَنها تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأَهوالها. وظاهر كلام قطرب أَن (هل) بمعنى (قد) حيث قال: قد جاءَك حديث القيامة يا محمد. 2، 3 - (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ): هاتان الآيتان وما بعدها إِلى قوله تعالى: (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) استئناف وقع جوابًا عن الاستفهام التشويقي، كأَنه قيل من جهته صلى الله عليه وسلم: ما أَتاتي حديثها فما هو؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يكن أَتاه -عليه الصلاة والسلام- حديثها، فأَخبر الله رسوله -عليه الصلاة والسلام- عنها فقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) أَي: وجوه الكفار -يوم إِذ غشيتهم الغاشية- ذليلة لما اعترى أَصحابها من الخزي والهوان؛ لأَن المراد بخشوعها: ذُلُّهَا، ولم توصف بالذل ابتداءً لما في وصفها بالخشوع من الإِشارة إِلى التهكم، وأَنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع، وإِنما خص الوجوه بذلك، لأَن الحزن والسرور إِذا استحكما في المرءِ أَثَّرَا في وجهه (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) أَي: تعمل في النار عملًا شاقا تتعب فيه، وهو جَرُّ السلاسل والأَغلال، والخوض في النار والصعود والهبوط فيها جزاءَ التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا. وقيل: عملت في الدنيا أَعمال السوءِ، والْتَذَّتْ بها وتنعمت، فهي في نَصَبٍ منها في الآخرة. وعن زيد بن أَسلم أَنه قال: أَي: عاملة في الدنيا ناصبة فيها؛ لأَنها على غير هدى. فلا ثمرة لها إِلاَّ النَّصَبُ، وخاتمتها النار. 4، 5 (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ): أَي: تدخل نارًا قد أُحميت مددًا طويلة، فلا حر يعدل حرها، لأَن أَعمالها في الدنيا كانت خاسرة غلب عليها الشر والضلال. (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أَي: من عين ماءٍ بلغت أَناها بوصولها إِلى أَقصى غايتها في الحراراة، قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسّدي: قد

انتهي حرها وغليانها وحان شربها، والتأْنيث في هذه الصِّفات والأَفعال راجع إِلى الوجوه، والمراد أَصحابها بدليل قوله تعالى - تعالى -: 6، 7 - (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ): بيان لطعامهم إثر بيان شرابهم، أَي: إِن طعامهم في النار الذي ليس لهم طعام سواه هو الضريع، وهو كما قال عكرمة: شجرة ذات شوك لاصقة بالأَرض، وقال غير واحد: هو جنس من الشوك ترعاه الإِبل رَطْبًا فإِذا يبس تَحَامَتْهُ، وهو شر الطعام وأَبشعه لا تقربه دابة، أَو هو سُمٌّ قاتل، وقريش تسميه في الربيع الشِّبْرِق وفي الصيف الضَّرِيع، والظاهر أَنه يستحضر لهم حقيقة، أَشار إِلى ذلك الآلوسي. وقيل: هو شجرة نارية تشبه الضريع أَمَرُّ من الصبر وأَنْتَنُ من الجِيفة، وأَشد حرارة من النار، والله -سبحانه - الذي أَخرج من الشجر الأَخضر نارًا لا يعجزه أَن ينبت في النار شجر الضريع. والمعذبون من الكفار طبقات، فمنهم مَن طعامُه في النار الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الزقوم، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله: "وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (¬1). (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أَي: إِن طعامهم ليس من جنس الطعام الذي يذهب الجوع ويمد بالسَّمَنِ، وإِنما هو من شوك، والشوك ممَّا ترعاه الإِبل وتقبل عليه، وهذا نوع منه تعرض عنه الإِبل ولا تقربه؛ فليس له من منفعة الغذاءِ شيءٌ، وقيل: إِنه طعام عنده يتضرع إِلى الله تعالى ويطلب الخلاص عنه. وليس فيه منفعتا الغذاءٍ أَصلًا، وتنكير الجوع للتحقير، أَي: لا يغني من جوع مَّا. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآية رقم 36.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)) المفردات: (نَاعِمَةٌ) من النعومة، وكُنّي بها عن البهجة وحسن المنظر. (رَاضِيَةٌ) أَي: قد رضيت بسعيها. (عَالِيَةٍ): مرتفعة، أَو عالية القدر، فالعلو إِما حسي وإِما معنوي. (لاغِيَةً) أَي: لا تسمع فيها نفسًا لاغية، والمراد أَنها لا تتحدث باللغو: وهو كل قبيح من الكلام، أَو كل ما لا يعتد به من الأَقوال والأَفعال، أَو هو الباطل. (مَرْفُوعَةٌ): كثيرة الفُرُشِ عالية السمت. (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) أَي: معدة بين أَيديهم، والأَكواب: جمع كوب، وهو قدح لا عروة له. (وَنَمَارِقُ) أَي: وسائد صنعت للاتكاءِ عليها، والنمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة الصغيرة -بضم النون والراءُ، وبكسرهما وفتحهما. (وَزَرَابِيُّ) أَي: بُسُطٌ عراض فاخرة، أَو هي الطنافس التي لها خَمْل وهو الهدب، واحدها زَرَبيَّةٌ - مثلثة الزاي.

التفسير 8 - 11 - (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً): لَمَّا ذكر -سبحانه- حال الأَشقياءِ شرع في رواية حديث أَهل الجنة، وتقديم حكاية أَهل النار لأَنه أَدخل في تهويل الغاشية، وتفخيم حديثها، ولأَن حكاية حسن حال أَهل الجنة، وما يتقبلونه فيها من النعيم بعد حكاية سوءِ حال أَهل النار، ممَّا يزيد المحكي -حسنًا وجمالًا. والمعنى: أَن وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة، أَي: ذات بهحة، وحسن، وإِشراق، ونصارة، كقوله تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (¬1) ولا تكون كذلك إِلاَّ إِذا كانت فرحة بما لقيت من جزاءِ سعيها في الدنيا، وهذا المعنى على أَن ناعمة من النعومة، وأَما إذا كانت من النعيم، فيكون المعنى: وجوهٌ متنعمة في الجنة يوم القيامة، وهي وجوه المؤمنين، جزاءَ طاعتهم، وإِيمانهم بالله تعالى، ولم تعطف هذه الجملة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) على ما قبلها وهي: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) إِيذانًا بكمال تباين مضمونهما. (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) أَي: راضية بعملها الذي عملته في الدنيا تنفيذًا لأَمر ربها واتباعًا لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم حيث شاهدت ثمرته (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) أَي: مرتفعة السمت، ووصفها بذلك لأَن خير الأَماكن ما كان مرتفعًا شاهق البناءِ كقوله: إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتًا دعائمه أَعز وأَطوال أَو في جنة عالية القدر فالعلو إما حسي أَو معنوي، وجمع بينهما أَبو حيان، وعلو القدر: أَن تكون رفيعة في أَوصافها ومزاياها، وبما اختصت به من أَلوان النعيم، وسميت دار النعيم بالجنة لأن اسمها مأْخوذ من الاجتنان، وهو الستر؛ لتكاثف أَشجارها ولتظليلها بالتفاف أَغصانها (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) الإِسناد إِلى الوجوه والمراد: أَصحابها الذين يتأَتى خطابهم أَي: ¬

_ (¬1) سورة المطففين، الآية: 24.

لا تسمع فيها كلمة ذات لغو أَو لا تسمع نفسًا تلغو، فإِن كلام أَهل الجنة ذِكْر وطاعة وحمدٌ لله على ما رزقهم من النعيم الدائم، ويراد باللَّغو: الباطل، أَو كل قبيح من الكلام، أَو ما لا يعتد به من الأَقوال والأَفعال، وفي تنزيه نعيم أَهل الجنة عمَّا هو من لوازم نعيم غيرهم في الدنيا تنبيه للمؤمنين إِلى أَنه لا يليق بهم أَن يكونوا من أَهل اللَّغو مهما فاض عليهم النعيم، واتسعت لهم النعمة، بمعنى أَن نعيمهم ينبغي أَن يكون نعيم أَهل الفضل والجد لا نعيم أَهل الجهل والحمق. 12، 15 - (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ): أَي: في تلك الجنة عين عظيمة لا ينقطع ماؤُها عن الجريان، أَو عيون كثيرة، كقوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أي: نفوس، والتنوين في (عين) للتعظيم، أَو التكثير، ووصف ماءَ العيون بالجريان للإِشارة إِلى أَنه بارد صافٍ، لأَن ماءَ العيون إِذا كان جاريًا يكون في العادة باردًا صافيًا مع ما في منظر الماءٍ الجاري من مسرة وارتياح. (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أَي: أن سرر الجنة مرفوعة عن الأَرض، أو رفيعة المقدار، كثيرة الفرش؛ زيادة لهم في الراحة والنعيم. قالوا: فإذا أَرادوا الجلوس عليها تواضعت لهم. (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ) بين أَيديهم لمن أرادها من أَصحابها، أو موضوعه على حافة العيون، معدة للشرب، لا تحتاج إلى من يملؤها، وهي قداح لا عُري لها. (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) وهي الوسائد التي صف بعضها إِلى بعض للاستناد إِليها، والاتكاءِ عليها، سواءٌ أَكانت هذه على السرر أَو في جوانب المسكن، فإذا أَراد المؤمن أَن يجلس جلس على واحدة واستند إِلى أَخرى. والنمارق: جمع نُمْرُقَة، وهي الوسادة الصغيرة. 16 - (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ): أَي: بسط عراض فاخرة، مبسوطة هنا وهناك لمن أَراد الجلوس عليها، أَو مفرقة في المجالس. وقال الفراءُ: هي الطنافس التي لها خمل رقيق، أَي: هدب، وقال الراغب: إِنها في الأَصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع، ثم استعيرت للبسط، وواحد الزرابي زربية - مثلثة الزاي.

(أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)) المفردات: (الإِبِلِ): اسم جمع لا واحد من لفظه، يصدق على القليل والكثير، وهو مؤنث، والإِبل: الجمال. (سُطِحَتْ) أَي: بسطت ومهدت للإِقامة عليها. (بِمُصَيْطِر) أَي: بمسلط عليهم قاهر لهم. (إِيَابَهُمْ) أَي: رجوعهم بعد الموت إِلينا لا إِلى سوانا. والإِياب: مصدر (آب)، بمعنى رجع. التفسير 17 - (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ): استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، وذلك بالاستشهاد عليه أَربعة أَدلة مشاهدة لا يستطيعون إِنكارها. وأَخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال: لَمَّا نعت الله - تعالى - ما في الجنة عجب من ذلك أَهل الضلال، فأَنزل - سبحانه وتعالى -: (أَفَلا يَنْظُرُونَ) الآية. والهمزة للإِنكار والتوبيخ، أَي: أَينكرون البعث وأَحكامه, ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إِلى الإِبل التي هي نصب أَعينهم، يستعملونها كل حين،

ولا يستطيعون إِنكارها كيف خلقت خلقًا بديعًا معدولًا به عن سنن خلق سائر أَنواع الحيوانات في عظم جثتها، وشدة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأَتِّي ما يصدر عنها من الأَعمال الشاقة كنحمل الأَثقال العظيمة وهي باركة؟ ثم إِيصالها الأَحمال الفادحة إِلى مختلف الأَقطار؟ وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إِن ظمأَها ليبلغ ثمانية أَيام، وقدرتها على قطع الفيافي والقفار مع لين وسهولة في السير حتى اعتبرت بحق سفينة الصحراءِ؟ وفي أَنها تكتفي في غذائها بما تسير من شوك وشجر وغير ذلك ممَّا لا يكاد يرعاه سائر البهائم! وهي مع ضخامتها تنقاد للضعيف، وتخضع للصغير وتبرك لتحمل من قرب، ثم تنهض بما تحمل! وينتقع بأَصوافها وأَوبارهم وأَلبانها ولحومها! وفيها غير ذلك من المزايا التي لا يماثلها فيها حيوان آخر! وخُصَّت بالذِّكر لأَنها أَعْجب ما عند العرب، ولهم على أَحوالها أَتم وقوف، وعن الحسن أَنها خُصت بالذكر لأَنها تأْكل النوى والْقَتَّ، وتخرج اللبن، وقيل له: الفيل أَعظم في الأُعجوبة، فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل، ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره كما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترويضه، ولا يحلب دره. والتناسب بينها وبين المتعاطفات عليها -كما قال عصام الدين-: إِن خيال العرب جامع بين الأَربعة، لأَن ما لهم النفيس الإِبل، ومدار السقي لهم على السماءِ، ورعيهم في الأَرض، وحفظ مالهم الجبال. 18، 20 - (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ): أَي: وإِلى السماءِ التي تقع عليها أَبصارهم ليلًا ونهارًا، كيف رُفعت رفعًا بعيد المدى بلا مساك ولا عمد بحيث لا ينال ذلك الفهم والإِدراك؟! وكيف زُيِّنت بنجوم تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق، صنع الله الذي أَتقن كل شيءِ خَلَقَه، كما قال تعالى: "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة ق، الآية رقم: 6.

(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) على الأَرض نصبًا ثابتًا راسخًا مع ارتفاعها الشَّاهق لئلا تميد الأَرض بأَهلها وتنزلزل، وجعل في تلك الجبال ما جعل ممَّا فيه خيرهم وصلاحهم. (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أَي: مدت بتوطئة وتمهيد، حسبما يقتضيه صلاح أُمور أَهلها بحيث يسهل عليهم أَن يضربوا فيها، ويتقلبوا عليها. فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأُفق إِلى الأُفق. فبهذه الآيات الأَربعة، نُبِّهَ البدوي إِلى استدلال بما شاهده من بعيره الذي يركب عليه والسماء التي فوق رأْسه، والجبل الذي ينتفع بما فيه، والأَرض التي هي مستقرة ومثواه، بها يستدل على أَن من خلق هذه الأَشياءَ الشاهدة على قدرة الخالق العظيم، المالك المتصرف، لا يعجزه أَن يحقق البعث والنشور، وذلك ليرجعوا عمَّا هم عليه من الإِنكار والنفور، ويسمعوا إِنذارك، ويستعدوا ليوم اللقاءِ بالإِيمان والطاعة. (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)) المفردات: (بِمُصَيْطِرٍ): بمسلط عليهم، قاهر لهم. (إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى): إِلا مَن أَعرض عن الطاعة. (إيَابَهُمْ): رجوعهم إِلينا لا إلى غيرنا، من (آب) إِذا رجع.

التفسير: 21 - 24 - (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ): بدأَت الآيات بقوله تعالى: (فَذَكِّرْ) فالفاءُ لترتيب الأَمر بالتذكير على عدم النظر في مخلوقات الله الدالة على قدرته البالغة، والتي هي نصب أَعينهم أَي: فاقتصر على التذكير، ولا تلح عليهم، ولا تعبأْ بما يقع منهم من إِعراض عن النظر والتفكير، وقوله -سبحانه- (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تعليل للأَمر بالتذكير وتحديد لذلك الأَمر الذي بعث الله لأَجله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو تذكير الناس بالأَدلة وبما نسوه من أُمور دينهم، وليس في سلطانه -عليه الصلاة والسلام - أَن يخلق الاعتقاد فيهم، أَو أَن يكون رقيبًا على قلوبهم، لأَنه هاد ومرشد، وليس عليه إِلاَّ البلاغ. (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) أَي: لست بمتسلط عليهم، تقرهم على ما تريد، وتدفعهم إِليه كقوله تعالى: "وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ" (¬1). (إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أَي: لكن من أَعرض عن الطاعة وجحد الحق المفروض عليه، فإِن الله تعالى الولاية عليه والقهر. (فَيُعَذِّبُهُ الله الْعَذَابَ الْأَكَبَرَ): وهو عذاب الآخرة، فإِنه الأَكبر، وعذاب الدنيا بالنسبة إِليه أَصغر، وقيل: المعنى: لست بمصيطر عليهم إِلاَّ من تولَّى وأَقام على الكفر فإِنك مسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأَسره، وبعد ذلك يعذبه الله - تعالى - في جهنم. فيكون في الآية وعيد لهم بجهادهم وقتالهم. حيث يقتلون ويؤسرون، ويعذاب جهنم في الآخرة، ويجوز أَن يكون إِيعادًا بالجهاد فقط، على أَن المراد بالعذاب الأَكبر: القتل وسبي النساء والأَولاد، وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا، فيكون فيه إِشارة إِلى أَن هذه الأَمة أَكبر عذابها في الدنيا، لا ما كان في الأُمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما. ¬

_ (¬1) سورة ق، من الآية: 45.

25، 26 - (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ): تعليل لتعذيبه إِياهم بالعذاب الأَكبر، أَي: إِن إِلينا رجوعهم بالموت والبعث، لا لأَحد سوانا لا استقلالًا، ولا اشتراكًا، بمعنى أَن إِيابهم ليس إِلاَّ إِلى المقتدر على الانتقام الذي لا يملك هذا العذاب سواه. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) أَي: إِن حسابهم علينا في المحشر لا على غيرنا، فنحاسبهم على أَعمالهم، ونجازيهم بها جزاءَ أَمثالهم، و (على) في قوله: (عَلَيْنَا) لتأْكيد الوعيد لا للوجوب؛ إِذ لا يجب على الله شيءٌ. وفي تصدير الجملتين بـ "إِنَّ"، وتقديم خبرها، والإِثيان بضمير العظمة، وعطف الثانية على الأُولى بكلمة (ثم) المفيدة لبعد منزلة الحساب في الهول والشدة: ما يدل على غاية السخط الموجب لتشديد العذاب. والله أعلم.

سورة الفجر

سورة الفجر هذه السورة مكية، وآياتها ثلاثون مناسبتها لما قبلها: لما ذكر -سبحانه- في السورة السابقة "وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ خَاشِعةٌ" و"وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاعِمَةٌ" أَتبعه - تعالى- في هذه السورة بذكر طوائف المكذبين والمتجبرين كقوم عاد وثمود، وقوم فرعون، وهؤُلاءِ وجوههم خاشعة ذليلة، وأَشار -سبحانه- إِلى الصنف الآخر الذين اتصفوا بأَن وجوههم ناعمة بقوله - تعالى - (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" وتلك مناسبة واضحة لمجيءِ هذه السورة بعد السورة السابقة وأَيضًا فيها مما يتعلق بأَمر الغاشية وما فيها. أَهم مقاصدها: 1 - ذكرت السورة قصص بعض المكذبين لرسل الله، وبينت ما حل بهم من تنكيل، وتدمير (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) الآيات. 2 - أَبرزت ما بدر من الإِنسان حينما اختبره ربه في هذه الحياة بالخير والشر، والغنى والفقر، وأَشارت إِلى طبيعته في حبه لشديد للمال، والرغبة في الاستزادة منه، ولا يسأَلون أَهو من حلال أَم من حرام؟! (فأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) الآيات. 3 - تحدثت عن الآخرة وأَهوالها وشدائدها، وعن مجيءِ ربك لفصل القضاءِ والملائكة صفًّا صفًّا، وإِحضار جهنم، وانقسام الناس إِلى سعداءَ، وأَشقياءَ (كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) الآيات. 4 - لفتت الأَنظار إِلى ندم المفرطين والعصاة، وأَسفهم في وقت لا ينفع فيه الندم، ولا يجدي الأَسف، بل هم يومئذ يعذبون عذابًا لا مثيل له، ويوثقون وثاقًا بلغ الغاية في الضبط والإِحكام (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الآيات. 5 - ختمت السورة ببيان أَن مرجع المؤمن عند الموت إلى الرحمة والرضوان، ونعيم الجنان (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) المفردات: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ): الزوج والفرد من كل شيءٍ. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أَي: يمضي بحركة الكون العجيبة، أَو أَقسم بالليل وقت أَن يُسْرَى فيه، وإِسناد السرى إِليه مجاز على حد (ليل نائم) أَي: ينام فيه. (لِذِي حِجْرٍ) أَي: لذي عقل، سمي به لأَنه يحجر صاحبه ويمنعه عن التهافت فيما لا ينبغي. (إِرَمَ): هي عاد الأُولى؛ تسمية لهم باسم جدهم، وقيل: إِرم: بلدتهم وأَرضهم التي كانوا عليها. (ذَاتِ الْعِمَادِ) أَي: أَن قدودهم وقاماتهم كالأَعمدة في الطول.

(جَابُوا الصَّخْرَ) أَي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتًا، ومنه: يجوب فلان البلاد، أَي: يقطعها. (ذِي الأَوْتَادِ) أَي: الجنود الكثيرة، وكانت لهم مضارب كثيرة، يشدون خيامها إِذا نزلوا بالأَوتاد. (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ): الصب: التتابع، والسوط: الجلد المضفور، أَي: المجدول، وذلك مجاز عن إِيقاع العذاب بهم على أَبلغ الوجوه؛ إِذ الصب يشعر بالدوام، والوسط بزيادة الإِيلام، بمعنى أَنهم عذبوا عذابًا مؤلمًا دائمًا. (لَبِالْمِرْصَادِ): وهو المكان الذي يقوم فيه الرصد، وهذا مثل لإِرصاده العباد، وأَنهم لا يفوتونه، وأَنه عالم بما يصدر عنهم، فيجازيهم عليه. التفسير: 1 - 5 - (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ): أَقسم الله -سبحانه- بهذه الأَقسام الخمسة لشرفها وعظمها، ولما فيها من الفوائد الدينية والدنوينة، فأَقسم بالفجر -وهو الصبح- لما يحصل به من ظهور الضوءِ، وانتشار الناس لتحصيل الرزق، وقيل: هو صلاة الفجر؛ لأَنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وعن مسروق، ومجاهد، ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر، كما أَقسم بالليالي العشر لشرفها بما يقع فيها، والمراد بها: عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: "مَا مِنْ أَيَّام الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلى الله فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّام) يعني عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (وَلاَ الْجِهَادُ فِي سَبيل الله إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسَهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيْءٍ)، وقيل: المراد العشر الأَول من المحرم وفيها يوم عاشوراء، وقد ورد في فضله ما ورد. وروي

عن ابن عباس أَنهن العشر الأَواخر من رمضان، واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته؛ قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها-: "كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذاَ دَخَلَ الْعَشْرُ -تعني العشر الأَواخر من رمضان- شَدَّ مِئْزَرَهُ وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهله" وأَيًّا ما كان فتنكير ليالٍ للتعظيم، وقيل: للتبعيض، لأَنها بعض ليالي السنة أَو الشهر. وكونه للتعظيم والتفخيم أَولى. (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أَي: أَقسم -سبحانه- بشفع الأَشياءٍ ووترها، أَو بشفع هذه الليالي وترها، أَو بشفع الصلاة وترها، أَو بيوم النحر وهو شفع، وبيوم عرفة وهو وتر، وقد كثرت فيها الأَقوال، والله أَعلم بحقيقة الحال. (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أَي: أَقسم بالليل وقت أَن يسري فيه، وإِسناد السُّرى إليه مجاز، على حد "ليل نائم" أَي: يُنام فيه: أَو المراد: أَقسم بالليل إِذ يمضي بقدرة الله العجيبة، كقوله تعالى: "وَاللَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ" والقسم بالليل لما فيه من الستر الذي قد يقتضيه الحال، وجواب هذا القَسَم والأَقسام السابقة محذوف يدل عليه قوله تعالى "أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ" إِلى قوله: "فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ" أَي: ليعذبن الذين كفروا بالله، وأَنكروا البعث أَشد العذاب وأَقساه (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر) المشار إِليه بـ (ذَلِكَ) هو الأَمور الخمسة المقسم بها، والاستفهام للتقرير، أَي: إِن في هذه الأُمور المشتملة على باهر الحكمة وعجيب الصنعة قسمًا مقنعًا لذي عقل ولب فضلا على أَنها مستحقة لأَن يقسم بها تنبيهًا على شأْنها، وفخامة قدرها لإِشارتها إِلى الخالق العظيم. 6، 8 - (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ): استشهاد بعلمه -عليه الصلاة والسلام- بما يدل عليه من تعذيب عاد وأَضرابهم المشاركين لقومه صلى الله عليه وسلم في الطغيان والفساد، كأَنه قيل: أَلم تعلم علمًا يوازي العيان في الإِيقان كيف عذب ربك عادًا ونظائرهم؟! فيعذب هؤُلاءِ أَيضًا لاشتراكم فيما يوجبه

الكفر والمعاصي؟! والاستفهام للتقرير، والمراد بعاد: أَولاد عاد بن إِرم بن عوص بن سام ابن نوح - عليه السلام - وهم قوم هود - عليه السلام - سُمُّوا باسم أَبيهم، كما سمى بنو هاشم هاشمًا. وقيل لأَوائلهم: عاد الأُولى، ولأَواخرهم: عاد الآخرة، وإِطلاق اسم الأَب على نسله مجاز شائع حتى أُلحق بعضه بالحقيقة. (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ): إِرم عطف بيان لعاد زيادة في التعريف بهم، وللإِيذان بأَنهم عاد الأُولى، وهو تسمية لهم باسم جدهم، والأَكثرون على أَنها اسم مدينة عظيمة باليمن، والوصفان لها، والمراد: ذات البناءِ الرفيع، ولقد أَرسل الله إِلى عاد هودًا - عليه السلام - فكذبوه وخالفوه فنجاه الله ونجى من آمن معه منهم، وأَهلكهم بريح صرصر عاتية "سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا" (¬1) وذكرت قصتهم في القرآن في غير موضع، وكانوا يسكنون خيام الشعر ذات الأَعمدة التي ترفع عليها -عن قتادة وابن عباس في رواية عطاءِ: المراد: ذات الخيام والأَعمدة. وقد يراد بذات العماد الوصف لإِرم نفسها، بمعنى أَنها ذات القدود الطويلة، على تشبيه قاماتهم بالأَعمدة، واشتهر أَنه كان طول أَحدهم اثني عشر ذراعًا وأَكثر، وقيل غير ذلك. (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ): صفة أُخرى لإِرم، أَي: ليس لهم مثيل في عظم الأَجرام، وقوة البطش في بلاد الدنيا، حتى قيل: كان الرجل منهم يحمل الصخرة، ويلقيها على الحي فيهلك كل من فيه، وهم الذين قالوا؛ "مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" (¬2) وكانوا يسكنون عُمَان وحضرموت من بلاد الأَحقاف (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الحاقة من الآية رقم 7. (¬2) سورة فصلت، من الآية: 15. (¬3) يقال للرمل المعوج: حقف، والجمع: أحقاف.

قال تعالى: "وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ) (¬1) وقد امتن عليهم -سبحانه- بقوله: "وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً" (¬2). 9 - (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ): عطف على عاد، وثمود: قبيلة مشهورة، سميت باسم جدهم (ثمود) أَخي جديس، وهما ابنا عامر بن إِرم بن سام بن نوح - عليه السلام - كانوا عربًا من العارية يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأَصنام، وقد جابوا صخر الجبال أَي: قطعوه، واتخذوا فيها بيوتًا نحتوها من الصخر، كما قال تعالى: "وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ" (¬3) وهم أَول من نحت الجبال، والصخور، والرخام، وقيل: إِنهم بنوا أَلفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة بوادي القرى. 10 - 12 - (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ): أَي: وفرعون ذي الجنود الكثيرة، وكانت لهم مضارب متعددة يضربون أَوتادها إِذا نزلوا حتى تستوعب تلك الأَعداد الموفورة، وقيل: إِنه كان يدق للمعذب أَربعة أَوتاد، ويشده مبطوحًا على الأَرض فيعذبه بما يريد من ضرب أَو إِحراق أَو غيرهما. (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ): صفة للمذكورين: عاد، وثمود، وفرعون، أَي: وعتوا في البلاد التي كانت لهم وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان: (فأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) أَي: بالكفر بالله، واقتراف سائر المعاصي. 13 - (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ): المراد: إِيقاع العذاب بهم على أَبلغ الوجوه وأَشدها، إِذ الصب لشيءٍ مائع يشعر بالتتابع والسوط بشعر بزيادة الإِيلام، حيث إِنه شاع استعماله في الجلد المضفور الذي يتخذ عادة للمبالغة في العقاب، أَي: عذبوا عذابًا دائمًا مؤلمًا. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف، الآية: 21. (¬2) سورة الأَعراف، من الآية: 69. (¬3) سورة الشعراء الآية: 149.

14 - (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ): تعليل لما قبله، والأَصل في المرصاد المكان الذي يقوم فيه الرصد للمراقبة والاستطلاع. والمراد أَنه - تعالى - يرقب عمل كل إِنسان، ويحصيه عليه، ويجازي بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، ولا يفوته من الخلق أَحد، ولا من أَعمالهم شيءٌ، ومنهم أُولئك الجبابرة الطُّغاة الذين عاثوا في الأَرض فسادًا، واتخذوا الله أَندادًا وشركاء، وأَضرابهم ككفار مكة. (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) المفردات: (إِذَا مَا ابْتَلاهُ): عامله معاملة المختبر. (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ): أَي ضيقه عليه. (التُّرَاثَ): المال الموروث. (أَكْلًا لَمًّا) أَي: شديدًا لا تتركون منه شيئًا، واللَّمُّ: الجمع. (جَمًّا): كثيرًا مع حرص يقال: جم الماءُ في الحوض: إِذا كثر واجتمع.

التفسير 15 - (فأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ): هذه الآية وما بعدها كلام متصل بما قبله، أَي: الواجب لمن علم أَن ربه بالمرصاد أَن يسعى للعاقبة ولا يصرف كل همه للعاجلة، كأَنه قيل: إِنه - تعالى - لبالمرصاد من أَجل الآخرة لمراقبة أَحوال عباده ومجازاتهم على أَعمالهم خيرًا كانت أَو شرًّا، فهو - سبحانه- لا يطلب إلا السعي لها، أَما الإِنسان فقد عكس، وأَصبح كل همه الدنيا ولذائذها (إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أَي: عامله معاملة المختبر بالغنى واليسار (فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالمال الوفير، والجاه العريض، وأَسباب القوة والعزة (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أَي: أَكرمني بذلك لمزيد استحقاقي له، فيرى أَن الإِكرام في كثرة الحظ من الدنيا، ولم يخطر بباله أَنه فضل تفضل الله به عليه في دنياه ليختبره هل يشكر أَو يكفر؟! كما قال الله - تعالى-: "أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ" (¬1). 16 - (وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ): وأَما هو -أَي: هذا الإِنسان- إِذا ما اختبره ربه (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أَي: إِنه يرى الهوان والمذلة في الفقر، وقلة الحظ من الدنيا التي هي كل همه، وغفل عن أَن التقتير قد يؤَدي إِلى كرامة الدارين، وأَن التوسعة قد تفضي إِلى خسرانهما، وأَن كل ما يقع قد اقتضته الحكم البالغة لله - تعالى - فإِن الله يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب، فقد يوسع على الكافر وهو مهان، ويضيق على المؤمن وهو مكرم، وإِنما المدار في ذلك على طاعة الله في الحالين؛ بأَن يشكر الله إِذا كان غنيًا، وأَن يصبر إِذا كان فقيرًا. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 55: 56.

17 - (كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ): بدئت الآية بقوله سبحانه (كَلاَّ) لردع الإِنسان عن قوليه المحكيين في الآيات السابقة والتكذيب له فيهما، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - المعنى: لم أَبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أَبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك لمحض القضاءِ والقدر، قوله -سبحانه- (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) إِلى آخره، انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إِلى الأَقبح من الفِعْلِ، وتوجيه الخطاب إِلى كفار مكة الداخلين فيما سبق دخولا أَوليًا لتشديد التقريع أَي: بل لكم أَفعال وأَحوال أَشد شرًا مما ذكر، وأَدل على تهالككم على المال الذي أَكرمكم الله بكثرته فتبخلون به، وتحرمون اليتيم الذي هو أَهل له، وأَحق بالبر به والإِحسان إليه كما جاءَ في الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتَيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يتَيِمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ" وورد أَيضًا: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وقرن بين أُصبعيه: الوسطى والتي تلي الإِبهام) كما رواه البخاري ومسلم. 18 - (وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ): أَي: لا يحض بعضكم بعضًا على إِطعام المساكين، ولا تأْمرون به، والمراد من المسكين، ما يعم الفقير. 19 - (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا): أَي: وتأْكلون المال الموروث أَكلا ذا كمٍّ وجمع من أَي جهة حصل لكم من حلال أَو حرام، وكانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأْكلون أَنصباءَهم ويقولون: لا يأْكل الميراث إِلا من يقاتل ويحمي الحوزة، أَو يأْكلون ما تركه المورث سواء أَجَمَعَه من حلال أَم من حرام عالمين بذلك. وفي الكشاف: يجوز أَن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أَن يفرق في جمعه فيسرف في إِنفاقه، ويأْكله أَكلا واسعًا جامعًا.

20 - (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا): أَي: كثيرًا، كما قال ابن عباس. وزاد بعضهم: فاحشا، والمراد: أَنكم تحبونه مع حرص وشره، والْجَمُّ: الكثير. (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)) المفردات: (دَكًّا دَكًّا) الدك: الهدم وكسر الحائط، والجبل، أَي: دكت الأَرض مرة بعد أُخرى حتى صارت هباءً منشورًا. (وَجَاءَ رَبُّكَ) أَي: أَمره وقضاؤُه. (وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى): ومن أَين له التذكر؟! استفهام إنكاري لتحقيق أَنه ليس يتذكر لعدم جدواه ولوقوعه بعد أَوانه. التفسير: 21 - (كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا): يخبر - تعالى - عما يقع يوم القيامة من الأَهوال العظيمة، والشدائد المذهلة فيقول: (كَلاَّ) وهي ردع وزجر لهم عن أَفعالهم القبيحة، وقد يكون معناها "حقًّا" وقوله

- سبحانه-: (إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) إِلى آخره استئناف جيءَ به بطريق الوعيد تعليلا للردع. أَي: إِذا هدم كل ما على الأَرض بالدك والزلزلة مرة بعد أُخرى حتى انكسر وتفتت، وأَصبح كل ما على وجهها من جبال، وقصور وأَبنية وحصون هباءً منشورًا، وتكرير الدك للاستيعاب، بمعنى أَنها دكت دكا متتابعًا، وقال المبرد: الدك: حط المرتفع بالبسط والتسوية، وعليه فالمعنى: إِذا سويت الأَرض تسوية بعد تسوية، ولم يبق على وجهها شيءٌ حتى صارت كالصخرة الملساءِ، , وأَيا ما كان فهو عبارة عمَّا عرض لها عند النفخة الثانية. 22 - (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا): أَي: وجاءَ أَمر ربك وقضاؤُه بحذف المضاف للتهويل، واختار جماعة أَنه تمثيل لظهور آيات اقتداره، ووضوح آثار قدرته وسلطانه - عز وجل - ورأَي السلف - رضي الله عنهم - أَنه مجيء من غير تكييف ولا تمثيل نؤمن به ولا نطلب معناه. (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أَي: جنسهم، فيشمل ملائكة السموات والأَرض جميعًا، يجيئون بين يدي ربهم مصطفين، أَو ذوي صفوف، فإِنه قيل: ينزل ملائكة كل سماءٍ فيصطفون صفا بحسب مراتبهم ومنازلهم محدقين بالإِنس والجن. وروي أَن ملائكة كل سماءٍ تكون صفا حول الأَرض، فالصوف سبعة على ما هو الظاهر، والآية تصور لنا الهيبة والعظمة، وظهور السلطان الإِلهي في ذلك اليوم. 23 - (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى): أَي: وكشفت جهنم يوم القيامة للناظرين بعد أَن كانت غائبة عنهم، فالمجيء متجوز فيه كما في قوله تعالى: "وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى" (¬1)، وقوله سبحانه: "وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ" (¬2) والأَرجح أَن يكون المجيءُ على حقيقته، فقد أَخرج مسلم والترمذي ¬

_ (¬1) سورة النازعات، الآية: 36. (¬2) سورة الشعراء: 91.

وابن جرير وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون أَلف زمام، مع كل زمام سبعونه أَلف ملك يجرونها)، وفي رواية بزيادة (حتى تُنصب على يسار العرش لها تَغَيّظ وزفير). قال الآلوسي: وحمله على المجاز لا يدعو إِليه إِلاَّ استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي، وهو لعمري غير مستحيل، فيجوز أَن تخرج وتنتقل من محلها في الحشر ثم تعود إِليه، والحال في ذلك اليوم وراءَ ما تتخيله الأَذهان. أهـ. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ) أَي: في ذلك اليوم العصيب؛ والموقف الرهيب تذهب الغفلة ويتذكر الإِنسان عمله الذي نسيه، وفرط فيه، وذلك بمشاهدة آثاره وأَحكامه، أَو بمشاهدة عينه، بناءً على أَن الأَعمال تتجسم في النشأَة الآخرة، فتبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة أَو القبيحة أَو (يتذكر) من التذكر بمعنى الاتعاظ، أَي: يتعظ بما ترى من آثار قدرة الله - عز وجل - وبالغ عظمته، وقوله - سبحانه -: (وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) اعتراض جيءَ به لتحقيق أَن ما وقع منه ليس بتذكر حقيقة لخلوه عن الفائدة؛ لكونه وقع في غير أَوانه، أَي: ومن أَين تكون له منفعة الذكرى وقد فات وقتها بمضي الحياة التي أَضاعها بغفلته؟! ولو كان على بصيرة من أَمره لعلم أَن الحياة هي دار العمل ولا جزاءَ فيها، وأَن الآخرة التي تذكر فيها هي دار الجزاءِ ولا عمل فيها. 24 - (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي): استئناف وقع جوابًا عن سؤال مقدر، كأَنه قيل: ماذا يكون عند تذكره؟ فقيل: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) أَي: يدفعه ما يقبض به نفسه من الندم والحسرة إِلى أَن يقول: يا ليتني قدمت عملًا صالحًا ينفعني في آخرتي فهي حياتي في الباقية، أَو يا ليتني قدمت وعملت أَعمالًا نافعة وقت حياتي في الدنيا لأَنتفع بها اليوم. 25، 26 - (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ): ففي ذلك اليوم الذي ذكر فيه ما سبق من الأَحوال والأَقوال كدك الأَرض، ومجيء ربك والملائكة صَفًّا صَفًّا، وكشف جهنم للناظرين أَو الإتيان بها، وتذكر الإِنسان لما نسيه في

ذلك اليوم (لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) الهاءُ إِما لله، أَي: لا يتولى عذاب الكافر ووثاقه بتقييده بالسلاسل والأَغلال لا يتولى ذلك أَحد ولا يباشره أَحد إِلاَّ الله، إِذ الأَمر كله له - تعالى - في ذلك اليوم، والمراد أَنه ليس أَحد أَشد عذابًا من تعذيب الله لذلك الكافر وإِما أَن تكون الهاء للإِنسان الموصوف، أَي: لا يُعَذَّب ولا يوثق أَحد من الزبانية أَحدًا من أَهل النار مثل ما يعذبون ذلك الكافر ويوثقونه، كأَنه أَشدهم عذابًا ووثاقًا. لأَنه أَكثرهم سيئات وقبائح، وبعد أَن ذكر الأَلوسي هذا الوجه قال: وهو وجه حسن، بل هو أَرجح من الأَول، وقيل: إِن الضمير يراد به أُبي بن خلف، أَي: لا يعذب أَحدًا أَبدًا مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده أَحد. (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)) المفردات: (رَاضِيَةً): بما أَعطاها الله من النعم الكثيرة. (مَرْضِيَّةً): يرضى الله عنها بما قدمت من عمل صالح. (فِي عِبَادِي) أَي: في زمرة عبادي الصالحين. التفسير 27، 28 - (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً): الآيتان وما بعدهما حكاية لأَحوال من اطمأَن بذكر الله - عز وجل - وطاعته من النفوس الزكية المطمئنة إِثر حكاية من اطمأَن إِلى الدنيا وسكن إِليها من المجرمين الظالمين.

والمعنى: ينادي الله النفس المطمئنة، أَي: يقول الله لها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) الآية إِما دون واسطة إِكرامًا لها كما كلم موسى، وإِمَّا على لسان ملك، واستظهر أَن ذلك القول عند تمام الحساب، وقيل: عند البعث، وقيل: عند دخول الجنة، ويراد بها النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا فزع يوم القيامة، المتوفاة على الإِيمان، المطمئنة إِلى الحق الواصلة إِلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك، ولا يمازجها سخونة اضطرب القلب في الحق أَصلا، لأَنها إِذا وصلت إِلى معرفته - تعالى - حق المعرفةى اطمأَنت واستغنت به -سبحانه- عن وجودها، وسائر شئونها، ولم تلتفت إِلى ما سواه - جل وعلا - وذلك أَعلى مراتب الاطمئنان. (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) أَي: إِلى محل عنايته - تعالى - وموقف كرامته - عز وجل - وإِلى ما أَعد لعباده في جنته، ولا يخفى ما في قوله -سبحانه-: (إِلَى رَبِّكِ) من مزيد اللطف (رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) أَي: راضية بما تعطاه من النعم الكثيرة، ومرضية عند الله بما عملت رضي عنها وأَرضاها. 29،30 - (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي): أَي: فادخلي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين وانتظمي في سلكهم، واستضيئي بضوئهم. (وَادْخُلِي جَنَّتِي) أَي: مع عبادي، ويراد بهم الخواص كما قال تعالى: "وأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (¬1) وكان الأَمر بالدخول في جملة عباد الله الصالحين إِشارة إِلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح. والأَمر بدخول الجنة إِشارة إِلى السعادة الجسمانية. ¬

_ (¬1) سورة النمل، من الآية: 19.

ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت الآيات، فروى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أَنها نزلت في عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أَهل مكة، وجعلوا وجهه إِلى المدينة فقال: اللهم إِن كان لي عندك خير، فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها. فلم يستطيع أَحد أَن يحوله بعدُ، وقيل: هي عامة في المؤمنين؛ إِذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والله أَعلم.

سورة البلد

سورة البلد هذه السورة مكية، وآياتها عشرون صلتها بما قبلها: لَمَّا ذم الله سبحانه وتعالى في السورة التي قبلها - وهي (سورة الفجر) - ونعى على من أَحب المال حبا جما وأَكل التراث أَكلًا لَمًّا جمع فيه بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد، ولم يخص ويحث على إِطعام المسكين، ذكر هنا - جل شأْنه - الخصال التي تطلب من صاحب المال لينجومن العذاب الأَليم ويقي نفسه من غضب ربه، وهذه الخصال هي تخليص العبيد من الرقّ، وإِطعام ذوي الفاقة والحاجة. وكذا لَمَّا ذكر هنا النفس المطمئنة ذكر هنا بعض ما يحصل به اطمئنان نفس الرسول والمؤمنين، حيث وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدخول مكة وفتحها. بعض مقاصد السورة: 1 - بدأَت السورة الكريمة بالقَسَم بمكة لحرمتها وشرفها؛ لأَن فيها أَول بيت وضعه الله لعبادته - تعالى - ولأَنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وموطن آبائه من لدن إِسماعيل - عيله السلام - إِيماءً إِلى شرف رسوله، وتعظيمًا لمنزلته ومكانته عند ربه. 2 - أَبانت السورة أَن الإِنسان قد جعله الله في مكابدة ومشقة من يوم ولادته إِلى يوم القيامة، إشارة إِلى أَن العاقل ينبغي أَن يؤمن ويعمل صالحًا كي يدخل الجنة فيحسن ماله وينعم في أُخراه؛ فيستريح من معاناة الشدائد، ولا تسلمه أَعماله القبيحة إِلى النار وبئس المصير (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ). 3 - جاءَت السورة بنعم جليلة امتن الله بها على عباده؛ حثًّا لهم على أَن يؤدوا شكرها ويقوموا بحقها ويجاهدوا في تحقيقها؛ حتى يجتازوا العقبة الكثود التي تعترض طريقهم إِلى الجنة، وذلك بإِنفاق المال في فك إِسار الأَرقاءِ من قيد العبودية، وفي إِطعام الفقراءِ واليتامى والمساكين، وذلك بعد أَن يكون الإِيمان قد تمكن من قلوبهم: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ... ) إِلى قوله تعالى -: (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أَن الناس يوم القيامة صنفان: أَهل اليمين والبركة أَوأَصحاب الجنة: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) وصنف الشؤْم والبوار، أَو أَهل النار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ). (بسم الله الرحمن الرحيم) (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)) المفردات: (حِلٌّ): حلال، أَي: يحل لك أَن تقاتل فيها، وقيل غير ذلك وسيأْتي. (فِي كَبَدٍ): في مشقة وشدة، وأَصله: من كبد الشخص كبدًا: إِذا وجعه كبده، ثم استعمل في كل تعب ومشقة. التفسير 1 - (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ): المراد بالبلد هنا: مكة المكرامة - زادها الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا - وفضلها معروف ومعلوم؛ حيث جعلها الله - تعالى - حرمًا آمنًا، وجعل مسجدها قبلة لأَهل الأَرض جميعًا "وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" (¬1)، وجعل من دخله كان آمنًا، وشرف مقام إِبراهيم فقال -سبحانه-: "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" (¬2) وأَمر الناس بحج هذا البيت ¬

_ (¬1) سورة البقرة: من الآية 144. (¬2) سورة البقرة: من الآية 125.

"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" (¬1) كما قال في حقه -تعظيمًا له-: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأَمْنًا" (¬2) وقد حرام -سبحانه- صيد هذا المكان المبارك، وقطع شجرة، وجعله بإِزاءِ البيت المعمور في السماءِ، إِلى غير ذلك من الفضائل والمزايا التي لا تتأَتى لغيره من الأَمكنة في الأَرض سوي البقعة الطيبة المباركة التي دفن فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أَفضل مكان في الأَرض وفي السماءِ؛ لأَنها تضم جسده الشريف. هذا، وفي رحاب مكة المكرمة يكون التلاقي حيث البيت العتيق في ابتداءِ الأَمر أَول بيت وضع للناس، ثم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تأْتى في النهاية خاتمة للرسالات، فيجمع الله لتلك البقعة المباركة بين عظيم البدءِ وكريم النهاية. ولَمَّا اجتمعت هذه الفضائل لمكة أَقسم الله بها، وله -سبحانه- أَن يقسم بما شاءَ على ما شاء، قال تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أَي: أُقسم بهذا البلد لشرف مكانته وسموّ منزلته وحرف (لا) هنا لتأْكيد القسم وتقويته، وهذا كثير ومأْلوف في اللغة العربية. 2 - (وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ): هذا وعد من الله لرسوله بأَنه سينزله ويمكنه من البلد الحرام (مكة) ويحلها له فيفتحها ويقاتل بها ويقتل من شاءَ ويترك من شاءَ، وقد جعل الله له ذلك يوم الفتح، فقد أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة يوم الفتح، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله - تعالى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، لَم تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْليِ، وَلَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُخْتَلى خَلاهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ" (¬3)، فقال العباس: إِلاَّ الإِذخِر (¬4)؛ فإِنها لقيوننا (¬5) وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِلاَّ الْإِذْخِر". ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: من الآية 97. (¬2) سورة البقرة، من الآية: 125. (¬3) (يعضد): يقطع: (لا يختلى خلالها) الخلا: الحشيش الرطب، ولا يختلى: ولا يقطع. (اللقطة): هي الشيء الذي تجده ملقى في الطريق فتأخذه (المنشد): هو الذي يُعَرِّفَ اللقطة بأوصافها. (¬4) (الإِذخر): نبت. (¬5) القيون: جمع قين، وهو الحداد.

وقيل في قوله تعالى: (وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ): إِنَّ الكفار كانوا يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه الحرمات، ولكنهم كانوا يستحلون إِيذاءَك، ولو تمكنوا منك لقتلوك، فأَنت حل في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك مع إِكرام الله - تعالى - إِياك بالنبوة، فعن شرحبيل: يحرمون أَن يقتلوا بها صيدًا أَو بعضدوا بها شجرة ويستحلون إِخراجك وقتلك، وعلى هذا فيكون المقام تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث له على احتمال ما كان يكابد ويعاني في أَهل مكة، المقام تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث له على احتمال ما كان يكابد ويعاني من أَهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوتهم له. وقيل المعنى: وأَنت مقيم وحالٌ بها، فكأَنه - تعالى - عظَّم مكة من جهة أَنه صلى الله عليه وسلم مقيم بها، إِلى غير ذلك من الأَقوال، والآية الكريمة تتسع لكل هذه المعاني. 3 - (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ): هذا عطف على قوله - تعالى -: (بِهَذَا الْبَلَدِ) وداخل في المقسم به، أَي: وأُقسم بوالد وبما ولد، والمراد بالوالد هو آدم - عليه السلام - وبما ولد: هم جميع ذريته، أَقسم بهم -سبحانه- إِذْ إِنهم أَعجب ما خلق الله على وجه الأَرض لما منحهم -جل شأْنه- من البيان والنطق والتدبير، واستخراج المعلوم، واستعمار الأَرض، وفيهم الأَنبياء، والدعاة إِلى الله، والأَنصار لدينه، بل إِن كل ما في الأَرض مخلوق لهم، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا" (¬1). وأَمر الملائكة بالسجود لآدم، وعلَّمه الأَسماءَ كلها، قال -سبحانه-: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (¬2)، وقيل: أَقسم -جل شأْنه- بآدم والصالحين من ذريته بناءً على أَن الصالحين والمفسدين كأَنهم ليسوا من أَولاده، أَو أَراد بالوالد إِبراهيم وإِسماعيل - عليهما السلام - وما ولد: محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأَن إِبراهيم وإِسماعيل قد أقاما البيت في مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون سكانها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: من الآية 29. (¬2) سورة الإِسراء: من الآية 70.

ويحتمل أَن الوالد: النبيّ صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بقوله تعالى: "وَأَنتَ حِلٌّ) وما ولد: أُمته؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّما أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدهِ" (¬1) فأَقسم به وبأُمته بعد أَن أَقسم ببلده مبالغة في تشريفه - عليه الصلاة والسلام. 4 - (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ): هذا جوب القسم، أَي: أَقسم بالبلد الحرام ووالد وما ولد لقد أَوجدنا الإِنسان محاطًا بتعب ومشقة وعناءٍ، فإِنه لا يزال يقاسي ضروب الشدائد وفنون المتاعب من وقت نفخ الروح فيه إِلى حين نزعها منه وما وراء ذلك؛ فقد خلقه الله أَطوارًا كلها شدة ومشقة، تارة في بطن أُمه، ثم زمان الإِرضاع، ثم إِذا بلغ يكون الكد والتعب في تحصيل المعاش، ويكابد كذلك في أَمر دينه وذلك بالشكر على السَّرَّاءِ والصبر على الضَّرَّاءِ، ويعاني ويُكابد المشاق في أداءِ العبادات، ثم الموت ومساءَلة الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على الله إِلى أَن يستقر به القرار إِماَّ في الجنة وإِمَّا في الجنة وإِمَّا في النار. (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) المفردات: (لُبَدًا): جمَّا كثيرًا. (النَّجْدَيْنِ): طريقي الخير والشر، أَو الثديين. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان.

التفسير 5 - (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ): أَي: أَيظن هذا الشقي الذي يؤدى ويناوئ الرسول ويصد عن سبيل الله ويستذل المؤمنين ويستضعفهم، أَيظن أَلاَّ يقدر أَحد على أَن ينال منه أَو يصيبه بالأَذى والضرر، ويخال ويظن أَنه يقونه وجبروته وماله وسلطانه لا يقدر أَحد على الانتقام منه ومكافأَته على سوءِ صنيعه؟ إِن الله خلقه في المشاق والشدائد والمكابدة التي لا يستطيع منها فكاكًا ولا تحولًا إِنه - سبحانه- قادر عليه لا يفلت من قبضته ولا يهرب من سلطانه، فهو وغيره من المخلوفات كلها تحت قهر عظمته ورهن قدرته ووفق مشيئته وإِرادته، ولو كان الأَمر للإِنسان لما اختار هذه الشدائد. والاستفهام هنا جاءَ إِنكارًا وتهديدًا لكل إِنسان بدر منه ذلك، وإِن قيل: إِن الآية نزلت في أَشخاص بأَعيانهم كأَبي الأَشد أُسيد بن كلدة الجمحي، أَو الوليد بن المغيرة، أَو أَبي جهل عمرو بن هشام، أَو الحارث بن عامر. 6 - (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا): أَي: يقول هذا الصِّنف من الناس -افتخارًا واعتزازًا بما لديه من طريف المال وتليده- يقول: أَهلكت وأَنفقت مالًا كثيرًا في المفاجر والعظائم والمعالي والمكارم، فمن الذي يحاسبني عليه، وفي الحق أَن الأَمر ليس كما يزعم هذا السفيه، بل إِن الأَموال التي أَهلكها كانت معول هدم وأَداة تخريب وتسلُّط. وانتهاكًا للحرمات، وترويعًا للآمنين، وتعبيدًا للأَحرار وهتكًا للأَعراض، وسفكًا للدماءٍ، وتضييعًا للعقول، وكانت عاقبة أَمرها سوءًا وذلك باستعمالها للصدّ عن سبيل الله وإِيذاءِ رسوله صلى الله عليه وسلم والتنكيل بمن آمن به وصدق، وهذا السفيه وأَمثاله مع ذلك يحسبون أَنهم يحسنون صنعًا، وأَنهم إِذا رجعوا إِلى ربهم يوم القيامة ستكون لهم العاقبة الحسنى، وقد حكى الله عنهم ذلك بقوله: "وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى" (¬1) وكَذَبُوا؛ فقد خيَّب الله ظنهم ورد عليهم بقوله: "فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ¬

_ (¬1) سورة فصلت: من الآية 50.

بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ" (¬1)، ويقول: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" (¬2). هذا وإِن الله سيحاسبهم على أَموالهم من أَين اكتسبوها وقيم أَنفقوها، ولا تزول أَقدامهم يوم القيامة حتى يسأَلوا عن ذلك. هذا وقد عبر عن الإِنفاق في هذه الوجوه السيئة بالإِهلاك إِظهارًا لعدم المبالاة، وأَنه لم يفعل ذلك رجاءَ نفع، أَو أَنه إِشارة إِلى أَنه مال ضائع لا خير فيه، أَو يقول ذلك إِعلانًا عن شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 7 - (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ): أَي: أَيظن ذلك المغرور الأَحمق أَن أَحداً لم يره حين أَنفق وأَهلك هذا المال في تلك الموبقات والمهالك والسفاهات، أَيظن أَن ذلك يخفى على الله الرقيب العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء؟! إِنه -سبحانه - مطلع عليه، وسيحاسبه يوم القيامة ويجازيه على ما قدم. 8 - 10 - (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ): جاءَت هذه الآيات البينات تذكيرًا لذلك المشرك بنعم الله عليه ليتغظ ويعتبر ويرجع إِلى ربه، أَي: أَلم نجعل ونخلق له عينين يبصر بهما، وينظر ويتصرف على ما ينفعه وما يضره، ويتفكر بعد النظر في ملكوت السموات والأَرض، ويرى من بديع صنع الله وكمال إبداعه ما يدلَّه على ربه، وأَلم نجعل له لسانًا لافِظاً ينطق به ويكون ترجمانًا عماً يختلج به فؤاده، وما يتردد في صدره، ويكون لسانه أَداة للتآلف والتعارف بينه وبين بني البشر جميعًا؛ اقتدار لهم على إِعمار الأَرض واستقرار الحياة فيها، وأَلم نجعل له شفتين يطبقهما على فمه منعا من تناثر الطعام، وتمكينًا له من نطق سديد لتقيم التفاهم بين الناس، كما وأَن الشفتين للإِنسان مظهر من مظاهر تناسق خلقته وكمالها، فهما آية وعلامة على تكريم ¬

_ (¬1) سورة فصلت، من الآية: 50. (¬2) سورة الفرقان، الآية 23.

الله له وكمال عنايته به، روى الحافظ ابن عساكر عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الله تعالى: يَابْنَ آدَمَ: قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعمًا لا تُحْصِي عَدَدَهَا، وَلا تُطِيقُ شُكْرَهَا وَإِنَّ مِمَّا أَنعَمْتَ بهِ عَليْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْن تَنْظُرُ بِهمَا، وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً فَانْظُرْ بعَيْنَيْكَ إِلى مَا أَحْلَلْتُ لَك، وإِنْ رأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا، وَجَعَلُتْ لَكَ لِسَانًا، وَجَعَلْتُ لَكَ غِلاقًا فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ وأَحْلَلْتُ لَك، وَإِنْ عُرضَ عَليْكَ مَا حَرَّمتُ عَليْكَ فأَغْلِقْ عَليْكَ لِسَانَكَ، وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا، وَجَعَلْت لَهُ سِتْرًا، فأَصِبْ بفَرْجكَ مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، فَإِنْ عُرضَ عَلَيْكَ مَا حَرَّمْتُ عَليْكَ فأَرْخ عَلَيْكَ سِتْرَك، ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ لا تَحْمِلُ سُخْطِي وَلا تُطِيق انْتِقَامِي". (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ): أَي: وأَرشدناه إِلى طريق الخير ليسلكه فينجو ويفلح، وبينا له طريق الشر لينأَى عنه ويتجنبه كيلا يهلك، وذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة. روي عن قتادة قال: ذُكر لنا أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا هُمَا النَّجْدانِ: نَجْدُ الْخَيْرِ، ونَجْدُ الشَّرِّ، فَلِمَ تَجْعَلُ نَجْدَ الشَّرِّ أَحبَّ إِليْكَ مِنْ نَجِدِ الْخَيْرِ؟ ". وروى عن عكرمة قال: النجدان: الثديان، وهو مروي عن ابن عباس وعلى رضي الله عنهما لأَنَّهُما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، أَي: إِن الله يهدي ويرشد الرضيع إِليهما دون إِرشاد أَو دلالة من أَحد. (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16))

المفردات: (اقْتَحَمَ): الاقتحام؛ الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير روية. (الْعَقَبَةُ): الطريق الوعر في الجبل، والمراد بها هنا: الأَعمال الصالحة لما في القيام بها من المعاناة والمشقة ومجاهدة النفس. (فَكُّ رَقَبَةٍ): الفك: تخليص شيءٍ من شيءٍ، والمراد تخليص رقبة العبد بالإِعتاق. (مَسْغَبَةٍ): مجاعة، قال الراغب: الجوع من التعب. (مَقْرَبَةٍ): قرابة. (مَتْرَبَةٍ): افتقار، يقال: ترب: إِذا افتقر، فكأَنه قد لصق بالتراب من الفقر. التفسير 11 - (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ): أَي: فهلا أَنفق ماله الذي يزعم أَنه أَهلكه في المكام والمفاخرة، أَو في عداوة النبي صلي الله عيله وسلم هلاَّ أَنفقه في شكر الله على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة؟: لم يفعل ذلك، بل قصر فجحد النعمة وكفر بالنعم، واتبع هوى نفسه، وكان الأُولى به أَن يكون عارفًا الفضل ربه، متعرفًا عليه في الرخاءٍ ليعرفه في الشدة، حاملا نفسه على اقتحام الشدائد والدخول في الصالحات بمسارعة ومسابقة، والقيام بمشاق الأَعمال وأَكثرها تعبًا وعناءً ومجاهدة لنفسه حتى يجتاز العقبة الكئود والحاجز الصعب الذي يحول بين المرءِ ورحمة ربه ورضوانه في الجنة، ولا يجتازه إِلا بقهر النفس ورياضتها على المكاره، وحملها على أَن تكون تابعة لما جاءَ به الله، الجنة قد حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وقيل: هذا دعاءٌ على هذا الكافر أَلاَّ يرزقه الله الخير أَي: فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في فك الرقاب وإِطعام الجياع.

12 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ): أَي: وما أَعلمك وأَخبرك ما اقتحام العقبة ومجاوزتها وتخطيها؛ وهذا ينبئُ عن عظيم شأْنها وكبير خطرها، وقد أَبانها الله لرسوله بقوله بعد: (فَكُّ رَقَبَةٍ) إِلخ. قال سفيان بن عيينة: كل شيءٍ قال فيه: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإِنه أَخبر به، وكل شيءٍ قال فيه: (وَمَا يُدْرِيكَ) فإِنه لم يخبر به. 13 - (فَكُّ رَقَبَةٍ): أَي: الإِسهام والمساعدة في تحرير الرقيق من إِسار الرق، وتخليصه من ربقة العبودية بأَن يعطيه بعض ماله ليكون ذلك عونًا له على فكاك نفسه من ذل الرق، لينعم بالحرية، ولله -سبحانه - قد خفف على هؤُلاءِ المترفين ذوي النعم الكثيرة فلم يأْمرهم بعتق الرقبة كلها حتى لا يشق عليهم ذلك، وإِنما حثهم على إِعطاءِ الرقيق المكاتب ما يساعده على تحرير رقبته وتخليصها من الرق، فقد ورد أَن أَعرابيًّا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال: "عِتْقُ النَّسمَةِ، وفَكُّ الرَقَبَةِ" قال: أَو ليستا بواحدة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إِنَّ عِتق النَّسمَةِ أَنْ تَنَفَردَ بعِتْقِهَا، وفَكُّ الرَقَبَةِ أَن تُعِين فِي عِتْقِهَا". هذا، وإِن عتق الرقبة كلها فضلا كبيرًا وثوابًا عظيمًا بيّنه صلى الله عليه وسلم بقوله: "أَيُّمَا امرئٍ مُسْلمٍ أَعتقَ امرأً مسلمًا كانَ فِكَاكَهُ مِنَ النارِ يجزي كلُّ عضوٍ منهُ عضوًا منه، وأَيما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً كانت فِكاكَهَا مِنَ النارِ يجْزي كلُّ عضوٍ منهَا عضوًا مِنهَا" (¬1). 14 - (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ): إِطعام الطعام فضيلة، رغب فيه الإِسلام ودعا إليه الرسول الكريم وحث عليه، غير أَنه مع السغب وفي يوم المجاعة والجوع العام يكون أَفضل وأزكى وأنمى في أَعمال البر، روي عنه صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "مِنْ مُوجباتِ الرَّحمةِ إِطعامُ المُسلمِ السَّغْبَانِ" (¬2). أَي: إِنه قام بالإِطعام ¬

_ (¬1) الترمذي عن أَبي أمامة. (¬2) رواه الحاكم وصححه، والبيهقي متصلا، ومرسلا.

في وقت اشتدت بالناس الحاجة، وعمتهم الفاقة، وأَصابهم الجهد، وعز فيه القوت وقل الطعام، وقال الراغب في المسغبة: الجوع مع التعب. 15 - (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ): أَي: قات وأَطعم هذا الغنى صغيرًا ضعيفًا فُقد أَبوه ومات عائله، وهو لا يملك مالا ولا يجد قوتًا ولا يقدر على كسب، فضلا على أَن هذا اليتيم له بذلك الغنيّ قرابة وصلة، وفي إِطعامه يكون قد جمع بيْن الصدقة وصلة الرحم، وفيهما من الثواب ما فيهما. وقيل لا يخص القريب نسبًا بل يشمل من له قرب بالجوار. 16 - (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ): أَي: أَو أَطعم من أَسكنته الحاجة، وقعد به الفقر، وهدّه العوز؛ فلم يملك ما يسد به خَلَّته، أَو يقضي به حاجته، بل صار في حالة لا يقيه من التراب شيءٌ فهو كما يقولون يفترش الغبراءَ، ويلتحف بالسماءِ. وقيل: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له. هذا، وإِن ذلك الغني الفاجر الذي عناه القرآن سواءً أَكان شخصًا بعينه أَم هو كل من كان على هذا النحو من الغلظة والشدة والقسوة، إِن هذا الفاجر الذي تكبر بماله وتجبر بسلطانه قد ترك ما هو أَحق بالإِنفاق وأَولى بالبذل والإِعطاءِ: من رفيق ذليل، إِلى يتيم قريب فقير إِلى مسكين معدم مجهود، ترك ذلك وتجاوزه إِلى السفه وإِهلاك المال في غير ما نفع أَو خير بل أَهلكه فيما يرديه ولا ينجيه من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله. (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20))

المفردات: (تَوَاصَوْا): أَوصى بعضهم بعضًا. (أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ): أَهل اليمين، وهي الجهة التي فيها السعداء، أَو أَصحاب الْيُمْنِ؛ لأَنهم ميامين ومباركون على أَنفسهم وعلى غيرهم. (أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ): هم أَهل جهة الشمال التي فيها الأَشقياءُ، أَو أَصحاب الشؤم الشر على أنفسهم وعلى غيرهم. (مُؤْصَدَةٌ) مغلقة ومطبقة. التفسير 17 - (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ): كلمة (ثُمَّ) هنا تفيد التراخي والتباعد في الرتبة والفضيلة، أَي: إِن مرتبة الإِيمان ومنزلته فوق جميع ما سبقه من فك الرقبة وما عطف عليه؛ لأَن الإِيمان وحده يكون سببًا للنجاة بدون أَعمال، وذلك فيمن آمن إِيمانًا كاملا تامًّا ومات في يومه قبل أَن يتمكن من عمل شيءٍ من التكاليفَ؛ فإِن ذلك ينفعه ويخلصه من النار، بخلاف الأَعمال فإِنه لا يتعد بها بدون الإِيمان. والمعنى: ثم لا يكون مقتحَمًا للعقبة إلا إِذا كان من الذين اتصفوا بالإِيمان وتحلوا به وماتوا على ذلك؛ إِذ كل عمل لا يكون معه إِيمان بالله لا يعتد به ولا ينظر إِليه، قال تعالى في حق غير المؤْمنين: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءًا مَنْثُورًا" (¬1) وقال: "وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ" (¬2) وقيل: إِذا فعل الطاعات لوجه الله وهو غير مؤمن ثم آمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومات على الإِيمان فإِنها تنفعه، فقد ورد أَن حكيم بن حزام قال -بعد ما أَسلم-: يا رسول الله: إِنَّا كنا نتحنث (ننعبد) بأَعمال في الجاهلية، فهل لنا فيها من شيءٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنَ الْخَيْرِ". ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬2) سورة التوبة، من الآية: 54.

(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): أَي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر وحبس النفس ورياضتها على تحمل تبعات الطاعات ومشاقها، ومغالبة شهوات المعاصي وسورتها وغلوائها، والبعد عن بطر النعمة والفتنة بها وأَشرها، والتَّجَافِي من الجزع في المصائب والنوازل وأَهوالها. (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ): أَي: يحث بعضهم بعضًا على الأَخذ بأَسباب الرحمة، وذلك بأَن يرحم المظلوم فيعينه على أَخذ حقه، ويشفق على الفقير فيعطيه مما أَفاءَ الله عليه، ويمنع المقدم على المنكر من مقارفته، وأَن يدل غيره على طريق الخير والحق، ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما وسعه ذلك، وفي الجملة يكونون محل رحمة ومكان شفقة: يعاونون غيرهم من أَرباب الحاجات وأَصحاب الكربات حتى يكون الله في عونهم ويعمهم برحمته. وفي قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) إِشارة إِلى تعظيم أَمر الله بالصبر على شدائد التكاليف الشرعية، وبذل الجهد والوسع فيها، وفي قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) إِشارة إِلى الشفقة على خلق الله، هذا وإِن الطاعات لا تقوم إِلاَّ على هذين الأَصلين صدق مع الحق سبحانه، وخُلق مع الخلق وشفقة بهم. 18 - (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ): أَي: أَولئك الذين علت منزلتهم وارتفعت مكانتهم باتصافهم بالصفات الجليلة والنعوت العظيمة أَصحاب اليمين والبركة، فهم مباركون وميادمين على أَنفسهم وعلى غيرهم ممن يعاشرونهم ويخالطونهم، أَو هم أَهل الجنة السعداءُ. 19، 20 - (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ): أَي: والذي كذبوا بآياتنا وأَنكروها ولم يؤمنوا بها مع كمال ظهورها ووضوح حجتها هم -دون غيرهم- أَرباب الشؤْم والشر، وأَهل الشقاءِ والبؤس، تتسلط عليهم نار شديدة الإِحراق، مطبقة ومغلقة عليهم لا يفتح لهم منها باب، ولا يخرجون منها من غم أُصيبوا به، ولا يخفف عنهم من عذابها، فهم فيها أَبد الآباد، لا تنفك عنهم، وما هم منها بمخرجين.

سورة الشمس

سورة الشمس هذه السورة الكريمة نزلت بمكة المكرمة وآياتها خمس عشرة آية صلتها بما قبلها: أَنه لما ختم -سبحانه- السورة التي قبلها (البلد) بذكر أَصحاب الميمنة وأَصحاب الشأَمة أَعاد ذكرهما هنا ولكن بصورة أُخرى وأُسلوب آخر فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، ثم كان قوله تعالى في السورة: (فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) كالبيان والتوضيح لقوله تعالى في سورة البلد: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) على أَنهما طريقًا الخير والشر. بعض مقاصد هذه السورة: 1 - أن الله -جلت قدرته- ابتدأَ السورة الكريمة بالقسم بأَنواع من خلقه: بالشمس وضحاها، والقمر إِذا تبعها وقد اكتمل نوره، وبالنهار إِذا أَبان وأَظهر الأَشياءَ بضيائه، إِلى قوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) أَقسم -تعالى - بهذه المخلوقات على أَن الإِنسان يفوز ويسعد إِذا تطهر من الذنوب وأَنمى نفسه وأَعلاها بالطاعات، وأَنه يخسر ويهلك إِذا غمس نفسه في المعاصي وتردى في الفجور: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). 2 - أَن السورة جاءَت بقصة (ثمود) قوم سيدنا صالح، وقد كذبوا به وتجاوزوا الحد في الطغيان حتى عقروا الناقة التي كانت آية ومعجزة دالة على وحدانية الله، وعلى صدق رسالة صالح - عليه السلام - ثم ما كان من إِهلاك الله لهم بتدبيرهم واستئصالهم وتسوية الأَرض بهم، وختمت السورة ببيان أَن الله لا يخشى عاقبة إِهلاكهم فإِنه "لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسأَلونَ".

(بسم الله الرحمن الرحيم) (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) المفردات: (ضُحَاهَا): ضوؤُها. (جَلاَّهَا): أَظهر الأَرض وكشفها وأَبان ما عليها. (يَغْشَاهَا): يغطي الدنيا ويسترها بظلامه. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): أَنشأَها وأَبدعها بتعديل أَعضائها وقواها الظاهرة والباطنة. (فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا): عرَّفها وبيَّن لها رشدها من ضلالها. (زَكَّاهَا): طَهَرَهَا من الذنوب، أَو زادها وأَعلاها بعمل الطاعات. (دَسَّاهَا): نقصها وغمسها وأَخفاها بالفجور. التفسير 1 - (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا): أَقسم -سبحانه- بالشمس وهي خلق من خلقه كبير نفعها، عظيم خطرها، فهي -بما أَودعه الله فيها- تمد الكائنات بأَسباب الحياة والصحة والنماءِ وتدفع عنها كثيرًا من

الأَدواءِ والأَمراض. (وَضُحَاهَا) وأَقسم -جلت قدرته- بضحي الشمس -وهو إِشراقها وارتفاعها- لأَن هذا الوقت يكون أَكثر أوقاتها خيرًا، وأَعظمها فائدة ونفعًا، أَو أَنه أَقسم بهذا الوقت -وهو وقت الضحى- لأَنه الوقت الذي يكون فيه الناس في أَمر معاشهم وشواغل دنياهم، أَما عباد الرحمن فهم في هذه الآونة ينقطعون عن هذه الأَعمال ويأخذون أَنفسهم من تلك الشواغل ويخلدون إِلى ربهم يتبتلون له ويعبدونه بما شرعه من صلاة الضحى. 2 - (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا): أَي: أَقسم بالقمر في زمن اكتماله وتمامه وقت أَن يتلو ضوؤُه ضوءَ الشمس ويتبعها فيتلاقى فيه الضوءَان ويتعانق النوران، وذلك في الليالي البيض من كل شهر: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، حيث ينعم الله على عباده بليل مشرق مضيءٍ، وهنا في هذا الوقت الذي يعم فيه الطفل الإِلهي والفيض الرباني يسنُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمته أَن يشكروا ربهم على هذا الخير فيصوموا نهار تلك الليالي النيّرات المشرقات عرفانًا بعظيم فضله عليهم. 3 - (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا): وأَقسم - سبحانه - بالنهار إِذا أَظهر وأبان ما في الأَرض من حيوان وغيره ليكون ذلك عونًا للإِنسان على التعرف على ما فيها من خير ونفع له، ليتوخى ويقصد ما يصلح لأَمر دينه ومعاشه، ويبتعد وينأَى عما يضره ويؤذيه. 4 - (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا): كما أَقسم بالليل الذي يغطي الكائنات ويسترها فيكون ذلك إِيذانًا بالهجوع والسكون فيه قطعًا للكد والتعب، واستجمامًا بعد العناءِ. كما يكون انقطاعًا من بعض عباد الله المخبتين الطائعين إِلى ربهم يحيون هزيعًا من الليل في طاعة مولاهم بعيدًا عن صخب النهار. وضجيج الحياة وإِخلاصًا وإِفرادًا له -سبحانه- بالعبادة دون رياء أَو سمعة أَو نفاق ليكون ذلك أَرجى في قبول الطاعة في وقت يتجلى فيه ربنا على عباده، وبخاصة في الثلث الأَخير من الليل، فعن أَبي هريرة - رضي الله عنه- أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَتَنَزَّلَ رَبُّنَا تَبَارَكَ

وتَعَالى - كُلَّ لَيْلةٍ إِلى سَمَاءِ الدُّنْيَا، حيِنَ يَبْقَى ثُلثُ اللَّيلِ الْأَخير، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فأَغْفِرَ لَهُ؟ " (¬1). 5 - (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا): أَي: أَقسم سبحانه بالسماءِ وعظمتها، وبما اشتملت عليه من أَنواع الخلائق البديعة والأَسرار العظيمة، وما فيها من اللوح والكرسي والعرش، وكونها مقرًّا وسكنًا لأَكثر الملائكة الذين لا يعصون الله ما أَمرهم ويفعلون ما يؤمرون وما ضمت من اللطائف العلوية التي لا يدرك كنهها ولا يقف على حقيقتها كثير من الخلق. (وَمَا بَنَاهَا) أَي: وما خلقها ورفعها، أَقسم بذاته العلية ونسب وأَسند بناءَها إِليه -جلت عظمته- إِشعارًا بعظيم هذه المخلوقات الجليلة. أَو أَن المراد إِبداع صنعها وكمال تركيبها، فقد شد أَجزاءً بعضها إِلى بعض برباط وثيق كما يشد ويربط أَجزاءِ البناءِ الواحد. 6 - (وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا): وأَقسم بالأَرض التي عليها يستقر الإِنسان ويسعى في إِعمارها، وما فيها من بديع صنعه -سبحانه- من ماءٍ وزرع وحيوان وطير، وما في جوفها من معادن ومواد لها نفع كبير للإِنسان، وجميع ما يلج ويدخل فيها، وما يخرج منها. (وَمَا طَحَاهَا) وأَقسم بمن بسطها ومهَّدها وَذلَّلَها وهو الله - جل شأْنه - وذلك لييسر على عباده السير فيها والتقلب في جنباتها والمشي في مناكبها ونواحيها، ابتغاءً للرزق وسعيًا وراءَ الخير والنفع، وقيل: طحوها: وبسطها. 7 - (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): وأَقسم - جل شأْنه - بالنفس، وهي نفس آدم - عليه السلام - أَو كل نفس منفوسة ومخلوقة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات.

(وَمَا سَوَّاهَا): وهو الله، فقد خلقها -سبحانه- فأَحسن خلقها وصورها فأَبدع تصويرها، وذلك على نظام تام عجيب؛ لتؤدي رسالتها في الحياة على أَكمل وجه. وقيل: وتسويتها وخلقها وتركيبها على صورة كريمة مع إِحكام وإِبداع. 8 - (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا): أَي: إِنه -سبحانه- عرف كل نفس وأَرشدها إِلى سبيل الخير والتقوى ودعاها إِليه، كما بين لها طريق الشر والفجور، ونهاها عن السير فيه واتباعه، وكان من دعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أَنت خير من زكَّاها" كما رواه مسلم. وذكر ابن كثير أَن هناك روايات فيها مقال أَنه كان يقول ذلك عندما يقرأُ الآية. 9، 10 - (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا): هذا جواب القسم (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) وما عطف عليه، بمعنى: لقد أَفلح، وحذفت منه اللام لطول الكلام المقتضي للتخفيف، وقيل: الجواب تقديره: لتبعثن، وقال الزمخشري: تقديره: ليُدَمْدِمَنَّ الله عليهم -أَي: على أَهل مكة- لتكذبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأَنَّهم كذبوا صالحًا، وأَما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) فكلام تابع لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) جاءَ على سبيل الاستطراد، أَي: قد فاز ونجا من طهر نفسه من الذنوب بتباعده عنها فلم يقارفها، أَو طهرها ونقَّاها منها بالتوبة النصوح والاستغفار، وذلك بعد الوقوع فيها أَو نَمَّاها وزاد في منزلتها رفعة وسموًّا، فمصطنع المعروف والمبادر إِلى أَعمال البر شهر نفسه ورفعها وأَعلى ذكرها، وقد خسر وهلك من غمس نفسه في الذنوب وأَحاطها بالمعاصي وأَخفاها في الدناءَات والفسوق، فانحطَّ بها إِلى درك الرذيلة ومهاوي الكفر فالفاسق الفاجر دائمًا يكون قليل المروءَة، هابط الهمة، ذليل النفس، ناكسَ الرأْسِ، خاملًا متروكًا منسيًّا، وذلك بفعله السوءَ والفحشاء. وقيل: قد أَفلحت نفس زكَّاها الله، وقد خسرت نفس أَضلها الله، والأَول هو المتبادر، لقوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى" (¬1) ¬

_ (¬1) سورة الأَعلى، الآية: 14.

وفي القسم بهذه الكائنات بعث للإِنسان على التفكر في بديع صنع الله والتدبر في آياته. (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)) المفردات: (بِطَغْوَاهَا): بطغيانها ومجاوزتها الحد في العصيان، أَو العذاب الذي أُنذروا به لأَنه كان صيحة مجاوزة للحد. (انْبَعَثَ): انطلق بسرعة بعد أَن بعثه قومه وحرضوه. (سُقْيَاهَا): شربها ونصيبها من الماءِ الذي اختصها الله به في يومها. (فَعَقَرُوهَا): فقتلوها. (فَدَمْدَمَ): فأَطبق الله عليهم العذاب، أَو أَهلكهم جميعًا. (فَسَوَّاهَا): سَّوي بلادهم بالأَرض، أَو جعلهم سواءً في نزول العذاب بهم. (عُقْبَاهَا): عاقبة إِهلاكهم وتَبِعَته. التفسير: 11 - (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا): أَي: إِن ثمود قوم نبي الله صالح - عليه السلام - قد كذبت نبيها بسبب أَنهم قد تجاوزوا الحد في العصيان والكفر؛ فطغيانهم حملهم على التكذيب، أَو أَنهم كذبوا بالعذاب الذي توعدهم وأنذرهم به؛ لأَنه كان صيحة زائدة عن القدر المعتاد، قال تعالى: "فأَمَّا ثَمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الحاقة، الآية رقم: 5.

12 - (إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا): أَي: كذبت ثمود حين قام شقيها قُدار بن سالف بعد أَن بعثه قومه وحرضوه على عقر النافة، قال تعالى: "فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ" (¬1). 13 - (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا): أَي: إِن ثمود لَمَّا اقترحوا آية من رسول الله صالح تدل على نبوته أَخرج لهم بإِذن الله ناقة من الصَخرة. وقال لهم: هذه ناقة الله وآيته الدالة على توحيده وقدرته، وعلى نبوتي ولها شرب يوم من ذلك البئر ولكم كذلك شرب يوم من البئر نفسه، فلكلٍّ نصيبه، ونهاهم وحذرهم من أَن يمسُّوها بسوءٍ، أَو أَن يمنعوها من سقياها وشربها في نوبتها، ولا يستأثروا به عليها، فشق ذلك عليهم. 14 - (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا): أَي: فكذبوا نبيَّهم صالحًا - عليه السلام - فيما أَوعدهم وأَنذرهم به من العذاب، وفعلوا ما حذرهم منه، فقتلوا الناقة، وأُسند العَقْرُ والقتلُ إِليهم لأَنهم قد رضوا وتواطأُوا على ذلك: بل إِنهم قد حرضوا وحضُّوا أَشقاهم على اقتراف هذه الفعلة الشنعاء، قال قتادة: بلغنا أَنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذَكَرُهُمْ وأُنثاهم. (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) أَي: أَطبق الله عليهم العذاب واستأْصلهم به فسَّوى الدمامة والإِهلاك عليهم؛ لأَن الصيحة أَهلكتهم جميعًا فأَنت على صغيرهم وكبيرهم، وذلك بسبب ذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب وعقر الناقة، أَو أَهلكهم فجعلهم تحت التراب وسوَّى عليهم الأَرض. ¬

_ (¬1) سورة القمر، الآية رقم: 29.

15 - (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا): أَي: فعل الله ذلك بهم غير خائف أَن تلحقه تبعة إِهلاكهم من أَحد؛ إِذا لا يُسأَل -سبحانه- عمَّا يفعل، ولا معقب لحكمه، أَو يخاف رسول الله صالح عاقبة إِهلاك قومه، ولا يخشى ضررًا يعود عليه من عذابهم؛ لأَنه بصَّرهم فأَنذرهم وحذرهم، ونجَّاه الله حين أَهلكهم، وقيل: ولا يخاف ذلك الكافر الذي قام يعقر الناقة (قدار بن سالف) عاقبة ما صنع، فقد أَقدم على فعلته وهو كالآمن مِن نزول الهلاك به وبقومه، وذلك كناية عن إيغاله في الكفر، وتماديه في التكذيب، وإِفراطه في الجهل، والقول الأَول أَولى لدلالة السياق عليه. والله أَعلم.

سورة الليل

سورة الليل هذه السورة الكريمة مكية، وآياتها إِحدى وعشرون آية صلتها لما قبلها: لَمَّا ذكر -سبحانه- فيما قبلها (سورة الشمس) "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" ذكر جل شأْنه في هذه السورة من الأَوصاف والنعوت ما يحصل به الفوز والفلاح، وما تحصل به الخيبة والخسران: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) إِلى قوله تعالى -: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) ففي هذه السورة نوع تفضيل لذلك، وبخاصة أَنه - جل وعلا - عقب بشيءٍ من أَنواع الفلاح وأَنواع الخيبة، وذلك من قوله: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ... ) إِلى آخر السورة. بعض مقاصد السورة: 1 - أَقسم الله -جلت قدرته- بنوع من مخلوقاته العظيمة التي يتجلَّى نفعها وتظهر فائدتها ويتضح جلالها لكل ذي عينين: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى). أَقسم سبحانه بذلك على أَن أَعمال الناس مختلفة في حياتهم، وأَن منها الخير والبر، ومنها الشر والفجور، وأنهم متفاوتون في درجات الخير، كما أَنهم متباينون في دركات الشر، وأَنهم مختلفون في الجزاءِ: ففريق في الجنة، وفريق في السعير (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). 2 - بينت السورة طريق الخير بقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) إِلخ، وأَوضحت سبيل الشر بقوله: (وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ... ) الآية، وحذرت من افتتان بعض الناس بما أَعطاه الله من المال، وأَبانت أَن ذلك لا ينفعه ولا ينجيه (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى). 3 - جاءَت السورة في نهايتها بنموذج للطالح الشقي: (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وبنموذج آخر للصالح التَّقي: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) وذلك إِرشاد للناس ليبتعدوا ويميلوا عن

سبب النزول

طريق الشر، ويعلموا ويقصدوا طريق الخير ليقيهم الله لظى النار وسعيرها (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى). سبب النزول: الجمهور على أَن هذه السورة نزلت في الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - روى ذلك بأَسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، وعن عبد الله بن الزبير قال: كان أَبو بكر - رضي الله عنه - يعتق على الإِسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إِذا أَسلمن، فقال له أَبوه: أَي: بُنيّ أَراك تعتق أُناسًا ضعفاءً، فلو أَنك تعتق رجالًا جلداءَ يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ فقال: أَبَتِ إِنما أُريد -أَظنه قال- ما عند الله. وقال السدّي: إِنها نزلت في أَبي الدحداح الأَنصاري، وذلك أَنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض البلح فيأْخذه منهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: "دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة" فأَبى، فاشتراها أَبو الداحاح بحائطها فقال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: أَهَبُهَا لهم بالنخلة التي في الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "افعل" فوهبها، فنزلت، والأَول هو الصحيح. ولفظ الآية الكريمة وإِن كان عامَّا وهو قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) إِلخ فالصديق - رضي الله عنه - داخل فيها وأَولى الأُمة بعمومها، فهو مقدم الأُمة وسابقهم في جميع هذه الأَوصاف وسائر الصفات الحميدة؛ فإِنه كان صديِقًا تقيًّا كريمًا جوادًا بذَّالًا لأَمواله في طاعة الله، ونصرة رسوله، ولم يكن لأَحد عنده منَّة ولا نعمة يحتاج إِلى أَن يكافئه بها، ولكن كان فضله على السادات والرؤساء من سائر القبائل؛ ولهذا قال عروة بن مسعود -وهو سيد ثقيف- يوم صلح الحديبية: أَما والله لولا يَدٌ لك عندي لم أَجزك بها لأَجبتك، وكان الصديق -رضي الله عنه - قد أَغلظ له في المقال، فإِذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساءِ القبائل فكيف بمن عداهم؟

(بسم الله الرحمن الرحيم) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)) المفردات: (يَغْشَى): يغطى بظلمته. (تَجَلَّى): انكشف وظهر. (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى): شتَّى: واحده شتيت، أَي: مختلف، وإِنما قيل للمختلف: شتيت لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أَي: إِن عملكم لمتفرق ومختلف في حقيقته وفي جزائه. التفسير 1، 2 - (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى): أَقسم -سبحانه- بالليل الذي يأَوى فيه كل حيوان إِلى مأْواه، ويسكن الخلق عن الاضطراب والضرب في الأَرض، ويغشاهم النوم الذي جعله الله راحة لأَبدانهم وغذاءً لأَرواحهم ثم أَقسم بالنهار إِذا جاءَ انكشف وظهر بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاءَ الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم وتتحرك الطير من أَوكارها والهوام من مكامنها، فلو كان الدهر كله ليلًا لتعذر على الناس السعي في معاشهم، ولو كان كله نهارًا لمنعوا الراحة ونالهم الكلال، لكن كانت المصلحة في تعاقب الليل والنهار، وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا" (¬1) وقال -سبحانه- (وَسَخَّرَ ¬

_ (¬1) سورة الفرقان من الآية: 62.

لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" (¬1) أَي: أَقسم إِذا غطى النهار أَو يغطي كل شيءٍ بظلمته، أَو يغشي الأَرض ويسترها بظلامه، وأَقسم بالنهار إِذا انكشف وظهر ضوؤه. 3 - (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى): القَسم إِما بالخلق وإِما بالخالق، فأَقسم بخلق الذكر والأُنثى، وما في هذا الخلق من إِبداع واقتدار حيث خلقهما من نفس واحدة، وغاير بينهما في كثير من الغرائز والصفات والطبائع فتركيب كلٍّ مختلف عن تركيب الآخر في كثير من الأَعضاء والغدد وغيرها، والذكر يتباين في بعض المهام عن الأُنثى، ولكلٍّ خصائصه ودوره ورسالته في الحياة، أَو أَقسم بالخالق وهو الله القادر العظيم الذي خلقها على نظام بديع وإِبداع حكيم، وأَنه -جلت قدرته- جعل الحياة لا ينتظم أَمرها ولا يستقيم شأْنها إِلاَّ بهما معًا، هذا ولمراد بالذكر والأُنثى، آدم وحواء، أَو جميع ذوي الأَرواح الذين هم أَشرف المخلوقات. 4 - (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى): هذا جواب القسم، أَي: إِن عملكم لمتباين ومختلف في جزائه، فمنكم الصالح التقي الذي يثاب على عمله بالجزاءِ الحسن، ومنكم الكافر والمذنب الذي يعاقب على ما بدر وصدر منه وفقًا لعدل الله في إِثابة الصالح ومعاقبة العاصي والكافر، كما أَن عملكم لمختلف ومتباين في الدنيا أَيضًا، فبعض الناس يحرث، وآخر يصنع، وذاك يداوي، وسواه يعمل في شئون الحياة المختلقة، لأَنها لا تسير ولا تستقيم إلاَّ بتعاون الناس كلُّ في شأْن من شئونها وعمل من أَعمالها؛ حتى يشعروا جميعًا أَن كلاًّ منهم في حاجة إِلى الآخر؛ ليتم التعاون ويكمل الترابط، ويتخذ بعضهم بعضًا سُخريًّا، فلا يشعر أَحد أَنه في غنى عن الآخر. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: من الآية: 33.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)) المفردات: (بِالْحُسْنَى): بكلمة التوحيد: لا إِله إلا الله. أَو بملة الإِسلام، وقيل غير ذلك. (لِلْيُسْرَى): للخصلة المؤدية والمفضية إِلى اليسر والراحة. (لِلْعُسْرَى): للخصلة والصفة الموصلة إِلى العسر والشدة والعذاب. (اسْتَغْنَى): زهد ورغب عمَّا لدى الله من الثواب، وقيل غير ذلك. (تَرَدَّى): سقط وهلك، تَفَعَّلَ من (الردى) وهو الهلاك. التفسير 5 - (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى): هذا تفصيل وتفريع يوضح تباين الناس واختلافهم في سعيهم وعملهم، أَي: فأَما الذي يعطي ويمنح ممَّا رزقه الله وأَعطاه؛ فيبذل الغني بعض ماله للفقير، ويرشد العالمُ الجاهل، ويهدي الراشد الضال، ويعطي الطبيب من عمله وطبه المريض أَخذًا بأَسباب الشفاءِ، ويمنح صاحب الجاه والسلطان من جاهه وسلطانه مظلومًا يعينه على أَخذ حقه، أَو يدفع عنهُ جيفًا وقع به أَو يرد ويمنع ظالمًا عن ظلمه، فإِن كل ذلك عون على الخير، وبذل من عطاءِ الله، وذلك حملًا للإِعطاء على معناه الواسع الذي يعم بذل المال وغيره، قال تعالى: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة من الآية: 3.

(وَاتَّقَى) أَي: كان في وقاية من غضب الله وعقابه، فلم يفعل ما نهى الله عنه واتقى المحارم، أَو اتقى وبَعُد عن البخل، أَو اتقى الرياءَ وأَخلص لله عمله. 6 - (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى): أَي: وأَيقن بكلمة التوحيد وهي (لا إِله إِلا الله) أَو بملة الإِسلام، أَو مصدقًا بأَن الله -تعالت عظمته- سيعطيه الخلف والعوض الذي وعده الله به في قوله تعالى: "وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ" (¬1) وكلمة (الحسنى) تسع كل خصلة حسنة؛ إِذ كلها ترجع إِلى ثواب الله الذي هو الجنة. 7 - (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى): للعاقبة اليسرى والمآل الحسن، أَي: فسنسهل عليه كل ما كلف به من الطاعات فيفعلها ونيسر له سبيل البعد عن المنهيات فيتركها، أَو نيسر له العود إِلى الطاعة التي فعلها. قالوا: أَمارة قبول الطاعة أَنها تثمر وتفضي إِلى طاعة، وكل هذا له المصير الكريم لدي الله -سبحانه-. 8 - (وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى): أَي: وأَما الذي ضن وشح وبخل بعطاءِ الله له؛ فلم يبذل منه شيئًا لمحتاج إِليه، ولم يفرج كربة مكروب، ولم يغث ملهوفًا، ولم يعن مظلومًا، ومنع الموجود، وأَساءَ الظن بالمعبود. وبالجملة، فإِنه انغلق على نفسه ومنعها الخير، وظن أَن ما عنده إِنما ناله بعلمه وذكائه وفطنته. 9 - (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى): أَي: وكفر فلم يعتقد بكلمة التوحيد، أَو كذب بالجنة، أَو بما وعده الله من الجزاءِ والخلف والعرض، فعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ¬

_ (¬1) سورة سبأ من الآية: 39.

يَومْ يُصْبِحُ الْعبَادُ فِيهِ إِلاَّ وَمَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقَول أَحدهما: اللَّهم أَعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقُولُ الآخَرُ: اللَّهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) كما رواه مسلم. 10 - (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى): أَي: للخصلة المفضية والمؤدية إِلى العسر والشدة: كعذاب القبر، وشدة الحساب، ودخول النار، أَي: سنهيئه لذلك ونعده له؛ إِذ قد علم الله ذلك منه وقدره عليه. وقيل: التيسير في العطاءِ بمعنى اللطف، وفي البخل بمعنى الخذلان، واليسرى والعسرى الطاعة، لكونها أَيسر شيءٍ على المتقي وأَعسره على غيره، والمعنى على هذا: فأَما من أَعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أَيسر الأُمور وأَهوانها، من قوله تعالى: "فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ" (¬1) وأَما من بخل فسنخذله ونمنعه الأَلطاف حتى تكون الطاعة أَعسر شيءٍ عليه وأَشد، وذلك من قوله تعالى: "وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ك أَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ" (¬2). 11 - (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى): أَي: وما ينفعه ماله ولا يدفع عنه العذاب في النار إِذا سقط وهلك فيها. والمعنى: فماذا يغني ويمنع عنه ماله الذي بخل به وتركه لورثته ولم يصحبه منه شيءٌ إِلى آخرته التي هي موضع فقره وحاجته، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ" (¬3)، وقال: "وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا" (¬4) أَي: لا ينجيه هذا المال الذي تركه إِذا هلك وسقط في النار، إِنما الذي ينتفع الإِنسان به هو ما يقدمه لنفسه من أَعمال البر: كإِعطاءِ الأَموال في حقوقها دون المال الذي يخلفه على ورثته. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية: 125. (¬2) سورة الأنعام، من الآية: 125. (¬3) سورة الأنعام من الآية: 94. (¬4) سورة مريم، من الآية: 80.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (13)) المفردات: (لَلْهُدَى): للإِرشاد والتبيين لطريق الخير من طريق الشر. (لَلآخِرَةَ وَالأُولَى): للدنيا والآخرة. التفسير 12 - (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى): أَي: إِن أَمر إِرشاد العباد وتبيين طريق الهدى وما يؤدي إِليه، وتمييزه عن طريق الضلال وما ينتهي إِليه -إِن هذا الأَمر- من شأْننا نحن وليس لأَحد سوانا دَخْلٌ فيه، غير أَن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ليس عليهم إِلاَّ البلاغ فحسب، قال تعالى: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" (¬1). 13 - (وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى): أَي: إِن التصرف الكلي المطلق في الدارين -الدنيا الآخرة- لنا وحدنا نفعل فيهما ما تشاءُ وكيفما نشاءُ، أَو إِن لنا كل ما في الدارين، فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم: "مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا" (¬2). وما دام الأَمر كذلك فإِن على العاقل أَن يعتمد على ربه في طلبهما، ولا يلجأُ أَو يركز إِلى أَحد في ذلك؛ لأَنه يكون قد أَخطأَ الطريق، وجانبه التوفيق. ¬

_ (¬1) سورة القصص من الآية: 56. (¬2) سورة الإِسراء من الآية: 15.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) المفردات: (فَأَنْذَرْتُكُمْ): فحذرتكم وخوفتكم. (تَلَظَّى): أَصله: تتلظى، أَي: تتوقد وتتلهب. (لاَ يَصْلاَهَا): لا يجد صلاها وهو حرها. (وَسَيُجَنَّبُهَا): وسيكون في جانب والنار في جانب آخر، أَي: يكون بعيدًا عنها. (يَتَزَكَّى): يطلب من الله أَن يكون طاهرًا من الذنوب، أَو يكون ناميًا زائدًا في الخير. (نِعْمَةٍ): منة ويد. (تُجْزَى): يكافأُ صاحبها عليها. التفسير 14 - (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى): أَي: فحذرتكم وخوفتكم يا أَهل مكة نارًا تتوهج وتتوقد. 15 - (لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى): أَي: لا يعذب بين طبقاتها إِلاَّ الكافر؛ فإِنه أَشد شقاءً من الفاسق والعاصي، ثم بين -سبحانه- ذلك الأَشقي بقوله:

16 - (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى): أَي: الذي كذب بالحق وكفر بوحدانية الله فاعتقد له الشريك، أَو جحده وأَنكره كما كذب برسله - عليهم الصلاة والسلام - وأَعرض وأَدبر عن طاعة الله وتجنبها. هذا، وقد يبدو أَن غير الأَشقى كالعصاة والفساق لا يعذبون في النار، والأَمر ليس كذلك إِذ الصلى في اللغة: أَن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرًا كثيرًا ثم يعمدوا إِلى شاة فيدسوها وسطه بين أَطباقه، فالمعنى -إِذن-: لا يعذب بين أَطباق النار ولا يقاسي حرها على وجه الأَشدّية إِلاَّ الأَشقى، أَما العاصي والفاسق فلا يعذب بين أَطباقها ولا يقاسي حرها على هذه الصورة، ولا يلزم منه أَنه لا يدخلها ولا يعذب بها أَصلًا، بل يجوز أَن يدخلها ويعذب بها على وجهها في الطبقة الأُولى عذابًا دون ذلك العذاب، حتى إِن بعض العصاة من تبلغ النار إِلى كعبة، وأَشد العصاة من تبلغ وتصل إِلى موضع سجوده فيحسه، ولا يعذب أَحد من المؤمنين بين أَطباقها البتَّة بوعد الله تعالى. 17 - (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى): أَي: وسيكون الأَكثر تقى المبالغ في اتقاءِ الكفر والمعاصي -سيكون- في جانب، وتكون النار في جانب آخر، فلا يحوم حولها بل يمر بها ويطَّلع عليها دون أَن يؤلم بمسها، ويُصَاُر به إِلى الجنة، وإِنما أَطلعه الله عليها إِظهارًا لإِكرامه له بإِنجائه من عذابها وجعله في دار كرامته، قال تعالى: "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" (¬1). 18 - (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى): هذا بيان للصفات التي يتحلى بها الأتقى، والتي اقتضت أَن يجنب النار، أَي: هو الذي يعطي ماله ويصرفه ابتغاءَ تزكية نفسه وتطهيرها من الذنوب أَو هو الذي يرغب ويطلب من ربه أَن يكون زاكيًا ناميًا في الخير، مسارعًا ومسابقًا فيه، لا يزيد بعمله هذا رياءً ولا سمعة، إِنه سيكون بعيدًا عن هذه النار. ¬

_ (¬1) سورة مريم الآيتان: 71، 72.

19 - (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى): هذه الآية جاءَت مقررة ومؤكدة للآية السابقة، أي: إن هذا الأتقى قد قدم ما قدم من المال والخير والعمل الصالح والتزكى والتطهر، وليس لشيءٍ آخر، فليس مكافأَة على يدٍ قدمت له، أو نعمة أُسديت إليه، حتى لا يكون قد قصد بإعطاء ما بذل مجازاة لصاحب النعمة. 20 - (إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى): أي: لكنه فعل ما فعل لخالص وجه الله من غير أن يشوبه طمع في ثواب أو رهبة من عقاب. 21 - (وَلَسَوْفَ يَرْضَى): هذا وعد من الله للأَتقى بأَنه -سبحانه- سينيله وسيعطيه كل ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها. وقيل: ولسوف يرضى الله عنه، لأن رضا الله عن عبده، أكمل للعبد من رضاه عن ربه - عز وجل. وبالجملة فلا بدَّ من حصول الأمرين -رضا العبد ورضا الله- كما قال تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً" (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الفجر الآيتان: 27، 28

سورة الضحى

سورة الضحى هذه السورة الكريمة مكية، وآياتها إحدى عشرة آية صلتها لما قبلها: لَمَّا ذكر -سبحانه- فيما قبلها (سورة الليل) قوله تعالى: "وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى" وكان سيدُ الأَتقياءِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب -سبحانه- ذلك بذكر نعمه -عز وجل- على رسوله -عليه الصلاة والسلام- في تلك السورة من قوله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) إِلى قوله: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) وجاءَ في كتاب روح المعاني للآلوسي: وقال الإِمام: لَمَّا كانت السورة الأولى (سورة الليل) سورة أَبي بكر - رضي الله عنه - وهذه سورة رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب - عز وجل - بها، ولم يجعل بينهما واسطة؛ ليعلم أَن لا واسطة بين رسوله صلى الله عليه وسلم والصديق - رضي الله عنه - وتقديم سورة الصديق على سورته صلى الله عليه وسلم لا يدل على أَفضليته منه صلى الله عليه وسلم أَلا ترى أَنه - تعالى - أَقسم أَولًا بشيءٍ من مخلوقاته -سبحانه- ثم أَقسم بنفسه - عز وجل - في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما عرفت، والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أَمر بتقديمه على فروض العبادة، ولا يضر النَّوْرَ تأَخرُه عن أَغصانه، ولا السِّنَان كونه في أَطراف مُرَّانه (¬1)، ثم ما ذكر زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى. بعض مقاصد السورة: 1 - أَنها أَكدت -بالقسم- أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتركه ربه ولم يبغضه، وإِنما هو عنده في كريم المكانة، وجلال القدر ورفيع المنزلة: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى). 2 - أَنها جاءَت بما يثلج صدر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقر عينه؛ وذلك بأَن بشرته بأَن عطاءَ ربّه له عظيم، فسيعطيه ويمنحه ما يرضيه: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). ¬

_ (¬1) المران: الرماح الصلبة اللدنة، الواحدة: مرانة.

3 - أن الآيات -بعد ذلك- ذَكَّرت الرسول -عليه الصلاة والسلام- بنعم الله عليه ليكمل إيناسه ويزيد اطمئنانه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى). وكانت نهاية السورة وصيته -سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون على تذكُّر دائم لنعم الله السابقة عليه، وذلك بأَن يرعى اليتيم ويؤويه، ويعطف على السائل والمحتاج ويعطيه، وأن يذكر ويحدث بنعم الله عليه شكرًا له -سبحانه- وتعليمًا لعباده حتى يكونوا على الجادة وسواءِ الصراط. بسم الله الرحمن الرحيم (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)) المفردات: (وَالضُّحَى): وقت ارتفاع الشمس بعد بزوغها وطلوعها. (إِذَا سَجَى): إذا سكن أَهله، وقيل غير ذلك. (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ): ما تركك ربُّك منذ اختارك، وأَصل (ودع) من التوديع، وهو من الدعة وهو أَن تدعو للمسافر أَن يدفع عنه كآبة السفر، وأَن يبلغه الدعة وخفض العيش ثم صار متعارقًا على تشييع المسافر وتركه، ثم استعمل في الترك مطلقًا. (وَمَا قَلَى): وما أَبغضك منذ أَحبك.

سبب النزول

سبب النزول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أَو ليلتين، فأَتت امرأَة فقالت: يا محمد ما أَرى شيطانك إلاَّ قد تركك: فأَنزل الله - عز وجل- (وَالضُّحَى ... ) الآية. رواه الإِمام أَحمد والبخاري ومسلم وغيرهم: قيل: إِن المرأَة هي العوراءُ بنت حرب زوج أَبي لهب، وهي حمالة الحطب. وأَخرج الحاكم عن زيد بن أَرقم: لَمَّا نزلت "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهبِ .. " الآية، قيل لامرأَة أَبي لهب أُم جميل إِن محمد صلى الله عليه وسلم قد هجاك، فأَتته -عليه الصلاة والسلام- وهو جالس في الملأ فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ فقال: "إِنِّي مَا هَجَوْتُكِ، مَا هَجَاكِ إِلاَّ اللهُ تَعَالى"، فقالت: هل رأَيتني أَحمل حطبًا أَو في جيدي حبلًا من مسد؟ ثم انطلقت فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عليه، فأَتته فقالت: ما أَرى صاحبك إِلاَّ قد ودعك وقلاك فأَنزل الله ذلك. التفسير 1، 2 - (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى): أَقسم -سبحانه- بالضحى، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى بشعاعها، وأَقسم بالليل إِذا سجى وسكن أَهله، أَو إِذا غطى بظلامه النهار، أَو ستر كل شيءٍ. وخص وقت الضحى بالقسم، لأَنه وقت اجتماع الناس، وكمال أَنسهم بعد الخوف وعدم الاطمئنان في الليل لظلمته وانقطاع الحركة فيه؛ فبشره -سبحانه- بأَنه بعد وحشتك بسبب فترة الوحي يظهر الضحى بنزوله، ويكمل أُنسك وينشرح صدرك. وكان قسمه -سبحانه- بالليل؛ لأَنه وقت الراحة بعد العناءِ، والسكون بعد الحركة والاضطراب، أَو أَنه -جل شأْنه- أَقسم بالضحى والليل؛ لأَنهما وقتان فيها صلاته -عليه الصلاة والسلام- التي جعلت قرة عينه، وسبب مزيد قربه وأُنسه، أَما الضحى فلما رواه الدالرقطني عن ابن عباس مرفوعًا: "كُتبَ عَليَّ النَّحْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وأُمِرْتُ بِصَلاَةِ الضُّحَي وَلَمْ

تُؤْمَرُوا بِهَا"، وأَما الليل فلقوله تعالى: "وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (¬1) أَو أَنه أَقسم بالضحى لأَنه الساعة التي كلَّم الله فيها موسى - عليه السلام - وأَلقى فيها السحرة سجَّدًا لقوله تعالى: "وأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى" (¬2) وأَقسم بالليل لأَنه الوقت الذي أُسري وعرج به صلى الله عليه وسلم إِلى بيت المقدس، ثم إلى السموات العلا، فإِلى سدرة المنتهى؛ فاكتسب الضحى والليل تلك الفضيلة، وهذه المزية لكون كل منهما كان وقتًا وظرفًا لحدث عظيم. 3 - (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى): هذا جواب القسم، أَي: ما تركك ربك منذ اصطفاك، ولا أَبغضك بعد أن أَحبك واجتباك؛ فأَنت لديه في رفيع المكانة وجليل القدر، وشرف المنزلة التي لا تدانيها منزلة أَحد من الخلق. وحذف المفعول فلم يرد بلفظ (وما قلاك) لئلا يواجه -عليه الصلاة والسلام- بنسبة القلى والبغض إِليه وإِن كان في كلام منفي وذلك لطفًا به صلى الله عليه وسلم وشفقة عليه. واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي، فقال ابن عباس: خمسة وعشرون يومًا، وقيل: أَربعون يومًا، أَو اثنا عشر يومًا أَو خمسة عشر يومًا، أَو أَربعة أَيام، قال العلامة الآلوسي -بعد أَن أَتى بهذه الأَقوال: وأَنت تعلم أَن مثل ذلك ممَّا يتفاوت العلم بمبدئه؛ ولا يكاد يعلم على التحقيق إِلاَّ منه -عليه الصلاة والسلام- والله تعالى أَعلم. كما اختلفوا في سبب احتباس جبريل - عليه السلام -: فذكر بعض المفسرين أَن اليهود سأَلت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأَصحاب الكهف فقال: "سَأُخْبِرُكُم غَدًا" ولم يقل: "إِن شاء الله"، وقيل: السبب كون جرو (كلب صغير) في بيته، وقيل غير ذلك، ويحتمل أَن فترة الوحي كانت لزيادة تشويق الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى الوحي ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء الآية 79. (¬2) سورة طه من الآية 59.

حتى يكتمل أُنسه وفرحه بنزول، فقد روى البخاري أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "ما يمنعك أَن تزورنا أَكثر ممَّا تزورنا"؟ فزلت "وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ" (¬1). قال الإمام الفخر الرازي في تفسيره: هذه الواقعة تدل على أَن القرآن من عند الله؛ إِذ لو كان من عنده لما امتنع. 4 - (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى): لَمَّا نزل قوله تعالى: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" حصل لرسول اله صلى الله عليه وسلم بهذا تشريف عظيم، فكأَنه -عليه الصلاة والسلام- استعظم هذا التشريف، فقيل له: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى) أَي: إِن هذا التشريف وإِن كان عظيمًا إِلاَّ أَن مَا لَك عندنا في الآخرة خير منه وأَعظم، أَو أَن المعنى: وللأَحوال الآتية خير لك من الماضية، كأَنه -تعالى - وعد بأَنه سيزيده كل يوم عزًّا إلى عز، ومنصبًا إلى منصب، أَو أَن خيرات الدنيا مشوبة بالآفات والنقص والانقطاع، ولذات الآخرة كثيرة خالصة كاملة دائمة. 5 - (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى): هذا تَرَقٍّ وسمو بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لمنزلته، فبعد أن أبان عز وجل أنه في محل الإِعزار والتكريم، وأَنه لم يتركه ولم يبغضه بعد أَن أَحبه واجتباه، وأن الآخرة تكون خيرًا له وأَفضل ممَّا أَكرم به في الدنيا، بعد ذلك سوف يكون الإرضاء التام، وتحقيق ما تصبو إِليه نفس الرسول ويرجوه، وذلك بأَن يعطيه ربّه كل ما يرجوه منه -سبحانه- حتى يكون صلى الله عليه وسلم راضيًا وتلك المنزلة هي الشفاعة في جميع المؤمنين. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أَن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إِبراهيم: "فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (¬2)، وقول عيسى: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ" (¬3) فرفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي" وبكى، فقال الله تعالى لجبريل: "اذْهَبْ إِلى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ" فأَتى جبريلُ ¬

_ (¬1) سورة مريم، من الآية: 64. (¬2) سورة إبراهيم، من الآية: 36. (¬3) سورة المائدة، من الآية: 118.

النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأَخبره، فقال الله تعالى لجبريل: "اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ لَكَ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوؤُكَ". وقال على -كرم الله وجهه- لأَهل العراق: إِنكم تقولون: إن أَرجى آية في كتاب الله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" (¬1) قالوا: إنا نقول ذلك، قال: ولكنا أَهل البيت نقول: إِن أَرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى". هذا وقد ورد في الحديث الشريف أَن هذه الآية لَمَّا نزلت قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذًا واللهِ لا أَرضَى وَوَاحِدٌ مِن أُمَّتي فِي النَّارِ" كما ذكره القرطبي في تفسيره. وذكره الطبري عن ابن عباس في أهل البيت. (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) المفردات: (آوى): جعل له مأْوى إِليه، وضمه إلى من يرعاه. (ضَالًّا): غافلًا لم تكن تدري القرآن والشرائع التي لا تهتدى إليها العقول وإنما طريقها الوحي. (عَائِلًا): مفتقرًا مُعْدِمَا، من (عال الرجل) يعيل عليه: إذا افتقر. ¬

_ (¬1) سورة الزمر: من الآية 53.

(تَقْهَرْ): تذله وتحقره، أَو تظلمه. (تَنْهَرْ): تزجره وتغلظ له في القول. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ): وانتشر أَنعم الله عليك بالشكر والثناءِ. التفسير 6 - (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى): عدد -سبحانه- نعمه ومننه على رسوله صلى الله عليه وسلم تقوية لقلبه ووعدًا له بدوام نعمه عليه فيزداد فؤاده الشريف وصدره الرحيب طمأْنينة وسرورًا وانشراحًا وحبورًا أَي: قد علَّمك ربك صغيرًا، قد مات أَبوك فضمك إلى من قام بأَمرك ورعاك، فكان -عليه الصلاة والسلام - بعد أُمه في حجر جده وعنايته، ثم كفله عمه الشقيق الشفيق أبو طالب بوصية من أَبيه عبد المطلب، أَو باختبار الرسول له، وكان أَبو طالب شديد الاعتناءِ به إِلى أَن بعثه الله، وكان يرى منه في صغره ما لم ير من صغير، قال أَبو طالب لأَخيه العباس بن عبد المطلب: وكنت كثيرًا ما أَسمع منه كلامًا يعجبني، وذلك عند مضي بعض الليل، وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد بعده، وكان يقول في أَول الطعام: باسم الله الأَحد، فإِذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فكنت أَعجب منه، ولم أر منه كذبة ولا ضحكًا ولا جاهلية ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون، وقيل: أَلم أَجدك يتيمًا لم ترغب فيك المراضع فآواك إلى مرضعة تحنو عليك، ورزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أَحبتك وتكفلتك. 7 - (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى): أَي: ووجدك وعلمك عن الشرائع التي لا تهتدي إِليها العقول وإِنما طريقها وسبيلها هو السماع، فهداك الله إلى مناهجها وطرقها. وذلك في أثناء ما أوحى الله إليك من الكتاب المبين، وعلمك ما لم تكن تعلم.

وجمهور العلماءِ على أَنه -عليه الصلاة والسلام- قد فطر على الإِيمان بالله، وما كان صلى الله عليه وسلم على دين قومه لحظة واحدة بدليل قوله تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى" (¬1)، وأنه كان يتعبد في الغار قبل البعثة على دين إبراهيم. وقيل: ضل في الطريق وهو مع عمه أَبي طالب في رحلة الشام عندما عدل إِبليس بناقته صلى الله عليه وسلم عن الطريق فجاءَ جبريل - عليه السلام - وردّه إِلى القافلة، وقيل ضل عن جده في شعاب مكة فرآه أَبو جهل منصرفا عن أَغنامه فردّه إِلى جده وهو متعلق بأَستار الكعبة يضرع إلى الله تعالى ويقول: يارب ردَّ ولدي محمدًا ... اردده ربّي واصطنع عندي يدا 8 - (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى): أَي: عَلِمَكَ مفتقرًا فأَغناك بما أَفاءَ الله عليك من ربح التجارة في مال السيدة خديجة وبما وهبته - رضي الله عنها- له صلى الله عليه وسلم. أَو أَغناك بالقناعة، فجعل قلبك راضيًا، أَو أَغناك بالحجج والبراهين. 9 - (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ): أَي: لا تقهر بظلمه، ولا تتسلط عليه بأَخذ ماله، بل عليك أَن تدفع إليه حقه، وخص اليتيم لأَنه لا ناصر له غير الله، وفيه أَيضًا تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم بيتمه ليكون أَكثر رعاية له، ودلت هذه الآية على اللطف والشفقة على اليتيم وبره والإِحسان إِليه، لأَن ذلك يلين القلب ويذهب قسوته وغلظته، فعن أَبي هريرة - رضي الله عنه- أَن رجلا شكا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة فقال: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم وأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ" (¬2) وفي الصحيح أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كَهَاتَيْنِ" وأَشار بالسبابة والوسطى. ¬

_ (¬1) سورة النجم، الآية: 2. (¬2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

10 - (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ): أَي: لا تغلظ له القول ولا تزجره، ولكن تلطف معه وردّه ولو بعطاءٍ قليل أَو ردٍّ جميل واذكر فقرك. وقد روي أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفِ شَاةٍ" والرسول صلى الله عليه وسلم يشير بهذا إلى أن الملائكة قد تأْتي في صورة من يسأَل أَصحاب المال وذوي النعم اختبارًا لهم وابتلاءً. وقيل المراد بالسائل هنا: الذي يسأَل عن الدين ويريد أَن يعرف ما جهل منه، أَو ما التبس عليه، فيه، أَي: فلا ترده بالغلظة والجفوة، وأَجبه برفق ولين هذا، وإن إِجابة السائل عن الدين فرض كفاية على العالم. وعن أَبي هارون العبدي قال: كنا إِذا أَتينا أَبا سعيد الخدري - رضي الله عنه- يقول: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إِن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: "إِنَّ الناسَ لَكُمْ تَبَعٌ، وإِنَّ رجَالًا يأْتَونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَرضِ يَتَفَقَّهُون، فَإِذا أَتوْكُمْ فاسْتَوْصُوا بهم خَيْراَ" (¬1). 11 - (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ): أَي: انشر وأَظهر وأَذِعْ ما أَنعم الله به عليك بالشكر والثناءِ؛ فالتحدث بنعم الله والاعتراف بها شكر؛ أَخرج البخاري في الأَدب وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا "مَنْ أُعْطَيِ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ، فإِنْ لَمْ يَجِدْ فَليُثْنِ بِهِ، فَمَنْ أَثْنى بِهِ فَقدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرهُ، وَمَنْ تَحَلَّى بمَا لَمْ يُعْط كَانَ كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" (¬2) ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إِذا لم يرد به الرياءَ والافتخار، وظن الاقتداءَ به، وأَمن على نفسه الفتنة. جاءَ في تفسير القرطبي: وكان أَبو فراس عبد الله بن غالب إِذا أَصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأْت كذا؛ وصليت كذا، وذكرت الله كذا، وفعلت كذا فقلنا له: يا أَبا فراس: إِن مثلك لا يقول هذا: قال: يقول الله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وتقولون أَنتم: لا تحدث بنعمة الله. ¬

_ (¬1) رواه مالك وأحمد والبخاري في تاريخه. (¬2) رواه الترمذي، وضعفه.

والمراد أَمر الرسول صلى الله عليه وسلم أَن يتحدث بما أَفاضه الله عليه من ضروب النعم وفنونها، ومن جملتها ما تقدم، وما أَوحى الله إِليه به. وحاصل المعنى: أَنك كنت يتيمًا وضالا وعائلا، فآواك الله، وهداك، وأَغناك، فمهما يكن من شيءٍ فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، واقْتَدِ بالله فَتَعَطَّفْ على اليتيم وَآوِهِ؛ فقد ذقت اليتم ورأَيت كيف فعل الله بك، وتَرَحَّمْ على السائل وَتَفَقَّدْهُ بمعروفك، ولا تزجره وترده عن بابك، كما رحمك ربك فأَغناك بعد فقر، وحدث بنعم الله كلها، ويدخل في ذلك هدايتك الضُّلاَّلَ وتعليمهم الشرائع والقرآن مقتديًا بالله في أَن هداك وأَرشدك، وفي الدعاءِ النبوي المأْثور: " ... وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِك، مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْك، قَابِلِيهَا، وأَتِمَّهَا عَلَيْنَا" اللهم آمين.

سورة ألم نشرح

سورة ألم نشرح هذه السورة مكية، وعدد آياتها ثمان، وتسمى أَيضا سورة الشرح مناسبتها لما قبلها: هي شديدة الاتصال بما قبلها، أَي: بسورة "الضحى" حتى إِنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أَنهما كانا يقولان: إِنهما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة، وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى ذلك الشيعة -كما حكاه الطبرسي منهم- ورد ذلك الإِمام. وقال الآلوسي: والحق أَنهما متصلتان معنى مع كونهما سورتين يفصل بينهما بالبسملة، ويدل على شدة اتصالهما ما في حديث الإِسراءِ الذي أَخرجه ابن أَبي حاتم أَن الله تعالى قال لرسوله -عليه الصلاة والسلام-: يا محمد أَلم أَجدك يتيمًا فآويت وضالا فهديت، وعائلا فأَغنيت، وشرحت لك صدرك، حططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، ولا أُذكر إِلا ذُكرت معي .. إِلى آخره، والجمع بينهما في الحديث يدل دلالة قوية على ما بينهما من تناسب. أَهم مقاصد السورة: ابتدأَت بالحديث عن نعم الله العديدة على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بشرح صدره بالإِيمان، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان، وعصمته من الذنوب والآثام، وتيسير أَعباء النبوة عليه حتى أَدى الأَمانة، وبلغ الرسالة، قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ .. ) الآيات. ثم تحدثت كذلك عن إِعلاءِ منزلته صلى الله عليه وسلم والتنويه بما يلغه من تكريم وتعظيم حيث جعله مذكورًا على لسان كل مؤمن مقرونًا باسمه جل وعلا. قال تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). ثم طمأَنت الرسول وهو ومن معه يقاسي الشدائد والأهوال من كفار مكة، طمأَنته إلى ما ينتظره من الفرج، والنصر القريب على الأَعداءِ، قال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).

وختمت السورة بتذكير الرسول بما يجب عليه بعد الفراغ من أَمر الدعوة، ومقتضيات الجهاد، وذلك ببذل الجهد في عبادة أُخرى بحيث لا يخلى وقتاً من أَوقاته منها متجها إِلى رَبِّه وحده بمسائله وحاجاته، قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). (بسم الله الرحمن الرحيم) (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) المفردات: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): أي أَلم نوسعه، ونجعله رحيبًا بما أَودعناه فيه من الحكم والعلوم؟! والاستفهام للتقرير، كأَنه قيل: قد شرحنا لك صدرك. (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): الوزر؛ الحمل الثقيل، أَي: حططنا عنك حملك الثقيل الذي تلقيه عليك أَعباءُ النبوَةِ. (أَنقَضَ ظَهْرَكَ): أَي: أَثقله وأَوهنه حتى سمع له نقيض، وهو الصوت الخفي الذي يسمع من الرحل فوق ظهر البعير من ثقل الحمل وشدته، والكلام على التمثيل. التفسير: 1 - 4 - (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ): المعنى: أَلم نوسع لك صدرك بإِخراجك من تلك الحيرة التي كان يضيق لها لما تلاقيه من جحود قومك وعنادهم؟ وذلك بما أودعناه فيه من الحكم والعلوم والهدى ونور الإِيمان؛

حتى يتيسر لك تلقى ما يوحى إِليك بعد ما كان يشق عليك!؟ وعن الحسن: ملئَ علما وحكمة. وقيل المعنى: أَلم نفسح لك صدرك حتى وسع عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة، والإفادة، ووجه نسبة الشرح إِلى الصدر: لأَنه لما كان محلا لأَحوال النفس، ومخزنًا لسرائرها من العلوم والإِدراكات، والملكات، والإِرادات وغيرها -عبَّر بشرحه عن توسيع دائرة تصرفات النفس بتأييدها بالقوة القدسية، والكمالات الإِلهية. وعن ابن عباس وجماعة أَنه إِشارة إِلى شق صدره الشريف في صباه -عليه الصلاة والسلام- وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأَخبار، وهو عند مرضعته حليمة السعدية، وقد ذكر ذلك كثير من المفسرين. وفي حديث لأبس يعلي، وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرار هذا له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة، وروى أَنه وقع له أَيضًا وهو ابن عشرين سنة وأَشهر، كما في الدر المنثور، ووردت في شق الصدر للرسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة، فمن أَرادها فليرجع إِليها في أَمكنتها من كتب السيرة، والله وحده أَعلم بمدى صحة ما قيل. (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): عطف على مضمون الجملة السابقة. كأَنه قيل: شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، أَي: خففنا عنك ما أَثقل ظهرك من أعباءِ النبوة، ومشاق القيام بأَمرها، والوزر: الحمل الثقيل، وقيل: المراد به الأُمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد وعُوتِبَ عليها، ووضْعها: غفرانها كقوله تعالى: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخَّرَ" (¬1) واختار أَبو حيان كون وضع الوزر كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالوضع، على سبيل المبالغة في انتفائه. (الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) أَي: أَثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض يصدر عنه لثقل الحمل، وهو صوت خفيف كالصوت الذي ينبعث من الرحل على ظهر البعير لثقل الحِمْل، والكلام على التمثيل، مثل به حاله -عليه الصلاة والسلام- مما كان يثقل عليه ويؤلمه من عدم ¬

_ (¬1) الفتح، من الآية 2.

إِحاطته بتفاصيل الأَحكام والشرائع مما لا يُدْرك إِلا بالوحي، أو من حرصه على إِسلام المعاندين من قومه، وتلهفه عليه وغير ذلك من أُمور تثقل عليه صلى الله عليه وسلم. "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" بالنبوة وغيرها، وأَيُّ رفع أكمل وأَسمى من أَن يقرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسمه - عز وجل - في كلمة الشهادة والأَذان والإِقامة، وجعل طاعته في غير موضع من القرآن. فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ" (¬1) "وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ" (¬2) وصلى عليه مع ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، وخاطبه بالأَلقاب في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثَّرُ" "يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ" "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ" "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ" وأَخذ على الأَنبياءِ وأُممهم أَن يؤمنوا به، وذكره سبحانه في كتب الأَولين، وفي حديث مرفوع أَخرجه أَبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أَبي سعيد الخدري أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي جبَرِيلُ -عليه السلامُ- فقال: إِنَّ ربَّك يقول: أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ: "إِذَا ذُكِرْتُ ذُكْرْت مَعِي" واقتصرَ بما ذكر على ما هو أَعظم قدرًا من أَفراد رفع الذكر. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) المفردات: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ): يقال: عسر الأَمر عسرًا، مثل: قرب قربًا، وعسارة بالفتح فهو عسير، أَي: صعب شديد، إِشارة إِلى ما هم فيه من فقر وضيق. (يُسْرًا) أَي: سعة وغنى. (فَانصَبْ) أَي: فأَتْعبْ نفسك في طلب الآخرة، ونصِبَ نصبًا، من باب: تَعِبَ: أَعيا ¬

_ (¬1) من الآية: 59 من سورة النساء. (¬2) من الآية: 62 من سورة التوبة.

التفسير 5 - (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا): وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بتيسير كل عسير له وللمؤمنين، مسوق لتسليته والتنفيس عنه أَي: فإِن مع الشدة التي أَنت فيها من مقاساة أَذى المشركين بمكة يسرًا. كأَنه قيل: خولناك ما خولناك من جلائل النعم لتأْييدك، فكن على ثقة بفضل الله ولطفه ولا تيأَس، فإِن بعد الشدة التي صادقتك من المعاندين لدعوتك يسرًا عظيمًا وذلك بإِظهارك عليهم، وقهرك لهم. وقيل هذا المعنى: كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إِلى وهمه أَنهم رغبوا عن الإِسلام لافتقار أَهله، فذكره سبحانه بما أَنعم به عليه من نعم عظيمة ثم قال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أَي: الذي أَنتم فيه (يُسْرًا) عظيما، وأَي يسر، والمراد به: ما تيسر لهم من فتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو يسر الدنيا مطلقًا. 6 - (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا): يحتمل أَن تكون تكريرًا للجملة السابقة لتقرير معناها في النفوس، وتمكينه في القلوب ويحتمل أَن تكون وعدًا مستأْنفًا له صلى الله عليه وسلم، واحتمال الاستئناف هو الراجح، كما يقول الآلوسي لما علم من فضل التأْسيس على التأْكيد لإِفادة التأْسيس لمعنى جديد والتنوين في (يُسْرًا) للتعظيم. والمراد: أَن مع ذلك العسر يسرًا آخر، ولن يغلب عسر يسرين، ويشير إِلى ذلك ما أَخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال؟ ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بهذه الآية أَصحابه فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ إنْ شاءَ يُسْرَيْنِ". وهذا مما تنطق به قواعد اللغة؛ لأَن العسر أُعيد معرفة، فكان واحدًا؛ لأَن المعرفة إِذا أُعيدت معرفة، كانت الثانية عين الأُولى، واليسر أُعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأُولى، والمراد باليسرين يسر الدنيا ويسر الآخرة والإِتيان بكلمة (مع) في الجملتين للإِيذان بغاية مقاربة اليسر للعسر زيادة في التسلية.

7، 8 - (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ): أَي: فإِذا فرغت من التبليغ، وقيل: من الغزو، فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك فيها ببذل أَقصى طاقتك في أَدائها شكرًا لما أوليناك من النعم السابقة، ووعدناك من الآلاءِ الآتية، والنصَبُ فيها ألا يخلى وقتًا من أَوقاته منها، فإِذا فرغ من عبادة أَتبعها بأُخرى، وفي ذلك من الحث له صلى الله عليه وسلم على العبادة ما فيه (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أَي: وإِلى ربِّك وحده تكون رغبتك بالسؤال في حرص وإِقبال ولا تسأَل غيره. فإِنه عز وجل القادر على إِنقاذك وتفريج كروبك، في الدنيا وتحقيق آمالك فيما عنده في الدار الباقية. قال ابن كثير: المعنى: إِذا فرغت من أُمور الدنيا وأَشغالها، وقطعت علائقها فانصب في العبادة، وقم إِليها نشيطًا فارغ البال، وأَخلص لربك النية والرغبة. وقبل: فإِذا فرغت من صلاتك، فاجتهد في الدعاءِ، وأَخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس قال: أَي: إِذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، وروى نحوه عن الضحاك وقتادة، وأَخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد، أَي: إِذا فرغت من أسباب نفسك. وفي رواية: من دنياك فصلِّ، وقيل غير ذلك، والله أَعلم.

سورة والتين

سورة والتين ويقال لها سورة التين بلا واو، وهي مكية، وآياتها ثمان آيات مناسبها لما قبلها: لما ذكر سبحانه في السورة السابقة (أَلَمْ نَشْرَحَ) حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أَكمل النوع الإِنساني بالاتفاق، بل أَكمل خلق الله على الإِطلاق، ذكر في هذه حال النوع الإِنساني بعامة وما ينتهي إِليه أَمره، وما أَعده سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأَكمل، ناسب أَن يقرن بينهما. أَهم مقاصدها: ابتدأَت السورة بالقسم بالبقاع المشرفة، والأَماكن المقدسة التي خصها سبحانه بإِنزال الوحي فيها على أَنبيائه ورسله وهي بيت المقدس، وجبل الطور، ومكة المكرمة، أَقسم بها جلَّ وعلا على أَنه كرم الإِنسان، فخلقه في أَحسن تقويم، وأَشارت إِلى أَنه إِذا لم يشكر نعمة الله عليه رده سبحانه إِلى أَسفل سافلين: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .... ) الآيات. وختمت ببيان عدل الله بإِثابة المؤمنين بأَعظم المثوبات الحسان، جزاء ما عملوا، وعقاب الكافرين المكذبين بيوم الدين بأَقصى العقوبات، (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .... ) الآيات.

بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)) المفردات: (طُورِ سِينِينَ): هو جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى - عليه السلام - وقيل: سينين وسيناءَ -بكسر السين وفتحها- علمان على الموضع الذي هو فيه، ولذلك أُضيف إِليهما. (الْبَلَدِ الأَمِينِ): مكة المكرمة. (تَقْوِيمٍ): أَكمل تعديل، يقال: قَوَّمَ العودَ: عدّله وجعله مستقيمًا. (غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، من المن: وهو القطع. (بِالدِّينِ): المراد به الجزاءُ. التفسير 1 - (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ): أَقسم الله - تعالى - ببقاع مباركة عظيمة ظهر فيها الخير والبركة بسكنى الأَنبياءِ والمراسلين، فأَقسم بالتين، وقد اختلف المفسرون في المراد منها على أَقوال كثيرة، فقيل:

يراد بها مسجد دمشق، وقيل: هي نفسها، وقيل: الجبل الذي عندها، واختلفوا كذلك في الزيتون، فقال كعب الأَحبار، وقتادة، وابن زيد وغيرهم: هي مسجد بيت المقدس وقيل: بيت المقدس نفسه، وقيل غير ذلك؛ لأَنها منابت التين والزيتون، وعلى هذه الأَقوال يكون التين والزيتون كناية عن مواضع كنى بها عن مغارسها التي تكثر فيها، حتى يتناسب الإِقسام بهما مع الإِقسام بطور سينين، وبالبلد الأَمين اللتين عطفتا عليهما، وقال قليل من المفسرين: إِن الإِقسام هو بالنوعين لذاتهما، لاختصاصهما بخواص عجيبة، وفوائد عظيمة، روى أَبو ذر أَنه أَهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين، فأَكل منه، وقال لأَصحابه: "كلو، فلو قلت: إِن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه" إِلى آخر ما روي، وأَما الزيتون فهو إِدام، وله فوائد جمة، وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل، وعن معاذ بن جبل أَنه مر بشجرة زيتون، فأَخذ منها سواكًا فاستاك به وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة". ورجح الرأْي الأَول على الثاني حيث فقد في الثاني التناسب الذي يقتضيه العطف إذ عُطِفَت الأَماكن على الأَشجار، وهو أَن المراد بهما مغارسهما-: 2 - (وَطُورِ سِينِينَ): هو الجبل الذي كلم الله تعالى - عليه موسى - عليه السلام - ويقال له أَيضًا: طور سيناء -بفتح السين وكسرها مع المد- وهو بقرب التيه، وقيل: إِن سينين وسيناءِ علمان على البقعة التي فيها الجبل، وعن قتادة أَنه قال: سينين مبارك حسن ذو شجر، وقيل: كل جبل فيه أَشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء. 3 - (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ): وهو مكة المكرمة، وَأَمَانَتَهَا أَنها تحفظ من دخلها كما يحفظ الأَمينُ ما يؤتمن عليه، ويبذل الجهد في حفظه وصيانته، فلا يعتريه أَي: أَذى أَو عدوان.

ويجوز أَن يكون الأَمين بمعنى المأْمون، لأَنه مأْمون الغوائل فلا يصيب داخله أَي ضر ولا يقع عليه أَي اعتداءِ على نفسه أَو ماله كما قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" (¬1). ونسبه الأَمين بمعنى الأمانة أو بمعنى المأْمون الغوائل إِلى البلد مجازية، والإِتيان باسم الإِشارة للتعظيم. والغرض من القسم بهذه الأَشياءِ الإِبانة عن شرف البقاع المباركة دينيا ودنيويًا، وعما ظهر فيها من خير وبركة ببعثة الأَنبياء والمرسلين. وقال ابن كثير: ذهب بعض الأَئمة إِلى أَن هذه محال ثلاثة بعث الله في كل منها نبيًا مرسلا من أُولي العزم أَصحاب الشرائع الكبار، فالأَول محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى - عليه السلام - والثاني طور سنين وهو طور سيناءَ الذي كلم الله منه موسى بن عمران، والثالث مكة وهو البلد الأَمين الذي من دخله كان آمنًا وهو أَثر إِبراهيم عليه السلام -أَرسل فيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وقد ذكر في آخر التوراة هذه الأماكن الثلاثة. قالوا: "جاءَ الله من طور سيناءَ، يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وأَشرق من ساعير. يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى، واستعلن من جبال فاران، يعني جبال مكة التي أَرسل الله منها محمدًا صلى الله عليه وسلم" أهـ. ابن كثير. 4 - (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ): جواب القسم، أَي: لَقد خلقنا جنس الإِنسان -وهو شامل للمؤمن والكافر- في أَحسن ما يكون من التعديل والتقويم صورة ومعنى، حيث بَرَأَهُ -سبحانه- مستوى القامة، متناسب الأَعضاءِ حسن الصورة. قوي الإِحساس، سليم العقل، متصفًا بالحياة والعلم، والسمع البصر، والإِرادة والتكلم، وغير ذلك من الصفات والعجائب التي أَودعت فيه. ويكفي في هذا الباب -وهو القول الفصل- أَن الله خلق آدم بيديه، , وأَمر -سبحانه- ملائكته - عليهم السلام - بالسجود له وهم المكرمون لديه. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، من الآية: 67.

5 - (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ): ثم للتراخي، أَي: ثم كان عاقبة أَمره أَن جعلناه من أَهل النار الذين هم أَقبح من كل قبيح صورة، , أَسفل من كل سافل شكلا وتركيبًا، لعدم استقامة كل منهم على موجب ما خلقناه عليه من الصفات السوية، والصورة الحسنة التي لو عمل بمقتضاها لكان في أَعلى عليين، أَو ثم رددناه أسفل ممن سفل من أَهل الدركات، أَو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أَسفل ممن سفل هيئة وبنية حيث نكسناه في خلْقِه، فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وكَلَّ سمعه وبصره، وتغير كل شيءٍ فيه، فمشيه دليف (¬1)، وصوته خفات (¬2)، وقوته ضعف، وشهامته خرف أَي: فساد عقل كما قال تعالى: "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" (¬3) وقوله تعالى: "وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ" (¬4). 6 - (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): أَي: ثم رددنا الإِنسان إِلى صورة مشوهة قبيحة في النار إِلا الذين آمنوا وجروا في عملهم على موجب تلك الصفات التي منحهم الله إِياها، ونشأَهم عليها، فإِنهم لا يردون أَسفل سافلين ولا تقبح صورهم يوم القيامة، وإِنما يكون لهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وامتثالهم وشكرهم لله على نعمائه، يزدادون به بهجة إِلى بهجتهم، وحسنًا إِلى حسنهم، والاستثناءَ متصل من ضمير رددناه العائد على الإِنسان؛ فإِنه في معنى الجمع. أَو المعنى: لكن الذين كانوا مؤمنين صالحين من الزمني والهرمي، فلهم ثواب متصل دائم، أَو غير ممنون به عليهم جزاءَ امتثالهم وصبرهم على الابتلاءِ بالشيخوخة والهرم، ومقاساة المشاق، والقيام بالعبادة مع ضعفهم ووهنهم. أَخراج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس أَنه قال في الآية: إِذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أَجر ما كان يعمل في شبيبته. ¬

_ (¬1) أي: يمشي مشي المقيد. (¬2) الخلفات: إسرار المنطق. (¬3) سورة يس، من الآية 68. (¬4) سورة النحل، من الآية: 70.

7 - (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ): خطاب للإِنسان الكافر على سبيل الالتفات لتشديد التوبيخ والتقريع، والاستفهام إِنكاري، أَي: فأَي شيءٍ يضطرك -أَيها الإِنسان- بعد ما بينا من الدليل القاطع. على قدرة الله عز وجل على البعث والبرهان الساطع على أَنه واقع لا محالة إِلى أَن تكون مكذبًا به فإِن الله خلقك من نطفة، وقوَّمك على وجه يبهر الأذهان، ويضيق عنه نطاق البيان مع تحويلك من حال إِلى حال، وذلك من أَوضح الدلائل على قدرة الله - عز وجل - على البعث والجزاءِ. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَي: فأَي شيءٍ ينسبك إِلى الكذب بسبب إِخبارك بالجزاءِ بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة به؟! وهذا القول اختاره ابن أَبي حاتم. 8 - (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ): أَي: أَليس الذي فعل ما ذكر بأَحكم الحاكمين صنعًا وتدبيرًا حتى يتوهم عدم الإِعادة والجزاءِ؟! وكان النبي إِذا قرأَ هذه الآية. قال: "بَلَى وَأَنَا على ذلك من الشاهدين" ومآل الاستفهام في قوله تعالى: (أَلَيْسَ) أَن الله أَعلى المدبرين حكمة؛ ولهذا وضع الجزاءَ لهذا النوع الإِنساني ليحفظ لمن عمل منه واتقى منزلته من الكرامة التي أَعدها بأصل خلقته، وهو سبحانه لا يجوز ولا يظلم أَحدًا لأَنه أَعدل العادلين وبذلك استحال عدم كونه أَحكم الحاكمين، وتعين الجزاء بعد البعث حتى ينصف المظلوم في الدنيا من ظالمه، وليؤْتي كل ذي حق حقه، والجملة تقرير لما قبلها. وقيل: إِن الحكم بمعنى القضاء، فهي وعيد للكفار، وبيان بأَن الله -عز وجل- يحكم على كلٍّ بما هو أَهله من الجزاءِ؛ لأَنه -سبحانه- أَحكمهم قضاءً بالحق، وعدلا بين الخلق - والله أَعلم.

سورة العلق

سورة العلق تسمى سورة (اقرأ) وهي مكية، وآياتها تسع عشرة آية وهي أَول ما نزل من القرآن مناسبتها لما قبلها: لما ذكر -سبحانه- في سورة التين والزيتون خلق الإِنسان في أَحسن تقويم، بين - عزَّ وجلَّ - هنا أَنه تعالى خلقه من علق، فكان ما تقدم كالبيان لكمال تصويره، وهنا كالبيان للمادة التي خلق منها وذكر -سبحانه- هنا أَيضًا من أَحواله في الآخرة ما هو أَبسط وأَكثر مما ذكره -عز وجل - هناك. أَهم مقاصدها: ابتدأَت السورة بالدعوة إِلى القراءَة والتعليم، وأَشارت إِلى بعض المراحل في خلق الإِنسان، وبينت فضل الله على رسوله الكريم بإِنزال القرآن، وتذكيره بأَول النعماءِ وهو يتعبد ربه بغار حراءَ حيث تنزل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) الآيات. ثم تحدثت عن طغيان الإِنسان في هذه الحياة مغترًّا بما أُوتي من قوة وثراءٍ، وعن تمرده على أَوامر ربه بسبب ما أَولاه، وهددته بالعودة إِلى خالقه لينال الجزاءَ: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى ... ) الآيات. ثم تناولت قصة أَبي جهل الذي كان يتوعد الرسول وينهاه عن الصلاة انتصارًا لعبادة الأَوثان: (أَرأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى). الآيات. ثم أَبرزت تهديد ذلك الشقي، وزجره بأَقصى العقوبات إِذا استمر على بغيه وضلاله: (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) إِلخ الآيتين. وكان ختام السورة: الإِشارة إِلى عجز ذلك الشقي عن تنفيذ تهديده للرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة عشيرته ووفرة أَنصاره حين أَغلَظ صلى الله عليه وسلم له القول لردعه: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) المفردات: (بِاسْمِ رَبِّكَ): أَي؛ سمّ باسم ربك قائلًا: باسم الله، ثم اقرأْ. (مِنْ عَلَقٍ): أَي؛ دم جامد، جمع علقة. التفسير 1، 2 - (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ): عن ابن عباس ومجاهد: هذه أَول سورة نزلت، والجمهور على أَن الفاتحة أَول سورة نزلت، ثم سورة (ن) وفي شرح صحيح مسلم الصحيح أَن أَول ما نزل اقرأْ، أَي: مطلقًا، وأَول ما نزل بعد فترة الوحي (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وجزم جابر بن زيد بأَن أَول ما نزل (اقْرَأْ) ثم (ن) ثم (يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) ثم (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ثم (الفاتحة) وقيل: أَول ما نزل صدرها إِلى قوله تعالى: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) وكان ذلك في غار حراءَ، ثم نزل آخرها حين شاءَ الله تعالى، وهو ظاهر ما أَخرجه الإِمام أَحمد والشيخان وعبد بن حميد عبد الرزاق وغيرهم عن طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدءِ الوحي، وفيه: أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَول ما تمثل له الملك الذي يتلقى عنه الوحي، وهو يتحنث في غار حراءَ، في شهر رمضان، قال له الملك: اقرأْ، قال رسول الله: فقلت: ما أَنا بقارئٍ

قال: فأَخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أَرسلني، فقال: اقرأْ فقلت: ما أَنا بقاري، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أَرسلني، فقال: اقرأْ، فقلت: ما أَنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" حتى بلغ " عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" فرجع بها رسول الله ترتجف بوادره (¬1) حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: "يا خديجة مالي"؟! وأَخبرها الخبر. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. والمعنى: اقرأْ ما يوحى إِليك من القرآن الكريم، فإِن الأَمر بالقراءَة يقتضي مقروءًا قطعًا، أَي: اقرأْ ملتبسًا باسم ربك، أَعني مبتدئًا به، لتتحقق مقارنته لجميع أَجزاء المقروءِ، كأَنه قيل: سمّ باسم ربك ثم اقرأْ، وهو ظاهر في أَنه لو افتتح بغير اسمه عز وجل لم يكن ممتثلًا، وهذا أَول خطاب إلهي وجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الآلوسي: والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إِلى الكمال اللائق شيئًا فشيئًا مع الإِضافة إِلى ضميره - عليه السلام - للإِشعار بتبليغه -عليه الصلاة والسلام- إِلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإِنزال الوحي المتواتر. أهـ. ووصف الرب بقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ) لتذكير رسوله صلى الله عليه وسلم أَول النعماءِ الفائضة عليه، -صلوات الله وسلامه عليه- منه تعالى -وهي الخلق- مع ما في ذلك من التنبيه على أَنه تعالى قادر على تعليم القراءَة بأَلطف وجه، إِذ القادر على الخلق والإِيجاد لا يعجزه قطعًا تعليم القراءَة. وقيل: أُريد بوصف الرب بالذي خلق في قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" تأكيد عدم إِرادة غيره تعالى من الأَرباب، فإِن العرب كانت تسمى الأَصنام أَربابًا لكنهم لا ينسبون الخلق إِليها. ولم يذكر مفعول خلق، لأَنه في معنى فِعْل لازم، أَي: الذي حصل منه الخلق، واستأَثر به، أَو أَنه لم يذكر لأَنه أُريد تقديره بأَمر عام، كأَن يقال: الذي خلق كل شيءٍ، فيتناول كل مخلوق لأَنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أَولى بتقديره من بعض (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ). ¬

_ (¬1) البادرة من الإِنسان: لحمتان فوق عرق في الثدي، أو عصبة تحته، والجمع: بوادر.

تخصيص الإِنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه، وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه، مع أَن الله قد خص الإِنسان بالرسالة إِلى الثقلين، وعن الزمخشري: أَن المناسب أَن يراد خلق الإِنسان بعد الأَمر بقراءَة القرآن تنبيهًا على أَن خلقه للقراءَة، والدراية، وعلى هذا يكون عدم ذكره في الجملة الأُولى، وذكره في الثانية قصدًا لتفخيمه بالإِيهام ثم التفسير، ودلالة على عجيب فطرته، وكان خلقه من دم جامد، لبيان كمال قدرته تعالى؛ بإِظهار ما بين حالتيه الأُولى والآخرة من التباين البيِّن، وللتنبيه على أَن الذي خلقه من هذه المادة ثم سواه بشرًا سويًّا في أَحسن تقويم، قادر على كل شيءٍ، ولما كان الإِنسان مرادًا به الجمع قيل: "علق" ولم يقل: من علقة. 3 - 5 - (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ): أَي: امض لما أَمرتك به من القراءَة (وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) استئناف وارد لإِزاحة ما أَبداه صلى الله عليه وسلم من العذر بقوله -صلوات الله وسلامه عليه- لجبريل - عليه السلام -: ما أَنا بقارئ، حين قال له: اقرأْ. يريد صلى الله عليه وسلم أَن القراءَة شأْن من يكتب ويقرأَ، وأَنا أُمّيّ، فقيل له: وربك العظيم الكريم الذي أَمرك بالقراءَة، لا يدانيه كريم. (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أَي: علَّم -سبحانه- وحده بواسطة الكتابة بالقلم وليس ذلك لغيره، علَّمه، وكما عَلَّم -سبحانه- القاري بواسطة الكتابة بالقلم يُعلِّمك القراءَة بدونها وإِن كنت أُميًّا، وحقيقة الكرم كما قيل: إِعطاءَ ما ينبغي لا لغرض، فهو صفة لا يشاركه تعالى في إِطلاقها أَحد. (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أَي: علمه بالقلم وبدونه من الأُمور الكلية والجزئية، والجلية، والخفية ما لم يخطر بباله، فدل على كمال كرمه - تعالى - حيث علم - سبحانه- عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم، قال القرطبي: نبه - سبحانه- على فضل علم الكتابة لما فيه من الفوائد العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أَخبار الأَولين ومقالتهم، ولا كتب الله المنزلة إِلاَّ بالكتابة، ولولاها ما استقامت أُمور الدين والدنيا وهذه الآيات الخمس أَول ما تنزل من القرآن كما ثبت في الصحاح، وقد فصل ذلك أَول السورة.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) المفردات: (لَيَطْغَى): ليتجاوز الحد في المعصية وفي الاستكبار على ربه. (الرُّجْعَى): مصدر بمعنى الرجوع، أَي: إِلى ربك رجوع هذا الطاغي. (وَتَوَلَّى): أَعرض عن الإِيمان. (لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) أَي: لنأْخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع: القبض على الشيءِ وجذبه بشدة. والناصية: شعر مقدم الرأْس. (نَادِيَهُ): أَي: أَهله وعشيرته، والنادي والنَّدِي: المجلس الذي يجتمعون فيه، والإِسناد مجازي. (الزَّبَانِيَةَ): مأْخوذ من الزبن، وهو الدفع، ويراد الملائكة الشداد الغلاظ.

التفسير 6 - 8 - (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى): روي أَن هذه الآيات وما بعدها إِلى آخر السورة نزلت في أَبي جهل بعد زمن من نزول ما قبلها، وكان طاغيًا متكبرًا فخورًا بكثرة ماله، مبالغًا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث الصحيح: أَن أَبا جهل حلف باللات والعزى لئن أَتى محمدًا صلى الله عليه وسلم يصلي، ليطأَن على رقبته، وليعفرن وجهه، فأَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليفعل، فما فاجأَهم منه إِلاَّ وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إِن بيني وبينه خندقًا من نار، وهولًا، وأَجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، والآيات وإِن نزلت في أَبي جهل إِلاَّ أَن الحكم عام في كل طاغ متكبر، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والمعنى: ابتدأَت الآيات بكلمة (كَلاَّ) ردعًا وزجرًا لهذا الإِنسان الذي كفر نعمة ربه بطغيانه واستكباره، ووُجِّه إِليه الردع وإِن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه، حيث إِن الآيات من مفتتح السورة إِلى هذا المقطع تدل على أَن الله تفضل على الإِنسان بأَعظم المنن التي كرمه بها، فكان بشرًا سويًّا، وذلك يستدعي الشكر والعرفان، لكنه كما قال سبحانه: "إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى" أَي: ليتجاوز الحد في الطغيان والاستكبار على عبادة الله، واتباع هوى النفس فيما يفعل وما يدع (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) أَي: بالغ في الطغيان لأَنه رأَى نفسه ذا مال وثروة، وبطش قوة (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) تهديد لهذا الإِنسان الطاغي، وتحذير له من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات؛ للتشديد في العقوبة، أَي: إِلى ربك وحده أَيها الإِنسان، لا إِلى غيره -استقلالًا أَم اشتراكًا- المرجع والمصير بالموت والبعث، فيجازيك على أَعمالك التي اقترفتها بما تستحق من تعذيب وتنكيل. 9، 10 - (أَرأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى): ذكر لبعض آثار الطغيان، ووعيد عليها، وتعجيب منها؛ وتعجيب منها؛ للإِيذان بأَنها من الشناعة والغرابة بمكان بحيث يجب أَن يراها كل من تتأَتى منه الرؤية، ويقضي منها العجب العجاب

ولا خلاف بين المفسرين كما قال ابن عطية في أَن المصلي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والناهي هو أَبو جهل. والإِتيان بلفظ (العبد) منكرًا لتفخيمه -عليه الصلاة والسلام- واستعظام النهي، وتأكيد التعجيب منه، وكلمة (أَرأَيت) صارت تستعمل في معنى (أَخبروني) على أَنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقي، ولكن يقصد بها إنكار الحالة المستخبر عنها وتقبيحها. ولَمَّا كانت الرؤية سببًا للإِخبار عن المرئي، أَجري الاستفهام عنها مجرى الاستخبار. 11 - 14 - (أَرأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى* أَرأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى): أَي: أَخبرني يا من له أَدنى تمييز عن هذا الذي ينهى بعض عباد الله فضلًا عن النبي المجتبي، ينهاه عن الصلاة، إِن كان على طريقة سوية فيما ينهي عنه من عبادة الله تعالى: (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أَو كان آمرًا بالمعروف والتقوى فيما يدعو إِليه من عبادة الأَصنام كما يزعم، أَو كان على التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) أَي: أَلم يعلم هذا الطاغي الفاجر بأَنَّ الله يراه؟! أَي: يطلع على أَحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك، أَلم يعلم ذلك حتى اجترأَ على ما فعل من إِفك وطغيان، وهذا وعيد له، وتهديد على ما وقع منه. وقيل المعنى: أَخبرني إِن كان هذا العبد المصلي وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي تنهاه عن الصلاة صالحًا مهتديًا في قوله وفعله (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أَي: أَو كان آمرًا بالإِخلاص والتوحيد، داعيًا إِلى الهدى والرشاد، كيف تزجره وتنهاه، فما أَبلهك أَيها الغبي الذي تنهى مَنْ هذه أَوصافه عن الصلاة، ثم عاد الخطاب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَرأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى" أَي: أَخبرني يا محمد إِن كذب بالقرآن، وأَعرض عن الإِيمان. (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) أَي: أَلم يعلم ذلك الشقي أَن الله مطلع على أَحواله، مراقب لأَفعاله، وسيجازيه -سبحانه- عليها يوم الدين، ويله ما أَجهله وأَغباه.

15 - 16 - (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ): بدئت الآية بكلمة (كَلاَّ) لوعيد ذلك الناهي -وهو أَبو جهل- وزجره حيث إِنه سبحانه له بالرصاد، كما قال تعالى: "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ" أَي: والله لئن لم ينته عمَّا هو عليه بتركه والابتعاد عنه (لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) أَي: لنأْخذن بناصيته ولَنَسْحَبَنَّهُ بها إِلى النار، لنذلنه بذلك الإِذلال الشديد. يقال: سفعت بالشيءٍ: إِذا قبضت عليه وجذبته بشدة، والمراد بالناصية: شعر مقدم الرأْس، وقيل: المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر، وفيه بشارة بأَنه تعالى يمكِّن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إِن لم ينته، وقد فعل - عز وجل- (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) بدل من الناصية، أَي: هي ناصية وصفت بالكذب وبتعمد الخطإِ على الإِسناد المجازي، وهما لصاحبها حقيقة، وذلك يفيد المبالغة، حيث يدل على وصفه بذلك بطريق الأولى، ويفيد أَنه لشدة كذبه وخطئه، كأَنَّ كل جزء من أَجزائه يكذب ويخطي، وفي هذا الإِسناد من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصيةُ كاذب خاطئ. 17، 18 - (فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ): هذا إِشارة إِلى ما صح من أَن أَبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي فقال: أَلم أَنهك، فأَغلظ -عليه الصلاة والسلام- له. فقال: أَتهددني, وأَنا أَكثر أَهل الوادي ناديًا، فنزل (فَلْيَدْعُ نَادِيَه) فالأَمر للتعجيز، إِشارة إِلى أَنه لا يقدر على ذلك، ولا يستطيعه، أَي: فليدع أَهله وعشيرته لنصرته في إِيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنعه من الصلاة في المسجد إِن قدروا على ذلك، والنادي وكذلك الندي: المكان الذي ينتدى فيه القوم، أَي يجتمعون للحديث، والإِسناد مجازي (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) أَي: ملائكة العذاب، وهم غلاظ شداد، ليجروه إلى النار، ويلقوه فيها، والزنانية في الأَصل عند العرب: الشُّرَط، واحدها: شَرْطي،

وهم أَعوان الأَمير من الزبن وهو الدفع، وسميت ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إِلى النار. قال ابن عباس: لو دعا نادية، لأَخذته ملائكة العذاب من ساعته. 19 - (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ): (كَلاَّ) ردع لذلك اللَّعين بعد ردع، وزجر له إِثر زجر (لا تُطِعْهُ) فيما دعاك إِليه من ترك العبادة، ودُمْ على ما أَنت عليه من معاصاته والإِعراض عنه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أَي: وصل لله تعالى، وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث بما صدر عنه من تهديد ووعِيد، وتقرب إِلى ربك بطاعته، والامتثال إِلى أَمره ونهيه، وفي الحديث الذي خرجه مسلم وغيره ما يشير إِلى فضل السجود إِذ يقول صلى الله عليه وسلم: "أَقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" والله أَعلم.

سورة القدر

سورة القدر وهي مكية، وآياتها خمس آيات وسميت بذلك لتكرار ذكر ليلة القدر فيها، وعظم شرفها مناسبتها لما قبلها: لَمَّا كانت كالتعليل للأَمر بقراءَة القرآن في بدءِ السورة السابقة (العلق). كأَنه قبل: اقرأْ القرآن لأَن قدره عظيم، وشأْنه فخيم، لذلك ذكرت هذه عقب تلك. أَهم مقاصدها: 1 - تحدثت عن بدءِ نزول القرآن، وأَنه كان في ليلة القدر: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). 2 - أَبرزت الشرف العظيم لتلك الليلة على العدد الكثير من الأَيام والليالي لما فيها، من الأنوار والنفحات الربانية: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ". 3 - أَكدت علوَّ قدر هذه الليلة. يتنزل الملائكة المقربين من عند الرحمن من أَجل كل أَمر قدره الله لتلك السنة إِلى قابل: "تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ". 4 - أَشارت في ختامها إِلى أَن سلام الملائكة على أَهل الإِيمان مستمر إِلى طلوع الفجر: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)) المفردات: (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَي: ليلة تقدير الأُمور وقضائها، والقدر: بمعنى التقدير، وهي بذلك تشرف وتفضل سائر الليالي. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أَي: لم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها العظيم. (وَالرُّوحُ فِيهَا) أَي: جبريل - عليه السلام - أَو خلق من خلق الله لم يُر مثلهم. (سَلامٌ هِيَ): أي: أَنها سلام من كل أَمر مخوف إلى مطلع الفجر. أَو تسليم من الملائكة على المؤمنين إِلى تلك الغاية. التفسير 1 - (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): يخبر الله تعالى بأَنه -سبحانه- عظم القرآن الكريم بإِسناد إِنزاله إليه -جل شأْنه- لا إِلى غيره، أَنزله -سبحانه- في ليلة مباركة كما قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ" (¬1) وهي ليلة القدر التي جعلها الله من ليالي شهر رمضان، كما قال سبحانه " شَهْرُ ¬

_ (¬1) سورة الدخان، الآية: 2

رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" (¬1) وفي إِسناد إِنزاله إِليه - سبحانه - مرتين في قوله: (إنا) وقوله: (أَنزلناه) مع تأْكيد الجملة في الآية الكريمة مزيد من التعظيم والتفخيم مع إِفادة اختصاص الإِنزال به تعالى كما قال الزمخشري. وفي التعبير عن القرآن بضمير الغائب في "أَنزَلْنَاهُ" مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أَي: تعظيم؛ لما أَنه يُشعر بأَنه لعلو شأْنه كأَنه حاضر عند كل أَحد، والمراد: ابتدأَنا في تلك الليلة إِنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ): تعظيم لليلة القدر التي خصها - تعالى - بإنزال القرآن، أَي: ولم تبلغ درايتك غاية فضلها؛ لأَن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يَعْلَم ذلك، ولا يُعْلِمُ به إِلاَّ علاَّم الغيوب، كما يشعر به قوله تعالى: 3 - (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ): بيان إِجمالي لشأْنها إِثر تشويقه -عليه الصلاة والسلام- إِلى درايتها بقوله: "وَمَا أَدْرَاكَ" فإِن ذلك معرب بالوعد بإِدراكها وإِعلام الله له صلى الله عليه وسلم بها. وقد روي عن سفيان بن عيينة أَمر أَن كل ما في القرآن من قوله تعالى: "وَمَا أَدْرَاكَ" أَعلم به الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه: (وَمَا يُدْرِيكَ) لم يعلمه - عز وجل- به أَي: هي خير من أَلف شهر ليس فيها ليلة القدر، وسبب ارتقائها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من إِنزال القرآن، وتنزل الملائكة والروح فيها، وفصل كل أَمر حكيم، ولذلك فإِن العبادة فيها أَكثر ثوابًا، وأَعظم فضلًا من العبادة في أَشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر، والعمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان والمكان، وكيفية الأداءِ، وهو اختيار ابن جرير، وهو الصواب كما يقول ابن كثير. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية: 185.

وذكر في تخصيص خيريتها على هذه المدة أَن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إِسرائيل لبس السلاح في سبيل الله أَلف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، وتقاصرت إِليهم أَعمالهم. فأُعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي. وقد روي ذلك عن مجاهد. وقيل: المراد من الأَلف التكثير كما في قوله تعالى: "يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ" (¬1). وقد نزل القرآن -كما روي عن ابن عباس- جملة واحدة من اللَّوح المحفوظ إِلى بيت العزة من السماءِ الدنيا. ثم نزل به جبريل مفصلًا حسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم بما روي عن ابن عباس، بل حكى بعضهم الإِجماع عليه، نعم لا يبعده القول بأَن السفرة هناك نجموه لجبريل -عليه السلام - وكان ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا في ثلاث وعشرين سنة، وفي رواية أُخرى عن ابن عباس: أَنه أُنزل في ليلة القدر جملة واحدة من السماءِ الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إِثر بعض، ومعنى إِنزال القرآن من اللوح المحفوظ: إِظهاره من عالم الغيب إِلى عالم الشهادة، أَو إِثباته لدي السفرة هناك أَو نحو ذلك. واختلفت في الوقت الذي تلتمس فيه ليلة القدر. فقيل: إِنها في العشر الأَواخر من رمضان، وقيل: إِنها ليلة سبع وعشرين؛ لما رواه مسلم في صحيحه عن أُبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنها ليلة سبع وعشرين، وقيل: إِنها ليلة ثلاث وعشرين، وقيل: إِنها ليلة أَربع وعشرين. والأَقوال فيها مختلفة جدًا، إِلا أَن الأَكثرين على أَنها في العشر الأواخر لكثرة الأَحاديث الصحيحة في ذلك. وأَكثرهم على أَنها في أَوتارها وكثير إِلى أنها الليلة السابعة والعشرون. والحكمة في إِخفائها أَن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها، فيحيي ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر. فتلاحى رجلان فرفعت أَي: رفع تعيينها -وعسى أَن يكون خيرًا لكم. ¬

_ (¬1) البقرة، من الآية: 96.

4 - (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ): استئناف مبين لمناط خيريتها على تلك المدة المتطاولة المقدرة بأَلف شهر، أَي: تتنزل فيها الملائكة من كل سماءِ إِلى الأَرض، أَو إِلى السماء الدنيا، مع البركة والرحمة. وينزل معها الروح وهو جبريل - عليه السلام - كما قال الجمهور، وخص بالذكر لزيادة شرفه، وعلو قدره فضلا على أَنه النازل بالذكر، وقيل الروح -كما قال كعب ومقاتل-: طائفة من الملائكة. لا تُرى إِلا في تلك الليلة وقيل: حفظة على الملائكة كالحفظة علينا، وقيل: المراد به الرحمة كما قرئ (إِنَّهُ لَاَ يَيْئَسُ مِن رُّوحِ الله) بالضم. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أَي: ملتبسين بإِذن ربهم، أَي: بأَمره. والتقييد بذلك لتعظيم أَمر تنزلهم من أَجل كل أَمر قضاه الله لتلك السنة إِلى قابل، وأَظهره - سبحانه وتعالى - لملائكته، وقيل: تقييد التنزيل بالإِذن للإِشارة إِلى أَنهم يرغبون في أَهل الأَرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم، فيستأَذنون فيؤذن لهم، وفي ذلك حث للمؤمنين على العمل، وترغيب لهم في الطاعة للحظوة بهذا اللقاءِ الكريم. 5 - (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ): أَي: ما ليلة القدر إلا سلامة وخير كلها، لا شر فيها، قال الضحاك في معنى ذلك إنه لا يقدِّر الله في تلك الليلة إِلا السلامة وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة. وقال مجاهد: إِنها سالمة من الشيطان وأذاه، أَو أَن المراد كونها سببًا تامًا للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة، كما ورد أَن من قامها إِيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. وقيل المعنى: ما هي إِلاَّ سلام، أَي: تسليم، وذلك لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين، فلا يلقون مؤمنًا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه، روي عن الشعبي ومنصور، وتستمر السلامة فيها من المهالك، ووسوسة الشيطان، وتسليم الملائكة على المؤمنين القائمين فيها إِلى غاية هي وقت طلوع الفجر أَي: هي ليلة كلها سلام وأَمن وكلها خير وبركة من مبدئها إِلى نهايتها. أَو أَن تنزل الملائكة فوجًا بعد فوج يتتابع إِلى طلوع الفجر.

سورة البينة

سورة البينة وتسمى سورة القيامة، وسورة لم يكن، وسورة البرية وهي مدنية، وآياتها ثمان مناسبتها لما قبلها: هي أَن قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) إِلخ .. كان كالتعليل لإِنزال القرآن، كأَنه قيل: إِنا أَنزلناه لأَنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأْتيهم رسول يتلو صحفًا مطهرة؛ لذلك وقعت تالية للسورة السابقة. أَهم مقاصد السورة: 1 - بينت تمرد أَهل الكتاب -اليهود والنصارى- على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أَن ظهر لهم الحق، وسطعت أَنواره بما عرفوا من الأَوصاف المذكورة في كتبهم للنبي المبعوث آخر الزمان وكانوا ينتظرون بعثته، فلما بُعث كفروا وعاندوا: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ ... ) الآيات. 2 - تحدث عن أَهم عناصر الإِيمان التي أُمورا بها، وهي إِخلاص العبادة لله العلي الكبير، والتوجه إِليه سبحانه في جميع الأَقوال والأَفعال مائلين عن كل دين يخالف دين التوحيد: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ .. ) الآية. 3 - أَبرزت بيان ما ينتظر شر البرية من كفرة أَهل الكتاب والمشركين في الآخرة من عذاب أَليم، وخلود في نار الجحيم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .. ) الآية. 4 - وختمت بالإِشادة بخير البرية. أَهل المنازل العالية الذين أَطاعوا الله حق طاعته، وتحدثت عن جزائهم في الآخرة لقاءَ اتصافهم بخشية ربهم وحسن مراقبته: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ .... ) الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) المفردات: (أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى. (وَالْمُشْرِكِينَ): وعبدة الأَصنام والنيران من العرب والعجم. (مُنفَكِّينَ) أَي: لم يكونوا منتهين ولا مفارقين لما كانوا عليه. (الْبَيِّنَةُ): الحجة الواضحة. (يَتْلُوا): يقرأ عليهم من حفظه (صُحُفًا مُطَهَّرَةً) أَي: صحفًا من القرآن منزهة عن الباطل والشبهات. (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أَي: في الصحف أَحكام لا عوج فيها تبين الحق من الباطل. (حُنَفَاءَ): مائلين عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق. (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أَي: دين الملة المستقيمة.

التفسير 1 - 3 (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ): أَي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أَهل الكتاب -اليهود والنصارى والمشركين وهم عبدة الأَصنام والنيران من مشركي العرب والعجم، لم يكونوا منتهين ولا مفارقين ما عاهدوا الله عليه من الوعد باتياع الحق والإِيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان، والعزم على إِنجاز هذا الوعد (حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ) أَي: إِلى أَن تأْتيهم الحجة الواضحة، والمراد بها محمد صلى الله عليه وسلم أَي: إِنهم جعلوا إتيان البينة ميقاتًا لتنفيذ وعدهم بالإِيمان بالنبي الذي تحدثت عن بعثته كتبهم، وكان مقتضى ذلك أَن يؤمنوا به إِذا بعث فيهم مؤيدًا بالقرآن، ولكنهم افترقوا في أَمره، وجعلوا إِتيانه ميقاتًا للانفكاك والاقتران واختلاف الوعد. فآمن بعضهم بنبوته وأَنكرها بعضهم بغيًا وحسدًا. وكان أَهل الكتاب يستفتحون على المشركين، ويقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وذلك لما يجدونه في التوراة والإِنجيل من نعوته وأَمارات بعثه، وكان المشركون يسمعون ذلك منهم فاعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصر الله لهم على أَعدائهم، وكانوا يسألون اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو النبي المذكور في كتبهم، وإِيراد الصلة فعلا في قوله تعالى "الَّذِينَ كَفَرُوا" للإِشارة إِلى أَن كفرهم حادث بعد أَنبيائهم بإِلحادهم في صفات الله عز وجل (رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) بيان للبينة، وأَن المراد منها محمد صلى الله عليه وسلم وتنوينه للإِيذان بغاية ظهور أَمره، وأَنه حقيق بالتفخيم والتعظيم، وفي وصفه بأَنه (من الله) تأْكيد لما أَفاده التنوين في (رسول) من الفخامة الذاتية وذلك بالفخامة الإضافية إِلى الله تعالى، أَي: رسول وأَي رسول كائن من الله تعالى يتلو عليهم صفحا من القرآن مما حفظه عند التلقي من جبريل - عليه السلام - منزهة عن الباطل، أَو المراد بتطهيرها: تطهير من يمسها كأَنه قيل: "لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، آية 79.

(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أَي: وفي تلك الصحف أَحكام مكتوبة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل وقيل: المراد بالكتب التي فيها، هي كُتُب الأَنبياء السابقين، لأَن القرآن مصدق لها. فكأَنَّها فيه لا سيما وأَنه قد جمع ثمرتها. 4 - (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ): هذا ظاهر في أن كفرهم قد زاد، فمنهم من أَنكر نبوته صلى الله عليه وسلم ظلمًا وحسدًا، ومنهم من آمن وأَطاع. قال جار الله: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل البعث: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإِنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم أي: إِنهم كانوا يعدون باتفاق الكلمة، والاجتماع على الحق إِذا جاءَهم صلى الله عليه وسلم ثم ما فرقهم عن الحق، وأَقر بعضهم على الكفر إلا مجيؤه، والآية كلام مسوق لمزيد التشنيع على أَهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم ببيان أَن ما نسب إِليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه ما في الأَمر، بل كان بعد وضوح الحق، وانقطاع الأَعذار بالكلية، وهو السر في وصفهم بإِيتاءِ الكتاب المنبِئ عن كمال تمكنهم منه بمطالعته والإِحاطة بكل ما فيه من الأَحكام والأَخبار التي من جملتها نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كقوله تعالى: "وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ" (¬1). وإِنما أَفرد هنا أَهل الكتاب، بعد ما جمع بينهم وبين المشركين أَولا، وإِن كان التفرق من الفريقين، لأَن أَهل الكتاب كانوا على علم بأَمر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوده في كتبهم فإِذا وصف بالتفرق من له كتاب كان من لا كتاب له أَدخل في الوصف بذلك وقد اختلف أَهل الكتاب اختلافًا كثيرًا، كما جاءَ في الحديث المروي من طرق عن أَبي داود وابن ماجه ومسند أَحمد عن أَبي هريرة الذي يقول فيه: "إِنِّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ النَصَارَى اخْتَلَفُوا عَلى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" إِلى آخر الحديث. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، من الآية: 105.

(إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ) أَي: وما تفرقوا في وقت من الأَوقات إِلا من بعد ما تبينوا الحجة الواضحة الدالة على أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في كتبهم دلالة جلية لا شك فيها. وحاصل المعنى مختصرا: أَن أَهل الكتاب والمشركين ظلوا مستمسكين بما وعدوا به، وتعاهدوا عليه من الإِيمان بالنبي الموعود به في التوراة والإِنجيل لغاية هي بعثته صلى الله عليه وسلم التي جعلوها ميقاتًا للإِيمان به، واتباع النور الذي أَنزل معه تنفيذًا لما وعدوا به، وتعاهدوا عليه، وكان مقتضى ذلك أَن يؤمنوا به بعد بعثه، وينصروه نصرًا مؤزرًا، ولكنهم تفرقوا واختلفوا فمنهم من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم وهدي إِلى صرط مستقيم، منهم من أَعرض وجحد وأَنكرها طغيانًا وحسدًا. 5 - (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ): إِشارة لغاية قبح ما فعل اليهود والنصارى من تفرق في الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع أَنهم ما كلفوا بما كلفوا به في كتابهم لشيءٍ من الأَشياءِ إِلا بأَن يعبدوا الله، فتكون عبادة الله هي المأْمور بها فحسب (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَي: جاعلين دينهم خالصًا له تعالى، منزوهًا عن الشرك والنفاق (حُنَفَاءَ): مائلين عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق، مؤمنين بالرسل جميعًا، إِذ كانت ملتهم - عليه السلام - هي التوحيد، وهي الملة الحنيفية الحقة. (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) كما أُمروا بالصلاة والزكاةِ في شريعتهم، وعليه فالأَمر بهما ظاهر، وإِن أُريد ما في شريعتنا فمعنى أَمرهم بها في كتابهم: أَن أَمرهم باتباع شريعتنا أَمر لهم بجميع أَحكامها التي هما من جملتها. (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) إشارة إِلى ما ذكر من عبادة الله بالإِخلاص له، وإِقامة الشرائع

التي أُمروا بها، والميل عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق مع الإِيمان بجميع الرسل، أَي: ذلك هو دين الملة المستقيمة، أَو ذلك هو دين الحجج المستقيمة، أَو دين الكتب التي لا يأْتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، التي بعث بها -سبحانه- رسله. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)) المفردات: (كَفَرُوا): الكافر: هو من أعرض عن دين محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤْمن به. (وَالْمُشْرِكِينَ): هم الذين أَشركوا مع الله غيره في العبادة. (الْبَرِيَّةِ): الخليقة، من براه الله يبروه: خلقه، والمعنى لا يختلف عما في قراءَة من قرأَ بالهمز (البَرِيئَةِ). (عَدْنٍ) أَي: إِقامة. (وَرَضُوا عَنْهُ): فرحوا بما أَعطاهم. التفسير 6 - (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ): بيان الحال الفريقين -أَهل الكتاب والمشركين- في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا.

أَي: إِنهم في الآخرة في جهنم، بمعنى: يصيرون إِليها يوم القيامة، أَو إِنهم فيها الآن على معنى أَن ملابستهم لما يوجبها منزل منزلة ملابستهم لها أو يعذبون في قبورهم (خَالِدِينَ فِيهَا) أَي: إِن عذابهم فيها لا ينقطع وسيبقى أبدَ الآبدين، واشتراك الفريقين في الخلود لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية، فإِن جهنم دركات وعذابها أَلوان، فيُعذب أَهل الكتاب بنوع من العذاب في درك منها، ويُعذب المشركون في درك أَسفل منه بعذاب أَشد، لأَن الشرك ظلم عظيم، وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقًا في النار. (أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ): أَشير إِليهم باعتبار اتصافهم بما اقترفوه من القبائح المذكورة فهم بذلك شر الخليفة، والمراد أَنهم شر الناس أَعمالا لكفرهم مع علمهم بصحة رسالته صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم لمعجزاته الذاتية والخارجية، ولما أَقدموا عليه من تحريف الكلم عن مواضعه، وصد الناس عنه صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم له. فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار. 7 - 8 - (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)) بيان لمحاسن أَحوال المؤمنين إِثر بيان سوءِ حال الكافرين وفق المتبع في السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب، أَي: إِن الذين آمنوا إِيمانًا يقينيًا، قارن فيه التصديق القلبي العمل الصالح بالجوارح (أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أَي: هؤلاء المؤمنون المنعوتون ببلوغ الغاية من الشرف والفضيلة في الإِيمان والطاعة هم خير الناس ثوابًا حيث يكون (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أَي: إِن جزاءَهم في الآخرة بمقابلة مالهم من الإِيمان الصادق، والعمل الطيب جنات إِقامة تجري من تحت أَشجارها الملتفة، وأَغصانها المتشابكة، وبين قصورها العالية أَنهار صافية رقراقة لزيادة المتعة، وكمال النعيم، يتمتعون فيها بفنون النعم الجسمانية والروحانية، لا يموتون ولا يخرجون منها، فهم في نعيم دائم لا ينقطع، والتعرض في قوله -سبحانه-: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والبلوغ بهم إِلى الكمال مع الإِضافة

إِلى ضميرهم، وجمع الجنات وتقييدها بالإِضافة إِلى عدن، وتأْبيد الخلود فيه من الدلالة الواضحة على حسن حالهم وعلو منزلتهم ما لا يخفي. (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) استئناف بياني وقع جوابًا لمن يقول: هل لهم بعد ذلك جزاءٌ، فأُجيب بالجملة السابقة، أَي: رضي الله عنهم بقبول أَعمالهم ومكافأَتهم عليها. (وَرَضُوا عَنْهُ) أَي: فرحوا بما أَعطاهم من الكرامة والنعيم الدائم، حيث بلغوا من المطالب قاصبها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأَتيح لهم ما لا عين رأَت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أَي: ما ذكر من الجزاءِ، والإِنعام لمن اتصف بخشية الله، وحسن مراقبته، فإِن الخشية التي هي من خصائص العلماءِ بشئون الله عز وجل مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية، ولولاها لم تترك المناهي والمعاصي، ولما كان الاستعداد ليوم يؤْخذ فيه بالنواصي والأَقدام. وفي ذلك إشارة إِلى مجرد الإِيمان والعمل الصالح ليس موصلا إِلى أَقصى المراتب، بل الموصل إِلى ذلك خشية الله عز وجل: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (¬1). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، من الآية: 28.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة هذه السورة مدنية، وعدد آياتها ثمان آيات، وسميت بذلك لافتتاحها بها مناسبتها لما قبلها: لما ذكر - سبحانه- في السورة السابقة جزاءَ الفريقين - المؤمنين خير البرية، والكافرين شر البرية، كان ذلك كالمحرك عن السؤال عن وقت ذلك الجزاء، فبينه - عز وجل- في هذه السورة. أَهم مقاصدها: تحدثت عن أحوال القيامة، وأَهوالها الشديدة بذكر الزلزال الشديد الذي يقع، بين يدي الساعة، فيحصل بسببه أُمور عجيبة، يندهش لها الإِنسان بما يرى من انهيار كل راسخ * وزوال كل شامخ، وإِخراج الأَرض لما فيها من موتى، وإِلقاءِ ما في بطنها من كنوز ودقائق، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها فتقول له: عملت يوم كذا كذا وذلك بإِيحاءِ ربك لها: (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ... ) الآيات. كما تحدثت أَيضًا عن خروج النَّاس من قبورهم وانصرافهم إِلى موقف الحساب، ليروا جزاءَ الطاعة، وعقوبة المعصية اللتين قدرتا التقدير العادل، وضبطتا الضبط الدقيق، ليتبينوا مصيرهم، هل هو إِلي الجنة أَو إِلى السعير؟ جزاءً وفاقا لما عملوا: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ... ) الآيات.

بسم الله الرحمن الرحيم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) المفردات: (زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا): أَي: حركت تحريكًا عنيفا بالغ الغاية في الشدة. (أَثْقَالَهَا) أَي: كنوزها وموتاها وكل ما في بطنها، جمع ثِقْل -بكسر وإِسكان- وهو الحمل الثقيل: وقيل: جمع ثقل -بالتحريك- وهو كل نفيس مصون. (يَصْدُرُ) ينصرف، يقال: صدر الناس عن الوِرد، أَي: انصرفوا عنه. (أَشْتَاتًا): متفرقين، جمع شتيت، أَي: متفرق. (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): أي: مقدار وزن نملة صغيرة، أَو مقدار وزن ذرة مما يرى في شعاع الشمس الداخل من الكوة، وهو الهباء.

التفسير 1 - 3 - (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا): أَي: إِذا حركت الأَرض تحريكًا عنيفًا ليس له ما يشبهه أَو يدانيه في الهول والشدة، إِذ هو مخصوص بها حسبما تقتضيه المشيئة الإِلهية المنبئة على الحكم البالغة. أَو المعنى: إذا حركت تحريكًا عجبيًا لا يقادر قدره، ولا يستبان كنهه. وذلك عند نفخة البعث؛ لقوله تعالى: (وأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) أَي: لفظت بسبب الزلزال كنوزها وموتاها أَحياءً للحساب والجزاءِ. روي ذلك عن النقاش، والزجاج، منذر بن سعيد، واقتصر بعضهم على تفسير الأَثقال بالكنوز وقال: تخرج الأَرض كنوزها يوم القيامة ليراها أَهل الموقف، فيتحسر العصاة إِذا نظروا إِليها، حيث عصوا الله فيها، ثم تركوها لا تغني عنهم شيئًا، وعليه فالأَثقال جمع ثقل -بالتحريك- وهو كل نفيس مصون. (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) أَي: ما بالها زلزلت هذه الشدة، ولفظت ما في بطنها، قال ذلك كل فرد من أَفراد الإِنسان عند الزلزلة والعودة إِلى الحياة، لما شاهدوا من الأَمر الهائل الذي بهرهم لفظاعته، حيث سيرت الجبال في الجو، وصيرت هباءً، على أَن المؤْمن يقول ذلك بطريق الاستعظام، والكافر يقوله بطريق التعجب، وقيل: هذا قول الكافر؛ لأَنه كان لا يؤمن بالبعث، وأَما المؤمن فيقول: "هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" (¬1). 4، 5 - (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا): أَي: يوم إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا الشديد المتكرر تحدث الخلق أخبارها. قيل: ينطقها الله حقيقة، فتخبر بطريق المقال بما عُمِلَ عليها من خير وشر، وتشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها، ويشهد لذلك ما أَخرجه الإِمام أَحمد والترمذي عن أَبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ثم قال: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارَهَا"؟ قالوا: اللهُ وَرسولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلى كل عَبْد وأَمَة ¬

_ (¬1) سورة يس، من الآية: 52.

بِمَا عَمِلَ ظَهْرِهَا فَتَقُولُ: عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أَخرجت من أَثقالها، ويشهد له ما في حديث ابن ماجه في سننه: "تَقُولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَارَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي" وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إِذا قال الإِنسان: ما لها، فتخبر أَن أَمر الدنيا قد انقضى وأَمر الآخرة قد أَتى. فيكون ذلك جوابًا عند سؤَالهم، إِلى غير ذلك مما قيل. وقيل: يكون تحديثها بطريق الحال، حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأَجله وقع زلزالها وإِخراج أَثقالها، وذلك بما يخلق الله فيها من الأَحوال التي تقوم مقام الحديث باللسان، حتى ينظر من يقول: ما لها؟ إِلى تلك الأَحوال، فيعلم لِمَ زلزلت؟ ولم لفظت أَثقالها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (بمعنى أَنها تحدث أَخبارها بسبب إِيحاءِ الله لها، وأَمره - سبحانه- إِياها بالتحدث عن أَخبارها، فالمراد من الوحي: الإِيحاءِ والإِلهام، كما أَوحى الله إِلى أُم موسى، وقيل: الوحي إِليها: وحي إِرسال، بأَن يرسل إِليها -عزَّ وجل - رسولا من الملائكة بذلك فتعيه وتعمل بمقتضاه وفق تقدير العزيز العليم. 6 - (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ): أَي: يوم إِن يقع ما ذكر يخرج الناس من قبورهم، وينصرفون إِلى موقف الحساب متفرقين بحسب أَعمالهم، بيض الوجوه فزعين، ومقيدين بالسلاسل، وغير مقيدين، ليبصروا أَجزية أَعمالهم خيرًا كانت أَو شرًا، وتجسم لهم الأَعمال نورانية وظلمانية كما قيل، وقيل: ليعرفوا أَعمالهم، ويقفوا عليها تفصيلا عند الحساب، وعليه فلا حاجة إِلى تجسيمها؛ لأَن الرؤية علمية، وليست بصرية. وقيل: ينصرفون من موقف الحساب متفرقين؛ فآخذ جهة اليمين إِلى الجنة، وآخذ جهة الشمال إلى النار، وعن ابن عباس: أَهل الإِيمان على حدة، وأَهل كل دين على حدة. 7، 8 - (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه): تفصيل للرائين وما يرونه من الأَعمال خيرها وشرها. وسبب النزول -على ما أَخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن جبير- أَنه لما نزل "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّه" كان المسلمون

يرون أَنهم لا يؤْجرون على الشيءِ القليل إِذا أَعطوه، فيجيءُ المسكين إِلى أَبوابهم، فيستقلون أَن يعطوه التمرة والبسرة، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيءٍ، إِنما نؤْجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان آخرون يرون أَنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأَشباه ذلك، ويقولون: إِنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآيتان ترغبانهم في القليل من الخير أَن يعلموه، وتحذرانهم اليسير من الشر أَن يأْتوا به ويعملوه. وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتصدقون بعد نزول الآيتين بالقليل والكثير وبما عزَّ وهان، لا يدخرون في ذلك وسعًا، أُسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد، أَخرج الزجاجي في أَماليه عن أَنس بن مالك أَن سائلا أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فأَعطاه تمرة، فقال السائل: نبي من الأَنبياء يتصدق بتمرة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ كَثِيرَةٍ) وجاءَ أَنه عليه الصلاة والسلام - قال: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة). والمعنى: فمن يعمل -من مؤْمن أَو كافر- خيرًا أَو شرًّا يَرَ جزاءَ عمله يوم الحساب، ولو كان ما عمله يعادل في القلة وزن ذرة أي: أَقل شيءٍ يعرفونه، قيل: هي النملة الصغيرة وقيل: هي واحدة الذر، وهو الهباءَ الذي يُرى في شعاع الشمس الداخل من كوة، وروى عن ابن عباس أَنه أَدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال: كل من هؤلاء مثقال ذرة، كما روي عنه أَيضًا في شرح الآية أَنه قال: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أَو شرًّا في الدنيا إلاَّ أراه الله إِيَّاه يوم القيامة، فأَما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته -أَي: إذا كان مجتنبًا للكبائر- ويثيبه على حسناته، وأَما الكافر فيرى كذلك حسناته وسيئاته، فيرد الله حسناته، ويعذبه بسيئاته. وقيل في معنى رد حسناته: إِنه لا يثاب عليها لكفره، وهو محبط للعمل، لكنه يخفف عنه العذاب؛ للأَحاديث الصحيحة، فقد ورد أَن حاتمًا يخفف عنه العذاب لكرمه، وأَن أَبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه جاريته "ثويبة" حين بشرته بذلك، والحديث في تخفيف عذاب أَبي طالب مشهور كما قالوا، ويشيرون إِلى الحديث الذي روي بطرق في البخاري: حدثنا مسدد بسنده عن العباس بن عبد المطلب

- رضي الله عنه - قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أَغنيت عن عمك؟ فإِنه كان يحوطك ويغضب لك قال: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"، وفي البخاري أيضًا عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري أَنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه: (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ) وتحدث مسلم عن ذلك في باب الشفاعة من صحيحة. وقيل في معنى إِحباط عمل الكفار: إِنه لا ينجيهم من العذاب المخلد كأَعمال غيرهم، وهو معنى (هباء) في الآية الكريمة: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" (¬1) وبظاهرها استدل قوم على حبوط جميع أَعمال الكافر لكفره، فلا ينتفع منها بشيءٍ، وادُّعي في شرح المقاصد الإِجماع على ذلك، ورده الآلوسي فقال: ودعوى الإِجماع على إِحباطها بالكلية غير تامة، كيف وهم مطالبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقًا، ولا شك أَنه لا معنى للخطاب بها إِلَّا عقاب تاركها، وثواب فاعلها، وأَقله التخفيف، وإِلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الخفاجي عليه الرحمة أ. هـ ونقل عن التبصرة في شرح المشارق، وتفسير الثعلبي: أَن أَعمال الكفرة الحسنة التي لا تحتاج إِلى اشتراط الإِيمان: كإِنحاءِ الغريق، وإِطفاءِ الحريق، وإِطعام ابن السبيل، يُجْزَون عليها في الدنيا، ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإِجماع للتصريح به في الأَحاديث وعليه فالكافر يرى جزاءَ خيره في الدنيا في نفسه وماله وأَهله، ويعذب بِشَرِّه في الآخرة، والمؤمن يرى جزاءَ شرِّه في الدنيا بما يبتلى به ممَّا يكره، ويرى جزاءَ خيره في الآخرة، روي عن أَبي أَيوب أَنه صلى الله عليه وسلم قال له إِذ رفع يده: (مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ خَيرًا فجَزَاؤُه في الآخِرَةِ، ومَنْ عَمِلَ مِنكُمْ شَرًّا يَرَهُ فِي الدُّنْيَا مُصِيبَاتٍ وَأَمْرَاضًا، وَمن يكن فِيهِ مِثْقَالُ ذرةٍ من خَيرٍ دَخَلَ الْجَنَّة) وتقديم عمل الخير في الآية لأَنه أشرف القسمين والمقصود بالأَصالة، وليس في الآية تكرار؛ لأَن الأَول متصل بقوله: (خَيْرًا يَرَه) والثاني متصل بقوله: (شَرًّا يَرَه) والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية رقم: 23.

سورة العاديات

سورة العاديات وهي مكية، وآياتها إحدى عشرة آية مناسبتها لما قبلها: لَمَّا ذكر - سبحانه وتعالى - في السورة التي قبلها (سورة الزلزلة) الجزاءَ على الخير والشر. أَتبع ذلك في هذه السورة (سورة العاديات) بتوبيخ مَنْ آثر دنياه على آخرته، ولمن يستعد ليوم القيامة بعمل الخير في دنياه. مقاصد السورة: 1 - بُدئت السورة الكريمة بالقسم بخيل الجهاد على أَن الإِنسان لكفور بنعمة ربه: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا .. ) إلى قوله تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). 2 - ثم ذكرت أن الإِنسان لشهيد على نفسه بذلك يوم القيامة، وأَنه محب للمال حريص عليه (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). 3 - وختمت السورة بذكر البعث وما فيه من جزاءٍ وثواب وعقاب: (أَفلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ... ) الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)) المفردات: (الْعَادِيَاتِ): الخيل تعدو في الغزو، واحدتها: عَادِيَةَ، من العَدْو، وهو الجري. (ضَبْحًا): الضَّبْح؛ صوت أَنفاس الخيل عند عَدْوِها. (فَالْمُورِيَاتِ): واحدها موريَة، من الإِيراءِ، وهو إِخراج النار. (قَدْحًا): القدح؛ الضرب والصك المعروف، يقال: قدح فَأَوْرَى: إِذا أَخرج النار، وقدح فَأَصْلَد: إذا لم يخرجها. (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا): فالخيل تُغِير على العدو مُبَاغتة في وقت الصباح، واحدها: مُغيرة، من أَغَار على العدو: إذا هجم عليه بغتة. (فَأَثَرْنَ): من الإِثارة وهي تهييج وتحريك الغبار. (نَقْعًا): الغبار، وقيل: رفع الصوت. (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا): فوسطن، بمعنى توسطن، أَي: صِرْن وسطه بِه، أَي: بذلك الوقت، أَو النقع.

(جَمْعًا): من جموع الأعداءِ. (لَكَنُودٌ): لكفور جَحُود، من كَنَدَ النعمة: كَفَرها ولم يشكرها، وأَصل الكنود: الأَرض التي لا تنبت شيئًا، شبه بها الإِنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات. (الْخَيْرِ): المال. (لَشَدِيدٌ): لبخيل، أَو لَقَويّ. (بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ): أُخرج وأُثير ما في الأَموات، أَي: بعثوا. (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ:) أَي؛ أُظهر ما في القلوب مُحَصَّلًا مجموعًا، أو مُيِّز خيره من شره، فقد استعمل (حَصَّل الشيءَ) بمعنى مَيَّزه من غيره كما في البحر، وأصل التحصيل: إِخراج اللُّب من القشر، كإِخراج البُر من التبن. التفسير 1 - (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا): (وَالْعَادِيَاتِ) الجمهور على أَنه قسم بخَيْلِ الغزاة في سبيل الله تعالى التي تعدو، أَي: تجري مسرعة نحو العدو فتضبح (ضَبْحًا) والضبح: صوت أَنفاسها عند عَدْوِهَا، وأخرج ابن جرير عن على -كرم اللهُ وَجْهَه-: الضَّبح من الخيل الحمحمة. 2 - (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا): المراد بها الخيل أَيضًا، أَي: فالخيل التي تُوري النار وتخرج شَرَرَها من صدم حوافرها للحجارة، واندفاعها في سيرها عند الجري. 3 - (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا): أَي: فالخيل تُغِير على العدو وتعدو لتهجم عليه وقت الصباح، لأَخذه بغتة على غير أَهبة واستعداد، وفي وصف الله سبحانه للخيل بما سبق من أَنها العاديات المُوريات المُغيرات

إِشارة إِلى الغاية من اقتناء الخيل وهو الجهاد والفروسية والقوة، لا للخيلاءِ والزينة كما يفعل كثير من أغنياءِ هذا الزمان. 4 - (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا): أَي: فهيجت هذه الخيل، وأَثارت في مواقع العدو غبارًا شديدًا كثيفًا، ويجوز أَن يراد بالنفع: الصباح، أي: فهيجن في المُغار عليهم صياحًا وجلبة. 5 - (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا): المعنى: فتوسطن بذلك الرقت أَو النقع جمعًا من الأعداءِ، ففرقن صفوفه، وشَتَّتْنَ شمله، قال الآلوسي: والفاءَات كما في الإِرشاد للدلالة على ترتيب ما بعد كل منها على ما قبله، فَتَوَسُّط الجمع مترتب على الإِثارة المترتبة على الإيراءِ المُتَرَتِّب على العَدْو. 6 - (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ): هذا ذكر المحلوف عليه والمقسم به بتلك الأَيْمَانِ السابقة فقال: (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أَي: إِنَّ الإنسان طُبِع على نكران الحق وجحوده وكفران النعمة، وعدم شكر المنعم، وأَخرج البخاري في الأَدب المفرد، والحكيم الترمذي وغيرهما تفسير (الكنود) بالذي يمنع رِفْدَه، وينزل وحده، ويضرب عبده، والجمهور على تفسيره بالكفور. وكل ما ذكر يدخل تحت هذا العنوان وقيل: المراد بالإِنسان كافر معين، لما روي عن ابن عباس أَنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وقيل: المراد به كل الناس، على معنى أنَّ طبع الإنسان يحمله على ذلك إلَّا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه من ذلك، واختاره عصام الدين، وقال: فيه مدح للغزاة لسعيهم على خلاف طبعهم. 7 - (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ): أَي: وإِن الإنسان على كفره وكنوده وجحوده لنعم ربه في الآخرة لشهيد على نفسه معترف بذنوبه، وقال ابن عباس وقتادة: ضمير (إنه) عائد على الله تعالى، أي: وإِن

ربه -سبحانه وتعالى - شاهد عليه، فيكون الكلام على سبيل الوعيد والتهديد، واختاره التبريزي. 8 - (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ): أَي: وإِن الإِنسان لحبه المال وتعلقه به لشديد أَي: لبخيل، وتفسير الخير بالمال ورد بهذا المعنى في القرآن كثيرًا حتى زعم عكرمة: أَن الخير حيث وقع في القرآن هو المال، وخصه بعضهم بالمال الكثير، وفسر به قوله تعالى: "إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ" (¬1) وإطلاق كونه خيرًا على المال باعتبار ما يراه الناس، وإلَّا فمنه ما هو شر يوم القيامة. وجوز غير واحد أن يراد بالشديد: القوي، ولعله الأظهر، أَي: وإنه لقوي مبالغ في حبه للمال، والمراد قوة حبه له، قال الزمخشري: المعنى: وإِنه لحب المال وإيثاره الدنيا وطلبها قوي مُطِيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه سبحانه ضعيف متقاعس، وفي قول آخر للزمخشري في الكشاف: جواز أَن يراد بالخير هو ما عند الله من الطاعات، على أَن المعنى: وإِنه لحب الخيرات غير هاشٍّ منبسط، ولكنه شديد منقبض، ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله: 9 - (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ): تهديد ووعيد، والهمزة للإنكار، والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والمعنى: أيفعل ما يفعل من القبائح فلا يعلم مآله إِذا بعثر ونُثر مَنْ في القبور من الموتى، أي: بعثوا. 10 - (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ): أَي: جُمع ما في القلوب من خير اكتسبوه، وشر اقترفوه، أَو أُظهر كإِظهار اللُّب من القشر، أو مُيِّز خيره من شره، وقد سجله الله عليهم في صحفهم، وتخصيص (مَا فِي الصُّدُورِ) أي: القلوب، لأنه الأَصل لأَعمال الجوارح، ولذا كانت الأَعمال بالنيات. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، من الآية 180.

11 - (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ): أَي: إن مربيهم وخالقهم خبير بأَعمالهم وجزائهم يوم البعث والحساب، أي عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه، ومجازيهم عليه. قال الزمخشري: معنى علمه بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم، لأَن ذلك أَثر علمه وخُبْره بهم.

سورة القارعة

سورة القارعة مكية وآيتها إحدى عشر آية مناسبتها لما قبلها: ختمت السورة السابقة (سورة العاديات) بذكر بعض أَوصاف يوم القيامة، وهذه السورة بأَسرها في وصف ذلك اليوم وما يكون فيه من أهوال. مقاصد السورة: 1 - بُدئت السورة الكريمة بتهويل شأْن القارعة التي تقرع الناس ويصك صوتها أَسماعهم: (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ... ) الآية. 2 - ثم ذكرت بعض أهوالها وما يحدث للناس وما تكون عليه الجبال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ... ).الآية 3 - وبينت جزاءَ الصالحين المؤمنين وجزاءَ الكافرين والمخالفين: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ .. ) الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم. (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) المفردات: (الْقَارِعَةُ): من أَسماء يوم القيامة كالحاقة والطَّامَّة، وقيل: صوت النفخة، وقال الضحاك: هي النار، وأيًّا ما كان فهي من القرع: وهو الضرب بشدة بحيث يحصل منه صوت شديد. (الْفَرَاشِ): قال في الصحاح؛ جمع فراشة التي تطير وتتهافت على النار، وقال الفراءُ: وهو غوغاءُ الجراد، سمي فراشًا لتفرشه وانتشاره. (الْمَبْثُوثِ): المتفرق المنتشر. (الْعِهْنِ): الصوف مطلقًا، أَو المصبوغ منه ذو الأَلوان. (الْمَنفُوشِ): المُفَرَّق بالأَصابع ونحوها. (ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): بأَن رجحت حسناته على سيئاته، قال الكشاف: الموازين: جمع موزون، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أَو جمع ميزان، وثقلها: رجحانها.

(عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) أي: عيشة يرضاها صاحبها وتطيب نفسه بها. (خَفَّتْ مَوَازِينُهُ): بأن رجحت سيئاته على حسناته - يقال: خَفَّ ميزانه، أي: سقطت قيمته فكأَنه ليس بشيءٍ. (فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ): فمأْواه جهنم. التفسير 1 - (الْقَارِعَةُ): الجمهور على أَنها القيامة نفسها، ومبدؤها النفخة الأُولى، ومنتهاها فصل القضاءِ بين الخلائق، وسمِّيت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها، كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر ومصائبه قارعة، قال تعالى: "وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ" (¬1) أَي: حادثة عظيمة تقرعهم وتصكهم. 2 - (مَا الْقَارِعَةُ): تهويل لشأْنها، أي: أَي شيءٍ عجيب هي في فخامتها وخطرها وفظاعتها؟! وهذا أُسلوب يراد به تهويل أمرها، كأنها لشدة ما يكون فيها من الأَهوال يصعب تصويرها ويتعذر إِدراك حقيقتها. 3 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ): ثم زاد أمرها تعظيمًا فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) أَي: وأي شيءٍ أَعلمك ما شأْن القارعة في شدة هولها على النفوس، كأنه لا شيء يحيط بها، مهما تخيلت أمرها، فهي أعظم من تقديرك وتوقُّعاتك، ولما ذكر سبحانه أَن إِدراك حقيقتها ممَّا لا سبيل إليه أَخذ يعرف بزمانها الذي تكون فيه، وما يحدث للناس حينئذ من الأَهوال فقال: ¬

_ (¬1) سورة الرعد، من الآية: 31.

4 - (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ): قال صاحب التأْويلات: اختلفوا في تأْويله على وجوه، لكن كلها ترجع إلى معنى واحد وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم، واختار غير واحد أن المراد بالفراش المبثوت: الحشرة الصغيرة التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلًا، وبها يضرب المثل في الجهل بالعاقبة شُبَّهُوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهابِ على غير نظام والتَّطايُرِ إلى الداعي من كل جهة حين يُدْعَوْن إلى المحشر -شبهوا- بالفراش المتفرق المتطاير. 5 - (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ): أي: إنّ الجبال -وهي الثقيلة والقوية والتماسك- تصير في ذلك اليوم خفيفة هشة كالصوف الذي نُفِش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أَضعف ريح، وإذا كان هذا هو حال ما يحصل لبعض الأَجسام العظيمة التي من طبيعتها الاستقرار والثبات لفخامتها وثقلها، فما بالك بما يحدث للإنسان، وهو المخلوق الضعيف؟! وفي هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما ترى، وبعد أن ذكر أَوصاف ذلك اليوم وبما يكون من أحوال بعض الخلائق فيه، أعقب ذلك بذكر الجزاءِ على الأعمال فقال: 6 - (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): هذا بيان لتحزُّب الناس وانقسامهم حزبين، وتنبيه على كيفية الأَحوال الخاصة بكل منها إشارة إِلى وزن الأعمال، وهو ممَّا يجب الإيمان به، ويكون هذا بعد تطاير الصحف وأَخذها بالأَيمان والشمائل، (وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي) وتوزن الأَعمال بميزان الله أعلم بماهيته وبكيفية الوزن، قال القرطبي، لا يكون الميزان في حق كل أَحد؛ لما في الحديث الصحيح الذي جاءَ فيه: "فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ"، وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أَعمالهم وإِنما يصب لهم الأَجر صبًّا، وأَنكر المعتزلة الوزن حقيقة، وكذلك أنكره جماعة من أهل السنة منهم مجاهد والضحاك والأعمش، وقالوا: إن الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل.

7 - (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ): أي: فهو في عيشة يرضاها صاحبها، تطيب نفسه بها لما يراه من النعيم، وما يلقاه من الثواب والتكريم. 8 - 9 - (وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ* فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ): أي: وأما من خفت موازينه بأَن لم تكن له حسنة يعتد بها أَو رجحت سيئاته على حسناته ممن كان في الدنيا عظيم لا خير فيه، أَكل خير الله وعبد غيره، وعاث في الأًرض فسادُا -لم يكن شيئًا له قيمة فلا ترجع له كفة ميزان لو وضع فيها- (يقال: خف ميزانه، أي: سقطت قيمته ومروءَته فكأنه ليس بشيءٍ، حتى لو وضع في كفة ميزان لم يرجح بها على أُختها). 9 - (فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ): أَي: فمأْواه (هَاوِيَةٌ) أُريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَة) فإنه تقرير لها بعد إبهامها، والإشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل، وذكر إن إطلاق (هاوية) على النار لغاية عمقها وبعد مهواها، وعبر عن المأْوى بالأُم على التشبيه بها، فالأُم مفزع الولد ومأواه، وفيه من التهكم ما فيه. 10 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ): أي: وما أعلمك ما الهاوية وأي شيءٍ تكون؟! والهاءُ للسكت ثم فسرها بعد إبهامها فقال: 11 - (نَارٌ حَامِيَةٌ): أي: هي نار حارة شديدة الحرارة، قوية اللَّهب والسَّعير، لا تبلغ حرارتَها أيةُ نار مهما سُعِّرت وأُلقي فيها من وقود، عن أَبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي

تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ". قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: "إِنَّها فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا" رواه البخاري، وروى مثله مسلم مع المخالفة في بعض الآلفاظ (ابن كثير). هذا وعلينا أن نؤمن بما ذكره الله تعالى من الميزان في هذه الآية، وفي مثل قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (¬1) ومن وزن الأَعمال وذلك لتمييز مقدار كل عمل وليلقى كلٌّ جزاءَ ما عمل، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك والله أعلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء، من الآية: 47.

سورة التكاثر

سورة التكاثر مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الكوثر مناسبتها لما قبلها: في السورة السابقة (سورة القارعة) جاءَ ذكر بعض أَهوال يوم القيامة وجزاءَ الأَخيار والأَشرار، وفي هذه السورة جاءَ ذكر الجحيم وهي الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، كما جاءَ السؤال عما قدم المرءُ من أَعمال وهذه بعض أَحوال الآخرة. مقاصد السورة: 1 - بدئت السورة الكريمة بتوبيخ النَّاس لأنهم شغلوا بالتكاثر في أُمور الدنيا عن العمل للآخرة حتى دهمتهم المنايا: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ). 2 - ثم أنذرتهم بما سيلقون يوم القيامة من معاينة النار: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) إلخ. 3 - ثم أنذرتهم بما يكون من سؤالهم عما كذبوا فيه من النعيم في الدنيا، وهل أَدوا حق شكره لواهب النعم: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ). بسم الله الرحمن الرحيم (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))

المفردات: (أَلْهَاكُمْ): شغلكم عن طاعة ربكم، من اللهو: وهو الغفلة، ثم شاع في كل شاغل، وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرءَ، وهو قريب من اللعب، ولذا ورد بمعناه كثيرًا، وقال الراغب: اللهو: ما يشغلك عما يعني ويهم. (التَّكَاثُرُ): التباري في الكثرة والتباهي بكثرة العدد والأَموال والأَولاد. (زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ): مُتُّم ودفنتم في القبور، أَو عددتم الموتى تكاثرًا. (كَلاَّ): كلمة ردع، أو بمعني حقًّا. (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ): لو تعلمون مآلكم علمًا يقينًا لما أَلهاكم التكاثر. (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أَي: والله لتشاهدُنَّ النار الموقدة: (دار العذاب). (ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) أَي: ثم لترونها رؤية يقينية مبعثها المشاهدة والمعاينة. (النَّعِيمِ): كل ما يتلذذ من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وغير ذلك. التفسير 1 - 2 - (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ): أي: شغلكم عن الجد والاجتهاد وصرفكم عن العمل للآخرة تَبَاهِيكم بالأَنصار والأَولاد وتفاخركم بالأموال والأحساب والأنساب، والتَّبَارِي في كثرة العدد، بأَن يقول هؤُلاء: نحن أكثر هؤُلاءِ: نحن أكثر، حتى إذا استدعيتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر مَن فيها فتكاثرتم بالأموات. أَخراج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأَنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟! وقال الآخرون مثل ذلك -تفاخروا بالأحياءِ- ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثلا فلان تشير إلى القبر ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأَنزل الله

تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) وزيادة المقابر على ما تقدم على ظاهرها، وقيل المراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت وأنتم لاهون عن العمل لآخرتكم، وزيادة القبور على هذا عبارة عن الموت. قال الآلوسي: وفي هذا إشارة إلى تحقق البعث، يحكى أن أعرابيًّا سمع ذلك فقال: بعث القوم ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم، وعن عمر بن عبد العزيز أَنه قال: لا بد لمن زار أن يراجع إلى جنة أو نار، وفيه أيضًا إشارة إلى قصر زمن اللبث في المقابر، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، قال ابن كثير: والصحيح أَن المراد بقوله تعالى: (زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) أَي: صرتم إليها ودفنتم فيها -روى أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) في الأموال والأولاد عن الطاعة (حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) أي: حَتَّى يَأْتِيكُمُ المَوتُ، ثم نبههم إلى خطأ ما هم فيه، وزجرهم عن البقاءِ على تلك الحال التي تنتهي إلى وخيم العاقبة فقال: 3 - (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ): كَلاَّ: أَي؛ ارتدعوا عن الاشتغال بما لا يعينكم وانتبهوا إلى ما وقعتم فيه من خطأ. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ): وتعرفون سوءَ مغبة ما أَنتم عليه إذا عاينتم عاقبته وشاهدتم جزاءَه، ونزل بكم عقابة، وهذا إنذار لهم ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم، ثم أَكد هذا وزاد في التهديد فقال: 4 - (ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ): وعيد بعد وعيد والتكوير تأْكيد للردع والإنذار لهم، و (ثُمَّ) للدلالة على أن الإنذار الثاني أَبلغ من الأَول وأَشد كما يقول العظيم لعبده: أَقول لك ثم أَقول لك: لا تفعل. والمعنى: سوف تعلمون خطأَ ما أَنتم عليه إذا عاينتم ما قُدَّامكم من أهوال الآخرة، وإِن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة بكم، وقال على كرم الله وجهه: الزجر الأَول في القبور،

والثاني في النشور، فلا تكرار، فالتراخي على ظاهره، وقال الضَّحاك: الزجر الأَول للكافرين والثاني للمؤْمنين، ثم كرّر التنبيه أيضًا فقال: 5 - (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ): أي: ارتدعوا عن تغريركم بأَنفسكم فإنكم لو تعلمون يقينًا سوءَ مصيركم وعاقبة أمركم وما يُفْضِي إليه حالكم لفزعتم من تكاثركم وَلَشَغَلَكم هذا عن افتخاركم بأموالكم وأولادكم، وتزودتم بالعمل الصالح لآخرتكم ومآلكم. وإنما ذكر - سبحانه تعالى - هذا زيادة في زجرهم لتغريريهم بأَنفسهم، وخداعهم لها فقد جرت عادة الغافلين أنهم يدعون اليقظة والمعرفة إذا ذكِّروا بغفلتهم، ثم ذكر لهم بعض ما يفضي إليه هذا اللهو وهو عذاب الآخرة بعد خزي الدنيا فقال: 6 - (لَتَرَوْنَّ الْجَحِيمَ): أي: أُقسم لكم وأُؤَكد -أيها الناس- أنكم ستشاهدون النار الموقدة، وهي دار العذاب التي أُعدت لمن يلهو وينصرف عن الحق، والجملة جواب قسم مضمر، أَكد به الوعيد وشدد به التهديد، وأَوضح به ما أُنذروا به بعد إبهامه تفيخمًا لشأْنه، وإعظامًا لقدره، وما هددوا به سابقًا هو قوله تعالى: (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) فتوعدهم بهذه الحال وهي رؤْية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خَر كل رسول مقرب وكل ولي عابد على ركبتيه من المهابة والمعاينة؛ لرؤْية ما فيها من الأَهوال على ما جاءَت به الآثار، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة في أذهانكم. وقيل: المراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع في الكتاب الكريم، ثم كرر ذلك للتأكيد فقال: 7 - (ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ): أي: ثم أقسم وأُؤكد أنكم ستشاهدونها عيانًا ويقينًا قال الآلوسي: أي الرؤْية التي هي نفس اليقين، فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات، فهو أَحق

بأَن يكون عين اليقين، واليقين (¬1) في اللغة - على ما قيل: العلم الذي لا شك فيه، ثم شدد عليهم وزاد في تأْنيبهم فقال: 8 - (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ): أَي: ثم لتسأَلن يومئذ عن شكر ما أَنعم الله به عليكم من الصحة والأَمن والرزق وغير ذلك أَي: ماذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته؟! قيل: الخطاب في (لَتُسْأَلُنَّ) للكفار، وعليه ابن عباس: وقيل: الخطاب مخصوص بكل من أَلهته دنياه عن دينه، والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك، وخير القول في النعيم قول مجاهد؛ كل لذة من لذات الدنيا. وفي التفسير الكبير: الحق أَن السؤَال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم به سواء كان ما لابد منه أم لا؛ لأَن كل ما يهب الله تعالى يجب أَن يكون مصروفًا لطاعته سبحانه لا إِلى معصيته - عز وجل - فيكون السؤال واقعًا عن الكل، ويؤكده قوله -عليه الصلاة والسلام- "لا تَزولُ قَدَمَا العَبْدِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ: 1 - عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ 2 - وعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبلاهُ. 3 - وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ. 4 - وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ"؛ لأَن كل نعيم داخل فيما ذكره صلى الله عليه وسلم وما ورد في بعض الآثار مثل ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أَنه قال: أي نعيم نسأَل عنه يا رسول الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأَموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ظِلَالُ المَسَاكِنِ وَالأَشْجَارِ وَالأَخْبِيَةِ الَّتِي تقِيكُمُ الحَرَّ وَالبَردَ، وَالمَاءُ البَارِدُ فِي اليَوْمِ الحَارِّ" فذلك من باب التمثيل ببعض أَفراد خصت بالذكر لأَمر اقتضاه الحال، ويؤيد ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في غير رواية عند ذكر شيءٍ من ذلك: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ" بمن التبعيضية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) (وعالم اليقين: العلم بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هوعليه، وعين اليقين: العلم بما تعطيه المعاينة والمشاهدة والكشف، أما حق اليقين فهوملابسة الأمر والدخول فيه بالفعل

سورة العصر

سورة العصر مكية، وآياتها ثلاث آيات مناسبتها لما قبلها: في السورة السابقة (سورة التكاثر) بيان حال من أَلهاه التكاثر عن العمل لآخرته وما آل إليه أمره، وفي هذه السورة بيان حال من لم يلهه التكاثر عن عمل الصالحات. مقاصد السورة: 1 - أَقسم الله تعالى بالزمان لما يقع فيه من أَحداث وعبر يستدل بها على قدرة خالقه وبالغ حكمته على أن جنس الإنسان لفي خسر: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ). 2 - استثنى الله سبحانه من جنس الإنسان الخاسر مَنْ اتصفوا بأَربعة أَشياءَ: 1 - بالإيمان. 2 - بالعمل الصالح. 3 - بالتواصي بالحق. 4 - بالتَّواصي بالصبر. فهؤُلاءِ المؤمنون الصالحون الذين يعلمون الخير ويدعون غيرهم للعمل به، ولا يزحزحهم عن الدعوة إِليه ما يلاقونه في سبيله من مشقة وبلاء، هؤلاءِ ناجون من الخسران، مفلحون في الدنيا والآخرة: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). بسم الله الرحمن الرحيم. (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِنَّ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))

بعض ما جاء فيها

المفردات: (الْعَصْرِ): صلاة العصر، وقيل: الزمان والدهر، وقيل: العشي، وقيل غير ذلك. (الإِنسَانَ): جنس الإِنسان. (لَفِي خُسْرٍ): لفي خسران ونقصان وهلاك. (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ): وأَوصى بعضهم بعضًا بالحق، وهو الخير كله. (الصَّبْرِ): قوة النفس تدعوها إلى احتمال المشقة والمكاره. بعض ما جاء فيها: قال الآلوسي: سورة العصر، وآياتها ثلاث، وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت، فقد روي عن الشافعي - عليه الرحمة - أنه قال: لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس؛ لأَنَّهَا شملت جميع علوم القرآن، وأَخرج الطبراني في الأَوسط، والبيهقي في الشعب: عن أبي حذيفة -وكانت له صحبة- قال: كان الرجلان من أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأَ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلم أَحدهما على الآخر. التفسير 1 - (وَالْعَصْرِ): أَقسم الله - سبحانه وتعالى - بصلاة العصر لفضلها؛ لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه السلام (شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الوُسْطَى: صَلاةِ العَصْرِ): وفي الحديث: "مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ" وخُصَّت صلاة العصر بالفضل لأَن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس على تجارتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم في ذلك الوقت، وقال قتادة: العصر: العشي، وهو ما بعد الزوال إِلى الغروب: أقسم به - سبحانه وتعالى- كما أَقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة، وقال ابن عباس: هو الزمان والدهر -أقسم به سبحانه- لاشتماله على أَصناف العجائب، ولما فيه

من أَحداث وعبر يستدل بها على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه، وكان الكفار في الجاهلية ينسبون أحداث الزمان ونوائبه وكوارثه إلى الدهر، فيقولون: هذه نائبة من نوائب الدهر، وهذا زمان بلاءٍ وعناءٍ، فأرشدهم - عز وجل - إِلى أَن الدهر خَلْقٌ من خلقه، وأن الزمان ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرها، فإِذا وقعت للمرءِ مصيبة فبما كسبت يداه، وليس الدهر فيها من سبب. 2 - (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ): أَي: إن كل إِنسان لفي نوع من الخسران لغلبة الأهواءِ والشهوات والرغبات والمطامع عليهم في أَعمالهم ومساعيهم، وصرف أَعمارهم في مطالبهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة، بل ربما تَضُرُّ بهم، وتكون سبب شقائهم وعذابهم، و (أَل) في الإِنسان لشمول جميع الجنس بدليل الاستثناء الذي جاءَ بعدها: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ، والتنكير في (خُسْرٍ) قيل: للتعظيم، أي: في خسر عظيم، ويجوز أن يكون للتنويع، أي: نوع من الخسران غير ما يعرفه الإِنسان. 3 - (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) استثني المولى جلَّ وعلا من جنس الإِنسان الواقع في الخسران، واستثنى سبحانه الذين آمنوا بقلوبهم إِيمانًا صادقا ًخالصًا لله، وعملوا الصالحات بجوارحهم، فجمعوا بين صدق العقيدة وصدق العمل، وتجد في كتاب الله دائمًا قرن الإِيمان بالعمل الصالح؛ للإِشارة إلى أن الإِيمان بلا عمل كزرع بلا ثمر، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا" (¬1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات في تجارة لن تبور؛ لأَنَّهُم باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أَربحها، ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها وأنجحها!! وهذا هو قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ¬

_ (¬1) سورة الكهف، من الآية: 107.

(وتواصوا بالصبر)

الصَّالِحَاتِ) بيان لتكميلهم لأَنفسهم، وقوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) بيان لتكميلهم لغيرهم، أَي: وَصّى بعضهم بعضا بالحق -وهو الأَمر الثابت الذذي لا سبيل لإِنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله: من توحيد، وطاعة، واتباع كتبه ورسله، -جل شأْنه- وزهد في الدنيا، ورغبة في الآخرة. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): أَي: وأَوصى بعضهم بعضًا بالصبر على المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الطبيعة البشرية، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤُها، وعلى ما يبتلي الله سبحانه به عباده من المصائب، والصبر المذكور داخل في الحق، وذكره بعده لإِبراز كمال العناية به. وفي السورة دعوة إِلى الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأَنه يجب على الإِنسان أَن يحب لأَخيه من الخير ما يحبه لنفسه.

سورة الهمزة

سورة الهُمَزَة مكية، وآياتها تسع آيات مناسبتها لما قبلها: ذكر - سبحانه وتعالى - في السورة السابقة (سورة العصر) أَن جميع أَفراد الإِنسان منغمسون في الضلال والخسران إِلا من عصم الله، وفي هذه السورة (سورة الهمزة) يبين -سبحانه- أَحوال بعض الخاسرين، وصفات أَهل الضلال. مقاصد السورة: 1 - في السورة وعيد لمن اعتاد أَن يعيب الناس وجمع مالا كثيرًا وعَدَّدَهُ افتخارًا ظانًّا أَن ماله أَخلده: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ). 2 - وفي السورة تهديد لهؤُلاء بإِلقائهم في نار موقدة تحطم أَجسامهم وقلوبهم، وتغلق عليهم أَبوابها فلا خلاص لهم منها: (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) إِلى آخر السورة. بسم الله الرحمن الرحيم (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9))

المفردات: (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ): الهمز: الكسر، واللمز: الطعن، شاعًا في النَّيْل من أَعراض الناس. وقيل الهَمْز: الطَّعنِ في الوجه، واللَّمْز: الطعن في الخلف، وقيل: الهمّاز: الطاعن بالقول، واللماز: الطاعن بالفعل، وقيل: اللُّمَزَةُ: الطَّعَّان في الأَنساب خاصة، وقيل غير ذلك، والمراد: طَعّان غَيّاب عَيّاب، وبناءُ فُعَلَة يدل على أَن ذلك صار طبعًا وعادة ونحوهما: الضُّحكة. (وَعَدَّدَهُ): عدّه مرة بعد أُخرى، أَو جعله عُدَّةً لنوائب الدهر. (أَخْلَدَهُ): أَخلده وخلَّده بمعنى، أَي: تركه خالدًا، أَي: ماكثًا مكثًا لا يتناهى، أو مكثًا طويلًا جدًا. (كَلاَّ): ردع عن كل ما سبق. (لَيُنْبَذَنَّ): ليطرحن، والنَّبذ: الطرح مع الإهانة والتحقير. (الْحُطَمَةِ): النَّار التي تحطم كل ما يلقى فيها، أَي: تكسره. (تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ): تصل إِلى القلوب وتُحِيطُ بها، أَو يقصد بالاطلاع: المعرفة والعلم. (مُؤْصَدَةٌ): مطبقة، من: أَوصدت الباب، أي: أَغلقته. (فِي عَمَدٍ): العمد: واحدها عمود، أَو عماد. (مُمَدَّدَةٍ): صفة لِعَمَد أَي: طوال. التفسير 1 - (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ): أَي: هلاك وعذاب شديد وعقاب أَليم، وقيل: واد في جهنم أُعد وهيئ لمن دَأْبُه أَن يعيب النَّاس ويغض من أَقدارهم، وينتقص من هممهم في حضورهم أَو في غيبتهم، يفعل ذلك بالقول أَو الإِشارة، ويتكلم في أَعراضهم بما لا يليق، مما تأْباه النفوس الكبيرة،

وتتباعد عنه أَصحاب الهمم العالية: وروى عن ابن عباس أَنه سئل عن الهمزَةِ اللُّمَزَةِ فقال: "هو المشَّاءُ بالنميمة، المُفَرِّق بين الجمع، المُغْري بين الإخوان. قيل: نزلت السورة في الأَخنس بن شريق، كان يلمز الناس ويغتابهم، وقيل: في أُمية ابن خلف؛ وكان يهمز النبي ويعيبه، وقيل: في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب الرسول ويغض منه، ثم بيَّن التَّنْزِيل سبب عيبه وطعْنه في الناس فقال: 2 - (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ): أَي: إِن الذي دعاه إلى الحطِّ من الناس والغضِّ من أَقدارهم والزراية عليهم هو جمعه للمال وتعديده له -أي: عَدُّه مرة بعد أُخرى؛ حبًّا له، وشغفًا به، وتهالكًا عليه، وقيل: جعله أَصنافًا وأنواعًا: كعقار، ونقود، أَو جعله عُدَّةً المصائب الأَيام ومدخرًا لنوائب الدهر ونوازله، وتنكير (مَالًا) للتكثير، ويجوز أَن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أَنه عند الله أَقل وأَحقر، ثم بين سبحانه خطأَه في ظنه فقال: 3 - (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ): أَي: يظن ذلك العيّاب الطَّعّان أن ما عنده من المال جعله خالدًا، والمراد أن المال طوَّل أَمله ومنَّاه الأَماني البعيدة، فهو يعمل من تشييد البنيان، وغرس الأَشجار، وشق الأَنهار، ونحو ذلك، عَمَلَ من يظن أَن ماله أَبقاه حيا، والإِظهار في (مَالَهُ) في مقام الإِضمار لزيادة التقرير، ويجوز أَن يراد أَنه حسب ذلك حقيقة؛ لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما أَمامه من قوارع الآخرة، أَو لزعمه أن الحياة والسلامة عن الأَمراض تدور على مراعاة الأَسباب الظاهرة، وأَن المال هو أَساس كمل شيءٍ، وأَنه هو الذي يصنع كل شيءٍ، وهذا زعم فاسد، ثم أَخذ - سبحانه وتعالى - في بيان ما أَعد لهم من العذاب الشديد فقال: 4 - (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ): كلَّا: ردع له عن كل ما تضمننه الجمل السابقة من الصفات القبيحة (لَيُنْبَذَنَّ) جواب قسم مقدر، والجملة استئناف مبين لعلة الردع، أي: والله ليُطْرَحَنَّ وَيُلْقَيَنَّ بسبب

أَفعاله المذكورة (فِي الْحُطَمَةِ) أَي: النار التي من شأْنِهَا أَن تحطم كل ما يُلْقَى فيها -والحطْم: كسر الشيءِ كالهشم، ثم استعمل لكل كسر مُتَنَاهٍ. وقيل: الحطمة باب من أَبواب جهنم، أَو طبقة من طبقاتها، وقيل غير ذلك، ثم أَخذ - عز وعلا - يهول أَمر هذه النار ويعظم شأْنها قال: 5 - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ): أَي: وأَي شيءٍ أَعلمك وعرَّفك ما حقيقة هذه النار الحطمة؟! إِن هذه الحطمة، ما لا تحيط بها معرفتك، ولا يقف على حقيقتها عقلك، فلا يعلم شأْنها، ولا يقف على كنهها إِلَّا من أَعدها لمن يستحقها، فهي من الأُمور التي لا تنالها عقول الخلق، ثم فسر هذه الحطمة بعد إِبهامها فقال: 6 - (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ): أَي: هي نار الله المسعرة الموقدة دائمًا بأَمر الله عز وجل وفي إِضافتها إِليه سبحانه ووصفها بالإِيقاد من تهويل أَمرها ما لا مزيد عليه، ثم وصفها بأَوصاف تخالف ميزان الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال: 7 - (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ): أَي: تعلو هذه النار أَوساط القلوب وتغشاها وتقهرها وتتسلط عليها وتتمكن منها، وتخصيص الأَفئدة بالذكر لأَن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأَشد تأَلمًا بأَذى يمسه، أَو لأَنه محل العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة، فهو أَنسب بما تقدم من ألوان العذاب من جميع أَجزاء الجسم، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في الآية: تأْكل النار كلَّ شيءٍ منه حتى تنتهي إلى فؤاده، فإِذا بلغت فؤاده أَي: ابتدأَ خلقه: (أَي: من جديد) ويجوز أن يراد بالاطلاع العلم، وكأن هذه النار تعلم وتعرف وتدرك في ما أَفئدة الناس يوم البعث؛ فتميز الطائع عن العاصي والخبيث من الطيب وتُفَرِّق بين مَنْ ارتكبوا السيئات، ومن فعلوا الصالحات، وفي وصفها بالاطلاع على الأَفئدة التي أَودعت في باطن الإِنسان، وفي أَخفى مكان منه؛ إِشارة إِلى أَنها إلى غيره أَشد وصولًا وأَكثر تغلبًا.

8 - (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ): ومن أَوصاف تلك النار أَنها عليهم مؤصدة، أَي: مطبقة مغلقة أَبوابها، ولا يخرجون منها ولا يستطيعون الخروج منها لو أَرادوا. 9 - (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ): أَي: هم موثقون فيها مشدودون إلى عمدٍ ممددة، فلا حركة لهم فيها، ولا خلاص لهم منها، وقال بعضهم: لا مانع أَن يكون قوله تعالى: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) صلة لمؤصدة على معنى: أن الأَبواب أَوصدت بالعمد، وسدت بها؛ تأكيدًا ليأْسهم، واستيثاقًا بعد استيثاق. والمراد بذلك: تصوير شدة إِطباق النار على هؤلاء وإِحكامها عليهم، والمبالغة في ذلك؛ ليزرع في قلوبهم اليأس والخوف، لأن المحدَّث عنهم همزوا ولمزوا خير البشر. قال الآلوسي: من تأَمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب. 1 - فإنه لما بولغ في الوصف في قوله: (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) قيل: الحطمة للتعادل؛ ليُطابِق العذابُ الذَّنْبَ. 2 - ولَمَّا أَفاد قوله: (هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) كسر الأعراض بالطعن فيها قوبل بكسر الأَعضاءِ المدلول عليه بالحطمة. 3 - وجيءَ بالنبذ المنبئ عن الاستحقار، في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة والاستعلاء على الناس. 4 - ولَمَّا كان منشأُ جمع المال استيلاء حبه على القلوب جيءَ في مقابله بقوله تعالى: (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ). 5 - ولَمَّا كان مِنْ شأْن جامع المال المحب له أن يُوصد عليه ويغلق عليه الأَبواب حرصًا عليه، قيل في مقابلة: (إِنَّها عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) أَي: النار.

سورة الفيل

سورة الفيل وهي مكية، وآياتها خمس مناسبتها لما قبلها: ذكر سبحانه في السورة السابقة (سورة الهُمَزة) أن المال والسلطان لا يغنيان من الله شيئًا، وفي هذه السورة أَقام سبحانه وتعالى الدليل على ذلك بذكر قصة أَصحاب الفيل، وكذلك في السورة السابقة توعد الله كل كافر بقوله تعالى: (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) وهنا في السورة أَتي - عز وجل - بما يدل على إنفاذ وتحقيق ما توعد به أُولئك الكفرة. مقاصد السورة: يخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة أَصحاب الفيل الذين قصدوا بيت الله بمكة لهدمه: (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ويقصص عليه ما حوته هذه القصة مِنْ عِبَر دالَّة على قدرة الله وعظمته: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) ويذكر له كيف انتقم من هؤلاء المعتدين على حرماته: (وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) كما يذكر له عاقبة اعتدائهم، ما آل إليه أمرهم: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ). بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5))

المفردات: (كَيْدَهُمْ): الكيد: إرادة وقوع ضرّ بغيرك على وجه الخفاءِ، والمراد به: عزمهم على تخريب الكعبة وسعيهم على هدم البيت. (تَضْلِيلٍ): تضييع وإبطال، وأصل التضليل: مِنْ ضَلَّ عنه: إذا ضاع. (أَبَابِيلَ) أَي: جماعات متفرقة، جمع إبَّالة، وحكى الفراء إبَالة -بالتخفيف- وهي حزمة الحطب الكبيرة، شبهت بها الجماعات، شبهت بها الجماعات من الطير في تَضَامِّها، وقيل: واحده إبِّيل كسكِّين، وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه. (سِجِّيلٍ): طين مطبوخ متحجر، وقيل: حجارة من جهنم. (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ): أي: كَتِبْن أَكلته الدَّوابّ وَرَاثَتْه، أَو كورق زرع أَصابته آفة فأَتلفته. التفسير 1 - (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ): (أَلَمْ تَرَ): -استفهام تعجيب- أي: أعجبت كيف فعل ربك بأَصحاب الفيل؟! وهم أَبرهة وقومه. أي: قد علمت يا محمد عِلْمًا لا يُخالطه شك فِعْل ربك بأَصحاب الفيل، ووقعت القصة عام مولد الرسول، قال السهيلي: ولد الرسول بعدها بخمسين يومًا، وكانت القصة في الحرم، والولادة في شهر ربيع الأَول، وقيل غير ذلك، ولعظم القصة كانوا يؤرخون بها؛ شأْن الأَحداث الكبيرة، والوقائع الخطيرة، فيقولون: ولد فلان، أَو مات قبل الفيل بعام أَو بعده بعامين مثلًا. وخلاصة قصة الفيل كما رواها الإِمام ابن كثير والزمخشري في الكشاف: أن أَبرهة ملك اليمن من قبل النجاشي بنى كنيسة (بصنعاء) وسماها (القُلَّيس) وأَراد أَن يصرف الحجاج إليها، فخرج رجل من كِنْدَةَ فأَحدث فيها ليلًا، وقيل: أَحَّج فيها نارًا فأَحرقتها،

فحلف أبرهة ليهدمن الكعبة، فخرج ومعه فيل، وكان قويًّا عظيمًا، وقيل: كان معه أكثر من فيل، فلمَّا بلغ (المُغَمّس) وهو موضع في طريق الطائف بالقرب من مكة خرج عليه عبد المطلب وعرض عليه ثالث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبَّأَ جيشه وقَدَّم الفيل، وكانوا كلما وجهوه إلى الحرام برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أَو غيرها من الجهات هرول، فأَرسل الله طيرًا سودًا، وقيل خضرًا، وقيل بيضًا، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه، فكان الحجر يقع على رأْس الرجل فيخرج من دبره، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل، ومرض أَبرهة فتساقطت أَناملة وأعضاؤه، وما مات حتى انصدع صدره. والمعنى: إنك رأَيت آثار فِعْلِ الله بأَهل الحبشة الذين قصدوا هدم البيت، وسمعت الأخبار به متواترة، ققامت لك مقام المشاهدة. قال الآلوسي: وتعليق الرؤية بكيفية فعل الله سبحانه وتعالى لا بفعله بأَن يقال: أَلم تر ما فعل ربك ... إلخ؛ لتهويل الحادثة والإِيذان بوقوعها على كيفية خارقة وهيئة عجبية دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإِن ذلك -كما قال غير واحد- كان من الإِرهاصات، بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم ابن المنذر شيخ البخاري: لا يشك في ذلك أحد من العلماءِ وعليه أَكثرهم، وعن عكرمة: أَن من أَصابته الحجارة جَدَرَتْهُ، هو أَول جُدَريٍّ ظهر، أي: بأَرض العرب، فعن يعقوب ابن عتبة أنه حدَّث أَنه أَول ما رؤيت الحصبة والجدري كان بأَرض العرب في ذلك العام. 2 - (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ): بيان إجمالي لما فعل الله بهم، والهمزة للتقرير، كأَنه قيل: قد جعل الله كيدهم في هدم الكعبة وتخريبها في تضييع وإِبطال؛ بأَن دَمَّرهم أَشنع تدمير، وأَهلكهم على أَفظع صورة، فضيع تدبيرهم وخيب سعيهم، ولم ينالوا قصدهم، ثم فصَّل تدبيره في إِبطال كيد أُولئك القوم فقال:

3 - (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ): أَي: وسلط الله عليهم من جنوده فِرَقًا من الطير، أتتهم جماعات مسرعة متتابعة، وأَحاطت بهم من كل جهة، وجاءَت هذه الطير -على ما روي عن جمع- من جهة البحر، وعن عكرمة: كأَن وجوهها مثل وجوه السباع، لم تُر قبل ذلك ولا بعده. 4 - (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ): صفة أُخرى كقوله: (طيرًا) وعبر بالمضارع في (تَرْمِيهِمْ) لحكاية الحال، واستحضار تلك الصورة الغربية. والمعنى: تقذفهم بحجارة من سجيل، أَي: من طين مطبوخ متحجر، وقيل: هو عربي من السِّجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو: أنها متتابعة كثيرة كالماءَ الذي يصب من الدلو، وقيل: من الإسْجال، بمعنى الإرسال، وقيل: من سجين، أي: من جهنم (آلوسي وكشاف بتصرف) وقيل: هو لبس بعربي بل هو منقول من غير العربية، واختلف في حجم تلك الطير، وكذلك في حجم تلك الحجارة، روي أن الطير في الجسم كالخطاطيف، والحجارة منها ما هو كالمحصة، أَو أَصغر أَو أَكبر. قال الشيخ محمد عبده - رحمة الله -: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أَو الحصبة، فأَهلكته وأَهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أَهل حرمه مع وثنيتهم حفظًا لبيته؛ حتى يرسل إليه رسوله الذي يحميه بقوة دينه، وهي نقمة من الله حلت بأعدائه أَصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت. 5 - (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ): أَي: فجعلهم كورق زرع أَصابته آفة فأَتلفته، وذهب غير واحد إلى أن المعنى: فجعلهم كَتِبْن أَكلته الدواب وراثته، والمراد: كَرَوْثٍ إلَّا أنه لم يذكره بهذا اللفظ لهجنته، فجاءَ على نظام الآداب القرآنية، فشبه تَقَطُّعَ أَوصالهم بتفرَق أَجزاءِ الرَّوْث، ففيه إظهار تشويه حالهم؛ حيث جعلهم مبتذلين ضائعين، لا حافظ لهم، ولا يلتفت إِليهم أَحد، ولا يدفنهم.

سورة قريش

سورة قريش وهي مكية، وآياتها أربع مناسبتها لما قبلها: إن كلًّا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أَهل مكة؛ فالأُولى (سورة الفيل) تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاءَ ليهدم بيتهم وهو أَساس مجدهم، والثانية (سورة قريش) ذكرت نعمة أُخرى، وهي اجتماع أَمرهم والتئام شملهم ليتمكنوا من القيام برحلتي الشتاءِ والصيف، ولشدة الصلة بين السورتين كان أُبي بن كعب رضي الله عنه - يعتبرهما سورة واحدة. مقاصد السورة: 1 - في هذه السورة الكريمة يبين الله فضله على قريش ويَمُنُّ عليهم بأَنه حمى البيت من الأَعداءِ، وجعلهم عُمَّاره وأَهل جيرته، وبهذا اكتسبوا عزًّا ومجدًا، وهو الأَمن، فهم يمضون إلى مزاولة تجارتهم بين الشام واليمن، دون أَن يعترض طريقهم أَحد، وهم بهذا ضمنوا -إلى نعمة الأَمن- نعمة الغنى واليسار: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)). 2 - وهذه كلها نعم توجب عليهم عبادة ربهم الذي أَطعمهم من جوع وآمنهم من خوف: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)) المفردات: (لإِيلافِ) إيلاف: مصدر أَلِفْتُ الشيءَ إلْفًا وَإلافًا، وآلَفْتُهُ إيلافًا: إذا لزمته وعكفت عليه من الأُنس به، وقال الراغب: الإيلاف: اجتماعٌ من التئامٍ، وقال الهروي: عهود بينهم وبين الملوك. (قُرَيْشٍ): ولد النضر بن كنانة، وهو أَصح الأَقوال، وهو في الأَصل تصغير (قُرْشٍ) بفتح القاف اسم لدابة في البحر أَقوى من كل دابة، وقال الفراءُ: هو من التَّقَرُّش، بمعنى التكسب؛ سموا بذلك لاشتغالهم بالتجارة، وقيل: من التقرش بمعنى التجمع. (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ): فليوحدوه بالعبادة ولا يشركوا معه غيره. التفسير 1 - (لإِيلافِ قُرَيْشٍ): متصل بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا) واللام للتعليل. أَمرهم أَن يعبدوه لإيلافهم الرحلتين، والمعنى: أَن نعم الله لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة، وهذا رأَى الخليل، وقال الكسائي والفرَّاءُ: المعنى: اعجبوا لإِيلاف قريش (بدليل السياق) كأَنه قيل: اعجبوا لإِيلاف قريش رحلة الشتاءِ والصيف وتركهم عبادة الله الذي أَعزهم

ورزقهم وآمنهم؛ فلهذا أُمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأَمن، وقال الأَخفش: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بآخر السورة التي قبلها، أي: فجعلهم كعصف مأْكول لإيلاف قريش، والقرآن كله كالسورة الواحده. والمعنى: أهلك الله -سبحانه وتعالى - من قصدهم من الحبشة، ولم يسلطهم عليهم؛ ليتسامع الناس بذلك فيتهييوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام، حتى ينتظم لهم الأَمن في رحلتيهم، فلا يجترئ أَحد عليهم. 2 - (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ): أي: فلتعبد قريش ربها شكرًا له على أَنه جعلهم قومًا تجارًا لهم رحلتان: رحلة إلى اليمن شتاءٍ لجلب الأَعطار والأَفاويه، ورحلة في الصيف إلى الشام لجلب الأَقوات إِلى بلادهم، ولقد كان العرب يحترمونهم في أَسفارهم لأنهم جيران بيت الله وولاة الكعبة، فيذهبون آمنين ويرجعون سالمين، على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع، ولهذا ألفت قريش الأَسفار، وتعلقت بالرحيل طلبًا للرزق، وهذا الإجلال الذي ملك نفوس العرب للبيت الحرام ولجيرانه، إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه ولقد حفظ الله حرمته فرد الحبشة عنه حين أَرادوا هدمه وأَهلكهم، قبل أَن ينقضوا منه حجرًا ولو نزلت مكانة البيت عند العرب ومكانة أهله وجيرانه، واستطالت الأَيدي عليهم لنفروا من تلك الرحلات وأَعرضوا عن هذه الأَسفار فقلت وسائل الكسب بينهم لأن أرضهم صحراءُ قاحلة وليسوا مهرة في الصناعات، فكانت تضيق عليهم مسالك الأَرزاق، وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات. 3 - (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ): أي: فليخصوا العبادة لرب هذا البيت الذي مكنهم مكن القيام بهاتين الرحلتين، ولا يشركوا به غيره، ويفردوه بالتعظيم والإجلال، وهذا البيت هو الكعبة التي حميت من

أصحاب الفيل. وعن عمر - رضي الله عنه- أنه صلَّى بالناس بمكة عند الكعبة، فلما قرأ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) جعل يومئ بإصبعه إِليها وهو في الصلاة بين يدي الله عز وجل. ثم وصف رب هذا البيت بقوله: 4 - (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ): أي: رب البيت هو الذي أطعهم من جوع بأَن وسع لهم الرزق ومهد لهم سبيله، بسبب هاتين الرحلتين اللتين تمكنوا منها بسبب كونهم من جيران بيته، وأهل حرمه وقيل: أراد بالجوع: القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام، فأغاثهم الله بعد ذلك وأمدهم برزقه. (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي: وآمنهم من خوف عظيم شديد الهول، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ورحلاتهم.

سورة الماعون

سورة الماعون وهي مكية، وآياتها سبع آيات مناسبتها لما قبلها: لَمَّا ذكر - سبحانه وتعالى - في السورة السابقة (سورة قريش) أَنه (أَطْعَمَهم من جُوعٍ) ذم هنا في (سورة الماعون) من لم يحضُّ على طعام المسكين، ولما قال تعالى في السورة السابقة: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) ذم - سبحانه وتعالى - هنا من سها عن صلاته التي يتوجه فيها إلى هذا البيت. مقاصد السورة: 1 - تحدثت السورة الكريمة عن المكذب بالدين، وأن من أوصافه أَنه يهين اليتيم ويزجره، وأنه لا يحض بقول أَو فعل على إطعام المسكين: (أَرأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). 2 - ثم ذكرت السورة فريقًا آخر شيبهًا بهذا المكذب بالدين، وهم الذين عن صلاتهم ساهون وغافلون لا يؤدونها، والذين هم مراءُون بأَعمالهم، وهم مع ذلك يبخلون بالمعونة عمن يحتاج إليها، ولا يساعدون غيرهم فيما جرت به العادة أَن يساعد بعضهم بعضًا فيه، وتوعدت هؤلاء بالويل والهلاك: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ... ) إلى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) المفردات: (أَرَأَيْتَ): أَعَلِمْتَ؟ (يُكَذِّبُ بِالدِّينِ): يجحد الجزاءَ والبعث، وينكر القرآن. (يَدُعُّ الْيَتِيمَ): يدفعه دفعًا عنيفًا ويزجره زجرًا قبيحًا. (وَلا يَحُضُّ): ولا يحث على إطعام المسكين ولا يدعو الناس إلى ذلك. (سَاهُونَ): غافلون عنها غير مبالين بها، أو تاركون لها. (يُرَاءُونَ): قال الزمخشري: المراءَاة: هي مفاعلة من الإراءَة، لأَن الرَّائِي يُرِي الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه والإعجاب به. والمعنى: يظهرون للناس أعمالهم ليثنوا عليهم. (الْمَاعُونَ): المعروف والمعونة والخير. التفسير 1 - (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ): استفهام بالهمزة، أُريد به تشويق السامع إلى تعرّف المكذب لأَنَّ ذلك مِمَّا يجب على المُتَدَين معرفته ليحترز عنه وعن فعله، وفيه أيضًا تعجيب منه، والخطاب في (أَرَأَيْتَ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَو لكل من يصلح له الخطاب.

والمعنى: هل عرفت وعلمت الذي يكذب بالجزاءِ والبعث؟ أَو بالإسلام وتعاليمه من هو؟ 2 - (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ): الفاءُ للسببية، وما بعدها مسبب عن التشويق الذي يدل عليه الكلام السابق. والمعنى: إن أَردت أَن تعرفه فهذه صفاته: فذلك الذي يكذب بالدين، هو الذي يدعُّ اليتيم، أي: يدفعه ويزجره، مع إظهار الجفوة والاحتقار له والتَّعالي عليه. 3 - (وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ): أي: ولا يحث نفسه ولا غيره، ولا يبعث أَحدًا من أَهله وغيرهم من الموسرين ويحثه على طعام المسكين، أي: على بذل طعام المسكين، وهو ما يتناوله من الغذاء، والمسكين: هو الفقير المحتاج الذي لا شيءَ له يقوم بأَوده وكفايته، والتعبير بـ (طعام المسكين) للإشعار بأَن المسكين كأَنه مالك للطعام الذي يقدم له، كما في قوله تعالى: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" (¬1) فهو بيان لشدة الاستحقاق، وفيه إشارة للنهي عن المنّ. قال الزمخشري: جعل عَلَمَ (وأَمارة) التكذيب بالجزاءِ منع المعروف، والإقدام على إيذاء الضعيف، يعني: لو أنه آمن بالجزاءِ وأَيقن بالوعيد لخشي الله تعالى وعقابه، ولم يقدم على ذلك، فحين أَقدم عليه عُلِم أنه مكذب، فما أشده من كلام، وما أبلغه في التحذير من المعصية؛ وأنها جدبيرة بأَن يستدل بها على ضعف الإيمان. وفيه إِشارة إلى أن الإنسان إذا عجز عن مساعدة المسكين كان عليه أن يحث غيره من القادرين على ذلك ويدعوه إلى فعل الخير. 4، 5 - (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ): ثم وصل به قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) كأنه قيل: فإِذا كان الأمر كذلك وكان دَعِّ اليتيم ودفعه وعدم الحض على طعام المسكين بهذه المثابة فويل، أي: هلاك وعذاب، أو واد في جهنم للمصلين (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) أَي: الذين يسهون عن الصلاة، ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 19.

قلة مبالاة بها حتى تفوتهم أَو يخرج وقتها، أو لا يصلِّونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكن ينقرونها نقرًا من غير خشوع ولا إخبات، ولا اجتناب لما يكره فيها من مثل العبث باللحية والثياب وكثرة التشاؤب والالتفات، لا يدري الواحد منهم كم صلى من الركعات، التي انصرف عنها، ولا ما قال من السور. 6، 7 - (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ): (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ) أي: يقصدون الرياءَ بأَعمالهم، ويعملون حيث يرون الناس ويرونهم طلبًا للثناء عليهم، ولا يكون الرجل مرائيًا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة؛ فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَلا غمَّةَ فِي فَرَائِضِ اللهِ" لأَنها أَعلام الإسلام، وشعائر الدين وتاركها يستحق المقت والذم، فوجب إماطة التهمة بالإظهار، وإن كان تطوعًا فحقه أن يخفى؛ لأَنه ممَّا لا يلام بتركه، ولا تهمة فيه، فإن أَظهره للاقتداء به كان جميلًا وإنما الرياءُ أن يقصد بالإظهار أن تراه الأَعين؛ فيثني عليه بالصلاح. (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ): قيل معناه: ويمنعون الزكاة عن مستحقيها من الفقراء والمساكين وباقي الأصناف التي تستحق الزكاة، ولا ترق قلوبهم للجياع والمحتاجين، وعن ابن مسعود: (الْمَاعُونَ): ما يتعاور بين الناس في العادة من الفأْس والقدر والدلو. وعن عكرمة: رأْس الماعون: زكاة المال، وأَدناها: الدلو، وهذا يشمل كل الأَقوال؛ لأَن المراد ترك المعاونة بمال أَو منفعة، ولذا قال ابن كعب: الماعون: المعروف. والمعنى: أَن هؤلاء الذين سهوا عن الصلاة التي هي عماد الدين، والفارق بين الإيمان والكفر، والذين راءُوا بها والرياءُ شعبة من الشرك، والذين منعوا الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام أَولى وأجدر بهم أَن يطلق عليهم أَنهم مكذبون بيوم الدين لأَنهم نسوا عاقبة أَفعالهم التي سيعاقبون عليها يوم القيامة.

سورة الكوثر

سورة الكوثر وهي مكية، وآياتها ثلاث آيات مناسبتها لما قبلها: قال الإمام: هذه السورة كالمقابلة للسورة التي قبلها (سورة الماعون) لأن الله سبحانه وصف المنافقين في السورة السابقة بأَربعة أُمور: 1 - البخل. 2 - وترك الصلاة. 3 - والرياء. 4 - منع المعاونة، وذكر الله في هذه السورة في مقابلة البخل (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وفي مقابلة ترك الصلاة (فَصَلِّ) أي: دم على الصلاة. وفي مقابلة الرياءِ (لِرَبِّكَ) أي: لرضا ربك لا لرضا الناس. وفي مقابلة منع الماعون (وانْحَرْ) وأَراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي. مقاصد السورة: 1 - في هذه السورة امتنَّ الله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم بأَنه أَعطاه الكوثر، وهو الخير العظيم في الدنيا والآخرة: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ). 2 - وطلب منه شكرًا على هذه النعمة أن يديم الصلاة خاصة لوجهه، وأَن ينحر من طيبات أَمواله شكرًا للمنعم المتفضل: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). 3 - وختمت السورة بهذه البشارة العظيمة: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) أي: إن عدوك ومبغضك هو المقطوع الذكر ليس له أثر صالح، أَما أنت فسيبقى ذكرك في العالمين.

(بسم الله الرحمن الرحيم) (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) المفردات: (الْكَوْثَرَ): فوعل من الكثرة -صيغة مبالغة، أي: الشيءُ الكثير كثرة مفرطة، والكوثر: قيل: هو نهر في الجنة، وقيل: هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة، والنهر في الجنة بعض هذا الخير، وقيل: النبوة، وقيل غير ذلك. (فَصَلِّ) أي: قدم على الصلاة. (لِرَبِّكَ) أي: خالصة له وابتغاءَ مرضاته وحده. (وَانْحَرْ) أي: اذبح الأُضحية، وقيل غير ذلك. (شَانِئَكَ) أي: مبغضك وكارهك. (الأَبْتَرُ): الذي ليس له عقب، وليس له ذكر حسن، وأَصل البتر في اللغة: القطع، وشاع في قطع الذنب، وقيل لمن لا عقب له: (أَبْتَرُ) على التشبيه. التفسير 1 - (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ): أي: إِنا منحناك وأَوليناك يا محمد الخير الكثير الدائم الذي لا ينقطع في الدنيا ولا في الآخرة، وأكثر المفسرين على أن الكوثر نهر في الجنة، لما رواه الإمام أَحمد ومسلم وغيرهما

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللهِ فِي الجَنَّةِ". وعن ابن عباس أَنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال سعيد بن جبير: إن ناسًا يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. والحق ما قال ابن عباس؛ لأَنه يشمل كل ما جاءَ من روايات وأَقوال بلغت أَكثر من ستة وعشرين قولًا, وكلها ترجع إلى ما ذكر في تفسيره بالخير الكثير, وكأن ما جاء في الروايات أَمثلة لهذا الخير الكثير، كقولهم: المراد بهم النبوة، أو القرآن، وقيل: أولاده، وقيل: علماءُ أُمته, قال الآلوسي: وفي التعبير بالماضي في (أَعْطَيْنَاكَ) قيل: إشارة إلى تحقيق الوقوع, وقيل: إشارة إلى تعظيم الإعطاءِ وأنه أَمر مرعى لم يترك إلى أن يُفعل بعد, وقيل: إشارة إلى بشارة أُخرى، كأنه قيل: إنا هيأْنا لك أَسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أَمرك بعد وجودك وانشغالك بالعبودية؟! 2 - (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ): الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها (فَصَلِّ) قيل: المراد بالصلاة التي أُمر بها في الآية جنس الصلاة، وقيل: الصلاة المفروضة, وقيل: صلاة العيد بناءً على قول من قال: إن السورة مدنية, وكذلك قوله: (وَانْحَر) قيل: المراد بالنحر نحر البُدْنِ للأُضحية, وقيل: وانحر, أي: استقبل القبلة بنحرك, وإليه ذهب الفراءُ, وقيل: اجعل صلاتك لله لا لغيره , واجعل ذبحك باسم الله لا باسم غيره كما يفعل المشركون .. وقيل غير ذلك. قال الزمخشري: والمعنى: أعطيتك ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يُعْطَه أَحَدٌ غيرك , فاجتمعت لك الفضيلتان: إصابة أَشرف عطاءٍ وأوفره من أَكرم مُعْطٍ وأعظم مُنْعِم، فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك وجعلك أشرف قومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه واسمه إذا نحرت، فخالفهم في النحر فإنهم يقدمونه للأوثان، وبعد أَن بَشَّر الله رسوله بأَعظم البشارة، وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام نعمته على نبيه أن يصبح عدوه مقهورًا ذليلًا، قال:

3 - (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ): أي: إن مبغضك وعدوك -كائنا من كان- هو الأَبتر الذي لا عقب له، لا يبقى له نسل ولا حُسْنُ ذكر، لا أنت يا محمد، لأَن كل من يولد من المؤمنين إلى يوم القيامة فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع إلى آخر الدهر، يُبدأُ بذكر الله ويثني بذكرك، فمثلك لا يقال له أبتر وإنما الأَبتر شانئك ومبغضك في الدنيا والآخرة، وإذا ذكر ذكر باللعن، قيل: مات القاسم، وهو أول ميت من ولده بمكة، ثم مات عبد الله، وقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله، فهو أَبتر، فأَنزل الله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) وقيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: في عقبة بن أَبي معيط، والجمهور على أنها نزلت في العاص بن وائل، وأيًّا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم، وهذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما يدل على عظيم إعجازها، وقد أَطال الإمام فيها الكلام، وذكر أن قوله تعالى: (وَانْحَرْ) متضمن الإخبار بالغيب -وهو سعة ذات يده صلى الله عليه وسلم وأمته، وقيل مثله في ذلك: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) والله أعلم.

سورة الكافرون

سورة الكافرون وهي مكية، وآياتها ست آيات وتسمى المُقَشْقِشَة، أي: المُبَرِّئة من الشرك والنفاق - وسورة العبادة، وسورة الإخلاص. مناسبتها لما قبلها: في السورة السابقة (سورة الكوثر) أمر الله رسوله بالشكر على نعمة الكثيرة وذلك بإخلاص العبادة له، وفي هذه السورة (الكافرون) التصريح بما أُشير له فيما سلف وهو الأَمر بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى. مقاصد السورة: 1 - في هذه السورة الكريمة أمر الله رسوله أن يقطع أطماع الكافرين في مساومتهم له في عقيدته للاختلاف التام بينه وبينهم في المعبود وفي طريقة العبادة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). 2 - فلكم -أيها الكافرون- دينكم الذي قلدتم فيه آباءَكم ورضيتموه لأنفسكم وهو الشرك، ولي ديني الذي ارتضاه الله لي وهو دين الحق والتوحيد: (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) إلى آخر السورة. بعض فضائلها: قيل: يُسَنُّ قراءَتها من سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في ركعتي سنة الفجر، وفي الركعتين بعد المغرب، وجاءَ في بعض الروايات أنها تعدل ربع القرآن؛ لأنه مقاصد القرآن: 1 - صفاته تعالى. 2 - والنُّبوَّات. 3 - والأحكام. 4 - والمواعظ، وهي مشتملة على الأساس الأَول وهو التوحيد، ولذا عدلت ربع القرآن، وقيل غير ذلك. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) المفردات: (الْكَافِرُونَ): المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله أنهم لا يؤمنون , واللفظ يشمل كل كافر. (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) أي: لا أَعبد الذي تعبدونه من دون الله: من الأَصنام والأَنداد. (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ): ولا أنتم عابدون الذي أَعبده وهو الله وحده. (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ): لكم شرككم وكفركم وستجازون عليه , ولى توحيدي, وإخلاصي وسأُجَازى عليه. التفسير 1 - (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ): قال جمهور المفسرين: المراد بهم كفرة مخصوصون من قريش قد علم الله أنهم لا يؤمنون أَبدًا , أَخرج (¬1) ابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الوليد بن المغيرة, والعاص بن وائل , والأَسود بن عبد المطلب , وأمية بن خلف فقالوا: يا محمد؛ هلم فلتعبد ما نعبد , ونعبد ¬

_ (¬1) آلوسي.

ما تعبد، ونشترك نحن وأَنت في أَمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحَّ من الذي أنت عليه كنتَ أخذتَ منه حظًّا، وإن كان الذي أنت عليه أصَحَّ من الذي نحن عليه كما قد أَخذنا من حظًّا، فأنزل الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) إلى آخره حتى انقضت السورة، وفي رواية أن رهطًا من عتاة قريش قالوا له صلى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا، ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال - عليه الصلاة والسلام-: "مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُشْرِكَ بِاللهِ سُبْحَانَهُ غَيْرَهُ" فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام، وفيه الملأُ من قريش، فقام عليه الصلاة والسلام فقرأَها عليهم، فَأَيسُوا، ولعل نداءَهم بـ (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) للمبالغة في طلب إقبالهم؛ لئلا يفوتهم شيءٌ ممَّا يلقى عليهم، وفي ندائه -عليه الصلاة والسلام- بذلك في ناديهم ومكان قوتهم دليل على عدم اكتراثه -عليه الصلاة والسلام- بهم؛ إذ المعنى: قل يا محمد للكافرين: يا أيها الكافرون. 2 - 5 - (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)): الظاهر أن فيه تكرارًا للتأْكيد، فالجملة الثالثة المنفية (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) على ما في البحر تأْكيد للأُولى: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) على وجه أبلغ؛ لا سمية المؤكّدة، والرابعة: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) توكيد للثانية: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وهو الذي اختاره الطيبي، وذهب إليه الفراءُ، وقال: إن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتهم تكرير الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى بلى والمتنع: لا لا، وعليه قوله تعالى: "كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) " (¬1) وهو كثير نظمًا ونشرًا، وفائدة التوكيد هنا قطع أطماع الكافرين، وتحقيق أَنهم باقون على الكفر أَبدًا، والرسول باق على عبادة ربه أبدًا. ¬

_ (¬1) سورة التكاثر الآيتان: 3، 4.

والذي عليه الجمهور: أنه لا تكرار فيه , ولكنهم اختلفوا في بيان ذلك وتوجيهه , فقال الزمخشري: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) أُريد بالنفي في الآيتين النفي في المستقبل , فمعنى (لا أَعْبُدُ): نفى العبادة في المستقبل، لأن (لا) لا تدخل إلَّا على مضارع في معنى الاستقبال , والمعنى: لا أَعبد في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم, ولا أنتم فاعلون فيه , أي: في المستقبل ما أطلب منكم من عباده إلهي. فمعنى (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) أي: وما كنت عابدًا فيما سلف ما بعدتم فيه , يعني لم تعْهَد منى عباده صنم في الجاهلية , فكيف تُرجَى منى في الإسلام. 6 - (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ): أي: وما عبدتم في وقت مضى ما أَنا على عبادته , فالآيتان الأخيرتان للنفي في الماضي، ولقد ذكر الآلوسي آراءً كثيرة في هذا الموضوع فليرجع إليه من أراد. 7 - (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ): (لَكُمْ دِينُكُمْ) هو من عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى: (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) , وقوله تعالى: (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) كما أن قوله تعالى: (وَلِيَ دِينِ) عندهم تقرير لقوله تعالى: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ). ومعنى (لَكُمْ دِينُكُمْ): إن دينكم -وهو الإشراك- مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول إلىّ كما تطمعون في , فلا تعلقوا به آمالكم الكاذبة. ومعنى (وَلِيَ دِينِ): إن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول إليّ, لا تجاوزه إلى الحصول لكم أيضًا, لأن الله قد ختم على قلوبكم لسواء استعدادكم , أو لأنكم علقتموها بالمحال الذي هو عبادتى لآهلكتكم , أَو استلامى لهم، ويجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله: (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ) وقيل: المراد به المتاركة, أَي: لكم دينكم -وهو كفركم وشرككم- ولى ديني, أي: لي توحيدي -على معنى أنى نبي مبعوث لكم لأَدعوكم إلى لحق والنجاة, فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعونى فدعونى ولا تدعونى إلى الشرك وإليه ذهب الزمخشري (انظر الكشاف).

سورة النصر

سورة النصر وهي مدنية، وآياتها ثلاث آيات مناسبتها لما قبلها: إنه لَمَّا ذكر في السورة (الكافرون) اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه، ودين الكفار الذي يعكفون عليه، أشار في هذه السورة (سورة النصر) إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه الرسول -وهو الإسلام- سيغلب عليه، ويكون هو دين الأعظم. مقاصد السورة: طلبت هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء نصر الله وفتح مكة، ورأى الناس يدخلون في دين الله جماعات -أن يسبح بحمده شكرًا له، وينزهه عمَّا لا يليق، ويستغفره لنفسه وللمؤمنين؛ لأن سبحانه هو الذي يقبل توبة التائبين: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ .... ) إلى آخر السورة. ولقد حدث الفتح كما أخبر لله، وذلك من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم. قال الآلوسي: سورة النصر، وتسمى سورة (إِذَا جَاءَ) وعن ابن مسعود أنها تسمى (سورة التوديع) لما فيها من الإيماء إلى قرب وفاته صلى الله عليه وسلم وتوديعه الدنيا وما فيها، وجاءَ في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت دعا إليه فاطمة - رضي الله عنها وقال: "إنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي" فبكت، ثم ضحكت، فقيل لها، فقالت: أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم أَخبرني بأَنكِ أَوَّلُ أَهلي لحوقًا بي فضحكتُ، وقد فهم ذلك منها عمر - رضي الله عنه - وكان -عليه الصلاة والسلام- بعدها يفعل فعل مُوَدِّع.

بسم الله الرحمن الرحيم (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)) المفردات: (نَصْرُ اللَّهِ): عونه لك على أعدائك , يقال: نصره على عدوه , أي: أعانه عليه. (الْفَتْحُ): الفصل بينه وبين أَعدائه , وإِعزاز دينه , والمراد به -على الأَرجح-: فتح مكة. (أَفْوَاجًا): جمع فوج , وهو -على ما قال الراغب: جماعه المارة المسرعة, ويراد به مطلق الجماعة. التفسير 1 - (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ): (إِذَا): ظرف للزمن المستقبل , والإعلام بذلك من أَعلام النبوة, روي أَنها نزلت في أيام التشريق بمِنًى في حجة الوداع. والمعنى: إذا تحقق نصر الله والفتح لك وللمؤمنين , وإذا تأكد نصر الله لدين الحق وانهزام أَهل الشرك , وفتح الله بينك وبين قومك بجعل الغلبة لك عليهم , وإعزازك أَمرك , وإعلاء كلمتك , قال الزمخشري , والفرق بين النصر والفتح: أن النصر الإغاثة والإظهار على العدو, ومنه نَصَرَ الغيثُ الأَرض: إذا أَغاثها وأَعانها على إخراج نباتها , والفتح: فتح البلد , والفصل بينك وبين الأَعداءِ.

والأكثرون على أن المراد بالنصر صلح الحديبية، وكان في آخر سنة ست، والمراد بالفتح: فتح مكة، روي ذلك عن مجاهد وغيره، وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة وكان المسلمون في هذه الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وقيل: كانوا اثني عشر أَلفًا، قال ابن كثير: المراد بالفتح هنا فتح مكة قولًا واحدًا؛ فإذا أَحياء العرب كانت تقول: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلمَّا فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، وأَقبلوا على الإسلام من كل حدب وصوب، ولم تمض سنتان حتى ملئت جزيرة العرب إيمانًا، وقيل: المراد جنس نصر الله لرسوله وللؤمنين وجنس الفتح، فيعم ما كان في أمر مكة -زادها الله تعالى شرفًا- وغيره، وفتح بلاد الشرك. 2 - (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا): أي: ورأَيت العرب وغيرهم يدخلون في الإسلام وهو دين الله الذي لا دين غيره جماعات جماعات لا أفرادًا كما كان في بدءِ الدعوة. قال الآلوسي: والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجًا -أَي: جماعات كثيرة: إسلامهم بكثرة من غير قتال، وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته - عليه الصلاة والسلام - وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين، أخرج البخاري عن عمرو ابن سلمة قال: لَمَّا كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياءُ تتلوم (1) بإسلامها فتح مكة، فيقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي، وقال عكرمة ومقاتل: المراد بالناس: أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل أسلموا، واحتجوا بما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: بينما رسول الله في المدينة إذ قال: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ؛ جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ؛ وَجَاءَ أَهْلُ اليَمَن" قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: "قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ طَاعَتُهُمْ، وَالإِيمَانُ يمَانٍ، وَالْفِقْهُ يمَانٍ، وَالْحكمَةُ يَمَانِيَّةٌ). وَرَوَى مثل هذا البخاري ومسلم والترمذي، وقيل: إن ذلك لأن أهل مكة -وفيهم بعث النبي ومنهم المهاجرون- يمانيون، وكذلك أهل المدينة ومنهم الأنصار. - (1) تلوم في الأمر: تمكث وانتظر. (القاموس المحيط).

والظاهر أنه ثناء على أَهل اليمن؛ لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بسهولة ويسر , ويشمل الأنصار وغيرهم , والظاهر أيضًا أن الخطاب في (وَرَأَيْتَ) للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الخطاب عام لكل مؤمن. 3 - (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا): أي: إذا تم لك ما ذكر فاشكر المنعم (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه , حامدًا له - جل وعلا - زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة إنعامه عليك , فالتسبيح: التنزيه , لا التلفظ بكلمة (سبحان). والمعنى: اجمع بين تسبيحه تعالى -وهو تنزيهه عمَّا لا يليق من النقائض- وتحميده وهو إثبات ما يليق به من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليك صلوات الله وسلامه عليك. (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي: واطلب منه أن يغفر لك ولأُمتك , روي في مسند أحمد وصحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده , أَستغفر الله وأتوب إليه , ويجوز أن يراد بالتسبيح: التعجب , أي: فتعجب لتيسير الله تعالى لما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحدٌ على أهل الحرام، واحمده على ذلك، وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة, لاشتماله عليها , ونقل ابن الجوزى ذلك عن ابن عباس , وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أُم هانئ ثمانى ركعات، وهي سُنَّة واستغفاره -صلى الله عليه وسلم - لأنه كان دائمًا في التَّرقي إذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها. وقيل: لتعليم أُمته, وقيل: استغفاره لأُمته , أي: واستغفره لأُمتك. قال الآلوسي: وأَنت تعلم أن كل أَحد مقصر على القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغي , وعن أَدائها على الوجه اللائق بجلاله , وإنما يؤديها على ما يعرف , والعارف يعرف أن قدر الله عز وجل أعلى وأجل من ذلك , فهو يستحي من عمله , ويرى أنه مقصر , وكلما كان الشخص بالله تعالى أَعرف كان له - سبحانه وتعالى - أَخوف , وبرؤية تقصيره أبصر , فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم قدر الله وعظمته , فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين فهي دون ما يليق بهذا الجلال

وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال، فيستحي ويهرع إلى الاستغفار، وقد صح أنه -عليه الصلاة والسلام - كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل: على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئًا إلَّا وجدت الله قبله؛ لأن جميع الأشياء مرايا تجليه - جل جلاله - وذلك لأن في التسبيح والتحميد توجهًا بالذات لجلال الخالق وكماله، وفي الاستغفار توجهًا بالذات لحال العبد وتقصيراته، ويجوز أن يكون تأْخير الاستغفار عنهما لما هو مقرر من مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار، وقيل: في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء، وهو ألَّا يسأَل فجأَة من غير تقديم الثناء على المسئول منه (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) أي: إنه سبحانه منذ خلق المكلفين تواب، أي: كثير القبول لتوبة عباده، فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول، فالجملة في موضع التعليل لما قبلها، واختيار: (تَوَّابًا) على (غَفَّارًا) مع أنه الذي يستدعيه ظاهرًا قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْهُ) للتنبيه -كما قال بعض الأَجلة- على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة؛ لأَن المطلوب طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه، ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع منه، وهذا هو الذي يمنع الإصرار والله أعلم.

سورة المسد

سورة المسد وهي مكية, وآياتها خمس آيات وتسمى سورة (تبت) مناسبتها لما قبلها: إن الله - سبحانه وتعالى - ذكر في السورة السابقة (سورة النصر) أن ثواب الطاعة هو حصول النصر والاستعلاء في الدنيا , والثواب الجزيل في الآخرة, وهنا في سورة المسد ذكر أن عاقبة العاصي الخسار في الدنيا والعقاب في الآخرة , وسورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة , و (سورة تبت) من أول ما نزل بمكة, وهذا يدل على أن ترتيب السور على ما جاء في المصحف الشريف بأمر الله عز وجل. مقاصد السورة: 1 - بُدئت السورة الكريمة بالإِخبار بهلاك أبي لهب , وعدم إغناء شيء عنه من ماله أو ولده أو جاهه , وتوعدته بأنه سيلقى في الآخرة نارًا ذات لهب (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ). 2 - ثم ذكر السورة أن زوجته ستكون معه في النار , وخصها الله بنوع من العذاب. وهو ما يكون حول عنقها من حبل تجذب منه في النار , وتعرف به يوم القيامة؛ لما كانت عليه من إيذاء للرسول وأصحابه , ومحاربة لدعوته، وهكذا شاركت زوجها في الكيد لدين الله والصد عن سبيله في الدنيا , فشاركته في عذاب جهنم يوم القيامة. (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)) المفردات: (تَبَّتْ): خسرت وخابت وهلكت، ومنه قولهم: أَشَابَّةٌ أَم تَابَّةٌ؟ يريدون: أَم هالكة؟ وقال الشهاب: إن مادة (التَّباب) تدور على القطع، وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به، وقال الراغب: التباب: الاستمرار في الخسران. وجملة (تَبَّتْ) دعاء عليه. (وَتَبَّ) أي: وقد هلك وخسر (والجملة خبر عنه). (سَيَصْلَى نَارًا): سيدخل نارًا لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها. (ذَاتَ لَهَبٍ) أي: ذات شرر وإحراق شديد، ولهب النار: ما يسطع منها عند اشتعالها وشدة توقدها. (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): امرأَته هي أُم جميل بنت حرب أُخت أَبي سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك فنتشرها بالليل في طريق رسول الله، وقيل: كانت تمشي بين الناس بالنميمة. (فِي جِيدِهَا): في عُنقها. (مِنْ مَسَدٍ): المسد: ما فُتِل من الحبال فَتْلًا شديدًا من ليف أَو جلد أَو غيرهما.

التفسير 1 - (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ): أي: هلكت وخسرت يدا أبي لهب، والمراد كله وجملته، وعبّر عن ذلك باليدين لأَن أكثر الأَفعال تزاول بهما، وهذه الجملة دعاء عليه. وقوله تعالى: (وَتَبَّ) أي: قد أَجاب الله ذلك الدعاءَ وحققه بالفعل، وقد هلك وخسر، وهذا كقولهم: أَهلكه الله وقد هلك. (وأبو لَهَب): هو عبد العزى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد العداوة له وللإسلام، أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي "يا بني فهر، يا بني عدي: لبطون قريش" حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطيع أَن يخرج أَرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال الرسول: "أَرأَيتكم لو أخبرتكم أَن خيلًا بالوادي تريد أن تُغِيرَ عليكم أَكنتم مُصَدقيَّ؟ قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلَّا صدقًا، فقال: "إِني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" فقال أبو لهب: تَبًّا لك سائر الأيام أَلهذا جمعتنا؟ فنزلت، ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيده حجرًا ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه ممَّا تقدم؛ لإيغاله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده إلى يديه، والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع، قال الزمخشري: وذكر أبو لهب بكنيته -والأَصل في الكنية التكريم- قيل: لاشتهاره بها، وقد أُريد بها تشهيره بدعوة السوءِ وأن تبقى سمة له، وذكرهُ بكنية أَوفق بذلك، أَو لكراهة اسمه القبيح (عبد العزى)، أو لجعله كناية عن الجهنمي، كما يقال: أبو الخير، أبو الشر. 2 - (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ): (ما) استفهام في معنى الإنكار، أو ناقية، والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله من الأَرباح والمنافع والوجاهة والأَتباع، أو ما نفعه ماله الذي أَورثه عن أَبيه والذي كسبه بنفسه

وعن ابن عباس: ما كسب من الولد، أَخرج أَبو داود عن عائشة مرفوعًا: "إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأكُلُ الرجُلُ مِن كَسبِهِ وإنَّ ولَدَهُ مِنْ كَسبِهِ"، وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًّا فأَنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي، وكان له ثلاثة أبناء: عتبة، ومتعب وقد أسلما يوم الفتح، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهما ودعا لهما، وشهدا حنينًا والطائف، وعتيبة -بالتصغير- لم يسلم، وهو الذي قتله الأَسد ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أبو لهب شديد العداوة لرسول الله، شديد التحريض عليه، شديد الصد عن دين الله. 3 - (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ): أي: سيدخل النار لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها، والسين لتأْكيد الوعيد والتنوين في (نَارًا) للتعظيم، أي: نارًا عظيمة ذات اشتغال وشرر وتوقد، وهي نار جهنم. 4 - (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ): أي: وستصلى معه وتُعذب بهذه النار أيضًا امرأَته حمالة الحطب، وهي أُم جميل بنت حرب أُخت أَبي سفيان، وكانت عوراء كما جاءَ في البحر، وسُمِّيت بحمَّالة الحطب على ما أَخرج بن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد؛ لأنها كانت تأْتي بأَغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله يطؤها كما يطأ الحرير. وروى عن قتادة أنها كانت مع كثرة مالها وشرفها تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها. وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضد دعوته، ويقال لمن يمشي بالنميمة هو يحمل الحطب بين الناس، أي: يوقد نار العداوة، ويوْرث الشر بينهم. 5 - (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ): وأكد -سبحانه- تبشيع عملها وتقبيح صورتها فقال: "فِي جِيدِهَا" أَي: في عنقها (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي: حبل ممَّا مُسِدَ وقتل وقُوِّي من الحبال، والمراد تصويرها بصورة الحطَّابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها؛ تحقيرًا لحالها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ إذا كانا في منصب الثروة والجاه، ولقد أغضبها ذلك.

فيذكر الآلوسي أنها لمَّا سمعت هذه السورة أنت أبا بكر - رضي الله عنه - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر (¬1) فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني: ولأَفعلن ولأَفعلن، وإن كان شاعرًا فأَنا مثله أَقول: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا، ودينه قَلَيْنَا، وأَمره عَصَيْنَا. وأَعمى الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي؟! لا أدري غيرك، فسكت أبو بكر، ومضت وهي تقول: قريش تعلم أني بنت سيدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ حَجَبَنِي عَنْهَا مَلَائِكَةٌ فَمَا رَأَتْنِي، وَكَفَى اللهُ تَعَالَى شَرَّهَا". قال الزمخشري: يحتمل أن يكون المعنى: تكون هذه المرأة في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار، وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، قال ابن المسيب: كانت في جيدها قلادة فاخرة من جوهر، وأنها قالت: واللَّاتِ والعُزَّى لأَنْفِقها على عداوة محمد، وهكذا شاركت هذه الزوجة زوجها في العداوة الضارية للرسول، وفي الإيذاء للإِسلام وأَتباعه، فشاركته عذاب جهنم وبئس المصير. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الفهر: الحجر.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص وهي مكية، وآياتها أربع وسميت بذلك لما فيها من التوحيد، ولذا سميت أيضا سورة الأساس، وسورة (قل هو الله أحد) وسورة التوحيد، وسورة الإيمان، ولها غير ذلك أسماء كثيرة مناسبتها لما قبلها: قيل: -وهو الأولى-: إنها متصلة بسورة (قل يا أيها الكافرون) في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات، ولهذا تسميان بالمقشقشتين، وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة، إلَّا أنه فصل بينهما بسورتين: (سورة النصر، وسورة المسد)، لما تقدم في موضعه، من أَن سورة النصر قرنت بسورة (الكافرون) لأَن سورة (الكافرون) تضمنت اختلاف دين الرسول ودين قريش، وسورة النصر تضمنت أن دينه عليه الصلاة والسلام هو الغالب، وهو السائد والمنصور، وسورة المسد قرنت بسورة النصر، لأن سورة النصر تضمنت أن ثواب الطاعة حصول النصر والغلبة والاستعلاء في الدنيا، وسورة المسد بينت أن عاقبة العاصي الخسران في الدنيا فلهذا تلتها. مقاصد السورة: السورة تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه، فقد نفى الله عن نفسه أنواع الكثرة والتعدد بقوله تعالى: (اللهُ أحَدٌ) ونفى عن نفسه جميع أنواع الاحتياج بقوله: (اللهُ الصَّمَدُ) ونفى عن نفسه المجانسة والمشابهة بقوله: (لَمْ يَلِدْ) ونفى عن نفسه الحدوث والأولية بقوله: (ولم يُولَدْ) ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) والسورة الكريمة تعلن التوحيد الخالص. سبب نزول السورة: قال الإمام أحمد: إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" وعن ابن عباس قالت قريش: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت، وعنه أيضًا أن السائل اليهود.

بعض ما جاء في فضلها

بعض ما جاء في فضلها: روى مبارك عن أنس أن رجلًا قال: يا رسول الله، أني أُحب هذه السورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) قال: "إنَّ حُبَّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ" وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أَبي سعيد أن رجلًا سمع رجلًا يقرأُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يردّدها فلمَّا أصبح جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ" ولقد جاءَ أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار، واختلف في المراد بذلك، فقيل: المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزء إلى ثلاثه، لا أَن ثواب قراءَتها ثلث ثواب القرآن، وإلى هذا ذهب جماعة، لكن اختلفوا في بيان ذلك، فقيل: إن القرآن يشتمل على: قصص، وأحكام وعقائد، كلها ممَّا يتعلق بالعقائد؛ فكانت ثلث القرآن بذلك الاعتبار، وقيل غير ذلك، قال الآلوسي: ويؤيد اعتبار الأَجزاء القصص، والأحكام، والعقائد دون الثواب ما في صحيح مسلم عن قتادة عن أَبي الدرداء أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَيَعجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ يَوم ثُلُث القُرْآنِ؟ " قالوا: نعم، فقال: "إنَّ اللهَ جَزَّأَ القُرْآنَ ثُلاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُلُثُ القرآنِ". وقيل: المراد: تعدل ثلث القرآن ثوابًا لظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، قال الآلوسي: والذي أَختاره أن يقال: لا مانع من أن يخص الله سبحانه بعض العبادات التي ليس فيها كبير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو من جنسها وأَشق منها بأَضعاف مضعفة، وهو سبحانه لا حجر عليه ولا يتناهى جوده وكرمه، فلا يبعد أن يتفضل -جل وعلا- على قارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات، ويزيد على ذلك أضعافًا مضاعفة - لقارئ الإخلاص، بحيث يعدل ثوابه ثواب قارئ ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة، وتُفَوِّض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه، وكذا يقال في أمثالها، وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، والأحاديث الصحيحه الواردة فيها تكفي في فضلها.

(بسم الله الرحمن الرحيم) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) المفردات: (أَحَدٌ): واحد لا شريك له، ولا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى لخلوص هذا الاسم الشريف له تعالى. (الصَّمَدُ): هو وحده السيد المقصود في الحوائج على الدوام. (كُفُوًا): مكافئًا ومماثلًا ونظيرًا. التفسير 1 - (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ): المشهور أن (هُوَ) ضمير الشأن، والسر في تصدير الآية الكريمة به بعد قوله: (قُلْ) هو التنبيه من أول الأَمر على فخامة مضمونها، مع ما فيه من زيادة التحقيق والتقرير، فإن الضمير لا يفهم من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر جليل، فيبقى الذهن مترقبًا لما يفسره ويزيل إبهامه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. والمعنى: قل يا محمد لمن سأَلك عن صفة ربك، أو لمن قال لك: انسب لنا ربك: الله هو الواحد لا شريك له منزه عن التركيب والتعدد.

2 - (اللَّهُ الصَّمَدُ): قال ابن الأَنباري: لا خلاف بين أَهل اللغة في أَن (الصمد) هو السيد الذي ليس فوقه أحَد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وفي أُمورهم، وعن أَبي هريرة: هو المستغني عن كل أحد، المحتاجُ إليه كلُّ أَحد. قال الآلوسي: والمعول عليه تفسيرًا: أن الصمد السيد الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، ويقصدونه في المطالب، وتفسيره بغير ذلك أما راجع لذلك، أو لا تساعد عليه اللغة. أهـ. وبهذه العقيدة الصافية من الشوائب، وبهذا التوحيد الخالص، أَبطل الإسلام عقيدة مشركي العرب الذين يتخذون الشفعاءَ والوسطاءَ من الأوثان تقربًا إلى الله، وهو عقيدة غيرهم من أهل الأديان الأُخرى الذين يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند ربهم ينالون به التوسط لغيرهم لدى ربهم في نيل مآربهم، وحرّر الإسلام الإنسان لأَول مرة في تاريخ البشرية من نير العبودية لغير الله وحده. وقال الرمخشري: (الصَّمَدُ) (فَعَل) بمعنى (مفعول) من صمد إليه: إذا قصده. 3 - (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ): (لَمْ يَلِدْ) أي: تنزه ربنا أَن يكون له ولد، لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه، وذلك يقتضي التركيب النافي للأحدية، ولأن الولد من جنس أبيه، وهو تعالى لا يجانسه أحد لأنه سبحانه واجب الوجود، والاقتصار على الماضي دون أن يقال: لن يلد؛ لوروده ردًّا على من قال: إن الملائكة بنات الله، أو المسيح ابن الله. (وَلَمْ يُولَدْ) وكذلك نفي المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة، فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق، والأُحدية الحقيقة، أو لاقتضائها سبق العدم، أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة على واجب الوجود، وقدّم نفي الولادة لأنه الأهم؛ لأن طائفة من الكفار توهموا

خلافه فهو رَدّ على النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعلى اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله. 4 - (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ): أي: ولم يكافئه ولم يماثله ولم يشاكله أحد. قال الآلوسي: وهذه السورة الجليلة قد انطوت مع تقارب أَقطارها على أَشتات المعارف الإلهية، والعقائد الإسلامية، ولذا جاءَ فيها ما جاءَ من الأَخبار، وورد ما ورد من الآثار، ثم ذكر بعض هذه المعارف، وكذا فعل الزمخشري فليرجع إليهم من أراد.

سورة الفلق

سورة الفلق وهي مكية، وآياتها خمس آيات هذه السورة والتي بعدها نزلتا معًا كما في الدلائل للبيهقي، فلذا قرنتا واشتركتا في التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بقل أَعوذ، ولقد ورد في فضلهما أَخبار كثيرة، أَخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنْزِلَتْ عَليَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ قَطُّ: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ". مناسبة السورة لما قبلها: لَمَّا شرح الله -سبحانه- أَمر الأُلوهية في السورة التي قبلها (قَلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) جيءَ بهذه السورة (سورة الفلق) بعدها لتكون شرحًا لما يستعاذ منه بالله الأَحد -سبحانه- من أَنواع الشر. مقاصد السورة: في هذه السورة طلب الله من نبيه أَن يلجأَ إِليه فهو رب الفلق، وأَن يلوذ به من شر ما خلق (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ). كما طلب إِليه أَن يتحصن به من شر الليل إِذا أَقبل بظلامه وبما فيه من مخاوف، ومن شر من يسعى بين الناس بالفساد والإِفساد، ويحل ما بينهم من عقد وصلات، ويصيبهم بالضرر، ومن شر حاسد يتمنى زوال ما يسبغ الله على عباده من نعمة: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).

(بسم الله الرحمن الرحيم) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)) المفردات: (أَعُوذُ): أَلتجئ وأَعتصم. (الْفَلَقِ): (فَعَل) بمعنى (مفعول) كقَصَصٍ بمعنى (مقصوص) من فَلَق: شَقَّ وفَرَّق، وهو يعم جميع الموجودات الممكنة، وخص عرفا بالصبح؛ لأَن الليل يفلق عنه. ويقال في المثل: هو أَبين من فَلَق الصبح. (غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) أَي: الليل إِذا دخل ظلامه، أَو القمر إِذا غاب. (النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ): النساء السواحر ينفثن في عقد الخيط حين يسحرن، والنَّفَّاثات جمع نَفَّاثة، والنقث: النفخ مع ريق، وقيل بدونه. (حَاسِدٍ): هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره. التفسير 1 - (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ): أَي: قل يا محمد: أَعوذ وأَلوذ برب الفلق، أَي: برب المخلوقات، ومبدع الكائنات، أَو قل: أَعتصم برب الصبح الذي ينجلي الليل عنه، وعن ابن عباس: الفلق: الخلق،

وأَخرج العوفي عنه أَنه فسره بالصبح، وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف إِلى الفلق المنبئ عن النور عقيب الظلمة، والسعة بعد الضيق هو عدةٌ كريمة بإِعاذة العائذ ممَّا يتعوذ، وإِنجائه منه، وتقوية لرجائه بذكر بعض نظائره، ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناءِ بقرع باب الالتجاءِ إِليه عز وجل. وقيل: إِن تخصيص الفلق بالذكر لأَنه أُنموذج من يوم القيامة، لأَن من الناس من يغدو فيلقى وينال خيرًا، ومنهم من يجد ما يضره ويكرهه. وفي رواية عن ابن عباس وجماعة مِن الصحابة والتابعين أَن الفلق: جُبٌّ في جهنم، أَو وادٍ فيها. 2 - (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ): أَي: من شر الذي خلقه من الثقلين وغيرهما، وقال بعض الأَفاضل، هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة، وشر الإِنس والجن والشياطين، وشر السباع والهوام، وشر النار، وشر الذنوب والهوس، وشر النفس، وشر العمل. 3 - (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ): في هذا تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل، لزيادة مساس الحاجة إِلى الاستعاذة منه؛ لكثرة وقوعه، ولأَن تعيين المستعاذ منه أَدل على الاعتناءِ بالاستعاذة، والغاسق إِذا وقب، أَي: الليل إِذا اعتكر سواده وعم ظلامُه كُلّ شيءٍ، من قوله تعالى: "إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ" (1)، والتقييد بهذا الوقت لأَن حدوث الشرفية أَكثر، والتحرز منه أَصعب وأَعسر، ومن أَمثالهم (الليل أَخفى للويل) وقولهم: أَغدر من ليل، إِذ أَنه ستار يختفي في ظلامه المجرمون والعابثون بالأَمن، وهو عَوْنٌ لأَعدائك عليك، وتفسير الغاسق إذا وقب ذكر هو المأْثور عن ابن عباس ومجاهد، وقيل معناه: القمر إِذا امتلأَ نورًا، على أَن الغسق: الامتلاءُ، وَوُقُوبُه: دخْوُلُه في الكسوف واسوداده، أَو دخوله في المحاق - (1) سورة الإِسراء: من الآية 78.

في آخر الشهر، والمنجمون يعدونه نحسًا، ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للمرض إِلَّا في ذلك الوقت، قيل: وهو المناسب لسبب النزول، واستدل على تفسيره بالقمر -بما أَخرجه الإِمام أَحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إِلى القمر لما طلع، فقال: (يا عائشةُ: استعيذي بالله تعالى من شَر هَذَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ"، وقيل: الغاسق إذا وقب: الحية إِذا لدغت، وقيل: هو كل شر يعتري الإِنسان، والشر يوصف بالظلمة والسواد، ووقوبه: هجومه ووقوعه. 4 - (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ): أَي: ومن شر السواحر اللاتي يَعْقدْن عقدًا وينفثن عليها، والنفث: النفخ مع ريق، قاله الزمخشري، وقيل: هو شبه النفخ يكون في الرّقية ولا ريق معه، ورجح ابن القيم رأْي الزمخشري. روى البخاري وغيره أَن رسول الله سحر، قيل: والذي سحره لبيد بن الأَعصم وبناته، فمرض النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين، وأَخبره بموضع السحر، وبمن سحره، وبم سحره، فأَرسل صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير وعمارًا فنزحوا ماءَ البئر وهو كنقاعة الحناءِ، ثم رفعوا راعوثة (1) البئر فأَخرجوا أَسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه إِحدى عشرة عقدة مغرزة بالإِبر، فجاءُوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها، فكان كلما قرأَ آية انحلت عقدة، ووجد -عليه الصلاة والسلام- خفة، حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأَنما نشط من عقال. (آلوسي). ونقل الماتُرِيدِي عن أَبي بكر الأَصم أَنه قال: إِن حديث السحر المروي هنا متروك، لما يلزمه من صدق قول الكفرة: إِنه -عليه الصلاة والسلام - مسحور، وهو مخالف لنص القرآن الكريم، وقال الإِمام المارزي: قد أَنكر ذلك الحديثَ المبتدعةُ لأَنه يحط من منصب - (1) الراعوثة: حجر يقوم عليه المستقي - ويسمى أَيضًا الراعوفة، ولقد جاء بهذا الاسم في بعض الروايات.

النبوة ويشكك فيها، وأَن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وأُجيب بأَن الحديث صحيح وغير معارض لنص، ولا يلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها؛ لأَن الكفار أَرادوا بمسحور أَنه مجنون، وحاشاه، أَو مرادهم أَن السحر أَثر فيه وأَن ما يأْتيه من الوحي تخيلات السحر، وهو كذب أَيضًا؛ لأَن الله عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وقال القاضي عياض: قد جاءَت روايات حديث عائشة مبينة أَن السحر إِنما تسلط على جسده الشريف وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده. وأَنكر بعضهم أَصل السحر -ونفى حقيقته، وأَضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. ومذهب أَهل السنة وعلماءِ الأُمة على إثباته وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأَشياءِ؛ لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولا يستنكره العقل. قال الزمخشري: ومعنى الاستعاذة (شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) أَن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر، ومن إِثمهن في ذلك، وأَن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. ويجوز أَن يراد بالنفاثات: النساءُ الكيّادات من قوله تعالى: "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (1) تشبيهًا لكيدهن بالسحر والنفث في العقد، أَو اللاتي يَفْتِنَّ الرجال بتعرضهن لهم وعرض محاسنهن عليهم. وقيل: المراد من النفاثات في العقد: من يمشي بين الناس بالنميمة ليقطعوا روابط المحبة ويبدوا شمل المودة، وقد شبه عملهم بالنفث وشبهت رابطة الوداد بالعقدة، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة، كما سمي الارتباط بين الزوجين (عقدة النكاح) (أهـ: كشاف). 5 - (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ): أَي: ونستعيذ بك ربنا من شر حاسد إِذا حسد، أي: إِذا أَظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادئ الإِضرار بالمحسود قولًا وفعلًا، ومن ذلك - (1) من الآية 28 من سورة يوسف.

ما قيل: النظر إِلى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب، فإِن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة ربما تؤثر في المحسود، بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، تؤثر شرًّا ربما يصل إِلى حد الإِهلاك، ورب حاسد يؤذي بنظره مثل ما تؤدي بعض الحيات بنظرهن، وذكروا أَن الحاسد والعائن -من يصيب الناس وتؤذيهم بالنظر إِليهم- يشتركان في أن كلًّا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد أَذاه، إلا أَن العائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين للمحسود والمعانية له، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور، وأَيضًا قد يعِين أَي: (يصيب بعينيه) من لا يقصد حسده من إِنسان أَو حيوان أَو زرع. والحسد: هو تمني زوال النعمة عن الغير، والحاسد ممقوت عند الله وعند عباده، آتٍ بابًا من الكبائر، ويطلق الحسد على الغبطة مجازًا، وكان ذلك شائعًا في العرف الأَول: وهي تمني أَن يكون له مثل ما لأَخيه من النعمة من غير تمني زوالها من غيره، وهذا لا بأْس به إِذا كان في الخير، ومن ذلك ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إِلاَّ في اثنتين: رجل آتاه الله مَالًا وَسَلَّطَهُ عَلى هَلَكَتِهِ فِي الحَق، ورَجُلٍ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فهُوَ يَقضِي بِهَا ويُعَلِّمُهَا لِلنَّاسِ" وإِنما خص هؤلاء الثلاثة: الغاسق، والنفاثات، والحاسد بالنص على الاستعاذة منهن -مع أَن قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) يشملهم- لأَن كلًّا منهم يَخْفَى أَمرُه ويعظم ضررُه ويلحق الشر بالإِنسان من حيث لا يعلم، كأَنما يغتال به، ولذا قالوا: شر العُدَاةِ: المُدَاجِي الذي يكيدك من حيث لا تشعر.

سورة الناس

سورة الناس وهي مكية، وآياتها ست وتسمى مع ما قبلها -كما أشرنا إليه قبل-بالمعوذتين- بكسر الواو مناسبتها لما قبلها: قيل: هذه السورة والتي قبلها (الفلق) نزلنا معًا ولذلك قرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بـ (قُلْ أَعُوذُ). مقاصد السورة: في السورة الكريمة أَمر من الله لنبيه أَن يلجأَ إليه ويستعيذ به؛ فهو خير من يُلجأُ إليه ويُستعاذ به: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) ولذا فهو يستعين به لدفع شر عظيم، يخفى على الناس إِدراكه، لأَنه يجيئهم من طريق شهواتهم وأَهوائهم مستترًا عن العيون أَو ظاهرًا لها، مُخْفيًا وسوسته بالمكر والخديعة (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ). (بسم الله الرحمن الرحيم) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)) المفردات: (بِرَبِّ النَّاسِ): بمربيهم ومدبر أحوالهم. (إِلَهِ النَّاسِ): معبودهم الحق.

(الْوَسْوَاسِ): قال الزمخشري: اسم مصدر بمعنى الوسوسة، والمصدر بالكسر، والوسوسة صوت الحُلِيّ، والهمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة المؤذية، وأُريد به هنا الشيطان؛ سمي بفعله مبالغة كأَنه نفس الوسوسة. (الْخَنَّاسِ): صيغة مبالغة، أَو نسبة، أي: الذي عادته أن يخنس ويتوارى ويتأَخر إذا ذكر الله، من الخنوس: وهو الرجوع والاختفاء. التفسير 1 - (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ): أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستعين برب الناس ومالك أُمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم، ودفعه ما يضرهم. 2 - (مَلِكِ النَّاسِ): عطف بيان جيءَ به لبيان أن تربيته تعالى إيَّاهم ليست بطريقة تربية سائر المُلَّاك لما تحت أيديهم من مماليكهم، بل بطريق الملك الكامل، والتصرف الكلي والسلطان القاهر، وكذا قوله تعالى: 3 - (إِلَهِ النَّاسِ): فإنه لبيان أن ملكه - تعالى- ليس بمجرد الاستيلاءِ عليهم، والقيام بتدبير أُمورهم، والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك، بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكامل فيهم: إحياءَ وإماتة، وإيجادًا وإعدامًا، وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارًا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه: فإنه يَعْلَم أَولًا بما يَرَى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربًّا. ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غنى عن الكل، وذَاتُ كل شيءٍ له، ومصارف أَمره منه، فهو الملك الحق. ثم يستدل بهذا النظر على أَنه المستحق للعبادة لا غيره.

وإنما قال: رب الناس، ملك الناس، إِله الناس، وهو رب كل شيءٍ ومَلِك كل شيءٍ وإله كل شيءٍ؛ لأن الناس هم الذين أَخطأُوا في صفاته وضلُّوا فيها عن الطريق السَّوِيِّ، فجعلوا لهم أربابًا ينسبون إليها بعض النعم ويلجأُون إليها في دفع النقم، ولم يكتف بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرة واحدة، بل كرر لمزيد الكشف والإيضاح والتقرير والتشريف بالإضافة. وقيل: لا تكرار؛ فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده، (فالناس) الأول بمعنى الأَجِنَّةِ والأَطفال المحتاجين للتربية، و (الناس) الثاني: المراد بهم الكهول والشبان لأنهم المحتاجون إلى من يسوسهم، و (الناس) الثالث: الشيوخ المتعبدون المتوجهون إلى عز وجل. 4 - (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ): بيان للمستعاذ منه، أي: ألجأْ إليك رب الناس وملكهم وإلههم ومعبودهم أن تنجينا وتحفظنا من شر الشيطان الموسوس للناس، الكثير الخنوس والاختفاءِ؛ لأنه يأْتي من ناحية الباطل فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوأ مصير إذا انجرَّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال. والمراد الاستعاذة من جميع شروره على البدن والنفس، وعُدَّ من شره -كما ورد في صحيح البخاري- أَنه يعقد على قافية رأس العبد إذا هو نام ثلاث عقد، مراده بذلك منعه من اليقظة للعبادة، وبعضهم عد منه التخبّط، إذِ الحق عند أهل السنة؛ أَن التخبط قد يكون من مسّ الشيطان، والخناس: المتواري المختفي المتأخر، إذا ذكر الله عز وجل أَمسك عن الوسوسة إلى أن تسنح له فرصة أُخرى، أخرج الحاكم وصححه، وابن المنذر وغيره: عن ابن عباس قال: "مَا مِنْ مَولُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا عَقَلَ فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، فَإِذَا غَفِلَ وَسْوَسَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الوَسْوَاسَ الخَنَّاسَ". ولقد وصف الله هذا الوسواس الخناس بقوله. 5 - (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ): أي: الذي يلقى خفية في صدور الناس ما يصرفهم عن سبيل الحق والخير والرشاد، ويدعوها إلى الشر والفساد، قيل: أُريد بصدور الناس: قلوبهم، وإنما جعلت الوسوسة

في الصدور، لأَنه عهد في كلام العرب أَن الخواطر في القلب، والقلب ممَّا حواه الصدر عندهم، أَلا تراهم يقولون: إِن الشك يحوك في صدرك ويجيش في صدري، وما الشك إِلاَّ في نفسه وعقله وقبله. قال بعضهم: إِن الشيطان يدخل الصدر، فيُلقى منه ما يريد إِلقاءَه إِلى القلب، ويوصله إِليه ولا مانع عقلًا من دخوله في جوف الإِنسان , وقد ورد السمع به فوجب قبوله، والإِيمان به، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّشيْطَانَ لَيَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم) ومن الناس من حمل ذلك على التمثيل. 6 - (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ): هذه الآية الكريمة بيان للذي يُوسْوِس، على أَن الموسوس نوعان: إِنسي وجني كما قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" (1). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا أَبَا ذَرٍّ: تَعَوَّذْ باللهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ) رواه الإِمام أحمد من حديث طويل، أَو (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) يتصل بـ (يوسوس) و (مِنْ) لابتداءِ الغاية، أَي: يوسوس الْمُوَسْوِسُ في صدور الْمُوَسْوِسُ إِليهم من جهة الجن أَنهم ينفعون أَو يضرون، ومن جهة الناس: أَن المنجمين والكهان يعلمون الغيب. وقد بدئت السورة بطلب الاستعاذة برب الناس، ومن كان ربهم فهو القادر على دفع إِغواءِ الشيطان ووسوسته، وقد أرشد في هذه السورة إِلى الاستعانة به - تعالى شأْنه - كما أُرشد إِليها في الفاتحة، للإِشارة إِلى أَن ملاك الأَمر كله: هو التوجه إِلى الله وحده والإِخلاص له في القول والعمل والالتجاءِ إِليه فيما لا قدرة لنا على دفعه. والله أَعلم. - (1) سورة الأنعام: الآية 112.

والحمد لله في البدءِ والختام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أُنزل عليه القرآن والله نسأَل أَن يجعل خير أَعمالنا خواتيمها، وخير أَيامنا يوم لقائه، وأَن يرفع مقته وغضبه عنا، وأَلاَّ يؤاخذنا إِن نسينا أَو أَخطأْنا، وأَن يغفر لنا ولإِخواننا من أَعضاءِ لجنة التفسير الذين سبقونا إِلى رحمته ورضوانه، ولجميع المسلمين، كما نسأَله -سبحانه- أَن يوفقنا للعمل بالقرآن، وأَن يرحمنا به، وأَن يجعله لنا إِمامًا ونورًا وهدى ورحمة، وأَن يذكرنا منه ما نسينا، ويعلمنا منه ما جهلنا، ويرزقنا تلاوته آناء الليل وأَطراف النهار، وأَن يجعله حجة لنا وشفيعًا يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إِلاَّ من أَتى الله بقلب سليم، والله سبحانه وتعالى أَعلم وأَكرم وأَعظم. وكان الفراغ من إتمام هذا العمل الجليل في يوم الأَربعاء السادس من جمادي الأُولى سنة اثنتَي عشرة وأَربعمائة وأَلف من الهجرة النبوية المباركة، الموافق الثالث عشر من شهر نوفمبر سنة إِحدى وتسعين وتسعمائة وأَلف من الميلاد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أَعضاءُ لجنة التفسير السيد مصطفى شريف ... عبد المهيمن محمد سليمان الفقي إبراهيم السيد السويركي

§1/1